أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - الشرف والغضب لا يكفيان [مراجعة لكتاب: نعوم تشومسكى:-الحيلولة دون الديموقراطية]















المزيد.....



الشرف والغضب لا يكفيان [مراجعة لكتاب: نعوم تشومسكى:-الحيلولة دون الديموقراطية]


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3890 - 2012 / 10 / 24 - 18:04
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الشرف والغضب لا يكفيان

[مراجعة لكتاب: نعوم تشومسكى:"الحيلولة دون الديموقراطية]"Noam Chomsky: Deterring Democracy (Verso.1991) عن المجلة البريطانية: International Socialism, N 53 (Winter 1991)]،
(عرض: جاريث چنكنز Gareth Jenkins)
ترجمة: خليل كلفت

لقد انتهت الحرب الباردة، أو هكذا يقال لنا. فهل نحن داخلون الآن، عهدا جديدا من العلاقات الدولية تتلاشى فيه توترات الماضى؟ الخط الرسمى، الذى تروّجه الطبقة الحاكمة الأمريكية، هو أننا غدونا، مع انهيار الستالينية وتغيُّر توجُّه القيادة السوڤيتية، على أعتاب نظام عالمى جديد. وردّ تشومسكى الرصين على هذا السؤال - إذا تركنا اللغة الخاطبية جانبا - هو أن العالم لا يتجه الآن إلى أن يكون مختلفا جدا عن العالم الذى اعتدنا عليه. وهذا بسبب الاتجاهات العالمية الطويلة الأمد وليس بسبب تبدلات حديثة جدا فى العلاقات السياسية بين القوتين العظمييْن. ويشرح تشومسكى وجهة نظره فى مقدمته حيث يُنعم النظر فى النظام العالمى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد بدأ توازن ما بعد 1945 فى علاقات القوة الأمريكية-السوڤيتية فى الانهيار فى أواخر السبعينات حيث أبدت قوة موسكو (التى كانت دائما دون قوة واشنطن) دلائل ملحوظة على التدهور الاقتصادى والعسكرى، من جهة، وبدأ صعود أوروبا (أى ألمانيا) واليابان يشكّل - كاحتمال على الأقل - تهديدا أكبر من "الاتحاد السوڤييتى المتهاوى" على السيطرة الأمريكية.
ومهما كانت هذه التطورات جلية واضحة فقد تركت مشكلة أيدلوچية بالغة الأهمية:
...كانت هناك حاجة إلى تصور مختلف كأساس منطقى للسياسات التى كان يجرى تحقيقها آنذاك للمحافظة على السيطرة العالمية الأمريكية ولتوفير عون مالى مطلوب للتكنولوچيا العالية: صورة اتحاد سوڤييتى مخيف يتقدم من قوة إلى قوة ويشكّل تحديا مريعا للحضارة الغربية. ولم تكن هذه الأوهام قابلة للتصديق فى ذلك الحين، ثم صارت بلا أساس على الإطلاق خلال العقد التالى(1).
وبمعنى من المعانى، انتهت الحرب الباردة عندما كفّ الاتحاد السوڤييتى تقريبا عن مواصلة الصراع. غير أن وجهة نظر تشومسكى هى أن صورة اتحاد سوڤييتى عدوانى كانت دائما أسطورة موضوعة بهدف دعم المصالح الأمريكية فى الداخل والخارج. وهذه المصالح باقية، حتى إذا كانت الصورة التقليدية عن "تخريب شيوعى" لن تظل صالحة لإكراه الجماهير على قبول المغامرات الخارجية والتدخل الداخلى. والحقيقة أن الغراء الأيدلوچى الذى أوجد تماسكا بين البنتاجون، ومصالح شركات الأعمال، و"الرأى العام"، أخذ الآن يتحلل فى عالم أقل استقرار عما كان من قبل، إلى حد كبير بسبب النظام الاقتصادى الثلاثى الأقطاب والذى يتقاطع مع النظام العسكرى الأحادى القطب.
تظل الولايات المتحدة القوة الوحيدة التى تملك الإرادة والقدرة على ممارسة القوة على نطاق عالمى - حتى بحرية أكثر من ذى قبل، مع تلاشى الردع السوڤييتى. على أن الولايات المتحدة لم تعد تتمتع بتفوق القوة الاقتصادية الذى أتاح لها الاحتفاظ بوضع عسكرى عدوانى ذى نزعة تدخلية منذ الحرب العالمية الثانية. وبطبيعة الحال فإن القوة العسكرية التى لا يدعمها أساس اقتصادى يضارعها لها حدودها كأداة للقهر والسيطرة. على أنها قد تلهب حقا النزعة المغامرة، ميلا إلى زعامة العالم باستخدام القوة التى بحوزتها، ربما بنتائج كارثية(2).
وهكذا يشير عالم ما بعد الحرب الباردة إلى صراع أكثر من أى وقت مضى، كما أثبت غزو بناما وكذلك رد الفعل على الغزو العراقى للكويت. ذلك أن الولايات المتحدة لم يعد يقيدها خوف من رد الفعل السوڤييتى كما أن تكلفة مثل هذه التدخلات العسكرية تطرح مشكلة مَنْ غيرها سيدفع عنها الحساب. بالإضافة إلى ذلك، على حين تتصرف الولايات المتحدة بوصفها "شرطى العالم للإيجار" (على حد تعبير جريدة يومية أمريكية محافظة هامة)، ربما فضل منافسوها الاقتصاديون تحقيق مكاسب فى مناطق انهار فيها النفوذ السوڤييتى مساهمين بذلك فى التدهور الاقتصادى المتواصل لأمريكا.
وإذا كانت هناك أزمة فى شرعية المصالح العالمية الأمريكية فهناك أيضا مشكلات محلية متصاعدة، مع عجز فى العمل الماهر، ونظام تعليمى آخذ فى التدهور، وانهيار فى البنية التحتية.
والنتيجة المتوقعة هى أن تكلفة العمل الماهر سترتفع وأن شركات عملاقة عبر قومية سوف تنقل البحث، وتطوير وتصميم المنتج، والتسويق، والعمليات الأخرى التى من هذا القبيل إلى مكان آخر. وفيما يتعلق بالفئة الدنيا ("تحت الطبقية") من قوة العمل the underclass، ستظلّ الفرص متاحة لهم باعتبارهم "هسِّيِّين" [أى كمرتزقة للامبراطورية الأمريكية](3) (الهسِّيُّون: نسبة إلى ولاية هسّه الألمانية وكان هذا الوصف يُطلق على المرتزقة الألمان فى القوات البريطانية خلال الثورة الأمريكية - المترجم).
لا يوسّع تشومسكى هذه الرؤية الكارثية. والواقع أن الفصول التالية تثبت أمرين: الأول هو أن تدخل الولايات المتحدة فى الخارج (وأغلب أمثلته مأخوذة من أمريكا الوسطى والجنوبية)(4) لا علاقة له على الإطلاق بالمحافظة على "الديمقراطية" ضد "العدوان الشيوعى" أو "الديكتاتورية"؛ وبالأحرى فقد كان هدفه تعزيز المصالح النخبوية للمجمع العسكري-الصناعى وحماية الأساليب الدموية التى تنتهجها الأنظمة التابعة لها بالوسائل اللازمة أيّا كانت. ويتمثل الأمر الثانى فى إيضاح الطريقة التى تم بها إعداد ونشر أيدلوچية احتواء الشيوعية فى سبيل تبرير التدخل الأمريكى وكيف أمكن الحصول على الموافقة على هذه الأيديولوچية. وما يعنى تشومسكى هنا هو ما يسمية "مفهوم السيطرة الفكرية فى المجتمعات الديمقراطية"(5).
كان تشومسكى أكثر نجاحا بصورة ملحوظة فى الأمر الأول مما فى الأمر الثانى. والفصول التى تتناول الأيديولوچية المعادية للشيوعية، وفظاعة رئاسة ريجان، والوحشية التى لا ترحم لتدخل الولايات المتحدة فى أمريكا الوسطى، والسجلّ المروّع للدول الصديقة للولايات المتحدة، وانقياد الكلاب المدللة الذى تتميز به وسائل الإعلام إزاء مصالح الطبقة الحاكمة، هى فصول ممتازة. كما أن مدى ما يتميز به من تدقيق مرجعى ومنطقى، وتهكمه الرصين، ووحشيته السويفتية [نسبة إلى جونايان سويفت، الكاتب الآيرلندى الساخر، 1667-1745، مؤلف رحلات جاليڤر 1726- المترجم] - هذه الأشياء جميعا تمدّنا بتحليل بالغ التدقيق لأكاذيب الطبقة الحاكمة الأمريكية. وأعمق أجزاء الكتاب تأثيرا هى تلك الأقسام التى تتناول التاريخ المظلم للتورط الأمريكى فى أمريكا الوسطى. وهو يبحث تخريب نظام الساندينيستا فى نيكاراجوا، ابتداءًا بسقوط ساموزا فى 1979 وانتهاءًا بانتخاب تشامورّو فى 1990، وغزو بناما فى أواخر 1989 لطرد الجنرال نورييجا. وهو يضع الأمرين فى سياق الدعم الأوسع المقدم، علنا وسرّا على السواء، إلى القوى اليمينية المتطرفة فى أنظمة مجاورة مثل سان سلڤادور، وهوندوراس، وجواتيمالا، فضلا عن الكونترا أنفسهم.
ويفحص أحد أروع الأقسام فى الكتاب بكل عناية تلك الحرب الدائرة ضد الكوكايين فى أمريكا الجنوبية، وخاصة فى كولومبيا. ويُثبت تشومسكى كيف أن الاهتمام الأمريكى فيما يتعلق بالتهديد للديمقراطية يستهدف المناضلين النقابيين وبقية المحتجِّين السياسيين وليس المصالح الراسخة وارتباطاتها ببارونات المخدرات. وهو يقدم أيضا تحليلا رائعا للمكان الذى يوجد فيه تهديد المخدرات الحقيقى - فى صناعة التبغ الأمريكية. ذلك أن النيكوتين فتاك أكثر بكثير من الكوكايين، غير أن أرباح الاستثمارات ضخمة إلى حد أن هذه الصناعة، التى تؤازرها الدولة، تقتحم وتقيم أسواقا فى بلدان مثل تايلاند أو تايوان، فى سياق تكرار عصرى لحروب الأفيون الشائنة التى شنتها الامبريالية البريطانية ضد الصين فى أوائل القرن التاسع عشر.
وهدف تشومسكى هنا هو أن يرى كيف تضفر الطبقة الحاكمة الأمريكية الخيوط المتباينة للاستراتيچية العالمية الأمريكية - سواء أكانت لتبرير التدخل فى العالم الثالث لتأمين الأسواق والموارد، أم لفرض الأوامر السياسية على البلدان الصناعية (مثل ألمانيا، واليابان فيما بعد الحرب) لتتلاءم مع الاحتياجات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية. وهو يقابل ما قاله أيديولوچيّو المؤسسة، "اليمينيون" و"اليساريون"، الحمائم والصقور، على السواء، بحقائق الحياة فى العالم الثالث مروّعا بوجه خاص، بسوء التغذية والفقر المتوطن والمتعاظم، وقتل الخصوم السياسيين (من القساوسة إلى المناضلين النقابيين) الشائع والذى لا يكاد يأتى ذكره فى الصحافة الأمريكية (وردّ الفعل مختلف تماما عندما يتم ارتكاب "انتهاك" فى نيكاراجوا مثلا). غير أن الواقع فى البلدان المتقدمة كان بدوره شريرا - بالتخريب الذى قامت به وكالة المخابرات المركزية فى إيطاليا (فضيحة پ 2) وفى أستراليا (طرد "جوف ِوتلام" من الحكم) وبالتدخل الفظ فى شئون المنظمات العمالية (مثل انقسامات ما بعد الحرب فى النقابات).
هذا ما تكمن فيه قوة كتاب تشومسكى. غير أنه لا يمكن أن يقال نفس الشيء عن محاولته للجدال حول الوظيفة الداخلية للأيديولوچية المعادية للشيوعية. هنا نجد تشومسكى ضعيفا. ولا شك فى أن كافة الطبقات الحاكمة فى الديمقراطيات البرچوازية تدعى الحق فى السلطة على أساس القبول. ويُبيّن تشومسكى كيف استخدمت الطبقة الحاكمة الأمريكية فكرة "احتواء الشيوعية"، "حماية الحرية"، لترويج سياساتها بين مواطنيها. وما هو أقل وضوحا هو لماذا "يقبل" المحكومون ما يقوله حكامهم (أو إنْ كانوا يقبلون حقا فإلى أى مدى).
وبافتراض التزام تشومسكى بالنضال الديمقراطى، هناك إجابة لا يسعه استخدامها وهى أن المحكومين يقبلون لأنهم أغبياء. وقد كتب تشومسكى بعض الصفحات البليغة التى خصصها لإيضاح كيف أن مثل هذا الازدراء للجماهير كان يشكل أساس تعاريف الطبقة الحاكمة "للديمقراطية" منذ زمن الثورة الإنجليزية فصاعدا. إن "الدهماء الأوغاد" أجهل أو أشد جموحا من أن يديروا شئونهم بأنفسهم. ولابد من إرشاد الجماهير وإقناعها لقبول شكل من أشكال "المشاركة" التى تستبعد أية مشاركة حقيقية من جانبها، بحيث يمكن تصريف شئون الأعمال والنُّخب الحاكمة فى سلام.
وهناك إجابة بديلة هى أن المحكومين يتم استدراجهم إلى القبول عن طريق مجرّد الضغط الذى تمارسه السيطرة الرسمية على وسائل الإعلام، عن طريق الدرجة التى يمكن بها توجيه الرأى العام. فالقبول يجرى الحصول عليه عن طريق السيطرة الفكرية. وهذا بالغ الأهمية بوجه خاص فى المجتمعات "الحرة" (مثل الولايات المتحدة) بالمقارنة مع مجتمعات العالم الثالث، حيث القوة وليس "الإقناع" هى الفيصل.
وبطبيعة الحال فإن توجيه الأفكار قائم بطريقة مرهفة للغاية، غير أن تشومسكى يكون مهددا فى كثير من الأحيان بالوقوع فى نظرية المؤامرة (وهذا مفهوم، نظرا لعدد المؤمرات). هكذا يتحدث عن "تعاظم مشكلات السيطرة الاجتماعية طالما كانت الدولة محدودة القدرة على الإكراه". والناس العاديون "لابد من تلقينهم مذهبيا أو إلهائهم، وهذه مهمة تحتاج إلى جهود متواصلة"(6). والآن وقد تم استنفاد الخطر السوڤييتى، فلا مناص لحكام الولايات المتحدة من أن يبحثوا حولهم عن بُعْبع جديد - خطر المخدرات - لكى يبرروا التدخل عبر البحار. ويغدو تشومسكى أورويليًّا [نسبة إلى چورچ أورويل 1903-1950 الروائى البريطانى الشهير ومؤلف رواية 1984 ورواية مزرعة الحيوانات - المترجم] فى الواقع فى تصويره لمجتمع الآخ الكبير:
تغدو أجزاء كبيرة من اللغة محكوما عليها ببساطة بأن تكون خالية من المعنى. وهى ككل مفهومة تماما: فى مجتمع حرّ، على الجميع أن يسيروا بخطوة الإوزة عند تلقِّى الأمر، أو أن يظلوا صامتين(7).
وسواء أكان مقصودا أم لا، يتمثل تأثير مثل هذه المقاطع فى أنها تجعل الطبقة الحاكمة الأمريكية تبدو وكأنها كلية القدرة. ويقلل هذا من شأن إشارات تشومسكى ذاته إلى التدهور الاقتصادى للولايات المتحدة. وهكذا فرغم أنه، على مستوىً، لا يألو جهدا فى سبيل توضيح أن نهاية الحرب الباردة لا تعنى أن الولايات المتحدة يمكنها أن تفرض ببساطة سلاما أمريكيا على العالم (فهذا ما يحول دونه عدم الاستقرار الذى يحدثه عدم تلاؤم عالم اقتصادى ثلاثى الأقطاب مع عالم عسكرى أحادى القطب) إلا أن الحدود الموضوعية السياسية للولايات المتحدة سيئة التحديد على مستوىً آخر.
والحقيقة أن تناوله النظرى بكامله للسلطة يعانى من نقاط ضعف جدية. ويشبه تحليله من نواح عديدة تحليل مفكرى عصر التنوير فى القرن الثامن عشر. ومما له دلالته أن نقطة انطلاقه فى الفصل الأخير، "العنف والرأى العام"، هى ملاحظة ديڤيد هيوم القائلة بأن كل حكم يقوم على " الرأى العام". وكان مفكرو عصر التنوير يشددون، كسمة تميزهم، على السياسة، وليس على الاقتصاد، باعتبارها هى التى تحسم أمور السلطة. ويترتب على هذا أنك إذا سيطرت على الرأى العام فإنك تكون قد سيطرت بالتالى على المجتمع. ولهذا كانت الأيديولوچية المجال الأساسى للصراع - لاستخدامها إما فى خدمة الاستبداد أو فى خدمة التنوير. أما ما كان يفعله البشر فعلا، عن طريق إنتاج وإعادة إنتاج الشروط المادية لوجودهم (أىْ، عن طريق نشاطهم الاقتصادى)، فكان أقلّ أهمية. وقد اقتضى الأمر أن يقوم ماركس بقلب العلاقة بين الوجود الاجتماعى والأفكار، جزئيا لتقويض فكرة أن الأيديولوچية كلية القدرة. والحقيقة أن التناقضات فى الواقع ذاته، وليس التناقضات فى عالم الأفكار، هى الأكثر أهمية عندما نكون إزاء فهم حدود سلطة الطبقة الحاكمة. ذلك أن التناقضات المحفورة فى صميم بنية أسلوب الإنتاج الرأسمالى ذاته، أى ميله إلى الأزمة التى تقيد بشدة سيطرة البرجوازية على نظامها الخاص (والتعبير الذى لا يُنسى لماركس فى البيان الشيوعى إنما يدور حول الساحر الذى يُطْلق قُوًى لا يمكنه السيطرة عليها). والثانى مستوى التناقض بين ما يقبله الناس عادة كنتيجة لكونهم منتجات للنظام والاتجاه الذى يدفعهم إليه نشاط حياتهم الاقتصادية (بوصفهم منتجين للنظام). وهذا التناقض هو الرئيسى بالنسبة للطريقة التى تصل بها الطبقة العاملة إلى تحدِّي-وهزيمة-البرچوازية، وهو الذى يجعل الأيديولوچية، مهما كانت قوية، عاملا ثانويا.
هذا البُعْد بكامله غائب عن تناول تشومسكى للسيطرة الفكرية. ولا تظهر فى أى موضع من مواضع كتابه أية صورة واضحة للعلاقة بين السلطة (أى سلطة الدولة)، والاقتصاد، والصراع الطبقى. وعند تشومسكى، يبدو أن سلطة النخبة السياسية تكبحها، وجزئيا فقط بالتالى، مقاومة ضحاياها. وبقدر ما يشتمل الكتاب على استراتيچية للمقاومة فإنها استراتيچية تقوم على النزعة القومية الراديكالية فى العالم الثالث. ويبدو أنه ليس لديه أى إدراك للقيود التى تضعها تناقضات النظام الاقتصادى ذاته على السلطة السياسية ولا أى إدراك للدور الذى تلعبه الطبقة العاملة دوليًّا لاستغلال هذه التناقضات. يدلّ على هذا بكل وضوح "صمته" فى كتابه فيما يتعلق بماركس. ويرتبط هذا برفضه المرير، باسم باكونين وفوضوية حرية الإرادة، لكامل التقاليد المرتبطة بلينين والبلاشفة.
ومبكرا جدا، فى فصله الافتتاحى، يقول لنا ما يلى عن الهدف الداخلى للحرب الباردة بقدر ما يتعلق الأمر بالاتحاد السوڤييتى: "... ساعدت الحرب الباردة فى تعزيز سلطة النخبة العسكرية-البيروقراطية التى نشأ حكمها عن الانقلاب البلشفى فى أكتوبر 1917(8). وفى الفصل الأخير يجرى تضخيم هذا التجاهل للفارق بين اللينينية والستالينية الأمر الذى يعكس الممارسة الأيديولوچية للطبقة الحاكمة الأمريكية. وهكذا فإن "صناعة القبول"، وهى محورية فى المفاهيم النخبوية عن الديمقراطية الموجهة، تُشْبه المفهوم اللينينى عن الحزب الطليعى "الذى يقود الجماهير نحو حياة أفضل ليس بمستطاع هذه الجماهير أن تتصورها أو تبنيها من تلقاء نفسها"(9).
واللينينية هيراركية شأنها فى ذلك شأن كافة الممارسات الأخرى للطبقة الحاكمة فى معارضتها "للاتجاهات الديمقراطية الراديكالية فى صفوف الناس العاديين":
بعد الاستيلاء على سلطة الدولة فى 1917 بوقت قصير، تحرك لينين وتروتسكى لتفكيك هيئات الرقابة الشعبية، بما فى ذلك مجالس المصانع والسوڤيتيات، وشَرَعَا بذلك فى صّد الاتجاهات الاشتراكية وقهرها(10).
ويترتب على هذا أن انهيار الستالينية هو بالتالى انهيار للينينية. وليس هذا انتصار للاشتراكية، على ما يؤكد تشومسكى، لكنه يُزيل حقا العائق أمام تحقيق...
الأفكار الاشتراكية المؤيدة لحرية الإرادة للحركات الشعبية التى تم سحقها فى روسيا فى 1917، وفى ألمانيا بعد ذلك بوقت قصير، وفى أسبانيا فى 1936، وفى كل مكان آخر، حيث كانت الطليعة اللينينية تتقدم الصفوف فى كثير من الأحيان فى ترويض الدهماء الأوغاد بأمانيهم الاشتراكية المؤيدة لحرية الإرادة والديمقراطية الراديكالية(11).
واللافت للنظر للغاية فى كافة هذه التعليقات هو مدى قبوله، بغض النظر عن الإشارات إلى باكونين، للأساطير اليمينية حول البلشفية. والجانب الأكبر من كتاب تشومسكى فضح لا يألو جهدا للأساطير اليمينية حول "العدوان الشيوعى"، و"تهديد الديمقراطية"، وما إلى ذلك، والتى يروجها بدأب أكاديميون وصحافيون برجوازيون. أما لماذا لا يجرى ضبط قرون استشعاره بصورة مماثلة مع ما يلفقه نفس هؤلاء الأكاديميين والصحافيين حول استمرار اللينينية فى الستالينية فإنه يبقى لغزا. وعلى كل حال، تتمثل إحدى الأساطير الرئيسية لنهاية الحرب الباردة فى أننا نشهد مع انهيار الستالينية موت الاشتراكية. وربما زعم تشومسكى عن حق أنه يرفض تلك الأسطورة لأنه يؤكد ضرورة ميلاد جديد للأفكار الاشتراكية المؤيدة لحرية الإرادة. غير أن الحقيقة تظل أنه يقبل حجة من الحجج الرئيسية التى يستخدمها الأيديولوچيون فى دفاعهم عن "الديمقراطية" التى يفضحها هو بكل هذا الدأب: أى، الحجة القائلة بأن الاستبداد الستالينى هو النتيجة المحتومة للممارسة البلشفية.
والتناقض الصارخ فى نوع التفكير بين تشومسكى الذى يرفض وتشومسكى الذى يقبل الأساطير اليمينية واضح جلى. ففكرة أن لينين وتروتسكى "استوليا على السلطة" تمثل نصف حقيقة تشوّه الواقع. ذلك أن كل عمل تاريخى جاد حول الثورة الروسية يوضح باستفاضة أنها لم تكن انقلابا عسكريا قام به البلاشفة وجرى بصورة مستقلة عن أمانى الجماهير (كما يلمّح تشومسكى)، بل كانت تمثل العمل النهائى والذى لا غنى عنه للثورة من تحت، والمعتمد بالكامل على البلاشفة الذين كانوا قد صاروا الأغلبية داخل الشكل الأوفر ديقراطية الذى عرفه العالم إلى ذلك الحين للمشاركة الجماهيرية: السوڤييتات.
ثانيا، فكرة أن لينين وتروتسكى تحركا بمجرد الاستيلاء على السلطة لتفكيك هيئات الرقابة الشعبية (وكأنهما عقدا العزم على سحق الديمقراطية العمالية) فكرة مضللة تماما. إنها تتجاهل أى اعتبار لسياق الثورة (تخلّف روسيا، الغزو من جانب القوى الامبريالية، الحرب الأهلية)، ذلك السياق الذى فرض كل أنواع القيود التى لا مفرّ منها على الديمقراطية السوڤييتية - والتى كانت أكثر ديمقراطية بكثير بقدر ما يتعلق الأمر بالجماهير من أى شيء فى الغرب(12). أما لماذا لا يُبدى تشومسكى أى فهم لهذا فهو لغز حقيقى، نظرا لأن الكثير من دفاعه عن نيكاراجوا ضد الاتهامات بانعدام الديمقراطية وبالسلوك الديكتاتورى إنما يقوم على اعتبارات خاصة بالسياق الذى كان الساندينيستا مجبرين على العمل فيه. لقد وُوجهوا بالتخريب الامبريالى الواسع النطاق، ومهما كانت التشويهات، كانوا أكثر ديمقراطية بكثير من جيرانهم الذين يفترض أنهم يشكلون "العالم الحر"(13).
وأخيرا، هناك فيما يتعلق بأنصاف الحقائق والتشويهات تأكيد تشومسكى، المستشهد به أعلاه، والخاص بأنه فى روسيا، وألمانيا، وفيما بعد فى أسبانيا، جرى وضع حد لطموح الدهماء الأوغاد إلى الحرية، على يد الطليعة اللينينية فى كثير من الأحيان. لقد تناولنا روسيا للتو. وتمثل ألمانيا صورة مختلفة تماما، صورة لن يخمنها أى شخص يجهل التاريخ. ولا يقول تشومسكى، رغم أنه لابدّ يعلم، ان طموحات الجماهير فى الثورة الألمانية 1918- 1919 تم وضع حد لها عن طريق العمل العسكرى للفرايكوربس المدعوم تماما من جانب الاشتراكية الديمقراطية اليمينية. وقد عانت "الطليعة اللينينية" جنبا إلى جنب مع الجماهير، حيث اغتيل أبرز ممثليْن له، ليبكنيشت ولوكسمبورج.
وفيما يتعلق بالثورة الأسبانية، لعب الحزب الشيوعى نفس الدور الذى لعبته الاشتراكية الديمقراطية اليمينية فى ألمانيا فى 1919، دور الدفاع عن الملكية البرچوازية والدولة الجمهورية البرچوازية. ولم يكن يمثل بأى معنى "طليعة لينينية". أما أولئك الذين كانوا على يسار هذا الحزب (ليس الزعماء الفوضويون، الذين كانوا قد انضموا إلى الحكومة) والذين لعلهم لعبوا دور الطليعة اللينينية، فقد تم وضع حدّ لهم بالإضافة إلى طموحات الجماهير(14).
وبكلمات أخرى، فى الأمثلة التى يقدمها تشومسكى يُثبت السجلّ التاريخى أنه حيثما كانت هناك طليعة لينينية حقيقية انتصرت طموحات الجماهير (وإن بصفة مؤقتة وبتشوهات تتنامى بسرعة). وحيثما، كما كان الحال فى كل مناسبة أخرى، كانت الطليعة منعدمة لسبب أو آخر هُزمت طموحات الجماهير.
وقد يقال لماذا النقاش بشيء من الإسهاب حول هذا، على حين أن الكتاب بأساسه الجوهرى مخصّص لفضح واقع الامبريالية الأمريكية وليس لمثالب الاتحاد السوڤييتي؟ والسبب وثيق الصلة بالاستجابة غير المُرْضية التى يمنحها تشومسكى للمهمة التى وضعها نصب عينيه، مهمة إزالة العوائق من طريق الديمقراطية. والشيء المفتقد هو تفكير فى الأداة: أية قوة وأية عملية يمكنها أن تُلغى السيطرة الفكرية؟ وإنما هنا يشكِّل صمتُه عن ماركس وإنكاره للينينية مشكلة.
والحقيقة أن هدف نقد ماركس للرأسمالية ولينين للرأسمالية فى مرحلتها الإمبريالية لم يكن لمجرد انتقاد هذا المظهر أو ذاك من مظاهر النظام. فلا أحد يحتاج إلى أن يكون ماركسيا أو لينينيا ليفضح نفاق الطبقة الحاكمة، أو ازدراءهم للجماهير، أو استغلالهم الذى لا يرحم فى الداخل والخارج، أو فسادهم، أو تلاعبهم بالنظام السياسى. كان هدف نقد كلًّ من ماركس ولينين للنظام هو ربط كل ذلك بفهمٍ لكيف خلق النظام سقوطه - ليس كمسار آلى، جبرى، بل من حيث عجزه عن تفادى الأزمة وميله إلى خلق أوضاع يمكن فيها للطبقة العاملة، بافتراض أنها منظمة، أن تطيح بالاستغلال والاضطهاد، عَبْر الثورة.
ولم يكن ماركس ولينين يحاولان إثبات أن الطبقة العاملة كانت الطبقة الوحيدة التى يضطهدها النظام. وقد أدت الامبريالية فى القرن العشرين إلى كل أنواع التمردات القومية التى جرفت الفلاحين إلى الحركة، بالإضافة إلى الشرائح الحضرية البرچوازية الصغيرة. والنقطة الأساسية عند ماركس ولينين هى أن موقع الطبقة العاملة داخل الرأسمالية، باعتبارها رئيسية فى تكوين الربح ومطبوعة بالطابع الجماعى فى طريقة عملها، يجعلها تختلف تماما عن الطبقات المضطهدة الأخرى من حيث إمكانية قيامها بإطاحة ثورية بالنظام. وهى إذ تقوم بهذا إنما تضع حدا فى وقت واحد للاستغلال الواقع عليها ولذلك الواقع على بقية الطبقات المضطهدة، التى تفتقر أيضا، لأن موقعها ليس فى قلب النظام كما هو الحال مع الطبقة العاملة، إلى إمكانية الطبقة العاملة فى القيام بالإطاحة بالنظام مرة وإلى الأبد.
ونحن نتحدث، بطبيعة الحال، عن الإمكانية. أما ما يحول دون تحوُّل الإمكانية إلى واقع فعلى فهو، بين أشياء أخرى، الدور الذى تلعبه الأيديولوچية السائدة ("السيطرة الفكرية")، التى لا يمكن التغلب عليها إلا عبر النضال، هذا النضال الذى يلعب فيه التنظيم السياسى (الحزب "الطليعى") دورا لا غنى عنه. هذا الاعتبار هو المفقود كليةً فى تفسير تشومسكى "للرأى العام" و"القبول" المنتزع من الجماهير.
وهذا العنصر، بالتالى، هو الذى يفسر ميل تشومسكى إلى المغالاة فى تقدير القوة السياسية للطبقة الحاكمة الأمريكية وإلى اللجوء إلى نظرية المؤامرة. ورغم آماله فى تجديدٍ للديمقراطية الحقيقية وإيمانه بأنه "رغم كافة المحاولات، يواصل الغوغاء النضال فى سبيل حقوقهم الإنسانية الأساسية"(15). فإن اللهجة دفاعية وحتى متشائمة، وليست واثقة.
وبطبيعة الحال ففى كتاب يدرس سلطة الطبقة الحاكمة ومدى قدرتها على إعاقة الديمقراطية، سيكون كثيرا أن نطالب بقائمة من أعمال المقاومة الناجحة. وكانت الولايات المتحدة ناجحة بوجه عام فى الاحتواء فى أمريكا الوسطى والجنوبية. لكنْ مع ذلك، لا يفكر تشومسكى مليا حقا فى السبب الذى منع الولايات المتحدة ببساطة من غزو نيكاراجوا لفرض إرادتها كما كانت قد فعلت قبل ذلك بعقديْن من الزمان فى بلدان أخرى فى تلك المنطقة، مثل جواتيمالا أو سان دومنجو. فهل كانت المجادلات بين الحمائم والصقور، اليمين واليسار، فى أوساط الطبقة الحاكمة، حول مزايا وعيوب التدخل المباشر بالمقارنة مع التدخل غير المباشر، مجادلات أيديولوچية خالصة؟ وهل رَدَع "الرأى العام" الطبقة الحاكمة وليس غير، أم كانت تساورها شكوك حول قدرتها على تخليص نفسها تماما بدون ذلك النوع من الغليان الذى هزّ الولايات المتحدة وأضعف الاقتصاد نتيجة للتدخل فى ڤيتنام؟
وبكلمات أخرى، رغم أن أواخر الثمانينات شهدت تعزيزا للقدرة العسكرية والنفوذ السياسى للولايات المتحدة، نتيجة التدهور الجلى جدا للنفوذ السوڤييتى، فعلينا أن نفهم أن التدهور المتواصل لاقتصاد الولايات المتحدة يضع قيودا حقيقية على نفوذها السياسى. والحقيقة أن قوتها لا يمكن إلا أن تتدهور فى نهاية المطاف نتيجة لذلك. ولا يفعل تشومسكى أكثر من التلميح إلى هذا المظهر الهام لسياسات ما بعد الحرب الباردة - ولا يفعل ذلك فى الواقع إلا فى مقدمة الكتاب.
وعندما ينعم تشومسكى النظر فى سنوات ريجان وفى السياسات الاقتصادية للثمانينات، يبدو أنه ينخدع بالنظرة غير الملائمة التى ترى أن ريجان كان مجرد دمية خلقتْها صناعة العلاقات العامة. كما أن مناقشته حول السياسات العسكرية الكينزية المتبعة فى أوائل وحتى منتصف الثمانينات تميل إلى أن تظلّ منغرزة فى السياق السياسى الخالص. ذلك أنه لا يتابع هذه المناقشة إلى النهاية وصولا إلى فهم لحقيقة كيف أن هذه السياسات كانت أيضا محاولة لحلّ مشكلات اقتصادية ترجع إلى الكساد فى أوائل الثمانينات، الأمر الذى أضاف بالتالى تعقيدا جديدا إلى نفس نقاط الضعف التى كان المقصود من هذه السياسات علاجها. وبالتالى، يكون كل ما يراه تشومسكى هو "سوء إدارة" ريجان (وهذا صحيح تماما)، وكأن ذلك كان عيب مجرد انعدام الكفاءة السياسية وليس ثمرة اتجاه انكماشى لردود فعل ممكنة يحتّمها الاقتصاد الآخذ فى التدهور(16).
ويرتبط بمغالاته فى تقدير النفوذ السياسى للطبقة الحاكمة تقليله من شأن القدرة الكامنة للطبقة العاملة على المقاومة. ومن ناحية، ينبع هذا من تركيزه، بقدر ما يتحدث عن المقاومة، على النزعة القومية الراديكالية فى العالم الثالث. ومن ناحية أخرى، يمكن أن نلمح هذا فى تشخيصه للمجتمع الأمريكى والذى استشهدنا به فى بداية هذه المراجعة: الصورة التى يشير إليها تمثل نوعا من تصفية الصناعة deindustrialization ستؤدى إلى تقلص الطبقة العاملة الماهرة وتوسّع نطاق الفئة الدنيا ("تحت الطبقية") من قوة العمل the "underclass". ولا يُؤْثر تشومسكى التوسُّع فيما يعتبر بمثابة صورة مجملة لشكل أشياء قادمة. غير أن التلميحات لا تشير إلى استنتاجات تنطوى على الكثير من الأمل - كما يوحى الاستشهاد التالى، بخصوص تأثير المخدّرات:
يتلازم رواج الكوكايين مع عمليات اجتماعية واقتصادية، تشمل ركودا لا نظير له تاريخيا فى الأجور الحقيقية من 1973، وهجوما مؤثرا ضد العمل لتعويض أرباح الشركات فى فترة تتميز بتدهور السيطرة العالمية للولايات المتحدة، وتحوُّلا فى العمالة إما إلى العمل العالى المهارة أو إلى وظائف قطاع الخدمات - وكثير من هذه الأعمال لا مجال فيها للترقية بالإضافة إلى أنها منخفضة الأجور -، كما تشمل خطوات أخرى صوب مجتمع مزدوج يشتمل على فئة دنيا ("تحت طبقية") واسعة ومتعاظمة تغوص فى وهدة اليأس والقنوط(17).
سيكون من الخطأ أن نستنتج من هذا أن تشومسكى يندفع صوب موضة الشطب على الصراع التى جرفت الكثير جدا من المثقفين الذين أربكهم انهيار الستالينية وانتهاء الحرب الباردة. ذلك أن تشومسكى وضع نفسه بكل وضوح فى صف ضحايا العالم، سواء أكانوا المضطهدين فى أمريكا الوسطى والجنوبية أم الفلسطينيين فى الشرق الأوسط. والحقيقة أن ألمعيّته لا تُضارع فى فضح أكاذيب، ومراوغات، ونفاق، الفكر المزدوج للطبقة الحاكمة، والتى يجرى استخدامها لتبرير هذا الاضطهاد البغيض، وقد كسب عن حق كراهية مَنْ أسماهم ماركس بالملاكمين الفكريين المحترفين لدى مضطهدى العالم. ومن نواح عدة يسير تشومسكى على تقاليد الليبرالية الراديكالية وريادتها لحرية القول وللحقوق الديمقراطية. وتلك تقاليد شريفة غير أنها غير كافية. كما أن ريادته لمذهب حرية الإرادة الباكونينى لا تمضى إلى أبعد من تلك التقاليد، مهما بدا أنها تفعل الكثير. وعلى كل حال، كان أساس فلسفة باكونين هو المفهوم الكامل البرچوازية للنزعة الفردية الراديكالية. والحقيقة أن رفض تشومسكى للتعاليم الماركسية، وإنْ كان لأسباب ذات نزعة إرداية فردية راديكالية، لا يسمح له بتجاوز هذه الحدود. وبالتالى فرغم أن من الواضح إلى صفّ مَنْ يقف تشومسكى إلا أنه ليس من الواضح أن لديه استرايچية تهدف إلى الانتصار على القوى التى يكرهها ونكرهها على السواء.

إشارات
1: N Chomsky (London 1991), pp 1-2.
2: Ibid, pp 2-3.
3: Ibid, pp 5-6.
4: كان تأليف كتاب تشومسكى قبل أن تغدو المجابهة بين التحالف الأمريكى والعراق "ساخنة". ويُبيّن تشومسكى أن الإدارة الأمريكية كانت تبحث حولها عن تبرير للتدخل من نفس النوع الذى سبق غزو بنما: كان صدّام عاقد العزم تماما على غزو العالم، كان غزو الكويت مختلفا تماما عن الغزو الإسرائيلى للبنان، إلخ. والموضوع الذى يلم به تشومسكى أيضا، لكن ليس بأىّ قدر كبير من التفصيل حيث أنه كان موضوع كتب سابقة، هو الطريقة التى يمثل بها اهتمام الحرب الباردة بالوصول إلى نفط الشرق الأوسط مهما كانت التكاليف سمة مستمرة للتفكير السياسى الأمريكى.
5: Op cit, p6.
6: Ibid, p109.
7: Ibid, p317.
8: Ibid, p20.
9: Ibid, p368.
10: Ibid, p361.
11: Ibid, p371.
12: يوضح ڤيكتور سيرچ، ذلك الأشد نزوعا إلى الفوضوية بين كافة البلاشفة، باستفاضة - فى مؤلَّفه: العام الأول للثورة ومؤلفه: مذكرات ثورىّ - أن المطالب الخاصة بالمزيد من الديمقراطية أو بثورة ثالثة (وهى المطالب التى رفعها دعاة حرية الإرادة الفردية فى ذلك الزمان) كان من شأنها أن تؤدى، إذا ما تحققت، ليس إلى قدر أكبر من السلطة للجماهير بل إلى الثورة المضادة، أىْ انتصار البيض والرجعية المتعطشة إلى الدماء.
13: لا يعنى تأكيد هذا، بطبيعة الحال، الوقوع فى الخطأ الذى يقع فيه كثير من اليساريين بالقول بأن نيكاراجوا فى عهد الساندنيستا كانت نوعا من الدولة "الاشتراكية" التى تُحْدث قطيعة مع الرأسمالية: Mike Gonzalez, Nicaragua, What Went Wrong (London,1990).
14: فى ذهنى هنا "پوم" POUM (الحزب العمالى للتوحيد الماركسى)، الذين انتقدهم تروتسكى بقسوة بالغة على كونهم لم يفهموا كيف أنه كان بمستطاعهم أن يقودوا الجماهير إلى الثورة فى أسبانيا، على أساس سلطة العمال والفلاحين ورفض الدخول فى الحكومة الجمهورية "اليسارية"، مثلما فعل البلاشفة فى روسيا، على أساس السوڤيتيات ومعارضة الحكومة المؤقتة.
: N Chomsky, opcit, p398.15
16: انظرْ Chapter Two, "The Home Front", op cit, particularly pp 73-75 and pp 81-87. ولا يمكن لانتقاداتى أن تنتقص من حقيقة أن هذا الفصل [الفصل الثانى من كتاب تشومسكى والخاص بالجبهة الداخلية الأمريكية – المترجم] فضح ألمعىّ لأعوام ريجان.
Op cit, pp127-128.:17





#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكتب معرفة ومتعة - الجزء الأول
- حول الأسلوب فى السينما - أندريه بازان
- جنوب أفريقيا عصر مابعد سياسة الفصل العنصرى (الأپارتهيد)
- إلا الرسول الكريم
- هل انتصرت الثورة المضادة فى مصر؟
- حروب القرن الحادي والعشرين مخاوف وأخطار جديدة
- بورخيس - كاتب على الحافة
- عالم جديد - الجزء الرابع - فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الثالث- فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الثاني - فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الأول - فيديريكو مايور
- بدلا من صَوْمَلَة سيناء
- طبيب الأمراض العقلية - ماشادو ده أسيس
- سوريا: الطريق إلى الجحيم
- حدث 25 يناير 2011: ثورة أم ليست ثورة؟ (مفهوم مختلف للثورة ال ...
- قبل تشكيل حكومة هشام قنديل
- أثبتت فحوصى الطبية الأخيرة خلوّ جسمى من سرطان الكبد (لطمأنة ...
- احتمالات الصراع الحالى بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والإ ...
- ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الثانى
- ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الأول


المزيد.....




- نيابة مصر تكشف تفاصيل -صادمة-عن قضية -طفل شبرا-: -نقل عملية ...
- شاهد: القبض على أهم شبكة تزوير عملات معدنية في إسبانيا
- دول -بريكس- تبحث الوضع في غزة وضرورة وقف إطلاق النار
- نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخاص ...
- اليونان: لن نسلم -باتريوت- و-إس 300- لأوكرانيا
- رئيس أركان الجيش الجزائري: القوة العسكرية ستبقى الخيار الرئي ...
- الجيش الإسرائيلي: حدث صعب في الشمال.. وحزب الله يعلن إيقاع ق ...
- شاهد.. باريس تفقد أحد رموزها الأسطورية إثر حادث ليلي
- ماكرون يحذر.. أوروبا قد تموت ويجب ألا تكون تابعة لواشنطن
- وزن كل منها 340 طنا.. -روساتوم- ترسل 3 مولدات بخار لمحطة -أك ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - الشرف والغضب لا يكفيان [مراجعة لكتاب: نعوم تشومسكى:-الحيلولة دون الديموقراطية]