أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - عالم جديد - الجزء الأول - فيديريكو مايور















المزيد.....



عالم جديد - الجزء الأول - فيديريكو مايور


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3843 - 2012 / 9 / 7 - 07:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


 
فيديريكو مايور
بالاشتراك مع
چيروم بانديه
 
عالم جديد - الجزء الأول
 
 
ترجمة: خليل كلفت و على كلفت
 
 
 
بمساعدة
جان ـ إيڤ لو سو، رانيار جيدماندسون، وفريق مكتب اليونسكو للتحليل والتقديرات المستقبلية
 
 
 
هذه ترجمة لكتاب
 
Un Monde Nouveau
par
Federico Mayor
Avec la collaboration de
Jérôme Bindé
 
صدرت الطبعة العربية الأولى عن دار النهار للنشر، بيروت
بالتعاون مع منظمة اليونيسكو
2002
 
 
ترجم خليل كلفت
المدخل والفصول من 1 إلى 6
والفصول من 13-16 والفصول من 18-20 والخاتمة
وترجم على كلفت
 الفصول من 7-12 والفصل 17
 
 
 


 
المحتويات
الجزء الأول
مدخل ........................................................................
 
 
 
1.    نحو عقد اجتماعي جديد ..........................................
 
 
1: السكان: قنبلة زمنية؟ .........................................................
2: فضيحة الفقر والحرمان ......................................................
3: تغيير المدينة يعني تغيير الحياة ...............................................
4: مستقبل وسائل النقل الحضري: أكثر أمانا، أكثر نظافة، أكثر قربا ..............
5: النساء يحركن العالم ..........................................................
6: النضال ضد المخدرات: التعليم والتنمية والبحث عن معنى .....................
 
الجزء الثانى
 
 
 
2. العقد الطبيعي للمستقبل:
العلم والتنمية والبيئة .................................................
 
 
7: أن ننمو مع الأرض ..........................................................
8: الصحراء تنمو ...............................................................
9: هل ستظل المياه جارية؟ ......................................................
10: هل سيكون الطعام كافيا للجميع؟ ............................................
11: إطعام البشرية بفضل البيوتكنولوجيات؟ .......................................
12: نحو "ثورة فعالية الطاقة" .....................................................
 
الجزء الثالث
 
 
 
3. نحو عقد ثقافي:
من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة ...........................
 
 
13: ثورة التكنولوجيات الجديدة: المعلومات والاتصالات والمعرفة ..................
14: أيّ مستقبل ينتظر الكتاب والقراءة؟ ..........................................
15: تراث مهدد بالانقراض: اللغات ...............................................
16: التعليم على مشارف 2020: عن بُعْد أم بدون بُعْد؟ ..........................
 
الجزء الرابع
 
 
 
4. نحو عقد أخلاقي جديد ............................................
 
 
17: هل ستحدث "المعجزة الأفريقية"؟ .............................................
18: عائدات السلام والأمن العالمي ..............................................
19: أيّ مستقبل لمنظومة الأمم المتحدة؟ .........................................
20: من أجل ثقافة سلام .........................................................
 
 
 
خاتمة: في سبيل أخلاق للمستقبل .....................................
 
 
إشارات ......................................................................
فريق إعداد "عالم جديد"...................................................
شكر وتقدير...................................................................
 
 


 
مدخل
 
"نحن لا نستطيع أن نتكهن بالمستقبل، لكننا نستطيع إعداده"، كما يلاحظ إيليا بريغوجين Ilya Prigogine، الحاصل على جائزة نوبل، أحد أعظم عقول عصرنا، عالم الفيزياء، وعالم الكيمياء، والفيلسوف. وهو يضيف: "كما قال پول ڤاليرى Paul Valéry: ’المستقبل بناء‘. ويتوقف عملنا على ذكرانا للماضي، وتحليلنا للحاضر، واستباقنا للمستقبل"([1]).
ونحن لا نستطيع أن نتكهن بالمستقبل، لأن الآتي لن يكون أبدا ما كان من قبل. ونحن نستطيع إعداده، حيث إنه ـ بعيدا عن أن يكون مكتوبا في كتاب كبير ـ هو عدم اليقين، التشعب، إبداع المحتمل. ولهذا فإنه أيضا بين أيدينا، لأنه الحرية: سيكون، بجانبه الأكبر، ما سنفعله به. ونحن نستطيع إعداد الآتي، ولكن هل نحن مستعدون للقرن الحادي والعشرين([2])؟
وهذا الكتاب، الذي أعددته بالتعاون مع جيروم بانديه Jérôme Bindé، وبمساعدة جان ـ إيڤ لو سو Jean-Yves Le Saux، ورانيار غيدماندسون Ragnar Gudmundsson، وفريق مكتب التحليل والتوقع باليونسكو، يهدف على وجه الدقة إلى إعدادنا بصورة أفضل للعقود المقبلة، وللاستجابة في الوقت المناسب لتحديات المستقبل. ذلك أن الغد سيأتي دائما بعد فوات الأوان.
والحقيقة أن القرن الحادي والعشرين قد قطع، هنا والآن، خطوته الأولى إلى الأمام، ودخلنا فيه دون أن ندرى. وكما أشار أحد المؤرخين الرئيسيين في هذا الزمن إيريك هوبسباوم Eric Hobsbawm([3])، فإن القرن العشرين الذي لم ينطلق إلا في 1914، انتهى مختصرا مدته، في وقت ما حوالي 1989. وقد بدأ القرن العشرون، الذي كان قرن الحدود القصوى، في سياق صخب وعنف الحرب العالمية الأولى، وانقضى تحت صدمات ضربات المعاول التي جعلت سورا ينهار، وفي الوقت نفسه أدى انقلابان طويلا الأمد إلى التغيير العميق لنظرتنا إلى العالم ولبنية مجتمعاتنا ذاتها:
-  الثورة العلمية لعصرنا، التي نقلتنا من عصر يقين وعقائدية إلى محيط من الحيرة والشك: منذ عهد ما يزال قريبا، كان لدينا إيمان، بثقة ساذجة، بقابلية التوقع لظواهر تحكمها قوانين علم يقيني وسائد. ومن الآن فصاعدا، تسلّم النزعة الحتمية القياد لتصور عن الطبيعة والتاريخ مطبوع بطابع الاحتمال. ولهذا فإنه لا يمكن تشبيه القرن الحادي والعشرين بمنتزه مصمم على الطريقة الفرنسية بقدر ما يمكن تشبيهه بـ "حديقة الممرات المتشعبة" تلك الأثيرة على بورخيس Borges: غير أنه في الوقت نفسه، وأمام النماذج الجديدة التي تتمثل في التعقيد، والاتجاه الواحد، والعولمة، وعدم اليقين، تغدو الحرية والإبداعية البشرية هما اللتان تعودان إلى واجهة المشهد. ووفقا لعبارة أميناتا تراورى Aminata Traoré([4])، "الإبداعية أملنا، بما في ذلك، وقبل كل شيء، الإبداعية السياسية". والتاريخ، بعيدا عن أن ينتهي، يتواصل ـ حتى إذا كانت المسرحية لم تعد تكتب سلفا، وحتى إذا كانت شخصياتها تبحث من الآن عن مؤلف. "إن رمية نرد لن تلغي الحظ أبدا".
-  الثورة الصناعية الثالثة([5]) التي تحول مجتمعاتنا تحويلا جذريا. وهذا الانقلاب تم رده بتسرع شديد إلى العولمة، أو بالأحرى إلى أحدث أطوارها. ولا شك في أن هذا كان يعنى الخلط بين السبب والنتيجة. ذلك أن الثورة الصناعية الثالثة، المرتكزة على عصر المعلومات والإدخال المتسارع لتكنولوجيات جديدة في كافة مجالات حياة البشر، هي التي تغير العالم الآن، وتصنع منه عالما عالميا. والحقيقة أن الثورة الصناعية الثالثة، المستندة إلى الثورة السيبرنطيقية، ونظام الرموز، وهي ثورة كمبيوتر إلى اليوم وثورة علم الوراثة غدا، تقوم بإخضاع مجتمع الإنتاج المادي لإمبراطورية جديدة، لا مادية، هي إمبراطورية علامات "المجتمع المبرمج"([6]). ويتسارع مجيء هذا المجتمع نتيجة للانتشار السريع المندفع للشبكات العالمية، الخاصة أو العامة، وهي الأداة الرئيسية للعولمة وهي التي تقوم بتسريع نموها. وإذا كانت العولمة هي اليوم قبل كل شيء عولمة أجهزة الكمبيوتر، والاتصالات السلكية واللاسلكية البعيدة المدى، والأسواق المالية، ومشهد وسائل الإعلام، والشبكات، فإنما يرجع هذا إلى أن العولمة هي أولا وقبل كل شيء محصلة الثورة الصناعية الثالثة. ووفقا لدانييل كوهن Daniel Cohen فإننا، بعد الثورة الصناعية الأولى، ثورة السكك الحديدية، بقرنين، وبعد الثورة الصناعية الثانية، التي انطلقت مع السيارة والطائرة والكهرباء، بقرن واحد، نواجه من الآن فصاعدا حتى داخل النسيج الاجتماعي النتائج المنطقية لثورة معلوماتية "تجعل من كل واحد منا المحرك الذي لا يتحرك لكمية لا متناهية من التحركات الافتراضية"([7]).
كل واحد منا؟ نعم. لأن العولمة التي تصحب الثورة الصناعية الثالثة تقوم الآن بشق العالم إلى قسمين: في الوقت الذي يحتفل فيه كوكب "المعولِمين" (فاعلي العولمة) globalisateurs  بانتصاره، انتصار المجتمع الذي لا يشكل سوى "خُمْس" البشرية وتسوده "طبقة فائقة" واثقة بنفسها ومهيمنة، هل ننسى كوكب "المعولَمين" (مفعولي العولمة) globalisés، هؤلاء الذين يشكلون أربعة أخماس البشرية الذين يتم تحريكهم أكثر مما يحركون؟
غير أن هذا ليس كل شيء: وكما يلاحظ أحد المؤلفين المشاركين لهذا العمل، هل نبقى سلبيين، في فجر القرن الحادي والعشرين، إزاء "نشأة مجتمع لا معقول تقوم فيه الصلة الاجتماعية بصورة غريبة على تمزيق هذه الصلة الاجتماعية نفسها؟ هناك شبح يسكن العالم: المجتمع المنفصم ... ومن الآن فصاعدا يقوم عصر جديد من العزل والفصل بتفتيت المجتمع، والعمل، والأسرة، والمدرسة، والوطن"([8]). وقد لاحظ أغلب المحللين هذه المفارقة، دون أن يفسروها حقا: إن الثورة الصناعية الثالثة والعولمة التي تصحبها ـ بعيدا عن أن تؤديا إلى التجانس، المرغوب فيه أو المستهجن، للمجتمع العالمي أو إلى تقارب الأمم ـ تخضعان المجتمعات لمنطق تفتيتي. وفي العمل، تحل في هذه المجتمعات محل فوردية الثورة الصناعية الثانية، محل آلة الدمج التي كانت مصدر المجتمع الاستهلاكي ولكن أيضا دولة الرفاهية، رأسمالية مرنة تفكك القيم القديمة للعمل وتحل محلها منطقا مزدوجا: منطق العرضية والأجل القصير جدا، ومنطق "التقسيمات التمييزية الانتقائية" appariements sélectifs([9]). وهذا المنطق التفتيتي يوسع الفجوة بين المهنيين المؤهلين والعمال الأقل تأهيلا، ولكن أيضا بين أعضاء مهنة واحدة، من ذوي الكفاءة المتساوية تقريبا. وتتحلل قيم الثقة، والأمانة، وضمان التعاقد، بالإضافة إلى الطابع الزمني ذاته للنشاط البشري([10]). ولم يعد العمل يجلب الخلاص: ومنذ وقت ما يزال غير بعيد، كان العمل يخلق الصلة الاجتماعية، وها هو الآن يصير أحد أقوى عوامل تفسخ هذه الصلة، بكل ما يلازمه من الإقصاء، والتهميش، وسهولة التكيف والتغير، وعدم الاستقرار.
والواقع أن هذا المنطق، منطق التقسيمات التمييزية الانتقائية، والتجمعات المنغلقة، والانفصال والتفتت، والانسحاب (الذي يعنى أنه في كل قطاعات النشاط، لم يعد "الأفضل" يريدون أن يلعبوا اليوم إلا مع "الأفضل"، كما كان الحال بالفعل في المنافسة الرياضية الممتازة أو في صناعة التسلية والاستعراضات show-business)، يحرّك أيضا الهوية القومية، وهيكل الأسرة، والمدرسة. كما أن المؤسسات تنهار وتعيد تأسيس نفسها وفقا لحركة متسارعة. وتتشظى البلدان أو تغدو عرضة لقلاقل طاردة عن المركز تجردها من تركيبتها الإثنية المتنوعة. ولم يعد الأغنياء يريدون أن يدفعوا للفقراء. وتقوم السوق العالمية بتقطيع أوصال الأسواق الوطنية وتفكيكها، ولم تعد الانفصالية جناية تستحق العقاب: لقد صارت السوق العالمية تفضّلها بالأحرى، في حالات عديدة؛ وصارت "المدن العالمية" الجديدة تدير ظهرها للأراضي الداخلية لبلدانها الوطنية لكي تلعب لعبة المنافسة أو التعاون مع مدن عالمية أخرى. وفي كثير جدا من الأحيان، تنهار الأسرة، تحت ضغط نفس التقسيمات التمييزية الانتقائية، ويغدو الأزواج والزوجات المرايا المؤقتة لتقسيمات تمييزية اجتماعية ثقافية واقتصادية هشة، ويصير الزواج عديم الاستقرار، وتتضاعف الأسر التي تضم أحد الوالدين فقط.
وتتفكك المدرسة ذاتها. ويبقى من عشرين إلى ثلاثين في المائة من التلاميذ أو أكثر، وفقا للمجتمعات، واقعين في شرك الممرات الفرعية للتعليم وهم مستبعدون من الناحية العملية من المجتمع الجديد القائم على المعرفة والتعليم. وعلاوة على هذا فإن الأبارتهيد المدرسي والجامعي، وهو الآن في حالة من التوسع السريع، يصيب من الآن فصاعدا كل الفئات الاجتماعية الثقافية، ويهدد، إذا لم يتم اتخاذ إجراءات ملائمة في الوقت المناسب، بأن يفرغ من معناه مشروع التعليم للجميع مدى الحياة الذي وضعته اليونسكو في مركز إستراتيجيتها. وكان من المأمول أن يقدم التعليم إسهاما حاسما في سبيل إعادة توزيع الفرص والمهارات، وفى سبيل تشجيع انطلاق المجتمعات التي تقوم على اقتصاد المعرفة. غير أنه يبدو أن التعليم ذاته هو الذي يفسده المنطق الذي يدفع الطبقات المرفهة إلى عزل أطفالها في "مدارس متميزة"، و"معاهد متميزة"، و"جامعات متميزة"، وإلى عولمة فرصهم عن طريق مسيرات مدرسية وجامعية عبر قومية، مطبوعة بطابع النخبوية الفائقة والنزعة الاستهلاكية الفائقة في مجال التعليم. وفي الوقت ذاته، صار يُسند إلى التعليم القومي المهمة البائسة المتمثلة في إدارة الفشل التعليمي، أو توزيع الشهادات التي لا قيمة لها في سوق العمل. وبالتالي فإن الثورة الصناعية الثالثة والعولمة التي تصاحبها تحملان في حد ذاتهما الإقصاء كما تحمل السحابة الرعدية الإعصار. لقد استسلمنا لقيادة ما اعتقدنا أنه الميزة الذاتية التنظيم "للسوق". وقد أخطأنا. وينبغي علينا دون إبطاء أن نستعين بالحكمة والتجربة البشريتين. ينبغي علينا أن نتعلم من جديد فن ريادة وتنظيم المجتمعات، حيث اعتقدنا أن سياسات السوق الحرة كافية وحدها.
وفي اللحظة التي تزعزع فيها ديناميات الثورة الصناعية الثالثة أغلب المؤسسات بعمق، تقوم موجة حضرنة لم يسبق لها نظير بإيقاع الاضطراب في نظام المجتمعات([11])، وبصورة خاصة في الجنوب حيث أنه، في غضون فترة جيل واحد، سوف تضطرب المجتمعات في عالم الميغابولات [المدن العملاقة] Mégalopoles. غير أن المدينة ذاتها يُعاد تشكيلها بصورة كاملة على أساس منطق الأبارتهيد الحضري، الذي، شأنه في هذا شأن العمليات الأخرى للتقسيم التمييزي الانتقائي، يقوم بالإقصاء في ذات اللحظة التي يقوم فيها بالانتقاء. وهذا الأبارتهيد، الذاتي التنظيم، الذي يرتدي صورة المدن الجديدة المحاطة بالأسوار بإقامة معاقلها وحصونها في أغلب مناطق العالم، يطرح لإعادة النظر فكرة الحيز العام، هذه الفكرة الجوهرية للديمقراطية، ويقوض أسس ووعود العقد الاجتماعي، كما جرى التشديد على هذا في محاورات القرن الحادي والعشرين التي نظمها مكتب التحليل والتوقع التابع لليونسكو([12]).
وهناك تهديد آخر يضغط بقوة على الديمقراطية: إن "المجتمع المبرمج"، الذي تنبأ به ألان تورين Alain Touraine منذ حوالي عشرين عاما، يشكل من الآن فصاعدا الثقافة بوسائل صناعية، ويبدأ في التأثير على الإنسان، "مع خطر استحواذ خاص على الحياة وإعادة إنتاج البشر. وقد بدأ الانتشار الخارق، الخاص بجانبه الأكبر، للصناعات المعلوماتية، والثقافية، والبيوتكنولوجية، في إحلال تقنيات جديدة لإدارة وحكم المجتمعات البشرية التي من المحتمل أن تتخلص من الدولة، وبالتالي أيضا من الديمقراطية محل الأنماط الكلاسيكية للسيطرة الاجتماعية"([13]). والحقيقة أن العقد الاجتماعي الذي يطرحه الآن لإعادة النظر منطق التقسيمات التمييزية الانتقائية من المحتمل أن يلغيه مرة أخرى نموذج جديد، يفرض على المواطنين أطرا تقنية خاصة، تتخلص من رقابة المنتخبين والسيادة الديمقراطية. كما أن الهياكل الحكومية الجرانيتية للقطاع العام في طريقها إلى أن تحل محلها ـ نتيجة للتحرير الاقتصادي، وتفكيك التأميمات، والتركيز الذي يؤدي إلى اندماجات عملاقة ـ اتحادات خاصة ضخمة "بلا وجه"، لا يمكن الوصول إليها بصورة مماثلة([14]). ومنذ قرن ونصف، كان توكڤيل Tocqueville، الذي كان أحد أنبياء الليبرالية، قلقا إزاء ظهور استبداد صناعي جديد([15]): فهل سيشهد القرن الحادي والعشرون ظهور طبعة مستقبلية من هذا السيناريو؟
وكان فرويد قد كشف عن "اختلال في الحضارة". فهل يمكن اليوم أن نشخص، مثل بعض الخبراء، "اختلالا في العولمة"؟ وقد تحدث بعضهم عن "طلاق بين المعنى والقوة". واستدعى آخرون فقدان المرجعيات، وتآكل المبادئ، وتيه الخواء الذي يمكن أن يستحوذ على المجتمعات التي تعيش في مرحلة انتقال إلى الألفية الثالثة، فهل ينبغي أن نتنبأ بغسق للقيم؟ والتاريخ Histoire، كما حوله إلياس كونيتى Elias Conetti بصورة تهكمية إلى افتراض، هل كف، ابتداءً من نقطة بعينها، عن أن يكون تاريخا فعليا؟ والمعركة بين المدافعين عن "نهاية التاريخ" وأنصار "تواصل التاريخ"، ألن يعود لها معنى أكثر من شاشة مهجورة تنكمش أمام مشاهدي التليفزيون الذين يداعب النعاس جفونهم؟ وهل يمكن أن تكون نهاية اللعبة قد حدثت دون أن ندري؟ وهل نحن مقبلون على أن نمثل محاكاة ساخرة لفترات إضافية عديمة الجدوى ولا طائل تحتها؟ والمجتمع بأسره، هل يتخبط في سياق المنطق القاسي للمحاكاة بالصور؟ وهل يمكن أن تكون إمبراطورية العلامات قد قامت بامتصاص دم إمبراطورية الواقع، وقامت بتصفية تاريخ Histoire البشر من دمه؟
ولا مناص من أن نلاحظ زيادة "أمراض الروح" في قلب المجتمعات الأكثر رخاءً والفئات الاجتماعية التي يبدو أنها الأكثر حماية من الشقاء. ويبدو أن القلب ذاته صار فريسة خواء غريب، ويتفاقم عدم المبالاة والسلبية، وتمتد الصحراء الأخلاقية ذاتها، وتضعف قوة العاطفة والوجد، وتخبو النظرات، وتتحلل التضامنات. وتمتد المناطق الرمادية، وتتسلل المافيات إلى قلب الدول والأسواق المالية([16])، ويسود قانون الغابة. ويتفشى فقدان الذاكرة، ويبدو المستقبل غير مفهوم. ونشهد الطلاق بين الإسقاط والمشروع، وتغدو النظرة الطويلة الأجل فاقدة للاعتبار؛ ويفرض هاجس الأجل القصير، والوقتية، وطغيان العاجل الملح إمبراطوريته، ويبدو أن القرن الحادي والعشرين قد انتهى إلى الوقوع تحت ضغط حاضر من التقليب (التصفح) المتواصل، الذي يبدأ دائما من جديد.
وتنشغل حكومات البلدان الأكثر غنى بمسائل اقتصادية على وجه الحصر تقريبا؛ وهي تخفض بصورة تدريجية المساعدة الرسمية للتنمية وكذلك مساهماتها لمنظومة الأمم المتحدة؛ وباستثناءات قليلة فإنها لا تفي بالتعهدات التي قطعتها على نفسها بتخصيص 0.7% من ناتجها القومي الإجمالي للمساعدة الرسمية للتنمية. وكانت لدينا إمكانية بناء السلام على أساس تقاسم أفضل وعلى أساس تطبيق برامج دولية للتعاون الكوكبي. والحقيقة أن هذا الجهد، الذي تم البدء فيه في إطار المؤتمرات الكبرى للأمم المتحدة التي انتظمت خلال العقد الماضي، يتراجع الآن. وتمسك القوى العظمى بزمام الأمور. فهل نرى لهذا السبب النظام الدولي والسلام يسودان؟ وقد شهدت التسعينيات تكرار الإبادات الجماعية وكأن هذه النهاية للقرن أباحت جعل ويلات الرعب أمرا عاديا مألوفا. غير أن هذه المآسي تقدم، في عصر العولمة، سمة جديدة. إذ يبدو أن الدول التي فقدت مرجعياتها تجدّ في البحث عن أعداء، غير أن هذا العدو صار من الآن فصاعدا منتشرا ولا يمكن العثور عليه، دائم التنقل، موجودا في كل مكان وغير موجود في أي مكان.
وفي بعض الأحيان، يستحوذ علينا النفور: هل سيكون القرن الحادي والعشرون قرن الفراديس الوهمية، والجحيم الفعلي، والكساد الذي تثبت كل الإحصائيات تفاقمه الذي لا يقاوم، وعدوى المذابح، والفوضى، والعنف، والأوبئة العامة الكبرى، وعالم الكابوس الذي توقعه فيليپ ك. ديك Philip K. Dick في فيلم Blade Runner وهل ستظل الطفولة معرضة للعنف ولوحشية الإفساد الافتراضي؟ وهل ما زلنا نستطيع تجنب "الجريمة الكاملة" التي استدعاها جان بودريار Jean Baudrillard، هذا الإحلال لعالم المحاكاة بالصور محل العالم الواقعي، وهو ما يخشى أن يكون قد حدث بالفعل([17])؟ وهل ينبغي أن يتم بسرعة إيداع القرن الحادي والعشرين مخزن فوائض التاريخ؟ هل ينبغي بيعه بثمن بخس في سوق البراغيث التي صارت في زوايا النسيان؟
غير أنه يبقى الأمل. وإذا كان يبدو أنه لم يعد هناك شيء يضمن معنى للتاريخ مرهونا بمستقبل مشرق، إذا كانت فكرة خلاص علماني لم تعد مربحة تقريبا، وإذا كان يبدو أن فكرة التقدم ذاتها تتلاشى أمام إمكانية التراجع و"النكوص"، فإن إمكانية الأمل تظل قائمة. والواقع أن علم التعقيد science de la complexité، هذا العلم الذي كان بريغوجين أحد مبتكريه والذي عبر إدغار مورين Edgar Morin الجسور التي تربطه بالعلوم الإنسانية، يهتم بأوضاع غير خطية. وفي الوقت الذي يقوم فيه هذا العلم الجديد بتجريد فكرة أن المستقبل سيكون معطى جاهزا من كل مصداقية فإنه، بفضل فكرة مؤشر الزمن والحرية التي يسمح بها، يعيد الإبداعية البشرية والخيال إلى قلب التاريخ. ولأن اختيارات وطرقا متشعبة متاحة لنا، ولأننا نستطيع أن نتخيل التاريخ، فإن إمكانية التقدم تظل قائمة، ليس كحقيقة يقينية، بل كمجرد افتراض. وقد اعتدنا القول أن المستقبل ليس مكتوبا في أي مكان. ووفقا لبريغوجين فإن "التقلبات المحلية المقترنة بعدم الاستقرار يمكن أن تلعب دورا أساسيا في تطور مجموع النسق". ومن الجائز أننا غير مستعدين للقرن الحادي والعشرين. غير أن القرن الحادي والعشرين لم يعد مستعدا لنا: لا هو مستعد لأن نضطلع بمسئوليته ولا هو مستعد لأن نفكر فيه. بل ينبغي تخيله، وتصميمه، وتشكيله، والحلم به، والتفكير فيه، وبناؤه، وعمله، وإنقاذه، وتعويضه. إنه كثرة من المسارات والمشروعات. وكما يكرنا پيير پاولو پاسولينى Pier Paolo Pasolini في نقش في فيلمه ألف ليلة وليلة فإن المستقبل لا يعيش في حلم واحد بل في كثرة من الأحلام.
وفي مواجهة قوة الأقوياء، ترتدي الأهمية قوة واحدة: قوة الشعب. وإذا نجحنا في إعادة حق القول إلى الملايين والملايين من الصامتين، إذا أعطيناهم إمكانية حقيقية لممارسة حريتهم في الاعتقاد والتعبير، إذا استعاد أولئك الذين صاروا اليوم بلا أصوات أصواتهم، عندئذ سنشهد تحول اتجاه القرارات. وعندئذ فإن أولئك المحسوبين أو غير المحسوبين في التعدادات، أو استطلاعات الرأي، أو الانتخابات، سوف يكتسبون حقا أهميتهم في اللحظة التي يرسمون فيها مستقبلهم. ويتمثل أملنا في صوت الشعب: الديمقراطية. ليس الديمقراطية من أجل قلة، بل الديمقراطية للجميع.
وخلال العقود الأخيرة، لا مناص من الإقرار بأن البشرية قد تقدمت. ومنذ خمسة عشر عاما كان لا يزال سبعون في المائة من سكان الكوكب يعيشون تحت نير الاضطهاد، والعناء، والحرمان من الحقوق المدنية. ومع ذلك كسبت الديمقراطية المزيد من الأرض؛ وصار صوت الشعب يُسْمع حيث لم يكن يوجد من قبل سوى الصمت. والسلام، عندما كان يسود، كان سلام الأمن. واليوم يبدأ أمن السلام في الانتصار، وبالتدريج تتفوق قوة العقل على عقل القوة. ومع ذلك فإن الواقع الذي يحجبه هذا الانتشار الواسع للديمقراطية يستحق تقييما دقيقا، وليس المدائح المغتبطة للعولمة التي يتلوها علينا في المنتديات الرواة المبتسمون عن نهاية للتاريخ Histoire، الذين تشكل تقاريرهم التي تحض على الفضيلة طبعة جديدة من المكتبة الوردية. كما سجل النضال ضد التخلف بعض الإنجازات، سجل بياناتها التقرير العالمي عن التنمية البشرية:
-  خلال الـ 36 عاما الماضية، ارتفع العمر المتوقع عند الولادة في البلدان النامية 16 سنة، مرتفعا من 46 عاما إلى 62 عاما([18]).
-    تقلص معدل وفيات الأطفال في البلدان النامية بما يزيد على النصف منذ 1960([19]).
-  بين 1970 و1995، ارتفع معدل تعليم الكبار في البلدان النامية بحوالي النصف، مرتفعا من 48% إلى 70%. وازداد تعليم النساء بأكثر من الثلثين خلال العشرين سنة الأخيرة([20]).
-  خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ارتفع عدد الأفراد الذين يعيشون في بلدان ذات مستوى مرتفع من التنمية البشرية من 429 مليون إلى 1.2 مليار، وتراجع عدد الأفراد الذين يعيشون في بلدان ذات تنمية بشرية ضعيفة من 1.9 مليار إلى 1.7 مليار([21]).
ومع ذلك يتواصل الحديث دائما عن إخفاقات الأمم المتحدة. غير أننا ننسى أن نحتفي بالنجاحات التي حققتها، رغم الافتقار، المتكرر جدا والمنتشر جدا بصورة مؤسفة، إلى الإدارة السياسية. وهل ينبغي التذكير هنا بالقضاء على الجدري أو القضاء على شلل الأطفال، الذي أعلنت منظمة الصحة العالمية تحقيقه في المستقبل القريب؟ وهل يمكن أن نتجاهل الإنجازات المتحققة في مجال التطعيم وارتفاع العمر المتوقع عند الولادة، الذي صار يحيط به الشك بصورة مأساوية منذ عدة أعوام نتيجة لظهور الإيدز في عدد من البلدان الأفريقية ونتيجة للبؤس، أو الشروط السيئة للحياة في بلدان عديدة في العالم، مثل الاتحاد الروسي؟ وهل يمكن التقليل من شأن النجاحات السياسية التي تمثلها نهاية الأبارتهيد (سياسة الفصل العنصري) كمؤسسة في جنوب أفريقيا وناميبيا؟ ونهاية الحرب في السلفادور، أو في غواتيمالا، أو في موزمبيق، أو في كمبوديا؟ وهل يمكن أن نتخلى عن الأمل الذي يمكن أن يمثله استتباب السلام في أولستر، أو عودة وعده الهش إلى الشرق الأدنى؟ وهل يجب أن ننسى ـ وكأنها بديهيات غنية عن القول ـ الإنجازات التعليمية التي فعلت اليونسكو من أجلها الكثير، تلك الإنجازات التي تمت ترجمتها إلى انخفاض ملموس جدا في معدل الأمية([22])، تحقق رغم الزيادة الكبيرة في عدد السكان؟ وكيف يمكن الاستهانة بالإنجازات في مجال الحرية الشخصية، رغم أنها كانت الأروع في مجتمعات كان فيها مجرد مفهوم الاختيار الفردي ما يزال غير قابل للتصور تقريبا منذ أربعة عقود، وكانت فيها حرية النساء، التي هي اليوم في كامل ازدهارها، ما يزال الواقعيون يودعونها منذ عهد قريب في متحف اليوتوبيا والأوهام؟
وكما نعلم: لا يتحدث المرء عن الجنرالات إلا عندما يكسبون أو يخسرون المعارك، وليس أبدا عندما يتفادون خوضها. إن ما استطاع المرء أن يتفاداه، ما لم يحدث مطلقا، لا يراه أحد. ونحن لا نرى السلام، ولا نرى بعد النظر، ولا نرى الحب، ولا نرى الأمل([23]). ونحن لا ندرك ما خرجنا منه سالمين. والحقيقة أن كل تحليل مستقبلي يجب أن يحمي نفسه ضد أوهام الإدراك التليفزيونى cathodique في مجتمع تسيطر عليه وسائل الإعلام إلى أبعد حد: في أكثر الأحيان، لا يظهر على الشاشة إلا السلبي أو التافه. وفي مقدمة المشهد، نرى اللاجئين الشاحبين شحوب الموتى يتقاطرون؛ وبعد هذا مباشرة، نرى الأسرة، والابتسامات المغتصبة للاحتفال، وأصباغ المهرجين، ونرى العنف الذي يشتد عليه الإقبال، وسراب القدرة على شراء السعادة، وهذه الحكاية، مثل حكاية شكسبير، يبدو أنه يرويها أبله ولا معنى لها. أما السعادة، والسلام، والصحة، والمعرفة، والذكاء، والكرم الحقيقي، وعلى وجه الخصوص الحب العميق، دنيويا كان أو روحيا أو مقدسا، فإنها إن جاز القول لا وجه لها على الشاشة: إنها تظل لا تكاد تُرى، وتُلمح بسرعة خاطفة. وهى تبقى في الخلفية، أو خلف البلاتوه، أو خارج مجال الكاميرا. وإلا فإنها تغدو صورا وأخيلة في صناعة الحلم.
وبصورة مماثلة، لا يمكن اختزال العولمة إلى عولمة أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر)، والاتصالات السلكية واللاسلكية البعيدة المدى، والأسواق المالية، والجريمة المنظمة: إذ أنها ليست فقط عولمة في "الوقت الفوري"، أي الوقت الافتراضي، بل هي أيضا عولمة في الأجل الطويل، وإدراك العلاقات في المكان بين الأفراد والأمم.
ومنذ اثنين وعشرين قرنا، كان المؤرخ القديم پوليب Polybe، وهو أول من قام بتنظير العولمة، قد لفت الأنظار في ذلك الحين إلى أنه من قبل "كانت الأحداث التي تجري في العالم تكاد لا تكون لها صلة فيما بينها: أما الآن فإنها جميعا تشكل أجزاء من كل واحد مترابط". والحقيقة أن العولمة، من حيث هي إدماج في العالم وانتشار للاعتماد المتبادل، تفضي إلى عولمة أخرى، تتمثل في الإحساس بالانتماء إلى العالم وباعتمادنا المشترك. ويخلق التفاعل علاقة، حتى في السياق الذي تظل فيه الصلة غير متكافئة، كما في كل نظام تسيطر عليه هيمنة. وفي ذلك الحين، في سياق العهود القديمة، فكر الفلاسفة الرواقيون، قبل كانط Kant بقرون، حتى في داخل الإمبراطورية الرومانية، بحس حاد بالاستباق، في مفهوم المواطنة العالمية (الكوسموپوليتية) cosmopolitisme، حيث يمكن أن نرى سلف العالمية universalisme الحديثة. وإذا كان يبدو أحيانا أن العولمة الراهنة تطرح العالمية الكلاسيكية لإعادة النظر، فإنها تفضي أيضا إلى عولمة الضمير، الذي يعبر عن نفسه في الشبكات، البالغة الكثرة اليوم، التي تربط بين مواطني الكوكب رغم الحدود. إن عولمة الأحداث تحفز عولمة الإرادات، وأوضح مثال على هذا هو الانتشار الواسع للمنظمات غير الحكومية وحركات التضامن الدولية، ولكن أيضا الظهور الذي ما زال خجولا لأشكال من الإدارة العالمية، الأمر الذي يشهد عليه تنظيم قمم الأمم المتحدة إلى الجمع بصورة متزايدة بين الحكومات، والفاعلين الرئيسيين في المجتمع المدني، وخبراء المستقبليات، والقطاع الخاص، والمنظمات غير الحكومية.
كما يحفز الانتشار الواسع للاعتماد المتبادل عالمية للمجتمع، تتميز بالانتشار الذي ما يزال هشا لمجتمع مدني دولي ولشبكات مهنية عبر قومية: على هذا النحو تتحقق الفكرة النبوئية لتوينبي Toynbee، التي تشمل الثقافة وفقا لها ثلاث دوائر ـ العالمي، والقومي، أو المحلي، والمتعدد المجالات/التقنيات le transversal.
وفى مواجهة مآسي وويلات هذه النهاية للقرن (المذابح الطائفية، والانتشار السريع للجريمة المنظمة، والأزمات المالية، واتساع نطاق الفقر، والفوارق، والإقصاء)، تحفز العولمة علاوة على هذا مقدمات "عولمة للقانون"، كانت ميريل ديلماس ـ مارتي Mireille Delmas-Marty([24]) من أوائل من توقعوا مجيئها. وتشكل أول علامة تبشر بها الاتفاقية الدولية بشأن إنشاء محكمة جنائية دولية، إذا أسرعت الدول الأطراف في هذه الاتفاقية بالتصديق عليها في غضون الأشهر المقبلة.
وتدعم العولمة أخيرا انتشار فكرة كبرى، كانت ما تزال بالأمس يوتوبية، ومع هذا تتوافق مع المواطنات المتنوعة: فكرة مواطنة كوكبية، حدد إدغار مورين بصورة ممتازة خطوطها العريضة عندما قدم فكرة "الأرض ـ الوطن"([25]). وعلى هذا النحو تتحقق النبوءة القديمة للفلاسفة، تلك النبوءة التي وفقا لها يشترك كل البشر في العقل العام، الذي يفرض عليهم وحدة المصير، والحقوق المشتركة، ولكن أيضا المسئوليات المشتركة. ووفقا لحقيقة من حقائق هذه الحكمة القديمة، "في كل مكان على الأرض، يجد الإنسان النبيل وطنه"([26]).
وفي فجر القرن الحادي والعشرين تتيح لنا بعض دلائل التحسن، الوقتية والهشة والعابرة ولكن الأكيدة، أن نرفض الفرضية التي دحضها كانط من قبل، والتي وفقا لها تتطور البشرية بصورة دائمة نحو الأسوأ. ولكي يدحض هذه الموضوعة عن "الإرهاب المعنوي"، قدم كانط هذه الحجة المفحمة عندما قال: لو كانت البشرية تتطور دوما نحو الأسوأ لكانت قد فنيت بالفعل منذ عهد طويل من تلقاء نفسها([27]). على أن الإمكانية الوحيدة لمستقبل أقل قتامة تغدو أساسية، إذ ماذا يمكن أن نعرف، وماذا يمكن أن نفعل، وماذا يتاح لنا أن نأمل، إذا يئست البشرية من البشرية؟ ونحن نعتقد أن القوة المستمدة من هذا الأمل لن تكون زائدة عن الحاجة إذا نحن أردنا أن نواجه التحديات الأربعة([28]) الرئيسية الماثلة في قلب إشكالية هذا العمل، والتي ينبغي علينا أن نواجهها إذا كانت البشرية تريد البقاء بعد القرن الجديد.
أول هذه التحديات، هو السلام، الذي يشكل الشرط المسبق لحل كل التحديات الأخرى، كما ذكرنا بطرس بطرس غالي Boutros Boutros-Ghali في أحاديث القرن الحادي والعشرين التي نظمناها في اليونسكو. لقد طويت صفحة الحرب البادرة، غير أن ما نعيشه اليوم ـ وهذا تخفيف من وطأة الحقيقة ـ "سلام ساخن". ومنذ انهيار سور برلين، تتواصل عشرات الحروب أو اندلعت، وتستمر قرابة ثلاثين نزاعا، تدور غالبيتها الساحقة داخل دول، في الفتك بأجزاء شاسعة من العالم. وتبخر وهم أن نهاية الحرب الباردة ستؤدي في الحال إلى انطلاق آلية السلام الدائم، وإلى المجيء بنهاية التاريخ وبعهد من التنمية المتصلة التي تكفلها مزايا السوق الحرة. وعلى المشهد الدولي ظهرت فئة رابعة للدول أضيفت إلى البلدان الصناعية والبلدان النامية والبلدان التي تمر بمرحلة انتقال: البلدان التي اندلعت فيها حرب أو التي نجت من نزاع. وتعاود الظهور ظاهرة منسية: الانهيار أو التحلل العنيف لعدد من الدول، التي تغوص في الإبادة الجماعية، والمذابح فيما بين المجتمعات المحلية أو في حروب بعيدة عن أن تكون أهلية civiles بحيث ينبغي أن نسميها حروبا غير أهلية guerres inciviles.
التحدي الثاني: هل سيشهد القرن الجديد تفاقم فقر لا مثيل له يطل ضحاياه، كظلال شبحية ليلية، على الجانب الآخر من ستائر نوافذ الأبارتهيد الاجتماعي والأبارتهيد الحضري، على ثروة لم يسبق لها مثيل، مغلقة وراء الجدران العالية للفراديس المباعة عن طريق الكتالوجات؟ هل سيكون القرن الحادي والعشرون مرادفا لعدم المساواة المتزايد الذي يصيب بالدوار؟ وهل سيؤدي انتشار الإقصاءات إلى تدمير ذات مفهوم الحيز الاجتماعي، مقوضا ذات أسس الديمقراطية، داخل البلدان وعلى المستوى الدولي؟ ولنُلْقِ نظرة مباشرة على معطيات المشكلة:
-  بين 1980 وأزمة 1997-1998، عرف خمسة عشر بلدا نموا اقتصاديا قويا أدى إلى ارتفاع لمتوسط الدخل، ولكن بتوزيع يتميز جدا بعدم المساواة، بالنسبة للجانب الأكبر من مليار ونصف من السكان الذين يعيشون فيها، أيْ حوالي رُبْع البشرية.
-  في نفس الفترة من الزمن، عانى مائة بلد من هبوط أو ركود اقتصادي، مما أدى إلى انخفاض لمتوسط الدخل بالنسبة لمليار وستمائة مليون شخص، أيْ أكثر من رُبْع سكان العالم.
-  في آسيا، ولكن أيضا في روسيا، وأمريكا اللاتينية، وفي عدد من بلدان العالم، أدت سلسلة من الأزمات المالية إلى تراجعات ذات عواقب سلبية هائلة على سكان بلدان كان يجري الاستشهاد بها منذ عهد قريب على أنها أمثلة للنجاح.
-  عند مدخل القرن الحادي والعشرين، يعيش أكثر من مليار وثلاثمائة ألف فرد في حالة من الفقر المطلق (أقل من دولار واحد في اليوم)، ويستمر عددهم في الارتفاع([29]). بل يقدر عدد من الخبراء المشهورين هذا الرقم بـ 2 مليار فرد. ويعيش أكثر من ثلاثة مليارات شخص، أيْ أكثر من نصف البشرية، في حالة من الفقر، بأقل من دولارين في اليوم.
-  ووفقا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، فإن "الـ 20% من الأفراد الأكثر فقرا في العالم يتعين عليهم اليوم أن يتقاسموا النسبة البائسة 1.1% من الدخل العالمي، مقابل 1.4% في 1991 و2.3% في 1960"، في حين أن نصيب الـ 20% من الأفراد الأكثر غنى ارتفع من 70% في 1960 إلى 85% في 1991. و"اليوم، يصل صافي رصيد أضخم عشر ثروات إلى 133 مليار دولار، وهو ما يعادل الدخل القومي الكلي لمجموع البلدان الأقل تقدما مرة ونصف المرة". وقد ارتفع نصيب الـ 20% الأكثر غنى من الدخل بالمقارنة مع نصيب الـ 20% الأكثر فقرا من 30 مقابل 1 في 1960 إلى 61 مقابل 1 في 1991، وإلى  82 مقابل 1 في 1995([30]): إننا نشهد إذن توطد مجتمع "الخُمْس" الذي وصفه هانز پيتر مارتن Hans Peter Martin في Le Piège de la mondialisation [شرك العولمة]([31]).
-    أكثر من 800 مليون شخص يعانون من الجوع أو سوء التغذية، ويعانى 2 مليار شخص من نقص الغذاء.
-    أكثر من مليار فرد لا يحصلون على خدمات صحية.
-    880 مليون شخص في العالم أميون، منهم 866 مليون في البلدان النامية.
-    أكثر من مليون وأربعمائة ألف شخص لا يتمتعون بالحصول المباشر على مياه صالحة للشرب.
-    2 مليار شخص لا يرتبطون بشبكة كهرباء.
-  80% من سكان الأرض ـ أيْ أكثر من أربعة مليارات ونصف فرد ـ لا يتمتعون بالوصول إلى وسائل الاتصالات الأساسية، وبالتالي إلى الوسائل التي تفتح الباب إلى التكنولوجيات الجديدة التي ستكون مفتاح التعليم عن بُعْد والاقتصاد الجديد: اقتصادي اللامادي.
-    ثلثا سكان العالم الذين يعيشون في حالة من الفقر المطلق لم يبلغوا الخامسة عشرة من العمر، و70% منهم من النساء.
-  وكما يعلق أحد المؤلفيْن المشاركيْن لهذا العمل فإننا "نتباهى اليوم برواج الإنترنت، غير أننا سوف نظل نعيش لوقت طويل في عالم من الطرق السريعة للمعلومات inforoutes والممرات الفرعية للمعلومات infosoutes، من الطرق السريعة الإلكترونية electronic highways والممرات الفرعية الإلكترونية electronic subways المسدودة. ويبدو أن المستقبل ذاته هو المعرض للخطر. المستقبل الغائب، أو المتراجع، أو غير المقروء في الشمال الذي لم تعد غالبية البلدان الغنية فيه تنجب الأطفال إلا نادرا. المستقبل الضائع أو المرهون الآن في الجنوب إذ أن الأطفال، بالإضافة إلى النساء، هم الذين يعانون من أشد البؤس"([32]).
ووفقا لدراسة([33]) لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) فإنه نظرا لزيادة سكان العالم التي تتوقعها الأمم المتحدة، سوف يتضاعف الناتج المحلي الإجمالي العالمي خمس مرات خلال خمسين عاما ليرتفع دخل الفرد بمعدل 3% في السنة في البلدان التي تسير في طريق التنمية، مما يقتضي زيادة كبيرة ومتصلة خلال نصف قرن. وسيكون من الضروري أن تكون هذه الزيادة كبيرة بصورة خاصة في تلك المناطق التي يكون فيها البؤس هو الأكثر خطورة في الوقت الراهن، بحيث تبدو هذه الزيادة فرضية هشة في مناطق عديدة من العالم، وبصورة خاصة في أفريقيا جنوب الصحراء. وينتج بوضوح من هذه التقديرات أنه لا يمكن الاطمئنان إلى سياسات السوق الحرة وحدها للتغلب على البؤس والفقر وكذلك أن استراتيجيات التنمية البشرية، التي تُولى الأولوية للتعليم وللرعاية الصحية الأولية، تكون أكثر أساسية كلما أتاحت، حتى في سياق تنمية اقتصادية هزيلة، تحسينا كبيرا لنوعية حياة السكان([34]).
التحدي الكبير الثالث: التنمية المستديمة، والإدارة السليمة لبيئة الكوكب. ووفقا لدراسة كندية، يحتاج الأمر إلى ثلاثة كواكب مثل الأرض إذا وصل كل سكان العالم إلى نمط التنمية والأساليب الاستهلاكية السائدة في الوقت الحالي في أمريكا الشمالية. ونماذجنا للتنمية التي تقوم على الاستخدام المسرف وبلا قيود للموارد غير المتجددة ـ ألا تعرض للخطر سلفا، وربما حتى بصورة نهائية، تنمية أجيال المستقبل التي ننكر عليها، بأنانيتنا وقصر نظرنا الزمني، حقوقها، في حين أن الرومان القدماء كانوا قادرين على إقرار حقوق الأطفال الذين لم يولدوا بعد في تشريع المواريث؟ ألم يأت الأوان لنقول بصوت عال وواضح: كم يكفي؟ كم يكفي لإشباع شراهتنا([35])؟ ففي كل مكان يستنفد الإنسان اليوم النسغ الذي يمكن أن يغذي الإنسان غدا. ولأن البشرية تملك القدرة التقنية على الانتحار الجماعي كنوع، فإنها تدرك من الآن فصاعدا أنها محكوم عليها بالفناء. فمن ذا الذي سيوقف هذه الدوامة؟ من ذا الذي سيعلمنا الحكمة الإيكولوجية؟ من ذا الذي يدلنا على طريق تنمية أخرى، أكثر اقتصادا، وأكثر ذكاء، وأكثر تضامنا؟ من ذا الذي سيعلمنا وفقا لعبارة الفيلسوف ميشيل سير Michel Serre "السيطرة على السيطرة"؟ وأية قوة ديمقراطية هي التي ستوقف أيدي مَنْ يطلقون الجن من القمقم؟
التحدي الرابع: "متلازمة القارب السكران"([36]). وكما كتب سنيكا Sénèque، وكما يقول البحارة المهرة، "لا توجد مطلقا ريح مواتية لمن لا يعرف إلى أين يذهب". غير أنه لا توجد ريح طيبة لقبطان لا يستطيع فك شفرة خريطة، أو لربابنة حطموا دفة المركب. فهل أقلعنا موجهين مقدم سفينتنا نحو المستقبل؟ هل لدينا اتجاه أو مشروع طويل الأجل؟ هل ما زال لدينا دفة ومعدات الملاحة للاحتفاظ بهذا الاتجاه؟ نعتقد أن من المسموح به أن نشك في هذا. ونتيجة للعولمة، يبدو أن عددا كبيرا من الدول قد أضاعت الخرائط والبوصلات وأدوات إرشاد الملاحة وحتى إرادة الاتجاه نحو أفق. وإذا كانت ما تزال عائمة الآن، وإذا كانت لا تغرق إلى الآن، فما ذلك إلا لأن الأمواج تتقاذفها، وكأن التاريخ قد سقط في أيدي "سادة مجهولين"([37])، تجريدات لم يعد أحد يسيطر عليها، تُسَمَّى الأسواق المالية، وأسعار الصرف، وأسعار الفائدة، وأسعار المواد الخام المنجمية أو الزراعية، والأرقام القياسية والوقائع الإحصائية من كل نوع.
وفي نفس اللحظة التي يبدو فيها في كثير من الأحيان أن سلطة الدول قد تآكلت، في حين أن هذه ربما كانت ذات طبيعة وظائفها التي تكون بسبيلها إلى التحول، فماذا يمكن أن نكتشف؟ إن أغلب المشكلات تتجاوز الحدود، وتتحول إلى قضايا دولية. فهل يمكن أن نقول اليوم إن قضايا المياه، أو الطاقة، أو التغير المناخي للكوكب، أو التلوث بكل أشكاله، أو الأمن الغذائي، أو التنمية ذاتها، يمكن حلها على النطاق القومي وحده؟ إن معاملات الأسواق المالية، أو غسيل الأموال القذرة، أو الجريمة المنظمة، أو المخدرات، أو الأوبئة، أو العوامل التي تؤدي إلى تدهور بيئة الكوكب لا تتوقف بحكمة عند الجمارك أو عند مواقع الحدود. وكذلك السحب المشعة. والحقيقة أن مشكلات هذه النهاية للقرن العشرين، التي ستصير، إنْ لم تعالج في الوقت الملائم، الجروح المفتوحة للقرن القادم، مترحلة، عديمة الجنسية، بدون جوازات سفر. إنها منذ الآن عالمية، أو سرعان ما ستغدو كذلك، كما يوضح الانتشار البالغ السرعة لوباء الإيدز أو عدوى الأزمات المالية في 1997-1998.
وقد قال جان بودريار إن القرن الحادي والعشرين سيكون ڤيروسيّا. وإذا كان هذا صحيحا، فإن التوقع سوف يجب أن يقود إلى الوقاية، وإلى اختراع "أمصال سياسية" على النطاق الوحيد الذي يمكن فيه إيقاف هذا الشر: نطاق العالم. فما هي السياسات ذات النطاق الكوكبي التي سيكون علينا تنفيذها في سبيل إعطاء كل الفعالية المطلوبة لمبادرات التعاون التي تم طرحها على المستوى الدولي؟ والواقع أن سلسلة المؤتمرات الرئيسية التي عقدتها منظومة الأمم المتحدة خلال العقد المنصرم، مثل قمم ريو، أو ڤيينا، أو القاهرة، أو كوبنهاغن، أو بكين، أو إسطنبول، أو قمة كيوتو بشأن خفض غاز الدفيئة، كانت تمثل خطوات أولى. وكان الجنرال ديغول يقول: الدولة سوف تتابع الإشراف على الاقتصاد. غير أن الدولة، واأسفاه، لم تتابع، والمتابعة لم تتابع.
وتتمثل مسئولية مواطني الكوكب في مطالبة حكوماتهم بهذه المتابعة، مدركين تماما أن هذا لن يكفي. إذ أنه يوجد نقص في العمل، ولكن أيضا نقص في الرؤية، وفي الشجاعة السياسية: إننا نمتنع عن طرح المشكلات على أنفسنا بكل ضخامتها. وغداً، هل سيكون على الأمم أن تطلب محاسبة قادتها السابقين على القرارات التي لن يكونوا قد اتخذوها أو التي سيكونون قد اعتمدوها بعد فوات الأوان، تماما كما يطالب اليوم مواطنو الولايات المتحدة بالتعويض من شركات صناعة التبغ على الأضرار التي أصابت بها صحتهم العامة؟ ألا يمكن أن يكون من الحكمة، من الآن، تطبيق القرارات المتخذة على المستوى العالمي؟ وخلال عشر سنوات من الآن على أكثر تقدير، وخلال عشرين سنة من الآن دون شك، ألن ينبغي المضي أبعد كثيرا؟ أبعد كثيرا من ريو، أو كيوتو، من ڤيينا، أو من القاهرة، أو من إسطنبول، أو من بكين؟ ومع ذلك فإنه إذا احترمت الدول من الآن فصاعدا التعهد الذي قطعته على نفسها في كوبنهاغن بالقضاء على الفقر، فعندئذ سيكون بوسعنا أن نقول أننا بدأنا بصورة نهائية الاستعداد للقرن الحادي والعشرين.
وهنا وهناك، جرى تقديم بعض الأعذار المربكة ذات المظهر الحزين: آسفون، يقول أولئك الأكثر فقرا، نحن لا نملك الوسائل للتصرف. ويستديرون إلى أولئك الأكثر غنى. ويردد هؤلاء الصدى: آسفون، نحن لا نملك الوسائل للتصرف، نحن لا نسمح لأنفسنا بترف التصرف. وعلى هذا النحو، تختار حكومات كثيرة جدا اتخاذ موقف سلبي. على أن هذا الأخير ليس موقفا قدريا لا فكاك منه. وقد بدأ عدد كبير من البلدان في أن تجعل من التعليم أولوية، وفي أن تحرر من داخل ثروتها القومية وسائل لتمويله. وقد التزمت بعض البلدان، مثل الهند، برفع النصيب الذي تخصصه من ناتجها المحلي الإجمالي للتعليم إلى 6%. وسيكون التغلب على السلبية أحد الرهانات الرئيسية على مشارف 2020.
ذلك أن الوسائل موجودة. وفي حين أن المساعدة الرسمية للتنمية لم تكف عن الانخفاض، إلى حد الهبوط، في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلى 0.22% من الناتج القومي الإجمالي([38])، مع أن البلدان الصناعية التزمت رسميا في مؤتمرات عديدة للأمم المتحدة إلى رفعها إلى 0.7%، فإننا نواصل الاستثمار ضد التنمية. ومع أن الحرب الباردة قد انتهت من الناحية الأساسية منذ حوالي عشرة أعوام، فإننا نواصل الاستثمار بصورة مكثفة في عدم الأمن، بدلا من التمويل، كأولوية وبطريقة وقائية، لبناء السلام. وعلى المستوى العالمي، فإن النفقات العسكرية، رغم انخفاض غير متكافئ خلال التسعينيات، تمثل دائما 700 إلى 800 مليار دولار، وتعاود الميزانيات العسكرية لبعض القوى العظمى الارتفاع. والحقيقة أنه لا يمكن في آن واحد دفع ثمن الحرب وثمن السلام. وكما شدد والي نداو Wally N’Dow، عندما كان الأمين العام لقمة إسطنبول بشأن المدينة، فإن الموارد المتوفرة كافية لتزويد كل شخص "بمسكن، ومياه صالحة للشرب، ومرافق صحية أساسية، بتكلفة أقل من مائة دولار للشخص". ومن أجل 1.3 مليار فرد يعيشون في حالة من الفقر المطلق، سوف يمثل هذا الاستثمار مائة وثلاثين مليار دولار. من جهة مائة وثلاثون مليار دولار لا تتم تعبئتها، ومن جهة أخرى، 700 إلى 800 مليار دولار، تتم تعبئتها. إذن، ميزانان، مكيالان؟ فلنقلها بوضوح: هذه المسألة لا تتعلق بالبلدان الصناعية وحدها. إنها تتعلق أيضا بعدد كبير من البلدان النامية، وبعض البلدان بين تلك الأقل تقدما، التي يوجه حكامها جزءا كبيرا من الميزانية القومية([39]) إلى النفقات العسكرية، على حساب التعليم والتنمية البشرية.
وسوف تكون مواجهة التحديات الأربعة التي طرحناها المهمة الكبرى للنصف الأول من القرن الحادي والعشرين، وعلى وجه الخصوص الأعوام العشرون الأولى منه. وها هي تأتي ساعة الحقيقة: خلال عقد أو عقدين من الزمان، ربما كان مصير الجنس البشري هو الذي سيتعرض للمخاطرة ـ وسوف يلقى اجتماع عدة أخطار عبئا ثقيلا على المستقبل. والرهان واضح. وقد صاغه البروفيسور إيثان كاپشتين Ethan Kapstein، عضو مجلس العلاقات الخارجية بنيويورك، بهذه العبارات: "يتجه العالم بصورة محتومة نحو إحدى تلك اللحظات المأساوية التي سوف يتساءل مؤرخو الفترات اللاحقة فيما يتعلق بها عن السبب في أنه لم تتم محاولة عمل شيء ما قبل فوات الأوان. ألم تفهم النخب الاقتصادية إذن نحو أيّ هاوية يسرع التحول الاقتصادي والتقني؟ وما الذي منعها من القيام بالمساعي التي لا غنى عنها من أجل تفادي أزمة اجتماعية عالمية؟"([40]).
وكما كان يقول ألبرت آينشتين Albert Einstein، "في لحظات الأزمة، يغدو الخيال أهم من المعرفة". وقبل هذا العالم العظيم الذي تمثل اكتشافاته عبقرية القرن المنصرم، كان لدى الأنبياء والشعراء حدس مماثل. كتب هولدرلين Hölderlin: "حيث يتفاقم الشر، يوجد أيضا ما ينقذ منه". ويتمثل الشرط الأول لهذا الإنقاذ عن طريق الخيال في التوقع وبُعْد النظر في الأبحاث والتقديرات المستقبلية، التي يجب أن تتم ترجمتها إلى فعل واحتياط ووقاية.
سيقول بعضهم: "المستقبل بالغ التعقيد وعدم اليقين، وينبغي أن نكتفي بالحاضر. لنتوقف عن التوقع، ولنترك أنفسنا للرياح والتيارات تأخذنا إلى حيث تشاء". وسأردّ على هؤلاء بأن من السهل جدا إخفاء الوجه، وانتظار ظهور الصعوبات لمحاولة تقديم حلول لها لن تكون بالأحرى سوى مسكنات، ولن تكون إلا ردود أفعال في سياق من التعجل والارتجال. وقد أدى منطق الأجل القصير هذا، هذا الطغيان للطارئ الملحّ، هذا الضمور للزمن حيث يقوم الحاضر بإلغاء الماضي ويظل أعمى إزاء المستقبل، إلى ما نشهد اليوم من نتائج فادحة الخطورة تذكرنا من جوانب بعينها بعجز أسلافنا خلال ثلاثينيات القرن العشرين في مواجهة صعود الأخطار. وتحكم علينا ديكتاتورية "الوقت الفوري"، وقصر النظر، والغياب، الفريد في التاريخ Histoire، للفكر والرؤية، بعدم استعداد مزمن، وبحماس محتدم عقيم، وباستحالة توريث الأجيال المقبلة، وبمفاجآت مأساوية. والحقيقة أن مثل هذه الهيمنة للمكسب القصير الأجل وقصر النظر الزمني لا يترك للأفراد خيارا آخر سوى خيار الاستسلام للمرونة الحديدية لطغيان اللحظة، أو خيار التكيف مع التطورات بعد فوات الأوان دائما.
ولكي لا نكون تحت رحمة الظروف في مستقبل معقد وغير يقيني، ولكي نستعيد السيطرة على مصيرنا، ولكي نتخلص من الروتين والبلى، أو من إغراءات إدخال تقنية لا سيطرة عليها تقودنا بصورة عمياء إلى مصير وحشي، يجب أن نستعيد الزمن الطويل. ويجب أن نمد أنظارنا إلى الأمام إلى أبعد مدى ممكن. ويجب أن نتوقع الاتجاهات، وان نكتشف في الحاضر "الحضانات" التي ينشأ فيها المستقبل، وأن نحتاط للتطورات للتتوافق معها أو التحول عنها. فهل يمكن أن نقبل أن يلومنا أطفالنا على أننا كنا قباطنة سيئين، وعلى أننا، بدلا من أن نكون على مستوى تحديات الزمن، قذفنا سفينة البشرية إلى صخور دلت عليها الخرائط البحرية بوضوح؟
وكان ثيوسيديد Thucydide يقول: "القائد السياسي لا يجب فقط أن تكون له يدان نظيفتان، بل يجب أيضا أن تكون له عينان صافيتان". وينبغي علينا، كما يفعل هنود أمريكا، تقريب آذاننا من الأرض للإصغاء من بعيد إلى الزلزال الوشيك، أو الخطوة الخفيفة للمسافرين، الذين ربما كانوا رُسُلا يحملون أخبارا. وسيكون على الحكومات، والمؤسسات الدولية، ومعاهد الأبحاث، والجامعات، التي لم تقم بهذا بعد، أن تعزز بصورة كبيرة خلال السنوات القادمة قدراتها على التوقع والأبحاث المستقبلية، ومن المدعوين للقيام بهذا أيضا التجمعات الإقليمية والمحلية، والمؤسسات الرئيسية للمجتمع المدني، وبطبيعة الحال القطاع الخاص الذي ربما كان، من خلال الشركات الكبرى عبر القومية، الأكثر تقدما في هذا المجال. ومنذ 1994، أجرت اليونسكو بدورها هذا الإصلاح، من خلال التجديد الكلي لبرنامجها الخاص بالمستقبليات، ومن خلال إنشاء مكتب للتحليل والتوقع، ومن خلال تعزيزها في برنامجها لوظيفة الرصد ومنتديات التوقع العلمي والفكري، وبصورة خاصة عن طريق تنظيم أحاديث القرن الحادي والعشرين ومحاورات القرن الحادي والعشرين.
وبطبيعة الحال فإن التوقع السليم يتيح التعرف على التحديات، والمخاطر، والاتجاهات الواعدة، والمؤشرات والمتغيرات الرئيسية، وكذلك ـ وفقا للتطورات المتوقعة أو السيناريوهات التي يمكن إجمال خطوطها العريضة ـ تحديد الحلول التي يكون من الملائم تطبيقها، إن شئنا الاقتراب، عن طريق سلسلة من المشروعات والأعمال، من مستقبل مفهوم ليس على أنه حتمي لا مفر منه بل على أنه مرغوب فيه. وهنا تكتسب كلمة هولدرلين التي سبق الاستشهاد بها كل معناها: إنما في مواجهة صعود الأخطار، وتضاعف المخاطر، تتزايد القدرات على التوقع كما تتزايد وسائل طرد شبح الخطر. وخلال العقود الأخيرة، تزايدت بصورة ملحوظة جدا القدرات على التوقع وسط المجتمعات العلمية ـ ويكفي أن نفكر في الأبحاث المستقبلية المتصلة بتغير مناخ الكوكب، أو بالطاقة، أو بالمياه. كما أنها تزايدت أيضا على مستوى الإدارات الوزارية، والقوى الفاعلة الرئيسية في المجتمع. ومن الآن فصاعدا، نعرف أن الحلول موجودة وأن إدراك المشكلات قد ازداد حدة. وهناك حقا افتقار إلى الإدارة السياسية وحدها، حيث صارت سجينة لقوى الأجل القصير جدا، وللخوف من خسارة الانتخابات التالية، ولتلاعب جماعات الضغط التي تضغط بكل ثقلها، من وراء الكواليس في كثير من الأحيان، على حساب المنفعة العامة، والمصلحة العامة. وقد شددنا على أن العولمة لا ينبغي أن تظل عولمة الشبكات، والاتصالات السلكية واللاسلكية، وأجهزة الكمبيوتر، والمحيط الإعلامي، والأسواق. إنها يجب أن تستند إلى توطيد حيز عام ديمقراطي على نطاق العالم، وإلى تجديده على النطاق القومي. كما يجب أن ترتكز العولمة على تصور مستقبلي للعقد الاجتماعي والمقتضيات المتعاقبة للمسئولية إزاء الأجيال المقبلة ونقلها إليها. والحقيقة أن العولمة، إذا استطاعت أن تدمج هذه العناصر، سيكون بمستطاعها أن تفضي إلى ديمقراطية دولية أوسع، سيتم فيها التوفيق بين الحرية والمساواة، هاتان الأختان العدوتان، وفقا لعبارة برغسون Bergson، عن طريق الإخاء ـ أيْ عن طريق التضامن.
فما هي أحجار الزاوية في هذا الوضع الجديد للقرن الحادي والعشرين؟ وما هي مقدمات هذا المنطلق الجديد؟ إننا مقتنعون بأن العولمة لن تتوافق مع العالم l’universel الذي تميل في الواقع إلى أن تحل محله، إلا إذا نجحنا، كما كان هذا هو الحال في 1945 مع إنشاء الأمم المتحدة، في تعزيز الاتحاد بين الشعوب وبين البلدان من أجل منع العنف والحرب. "نحن شعوب الأمم المتحدة، عاقدين العزم على حماية الأجيال المقبلة من ويلات الحرب ..." هكذا يبدأ ميثاق الأمم المتحدة. كان هذا في 1945 في سان فرانسيسكو. والرعب في أعماق العيون، فكرت شعوب الأرض في أطفالها وفي ذريتها، وقررت أن تجنبهم التمزقات التي عاشتها هي.
مجرد مصادفة؟ شهد العام 1945 أيضا انطلاق حركة جبارة للعولمة mondialisation (كانوا يقولون في ذلك الحين: التدويل internationalisation). والحقيقة، كما أوضح إيتان كاپشتاين([41])، أن هذه الدينامية لعولمة فترة ما بعد الحرب [العالمية الثانية] كانت تعني، بالنسبة لعمال بلدان عديدة، مخاطر وتحديات جديدة. غير أن حكومات ذلك العهد اخترعت في ذلك الحين، تحت ضغط الرأي العام ولكن أيضا في كثير من الأحيان ببُعْد نظر كبير، دولة الرفاهية l’État-providence (welfare state)، التي قامت، مستكملة مزايا الأجور المرتبطة بالفوردية، بتعريف عقد اجتماعي جديد يقوم على التفاوض، والضمان الاجتماعي، والأمن، وعلى تصور بعيد النظر عن دولة الخدمات l’État-service. وإلى حد كبير، كان هذا العقد الاجتماعي تحقيقا للنظرة المستقبلية العبقرية لتوكڤيل الذي توقع، قبل قرن، انتصار دولة الرفاهية في كتابه De la démocratie en Amérique [الديمقراطية في أمريكا]، عندما تنبأ بانتشار الدولة الاجتماعية الديمقراطية démocratique ـ l’État-service ـ التي رأى فيها، كليبرالي مقتنع، شبح استبداد ناعم يمكن، مدفوعا إلى حدوده القصوى، يغنينا عن "مشقة التفكير وعناء الحياة"([42]).
وكما نعرف جميعا فإن العقد الاجتماعي القديم لعام 1945 قد شاخ حقا. وقد ارتفعت تكلفته بصورة كبيرة، وصارت فعاليته موضع شك، وهوجمت مبادئه بلا انقطاع أو مهادنة من جانب أنصار سياسات السوق الحرة. وعقد المبشرون بالعولمة المشرقة و"نهاية التاريخ" آمالهم على حدوث تطور: تعزيز التكنولوجيات الجديدة لديناميات اقتصادات السوق. كما عوّلوا على يوتوبيا جديدة، أو بالأحرى على وهم قديم من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر: مجتمع السوق مع تحديثه على أيدي دكاترة جدد على شاكلة الدكتور پانغلوس Pangloss يبشرون بالتفاؤل السعيد. واستندت هذه اليوتوبيا إلى فكرة أن المجتمع سيصل في نهاية المطاف إلى الإدارة الذاتية، عن طريق نوع من انتشار اقتصاد السوق في العلاقات الاجتماعية le social وعن طريق سياسة نشطة لتذويب، أو اختزال، أو تفكيك، كل الوساطات السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية وكل تراث غير ملائم للتاريخ (الصراعات الاجتماعية والقومية والدينية، الثقافات، التقاليد، إلخ). وكانت هذه اليوتوبيا هي النسخة الأصلية المسالمة وفوق الليبرالية لتلك اليوتوبيا السياسية الماركسية: اضمحلال الدولة. ولم تر يوتوبيا مجتمع السوق سوى مزايا في تراجع الدولة وفي تآكل السيادة الديمقراطية: لقد عقدت آمالها بصورة خاصة على ذوبان أشباح الشعبية في سيولة السوق وديمقراطية للزبائن، بحيث تستندان إلى الصفقات المباشرة. وفى الوقت نفسه الذي احتفظت فيه هذه اليوتوبيا بهيبتها العقائدية في أقسام الاقتصاد في عدد كبير من الجامعات فإنها تواجه اليوم حدودها، ويبدو بصورة متزايدة أنه يتم في كثير من الأحيان إحالتها، حتى من جانب الاقتصاديين المرموقين، الذين كانوا ما يزالون حتى وقت قريب أنصارا للسوق الحرة والوصفات الليبرالية الجديدة، إلى متحف الأيديولوجيات. ذلك أن أزمة 1997-1998 دفعت إلى إعادة اكتشاف ضرورات التنظيم. وتحت وطأة تجربة الأزمة المالية العالمية والانتكاسات، تزعزع من كل جانب ذلك الإيمان المغتبط بالمبادئ التي أثارت الشكوك حول العقد الاجتماعي لعام 1945. وفيما يتعلق بفكرة أن المجتمعات المبرمجة الجديدة، المشهورة بأنها غير قابلة للغرق، يمكن، حالما يتم إنجاز خصخصتها وحالما يتم تفكيك كل خدماتها العامة (التعليم، الصحة، إلخ.)، أن تستغني عن العقد الاجتماعي وعن كل شكل للتنظيم ـ فإنها تحطمت من الآن فصاعدا على صخرة التاريخ Histoire([43]).
ولهذا فإننا لا نعتقد في آن معا لأسباب اقتصادية ولكن أيضا لأسباب ثقافية واجتماعية ترتبط بالتحول الكبير للمجتمعات خلال العقود الأخيرة ـ أن من الممكن إحياء العقد القديم لعام 1945 كما هو. وفيما وراء العقبات الاقتصادية والسياسية، يمكن أن توجد عقبة بشرية: كيف لا نرى أن ظهور الفردية والمطالبة بالاستقلالية والحرية الشخصية والذي يتفق مع ظهور مجتمع الشبكات والثورة الصناعية الثالثة، يتعارض بعنف مع استعادة مثل ذلك العقد؟ إن العالم الذي يتعولم هو أيضا عالم يطبعه الطابع الفردي بصورة متزايدة، تعود فيه الذات، وفقا لعبارة ألان تورين، من خلال كثرة من المسارات الشخصية، والمشروعات، ومسيرات الحياة الشخصية، تجمع بين الذاكرة والعقل والخيال، في اتجاه كل من الماضي والمستقبل.
ومع ذلك ـ وكان هذا من جهة أخرى أحد الموضوعات الرئيسية لمحاورات القرن الحادي والعشرين التي نظمتها اليونسكو في أيلول/سبتمبر 1998 ـ تبدأ في فرض نفسها فكرة أن الثورة الصناعية الثالثة والعولمة التي تصاحبها لم تعثرا بعد على العقد الاجتماعي الجديد الذي تحتاجان إليه. وسيكون على مجتمعات القرن الحادي والعشرين أن تسارعا دون إبطاء إلى اختراعه، حيث أن عقد الثورة الصناعية الثانية وعقد 1945 ـ الفوردية في المجال الاقتصادي ودولة الرفاهية في المجال الاجتماعي ـ يواصلان التحلل أمام أعيننا.
وفي 1989، أدى انهيار سور برلين ثم انفجار المنظومة السوڤييتية إلى استشراف العديد من آفاق التغيير. كان الستار الحديدي قد تآكل: مستندا إلى فكرة المساواة، كان قد قام بتنحية الحرية جانبا. ونحن نشهد اليوم النجاح الاقتصادي لمنظومة تستند إلى مفهوم الحرية، الذي نسي المساواة، وكذلك التضامن: غير أن هذا النجاح المحاسبي ينطوي بالقوة على إخفاق سياسي، لأنه يقترن بإفلاس أخلاقي، وبافتقار مطلق إلى الغايات. إن قوة العولمة خالية من المعنى. ويتمثل الاتجاه الذي نريد أن نقترحه على القرن الحادي والعشرين في أنسنة [إضفاء الطابع الإنساني على] العولمة، وتحويلها إلى وَعْد ومشروع عالميين حقا.
وفيما يتعلق بالتنمية، تبدأ الاعتراضات الجذرية في التلاشي، كما يلاحظ عدد متزايد من الخبراء. وترتسم خطوط التقارب. وتبرز، كما يلاحظ أمارتيا سين Amartya Sen، فكرة أن التنمية في القرن الحادي والعشرين سوف تقوم على الذكاء أكثر مما على المادة، وعلى التعليم والمعرفة أكثر مما على "الدم"، و"العرق"، و"الدموع"([44])، وأكثر مما على التضحية بجيل أو بعدة أجيال. وعلاوة على هذا فإنه، وفقا لاقتصادي آخر، "لأن السوق والدولة تصلان على السواء إلى حدودهما، سيكون من الأفضل الجمع بين وليس الاعتراض على منطقهما. للدولة القرارات الاستراتيجية، وللسوق دور التخصيص اليومي للسلع التي لا تلتزم بأيّ خيار اجتماعي. وتثبت التجربة أن "الدولة وحدها" تقود إلى الفشل، وأن "السوق وحدها" تنتهي إلى حدود جلية فيما يتعلق بالعمل (البطالة والفوارق)، أو بالمال (دور المضاربة المنطوي على احتمال زعزعة الاستقرار)، أو أيضا بالبيئة (ضرورة الضوابط الجماعية). وتثبت النظريات الاقتصادية الجزئية الشروط المحددة التي يكون توازن السوق في سياقها هو الوضع الأمثل، ويرد تحليل التقدم التقني الداخلي الاعتبار لأهمية التدخلات العامة بالنسبة للتنمية (التعليم، التجديد)، ويوضح الاقتصاد السياسي الجديد أن الدولة ليست مطلقا مجرد أداة بالنسبة للتنمية. كما أن تناوب الإستراتيجيات التدخلية والليبرالية ليست قدرا لا فكاك منه. والحقيقة أن الأزمة المكشوفة التي دخلتها البلدان الآسيوية في 1997 تدعنا نتطلع بأمل إلى تركيب أصيل بالنسبة للقرن الحادي والعشرين: البحث عن علاقات تكاملية بين الدولة والسوق، في صميم الترتيبات المؤسسية الغنية لأشكال أخرى من التنسيق، باعتبارها أساس التنمية"([45]).
لأنه، كما يقر جوزيف ستيغليتس Joseph Stiglitz، النائب الأول للرئيس والباحث الاقتصادي الأول في البنك الدولي، "ألقت الأزمة، في آسيا ولكن بصورة خاصة في روسيا، الأضواء على الأهمية التي تتمتع بها، بالنسبة للتنمية، مسائل مثل المؤسسات المالية، والفساد، وقانون الإفلاسات. وقد أعلن "إجماع واشنطن" [اقتصاديو البنك الدولي وصندوق النقد الدولي]، أن مفتاح النجاح يكمن في التوازنات الكبرى، وتحرير التجارة، والخصخصة. والواقع أن البلدان اتبعت هذا البرنامج غير أنها لم تعرف النجاح. وقرر الصينيون، من ناحيتهم، أن كل هذا ليس ضروريا. وبدلا من الخصخصة، ركزوا جهودهم على المشروعات الجديدة؛ وبدلا من أن يحرروا التجارة، استبسلوا في التركيز على التنافسية. وتبرز الصين باعتبارها البلد الذي يتمتع بأفضل النتائج الاقتصادية! فقد انخفض معدل الفقر هناك من 66% إلى 22%! ولا أحد يمكن أن ينكر هذه النتائج. ومن الناحية النظرية، كان ينبغي أن تؤدي الخصخصات إلى الحد من الفساد، غير أننا نشهد أنها استطاعت، على العكس، زيادة الفساد ... وقد تعلمنا أن الإصرار على التحويل بسرعة بالغة لبلد يمكن أن يدمر العقد الاجتماعي، ويقوض الثقة، ويثري النخبة، ويفقر الآخرين ... ويؤدي كل هذا إلى خسائر يحتاج تعويضها إلى وقت طويل جدا"([46]).
أجل، ينبغي أنسنة العولمة. وينبغي أيضا تعميمها. سيزعم الشكاكون والساخرون أن هذه أماني ورعة ويوتوبيات لا يضمنها شيء. والحقيقة أنه لا شيء يضمن حدوث هذا النسق من الغايات، إلا الرغبة، والحب، والإرادة، والشجاعة، التي هي موجودة داخل كل منا، والتي يمكن أن تمنح من جديد، إذا قررنا هذا فحسب، معنى للمغامرة البشرية. ولا يتوقف إلا علينا تكذيب النبوءات القاتمة التي تتنبأ بالعبودية الطوعية. ولا يتوقف إلا علينا إعادة بناء سلسلة من المشروعات الوسيطة والأنشطة، لردم الهوة القاحلة التي تفصل الواقعية عن اليوتوبيا. والحقيقة أن مسئولية السياسة أساسية هنا. وكثيرا جدا ما ننسى هذا اليوم: كما شدد ماكس ڤيبر Max Weber فإن مهمة السياسة تتمثل في تنظيم وإدارة الوقت، في منح أفق للإطار الزمني للعمل. ولنتأمل أيضا هذه العبارة العبقرية لڤيبر: "لن يتم تحقيق الممكن مطلقا إذا لم نحاول، في هذا العالم، بصورة دائمة وبلا انقطاع تحقيق المستحيل"([47]).
وكما سوف يلاحظ خبراء المستقبليات فإننا لم نقم في هذا المدخل بتقديم سيناريوهات، ولن نطرح سوى القليل جدا منها في سياق "عالم جديد": حقا إن هذه الممارسة ليست غريبة على العمل المستقبلي لمكتب التحليل والتقديرات الذي سبق إقناعه، في إطار بعض ممارسات التوقع التي اقترحها شركاء اليونسكو، بأن يقترح، بكل الاحتياطات المعتادة، عددا من السيناريوهات. وعلى كل حال فإننا لم نأخذ بهذا المنهج في "عالم جديد". وكثيرا جدا ما يكون للسيناريوهات المستقبلية نزوع إلى التورط في عالم المستقبل. إنها مسألة فرضيات أكاديمية، أما الواقع التاريخي فإنه كان يتمثل دائما في مجموعة عملية من السيناريوهات، في "كوكتيل" من طبعات المستقبل. وبالمقابل، أوجزنا بعض صور المستقبل الممكنة، وأيضا بعض صور المستقبل المرغوبة. وما يهم هو أن نستبق، برؤيتنا وعملنا، المخاطر والفرص في عالم غير يقيني. ويتمثل هذا في اكتشاف ماذا سيكون تكوين كوكتيل الميول التي يمكن أن تطور إمكاناتها الكامنة في القرن الحادي والعشرين. فماذا ستكون هيراركية مبادئ المستقبل؟ وهل سيكون التعاون خاضعا للمنافسة؟ أم أنه، دون أن يلغيها، سيقوم بأنسنتها؟ وشبكات الجريمة المنظمة، هل ستقوم بالسيطرة على صالة الماكينات؟ أم سيتم احتواء تأثيرها ثم الحد منها بصورة تدريجية، بل القضاء عليها، بدون التعدي على الديمقراطية؟ وهل سيتم تضييق الفوضى إلى الحد الأدنى؟ أم أنها سوف تنتقل إلى كل مكان على ظهر الكوكب؟ والأبارتهيد الحضري والاجتماعي، هل سيتم وقفه ومكافحته بل حتى تدميره؟ أم أنه سوف ينشر منطقه الشامل إلى مجموع الإطار الاجتماعي؟ وبطبيعة الحال فإن التوقع يمكن علاوة على هذا أن يساعدنا في توضيح السياسات بشأن التدابير التي ينبغي اتخاذها من أجل تشجيع أولية الميول والمبادئ والقيم التي يبدو لنا أن من شأنها أن تقلل المخاطر والأخطار إلى حد أدنى، وأن تحقق أشكالا للمستقبل معترف بها على أنها مرغوبة.
وإنما عند هذه النقطة لا نستطيع أن نتفادى إعادة تأسيس للمجتمع الكوكبي؛ وإنما عند هذه النقطة تتدخل الفرضية الضرورية لعقد اجتماعي جديد، من أجل أنسنة الثورة الصناعية الثالثة والعولمة التي تصاحبها. ذلك أن البحث المستقبلي لا يمكن أن يكتفي بتحديد بعض الميول، وبتقديم بعض الفرضيات، وباكتشاف بعض مصاعب المستقبل في الحاضر، وبتقديم بعض السيناريوهات. والاستباق هو فن المأمول والمرغوب. إنه فن تحويل الخيال إلى تاريخ، عن طريق تحديد مقياس ملموس ـ لمشروعات وعمل. وهو يتحرر بهذا المعنى من شرك اليوتوبيا وكذلك من شرك السخرية الكلبية. إنه رؤية وذاكرة المستقبل.
إن بُعْد النظر واجب وقصر النظر جريمة. وفي الوقت الحالي تظل عولمة أجهزة الكمبيوتر، والأسواق، والاتصالات السلكية واللاسلكية، والفيروسات، قاربا سكران. وسوف يكون لا غنى عن ديمقراطية دولية أوسع، حتى من وجهة نظر اقتصادية خالصة، إذا أردنا أن نتفادى الهلاك، وأن نواجه التحديات الأربعة التي تناولناها، لكي نعيد منح اتجاه للعولمة وأفق لمشروع ومعنى المغامرة البشرية، ولكي نحل في الوقت الملائم المشكلات الملموسة للبشرية، بدلا من السوق الحرة وانتظار الأزمات من أجل محاولة التكيف، بلا نجاح، معها.
وسوف تشكل أربعة عقود أعمدة هذه الديمقراطية الدولية الجديدة، التي يطرح "عالم جديد" على نفسه استكشاف بعض منطلقاتها الملموسة، دون تظاهر بالاستنفاد. وسوف تعود اليونسكو، أو يعود غيرنا، إلى بعض المشكلات الرئيسية التي لم نستطع تناولها، أو التي لم نقم بمعالجتها إلا بسطحية: مستقبل العمل في ضوء الثورة الصناعية الثالثة، أو مستقبل المحيطات، أو التهديد المتعدد الأشكال للتلوث وبصورة خاصة التلوث غير المنظور والكيميائي، أو المشكلات البيولوجية الأخلاقية في مواجهة فتوحات العلم والصناعة، أو النهوج المستقبلية الخاصة بالتنمية. وكل هذه الموضوعات هي الآن أو ستكون في قلب التفكير المستقبلي لليونسكو. وإذا عبرنا عن معنى عند شكسبير Shakespeare بكلمات أخرى فإنه توجد في هذا العالم أشياء أكثر من أن يحتويها [كتاب] "عالم جديد".
والحقيقة أن القرن الحادي والعشرين، إذا أراد أن يوطد تحالفا جديدا بين الأمم، وبين الشعوب، وبين المواطنين، من أجل منع العنف والحرب، فإنه يجب، في نظرنا، أن يستند إلى أربعة عقود: عقد اجتماعي، وعقد طبيعي، وعقد ثقافي، وعقد أخلاقي. وكأساس للعقود الأربعة التي نطرحها لدخول القرن الحادي والعشرين، دون أن نعود القهقرى، بل بأعين مفتوحة وقدم ثابتة، حاولنا أن نطرح الأسس الأولى لعقد اجتماعي جديد من أجل القرن الحادي والعشرين. وعندما نأخذ في اعتبارنا التوقعات الديموغرافية والزيادة المستمرة في عدم المساواة، فإن الأولوية الأولى تتمثل في إعادة بناء التضامن عن طريق القضاء على الفقر والحد من الفوارق المخزية التي تؤدي إلى اليأس والحرمان. فما هي سياسات الأجل الطويل التي يجب تحديد معالمها الأولى دون إبطاء، إذا أردنا القضاء على الفقر، بما يتفق مع التعهد الذي جرى قطعه في قمة كوپنهاغن بشأن التنمية الاجتماعية؟ وكيف يمكن النضال ضد الأبارتهيد الحضري، وكيف يمكن تغيير المدينة وبالتالي تغيير الحياة؟ وكيف يمكن السيطرة على الثورة الصناعية الثالثة وإضفاء الطابع الإنساني عليها قبل أن يفوت الأوان؟ وكيف يمكن إعادة توزيع عائدات العولمة، من أجل التخلص من مجتمع "الخُمْس"، الذي يطرح للنقاش أسس الديمقراطية ذاتها؟ وكيف يمكن النضال ضد لا أخلاقية المخدرات والجريمة المنظمة اللتين تهددان مستقبل البشرية، لأن الشباب هو الذي يدفع الضريبة الأشد فداحة لهاتين الآفتين؟ وكيف يمكن إرساء أسس عقد اجتماعي جديد يقوم، ليس على إقصاء جزء متزايد من البشرية، بل على احترام أكبر لكرامة كل فرد ولطموحاته المشروعة؟ وكيف يمكن إعطاء النساء كل المكانة التي يملكن الحق في الحصول عليها، وإرساء التساوي والتكافؤ الفعليين في كل مجالات النشاط البشري؟ وبهذا الخصوص، يوجز "عالم جديد" بعض منطلقات التفكير والعمل، حتى تتم ترجمة هذا العقد الاجتماعي الجديد إلى التزامات فعلية، فيما وراء التعابير الطنانة القومية والدولية واختلافات وجهات النظر حول السياسة والاقتصاد.
والعقد الكبير الثاني الذي نقترح مجملا له في "عالم جديد" هو العقد الطبيعي، الذي يجب أن يقوم على تحالف العلم والتنمية والمحافظة على البيئة. فكيف يمكن أن توضع موضع التنفيذ بصورة ملموسة الالتزامات التي تم تبنيها في ريو في قمة الأرض وفي كيوتو، بمناسبة القمة الخاصة بالحد من انبعاثات غازات الدفيئة؟ وكيف يمكن التوفيق بين المحافظة على المحيط الحيوي وتنمية المحيط الاجتماعي؟ وكيف يمكن المضي فيما وراء العقد الاجتماعي، المتفاوض عليه بين المعاصرين، من أجل التوصل إلى عقد طبيعي للتنمية المستديمة والتنمية المشتركة مع الأرض، التي تقوم على مفهوم أخلاق المستقبل وتوريثها للأجيال التي سوف تولد في المستقبل؟ وكيف يمكن السيطرة على السيطرة، وتحرير العلم من عقدته البروميثية المتمثلة في السيادة على الطبيعة، وكيف يمكن تعبئة متخذي القرار والرأي العام من أجل إيجاد الحلول عن طريق التعاون والتفاوض للمشكلات التي تستدعي استجابات منسقة على المستوى الكوكبي والإقليمي؟ وكيف يمكن حل مشكلات التصحر وتحات التربة؟ وكيف يمكن تفادي أن يصير القرن الحادي والعشرون قرن حروب المياه، كما كان القرن العشرون في أغلب الأحيان قرن حروب البترول؟ وما العمل من أجل أن يوجد ما يكفي لإطعام الجميع ومن أجل أن يكون هذا الغذاء صحيا وذا نوعية جيدة، وكيف يمكن تحقيق الأمن الغذائي من زاوية كمية مثلما هي صحية؟ وكيف يمكن السيطرة على ثورة البيوتكنولوجيات الزراعية؟ وكيف يمكن السيطرة على الطاقة وتنويعها، والسير قدما نحو تلك الثورة الخاصة بالفعالية الإيكولوجية والتنموية التي قام بتنظيرها نادي روما في تقرير العامل الرابع Factor Four؟ وكيف يمكن وضع التعليم والبحث في خدمة التنمية المستديمة؟ وما هي البنية الأساسية التي سيكون علينا أن نشيدها حتى تكون المدن ليس فقط قابلة للسكنى والعيش، بل لكي تكون مستديمة؟ وما العمل لكي تكون الأرض من جديد "زرقاء مثل برتقالة"، وفقا للكلمة النبوئية للشاعر پول إيلوار Paul Éluard؟ إننا نملك بيتا ووطنا مشتركين: الكوكب. ومن الآن فصاعدا يمثل تعلم المحافظة عليه وصداقته مع إدارة موارده بطريقة صحية وذكية ضرورة مطلقة. وهناك أيضا، يقدم "عالم جديد" بعض المنطلقات الملموسة للتفكير والعمل لكي يؤدي "العقد الطبيعي" إلى التزامات فعلية، تفاوضية، ومحددة بالأرقام، ومدرجة في جدول زمني، فيما وراء المجادلات والاختلافات الدولية بشأن هذه المسائل.
والعقد الثالث: العقد الثقافي. ويرتبط هذا العقد بصورة لا تنفصم بالعقدين السابقين، وسيكون التعليم للجميع مدى الحياة أحد محاوره الأساسية. وهذا عمل ضخم، سيكون من الواجب أن يمثل المشروع الكبير للقرن الحادي والعشرين، ولن يكون من الممكن على الأرجح بلوغ أفقه النهائي إلا مع اقتراب عام 2100. وسوف يتعين أن يمثل هذا الهدف أولوية الأولويات بالنسبة للحكومات، ولكن أيضا للمجتمع ككل، وللقطاع الخاص، ولفاعلي "الاقتصاد الرابع" الذي بسبيله إلى التنظيم، ولكل مواطن لن ينتهي أبدا، مثل سقراط Socrates، من تعلمه وتعلم تعلمه. غير أن هذا الأفق يظل بالضرورة بعيدا، حتى إذا كان تصوره المسبق ماثلا الآن في قلب المجتمعات الصناعية، كما أن تعميمه سيكون مليئا بالعقبات والفخاخ. وعلاوة على هذا فإن الأمر لا يتعلق أبدا بحل سحري. والواقع أنه لن يكفي، لتحقيقه، تحرير الموارد التقنية والبشرية والمالية التي لا غنى عنها. كما سوف ينبغي جعل التعليم للجميع مدى الحياة رهانا ديمقراطيا حقيقيا، وبالتالي تدمير الأبارتهيد المدرسي والجامعي الواسع الانتشار وإعادة هيكلة التعليم كمشروع للمواطنة للتدريب المدني والمساواة الفعلية للفرص للجميع. وفي غياب إرادة سياسية حازمة ومشروع تعليمي حقيقي طويل الأجل، فإننا يمكن أن نشهد حقا تجزئة التعليم للجميع مدى الحياة وفقا لمنطق تجزيئي تصل به أقلية من المختارين إلى "فراديس المعرفة"، ويحكم على ملعوني المعرفة الجدد بجحيم الغيتوات التعليمية الجديدة، وعلى كتلة كبيرة من المتوسطين بالمطهر العقيم.
وفي قلب العقد الثقافي، تشكل ثورة التكنولوجيات الجديدة تحديا أساسيا ولكن أيضا وسيلة نجاح حاسمة: فكيف يمكن الانتقال من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة؟ وكيف يمكن التغلب على الأمية وشبه الأمية؟ وكيف يمكن تعميم تعليم ثانوي مرتفع النوعية، يستفيد منه النساء والرجال على أساس من التكافؤ؟ وأمام التطور السريع للمعارف والتقنيات، ماذا ستكون المناهج الجديدة للتعليم التي سوف تشجع تحديث وتجديد المعارف؟ فماذا سيكون شكل مدرسة المستقبل، وماذا سيتم تعليمه في القرن الحادي والعشرين؟ وكيف يمكن إضفاء قيمة جديدة على التعليم الفني والمهني؟ وكيف يمكن إجراء إصلاح التعليم العالي بصورة كلية، حتى يكون الحصول عليه متاحا بصورة فعلية للجميع على أساس الجدارة، وحتى يتحول إلى أداة تعليم للجميع مدى الحياة؟
وكيف يمكن تحويل وعد الطرق السريعة للمعلومات والمعرفة إلى حقيقة فعلية متاحة للجميع؟ وكيف يمكن تشجيع تنمية البنية الأساسية لهذا المجتمع للمعرفة في الجنوب، الذي ما يزال فيه التليفون ترفا؟ وكيف يمكن تشجيع انطلاق نمو العلم وتطبيقات التكنولوجيا في مجتمعات هي ضحايا لهجرة العقول؟ وما هي الأخطار التي تشكلها التكنولوجيات الجديدة على مصير المجتمعات والثقافات؟ وكيف يمكن أن تسهم هذه التكنولوجيات ذاتها في تعزيز التعليم، والبحث العلمي، وتطبيقات المعرفة، والحوار بين الثقافات، والتداول الحر للمعلومات والمعارف؟ وماذا سيكون مستقبل الكتاب والقراءة؟ وماذا سيكون مستقبل تنوع اللغات ـ هذا التراث الذي يعيش في قلب كل فرد؟ وعلى مشارف 2020 هل سيحول التعليم عن بُعْد المؤسسات التعليمية إلى عوالم افتراضية؟ وهل سيكون بالمستطاع تأسيس التعليم بدون بُعْد [= بدون مسافة]، الذي سوف يدمج أولئك الذين تم إقصاؤهم والذي سيكون بمستطاعه أن يصل إلى "منبوذي" المعرفة؟
وهل ستكون لدينا الحكمة الكافية للتوصل إلى العقد الثقافي الذي يشجع التعددية والتآلف الثقافي، بدلا من تعزيز الامتثال الثقافي؟ وهل سنتجه نحو تهجين الثقافات أم نحو صدام الثقافات؟ وهل سيكون بمستطاعنا أن نعبر الفجوة الثقافية التي تفصل، في قلب المجتمعات ذاتها، بين المرفهين والمحرومين، واضعين، كما أوصى تقرير دولي، برنامج عمل يقوم بصورة خاصة على استعانة مكثفة بالتكنولوجيات الجديدة وعلى استخدام مراكز الاتصال والتبادل التي يجب أن تتمثل في المدارس، والمسارح، والمتاحف، والمراكز الثقافية، وشبكات عمل المواطنين، والمشروعات([48])؟ وهل سيكون بوسعنا تأسيس الثلاثية اللغوية المعممة منذ التعليم الابتدائي، في العمر الذي يكون من السهل فيه للغاية تعلم لغات وثقافة الآخر، من خلال تبادلات ضخمة لمدرسين يتم التفاوض عليها على المستوى الإقليمي أو الدولي؟ وهل سيكون بوسعنا، أخيرا، إدخال البعد الثقافي في التنمية؟ وتعزيز السياسات الثقافية التي ستكون قادرة، من خلال مضاعفة عرض البرامج الثقافية، على حفز الطلب على الثقافة عن طريق التعليم والتدريب الفني والجمالي؟ وهل سنكون قادرين على أن نربط بصورة أفضل بين المجالات الثلاثة للثقافة، الثقافة الكوكبية، والثقافة القومية أو المحلية، والثقافات المتعددة المجالات/التقنيات transversales التي هي الآن في أقصى حالات التوسع في عصر الشبكات؟ وكيف يمكن التوفيق بين الابتكارات، والتقاليد، والتنمية؟ وهل سنكون قادرين على أن نمنح روحا للتنمية، وأن نعيد إلى قلبها الكائن البشري الذي كثيرا جدا ما يكون اليوم عبدا لها؟
العقد الرابع: العقد الأخلاقي الذي سوف يجب في القرن الحادي والعشرين أن يعيد منح المعنى والأفق للمغامرة البشرية. ويجب أن يستند هذا العقد إلى ثلاثة جوانب. كيف يمكن، في المقام الأول، تعزيز انطلاق نمو ثقافة سلام وتنمية ذكية يمكن، بدلا من سحق الكائن البشري، أن يكون مرادفا لازدهار يقوم على المعرفة ووضع المعارف أو الكفاءات في الشبكات، هذه المعارف أو الكفاءات اللامادية بحكم التعريف؟ وكيف يمكن الانتقال من منطق لإعادة البناء يقوم على جراحة تتم بعد النزاع إلى منطق وقائي يقوم على أساس توقع النزاعات وعلى أساس التقدير المسبق للأزمات؟ وكيف يمكن تشجيع ظهور ثقافة سلام تقوم على الحط من قيمة العنف، وعلى التطبيق الفعلي لكل حقوق الإنسان، وعلى الدعم النشيط للتعددية والحوار بين كل مكونات المجتمع، وعلى التعليم الأخلاقي للسلام، والديمقراطية، واحترام الآخر؟ وكيف يمكن تشجيع تقدم تطبيق حقوق الإنسان، بالبدء بالإلغاء الكامل، في كل البلدان، لعقوبة الإعدام؟
وكيف ـ وهذا جانب ثان ـ يمكن تعزيز تعميق الديمقراطية، بإعادة إدخال الأمد الطويل في التنمية وفي الحيز العام للمدينة؟ وسوف ينبغي بالفعل تعميق الديمقراطية في الزمان، بأن نرسخ في قلب المؤسسات والمجتمع، جذور هذا التصور الاستباقي والمستقبلي([49]) للمواطنة citoyenneté كمشروع شددنا على ضرورته.
وسوف يجب أن توفق هذه الديمقراطية المستقبلية الطابع المعاصر بصورة جوهرية للعقد مع ضرورة التقسيم في الأجل الطويل والمسئولية إزاء الأجيال القادمة. وسوف ينبغي أيضا تعميق الديمقراطية في المكان، عن طريق إدخال أشكال ملائمة من الديمقراطية الدولية. وكما تم التشديد على هذا في "أحاديث القرن الحادي والعشرين"، فإن المسائل الأساسية للتنظيم والإدارة سوف تكون في قلب النقاش العالمي خلال العقود المقبلة. وأمام ضخامة التحديات التي سبق ذكرها والواقع الحديث للتدخلات العسكرية التي تم اتخاذ قراراتها بدون موافقة مجلس الأمن وخارج منظومة الأمم المتحدة، هل يمكن، أم لا، أن نفترض أننا نحث الخطى نحو ديمقراطية كوكبية؟ وفي مواجهة انتشار اقتصاد سوق عالمي، هل ينبغي أن نبتكر ذات يوم، كما اقترح جاك أتالي Jacques Attali([50])، "ديمقراطية، كالسوق، لا تكون مقيدة بمنطقة، ديمقراطية بلا حدود في المكان والزمان"؟ وهل يمكن أن نبتكر أنماطا للاندماج الدولي مماثلة لنمط النموذج الأوروبي أم أن هذا وهم؟ وفي مواجهة المشكلات التي صارت من الآن فصاعدا عبر قومية، بدون جنسية، بدون جواز سفر، هل يمكن أن نستغني عن مثل هذه النماذج؟ إننا مقتنعون، كما كان حال الدول القومية في فترة التكوين، بأن مشكلات الإدارة، والتحكيم، والتنظيم، والقدرة على تطبيق القانون على المستوى العالمي، ستكون في صدارة جدول أعمال القرن الحادي والعشرين. وسوف تعبئ هذه المسائل الاهتمام المتزايد للدول، بل أيضا المجتمع المدني الدولي وشبكات المواطنة الكوكبية التي هي اليوم في حالة توسع كامل. وهي ستجعل من غير الممكن مطلقا الاستغناء عن تفكير وعمل المنظمات الدولية بعد تحويلها بعمق: هذا هو السبب في أننا، بعد فصل مخصص لمشكلات الأمن الكوكبي وعائدات السلام، نوجز في "عالم جديد" بعض منطلقات التفكير والعمل بشأن الإصلاح الذي لا غنى عنه لمنظومة الأمم المتحدة.
كما سوف تتم ممارسة تعميق الديمقراطية على المستوى العالمي في مجال الثقافة، عن طريق انتشار ثقافة جديدة للديمقراطية ستقوم بتسوية النزاعات بتجاوز المعضلات المنطقية التي ينطوي عليها الاندماج وتفسخ الهوية؛ وفي سبيل ثقافة مشاركة association جديدة، تتيح تجاوز التناقضات التي تضع الدولة والسوق في مقابلة من خلال إعادة اكتشاف أساس الديمقراطية ذاته: المشاركة، هذا المفهوم التأسيسي عند روسو Rousseau كما عند توكڤيل([51]).
على أن هذا العقد الجديد للأخلاق لا يمكن إبرامه بدون التضامن والتقاسم، وبالتالي بدون إعادة التوزيع لمكاسب العولمة، التي يجب أن يستفيد منها الجميع وليس خُمْس السكان. ومن جهة أخرى، كان إنجاح العولمة لصالح الجميع الهدف الذي حددته لنفسها مجموعة الثمانية في أحد قممها الأخيرة([52]). ويجب إنجاز هذا الوعد في الواقع الفعلي للتاريخ.
وكما شدد إيثان كاپشتين في "محاورات القرن الحادي والعشرين"، فإن إعادة التوزيع "يجب إجراؤها داخل كل مجتمع، أول كل مجموعة من المجتمعات، وعلى النطاق العالمي ... مما يفترض ’تنظيما عالميا للنظام الضريبي‘، من المحتمل بدونه أن يكنس منطق السوق كل مشروع لإعادة التوزيع على النطاق القومي. ولابد من أن يشمل مثل هذا التنظيم على الأقل مستويات دنيا للتكليف الضريبي والضرائب في الأجل القصير على التدفقات الرأسمالية مماثلة لتلك التي طبقتها تشيلي. ويمكن أن يتلقى تماسك السياسات الاقتصادية والاجتماعية العون من جانب منظمات دولية متعددة الأطراف بصورة حقيقية ومعتمدة من جانب جميع الفاعلين"([53]).
كما ستكون إعادة توزيع مكاسب العولمة ضرورة لا غنى عنها إذا أردنا أن نساعد أفريقيا في القيام ببداية جديدة: هذا هو السبب في أننا تناولنا، في الجزء الرابع من هذا العمل، هذه المسألة الحاسمة بالنسبة للعقود القادمة: هل ستحدث المعجزة الأفريقية؟ ولا يمكن أن يتم تعميق الديمقراطية بصورة دائمة، ما لم نُرجع إلى المواطنين حب الرفاهية العامة والرغبة في ممارسة حقوقهم السياسية، مع إرجاع إحساس بالمشاركة participation. وعلى هذا فإن "كوجيتو" cogito ergo sum ["أنا أفكر، إذن أنا موجود"] مواطن القرن الحادي والعشرين يجب أن يُصاغ على هذا النحو: "أنا أشارك، إذن أنا موجود"([54]). لأننى إن لم أشارك، فإننى محسوب في التعدادات والاستطلاعات، مشطوب في الانتخابات، ولكن هل أنا محسوب حقا؟ وأنْ يكون المرء محسوبا في القرن الحادي والعشرين، سوف يعني أن يشارك. ويجب أن يدرك كل فرد الهوة الواسعة التي تفصل اليوم الديمقراطية عن هذا المثل الأعلى، نتيجة للتخلي أو عدم الاكتراث الذي يمكن أن نلاحظه في عدد كبير من البلدان، والذي تتم ترجمته إلى تغيُّب عن الانتخابات وإلى نقص النشاط الديمقراطي داخل المجتمعات المدنية والحركات السياسية. وسوف ينبغي حقا الاختيار بين المشاركة المدنية كمواطنين وهيمنة ديمقراطية محترفة تشكل القرار فيها مجموعات الضغط وتتخذه قلة([55]).
ويرتبط الجانب الثالث لهذا العقد الجديد للسلام والإدارة على النطاق العالمي ارتباطا مباشرا بالجانب السابق، ويسهم في إنجاز "عالم جديد": إنه المجال الواسع لأخلاق المستقبل، هذا المجال الذي يتم استكشافه بمبادرة من المجلس الدولي للعلوم الاجتماعية ومكتب التحليل والتوقع. فما هي المرجعيات السياسية والأخلاقية التي سوف ينبغي علينا أن نرسخها في التخلص من طغيان طابع الإجراء الملحّ العاجل، الذي جعلنا نستثمر في مشروعات محكوم عليها بالفشل، وفي كثير من الأحيان بأفضل النوايا على الإطلاق؟ وكيف يمكن استعادة أفق الزمن الطويل وتحرير أنفسنا من هيمنة الأجل القصير؟ وكيف يمكن، في هذا المنظور، تعزيز قدرات التوقع والتفكير المستقبلي؟ وما هي السياسات التي ينبغي اعتمادها وتطبيقها حتى نجعل علما في حالة من التحول الكامل يكف عن الانفصال عن الضمير، الذي يتعرض هو ذاته للتطور السريع؟ وما العمل حتى يكون بالمستطاع في سياق العمل السياسي الراهن أن تكف قرارات اليوم عن تجاهل كل رؤية طويلة الأجل، باسم براغماتية عمياء وتكيف يتم رفعه إلى مستوى عقيدة، باسم موازنات ملائمة دائما تقريبا للحاضر وللأقوياء، باسم قِصَر نظر زمنى يستأثر لنفسه، دون إعلان، بحقوق الأجيال المقبلة؟ وكيف يمكن إدخال أخلاق المستقبل du futur، وهي ليست الأخلاق في المستقبل au futur، مؤجلة إلى أجل غير مسمى، بل هي أخلاق الحاضر من أجل المستقبل pour le futur، في تعليم أطفالنا منذ بدء السنة الدراسية، المدرسية والجامعية، المقبلة؟ وقد حاولنا الإجابة على هذه الأسئلة في خاتمة هذا العمل.
وفي فجر القرن الحادي والعشرين، نقترح سبعة مبادئ للحكمة على تلاميذ وطلاب المستقبل:
ثق بالناس Trust the people، ما لم يكن لديك الدليل على أن ثقتك قوبلت بالخيانة: ليس هناك مستقبل قابل للاستمرار يمكن بناؤه على عدم الثقة.
حافظ على الكوكب Care for the Planet، ليس لأنه ملكك، بل لأنه عُهد إليك به على سبيل حق الانتفاع، ولأن عليك، كما استلمته، أن تنقله إلى أطفالك، وأطفال أطفالك.
الذكي جميل Smart is beautiful، لأن مستقبل الجنس البشري هو العالم اللامادي للروح؛ سوف تقوم التنمية في القرن الحادي والعشرين على المادة الرمادية [= النسيج الرمادي للمخ والحبل الشوكي] la matière grise، وعلى انطلاق نمو الذكاء، وعلى ازدهار الروح والحكمة.
قم بالإعداد للسلام إذا كنت تريده، لأنك إذا أعددت للحرب ستحصل على الحرب.
أعطِ للغير إذا أردت أن تتلقى، لأنه، وفقا للمثل الأفريقي، الحب هو الشيء الوحيد الذي يزداد باقتسامه.
في عالم عالمي، في سوق عالمية، لابد من ديمقراطية عالمية: لن تكون هناك "قرية عالمية" ما دامت لا توجد مواطَنة une citoyenneté للوطن الأرض، تتضامن مع وتحترم المواطَنات citoyennetés القومية والثقافات المحلية.
مستقبلنا ليس مكتوبا في أي مكان: إنه بين أيدينا جميعا.
وسوف يسأل بعضهم: هل قمتم بتقدير نفقات هذه العقود التي تقترحونها للقرن الحادي والعشرين؟ ونحن نقدم في سياق هذا العمل مؤشرات ملموسة بشأن عدد من التدابير ذات الأولوية. فهل ستكون الفاتورة مرتفعة جدا؟ فلنتذكر أن النفقات العسكرية العالمية تمثل 700 إلى 800 مليار دولار في السنة، وأن بمستطاعنا تحقيق مدخرات كبيرة من خلال خفض النفقات غير المنتجة، وتحسين إنتاجية الخدمات العامة، وترشيد الإدارة، وإلغاء عدد من الإعانات الباهظة وغير الفعالة، والنضال بصورة فعلية ضد الفساد. ولنتذكر أن برنامج الأمم المتحدة للتنمية يقدر بـ 40 مليار دولار فقط في السنة تكلفة تحقيق واستمرار تعميم للتعليم الأساسي، وغذاء كاف، ومياه صالحة للشرب، وبنية أساسية صحية أولية، بالإضافة إلى تقديم خدمات الرعاية الصحية والتوليد للنساء. ويمثل هذا المبلغ اقل من 4% من المجموع الكلي لأضخم مائتين وخمس وعشرين ثروة في العالم. فهل هذا أغلى من أن ندفعه ثمنا للسلام؟ هل هذا أغلى من أن ندفعه ثمنا للتنمية؟ هل هذا أغلى من أن ندفعه ثمنا للديمقراطية؟
وكما يقول غابرييل غارثيا ماركيث Gabriel Garcia Márquez "لا تتوقعوا شيئا من القرن الحادي والعشرين. إن القرن الحادي و العشرين هو الذي يتوقع منكم كل شيء"([56]).


 
 
 
 
 
 
القسم الأول
 
نحو عقد اجتماعي جديد


 
1
السكان:
قنبلـة زمنيـة؟([57])
 
يعتبر السكان، كالحرب، وفقا للإستراتيجي الصيني سون تسو Sun Tzue([58])، "عالم الحياة والموت، الطريق الذي يؤدي إلى البقاء أو إلى الدمار". فهل يحق لنا إذن أن نخشى أن تهدد قنبلة ديموغرافية، مستقبل النوع البشرى والمحيط (الغلاف) الحيوي؟ ولا شك في أن زيادة السكان خلال النصف الثاني من القرن العشرين أفضت إلى أحد الانقلابات الكبرى في التاريخ البشرى. وقد استغرق الأمر 40000 سنة منذ إنسان كرومانيون للوصول في 1950 إلى رقم 2.5 مليار نسمة، فيما كانت فترة سبع وثلاثين سنة كافية لمضاعفة هذا الرقم([59]). ووفقا للتقديرات، كان من المتوقع أن يصل عدد سكان العالم إلى 6 مليارات نسمة في 12 تشرين الأول/أكتوبر 1999([60]). ويخشى العديد من الخبراء أن تفضي هذه الزيادة الديموغرافية، التي تتركز بجانبها الأكبر في البلدان النامية وبصورة خاصة في أكثرها فقرا، إلى "انفجار" للفقر وأن تُعجل بهجرات من الجنوب إلى الشمال. ولحسن الحظ فقد تحسنت التوقعات قليلا خلال السنوات الأخيرة، بفضل التقدم في التعليم على وجه الخصوص.
 
قنبلة زمنية
أم انتقال ديموغرافي؟
 
والواقع ـ وفقا لصندوق الأمم المتحدة للسكان ـ أن زيادة سكان العالم "تباطأت، وتستمر الآن في التباطؤ، ويمكن أن تستمر أيضا في التباطؤ خلال العقود القادمة"([61]). وفي الوقت الحالي، يتزايد سكان العالم بحوالي 80 مليون شخص في السنة: أيْ ما يساوي تقريبا ألمانيا جديدة كل سنة، أو أمريكا جنوبية جديدة كل أربع سنوات([62]). وهذا الرقم أقل قليلا بالمقارنة بذروة 92 مليون شخص التي وصلت إليها الزيادة السنوية في 1992. والحقيقة أن هذا الانخفاض في زيادة السكان من حيث الأرقام المطلقة يرجع إلى حد كبير إلى التقدم الكبير في تعليم البنات، الذي ارتفع من 59% إلى 76% بين 1960 و1995، وإلى تنظيم الأسرة.
ووفقا للتقديرات "المتوسطة" للأمم المتحدة، من المتوقع أن يرتفع عدد سكان العالم من 6.1 مليارات نسمة في سنة 2000، ليصل إلى 8 مليارات نسمة في 2025، و9.4 مليارات نسمة في 2050، وليستقر عند أقل قليلا من 11 مليار نسمة حوالي سنة 2100([63]). وهذه الأرقام مبنية على أساس سيناريو لاستقرار الخصوبة عند معدل للخصوبة يصل إلى حوالي طفلين للمرأة. وفي الوقت الحالي، يصل متوسط هذا المعدل إلى 2.96 طفل للمرأة. وهناك تقديرات أخرى بديلة تنتهي إلى 7.7 مليارات نسمة (البديل "المنخفض") وإلى 11.1 مليار نسمة (البديل "المرتفع") في 2050، وتقدم لسنة 2150 رقميْ 3.6 مليارات نسمة (البديل "المنخفض") و 27 مليار نسمة (البديل "المرتفع")([64]). وترجع هذه الاختلافات الكبيرة بين التقديرات البديلة بصورة أساسية إلى التوقعات المتباينة التي تستند إلى سرعة انخفاض الخصوبة؛ لأنه، في حالة عدم تغير الخصوبة، سينتهي الأمر إلى عدد لسكان العالم يصل إلى 14.9 مليار نسمة من الكائنات البشرية في 2050 وإلى 296 مليار فرد في 2150 ـ ومن الجلي أن هذا تقدير نظري تماما!
وتتناسب سرعة انخفاض الخصوبة تناسبا طرديا مع التعليم، ومع مستوى التدريب، للبنات بصورة خاصة، ومع التنمية. وهذا هو السبب في أن الزيادة الديموغرافية التي تتراوح بين 90 و100 مليون فرد في السنة والتي كانت في أذهاننا في 1991 في المؤتمر العالمي للتعليم للجميع (جومتيين، تايلندا) لم يتم الوصول إليها: من هذه الزاوية، تُعَدّ الاتجاهات الراهنة أفضل خبر لنهاية هذا القرن.
والحقيقة أن الديموغرافيين فاجأهم الواقع في كثير من الأحيان خلال العقود الأخيرة. وما يزال بعض الخبراء المعروفين يرون أن "البديل المتوسط" للأمم المتحدة مُبالغ فيه، ويعتقدون أن زيادة السكان سرعان ما سوف تتباطأ وبحدة أكثر. ووفقا لـ هيرڤيه لو برا Hervé Le Bras، على سبيل المثال، ينبغي "أن نستعد لتغير جذري جديد" بعد ذلك الذي حدث بالفعل([65]). ووفقا لـ جاك ڤالان Jacques Vallin، "ليس من المستحيل أن يتضح أن الفرضية المنخفضة هي الصحيحة"([66]).
وكما يشدد صندوق الأمم المتحدة للسكان، وصلت زيادة سكان العالم إلى أقصى معدل لها (2% وحتى 2.5% في المناطق الأقل نموا) خلال السنوات 1965-1970، نتيجة للتفاوت بين معدل للمواليد ظل مرتفعا (بل حتى ازداد ارتفاعا نتيجة لاختفاء بعض الأسباب المرضية لعدم الخصوبة) ومعدل للوفيات انخفض بفضل التقنيات التي سمحت بمكافحة الأوبئة الكبرى والأمراض المعدية، وبالتأثير الفعّال في البيئة.
ومنذ بداية تسعينيات القرن العشرين، تراجعت الزيادة الديموغرافية، لمجموع الكوكب، إلى 1.48% في السنة (1990-1995)، وهذا هو أدنى معدل مسجل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية([67]). وبالنسبة للبلدان النامية([68])، تصل هذه الزيادة في الوقت الحالي إلى 1.77% ويمكن أن تهبط أيضا إلى حوالي 1.1% نحو 2020-2025، وإلى 0.58% نحو 2040-2050. وفى آسيا وفى أمريكا اللاتينية، تبدأ الزيادة السنوية للسكان في الانخفاض حتى بالأرقام المطلقة. ومع ذلك فإن غالبية البلدان النامية سترى سكانها يتزايدون نتيجة "الانفجار الديموغرافي" للعقود السابقة: من الـ 2.8 مليار نسمة من السكان الإضافيين الذين كان على الكرة الأرضية أن تستقبلهم بين 1950 و1990، ينتمي 2.4 مليار نسمة إلى البلدان النامية، وأفضى هذا الانفجار الديموغرافي إلى انقلاب الهياكل العمرية فيها رأسا على عقب. وبهذا وصلت "موجة عملاقة" إلى عمر الخصوبة في ثمانينيات القرن العشرين. ومن الجلي أن هذا الجمود الديموغرافي سيكون له تأثير بالغ، على الأقل خلال العقود الأولى للقرن الحادي والعشرين.
وحسب البلدان، ارتفع العمر المتوقع عند الولادة إلى الضعف أو إلى ثلاثة أضعاف. وفى سرى لانكا، مثلا، حققت حملة مكافحة الملاريا في سنتين (1946-1948) زيادة بلغت اثنتي عشرة سنة من العمر المتوقع. وبلغت الزيادات المتحققة منذ خمسينيات القرن العشرين 23 سنة في آسيا، و20 سنة في شمال أفريقيا، و17 سنة في أمريكا اللاتينية، و15 سنة في أفريقيا جنوب الصحراء. وفى كثير من البلدان، نجد أعمار ثلث السكان، بل حتى نصف السكان في حالة أفريقيا، أقل من العشرين في الوقت الحالي. ولم يصل جيل من الشباب مطلقا من قبل إلى مثل هذا العدد الضخم: 31.4 من سكان العالم تتراوح أعمارهم بين صفر و14 سنة، و18% من سكان العالم تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة([69]). ولم يسبق لهذا التحدي نظير. وكما يقول أحد الديموغرافيين، فإن "القرن العشرين كان سيغدو بالنسبة للإنسان قرن التدرب على السيطرة على مصيره". وبعد أن تم تأجيل الموت صارت المهمة تتمثل في "السيطرة على الحياة عن طريق اختيار العدد المرغوب فيه من الأطفال"([70]).
وقد انتشر هذا الاتجاه إلى الانخفاض في الخصوبة في كل أنحاء الكرة الأرضية تقريبا منذ منتصف ستينيات القرن العشرين. وهو يرتبط بتقدم التعليم، وبواقع أن عددا متزايدا من البلدان في العالم، تطبق سياسات تنظيم الأسرة. وتحظى هذه الجهود بالدعم والإرشاد من شبكة كاملة من المساعدة الدولية، المالية والتقنية (1.3 مليار دولار في السنة في أوائل تسعينيات القرن العشرين)، التي تقدمها منظمات الأمم المتحدة مثل صندوق الأمم المتحدة للسكان، وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، ومنظمات غير حكومية كبرى. والواقع أن البلدان التي ظلت بمنأى عن اتجاه الانخفاض في الخصوبة صارت تشكل الاستثناء: لا يمثل سكانها أكثر من 8% من سكان العالم في 1995، بعد أن كانوا يمثلون 71% في 1995. وبين سنتيْ 1960 و1990، ارتفعت نسبة الأسر التي تستفيد من منع الحمل، في البلدان النامية، من 9% إلى 51%. ويتسع انتشار "الانتقال الديموغرافي " (الانتقال من معدلين مرتفعين للوفيات والمواليد إلى معدلين منخفضين للوفيات والخصوبة). غير أن هذه العوامل سيكون تأثيرها بطريقة غير متساوية باختلاف البلدان، حتى حيثما كان سياق البداية متشابها؛ ولهذا فإن التطور الديموغرافي للعالم يمكن حقا أن يغدو متباينا بصورة متزايدة، بل حتى متشظيا ومتناقضا. وكما يشدد أحد الديموغرافيين فإنه "لا شئ يدل على أن عدم المساواة إزاء الموت على مستوى القارات والدول في طريقه إلى التراجع؛ ومن جهة أخرى فإنه ليس هناك أدنى مبرر للاعتقاد بأن هبوط الخصوبة، حالما يبدأ، يمكن أن يتوقف عند مستوى الإحلال"؛ وبالتالي فإننا "لا يمكن أن نفكر وكأن الاتجاهات الملحوظة في نهاية هذا القرن سوف تتواصل بصورة آلية، وكأن التطور الديموغرافي يمكن أن يبقى مستقلا عن البيئة البشرية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، الماثلة عشية الألفية الثالثة"([71]).
ومن هذا المنظور يمكننا حقا أن نشهد، على المدى الطويل جدا، ليس تفاقم الانفجار السكاني الذي رأى فيه عدد من الخبراء خلال فترة طويلة من الزمن بدايات كارثة نهاية للعالم تتجمع نُذُرها، بل نقيضه: في غضون عقود قليلة من الآن، يمكن أن "ينكمش" سكان العالم ببطء، هذه الظاهرة التي بدأت بالفعل في عدد من البلدان المصابة بنقص السكان.
وإذا كان معدل الزيادة السكانية قد تباطأ في عدد من البلدان، فإنه يبقى، بنسبة 2.9% في السنة، مرتفعا جدا في أفريقيا، حيث يمكننا أن نحصى 5.7 أطفال في المتوسط للمرأة، مقابل 3.3 أطفال بالنسبة لمجموع المناطق النامية (و2.96 طفل على المستوى العالمي)([72]). وفى 2050، يمكن أن تؤوى أفريقيا 22% من سكان العالم، أيْ حوالي 2 مليار فرد؛ ومنذ 2025 فإنها سوف تضم 18% من سكان الكرة الأرضية (1.5 مليار فرد) إذا لم تكذّب الوقائع التقديرات الديموغرافية، مرة أخرى، مما يعنى أن سكانها سيزيدون إلى أكثر من الضعف في غضون خمس وثلاثين سنة([73]). كما يمكن أن يرتفع العمر المتوقع عند الولادة في أفريقيا إلى حوالي 71.9 سنة في 2050، وهو مستوى يظل دون المستوى الذي حققته البلدان الصناعية في 1995 (74.2 سنة).
الإيدز ومستقبل سكان العالم:
ضرورة استجابة على نطاق عالمي
وباء الإيدز أكثر خطورة مما ظل يُعتقد إلى الآن: وكما كشف تقرير صادر في تشرين الثاني/نوفمبر 1997 عن البرنامج المشترك للأمم المتحدة الخاص بفيروس نقص المناعة البشرية (فيروس الإيدز)/متلازمة نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) ومنظمة الصحة العالمية فإن حالات العدوى الجديدة صارت ضعف المعدل المعتاد في حين أن عدد الضحايا صار أكثر بنسبة 50% عما كان مقدرا من قبل: يموت 2.3 مليون شخص بسبب الإيدز كل سنة، وتحدث 16000 حالة عدوى جديدة كل يوم. وكان ثلاثون مليون شخص مصابين بفيروس الإيدز في 1997؛ وسوف يرتفع هذا الرقم إلى 40 مليونا في سنة 2000؛ وفى بعض البلدان، أصاب الإيدز أكثر من ربع السكان البالغين. ويُصاب بالعدوى ألف وستمائة طفل كل يوم، ومات 350 ألف منهم في 1996، ويموت 1200 منهم كل يوم. وتصيب مضاعفات الإيدز بصورة خاصة البلدان النامية، التي تضم الآن 90% من حالات حاملي الفيروس، بصورة رئيسية في أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا. والواقع أن 92% من المبالغ التي يتم إنفاقها على الوقاية والعلاج من الإيدز (أكثر من 14 مليار دولار) يتم الآن إنفاقها في البلدان الصناعية.
ووفقا لدائرة السكان بالأمم المتحدة فإن التفشي الواسع الحالي لفيروس نقص المناعة البشرية في أفريقيا جنوب الصحراء صار يعبر عن نفسه من الآن فصاعدا في ركود معدل توقع الحياة عند الولادة، بل حتى في انخفاض هذا المعدل في البلدان الأكثر إصابة بالفيروس. وبعد أفريقيا، التي يعيش فيها 14 مليونا من حاملي الفيروس، تأتى آسيا المصابة بهذا الفيروس بصورة بالغة الخطورة: حوالي نصف الأشخاص المصابين حاليا بعدوى فيروس نقص المناعة البشرية آسيويون، وإلى جانب هذه المأساة الإنسانية الهائلة، ستكون النتائج السلبية على التنمية كبيرة: قَدّرت دراسة أجراها برنامج الأمم المتحدة للتنمية مؤخرا تكلفة الإيدز على اقتصادات آسيا، في سنة 2000، برقم شامل يتراوح بين 38 و52 مليار دولار.
ولأن وباء الإيدز وباء عام عالمي فإنه يحتاج إلى استجابة عالمية: لن تستطيع بلدان العالم أن تواجه بصورة منفردة مبعثرة فيروسا خاضعا لتحولات سريعة وقادرا على تطوير مقاومة لطرق العلاج الجديدة. إن الإيدز سيتم التغلب عليه في كل البلدان معا، وإلا فلن يتم التغلب عليه أبدا. ويجب أن تجرى مكافحة الإيدز على أربع جبهات:
أ) تعميم حملات المعلومات، والتعليم، والوقاية. والحقيقة أن التكلفة المانعة للعلاج في كثير من الأحيان توضح بجلاء الضرورة المطلقة لمضاعفة جهود التعليم والمعلومات للسكان المعرضين للخطر، خاصة النساء، اللائى ينبغي تحسين أوضاعهن إذا كان لنا أن نأمل في التغلب على هذه الآفة. والحقيقة أن واحدا فقط من كل عشرة يعرف حالته: ينبغي بالتالي مضاعفة حملات الوقاية والشرح بشأن هذا المرض وطرق انتقاله وتعزيز قدرات الأبحاث في البلدان النامية عن طريق التعاون العلمي الدولي. وبعبارة أخرى فإن أي انتصار على الإيدز لن يكون ممكنا بدون أن تقوم سياسات عامة بين القطاعات بربط الأبحاث والسياسات الصحية، وسياسات التعليم والاتصال، والسياسات الاجتماعية، والعمل الثقافي.
ب) حصول الجميع على العلاج. من المؤسف أن استخدام العلاج الثلاثي، الذي يقلل تطور المرض ألف مرة، باهظ التكلفة (من 5000 دولار إلى 10000 دولار في السنة).
وينبغي أن تتيح الأبحاث الوصول، في الأجل القصير إلى علاج أقل تكلفة ولكن بالفعالية نفسها تماما. وفى الوقت نفسه ينبغي الاستثمار في مجال تعميم الحصول على العلاج الثلاثي ـ ليس فقط بدافع التضامن، بل أيضا من أجل أمننا الجماعي ـ ورفض كل تمييز: كل البشر يستحقون نفس العلاج. وإلا فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سيظل مجرد حبر على ورق.
ج) تعميم الوقاية العلاجية. ينبغي تركيز الجهود على الوقاية من انتقال العدوى من الأم إلى الطفل باستخدام مضادات الريتروفيروسات antirétroviraux مثل عقار AZT (1500 دولار لكل ثلاثة أشهر من العلاج)، وعلى علاج الأمراض الانتهازية opportunistes مثل الدرن (15 دولار للمريض في السنة)، وعلى الفحص المنتظم لتبرعات الدم.
د) البحث عن مصل فعّال. كما شدد لوك مونتانييه Luc Montagnier، المكتشف المشارك لفيروس الإيدز، في أحاديث القرن الحادي والعشرين، "يكلف المصل أرخص كثيرا من الدواء. وقد تم توزيع المصل المضاد لشلل الأطفال في العالم بأسره بفضل المؤسسات الدولية على وجه الخصوص ... ولهذا، ينبغي أن يتم استخدام مصل ضد الإيدز في كل بلدان العالم. وتتمثل المشكلة فيما إذا كان سيغدو من الضروري تخصيص مئات الملايين من الدولارات للأبحاث. والواقع أن هذا ليس هو الحال في الوقت الراهن". وفى وقت يستثمر فيه العالم من 700 إلى 800 مليار دولار في التسليح فإن استثمار عدة أجزاء من ألف جزء من هذا المبلغ لتطوير مصل ضد الإيدز لا يمثل مجرد إمكانية، بل يمثل التزاما أخلاقيا.
وللنجاح على هذه الجبهات الأربع، ينبغي مواصلة وتعزيز النضال ضد الإيدز على المستوى الدولي، خاصة من خلال البرنامج المشترك للأمم المتحدة الخاص بفيروس نقص المناعة البشرية/متلازمة نقص المناعة المكتسبة، هذا البرنامج الذي تم تدشينه في كانون الثاني/يناير 1996 بالمشاركة مع منظمة الصحة العالمية, واليونسكو، واليونيسيف، وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، والبنك الدولي، ومنظمات غير حكومية مختلفة، وعن طريق المؤسسة العالمية لأبحاث الإيدز والوقاية منه التابعة لليونسكو والتي أنشأتُها أنا في 1993 مع لوك مونتانييه.
والحقيقة أن تفاقم وإلحاح وباء الإيدز في البلدان الفقيرة تجعل من الضروري القيام بتعبئة لم يسبق لها مثيل للتضامن الدولي، يمكن أن تستلهم الاقتراح الذي قدمته فرنسا، وأيدته بلدان مجموعة الثمانية منذ قمتها في 1998 ببرمنجهام، لإنشاء صندوق دولي للتضامن العلاجي، يكون هدفه أن يجعل من الممكن حصول البلدان النامية على العلاجات الجديدة للمرض، وأن يعزز أيضا التدريب، والمعلومات، والأبحاث الخاصة بمصل فعال، وسوف يتم تمويل هذا الصندوق بالمساهمات الطوعية للدول، والصناديق الدولية الكبرى، وشركات الأدوية عبر القومية، وكذلك بالأموال الخاصة.
المصادر:
ONUSIDA, novembre 1997 ; interventions de Federico Mayor, Peter Piot et Luc Montagnier à la 154e session du Conseil exécutif de l UNESCO, 28 avril 1998 ; Robert Pear, « Aids Numbers Make a Giant Leap », International Herald Tribune, 27 novembre 1997 ; Eric Ram, « Children and the Plague of Aids », International Herald Tribune, 29-30 novembre 1997 ; Afrique Médecine Santé, mai-juin 1997, interview de M. Peter Piot ; Patrick Festy et Eric Chevallier, Futuribles, n° 194, janvier 1995 ; IFRI, Ramsès, 1996 ; communiqué du sommet de Birmingham du G8, 17 mai 1998 ; discours de M. Jacques Chirac, président de la République française, et de M. Bernard Kouchner, secrétaire d État de la République française à la Santé, à la Xe conférence sur les MST/Sida en Afrique (Abidjan, Côte-d Ivoire), 7 et 8 décembre 1997, et declaration d Abidjan, 9 décembre 1997 ; Jean-Yves Nau, « Sida : la France propose de créer un Fonds international de solidarité thérapeutique », Le Monde, 9 décembre 1997. Laurent Aventin et Pierre Huard, « VIH/SIDA et entreprise en Afrique », document MOST n° 19, UNESCO, 1998 ; Luc Montagnier, Entretiens du XXIe  siècle, « De quoi souffrirons-nous au XXIe siècle ? La science face aux maladies émergentes et réémergentes », UNESCO, 16 décembre 1998.
 
وعلى كل حال فإنه يبدو أن انخفاض الخصوبة الذي ينطلق من أرقام مرتفعة جدا، قد بدأ في عدد متزايد من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء: تؤكد النتائج الأخيرة للأبحاث الديموغرافية والصحية انخفاض الخصوبة في كينيا، وبوتسوانا، وزيمبابوى، وتُظهر انخفاضا أيضا (من طفل إلى طفلين للمرأة في عشر سنوات) في غانا، وغينيا، والسنغال، وكوت ديڤوار، وجمهورية أفريقيا الوسطى، ورواندا([74]). فهل نمضي نحو "نهاية الاستثناء الأفريقي"([75])؟ وإذا تأكدت الاتجاهات الحالية فإنه لن يكاد يكون هناك وجود، منذ العقود الأولى للقرن الحادي والعشرين، لأيّ "بلد ذي خصوبة تقليدية".
وإذا كان يبدو أن شبح انفجار ديموغرافي لا سبيل إلى السيطرة عليه يتلاشى فإن هذا ليس مبررا لأن نفرح كثيرا. ولا شك في أنه لا يجب أن نستبعد تماما سيناريو وصول سقف سكان العالم إلى 8 مليارات نسمة نحو 2050. وعلى كل حال فإنه وفقا لحسابات الأمم المتحدة، يجب أن يقوم المجتمع الدولي بتعبئة مبلغ 17 مليار دولار في السنة ابتداء من سنة 2000 إذا كان المطلوب هو ألا يتجاوز سكان العالم 7.8 مليارات نسمة في منتصف القرن الحادي والعشرين.
وعلى وجه الخصوص، يمكن القول، انطلاقا من واقع "الجمود الديموغرافي " وقوة دفع الزيادة السابقة، التي رفعت عدد النساء اللائى في سن الإنجاب، إن العالم يوشك أن يشهد زيادة سكانية فريدة من نوعها في تاريخه من حيث الأرقام المطلقة، وفى جيل واحد فقط. وفى الفترة ما بين الوقت الحالي وسنة 2015، يمكن أن يزيد سكان العالم 1.4 مليار نسمة، حيث يأتي الجانب الأكبر من هذه الزيادة من البلدان النامية. وعلاوة على هذا فإن النسبة المرتفعة للشبان الصغار جدا في غالبية بلدان الجنوب ـ حوالي 53.5% من سكان البلدان الأقل نموا هم دون الخامسة والعشرين من أعمارهم([76]) ـ سوف تضع، من خلال إسهامها بقوة في زيادة ديموغرافية سريعة جدا، تحديات ضخمة في طريق التنمية، عن طريق مضاعفة احتياجات التعليم، والصحة، والإسكان، والتوظيف، والبنية الأساسية، وعن طريق طرح مشكلات لم يسبق لها مثيل في مجال الموارد الغذائية وإدارة الموارد الطبيعية. أما الشبان الذين يبلغون ما بين 15 و24 سنة من أعمارهم، والذين يرتفع عددهم إلى 1.05 مليار في العالم، فإنهم لم يصلوا من قبل مطلقا إلى هذا العدد الضخم([77]). فهل نحن مستعدون لتخصيص الموارد التي لا غنى عنها لبناء مستقبلهم، الذي هو أيضا مستقبلنا؟ وربما لم يحدث مطلقا، في تاريخ البشرية، أن كانت ضرورة الاستثمار في تعليم الشباب بمثل هذا الإلحاح، ولم يحدث مطلقا أن كانت هذه المهمة بمثل هذه الضخامة: وعلى إصرار الحكومات على مواجهة هذا التحدي الهائل يتوقف، إلى حدٍ كبير، مستقبل التنمية والسلام على المستوى العالمي.
ولا شك في أن عدد السكان مهم جدا، غير أن التوزيع الديموغرافي مهم بالقدر نفسه، والواقع أن السكان موزعون بصورة غير متكافئة مطلقا: 10% من اليابسة تؤوى أكثر من 60% من سكان الكوكب. وعدم تكافؤ هذا التوزيع ملحوظ جدا على خريطة سكان العالم التي أعدها مؤخرا لليونسكو الجغرافيان دانييل نوان Daniel Noin وجنڤييڤ ديكروا Geneviève Decroix([78])، والتي أظهرت أن "العالم لم يعد فسيفساء من الأرياف المحظوظة تقريبا، بل هو قبل كل شيء شبكة حضرية ضخمة، متدرجة هيراركيا إلى حد كبير، وتسيطر عليه العواصم الكبرى"، التي نجد نموها "غير مرتبط بالموارد الطبيعية للمناطق المحيطة بها"([79]). حقا إن مفهوم الكثافة ليس له سوى أهمية محدودة، إذ أن "الكثافة المرتفعة لا تعنى بحال من الأحوال فيض السكان"([80]). ومع ذلك فإن اختلافات الكثافة السكانية صارخة. فآسيا، بسكانها الذين يصلون إلى 3.45 مليارات نسمة، تؤوى وحدها 60% من إجمالي السكان. وفى داخل القارات ذاتها، تتاخم المناطق الخالية من السكان مناطق أخرى مكتظة بالسكان. والواقع أن أربعة تجمعات كبرى للسكان تضم الغالبية الساحقة من سكان الكرة الأرضية: شرق آسيا، الذي يضم رُبْع سكان الكوكب على أقل من 3% من اليابسة؛ وجنوب آسيا، بخُمْس سكان الكرة الأرضية على أقل من 2% من الأراضي؛ وأوروبا، بنسبة 12% من سكان الكرة الأرضية مقابل 4% من الأراضي؛ وشمال شرق أمريكا، بنسبة 3.7 من البشر على 1.1 من الأراضي([81]).
غير أن توزيع السكان لا يتوافق مع توزيع الثروة. وكما يلاحظ هيرڤيه لوبرا: "توجد بلدان غنية وكثيفة السكان، وبلدان فقيرة وقليلة السكان، غير أنه توجد أيضا على النقيض بلدان غنية وقليلة السكان، تقابلها بلدان فقيرة وكثيفة السكان ترد أسماؤها على كل الشفاه، من بنغلاديش إلى رواندا وبوروندى"([82]). كما أن الثروة موزعة بصورة غير متساوية مطلقا بين غالبية السكان وبصورة غير متساوية أكثر من ذلك أيضا بين أخماس السكان. وتتجه هذه الفوارق إلى التفاقم (أنظر الفصل الخاص بالفقر والحرمان).
وأخيرا فإن عدم المساواة يؤثر في صيرورة السكان ذاتها وفقا لمستوى التنمية. وفى حين يبدو أن الفجوة تضيق قليلا قليلا بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب فيما يتعلق بالعمر المتوقع عند الولادة، يتباين هذا الأخير أكثر ليصل في البلدان الأكثر غنى إلى قرابة ضعف نظيره في بعض البلدان الأكثر فقرا، خاصة في أفريقيا الاستوائية، حيث لا يتجاوز في حالة على الأقل 40 سنة (سيراليون). ورغم الإنجازات المسجلة حتى الآن، يظل البشر غير متساوين مطلقا أمام الموت: يتراوح العمر المتوقع عند الولادة بين 43 سنة في أفغانستان وحوالي 80 سنة في اليابان([83]). وحتى داخل البلد الواحد يمكن أن تبقى الفوارق كبيرة فيما يتعلق بالعمر المتوقع عند الولادة، في الجنوب كما في الشمال: إذ أن العمر المتوقع عند الولادة عند السود في الولايات المتحدة أقل ست سنوات عنه عند البيض([84]). غير أن بعض المتخصصين، مثل فرانس ميليه France Meslé وجاك ڤالان، يقلقهم أيضا تغير في التطور العام للوفيات ويطرحون للجدال تقديرات الأمم المتحدة، التي تتوقع كسبا في العمر المتوقع عند الولادة يتراوح بين اثنتي عشرة سنة وخمس عشرة سنة من الآن إلى 2025([85]). وسوف يضيف الإيدز سببا جديدا للوفيات في البلدان النامية. وفى 2050، سوف يضاعف الإيدز تقريبا معدل الوفيات في زيمبابوي، ويزيده بنسبة النصف تقريبا في بوركينا فاسو، وكوت ديڤوار، والكونغو، ويخفض بنسبة 6 إلى 7% عدد السكان المتوقع في أوغندا وزامبيا. وفى البلدان الخمسة الأكثر إصابة بالإيدز، سوف يعود العمر المتوقع عند الولادة حوالي سنة 2000 إلى النقطة التي كان قد وصل إليها منذ ثلاثين سنة مضت([86]).
وفيما يتعلق بخفض وفيات الأطفال، تم تحقيق إنجازات كبيرة خلال السنوات الأربعين الأخيرة، وعلى كل حال، كان الانخفاض أكثر بطئا بكثير في بعض بلدان آسيا وبالأخص في أفريقيا جنوب الصحراء، حيث لا تزال نادرة اليوم تلك الدول التي تسجل معدلات وفيات أطفال أقل من 100 في الألف، أيْ خطر أعلى عشر مرات من ذلك الذي يتعرض له الأطفال المولودون في أمريكا الشمالية أو في أوروبا([87]). وفى أفريقيا وبعض بلدان آسيا، لم تُكسب إلى الآن المعركة ضد الأمراض المعدية. وقد دعا مؤتمر الأمم المتحدة للسكان والتنمية، المنعقد في القاهرة في 1994، كل البلدان إلى خفض وفيات أطفالها بنسبة الثلث منذ سنة 2000، وحيثما كان هذا ممكنا ـ إلى خفضها في هذا التاريخ إلى ما دون 50 في الألف (معدل وفيات الأطفال في فرنسا في 1950) وإلى 35 في الألف في 2015. وهذه المعركة حاسمة ليس فقط بسبب بُعدها الأخلاقي ونتائجها الإيجابية على رفاهية السكان، بل أيضا لآثارها على المواليد: من المرجح تماما أن تميل الأمهات إلى خفض عدد الولادات أو توسيع المسافات بينها عندما يدركن أنه ليس من الضروري أن "ينجبن عشرة أطفال ليبقى لهن منهم خمسة". وفى كل الأحوال، ليس عدم المساواة أمام الديموغرافيا أكثر من نتيجة منطقية لعدم المساواة الهيكلية الاجتماعية ـ الاقتصادية، ولعدم المساواة في فرص التنمية البشرية.
وهناك أخيرا عدم مساواة لا شك في أنه سيكون ثقيل الوطأة على مستقبل سكان العالم وعلى مستقبل تنميتهم: إننا نقصد شيخوخة السكان، التي لن تقتصر على الشمال، وتناقص السكان، في بعض البلدان الصناعية وفى العديد من الاقتصادات التي تمر بمرحلة انتقال. وتتمثل الشيخوخة، كما يلاحظ ديموغرافي كندى([88])، في "اتجاه حتمي وعام سوف يصيب، ذات يوم، كل المجتمعات". وبين 1950 و2025، يمكن أن يتضاعف عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 60 سنة إلى ستة أضعاف، ليرتفع من 200 مليون إلى 1.2 مليار. وسوف ترتفع نسبتهم إلى إجمالي السكان من 8% إلى 14% خلال الفترة نفسها، ثم إلى 20% في 2050([89]). والحقيقة أن الزيادة الديموغرافية وشيخوخة السكان لحظتان مختلفتان في الزمان، لظاهرة واحدة، حيث تفضي الزيادة، منذ أن تنقص بصورة ملحوظة، إلى الشيخوخة. وتوضح حالة الصين هذا القانون بجلاء: نسبة الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 65 سنة، شئ تزيد قليلا على 10%، سترتفع إلى حوالي 22% خلال خمسين سنة ـ مما يمثل قفزة من 50 إلى 280 مليون فرد بين 1980 و2050. وعلى مستوى العالم، في حين أنه كان هناك 1.9 شخص في سن العمل مقابل كل شخص مُعال في 1950، هبطت هذه النسبة في 1965 إلى 1.7، ولن تعود إلى مستوى 1.9 إلا في 2010([90]).
وعلى كل حال، تختلف مشكلات الشيخوخة تماما في الجنوب وفى الشمال. في الجنوب تطرح الشيخوخة مشكلات تتعلق بالإستراتيجية الشاملة للتنمية البشرية وبمدى سرعة انخفاض الخصوبة، وتطرح بصورة خاصة مسألة حاسمة: كيف ينبغي الاستجابة للشيخوخة في وقت تنعدم فيه غالبا نُظم الحماية الاجتماعية المعتمدة على دولة الرفاهية وفى وقت تتفسخ فيه أواصر الروابط الأسرية، نتيجة للحضرنة والتحديث؟ وفى الشمال يلاحق المجتمعات التي تزداد شيخوخة شبح نقص السكان، الذي يمكن أن يصيب بصورة خطيرة من الآن إلى 2025، في غياب تعويض الهجرات، عددا كبيرا من البلدان، كاليابان، وإسبانيا، وإيطاليا، واليونان، وألمانيا، وبلغاريا، والمجر، ورومانيا، وروسيا. وفى الأجل الطويل، سوف يعنى هذا نقص سكان كل البلدان ـ المتقدمة والنامية، و"الناشئة" ـ التي يقل فيها متوسط عدد الأطفال لكل امرأة عن 2.1: وهذا هو الحال الآن في كل أوروبا تقريبا، وفى عدد من بلدان آسيا وأمريكا الشمالية. وفى البلدان الصناعية تطرح الآن الشيخوخة واحتمال تناقص السكان مشكلات رئيسية: العلاقات بين الأجيال؛ وتمويل نظم الضمان الاجتماعي؛ وخطر فقدان الدينامية الكلية؛ والملاءمات الاجتماعية والأخلاقية الشائكة ـ بين الأجيال، وبين البحث عن أقصى إطالة للعمر المتوقع عند الولادة وإمكانية ضمان شيخوخة كريمة للجميع.
وتتجه الشيخوخة إلى التفشي أيضا في البلدان النامية، حيث ستكون أسرع حتى مما في أوروبا. وفى البداية، ستؤدى الشيخوخة إلى نوع من الانفراج: انخفاض نسبة السكان الشباب الذين ينبغي توفير التعليم والتوظيف لهم في وقت لاحق، و"تضخم" في فئات السكان الذين في سن العمل. وقد تم الوصول بالفعل إلى هذا في البلدان التي طبقت سياسات فعالة في تنظيم الأسرة([91]). غير أن عددا كبيرا من الخبراء يرون أن المشكلة الرئيسية للقرن إلحادي والعشرين، في مجال السكان، لن تتمثل في العدد الزائد للأطفال بقدر ما سوف تتمثل في العدد الكبير جدا لكبار السن، نتيجة لتقدم الطب، وعلم الوراثة، والتنمية بوجه عام. ومن هنا قلق عدد من الخبراء، بل وصل أحدهم حتى إلى حد أن يتساءل: "هل سينتهي بنا الأمر إلى تنظيم الوفيات كما ننظم المواليد([92])"؟ فهل سينتهي بنا الأمر إلى موقف كارثي تُبتلى فيه مجتمعاتنا، بدلا من تشجيع منع الحمل، بتشجيع القتل الرحيم([93])؟ والحقيقة أن بعض المؤشرات الراهنة تصيبنا بهذه المخاوف. وعلى كل حال، إذا كان على البلدان الغنية أن تتكيف منذ الآن مع الشيخوخة (التدريب الدائم للعاملين بأجر، إعادة تنظيم مدة العمل، التوفيق بين نُظم وسياسات الصحة العامة والأمن الاجتماعي)، فإن على البلدان النامية أيضا أن تستعد لهذا التكيف مع الشيخوخة وأن تستفيد من هذه المزايا لهذه "الفترة السريعة لانخفاض الخصوبة"([94]).
وهناك، على كل حال، عامل يمكن أن يعدّل توزيع أوراق اللعبة بصورة كبيرة: إنه عامل الهجرات الدولية، التي تستعصي إلى حدٍ كبير على التنبؤ، ولا تؤخذ كقاعدة عامة في الاعتبار في التقديرات الديموغرافية العالمية، وتثير عددا من الأسئلة والمجادلات، لدى الخبراء والجمهور على السواء. ويُقدر عدد المهاجرين بصورة قانونية عبر العالم بـ 100 مليون، ويُضاف إلى هذا الرقم ما بين 10 ملايين و30 مليون من المهاجرين بصورة غير قانونية([95]). وإذا كان قد حدث، خلال قرن، أن الهجرات الدولية قد تباطأت بصورة كبيرة، وإذا كانت السياسات الديموغرافية لأغلب بلدان الشمال والجنوب قد اتجهت، خلال الفترة الأخيرة، إلى المزيد من خفض تدفقات الهجرة ـ حيث ركزتها على احتياجات محددة ضرورية لسوق العمل وعلى هجرة قوة العمل المتزايدة المهارة ـ فهل يمكن تأكيد أن الحال سيبقى دائما على ما هو عليه أمام الاختلالات الديموغرافية التي تتجه إلى التفاقم على مدى جيل من الآن؟
وقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين نهاية الحركة التي دامت قرونا شئ كانت قد حملت الأوروبيين إلى ما وراء البحار، كما كانت قد أدت إلى انطلاق الهجرات من الجنوب إلى الشمال ومن الجنوب إلى الجنوب. وعلى وجه الإجمال، يصل أكثر من 2 مليون شخص كل سنة إلى بلدان الشمال، باستثناء المهاجرين بصورة غير قانونية. وفى حالة بعض البلدان، يمكن أن يكون عدد هؤلاء الأخيرين مرتفعا: على سبيل المثال، يتساوى عدد المهاجرين الذين يدخلون الولايات المتحدة بصورة غير قانونية، وفقا للتقديرات، مع عدد المهاجرين الرسميين. غير أن الهجرة من الجنوب إلى الشمال تُنسينا التنقلات السكانية من الجنوب إلى الجنوب، التي تظل أكبر حجما: وإذا كان قد حدث، خلال الثلاثين سنة الأخيرة، أن 35 مليون شخص غادروا بلدان الجنوب إلى بلدان الشمال، فإن عدد الأشخاص الذين يعيشون في بلد غير البلد الذي ولدوا فيه يُقدر بـ 85 مليونا على مستوى الكوكب (وفقا لمنظمة العمل الدولية)، بل حتى بـ 100 مليون (وفقا لصندوق الأمم المتحدة للسكان). وبين هذه الهجرات، ينبغي أن نذكر أولا التحركات السكانية نحو الشرق الأوسط وبلدان الخليج، شئ حفزها الريع البترولي. ويشكل العمال المهاجرون 80% من سكان الإمارات العربية المتحدة، و34% من سكان السعودية([96]). وينبغي أن نضيف إلى هذا انتقالات سكانية أحدث في آسيا. وتقدم تايلندا، والفليبين، وإندونيسيا، حصصا متزايدة الأهمية من العمال ليس فقط لأستراليا أو اليابان، بل أيضا لعدد كبير من البلدان الأخرى. وعلى سبيل المثال، كان عدد الأجانب المقيمين في ماليزيا، قبل أزمة 1997-1998، مليون شخص على الأقل، أي ثُمْن قوة العمل، وفقا لتقدير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وأكثر من مليونين أو ثلاثة ملايين، وفقا لتقديرات منظمات خاصة. وعلى هذا فإن رهان اندماج الأجانب لا يقتصر إذن على البلدان الصناعية.
أما التحركات السكانية التي لا يُعرف عنها سوى القليل، فهي تلك التي تجوب أفريقيا، وذلك نتيجة لنقص البيانات حول كثير من البلدان وعدم دقة التعدادات. وما يزال خبراء البنك الدولي يعتبرون رقم 35 مليون مهاجر، الذي قدمته دراسة لمنظمة العمل الدولية أجريت منذ عشر سنوات([97])، قريبا من الحقيقة([98]). ويشمل هذا الرقم الحجاج، واللاجئين، والعمال وأسرهم. وتتباين النسبة المئوية للأجانب من بلد إلى آخر. وفى غرب أفريقيا، يصل عدد السكان الأجانب إلى 5% من مجموع السكان، وهى نسبة تضارع تلك التي نلقاها في فرنسا أو ألمانيا([99]).
وفى كل أنحاء الكرة الأرضية، أجبرت الصراعات كُتَلاً سكانية بأكملها على النزوح: أكثر من ستة ملايين من الأفغان، أيْ ثلث السكان، فروا إلى الخارج في الفترة من 1979 إلى 1994([100])؛ وأكثر من مليون من البوسنيين كان قد تم إجبارهم على النزوح داخل جمهورية البوسنة حتى كانون الأول/ديسمبر 1995([101])؛ وفى 1997، سجلت المفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون اللاجئين 2.7 مليون أفغاني أيضا يعيشون خارج بلادهم([102])، و446000 لاجئ صومالي خارج حدودهم([103]). ووفقا للمفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، كان واحد من كل 115 من سكان الكوكب قد تم إجباره على الفرار من وطنه([104]).
كيف ستتطور الهجرات في السنوات المقبلة؟ والفكرة الأكثر انتشارا هي أن "ضغط الهجرات" سيتزايد على بلدان الشمال، وبصورة خاصة في أوروبا والولايات المتحدة، لأن الزيادة الديموغرافية تظل شديدة في الجنوب، وبصورة خاصة في أفريقيا وأمريكا الوسطى، ولأن عدم المساواة يتفاقم بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة. ونظرا لأن البلدان الصناعية تتجه إلى إغلاق حدودها بسبب البطالة وتزايد التعصب تجاه المهاجرين، فإنه لا مناص من أن تتفاقم التوترات ويتضاعف المهاجرون بصورة غير قانونية.
ويبدو مثل هذا التحليل بالغ التبسيط إلى حد ما. أولا، لأن مستويات المعيشة والتنمية تتجه إلى أن تتنوع داخل الجنوب نفسه، مما يخلق بداخله احتياجات جديدة إلى قوة العمل: وقد شهدت على هذا حالة ماليزيا حتى أزمة 1997-1998، بعد حالة بلدان الخليج، أو حالة أفريقيا. إذ أن جمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية جنوب أفريقيا جذبتا عمالا كثيرين إلى القطاع المنجمي، والغابون إلى قطاع صناعة الأخشاب، وكوت ديڤوار إلى قطاع الكاكاو أو قطاع البن. وتتوجه هذه الهجرات في البداية نحو البلدان المجاورة أو تتابع طرق سيرها المطروقة أصلا شئ تشكل شبكات عديدة. فالمصريون الذين كان عليهم أن يغادروا العراق في 1991 لم ينتقلوا إلى أوروبا، بل إلى ليبيا. ونحو ليبيا أيضا توجه العمال التونسيون بالجملة، أكثر مما توجهوا إلى إيطاليا.
يمكن إذن أن نتوقع تنوعا متزايدا للهجرات، التي سوف تعنى في آن معا عمالا يدويين، وتقنيين، ومهندسين، ومدرسين، كما هو الحال الآن في الخليج، وكذلك تعزيزا للهجرات من الجنوب إلى الجنوب. واليوم، نشهد بالأحرى في مجموع بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ركودا، بل حتى في بعض الحالات انخفاضا، في الهجرة([105]). ومن الجليّ أن هذا يرجع إلى إغلاق الحدود وإلى القيود التي تم إدخالها على حق اللجوء، غير أنه يرجع أيضا إلى تردد المهاجرين المحتملين إزاء الأخطار المتزايدة لعدم الاستقرار والبطالة. وكيف لا نشير مع ذلك إلى الإنجازات الاقتصادية للبلدان التي تستفيد من أرصدة الهجرات الإيجابية للغاية منذ عدة عقود، كما هو حال الولايات المتحدة([106])؟ وفى الأجل الطويل، يمكن أن يلعب تباطؤ الزيادة الديموغرافية دورا في نفس الاتجاه: على سبيل المثال، يتناقص المواليد الآن في المغرب، وخلال حوالي عشر سنوات ستكف أعداد الأشخاص الذين يدخلون سوق العمل هناك عن الزيادة. غير أن من الجلي أنه ينبغي أولا ـ إذا أريد المزيد من خفض تدفقات الهجرة ـ تحسين نوعية حياة الإنسان في بلد المنشأ: يمكن للبلدان المضيفة الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن تحقق هذا عن طريق الوفاء بالتزاماتها الدولية المتعلقة بالمساعدة الرسمية للتنمية([107]).
التحديات الكبرى
هناك ثلاثة تحديات مترابطة بصورة وثيقة تشغل الخبراء والمجتمع الدولي على مدخل القرن إلحادي والعشرين: تأثير الزيادة الديموغرافية على الأمن الغذائي، والبيئة والموارد الطبيعية؛ والفقر والتنمية بوجه عام([108]).
الأمن الغذائي
كيف يمكن أن نأمل ليس فقط في القضاء على سوء التغذية، الذي يصيب اليوم حوالي 800 مليون شخص، بل أيضا في تغذية حوالي 3.4 مليارات فرد إضافيين تتوقعهم الأمم المتحدة من الآن إلى 2050 في البديل المتوسط لتقديراتها؟ وبكلمات أخرى: هل سيكون هناك ما يكفى لإطعام الجميع، في عالم يتناقص فيه نصيب الفرد من مساحة الأرض الزراعية، ومن المتوقع، وفقا لپول كينيدى Paul Kennedy، أن يتناقص من 2800 متر مربع في بداية تسعينيات القرن العشرين إلى 1700 متر مربع في 2025([109])؟ وهل سيبدأ السكان في تجاوز "طاقة حمولة" الكوكب ـ التي قامت اللجنة المستقلة الخاصة بالسكان ونوعية الحياة بتعريفها على أنها "الحمولة القصوى التي يمكن أن تفرضها البشرية بصورة متواصلة على البيئة قبل أن تصير هذه الأخيرة عاجزة عن إعالة وتغذية النشاط البشرى"([110])؟
ورغم مخاوف بعض الخبراء، مثل ليستر براون Lester Brown وپول إيرليش Paul Ehrlich، يبدو أن كل شيء يدل على أنه في هذا المجال "لا وجود لقنبلة ديموغرافية"([111]). وقد تحسنت بصورة عامة العلاقة بين الاحتياجات والإمدادات المتاحة منذ الستينيات([112]). وكما يشدد أمارتيا سين، الحائز على جائزة نوبل، "ليس فقط منذ القرنين اللذين يفصلان بيننا وبين مالثوس Malthus، بل أيضا خلال هذه العقود الأخيرة، تجاوزت زيادة الإنتاج الغذائي بصورة متواصلة ومعبرة نمو سكان العالم"([113]). ووفقا للتقرير العالمي عن التنمية البشرية 1998 الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة للتنمية، تتوقف مواصلة هذه الجهود مع ذلك على "ثورة خضراء" جديدة([114])، تطبق سياسات متكاملة للتنمية الريفية (إصلاحات زراعية، تطوير البنية الأساسية، التعليم)، وإصلاح طرق الزراعة، والأسعار الزراعية، وتسويق الحاصلات الزراعية، وتدابير فعالة لصالح الفلاحين([115]). وهى تتوقف أيضا على السلام: يبدو الأمن الغذائي أقل ارتباطا بالزيادة الديموغرافية منه بالتقلبات الجغرافية، أو الاقتصادية، أو السياسية. والواقع أن أغلب البلدان الأفريقية التي عانت من مجاعات خلال العشرين سنة الأخيرة مزقتها حروب أهلية أو اضطرابات سياسية واجتماعية خطيرة.
وبالإضافة إلى هذا فإنما في الجنوب ـ إذا استثنينا حالة أفريقيا ـ تم تسجيل أعلى ارتفاعات إنتاج الغذاء. وإذا قارنا متوسط السنوات الثلاث 1979-1981 ومتوسط السنوات الثلاث 1991-1993، فإننا نجد أن الإنتاج الغذائي للفرد ارتفع بنسبة 3% على المستوى العالمي و2% في أوروبا، في حين انخفض بنسبة 5% في أمريكا الشمالية. وقد ارتفع نصيب الفرد من الإنتاج الغذائي بنسبة 22% في آسيا (بنسبة 23% في الهند، و39% في الصين). وبالمقابل، انخفض خلال الفترة نفسها بنسبة 6% في أفريقيا ([116]). وبين 1980 و1990 انخفض نصيب الفرد من الإنتاج الغذائي فيما لا يقل عن 72 بلدا من أصل 113 من البلدان النامية، في حين أن الاستهلاك الفردي للسعرات الحرارية انخفض في سبعة وثلاثين بلدا منها([117]).
غير أن المسألة الأساسية تبقى مسألة اقتسام الموارد الغذائية المتاحة. ويطرح التناقض الصارخ الذي يتفاقم في بعض مناطق العالم بين زيادة السكان وانخفاض نصيب الفرد من الإنتاج الغذائي مشكلة رئيسية: الحصول الاجتماعي على الموارد الغذائية بالنسبة لسكان غير قادرين على دفع أسعارها بسبب فقرهم([118]).
البيئة والموارد الطبيعية([119])
وفقا لـ أمارتيا سين، "يمكن أن يتضح أن آثار زيادة السكان على البيئة أكثر خطورة بكثير من مشكلة الغذاء التي أعيرت كثيرا من الاهتمام في الكتابات التي تستلهم مالثوس"([120]). وينبغي أن نميز، فيما يتعلق بهذه النقطة، بين الأجل القصير والأجل الطويل. وفى الأجل القصير، تقع مسئولية تدمير البيئة بصورة خاصة على الشمال. إذ أن خُمْس سكان العالم يستهلكون 58% من الطاقة، و65% من الكهرباء على مستوى الكوكب؛ ويمثل استهلاك البنزين في المتوسط 500 كيلو جرام من معادل البترول للفرد في السنة للبلدان الصناعية، أيْ عشرة أضعاف متوسط استهلاك الفرد في البلدان النامية الذي يصل إلى 43 كيلوجراما؛ وفى 1994، كان استهلاك الطاقة التجارية للفرد في العالم الصناعي يمثل عشرة أضعاف استهلاك البلدان النامية (4452 كيلو جرام من معادل البترول مقابل 568)([121]).
وفى الأجل الطويل، يُخشى أن يكون تأثير الزيادة الديموغرافية وتغير أنماط الإنتاج والاستهلاك في الجنوب بالغ الضرر بصورة خاصة على البيئة. والواقع أنه بقدر ما ستقوم اقتصادات الجنوب الناشئة بتنمية نفسها فإنها سوف تستهلك أكثر فأكثر: وفقا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، ستكون البلدان النامية مسئولة في غضون 15 سنة من الآن عن 60% من الانبعاثات السنوية لثاني أكسيد الكربون([122]). وفى رأى أمارتيا سين، ستكون البلدان النامية، بالتالي، في المستقبل، "خطرا على البيئة بنفس ضخامة خطر سكان البلدان الغنية اليوم". وفى عدد من مناطق العالم، وخاصة في المناطق القاحلة، كان لزيادة السكان بالفعل نتائج خطيرة على الوسط الطبيعي، حيث أنها تفضي في كثير من الأحيان إلى إفراط في استغلال الموارد الطبيعية، وإلى تدهور التربة، وإلى تلوث مجارى المياه، وفى كثير من الأحيان إلى التصحر.
ومنذ 1795، كان لدى الفيلسوف والاقتصادي كوندورسيه Condorcet الحدس العبقري بأن خطر فيض السكان، الذي كان يرى فيه خطر "تضاؤل متواصل للسعادة"، يمكن السيطرة عليه بفضل ارتفاع الإنتاجية، وإدارة أفضل والقضاء على التبديد، وتقدم في التعليم ـ وبصورة خاصة تعليم النساء. وفيما يتعلق بالأخطار التي يعرض السكان البيئة لها، كان يتطلع في ذلك الزمن إلى حلول ما تزال إلى اليوم في قلب الجدال الدولي، وقد كتب يقول: "المنتَج الصناعي نفسه إما أن يتفق مع أقل تدمير للمواد الخام، وإما أن يستمر استعماله لفترة أطول"([123]).
وينبغي أن نضع نصب أعيننا أن الكثافة البشرية لا تستدعى بالضرورة تدمير البيئة؛ إن هذا التدمير يرتبط في أغلب الأحيان بأنماط الإنتاج والاستهلاك. والحقيقة أن سكانا قليلي العدد يمكن أن يضروا البيئة بنفس القدر تماما؛ وبصورة عامة، صار من الثابت أن الزراعات المتنقلة والتربية المتنقلة للماشية أكثر ضررا بكثير من الزراعة "في موقع ثابت". وبصورة مماثلة، يمكن أن تتكيف الحياة الحيوانية والنباتية البرية مع تجمعات بشرية كبيرة، في ظل شروط صارمة للإشراف والمراقبة كما هو الحال في المتنزهات القومية أو المناطق المخصصة للمحيط الحيوي. كما أن الاستيطان الكثيف على ضفاف الأنهار يمكن، إذا تم تنظيمه جيدا، أن يحافظ على الحياة المائية: لقد شوهدت أسماك السلمون تعود إلى التيمز أو الراين.
وبالتالي فإن الحلول الملائمة للتحديات البيئية التي تطرحها الزيادة الديموغرافية تقوم على:
· "ثورة في الكفاءة" في استخدام الطاقة والموارد الطبيعية (الأراضي، المياه، المحيطات ...)، تقوم على مبدأ الاقتصاد، وإعادة التدوير، ومعالجة المخلفات، والإحلال المتزايد للطاقات المتجددة محل الطاقات الأحفورية؛
· انتشار طرق للإنتاج الغذائي أكثر رعاية للنظم البيئية؛
· تقاسم المعارف، والتكنولوجيات، والمهارات، بين الشمال والجنوب؛
· تغيير أساليب الحياة وأنماط الإنتاج والاستهلاك، من خلال التعليم، وإدخال نماذج جديدة للتنمية، وتعزيز "الزراعة المستديمة".
الحضرنة([124])
هناك ظاهرة رئيسية ستؤثر على مصير السكان: الحضرنة في الجنوب. وبعد سنة 2000 بقليل، سيعيش غالبية سكان الكوكب في المدن([125]). وبهذا تنتهي سيادة نمط قديم العهد من الحياة، دون أن يكون بوسعنا أن نحدد التاريخ الدقيق لهذه القطيعة مع الماضي: الواقع أن هذه القطيعة حدثت منذ عهد طويل في أوروبا، والولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وعبرت أمريكا اللاتينية عتبتها قبل 1970. وسيكون على أفريقيا وآسيا فقط أن تنتظرا احتمال تحقيق هذا حوالي 2020. وستكون هذه الحضرنة بصورة رئيسية لصالح المدن العملاقة (الميغابولات) التي يزيد سكان الواحدة منها على ثمانية ملايين نسمة: يصل عددها الآن بالفعل إلى اثنتين وعشرين مدينة، ويمكن أن يصل عددها إلى خمس وثلاثين مدينة في 2015. وسوف تقع أغلب المدن العملاقة في الجنوب: في آسيا في المحل الأول، وأفريقيا بعدها. والواقع أن البلدان الأكثر فقرا هي التي تغدو فيها سرعة نمو المدن الأكثر ارتفاعا.
ويؤدي نقص الموارد وسرعة النمو الحضري، اللذان لا يكادان يفسحان مجالا للتخطيط، إلى تفاقم مشكلات الحضرنة: عدم كفاية الوظائف الحقيقية، في تناقض صارخ مع التنمية الصناعية والإدارية في زمن أسبق؛ مشكلات الإمداد بالمياه الصالحة للشرب، والصرف الصحي، والنقل على مسافات متزايدة الاتساع؛ الزيادة الكبيرة للتلوث. فهل سيكون بمستطاع مدن الجنوب أن تكسب سباق السرعة بين زيادة السكان وبناء المساكن والتجهيزات الضرورية؟
على أن الحالة ربما لا يكون ميئوسا منها. إذ أن زيادة المدن العملاقة تتباطأ الآن في كثير من البلدان، وبصورة خاصة في الهند أو في مصر، حيث لم تعد زيادة سكانهما أكثر من "النمو الصناعي". وبدأ سكان مدينة مكسيكو سيتي يتناقصون حقا([126]). ومن جهة أخرى ففي حين أنه كان من المقدر منذ اثنتي عشرة سنة فقط أن وفورات الحجم المرتبطة بالكثافة البشرية توقفت عن العمل عند نقطة بعينها (حوالي 150000 نسمة)، صار من المعتقد الآن بالأحرى أن "ما يهم ليس حجم مدينة، بل أسلوب إدارتها"([127]). والحقيقة أن ابتكار أسلوب الإدارة المتوازن، اللامركزي، القائم على المشاركة، الذي يشرك السكان في التنمية الحضرية وفى القرارات التي تصوغ إطار حياتهم، سيمثل التحدي الحقيقي للعشرين سنة المقبلة.
التنمية، والتوظيف، والفقر
بصورة عامة، تتجه العلاقات بين الثروة الاقتصادية، والزيادة الديموغرافية إلى التغير: منذ وقت طويل يُنظر إلى خلق الثروة ليس فقط على أنه عامل خفض للخصوبة (حيث تفوق تكلفة الطفل منفعته الاقتصادية)، بل أيضا على أنه أحد شروطه المسبقة. والواقع أن هذه العلاقة تبدو اليوم أكثر تعقيدا: في البلدان البترولية القليلة السكان، قام "الذهب الأسود" على العكس، منذ وقت طويل، بخفض تكلفة الطفل والإسهام في الاحتفاظ بخصوبة مرتفعة. وبالمقابل، نجحت مناطق فقيرة جدا ـ ولاية كيرالا في الهند على سبيل المثال ـ في خفض الخصوبة عن طريق سياسات ملائمة للتنمية البشرية، تتمحور حول التعليم، والصحة، والنساء.
غير أنه، خلال العشرين سنة المقبلة، سيكون على بلدان الجنوب أن تستوعب كحد أدنى مليار فرد إضافيين في سوق العمل. ولمجرد دمج القادمين الجدد في الاقتصاد ولمجرد المحافظة على مستوى معيشة السكان عند المستوى الحالي، سيكون على هذه البلدان أن تحافظ على نمو اقتصادي بنسبة 70%، أيْ أكثر من 2% في السنة([128]). ولا غنى عن نمو اقتصادي أعلى من هذا بكثير من أجل إقلال الفقر بصورة كبيرة، ومن أجل تلبية الاحتياجات الهائلة للسكان الجدد في مجالات التعليم، والبنية الأساسية، والإسكان، والصحة، ومن أجل تحقيق زيادة ملموسة في فرص الازدهار لكل شخص. ولهذا فإنه سوف ينبغي تغيير حجم وسرعة التنمية، مع تعديل كامل لطبيعتها، التي يجب أن تغدو متمحورة من الآن على نوعية الحياة وليس على نزعة التركيز المفرط على الإنتاج وفرط الاستهلاك بصورة عمياء وغير قابلة للاستمرار.
والحقيقة أن مدى التحدي أضخم كثيرا، كما يشدد التقرير العالمي عن التنمية البشرية([129])، لا سيما وأن النمو الاقتصادي صار اليوم قائما على عدم المساواة بصورة عميقة، وأن الفجوة تتسع بهذا الصدد بين الدول الغنية والفقيرة وحتى داخل كل بلد، وأن ظاهرة "النمو دون فرص عمل" jobless growth تؤثر على البلدان الصناعية بقدر ما تؤثر على العالم النامي. وكما شددت قمة ليون لمجموعة السبعة، علينا من الآن "إنجاح العولمة لصالح الجميع"، وبالتالي "اقتسام مكاسب النمو الاقتصادي على أوسع نطاق ممكن".
بعض أولويات العمل
ليس خلق الثروة شرطا جوهريا للنجاح في خفض الخصوبة. وبصورة مماثلة فإن خفض الزيادة الديموغرافية ليس كافيا لضمان مستوى معيشة أعلى للسكان. وبالأحرى فإن التقاء هاتين الظاهرتين انعكاس لنمو منصف حريص على توفير الوصول الشامل إلى التعليم، والصحة، وفرص التنمية الاقتصادية.
وينبغي أن نتأمل جيدا مثال اقتصادات عديدة عالية الأداء في شرق آسيا وجنوب شرق آسيا (جمهورية كوريا، تايوان، هونغ كونغ، سنغافورة، إندونيسيا، ماليزيا)، رغم الأزمة الخطيرة التي أصابت تلك المنطقة منذ 1997. وقد عرفت هذه الاقتصادات بالفعل على مدى ثلاثين سنة نموا اقتصاديا سنويا يتجاوز 5.5%، مصحوبا ليس فقط بانخفاض في نسبة الفقراء إلى النصف، بل أيضا بهبوط كبير في عددهم، وفى أغلب الأحوال بانخفاض ملحوظ جدا للخصوبة. وترجع هذه النجاحات بصورة رئيسية إلى "النمو مع الإنصاف" الذي تمثل بصورة خاصة في زيادة الموارد اللازمة للتعليم مع منح الأولوية لتعميم التعليم الابتدائي، وبصورة خاصة لتدارك تأخر البنات. وكما يشدد صندوق الأمم المتحدة للسكان في تقريره عن 1998، فإن "المجتمعات التي سوف تستثمر في مجالات الصحة، والتعليم، وخلق فرص العمل، سوف تجد نفسها أفضل على المستوى الاقتصادي، الأمر الذي سيعبر عن نفسه في تحسن عام لنوعية الحياة ويخفف العبء الذي يشكله التزام إعالة سكان من كبار السن"([130]). وكما تثبت حالة بلدان عديدة، خاصة في آسيا، فإن الجهود المبذولة في مجال التعليم تسمح بإبطاء الزيادة الديموغرافية في الوقت الذي تقوم فيه بتحسين نوعية حياة الأفراد. ونأمل ألا تؤدى المشكلات الاقتصادية التي تعانى منها بلدان ناشئة عديدة إلى إضعاف التزامها إزاء التنمية البشرية: في مواجهة الأزمة يظل التعليم أيضا الاستثمار الأفضل في سبيل تأمين التنمية المستديمة من الداخل.
وفى مواجهة التحديات التي تطرحها زيادة السكان، هناك إذن خمس أولويات ينبغي أن ترشّد السياسات على مدخل القرن الحادي والعشرين:
تعليم النساء
إذا كان هناك عامل أساسي لتحقيق انخفاض في الخصوبة فإنه يتمثل حقا في التعليم، وتعليم النساء في المقام الأول. وفى بلدان عديدة، تتجه إطالة مدة التعليم المدرسي للبنات إلى رفع متوسط سن الزواج (الذي يتجاوز الآن 25 سنة في شمال أفريقيا)، وإلى الانخفاض البالغ للزيجات المبكرة (في بنغلاديش، 48% من النساء تزوجن قبل التاسعة عشرة من أعمارهن في حين أن نسبتهن كانت تصل إلى 89% قبل ذلك بثلاثين سنة) وكنتيجة منطقية لهذا: إلى خفض عدد الأطفال "بصورة آلية". كما أن إطالة مدة التعليم المدرسي وتأجيل الزواج يؤديان أيضا، ولا سيما في البلدان العربية، إلى إنقاص فارق العمر مع الزوج وتغيير العلاقات بين الزوجين. ووفقا لدراسة للبنك الدولي، تنجب المرأة، في بعض المناطق التي تُحرم فيها البنات من التعليم الثانوي، سبعة أطفال في المتوسط. وفى المناطق التي ارتفعت فيها نسبة التحاق البنات بهذا التعليم إلى 40%، ينخفض هذا المتوسط إلى ثلاثة أطفال. كما أن تناقص الخصوبة يغدو بطيئا في المناطق التي لا تصل فيها النساء إلا إلى التعليم الابتدائي، غير أن تناقص الخصوبة يتسارع أكثر فأكثر مع وصولهن إلى مرحلتين تاليتين للتعليم.
ومن الجلي أنه ينبغي بصورة ملحة أن يتم الوصول إلى المحرومات من التعليم ـ إلى النساء اللائى لم يلتحقن بالمدارس الابتدائية ويمثلن حوالي 29% من بنات الكوكب، إلى النساء اللائى يمثلن 65% من 880 مليون هم مجموع الأميين والأميات. وسوف يتحقق هذا بالطرق الابتكارية التي تجمع بين تعميم التعليم الابتدائي والإلزام المدرسي الفعال، والتعليم عن بعد، والتربية التفاعلية، والتعليم الدائم للكبار. غير أن علينا أن نعمم التعليم الثانوي، وخاصة للنساء، وأن نطور التعليم العالي.
وقد جعلت اليونسكو من النساء إحدى المجموعات المستهدفة ذات الأولوية لنشاطها. وتطمح مبادرة التعليم للجميع التي طرحتها اليونسكو، بالاشتراك مع برنامج الأمم المتحدة للتنمية، واليونيسيف، والبنك الدولي، في مؤتمر جومتيين في 1990، إلى تحسين حصول النساء على التعليم وعلى نوعية التعليم الذي يتم إعداده لهن. غير أنه ينبغي أن نذهب إلى أبعد من هذا: وعلى سبيل المثال، تبنت البلدان النامية التسعة التي عقدت اجتماعا نظمته اليونسكو في نيودلهي في 1993 خطة للتعليم تركز بصورة خاصة على الفتيات والنساء؛ والتزمت الهند بهذه المناسبة بزيادة النسبة المخصصة للتعليم من ناتجها المحلى الإجمالي، لترتفع من 3.4% إلى 6% حوالي 2005، فقدمت بهذا مثلا يحتذى. ونقترح بالتالي على كل البلدان التي لم تدرك بعد هذا الهدف أن تضعه على عاتقها دون إبطاء، وأن تحدد بصورة ملحة الوسائل الكفيلة بالوصول إليه، مثلا عن طريق خفض نفقاتها العسكرية ونفقاتها غير المنتجة، كما سبق أن أوصى، من ناحيته، مايكل كامديسوس Michel Camedessus المدير العام لصندوق النقد الدولي، منذ 1992، في قمة الأرض في ريو دي جانيرو.
تمكين النساء من تقرير مصيرهن
كما سبق لي أن أكدت في مؤتمر القاهرة، لا ينبغي أن يقوم خفض الزيادة الديموغرافية على الإكراه أو إملاء الأوامر. ولم يعد من المقبول أن ينطوي على فرض نماذج خارجية أو أن يتمثل في تدخلات تقوم على أسس عقائدية. ولا يمكن أن يكون له أساس دائم سوى الاختيار المستنير للرجال والنساء الذين يتولون أمور مصيرهم بأنفسهم والواعين تماما بحقوقهم وكرامتهم.
وفيما وراء التوسيع الضروري، على كل المستويات التعليمية وكذلك على مستوى التعليم خارج المدرسة، لبرامج توعية فيما يتعلق بمسألة السكان، يفرض نفسه عمل نوعى لصالح النساء. وقد حددت نفيس صادق، المديرة التنفيذية لصندوق الأمم المتحدة للسكان، ثلاث أولويات بهذا الصدد:
"أن توضع في متناول النساء المعلومات والخدمات التي يحتجن إليها لإنجاب وتربية أطفالهن بصحة جيدة وأمن كامل؛
دعمهن في اختياراتهن في مجالات أخرى غير الإنجاب تتعلق مثلا بصحتهن، وتعليمهن، وبصحة وتعليم أطفالهن؛
وأخيرا، ومهما تكن اختياراتهن، تأمين إيلاء الأولوية لمصالحهن، ليس بوصفهن أمهات أو زوجات، ولا بوصفهن وحدات إنتاج أو إنجاب، بل بوصفهن نساء".
والحقيقة أن الحرية والمسئولية التي ينبغي منحهما للنساء أساسيتان ليس فقط لإبطاء الزيادة الديموغرافية، بل أيضا لحل مشكلات انخفاض الخصوبة التي تعانى منها غالبية البلدان الصناعية. وبالفعل كان أحد بلدان قليلة، في الشمال، شهد ارتفاع معدلات الخصوبة فيه بصورة ملحوظة، بصورة مؤقتة على الأقل، هو السويد، أيْ هذا البلد الذي قطع شوطا بعيدا في بناء دولة الرفاهية وفى تحقيق المساواة الفعالة بين الجنسين، بما في ذلك الحياة المهنية.
تعزيز التنمية العلمية والتكنولوجية
نظرا للزيادة الديموغرافية المتوقعة، لن يكون بمستطاعنا أن نغير حجم التنمية، وأن نحقق في الوقت نفسه أهداف التنمية المستديمة والأمن الغذائي للجميع، إلا بازدهار لم يسبق له مثيل للعلوم والتكنولوجيات، سيكون بمستطاعه وحده تأمين "ثورة الكفاءة" التي صارت ضرورة والتي أشرت إليها من قبل([131]). وينبغي أن تحدد بلدان الجنوب لنفسها في هذا المجال أولويات جديدة على مستوى الرهانات، وأن تخصص نسبة أكبر من ناتجها المحلى الإجمالي ومن ميزانياتها القومية والمحلية للأبحاث. ولا شك في أن الأخطار التي يشكلها النمو الديموغرافي والصناعي على المحيط الحيوي ينبغي أن تغدو موضوعا لمزيد من الاهتمام من جانب المجتمع العلمي العالمي. وتسهم اليونسكو في هذا العمل عن طريق العديد من برامجها العلمية الدولية بين الحكومات([132]).
تغيير أساليب حياتنا وأنماط إنتاجنا واستهلاكنا
صار من الضروري في هذا المجال تحقيق الأفضل بالأقل. وينبغي أن تقدم البلدان الصناعية مثلا يحتذى، نظرا للتوسع غير المحدود الجاري حاليا في الشمال في أنماط الاستهلاك غير القابلة للاستمرار والذي تجعله الزيادة السكانية المتوقعة غير وارد مطلقا. غير أن على الاقتصادات الناشئة أيضا أن تبذل جهدا للحيلولة دون الاستيراد دون تمييز لأنماط إنتاج واستهلاك من شأنها أن تعرض للخطر في نهاية المطاف، الطابع المستديم لتنميتها.
تعزيز النمو مع الإنصاف ومشاركات جديدة في سبيل التنمية
لن يوجد حل قابل للاستمرار لمشكلات السكان والتنمية إذا استمر النمو الاقتصادي، كما هو الحال الآن، في تعميق عدم المساواة بين البلدان وداخل كل بلد. والحقيقة أن نموا غير منسجم إلى هذا الحد يظل منطويا على نزاعات في المستقبل، وينذر بالعنف كما تنذر السحب الكثيفة بالعاصفة الرعدية، وسيكون علينا أن نحدد طرق اقتسام جديدة وتنمية جديدة تجمع بين النمو، والعدل، والإنصاف. واليوم ينبغي أن نمارس التضامن ليس فقط في المكان ـ بين الشمال والجنوب وداخل كل بلد ـ بل أيضا في الزمان، إزاء الأجيال المقبلة، التي لا نملك الحق في تبديد فرصها وميراثها.
وفى وقت تنخفض فيه المساعدة الرسمية للتنمية، التي لا تستطيع أن تحل محلها تدفقات الاستثمارات الخاصة، الموجهة بصورة أساسية نحو حوالي عشرة بلدان ظلت تتمتع بالازدهار الاقتصادي الكامل حتى حدوث الأزمة الآسيوية في 1997-1998، ينبغي أن نبتكر مشاركات جديدة من أجل التنمية، وبصورة خاصة في اتجاه أفريقيا والبلدان الأقل نموا. ويفترض هذا تغييرا عميقا في هيكل وأشكال مساعدة البلدان الغنية، هذه المساعدة التي ينبغي أن تتجه من الآن نحو الأولويات الرئيسية للتنمية البشرية. ويسعدنا أن نرى أن هذه المشاركات الجديدة من أجل التنمية كانت في قلب مناقشات قمة التنمية الاجتماعية في كوبنهاغن (1995) وقمة إسطنبول "الموئل 2" (1996)، كما يسعدنا أن نرى مجموعة السبعة توصى بها الآن([133]). غير أنه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ينبغي أن تتحول الأقوال إلى أفعال، وأن تتجسد في حقائق. وغدا، سيفوت أوان هذا دوما.
والتحدي مزدوج: وهو كمي ونوعى بصورة لا تنفصم. ولن يكون بمستطاعنا أن نحل مشكلة سكان العالم إذا نحن تعاملنا معها على أنها فقط مشكلة مواليد ووفيات أو مشكلة إدارة تدفقات إحصائية وكميات من الأفراد والاستثمارات والموارد. لن يكون بمستطاعنا أن نحلها إلا إذا قمنا بتغليب النوعية على الكمية، وإلا إذا قمنا بإعادة وضع الكائن البشرى وتحسين نوعية الحياة في مركز التنمية([134]). والحقيقة أن "طاقة الرعاية" (caring capacity) تغدو، من وجهة النظر هذه، أكثر جوهرية من المفهوم الذي كان بدوره موضوعا للجدال بين الخبراء، أيْ مفهوم "طاقة حمولة" (carrying capacity) الكوكب أو "الحد الأقصى للسكان" (population limit). وكما علق شكسبير "ماذا تكون مدينة إلا بسكانها؟"، ماذا تكون الأرض، أولا وقبل كل شيء، إلا بضيوفها، أي المحيط الحيوي بمجموعه، المحيط الحيوي الذي يتمتع فيه النوع البشرى من الآن بكل هذه الأهمية؟ ولا شك في أنه ينبغي القيام بكل شيء من شأنه أن يخفض زيادة السكان. غير أن هذه الثورة الديموغرافية ينبغي أن تكون ثورة الكرامة التي تمثل الحق الأكثر أساسية للإنسان. وكما سبق لي القول في مؤتمر القاهرة فإنه سيكون علينا أن نكون مستعدين لأن نستقبل على سطح هذا الكوكب كل أولئك الذين سيأتون لينضموا إلينا. وينبغي أن نكون مستعدين لأن نقدم لهم ليس فقط نوعية الحياة التي يحق لهم أن يتوقعوها، بل أيضا ابتسامتنا.
 
منطلقات وتوصيات
3   تعليم النساء والبنات ومنحهن سبل السيطرة على مصيرهن: (1) بأن يوفَّر لهن الحصول الشامل الفعلي على التعليم الابتدائي وتعميم التعليم الثانوي، خاصة للبنات؛ (2) بأن توضع تحت تصرفهن المعلومات والخدمات التي يحتجن إليها من أجل إنجاب وتربية أطفالهن بصحة جيدة وبأمان كامل.
3         تعزيز التنمية العلمية والتكنولوجية الضروريتين لنمو ديموغرافي يصادق البيئة وللأمن الغذائي للسكان.
3         تغيير أساليب الحياة والاستهلاك الضارة بالتنمية المتواصلة.
3         تعزيز زيادة الإنصاف ومشاركات جديدة من أجل التنمية.
3         تعزيز سياسات جديدة للمدينة (أنظر الفصل المعنون "تغيير المدينة يعنى تغيير الحياة").
3   تشجيع البلدان الصناعية، وخاصة أكثرها غنى، على الوفاء بالتعهدات التي قطعتها على نفسها بالمساهمة، بما يصل إلى 0.7% من ناتجها القومي الإجمالي، في المساعدة الرسمية للتنمية، وتشجيع التنمية من الداخل للبلدان الأقل نموا.


2
فضيحة الفقر والحرمان
 
 
لا شك في أن الفقر كان موجودا دائما، بل كان يُعتبر في وقت مضى قدرا لا مفر منه. أما في الوقت الحاضر فإنه بكل بساطة فضيحة، في عالم ينتج سلعا أكثر من المطلوب لإطعام كل سكانه بصورة لائقة([135]). إنه تعدٍّ على كرامة الإنسان وشكل من أشكال الحرمان هو الأكثر خطورة إذ أنه يمكن أن يكون مصدرا للحروب والصراعات والعنف([136]). والحقيقة أنه لا معنى لأي إستراتيجية للتنمية ما لم يكن هدفها، قبل كل شيء، القضاء على الفقر. ويقتضي النضال ضد الفقر اتخاذ تدابير سياسية شجاعة دون إبطاء في ثلاثة مجالات على وجه الخصوص: الديون التي تقع تحت وطأتها بلدان كثيرة في كثير من الأحيان نتيجة لنماذج التنمية الموحدة المفروضة؛ وملكية الموارد الطبيعية واستغلالها؛ ومشكلة التفاوت الضخم في توزيع الأراضي، مما يؤدي إلى مفارقة: أرض بدون بشر وبشر بدون أرض. ونحن لا يمكن أن نقنع ببلاغة تنادي بتغيير كل شيء دون أن تعبر عن نفسها في تدابير ملموسة. ويغدو من الضروري اليوم إحداث تغيير حقيقي في النضال ضد الفقر، تغيير بدون عنف، تغيير يستند إلى كل قوة الديمقراطية.
على أن العالم قد شهد إنجازات هائلة خلال العقود الأخيرة، وعلى سبيل المثال، انخفض معدل وفيات الأطفال الذين تقل أعمارهم عن خمسة أعوام، في حين واصلت معدلات الالتحاق بالمدارس الابتدائية ومؤشرات اجتماعية أخرى تقدمها في معظم البلدان. ومنذ 1960، ارتفع نصيب الفرد من الدخل إلى أربعة أضعاف ونصف في شرق آسيا، وتضاعف في جنوب آسيا، وارتفع بنسبة 60% في أمريكا اللاتينية([137]). ويشير برنامج الأمم المتحدة للتنمية في التقرير العالمي عن التنمية البشرية 1997 إلى أن الفقر قد انخفض في الأعوام الخمسين الماضية أكثر مما انخفض خلال القرون الخمسة السابقة.
غير أن العالم شهد أيضا زيادة هائلة للفقر منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين. ونحن نشهد الآن تفاقم التفاوتات على صعيد العالم، مصحوبة في معظم المجتمعات بزيادة في عدد الأفراد الذين يعيشون في حالة فقر مطلق. وفي البلدان النامية، كانت المناطق الأكثر تأثرا بالفقر هي أمريكا اللاتينية، وعلى وجه الخصوص جنوب آسيا، وأفريقيا جنوب الصحراء. وقد عانت منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، بين 1980 و1989، انخفاضا تراكميا بنسبة 21% في نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي. وتدل أحدث البيانات المتعلقة بأفريقيا جنوب الصحراء على أن 266 مليون، من أصل 590 مليون من السكان، يعيشون الآن تحت خط الفقر([138]). ووفقا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية فإن حوالي ثلث سكان البلدان الأقل نموا ـ وتقع غالبيتها في أفريقيا جنوب الصحراء ـ "محكوم عليهم إحصائيا بالموت في الأربعين من عمرهم"، وفي بلدان أوروبا الشرقية وكومنولث الدول المستقلة، ارتفع عدد الفقراء من 14 مليونا إلى 119 مليون بين 1988 و1994([139]).
وفي فجر القرن الحادي والعشرين، يعيش أكثر من مليار وثلاثمائة مليون نسمة في فقر مدقع في مختلف أنحاء العالم، وبصورة خاصة في البلدان النامية، وتستمر أعدادهم في الزيادة([140]). وأكثر من اثنين من كل ثلاثة فقراء من النساء. وفي تقرير عن حقوق الإنسان والفقر المدقع تم إعداده لمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان قبل أزمة 1997-1998، قدر لياندرو ديبوي Leandro Despouy أن 1.5 مليار شخص كانوا في حالة فقر مدقع، ويرتفع عددهم 25 مليون شخص على الأقل في السنة([141]). ويحاول أكثر من ثلاثة مليارات فرد مجرد البقاء على أقل من دولارين في اليوم([142]). ويفتقر مليار ونصف فرد إلى مياه صالحة للشرب، ولا يحصل أكثر من مليارين على أية رعاية صحية أولية. كما أن الأزمة المالية العالمية، التي اندلعت في آسيا في 1997، تدفع عشرات الملايين الآخرين من الناس بقوة إلى الفقر المدقع، في الوقت الذي يستمر إنتاج السلع والخدمات في الارتفاع على مستوى العالم([143]).
وتفصل فجوة حقيقية بين الأغنياء والفقراء. ووفقا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، يتعين على أفقر 20% من سكان العالم أن يتقاسموا اليوم النسبة البائسة 1.1% من الدخل العالمي، مقابل 1.4% في 1991 و2.3% في 1960([144]). وقد ارتفعت نسبة دخل أغنى 20% إلى دخل أفقر 20% من سكان العالم من 30 مقابل 1 في 1960 إلى 61 مقابل 1 في 1991، لتصل إلى النسبة المذهلة 82 مقابل 1 في 1995. وارتفع عدد مليارديرات العالم بالدولار من 157 إلى 447 بين 1989 و1996. واليوم تبلغ الملكية الصافية لأضخم عشر ثروات 133 مليار دولار، أيْ أنها أكثر من ضعف ونصف قيمة الدخل المحلي الكلي لكل البلدان الأقل نموا([145]). ويملك أغنى ثلاثة أشخاص في العالم ثروة أضخم من الناتج المحلي الإجمالي الكلي لـ 48 من البلدان الأكثر فقرا، وتتجاوز ملكية أغنى 84 شخصا الناتج القومي الإجمالي للصين (1.2 مليار نسمة) ([146]). وعلى النطاق العالمي، صار عدم المساواة في توزيع الثروة أكثر منه داخل أي بلد([147]).
ومن الناحية العددية فإن المجموعة الأكثر تأثرا بالإضافة إلى النساء هي مجموعة الأطفال. والواقع أن الفقر ونقص الطعام والمياه غير الصحية مسئولة عن وفيات عدة ملايين من الأطفال كل سنة([148]). وبقدر ما تتقلص الموارد، يكبر حجم الأسرة. وينتج عن هذا أنه لا شك في أن ثلثي سكان العالم الذين يعيشون في حالة الفقر المطلق هم تحت الخامسة عشرة من العمر. وتغدو الآفاق المستقبلية لهؤلاء الشباب أكثر قتامة حتى مما كانت بالنسبة لآبائهم وأمهاتهم([149]). وعلاوة على هذا فإن الفقر هو الذي يدفع الآباء والأمهات في أغلب الحالات إلى إرسال أطفالهم إلى العمل، وفي كثير من الأحيان في أوضاع لا تطاق. وعلى سبيل المثال فإنهم يمتنعون عن إرسالهم إلى المدارس حتى في الحالة الأكثر ملاءمة حيث يكون التعليم متوفرا للجميع مجانا. وتقدر اليونسكو أنه يوجد اليوم 130 مليون طفل في العالم لم يلتحقوا بالمدارس، وتبين تقديرات منظمة العمل الدولية أنه يوجد اليوم 250 مليون من الأطفال العاملين بين الخامسة والرابعة عشرة من العمر، نصفهم في حالة توظيف لوقت كامل. قبول عمل الطفل باسم المقتضيات الاقتصادية المزعومة ـ نفس تلك التي كان يجري استدعاؤها لتبريره في البلدان الصناعية في القرن التاسع عشر ـ أليس هذا تخليا عن هدف التعليم الأساسي للجميع والتعليم مدى الحياة؟ أليس هذا قبولا لإعادة إنتاج الفقر من جيل إلى آخر؟
والواقع أن الفقر كثيرا ما يتم توريثه: إنه يغدو بالتالي ثمرة ماضي الأسرة أو فوارق هيكلية كبرى. غير أنه أيضا نتيجة لدينامية جديدة، دينامية تفاقم عدم المساواة. إننا نشهد على سبيل المثال ظهور أشكال من الفقر لم يسبق لها نظير في البلدان الصناعية والنامية على السواء. وفي آذار/مارس 1999، انطلقت منظمة العمل الدولية من تقديرات أدت الأزمة الآسيوية وفقا لها إلى فقدان 24 مليون وظيفة في شرق آسيا. وبين 1996 و1998، من المحتمل أن البطالة تضاعفت في هونغ كونغ، والصين، والفليبين، وارتفعت إلى ثلاثة أضعاف في إندونيسيا، وكوريا الشمالية، وماليزيا([150]). وهناك خبراء آخرون، منهم سيدني جونز Sidney Jones، بمراقبة حقوق الإنسان، تقلقهم نتائج الأزمة بالنسبة لملايين الآسيويين العاملين خارج بلدانهم الأصلية، وكذلك خطر أن يؤدي تدهور شروط معيشة أولئك الأكثر حرمانا إلى تفاقم في ظاهرة البغاء([151]). وبالفعل، يعيش نصف سكان إندونيسيا والفليبين على حوالي دولارين في اليوم. وقد اهتمت دراسة حديثة للبنك الدولي بنتائج تقلص الدخل والنمو على الفقر في أربعة بلدان: إندونيسيا، والفليبين، وتايلندا، وماليزيا. وبحثت على وجه الخصوص تأثير تقلص بنسبة 10% في الدخل بين 1997 و2000، محددا خط الفقر بدولار واحد للفرد في اليوم بالنسبة لإندونيسيا والفليبين، وبدولارين للفرد في اليوم في تايلندا وماليزيا. وينتج عن هذه الفرضيات البديلة أنه في حالة عدم تغير توزيع الدخل، سوف يتضاعف الفقر في إندونيسيا ويرتفع ويتزايد بنسبة 35% إلى 50% في الفليبين وتايلندا وماليزيا. وفي حالة حدوث تفاقم في عدم المساواة بانخفاض بنسبة 10% في مُعامل جيني Gini coefficient (مؤشر يسمح بقياس مستوى المساواة في توزيع الدخل)، فإن احتمال الفقر سيرتفع إلى ثلاثة أضعاف في إندونيسيا ويتضاعف في تايلندا. وبالمقابل فإنه بتوزيع أكثر مساواة للدخل، في صورة ارتفاع بنسبة 10% في مُعامل جيني، فإن احتمال الفقر سوف يبقى في الواقع دون تغيير في إندونيسيا، والفليبين، وماليزيا، وسوف ينخفض في تايلندا([152]).
ولم تعد الفجوة الاجتماعية الضخمة تفصل بين الشمال والجنوب فقط، بل توجد داخل كل بلد، لأن كثيرا من السمات المميزة لبلدان الجنوب يمكن أن توجد الآن داخل الشمال، كما أن كثيرا من الخصائص المميزة لبلدان الشمال يمكن أن توجد داخل الجنوب. وفي البلدان النامية، نلاحظ في كثير من الحيان ظهور طبقة متوسطة تجني ثمار التنمية حتى عندما يتفاقم في الوقت نفسه وضع أولئك الأكثر فقرا. ووراء المتوسطات الرسمية، تختفي كثرة هائلة من أشكال عدم المساواة في توزيع الدخل. ووفقا لآلان ب. دورننغ Alan B. Durning، من معهد المراقبة العالمية، فإنه "في أغلبية البلدان، يكسب 60% إلى 70% من السكان أقل من المتوسط القومي. وفي الأغلبية الساحقة من البلدان، لا يتلقى خُمْس الأسر الأكثر فقرا حتى نسبة 10% من الدخل القومي، في حين يتلقى الخمس الأكثر غنى النصف عادة. ومنذ 1950، تتسع الفجوة بين الأمم الغنية والفقيرة، بصورة رئيسية لأن الأغنياء ازدادوا غنى. غير أنه منذ 1980، في بلدان نامية كثيرة، بدأ الفقراء أيضا يزدادون فقرا([153]).
وفي البلدان الصناعية يعيش أكثر من 100 مليون شخص في فقر مالي في البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وحدها، والتي يعيش فيها أيضا 37 مليون عاطل وأكثر من 100 مليون متشرد، وهذا رقم مرتفع بصورة فاضحة بالنسبة للبلدان الغنية([154]). ووفقا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، يوجد في لندن 400 ألف شخص تقريبا من المتشردين([155]). وعلى مدى عشرين سنة "ارتفع عدد الوظائف في البلدان الصناعية بنسبة نصف معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي فقط وفشلت في مواكبة زيادة السكان العاملين، مما أدى إلى حرمان الشباب وبصورة خاصة النساء([156]). غير أن مدى انتشار الفقر البشري في البلدان الصناعية ليست له أي علاقة آلية بمستويات الدخل والتوظيف. وعلى سبيل المثال فإن الولايات المتحدة، حيث يتمتع السكان بأعلى نصيب للفرد من الدخل على أساس أسعار تعادل القوة الشرائية في 17 من البلدان الصناعية التي قام برنامج الأمم المتحدة للتنمية بدراستها، وحيث، وفقا للإحصائيات الرسمية، يعاني من البطالة حوالي 5% فقط من السكان العاملين، هي أيضا البلد الذي يعاني من أوسع انتشار للفقر البشري، الذي يشمل 16.5% من السكان. وتُظهر هولندا والمملكة المتحدة، اللتان تتمتعان بنصيب متماثل للفرد من الدخل، مستويين بالغي الاختلاف للفقر: 8.2% و15% على التوالي. وضمن الـ 17 من البلدان الصناعية فإن السويد هي البلد الذي نجد فيه أن الفقر البشري هو الأقل انتشارا، بنسبة 6.8%([157]). ومن الجلي تماما أن مستوى الفقر في البلدان الصناعية يتوقف على مستوى تدخل الدولة، وسياسات إعادة التوزيع، وكذلك على طبيعة وفاعلية التدابير المعتمدة. وفيما يتعلق ببقاء الديمقراطيات الناشئة فإنه يتوقف أيضا على كفاءتها الاقتصادية، ولكن بالأخص على كفاءتها السياسية في الاستجابة لتحدي الفقر.
وللفقر أيضا تأثيره على صداقة البيئة. ووفقا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، فإن "حوالي ثلاثة أرباع أفقر فقراء العالم يعيشون في المناطق الريفية، ويعتمدون على الزراعة كمورد للرزق"([158]). ويعيش أكثر من 500 مليون من الفقراء في مناطق هشة إيكولوجيا. ومن المحتمل أن يزداد هذا الموقف سوءا بقدر تشجيع النمو الديموغرافي على استغلال أكثر كثافة للأراضي، مما يؤدي في كثير من الأحوال إلى انخفاض الغلة، وتتراجع فرص التنمية المتواصلة مع إجبار السكان المحرومين على النضال من أجل تأمين بقائهم في حين يتم تسليم مساحات شاسعة من الأراضي للنشاط الصناعي الجامح الذي لا يفيد السكان المحليين أنفسهم. وكما يشير آلان دورننغ، فإن "الحرمان الاقتصادي والتدهور الإيكولوجي يجتمعان ويشكلان دوامة حلزون هابط تهدد بابتلاع المزيد والمزيد من الضحايا إلى الأبد"([159]).
وأسباب هذا التفشي الجديد للفقر هي، أولا وقبل كل شيء، اقتصادية: المديونية الخارجية المتزايدة؛ برامج التكيف الهيكلي غير الملائمة؛ والانتقالات الاقتصادية التي يجري تنفيذها بأساليب فظة والتي تقوم على فرضيات خاطئة؛ وعدم المساواة في الثروات بين المدن والأرياف؛ والعجز عن إقامة نظم منخفضة للضرائب؛ وعدم مراقبة التدفقات الرأسمالية على النطاق العالمي، إلخ. وفي كثير من الأحيان تتفاقم هذه التغيرات بالنمو السكاني السريع. كما أن العولمة التي تنشأ، كما يقول جان پول فيتوسِّي Jean-Paul Fitoussi، نتيجة لخيار سياسي "بقدر ما يكون رفض تنظيمها خيارا سياسيا، ليست بعيدة عن زيادة الفقر وعدم المساواة. والواقع أن العولمة المالية تفاقم الفوارق الهيكلية لأنها تفضي إلى تقسيم جديد بين الأرباح والأجور في غير صالح الأجور، في البلدان الصناعية على الأقل. وفي الوقت نفسه، تفاقم عولمة الأسواق الفوارق الدينامية للأجور والتوظيف، مما يوسع الفجوة بين العمال المهرة والعمال غير المهرة([160]). ووفقا لدانييل كوهن، فإن انفجار عدم المساواة تفسره أيضا نتائج الثورة الصناعية الثالثة، التي ترتبط بنمو وازدهار علم المعالجة الآلية للمعلومات وتقنيات الإنتاج الجديدة. ويفضي هذا إلى ازدهار منطق "التقسيمات التمييزية الانتقائية" appariements sélectifs، أي إلى انفجار عدم المساواة داخل كل شريحة عمرية وكل فئة اجتماعية مهنية. ومن هنا فإن الفوارق الصغيرة في المؤهلات بين العمال، في عالم العمل، تعبر عن نفسها من الآن فصاعدا في تفاوتات هائلة في الأجور والناتج. وينتج عن هذا تقسيم تمييزى للعمال وفقا لمستوى مهاراتهم، وفجوة ماثلة بين النخبة وبقية كاسبي الأجر. كما أن هذه التفاوتات في الأجور والإنتاجية ملحوظة أيضا بين البلدان ذات المستويات المختلفة من التأهيل([161]).
ونتيجة لمجموع من العوامل نشهد، وفقا لتعبير فيليپ إنجلهارت Philippe Engelhard، "انفصالا سافرا بصورة متزايدة بين النمو وتحسين الرفاهية الاجتماعية". ولكن، كما يتساءل هذا الخبير نفسه "هل هناك أيّ معنى لنمو لا يعني غالبية السكان"([162])؟ على أن الفكرة القائلة بأن النمو غير متكافئ بالضرورة فكرة خاطئة تماما: في جمهورية كوريا، على سبيل المثال، تحقق النمو بصورة مساواتية نسبيا، كما حققت ماليزيا إنجازات كبيرة في هذا المجال: في 1993، كان 14% فقط من سكانها فقراء، مقابل 60% في 1970([163]). وفي الصين، هبط معدل الفقر من 66% إلى 22%([164]). وكما يلاحظ فيليب إنجلهارت فإن المسألة التي تطرح نفسها في الحقيقة "ليست معرفة ما إذا كان النمو غير متكافئ بقدر ما هي ما إذا كان يتيح للأكثر فقرا تحسين وضعهم".
 
 
أطفال الشوارع
"في هذا العالم الصغير الذي يعيش فيه الأطفال حياتهم ... لا شيء يمكن إدراكه بدقة أكثر ولا الإحساس به بعمق أكثر من الظلم".
تشارلز ديكنز ("آمال كبيرة"، 1861)
منذ وقت مبكر مثل 1986، قدر اليونيسيف أن أكثر من ثلاثين مليون طفل يعيشون في الشوارع. ويرتفع عددهم كل يوم، بسبب الهجرة من الريف، والنمو الوحشي للمدن، وتفكك الهياكل الأسرية التقليدية وتفشي الأشكال المطلقة للفقر. وتؤكد أحدث تقديرات اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية وجود 100 مليون من أطفال الشوارع، منهم 40 مليونا في أمريكا اللاتينية، ومن 25 إلى 30 مليونا في آسيا، و10 ملايين في أفريقيا. وعلى العكس من فكرة سائدة فإن أطفال الشوارع ليسوا بالضرورة أيتاما أو هاربين من منازل أسرهم. فبعضهم لهم آباء و/أو أمهات ومسكن، غير أنه لا مناص في كثير من الأحيان من أن تقيم أسر المهاجرين في مدن الصفيح حيث مساحة المسكن محدودة بصورة خاصة. ويجد الأطفال أنفسهم في الشارع، مطاردين بالبؤس، أو المعاملات السيئة، أو سوء المعاملة الجنسية، أو يلقيهم آباؤهم و/أو أمهاتهم على الأرصفة للتسول.
وتمثل معاناة أطفال الشوارع أحد التجليات الأكثر فظاعة وظلما للفقر والحرمان. فأطفال الشوارع هم الضحايا المجهولو الأسماء للامبالاة المعممة، وهم مرغمون أن يعيشوا محرومين من كل أمن، وفي كثير من الأحيان في اشد أحوال العوز، وبدون إمكانية للالتحاق بالمدرسة أو بعالم العمل. وفي كثير جدا من الأحيان، يتجهون إلى المخدرات، وبصورة خاصة إلى استنشاق المذيبات المسببة للهلوسة مثل الغراء، بآثاره المرضية الخطيرة جدا على آليات المخ. ويسهم إدمان المخدرات في المزيد من تهميشهم ويمثل خطرا بالغا على صحتهم خاصة وأنه ليس لديهم أي قدرة على الحصول على الخدمات الصحية. ويكون عليهم أن يواجهوا مخاطر جسيمة: سوق البغاء، عصابات المخدرات، وتجعلهم المنظمات الإجرامية ضحاياها المفضلين أو تستخدمهم كأدوات. ويمكن أن ينتهي بهم الأمر إلى الإعدام على أيدي قتلة مأجورين أو على أيدي "فرق الموت"، الذين تدفع لهم عادة جمعيات غير رسمية لتجار أو رجال أعمال، يسعون إلى "التنظيف اجتماعيا" لوسط المدينة وأحياء الأعمال أو التسويق. وتفرض نفسها إجراءات لحل مشكلة أطفال الشوارع، لأنه بدون ذلك ـ كما تشدد سوزانا أجنيللي Susanna Agnelli في التقرير الموجه إلى اللجنة المستقلة بشأن المسائل الإنسانية الدولية، فإن "عددهم سوف يرتفع بالتناسب مع نمو المدن الكبرى، وإحباطهم وما يولده من عنف بالتناسب مع عوزهم الشديد".
وعلى الحكومات، لكي توسع نطاق عملها إلى الحد الأقصى، أن تبذل قصارى جهدها من أجل
التطبيق الملموس لأحكام الاتفاقية الخاصة بشئون الطفل، التي تم التوقيع عليها في تشرين الثاني/نوفمبر 1989 وتم التصديق عليها في أيلول/سبتمبر 1990، ومن اجل علاقات بناءة بصورة أكبر لهذا الغرض مع القطاع الخاص ومع القطاع الذى لا يهدف إلى الربح، خاصة المنظمات غير الحكومية. ويجب أن تحقق المدارس الابتدائية المزيد من الاندماج في المجتمع المحلي، وينبغي تقديم المزيد من التشجيع للاتصالات بين أولياء الأمور والمدرسين، وأن يتم، بصورة أفضل، إدراك دورها في نمو الطفل وحفز أولياء الأمور. وينبغي العمل ليس بدافع الإحسان أو بالدافع الوحيد المتمثل في المساعدة الإنسانية، إذ أنه لا يمكن أن يشكلا سوى معيارين عابرين، بل عن طريق قرارات سياسية ومعايير ملموسة في الموازنات (0.05% من الناتج المحلي الإجمالي خلال ست سنوات على سبيل المثال)، بدعم من البرلمانات والنقابات والجمعيات. وعلينا أن نعمل جميعا معا من أجل التغلب على هذا العار الجماعي.
والحقيقة أن التدريب المهني لكل الأشخاص ـ العاملين الاجتماعيين، الأطباء، الممرضات، الموظفين، رجال الشرطة، إلخ ـ الذين من المحتمل أن يدخلوا في صلة مع أطفال الشوارع، يجب أن يتضمن إلماما بهذه المشكلة. كما أن أطفال الشوارع يجب أن تتكفل بهم جمعيات وروابط الأحياء، والمنظمات غير الحكومية، والمؤسسات المختصة، مع الدعم المالي للحكومات والجهات المانحة الدولية. ويجب أن تتضاعف الأطر التي تتيح لهؤلاء الأطفال الخلاص من بؤسهم. كما يجب أيضا أن تكون هذه الأطر مصممة بذكاء: ينبغي أن نتفادى بقدر الإمكان الأطر المغلقة من نوع المدرسة الداخلية أو "الإصلاحية" التي من خلال تحويلها أطفال الشوارع إلى "منبوذين" ـ تجعل من الصعب جدا إعادة دمجهم بعد أن يكبروا. وكما أوضح فرانكلين روزفلت Franklin Roosevelt، في خطابه في فيلادلفيا في 20 أيلول/سبتمبر 1940، "ليس بوسعنا دائما أن نُعِدّ المستقبل لأطفالنا، غير أن بوسعنا دائما أن نُعِدّ أطفالنا لمستقبلهم".
المصادر:
Dans la rue avec les enfants, Programmes pour la réinsertion des enfants de la rue, UNESCO/BICE, 1995. A one-way street ? Report on phase I ofthe street children project, Programme on substance abuse, WHO, 1993. Convention relative aux droits de l enfant, UNICEF, 1989. Les enfants de la rue, Rapport à la Commission indépendante sur les questions humanitaires internationales, 1986. International Herald Tribune, 23/5/95. Rapport mondial sur le développement humain, PNUD, 1993.
القياس الصحيح للفقر
وفقا للاقتصادي الهندي أمارتيا سين، الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد لعام 1998، يجب أن نميز بوضوح بين الفقر المطلق، الذي لا يستطيع الفرد تحت مستواه أن يصل إلى توفير حاجاته الأساسية، والفقر النسبي، الذي يتحدد بعدم المساواة الاجتماعية والإحساس بامتلاك موارد مادية أقل بالمقارنة مع الآخرين. وعندما تصير البلدان أكثر غنى فإنها تتصور بطريقة مختلفة مستوى الحد الأدني المقبول للاستهلاك، وهو ما يحدد خط الفقر. ويرى أمارتيا سين أيضا أن قابلية الفرد للتأثر ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار: إن الفقر مرتبط بدرجة المعاناة المعنوية الذي يسببها([165]). وبالتالي فإن قياس عدم المساواة والفقر يعتمد على اختيار متغيرات متنوعة جدا وبالغة الذاتية أحيانا، سواء من حيث الدخل أو الثروة أو حتى السعادة. ويتمثل التحدي الحقيقي فيما يتعلق بالفقر في زيادة قدرة الأفراد على الاختيار وبالتالي حريتهم([166]).
ويفسر تحليل أمارتيا سين الصعوبة البالغة في التوصل إلى تقدير يعتمد عليه للفقر. وفي الوقت الحالي، يجري استخدام ثلاثة معايير أساسية لقياس الفقر: مدى انتشار الفقر، وهو الذي يقدر نسبة الأسر الفقيرة أو الأفراد الفقراء إلى العدد الكلي للأسر أو الأفراد؛ ومدى عمق الفقر، وهو الذي يقيس متوسط تفاوت الدخل لكل فقير بالمقارنة مع خط الفقر؛ وعدم المساواة في الفقر، وهو الذي يميز مختلف درجات الفقر ويقترح إن جاز القول مقياسا للفقر([167]).
غير أن مشكلة مدى دقة هذه المعايير وما إذا كان من الممكن إجراء مقارنات موثوقة على نطاق عالمي تظل قائمة. وعلى سبيل المثال، يبين پيير سلاما Pierre Salama وجاك ڤالييه Jacques Vallier أن إحصائيات الدخل لا تأخذ في اعتبارها بصورة كافية الاستهلاك الذاتي والتضامن الإثني، وهما مهمان بصورة خاصة في البلدان الأقل نموا، ويؤدي هذا إلى المبالغة في تقييم الفقر في هذه البلدان. ولهذا فإن استعمال بيانات ملائمة بقدر الإمكان يغدو أساسيا لمعرفة واستيعاب الحقائق الجديدة للفقر. والأمم المتحدة مدركة لهذه المشكلة: يشدد التعهد 2 لقمة كوبنهاغن للتنمية الاجتماعية الذي يتعلق بالقضاء على الفقر، على حاجة كل بلد ليس فقط إلى الإعداد على المستوى القومي لطرق ومؤشرات لقياس كل صور الفقر (وعلى وجه الخصوص الفقر المطلق)، بل أيضا إلى تقييم ومتابعة وضع السكان الذين يعيشون في حالة من عدم الاستقرار([168]).
وعلى كل حال فقد شدد مورجينشتيرن Morgenstern، بكل حق، على أن درجة دقة بعض المؤشرات كانت في كثير من الأحيان غير متناسبة مع المعلومات التي نحتاج إليها بالفعل من أجل التنبؤ والعمل([169]). على أن الأهم من قياس الفقر هو قياس القدرة على القضاء على الفقر. وكما يتساءل فيليب إنجلهارت: "هل يمكن أن يكون قياس كمي للقدرة على إعادة دمج السكان المهمشين أو المحرومين أن يكون معيارا حقيقيا للأداء"([170])؟ حقا ما أهمية أن ينمو الناتج القومي الإجمالي بمعدل 2% أو 3% أو 5% إذا كان لا يستفيد من هذا النمو سوى أقلية ضئيلة من السكان، كما يحدث اليوم في بلدان عديدة؟
مبادرات للنضال
ضد الفقر
إذا كان من الصعب قياس الفقر فلا يجب أن يمنع هذا من التنفيذ الفوري لإستراتيجيات رامية إلى القضاء عليه وإلى تخفيف معاناة المحرومين. ووفقا للبنك الدولي، لم يتجاوز نقل الموارد الضرورية لإزالة الفقر في العالم 3% من الاستهلاك الكلي للبلدان النامية في 1985، في حين أن نسبة 1% كانت تكفي لإزالة الفقر الشديد([171]). وفي فترة أحدث قدر برنامج الأمم المتحدة للتنمية أن استثمارا سنويا قدره 40 مليار دولار بين 1995 و2005، أيْ أقل من 0.2% من الدخل العالمي، سيكون كافيا لتمكين كل السكان في البلدان النامية من الوصول إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية ـ الصحة، المياه، التعليم الابتدائي([172]). فهل يتجاوز هذا الاستثمار طاقتنا، في حين أننا نعلم أن استهلاك السجائر في أوروبا وحدها يمتص 50 مليار دولار كل سنة([173])، وأن الأمريكيين ينفقون كل سنة 5 مليار دولار على منتجات النظام الغذائي الخاص بتقليل ما يستهلكون من سعرات حرارية، في حين "يعاني 400 مليون من البشر من سوء التغذية إلى درجة تؤدي إلى تدهور للبدن والروح"([174]). وكما يشدد والى نداو Wally N Dow، الأمين العام لقمة المدينة (الموئل 2)، فإن "الموارد متوافرة للإمداد بمأوى، ومياه نظيفة، وتجهيزات صحية أساسية، بتكلفة تقل عن 100 دولار للفرد لكل رجل، وامرأة، وطفل، على ظهر الكوكب". ويمثل هذا الإنفاق ما يتراوح بين 130 و150 مليار دولار، بالنسبة للفقراء الذين شملتهم الإحصائيات الدولية وحدهم. ولنتذكر، على سبيل المقارنة، أن الإنفاق العسكري يمثل، وفقا للتقديرات، من 690 إلى 800 مليار دولار في السنة على المستوى العالمي. لقد انتهت الحرب الباردة ومع ذلك فإننا ما نزال نواصل الاستثمار بكثافة في التسليح بدلا من الاستثمار بطريقة وقائية في بناء السلام.
لقد ظل القضاء على الفقر مطروحا على جدول الأعمال على مدى أكثر من 150 سنة! فهل يجب أن ننتظر من جديد قرنا ونصف قبل أن نقضي عليه؟ على أن الحلول موجودة، وتبين مبادرات واقعية الطريق الذي ينبغي السير فيه. ويؤكد تقرير ماريز غودييه Maryse Gaudier، بمنظمة العمل الدولية، أن "بلدانا كثيرة قامت، بمساعدة المؤسسات الدولية الكبرى، بإعداد برامج تعويضية بهدف مساعدة الفقراء وحماية المجموعات المعرضة للخطر. ومن جهة أخرى، ففي بعض البلدان النامية، وخاصة في أمريكا اللاتينية، بدأت استثمارات بهدف التوفيق بين الأمن الاجتماعي واحتياجات مجموعات السكان الأكثر تأثرا بنتائج الأزمة الاقتصادية والتكيف. وقامت بلدان متباينة مثل بنغلاديش، والهند، وليسوتو، وتشيلي، بطرح برامج للتوظيف العاجل بهدف تأمين انتقال للدخل إلى الأسر التي تعاني من الفقر المطلق. وفي البلدان الصناعية، تم اتخاذ تدابير النضال ضد الفقر، بصورة أساسية في شكل برامج خاصة لضمان موارد ومشروعات بهدف الدمج المهني والاجتماعي. وأمام عدم كفاية هذه السياسات، شهدنا أيضا مضاعفة المبادرات الخاصة ذات النظم الطوعية التي لا تهدف إلى الربح، كما هو الحال في البلدان النامية"([175]).
كما يلعب الحصول على الائتمان دورا أساسيا في دمج أولئك الذين جرى حرمانهم من نظم التمويل التقليدية في الحياة الاقتصادية، وتمكينهم من لعب دور فعال في تنفيذ سياسات التنمية. وقد شدد المجلس التنفيذي لليونسكو على الحاجة إلى إقامة مؤسسات تيسر لأفقر فئات سكان العالم الحصول على الائتمان، وإيلاء اهتمام خاص لحاجات النساء والمجموعات المحرومة. والمثل الأوسع شهرة لمثل هذه المؤسسة هو بنك غرامين Grameen Bank في بنغلاديش، وقد أسسه محمد يونس في 1983. واليوم تقوم هذه المؤسسة البنكية التي تتخصص في الائتمان الصغير، بإقراض أكثر من مليونين من سكان الريف، 94% منهم للنساء، بمعدل سداد للقروض يزيد على 98%([176]). وقد شدد محمد يونس على أن بنك جرامين لم يتلق أية مساعدة دولية في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وأنه يغطي كل تكلفة التشغيل من موارده الخاصة، وأنه يوظف 000 13 شخص. وفي قمة بكين، 1995، قامت اليونسكو وبنك جرامين بتوقيع مذكرة تفاهم تدعو اليونسكو إلى أن تقدم لعملاء هذا البنك برنامجا تعليميا دائما يتركز على أنشطة الحياة اليومية، وتعليم القراءة والكتابة، والصحة. وهناك مبادرة مثيرة أخرى قامت بها شركة الاستثمار والتنمية الدولية في فرنسا، وقد أنشئت أيضا في 1983. وتدار هذه الشركة كصندوق استثمار مشترك يتنازل فيه حملة الأسهم عن أيّ دخل يتجاوز معدل التضخم، حيث يعاد استثمار فائض القيمة للمساعدة على إنشاء مشروعات في البلدان الفقيرة([177]).
والحقيقة أن كل إستراتيجية طويلة الأجل للنضال ضد الفقر يجب أن تقوم على دعامة أساسية: التعليم. إذ أن الغالبية الساحقة من الفقراء محرومون من الحصول على المعلومات والمعارف التي يمكن أن تساعدهم على الخلاص من وضعهم. ويعني النضال ضد الفقر السيطرة على تقديم اختيارات للأفراد، يعني منح كل مواطن فرصة السيطرة على مصيره، يعني منح كل امرأة وكل رجل إمكانية المشاركة بنشاط في الحياة العامة المحلية والقومية. ومن هذا المنظور، تمثل زيادة قيمة الموارد البشرية وتكييف نظم التعليم والتدريب أولويات لكل برنامج للنضال ضد الفقر([178]). كما أن كل هذا يجعل من الضروري اتباع نهج جديد لتعليم الكبار، نهج يستند بصورة خاصة إلى الاحتمالات الجديدة للتوظيف في مجالات متنوعة مثل حماية البيئة، أو تنمية الطاقات المتجددة، أو إدارة المياه والموارد الطبيعية، أو السياحة البيئية الثقافية والطبيعية، أو أيضا الاتصالات وشبكات التليفزيون، مع ازدهار البرامج باللغات المحلية. وكما يشدد أحدث تقرير للحكومة البريطانية بشأن القضاء على الفقر، فإن لدى الفقراء وسائل تتمثل سواء في مهاراتهم، أو مؤسساتهم الاجتماعية، أو ثقافتهم، أو المعرفة التي يملكونها عن بيئتهم([179]). والتحدي الذي يواجهنا هو العمل بطريقة تكفل لهذه الوسائل الاعتراف وزيادة القيمة.
ويجب أن تعتمد الدول، قبل كل شيء، على قواها الخاصة، ومن الأساسي، من هذا المنظور، أن تعدّل البلدان أولوياتها بنفسها. وبمستطاعها أن تكسب كل شيء بتمويل التعليم بنفسها كلما كانت قادرة على هذا بدلا من اللجوء إلى قروض تكلفها غاليا جدا في الأجل الطويل. وكانت الهند، التي يعيش فيها أكثر من ثلث الأميين في العالم، قد تعهدت في 1933 بزيادة النصيب المخصص للتعليم من ناتجها المحلي الإجمالي إلى 6% في 2000-2005. والنتائج التي تحققت إلى الآن ممتازة: فقد ارتفع من حوالي 1.9% إلى أكثر من 3.5%. وعلاوة على هذا، قامت الهند بمحو أمية 64 مليون من الكبار بين 1989 و1997. وفي بنغلاديش، ارتفع معدل الالتحاق بالتعليم الابتدائي بين 1990 و1996 من 60% إلى 78%، في حين انخفض معدل التسرب من التعليم المدرسي من 60% في 1990 إلى 37% في 1996. ويجب أن يتيح التعليم الثانوي التأثير في عامل آخر يرتبط ارتباطا وثيقا بالفقر: الزيادة الديموغرافية. ووفقا للبنك الدولي، فإن الأمهات اللائي لم يلتحقن قط بالمدرسة لديهن في المتوسط 6.5 أطفال، مقابل 2.5 بين أولئك اللائي واصلن التعليم الثانوي([180]). والحقيقة أن التعليم هو أفضل وسيلة لتنظيم المواليد والمباعدة بين الولادات. ومن أجل السيطرة على الزيادة الديموغرافية، ينبغي فتح مدارس، ومعاهد وجامعات: هذه هي، وبصورة أضمن بما لا يقاس، افضل "موانع الحمل".
وفي سبيل النضال ضد الفقر، ينبغي إذن توسيع نطاق الخيارات وليس فرضها بالإكراه. ويتمثل التحدي الحقيقي في تدريب السكان الفقراء دون توجيههم نحو الأعمال القليلة الشأن أو الحرف المهددة بالانقراض. ولهذا ينبغي إجراء إصلاح حقيقي للتعليم يتمحور حول النوعية والكفاءة: سيكون على مدارس المستقبل أن تقوم بتعليم التعلم وتعليم المشاركة. ومن أجل الانتقال إلى مجتمع المعرفة وإلى المعرفة للجميع، يجب أن نضمن لمجموعات السكان الأكثر حرمانا فرص الوصول إلى التعليم العالي، وفقا لجدارتهم كما تنص المادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد شدد جاك ديلور Jacques Delors على هذه النقطة عندما قال: "المجتمع غير القادر على أن يضمن للجميع الوصول المتساوي إلى وظائفه الأساسية، وبصورة خاصة إلى التوظيف أو النشاط، إنما هو مجتمع يفقد تماسكه"([181]).
ولهذا تلعب اليونسكو، من خلال عملها في المجال التعليمي، دورا لا يمكن إنكاره في النضال ضد الفقر. فهي تتصدى للمشكلة على جبهتين: جبهة التعليم الأساسي، وهو دور لا غنى عنه إذا أريد لكل فرد أن يكون قادرا على الاندماج في المجتمع والتقدم فيه؛ وجبهة التعليم الدائم للجميع الذي يتمثل الهدف منه ليس فقط في إعداد أفراد لتطورات الاقتصاد، بل يتمثل قبل كل شيء في أن يُضمن للجميع فرصة اكتساب المؤهلات التي لا غنى عنها للحصول على مكان في المجتمع. ويتمثل هدف اليونسكو أيضا في مساعدة كل فرد، عن طريق التعليم، على تحقيق ذاته، لأنه بدون احترام وتقدير النفس، لا يمكن النجاح في تحقيق أي شيء. ولن يكون بمقدورنا أن نتعلم أن نعيش معا إلا إذا أدركنا أننا جميعا متساوون، وتوحدنا مجموعة من القيم المشتركة، وإن كنا مختلفين تماما في الوقت نفسه. وفي هذا السياق، تدعم اليونسكو تكامل الأقليات الثقافية، التي تكون في كثير من الأحيان أول ضحايا الفقر.
وباختصار، لا تتمثل المشكلة اليوم في تخفيف حدة الفقر الذي أحدثته دينامية للنمو غير المتكافئ من خلال تدابير غير فعالة للطوارئ أو المساعدة، بل تتمثل بالأحرى في "جعل النضال ضد الفقر رافعة من روافع النمو، بالمراهنة على عمل طويل الأجل"([182]). ومن المؤسف أنه لا مناص من التسليم بأن مجتمعاتنا تعاني من عدم مبالاة تجاه المستقبل ومن قصر نظر زمني، وهما أمران في غاية الخطورة. فنحن نواصل توظيف استثمارات مفرطة في الأسلحة، ومغامرات في الفضاء، وفي سلع مادية غير ضرورية، في حين أننا ينبغي أن نستثمر في أبحاث الأمصال ضد الأمراض، وفي النضال ضد الإيدز والبريون prions، وفي البرامج الخاصة بأطفال الشوارع، وفي المحافظة على البيئة. إن المسئولية التي تقع على عاتقنا مفزعة وإذا ظللنا سلبيين إزاء النتائج المنطقية للفقر فإن أطفالنا وأحفادنا هم الذين سوف يلوموننا على إحجامنا عن أن نتخذ في الوقت المناسب التدابير التي فرضت نفسها.
وينبغي بالتالي أن نعمل على الفور، متخذين قرارات سياسية جريئة. وللقيام بهذا، ينبغي تعزيز الثقة بدلا من تدميرها: إذ أنه لن تحدث تنمية متواصلة بدون ثقة، وبالتالي بدون درجة من التماسك الاجتماعي، الذي يعطي "معنى" بالسماح لنا بإثبات أنفسنا إزاء الآخرين وإزاء العالم. ويجب أن ندرك أن الفقر، والعنف، وعدم الاستقرار، عمليات تعمق بعضها البعض بصورة متبادلة وأن القضاء على الفقر يشكل تحديا رئيسيا أمام مستقبل الديمقراطية، الذي يتوقف على مشاركة كل المواطنين، بلا استثناء.
دور المجتمع الدولي
على أن المساعدة الآتية من البلدان الغنية يجب أن تذهب في المقام الأول إلى مشروعات تعدها البلدان المستفيدة بنفسها. ويجب أن يبدي المجتمع الدولي تضامنه، خاصة بإعادة النظر في مشكلة سداد ديون البلدان الأكثر فقرا. وبالفعل، تشير دراسة أجراها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى أنه فيما بين 2005 و2014، إذا لم يتم عمل شيء، ستمثل خدمة الديون المتعددة الأطراف وحدها أكثر من 10% من صادرات 23 من البلدان الفقيرة؛ وبالنسبة لسبعة بلدان فقيرة أخرى سيتجاوز المعدل 20%([183]). ولم يعد من الممكن قبول رؤية حد أدنى للتعاون الدولي. وقد آن الأوان لأن نتحلى بشجاعة أن نخفض بصورة جذرية وبلا إبطاء، خاصة في البلدان الأقل نموا وفي أفريقيا، عبء الديون، ثنائية كانت أو متعددة الأطراف.
وبهذا الصدد، تسعدني الجهود المبذولة بالفعل في إطار مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون الرامية إلى إسقاط ما يصل إلى 80% من الدين العام لواحد وأربعين من البلدان الفقيرة المثقلة بشدة بالديون. وفي نيسان/إبريل 1999، استفادت من هذه المبادرة سبعة بلدان هي: بوليڤيا، وبوركينا فاسو، وكوت ديڤوار، وغويانا، ومالي، وموزمبيق، وأوغندا. وفي وقت أحدث، في حزيران/يونيه 1999، قررت بلدان مجموعة السبعة، في إطار مبادرة كولونيا، إسقاط حوالي 70 مليار دولار أخرى من ديون البلدان الأكثر فقرا، وتتطلع هذه المبادرة بصورة خاصة إلى زيادة عدد البلدان المستحقة لخفض ديونها من تسعة وعشرين بلدا في الوقت الراهن إلى ستة وثلاثين بلدا. وإلى خفض عدد السنوات التي سيكون على هذه البلدان المستحقة أن تلتزم خلالها بسياسات التكيف الاقتصادي إلى النصف، أيْ من ست سنوات إلى ثلاث سنوات. وعلاوة على هذا، سوف يتعين استخدام أية أرباح مرتبطة بخفض الديون في تمويل نفقات التعليم والصحة. وبوجه عام فإن مجموعة تدابير تخفيف الديون يجب أن تسمح بخفض القيمة الاسمية لديون البلدان الأكثر فقرا، وهي تبلغ اليوم 230 مليار دولار، بمبلغ 139 مليار دولار([184]). غير أنه ينبغي المضي إلى أبعد من هذا، وبسرعة أكبر. وإلا فإنه لا يمكن استبعاد الخطر المتمثل في أن فقراء العالم، الذين لا يتعمقون في دقائق أو منطق التمويل الدولي أو برامج التكيف الهيكلي، والذين لم يكونوا مدعوين إلى جلسات التبرير واحتفالات الحسرة التي تم تنظيمها مؤخرا بهذا الصدد، يمكن أن يفقدوا الصبر ذات يوم. وحتى في حالة حدوث تغير في الإرادة السياسية والنظرة إلى العمل على المستوى الدولي فإنه يتضح في كثير من الأحيان أن الإجراءات المتخذة غير ملائمة لا لإيقاع حياة السكان ـ خاصة السكان الذين يواجهون البؤس ـ ولا لاعتبارات ذات طابع أخلاقي. وكما شدد قداسة البابا يوحنا پول الثاني، في رسالته بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للسلام، كانون الثاني/يناير 1999، "هناك حاجة إلى بذل جهد سريع وقوي لكي يتاح لأكبر عدد ممكن من البلدان، ونحن نتطلع إلى عام 2000، الخروج من وضع صار لا يطاق".
ويشكل عبء الديون عقبة كبرى في طريق كل جهد يرمي إلى القضاء على الفقر، خاصة وأن البلدان الفقيرة، الأكثر هشاشة والأقل قدرة على السداد، تدفع على قروضها أسعار فائدة أعلى بوضوح من أسعار الفائدة التي تدفعها البلدان الصناعية([185]). وفي 1992، دفعت البلدان النامية لدائنيها ضعف المبلغ الذي تلقته كمساعدة رسمية للتنمية أكثر من مرتين ونصف. واليوم، وصلت المساعدة الرسمية للتنمية من البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أدنى مستوى لها خلال ربع قرن: 0.22% من الناتج القومي الإجمالي([186])، في حين أن هدف الحد الأدنى الذي وافقت عليه دول العالم بأسره في إطار الأمم المتحدة مرارا وتكرارا هو 0.7%. أليس هناك شيء ما يصدمنا في واقع أن يكون المجتمع المالي الدولي قادرا على تعبئة 190 مليار دولار وعلى دفع 63 مليار دولار بين آب/أغسطس 1997 وكانون الأول/ديسمبر 1998، من اجل برامج إنقاذ ترمي إلى حماية مصالح الدائنين في البرازيل، وإندونيسيا، وجمهورية كوريا، وتايلندا، في حين أن مجموع المساعدة الرسمية للتنمية على مستوى العالم بلغ 32.7 مليار دولار بالنسبة لسنة 1998([187])؟ وعلاوة على هذا، تعود هذه المساعدة في كثير من الأحيان إلى البلدان المانحة، لأن هذه البلدان هي التي تقدم التجهيزات ومستلزمات البنية الأساسية لمشروعات التنمية. فهل صار ينبغي على الفقر تمويل الغنى؟
وينبغي تأمين إدراج نصوص اجتماعية وتدابير للنضال ضد الفقر في برامج مساعدة التنمية. ومثل هذه التدابير لا تشكل فقط آليات أمان في وقت الأزمة: إنها استثمارات من أجل المستقبل([188]). والواقع أن استمرار الفقر وصور عدم المساواة يمثل ـ وينبغي أن نكرر ـ قيدا ثقيلا على التنمية. وبقدر ما سيكون بوسع السكان الفقراء أن يحصلوا على التعليم، والخدمات الصحية، بقدر ما سيكون بوسعهم أن يقوموا بتحسين كفاءاتهم، يمكننا أن نأمل في أن يتواصل النمو في المستقبل([189]). وبهذا الصدد، يجدر بالذكر واقع أن البنك الدولي صار الآن يأخذ في الاعتبار البعد البشري والاجتماعي للتنمية: أعلن جيمس وولفنسون James Wolfensohn، رئيس هذه المؤسسة مؤخرا أنه "بدون تقدم اجتماعي لا توجد تنمية كافية"([190]). وشدد جيمس وولفنسون في سياق تعليقه على الأزمة المالية التي حلّت بآسيا ـ والتي ترجع في جانب كبير منها إلى دوامة يمكن تلخيصها على هذا النحو: "أنا أُقرض، وأنا أُقدّم، وأنا أُنجز، وأنت تستدين"، دون أي تحسين حقيقي للشروط الاقتصادية الجزئية ـ على أهمية أن تقوم البلدان المعنية بتحسين أداء مؤسساتها (على مستوى الحكومة وكذلك على مستوى القطاع الخاص)، وأن تعمل بنظم للحماية الاجتماعية لمن يعيشون في حالة فقر، وأن تواصل تمويل التعليم الأساسي والقطاعات الاجتماعية في موازنات قومية توشك على العودة إلى الهبوط([191]). وهذا شيء أوصت به منظمة اليونسكو دائما، خاصة في مؤتمرها العام في 1993. وعلاوة على هذا فإنه يجب التفكير بجدية في اعتماد تدابير تتيح للبلدان المدينة أن تستبدل بجانب من مدفوعات سداد دينها العام استثمارات بنفس القيمة في التعليم الأساسي (مقايضة الدين ـ التعليم debt-education swaps).
وفي القمة العالمية بشأن التنمية الاجتماعية (كوبنهاغن، 1995)، تعهدت حكومات العالم ليس فقط بإقلال الفقر بل بالقضاء عليه. فلنتذكر ألفاظ هذا الوعد المهيب: "إننا نتعهد بمواصلة القضاء على الفقر في العالم، من خلال القيام، بعزم لا يلين، بأعمال قومية وتعاون دولي، كواجب أخلاقي واجتماعي وسياسي واقتصادي من أجل البشرية". وهذا التعهد، يجب أن نحترمه ونفي به من خلال تدابير ملموسة تستند إلى رؤية وأهداف طويلة الأجل. والحقيقة أن التدابير الوقتية المعتمدة أثناء الطوارئ ليس لها، حتى إذا كانت ضرورية في كثير من الأحيان، سوى تأثير محدود على الفقر، إن لم تفاقمه في الأجل المتوسط أو الطويل. وإذا كانت المعالجة الإنسانية والخيرية تخفف المعاناة بصورة مؤقتة فإن التنمية التي تقوم على التضامن يمكنها وحدها أن تقضي على الفقر في الأجل الطويل: إن الرخاء المشترك للبشرية يستند إلى العدالة.
فماذا نريد حقا أن ننقل إلى أطفالنا: الفقر المزمن أم الأمل في مستقبل أفضل؟ بؤس مدن الصفيح، فضيحة أطفال الشوارع، استغلال الإنسان للإنسان ـ كل هذه الأشياء إنما تمثل مسئولية جماعية يجب أن يدركها بصورة خاصة: الأغنياء، الذين هم ضحايا شرخ ذهني جعلهم يعتادون على قبول غير المقبول وعلى أن يروا في الفقر ظاهرة غير قابلة للعلاج. ولن تكون التنمية مستديمة إلا بشرط تقاسُمها.
منطلقات وتوصيات
3   تحسين واستكمال التدابير السياسية والتشريعية والإدارية التي تتيح النضال ضد الفقر، على المستوى القومي والإقليمي والدولي على السواء.
3   حماية فئات السكان الأكثر تأثرا عن طريق زيادة الجزء المخصص من الموازنات القومية للتعليم والاستثمارات الاجتماعية الأخرى.
3         تأمين التدريب المتفق مع احتياجات المجتمع للشباب والأشخاص العاطلين عن العمل.
3         إشراك المستفيدين مباشرة في كل إستراتيجية للنضال ضد الفقر.
3   تشجيع ومضاعفة المبادرات لصالح إسقاط الديون بالنسبة للبلدان الأكثر فقرا والأكثر مديونية، وتعزيز صيغ "مقايضة" الديون لمصلحة التنمية البشرية.
3         تشجيع الحصول على الائتمان الصغير بالنسبة للسكان الذين لا يقدرون على الوصول إلى أشكال أخرى للاقتراض.
3   تشجيع البلدان الصناعية على إحداث تغيير جذري فيما يتعلق بالمساعدة الرسمية للتنمية بقلب اتجاهها إلى الانخفاض وباعتبار هدفها من جديد هدف الحد الأدنى المتمثل في نسبة 0.7% التي تم الاتفاق عليها في إطار منظومة الأمم المتحدة، وبتخصيص الجانب الأكبر من هذه المساعدة للتنمية البشرية (التعليم، الصحة، الخدمات الاجتماعية الأساسية).
3   تعبئة 40 مليار دولار في السنة خلال عشر سنوات، وفقا لتوصيات برنامج الأمم المتحدة للتنمية، لتأمين الوصول الشامل إلى الخدمات الأساسية ـ الصحة، والمياه، والتعليم الابتدائي ـ من خلال إعادة تحديد الأولويات المحلية للبلدان وزيادة المساعدة الرسمية للتنمية المخصصة مباشرة للتنمية البشرية.


3
تغيير المدينة يعني تغيير الحياة
 
 
ها هي الأرقام تتحدث بنفسها. إذ تقول التقديرات أنه في عام 2000، سيعيش 75% من سكان البلدان الصناعية (أيْ 0.9 مليار نسمة) في المدينة، مقابل 73% في 1990. وفي البلدان النامية، لا مناص من أن ترتفع نسبة سكان الحضر من 37% إلى 45% في الفترة نفسها، أيْ 2.3 مليار نسمة. ومن الآن وحتى 2025، لا مناص، في حالة عدم تغير الاتجاهات الراهنة، من أن ترتفع هاتان النسبتان في الشمال إلى 84% (1 مليار نسمة) وفي الجنوب إلى 57% (4 مليارات نسمة) ([192]). ومن الآن يتزايد سكان الحضر في العالم أسرع من سكان الريف بنسبة تتضاعف إلى مرتين أو ثلاث مرات.
ويدرك الجميع المدى الهائل للثورة الحضرية الجارية: سيكون علينا، خلال أربعين سنة، تشييد ما يعادل ألف مدينة يعيش في كل مدينة منها ثلاثة ملايين نسمة، أيْ تقريبا نفس عدد المدن المماثلة الموجودة اليوم! والواقع أن هذه الثورة الحضرية، الكمية قبل كل شيء، سوف تؤثر على وجه الخصوص في البلدان النامية([193]). وفي 2025، يمكن أن يصل معدل الحضرنة إلى 85% في أمريكا اللاتينية، و54% في أفريقيا، و55% في آسيا. ووفقا للبنك الدولي فإن مدن البلدان النامية وحدها سوف تزداد، بالمعدل الحالي، 65 مليون نسمة في السنة ـ الأمر الذي ينتهي إلى أن تضاف إلى الكوكب، مدينة بحجم تركيا كل عشر سنوات([194]). ومن المحتمل أنه في 2025 سوف يعيش 80% من السكان المتحولين إلى حضريين في بلدان نامية. وبالإضافة إلى هذا، ينزاح هذا التعملق نحو الجنوب، حيث يعيش ثلثا سكان العالم في المدن العملاقة (الميغابولات) mégapoles متركزين في المناطق الأكثر نموا: في عام 2000، سوف تقع 6 مدن من أضخم عشرة مدن في العالم في آسيا، واثنتان في أمريكا الشمالية، واثنتان في أمريكا اللاتينية. وفي عام 2015، سوف تقع مدينة واحدة من المدن العشر الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم في الشمال (طوكيو)، ولن تقع أي مدينة منها في الغرب. وسيكون علينا إذن حل مشكلات المدينة ضمن إطار مختلف جدا عن إطار الماضي، وهو في الوقت نفسه متمايز للغاية: صارت الزيادة الحضرية منذ الآن هي الأقوى في المناطق الأقل فقرا ـ فلا علاقة لها إذن بتنمية فعالة ـ ولكن أيضا في تلك المناطق التي تشهد النهوض الاقتصادي الأسرع: في هذه الحالة يبدو "الرواج" الحضري في كثير من الأحيان مرادفا للفوضى المنفلتة التي لا يمكن السيطرة عليها. ويبدو جليا بالتالي أنه، إذا تواصلت هذه الاتجاهات، فإن من شأنها أن تشكل ضغطا لا يطاق على الموارد الطبيعية ـ وعلى وجه الخصوص في المياه والطاقة. وفضلا عن ذلك فإنها سوف تهدد بصورة خطيرة تنظيم وإدارة الهياكل الاجتماعية. وعلينا بالتالي أن نطمح جميعا، ضمن تحالف كبير، إلى ما لم تتحقق فيه التوقعات الديموغرافية. ولا يتعلق الأمر بقدرية لا مفر منها، بل ينبغي، للتصدي لها، تسريع إقامة البنية الأساسية التعليمية ورفع نوعية الحياة في البيئتين الحضرية والريفية.
إعادة التفكير في المدينة:
التحدي الجديد في طريق التنمية
 
في غضون العقود المقبلة، سوف تمثل المدينة أحد التحديات الرئيسية للتنمية، حيث أن التنمية ستغدو حضرية بصورة متزايدة. على أن البنية الأساسية الحضرية تدخل في تفاوت عميق مع حاجات السكان: هذا على وجه الخصوص هو حال المياه، والطاقة، ووسائل النقل، خاصة في الجنوب حيث يتركز الجانب الرئيسي من الزيادة الحضرية. وعلاوة على هذا فإنه، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة، يعيش أكثر من 600 مليون من سكان المدن في العالم بدون مسكن ثابت أو يعيشون في أوضاع صحية موبوءة بصورة مشئومة؛ كما أن على 600 مليون شخص آخرين أن يتحملوا أيضا أوضاعا غير مستقرة بصورة مماثلة تماما في الريف، ولا تؤدي هجرتهم إلى المدن في كثير من الأحيان إلا تحويل الفقر الريفي إلى فقر حضري([195]). وفي مدن الجنوب، كان مواطن من أصل أربعة على الأقل، وفقا لإحصائيات البنك الدولي، يعيش في 1996 في حالة فقر؛ وفي عام 2000 ستكون هذه النسبة قد تضاعفت([196])؛ وفي مناطق بعينها مثل أمريكا اللاتينية يتجاوز عدد الفقراء في البيئة الحضرية عدد الفقراء في البيئة الريفية([197]). وليس من قبيل المصادفة أن أحد المؤتمرات الأخيرة للأمم المتحدة في القرن العشرين، والذي انعقد في إسطنبول في حزيران/يونيه 1996، كان عنوانه: قمة المدن (الموئل 2).
وقد شدّد مؤتمر إسطنبول بقوة على عدم ملاءمة الأنماط الاستهلاكية الحضرية، التي تلحق أضرارا لم يسبق لها مثيل بالبيئة الحضرية ولكن أيضا، وبصورة أضخم، بالنظم الإيكولوجية التي تعتمد عليها هذه المدن. وتثبت كل المؤشرات ـ استهلاك الطاقة، إنتاج غازات الدفيئة، طول الطرق المشيدة أو المستخدمة، عدد السيارات، إنتاج الفاقد، التلوث الجوي والكيميائي والإشعاعي، تلوث المياه والأراضي ـ أن فكرة التنمية المستديمة لم تتغلغل بعد في الثقافة الحضرية، خاصة في البلدان الصناعية. والواقع أن المواطن الأمريكي الواحد يضغط على البيئة الطبيعية أكثر من عشرين مواطنا من بنغلاديش. ومن وجهة نظر إيكولوجية، فإن عددا كبيرا من بلدان الشمال تعتبر بوضوح أكثر ازدحاما بالسكان من الهند أو الصين([198]). والحقيقة أن "البصمة الإيكولوجية" للبلدان الغنية لا تتناسب مع وزنها الديموغرافي: سيحتاج الأمر إلى ثلاثة كواكب بحجم كوكب الأرض لإعالة ست مليارات من الكنديين([199]).
ومنذ مؤتمر إسطنبول تقاربت رؤيتان متناقضتان للغاية، رؤية مؤتمر "الموئل 1" في ڤانكوڤر (1976)، الذي رأى في "الموئل" قبل كل شيء "مستوطنة بشرية"، ورؤية قمة ريو للأرض المنعقدة في 1992، والتي أعطت مكان الصدارة في مفهوم "الموئل" للنظام الإيكولوجي([200]). على أن هذا التركيب لم يحدث دون أن يترك إبهاما: هل سنبني في القرن الحادي والعشرين مدنا تقتصر على أن تكون قابلة للسكنى، أم سنبني فيه مدنا قابلة لأن يحيا فيها الجميع([201])؟ وكما يشدد كانديدو منديس Candido Mendes فإن "’الموئل البشري‘ سياسي بقدر ما يرتبط تنوعه الأحيائي الجوهري بالقيم الإنسانية وأنماط الحياة الإنسانية". ويفترض هذا الإدراك اعتماد إستراتيجيات تأخذ في اعتبارها " الدفاع عن التنوع الثقافي، والعلاقة بين المحافظة على البيئة والتنمية، والعلاقة بين الإيكولوجيا والديمقراطية"([202]).
وفيما وراء تعريف المصطلحات ينعقد الرهان الآن على مفهوم جديد للتنمية يوحد النهوج المتباينة التي جرى استكشافها خلال العقد الماضي: "التنمية المستديمة"([203])، و"التنمية البشرية"([204])، و"التنمية الاجتماعية" وهي توسيع للبعد الجماعي للتنمية البشرية([205]). وإذا أردنا أن نبحث مشكلات المدينة في تعقيدها، ينبغي أن نحاول ابتكار شكل للتنمية يشمل ويتجاوز تماما كل الأشكال النوعية للتنمية التي حددها المجتمع الدولي. والحقيقة أن إدماج المدينة في "التنمية المستديمة" يعني النظر إلى المدينة على أنها اتجاه رئيسي، يقتضي سياسات مستقبلية في الأجل الطويل وإحساسا قويا بالتضامن بين الأجيال، غير أنه يعني أيضا الاعتراف بأن المدينة صارت بيئة حياة، بيئة متفاعلة مع البيئة الطبيعية. ويقتضي تعزيز "التنمية البشرية" في المدينة أن نتذكر أن الانتقال من الريف إلى المدينة يمثل، بالنسبة لكثير من السكان المحرومين، نشدانا للكرامة التي لا يجب أن تبقى سرابا. وأخيرا فإن جعل المدينة مكان "التنمية الاجتماعية" يذكرنا بعبارة أرسطو التي تنظر إلى الإنسان على أنه "حيوان سياسي"، أي على أنه أحد سكان المدينة ـ الدولة  polis أو Cité، وبعبارة أخرى على أنه "كائن حضري". أليست المدينة "طبيعية" للإنسان بقدر ما أن الإنسان كائن اجتماعي؟ إن إعادة التفكير في المدينة سوف تعني أيضا جعلها، أو بالأحرى إعادتها، مكانا لبناء المواطنة، والمجتمع، والتهذيب.
وقد أكد مؤتمر إسطنبول ضرورة تحقيق تقارب بين هذه النهوج المتباينة للتنمية، معتبرا أن المدن يجب أن تصير في آن معا "قابلة للسكنى"، وهذا ما يوجب احترام النظم الإيكولوجية التي تعتمد عليها المدينة، و"قابلة للحياة فيها"، وهذا ما يفترض ثقافة مواطنة une culture citoyenne للمدينة، تقوم على التضامن والمشاركة، تحترم كرامة من يقيمون فيها. وكما شدد هنري سيسنيروس Henry Cisneros، وكان عندئذ وزيرا للإسكان والتنمية الحضرية في الحكومة الأمريكية، فإن "مشكلات البيئة صارت بوضوح ذات أهمية حاسمة لمستقبل مجتمعاتنا. واليوم، في الولايات المتحدة، وأيضا في بلدان أخرى، هناك كثيرون ممن يحاولون مثلنا وضع مفهوم ’المجتمعات المستديمة‘، ساعين إلى دمج مشكلات البيئة في مشكلات الإنصاف الاجتماعي والاقتصادي"([206]).
بل سأذهب إلى ما هو أبعد من هذا بكثير: لقد صار التمييز بين الإشكاليات المتباينة للتنمية مفتعلا في جانب كبير منه؛ إذ أننا لا نستطيع حل بعضها دون حل الأخرى. ومن وجهة نظر حضرية، فإن التنمية المستديمة والتنمية البشرية والتنمية الاجتماعية ليست متكاملة فحسب: إنها غير قابلة للانفصام. والحقيقة أن التحدي الحضري في القرن الحادي والعشرين يدعونا إلى تبني رؤية جديدة. وليس رهان هذا التركيب شيئا آخر سوى المستقبل، غير القابل للانفصام من الآن، للمجتمعات الحضرية والمحيط الحيوي.
ويفرض التعقيد المتزايد للظاهرة الحضارية من الآن تنفيذ سياسات عالمية وتجديدية، متعددة الفروع ومتكاملة، ويفرض بصورة خاصة تغييرا في النطاق في إستراتيجيات التنمية للفاعلين الحكوميين والخاصين([207]). إن المدينة أكثر من مجرد مجموع المباني، إنها نمط للوجود. بل صارت حتى بيئة حياة، بيئة شيدها الإنسان وصارت "طبيعة ثانية"، حتى إن انقلبت في بعض الأحيان إلى نقيض مباشر للطبيعة ونتيجة لرغبتنا في أغلب الأحيان في إنكار تعقيد الظاهرة الحضرية، صارت الآن مدن كثيرة جدا غير قابلة للحياة فيها. والواقع أن تداخل المدينة والنظام الإيكولوجي الذي تستند إليه ـ خاصة في عصر قامت فيه عولمة السلع والسكان بتوسيع نطاق هذا النظام الإيكولوجي بصورة كبيرة ـ وصل إلى حد أن المدينة صارت من الآن بوتقة تصب فيها كل تناقضات مجتمعاتنا ويجب أن ينبع منها مفهوم جديد للتنمية.
وفي المستقبل، يجب أن تأخذ مساعدة التنمية في حسابها العامل الحضري بتحديد علاقات بين كل شركاء التنمية وكل مستوياتها. وبالفعل، التزم البنك الدولي بأن يستثمر خلال خمسة أعوام 15 مليار دولار في السياسات الحضرية، وبأن يعزز مختلف الفاعلين في المدينة. ولا شك في أن أحد دروس قمة إسطنبول يتمثل في أن عُمَد التجمعات السكانية الكبرى سوف يمارسون في المستقبل نفوذا متزايدا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبلدان. ومن الجدير بالذكر، بهذا الصدد، أن المجلس العالمي للمدن والسلطات المحلية قرر إنشاء سلطة تنسيق دائمة على المستوى الدولي. ومن المنتظر أن تنبثق من هذه الأشكال من التعاون مبادرات مشتركة، وخاصة رؤية مشتركة، وأن تقوم أيضا ربما عبر ازدهار تضامنات حقيقية بين المدن وعلاقات اقتصادية وثقافية بينها كمدن توائم (تآخي المدن).
وتحتاج أية سياسة عالمية للمدينة كأولوية إلى إعطاء مأوى لكل شخص. غير أنه ينبغي أيضا أن تكون المدينة قادرة على تقديم مشروع حياة وأن تصير أو بالأحرى أن تعود مدينة Cité. الإصغاء إلى رأي كل فرد من أبناء المدينة؛ السماح للأصوات البالغة التعدد بالمدينة بالتعبير عن نفسها في الساحة العامة للديمقراطية الحضرية؛ تحقيق المدينة لمجموع حقوق الإنسان المعترف بها عالميا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والميثاقين الدوليين بشأن حقوق الإنسان؛ التحقيق الفعلي لقرارات قمة إسطنبول والمؤتمرات الأخرى التي نظمتها الأمم المتحدة خلال العقد الماضي ـ تلك هي الأسس التي لا يجوز الالتفاف حولها لعقد اجتماعي حضري سيكون من الضروري الاتفاق عليه دون إبطاء لقبول تحديات المستقبل.
أية مدينة للقرن الحادي والعشرين
 
في سبيل إعطاء مأوى لكل شخص، سيكون من الضروري، كما أوضحنا من قبل، أن يتم خلال 40 سنة بناء ما يعادل ألف مدينة يقيم في كل منها ثلاثة ملايين نسمة، أو إعادة بناء جانب كبير من المدن القائمة. وقد قطع مؤتمر إسطنبول خطوة حاسمة في هذا الاتجاه إذ أعلن بالإجماع حق المسكن، الذي تم إدراجه من الآن بين حقوق الإنسان على المستوى العالمي. وفي هذا الصدد ينص الإعلان النهائي المعتمد لقمة الأرض على ما يلي: "إننا نؤكد رغبتنا في التأمين التدريجي للممارسة الكاملة لحق المسكن اللائق، المنصوص عليه في وثائق دولية شتى. وفي سبيل هذا الهدف، طالبنا بالمشاركة الفعالة لكل شركائنا الحكوميين والخاصين وغير الحكوميين، على كل المستويات، لكي نكفل للجميع الضمان القانوني لشغل المساكن، والحماية ضد التمييز، والمساواة في الحصول على مسكن لائق وبسعر معتدل. وسوف نعمل على زيادة عرض المساكن ذات الأسعار المعتدلة من خلال تمكين الأسواق من العمل بكفاءة، مع أخذ المصالح المشتركة وضرورة حماية البيئة في الاعتبار، ومن خلال تيسير الحصول على الأرض والائتمان، ومن خلال مساعدة غير القادرين على الوصول إلى سوق العقارات السكنية".
ومن الآن، صار المسكن معترفا به كحق لكل كائن بشري. وعلاوة على هذا، فإن تعريف المسكن الذي يتضمنه إعلان إسطنبول يتجاوز فكرة مجرد سقف. وينبغي أن تتضمن أية سياسة للإسكان من الآن فصاعدا أخلاقا للإسكان. والواقع أنه لا ينبغي الخلط بين المسكن البشري ومجرد ملجأ للبقاء. إن السكن أكثر كثيرا من مجرد حاجة. ويلعب السقف والبيت دورا رمزيا وعمليا جوهريا في نمو كل إنسان: إنهما ضروريان لتعريفه من حيث هو فرد إزاء الآخرين وإزاء المجتمع.
والمسكن هو المكان الذي تتشكل فيه هوية كل فرد وبالتالي الإحساس بالكرامة الإنسانية التي تشكل أساس كل ازدهار شخصي وكل نمو اجتماعي. كما ينبغي أن يوفر المسكن الحد الأدنى الضروري من الشروط الصحية العامة، والأمن المادي والإنساني، والحميمية، هذه الشروط التي لا تنفصم عن مفهوم الكرامة. إنه يشكل ضرورة اقتصادية بقدر ما هي أخلاقية: فالحي السكني لا يكون قابلا للحياة بدون بنية أساسية، وبصورة خاصة بدون توفير المياه الصالحة للشرب، وطرق السيارات، وإزالة القمامة، والمواصلات ووسائل النقل التي تربط الحي السكني بحركة ونشاط المدينة ككل.
على أن تكرار تأكيد هذا الحق ليس كافيا في حد ذاته. ففي سبيل وضعه موضع التطبيق، ينبغي بناء مدن الغد وتحديد في أي مدينة نرغب في أن نرى أطفالنا يعيشون. والواقع أن المدن يتم بناؤها في أكثر الأحيان بدون سكان المدن، إن لم يكن بصورة ضارة بهم. فالمدينة ليست، ولا يجب أن تكون، بالنسبة للأفراد قدرا بل اختيارا. وفي كثير من الأحيان يتم تصور المدينة على أنها فوضى قاسية ومدمرة أو طبعة حديثة من الجحيم: وينبغي من الآن اعتماد موقف أكثر عملية وأحزم إرادة كما ينبغي النظر إلى المدينة في آن معا على أنها شكل من أشكال التنمية علينا أن نبتكره، وعلى أنها تاريخ علينا أن نكتبه.
وفي رأي الخبراء، يتمحور نمو المدن في هذه النهاية للقرن العشرين، حول المدن العملاقة وحول الكتل السكانية التي تزيد على مليون نسمة، وبصورة خاصة إذا أدخلنا في هذا الرقم سكان المناطق شبه الحضرية([208]). ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة، تتجاوز ثلاثة عشر مدينة عشرة ملايين من السكان في 1992. وتشكل عملقة هذه المدن، نتيجة للنمو الحضري الطبيعي أو للهجرة الريفية، عقبة إضافية أمام اعتماد أساليب قابلة للاستمرار للتنمية والاستهلاك، مما يجعل التخطيط الحضري والإدارة الحضرية في غاية الصعوبة. ولا تمثل هذه الظاهرة سمة نوعية بالنسبة للبلدان الصناعية، بل إن العكس هو الصحيح. وخلال عشرين عاما، بين 1970 و1990، تغيرت قائمة أضخم عشر مدن في العالم تغيرا مهما، إذ أن مدن لندن وباريس وبكين وجدت مدن بومباي وكلكتا وسيول تحل محلها في الترتيب على القائمة. وكما سبق أن ذكرنا فإن 18 من أصل أضخم 25 مدينة في العالم سوف تقع في 2025 في الجنوب([209]). والحقيقة أن "نموذج" المدينة المتعددة المراكز، الممتدة جدا والمتواصلة الاتساع، يميل إلى الانتشار خارج الولايات المتحدة ويمكن أن يصير سائدا على النطاق العالمي، حتى في المناطق التي تكون فيها التنمية الاقتصادية غير كافية لتعزيز اتساع نمو الحضرنة. ومن المتوقع أن يسود، في 2015، التسلسل التالي: طوكيو (28.7 مليون نسمة)، بومباي (27.4 مليونا)، لاجوس (24.4 مليونا)، شنغهاي (23.4 مليونا)، جاكارتا (21.2 مليونا)، سان باولو (20.8 مليونا)، كراتشي (20.6 مليونا)، بكين (19.4 مليونا)، داكا (19 مليونا)، مكسيكو سيتي (18.8 مليونا).
ومع تغيير المدن لحجمها فإنها تغير أيضا وجهها. وعلى العكس من الآمال التي يذكيها عدد من الخبراء، يبدو أن الوسائل الجديدة للاتصالات والمعلومات ليس من شأنها أن تخفض في الأجل القصير تدفق الانتقالات الحضرية ولا أن تكبح جماح عملية التركز الحضري. إنها على العكس، تؤدي إلى تركز الأنشطة الاقتصادية المعقدة المتقدمة ـ كما كان الحال خلال الثورات التقنية السابقة منذ التصنيع ـ وتؤدي بالتالي إلى التدفق الهائل للبشر والثروات بالقرب من نقاط الوصل بين شبكة وسائل النقل والمواصلات.
ولهذا تتجه المدن إلى أن تصير مستقلة ليس فقط عن المناطق الداخلية، بل أيضا عن البلد الذي تنتمي إليه كل مدينة منها. وكما أوضحت ساسكيا ساسن Saskia Sassen في كتابها الذي صار كلاسيكيا بالفعل، فإن عواصم مثل نيويورك ولندن وطوكيو صارت "مدنا عالمية"، وبكلمات أخرى مراكز اتصال الشبكات العالمية([210]). ويكتب عالم الاجتماع ومصمم التخطيط الحضري مانويل كاستيلس Manuel Castells: "ليست المدينة العالمية مكانا، بل هي عملية ترتبط عن طريقها مراكز إنتاج واستهلاك الخدمات المتقدمة، وكذلك المجتمعات المحلية التي تعتمد عليها، من خلال شبكة عالمية"؛ ويتجه التخطيط الحضري الجديد إلى إيجاد "منطقة تدفق" لها ترتيبها الهرمي القاطع التحدد ضمن الشبكة العالمية للتفاعلات والاعتمادات المتبادلة الإقليمية([211]). وبالإضافة إلى هذا، تتجاهل جغرافية المدن العالمية وشبكاتها التقسيم بين البلدان الصناعية والنامية. وعلى سبيل المثال، فإن سان باولو ومكسيكو سيتي صارا من الآن مركزين اقتصاديين رئيسيين عقدا صلات وثيقة مع أمريكا الشمالية والمراكز المالية العالمية.
وهذه الجغرافيا السياسية الحضرية الجديدة، أو بالأحرى "ما بعد السياسية" métapolitique، التي تربط بين عدد كبير من المدن "المنتمية" إلى مناطق وبلدان مختلفة، أو بالأحرى المنتمية إليها بصورة أقل فأقل، لا يمكن أن تندمج إلا بصورة ناقصة في اقتصاد المدينة وفي الحاجات اليومية للمقيمين فيها. كما أن الرواج الحضري الجديد يقوم في كثير من الأحيان بإلحاق الأضرار بالمراكز المتوسطة الحجم التي عجزت عن الاندماج في الشبكات، أو حتى أطراف المدن الكبرى. وكما يشدد كاستيلس فإن "المناطق التي تحيط بهذه المراكز تلعب دورا ثانويا وغير ملائم بصورة متزايدة إلى حد إصابتها بالاختلال الوظيفي أحيانا: وعلى سبيل المثال، فإن المستعمرات الشعبية colonias populares (مدن الصفيح هذه التي تقوم، في البداية، باستقبال القادمين الجدد) تمثل حوالي ثلثي سكان هذه المدينة المكسيكية العملاقة، غير أنها لم تعد تمارس أيّ وظيفة محددة في مركز الأعمال العالمي الذي صارت تمثله مكسيكو سيتي ... الارتباط عالميا والانفصال محليا، ماديا واجتماعيا، هذه هي السمة التي تميز المدن العملاقة mégacités، هذا الشكل الحضري الجديد"([212]). وللتصدي للتحدي الحضري، يجب علينا إذن من الآن، وفقا لـ نسطور غارثيا كانكليني Nestor Garcia Canclini، أن "نقوم بإحياء المجتمع العام" وأن نستعيد "المعنى الشامل للألفة الاجتماعية الحضرية": "وإلا فإننا سنكون مهددين بخطر استحالة الحكم، إذ أن تعزيز ميول التفتت والتدمير يفاقم الاستبداد والقمع"([213]).
فهل نستنتج من هذا أن اتساع نطاق المدن العملاقة ظاهرة لا رجعة عنها؟ أو أن الانقسام الذي أعلنه روبرت رايش Robert Reich بين محلِّلي الرموز للمدن العالمية والفئات الاجتماعية الأخرى المطرودة إلى أطرافها أو المعزولة في غيتوواتها أمر لا مفر منه أيضا([214]). يبدو لنا على العكس، بشرط أن تكون هذه إرادتنا، أن من الممكن السيطرة على التنمية الحضرية وإيقاف تفتت المدن. وحيث أن أكثر من نصف زيادة السكان الحضريين ينشأ من الآن فصاعدا عن النمو الديموغرافي الطبيعي فمن الجلي أنه لا يمكن الرهان فقط على سياسات النضال ضد الهجرة الريفية التي لن تكون أمامها على كل حال أية فرصة لتحقيق غايتها إلا في حالة إجراء إصلاحات زراعية جذرية وتنفيذ سياسات واسعة النطاق للتنمية الريفية. ذلك أن المدينة تمثل في كثير من الأحيان، رغم قدر من فقدان التضامنات التقليدية، فرصة للفرد للتخلص من ثبات شروط الحياة في البيئة الريفية ومن الحرمان من الأرض أو من وسائل العيش هناك بكرامة. وعلاوة على هذا فإن التنمية الحضرية يمكن النظر إليها إلى حد ما على أنها محصلة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث أن الهجرة الريفية إنما تكون بجانب كبير منها النتيجة المنطقية لنمو الإنتاجية الزراعية.
ونحن مقتنعون بأن حلول المشكلات الحضرية سوف تمر قبل كل شيء بإضفاء الطابع الإنساني على المدن ذاتها، التي ينبغي أن تصير، كما شدد جورج فيلهايم Jorge Wilheim، نائب الأمين العام لمؤتمر الموئل 2، "مراكز للسلام والحرية والعدالة والإبداع والتضامن"([215]). "تغيير المدينة": إن المقصود ليس فقط تغيير "أسلوب" الحياة، بل الحاجة إلى نظرة إلى العالم تنعكس، في نهاية المطاف، في سلوكنا اليومي. ومن وجهة النظر هذه فإن وحشية الحياة الحضرية في عدد من مناطق العالم لا يجب أن تخفى عنا عددا من المبادرات النموذجية التي، وإن كانت ما تزال قليلة جدا، تثبت وجود حلول أصيلة في مجالات شبكات وسائل النقل، والحصول على المياه، وتصنيع القمامة والمخلفات، والإسكان، والتعليم، والتنمية بالمشاركة، والتخطيط الحضري. وفي أمريكا اللاتينية، يمكن الاستشهاد بأمثلة Villa El Salvador في بيرو، وفي البرازيل بكوريتيبا بالنسبة لوسائل النقل وببورتو أليغري بالنسبة لإدخال العمل بميزانية بلدية بالمشاركة يشترك في إعدادها المواطنون البسطاء. وسوف تسمح الشراكات الحضرية على النطاق العالمي، فيما نأمل، بالنقل السريع لهذه الأمثلة للتجديد الحضري والتنمية بالمشاركة.
ويبدو من الملائم أيضا اقتراح أنماط من التنمية والتخطيط الحضري تختلف عن الأنماط التي تقود إلى الانفجار في عملقة حضرية كثيرا ما تكون غير إنسانية. ويمكن أن تقدم التنمية الريفية والمدينة المتوسطة الحجم بديلين للمدينة العملاقة وربما قدمت فرصا لحضرنة على المستوى الإنساني.
ويسمح تحسين نوعية الحياة في البيئة الريفية بتفادي الهجرات التي تتوجه قبل كل شيء إلى ضواحي المدن الكبرى، ثم إلى الخارج. ورغم تصنيع الزراعة فإن الكثير من المجتمعات هي الآن وسوف تظل في مستقبل منظور زراعية بمعظمها: هذه بصورة خاصة هي الحالة في أفريقيا، وفي الهند، وفي الصين، حيث ما يزال 70% من السكان يعيشون في الريف. ولهذا لا تكون أية سياسة للإسكان بالضرورة سياسة حضرية. وتتمثل الأولوية الأولى للسيطرة على النمو الحضري في تحسين شروط الحياة، والتعليم الرسمي وغير الرسمي، والتوظيف، في المناطق الريفية. وفي القارة الأفريقية، حيث لا يتأثر بالحضرنة سوى 30% من السكان، ما تزال القرى تشكل قلب التنظيم الاجتماعي، وسيكون من الممكن مضاعفة إنتاجيتها عن طريق تطبيق أساليب اقتصادية أحدث([216]). وسوف يفترض إحياء الزراعة الأفريقية أيضا سياسات قومية وموازنات اقتصادية أكثر ملاءمة للسكان الريفيين([217]). وفي بعض المناطق، خاصة في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية، تفرض نفسها سياسات إصلاحات زراعية واسعة النطاق، سوف تسمح للقروي بالحصول على الملكية الزراعية أو الاستغلال الزراعي([218]). ومن أجل حل المشكلات الطويلة العهد للهجرة الريفية، ينبغي أن نملك الوضوح والجرأة الضروريين للتصدي للمسألة الأساسية للبشر الذين بلا أرض وللأرض التي بلا بشر. والحقيقة أن نزاعات معاصرة عديدة تعود بجذورها إلى وجود قوى شبه عسكرية مكلفة "بحراسة الأرض"، هذه القوى التي تصير، شيئا فشيئا، جيشا لا سيطرة عليه، وترتكب أعمال العنف والإرهاب. وقد شدد البابا يوحنا بولس الثاني في 1998 عن حق على أن "البؤس وغياب آفاق التنمية هما اللذان يدفعان الأفراد والأسر بصورة متكررة إلى طريق المنفى"([219]).
وما من شك في أن الخدمات الأرخص والشروط الأكثر أمانا للتغذية والصحة العامة والأمن تكفي لأن تخلق في البلدان النامية أوهاما عن المدينة كمكان للخلاص والوفرة، لقاء رهان محفوف بالأخطار: لن تقدم المدينة بالضرورة التوظيف المرغوب فيه ولن تسمح بالضرورة لسكان المدينة الجدد بتأمين قوتهم وقوت أسرهم. وسوف يكون من العدل تقديم فرص تنمية أكثر إنصافا في المناطق الريفية لهذه الأسر، بدون إكراهها. وبالفعل، ينبغي أن نضع نصب أعيننا أنه في عدد من البلدان، يمكن تفضيل فقر نسبي في البيئة الريفية، بشرط ألا يقع تحت مستوى الكرامة، على البؤس وعدم الأمن في الغيتووات الحضرية.
وإعادة التفكير في المدينة تعني أيضا إعادة التفكير في الريف؛ إنها إعادة التفكير في الصلات المتبادلة بين العالم الحضري والعالم الريفي، وتوحيد هاتين البيئتين في رؤية واحدة وإعادة تحديد علاقاتهما. ومن المهم، في البلدان الصناعية، إدخال المناطق الريفية في الاقتصاد مع المحافظة تماما على تكامل وخصوصيات المناطق الريفية في علاقاتها مع المناطق الحضرية، من خلال الإنتاج الإقليمي المحدد الأهداف جيدا، أو من خلال تنمية النواحي المالية، والإيكولوجية، والثقافية للأرياف. وفي البلدان النامية كما في البلدان الصناعية، لا مناص من إيجاد مهن جديدة للأراضي الزراعية. والواقع أن تطوير البيوتكنولوجيا، واستغلال الكتلة الأحيائية، والطاقة الشمسية أو طاقة الرياح، يمكن أن تقدم فرصة مزدوجة للنمو الاقتصادي والتنمية المستديمة في العالم الريفي. ويمكن أيضا استغلال السياحة كمصدر للربح، شريطة أن تكون صديقة للنظم الإيكولوجية.
ومن جهة أخرى فإن المدن المتوسطة الحجم، مثل تلك التي نلقاها بوفرة في أوروبا الشمالية على سبيل المثال، يمكن أن تقدم وجها للمدينة على المستوى الإنساني، نتيجة لامتداد إقليمي أكثر تواضعا وتنمية حضرية تراعي البيئة الطبيعية. وعلى كل حال فإنه لا يزال بعيدا عن أن يكون من المؤكد أن تكون هذه السياسة للمدينة المنكمشة قابلة للتطبيق بسهولة في مناطق أخرى من العالم وان تشكل هذه "المدينة ـ الساحة العامة" ville-agora، الموجودة في أوروبا في تنافس مع نموذج المدينة الأمريكية التي تمتد أحياؤها السكنية إلى أطرافها، النموذج الوحيد للتنمية المستديمة. والواقع أن الحضرنة المكثفة تفترض شروطا نوعية من السيطرة على السوق العقارية والإرادة السياسية الحازمة بالإضافة إلى تنسيق فعال بين مجموع الفاعلين. وعلاوة على هذا فإن التركز الحضري، وإن كانت له ميزة خفض كثافة المرور، يخلق فجوة بين المدينة والطبيعة لها أضرارها على نوعية الحياة. ووفقا للخبراء فإن "تنمية مالية" المدن الصغيرة والمتوسطة الحجم أو خلق مراكز اقتصادية مفتعلة إنما يمثلان حلين زائفين([220]). وإذا كان من الممكن دفع بعض المشروعات إلى أن تجعل مقارها في المدن الصغيرة فإن الشركات المتعددة الجنسيات والمراكز الإستراتيجية للمشروعات لا تستطيع أن تقيم مقارها بعيدا عن مراكز صنع القرار ومحاور المواصلات. وفضلا عن هذا فقد شددت ساسكيا ساسن على اتجاه الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات مؤخرا في نفس الوقت الذي تضفي فيه طابع اللامركزية على نفسها في الظاهر فتغدو شركات عالمية، إلى إعادة تركيز مقار شركاتها ومجالس إداراتها أو ـ على الأقل ـ إداراتها الأساسية (المالية، التسويق، الدعاية والاتصالات، التخطيط الإستراتيجي والمستقبلي).
وفيما يتعلق بالمدن المتوسطة فإن من المحتمل في الأجل الطويل أن التجمعات الصغيرة التي ستكون قد نجحت في الاندماج في نشاط إحدى العواصم بأن تصير مناطق إضافية للإسكان والتوظيف هي التي سوف تنجح وحدها في الاندماج بنجاح في اقتصاد المستقبل. ويبدو بالتالي أن انتشار وسائل المواصلات والتبادل عامل من العوامل الأساسية للتنمية الحضرية، وأنه يشجع التنمية حول التجمعات الكبرى للشبكات الكثيفة لمدن أصغر تبدو، في كثير من الأحيان، أكثر دينامية من العاصمة ذاتها([221]).
المدينة، بيئة حياة
عرضت ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المدينة لتوتر بين مناطق للتبادلات السريعة ومناطق محصورة أو مهملة على المستوى المادي والمستوى الرمزي على السواء. ويبدو انفتاح المدينة على مناطق أطرافها كأولوية من أولويات التنمية. غير أنه يبدو أن ضرورة تعزيز وسائل المواصلات داخل المدينة وبين المدينة والمناطق الداخلية بالبلاد تدخل في تناقض مع المحافظة، خاصة الإيكولوجية، على بيئة المدينة.
ويتألف من العواصم الجديدة مشهد جديد تتعاقب على مساحاته الشاسعة مراكز وأطراف. وهي تتجاوز في كثير من الأحيان إطار المدينة الواحدة غير أنها تشمل مراكز عديدة تترابط فيما بينها عن طريق شبكة مواصلات عالية السرعة. ولم يختف التناقض التقليدي بين المدينة والريف إلا أنه صار يحجبه التناقض بين الأحياء السكنية أو، على نطاق أوسع، بين المركز الرئيسي والمراكز التابعة.
على أن إعادة تشكيل مدينة في هذا النسيج الحضري ذي الثقوب الواسعة تحتاج قبل كل شيء إلى سياسة حريصة على التوفيق بين التنمية والبيئة. إنها مسألة إعادة تحديد للتضامنات التي ينبغي أن تندمج المدينة فيها. ويفرض التضامن إزاء الأجيال المقبلة حضرنة حريصة على التنمية المستديمة، تنمية إيكولوجية تقوم على مفهوم الديمقراطية المستقبلية. وفي هذا المجال الذي كانت الخسائر فيه فادحة بالفعل، سوف يفرض نفسه نهج مستقبلي بحزم. ولا مناص من أن تقود الرؤية الشاملة إلى المدينة إلى برنامج شامل للعمل يلهمه روح يتميز بالبصيرة النافذة والنظرة المستقبلية. إنها مسألة تحديد خطة للتنمية المستديمة تأخذ في اعتبارها التفاعلات بين المواطَنة والاقتصاد، ومستوى الموارد، والبيئة العالمية. وهناك عدد من التجارب الرائدة والممارسات الحضرية الناجحة، كما في كوريتيبا، ينبغي الاستفادة منها هنا كنماذج مرشدة. ويمكن أن يلهم مفهومان جديدان هما "المدن المستديمة" و"المدن الفعالة" هذه السياسات الحضرية الجديدة([222]). وينبغي أيضا، وعلى كل مستويات التخطيط الحضري، فرض الوقاية من الكوارث الطبيعية أو ذات المنشأ البشري، في سبيل تخفيف نتائجها، وبصورة خاصة عن طريق توزيع أفضل للبنية الأساسية لمكافحة الحرائق وعن طريق توزيع أفضل لمراكز الاستشفاء. ويفرض نفسه نهج جديد للأمن الحضري، الذي يمكن أن تسهم فيه قوى الأمن، التي تتمثل إحدى مهامها على وجه التحديد في المساعدة على توفير المهام الحيوية للمواصلات والنقل في حالة وجود طوارئ، وفي تقديم العون العاجل إلى السكان في حالة حدوث كوارث.
 ويجب أيضا أن تعد المدينة نفسها لثورة الفعالية. والحقيقة أن أنماط الاستهلاك المرتبطة بمجتمع الوفرة في البلدان الصناعية لا هي قابلة للاستمرار ولا هي قابلة للتوسع في سياق من الحضرنة المتسارعة. ووفقا لمعهد المراقبة العالمية فإن "مدن اليوم لم تعد في حالة توازن مع الطبيعة ولم تعد تكفل الاستقرار للمقيمين بها. وفي البلدان الصناعية والعالم الثالث على السواء، يلتهم النمو الحضري، العشوائي والمنفلت، المزيد والمزيد من الأرض والمياه والطاقة المجلوبة من مناطق مجاورة([223]). ويكتب ميشيل سير قائلا إن "المدن العملاقة تصير متغيرات مادية؛ إنها لا تفكر، ولا ترعى، إنها تزعج"([224]).
ولا مجال لأي التباس بهذا الصدد. إذ ينص المبدأ الثامن من مبادئ مؤتمر ريو على أنه "في سبيل تحقيق تنمية مستديمة ونوعية أفضل من الحياة للجميع، يجب أن تقوم الدول بتقليل وإلغاء أنماط الإنتاج والاستهلاك غير المستديمة". وأعاد إعلان إسطنبول تأكيد تلك الأولوية. فقد دعا الدول الموقعة عليه إلى التصدي "لأنماط الإنتاج والاستهلاك غير المستديمة، خاصة في البلدان الصناعية". وليس هناك ما هو أكثر وضوحا من هذا([225]). وعند هذه النقطة بالذات يبرز بوضوح الدور الأساسي للتعليم، خاصة التعليم المرتبط بالبيئة الحضرية والتنمية المستديمة، الذي يمكن أن يلعب دور المزج بين التنمية البشرية والتنمية المستديمة.
ورغم أن العاصمة، وهي مكان الكثافة السكانية المرتفعة، يجب أن تسمح بإدارة فعالة للموارد الطبيعية، إلا أنها صارت، في فجر القرن الحادي والعشرين، مكانا للتبديد، خاصة للمياه والطاقة. أما الفرص النسبية التي يبدو أن المدن العملاقة تقدمها لسكانها فإنها مكلفة للغاية من ناحية البيئة والصحة ـ وتكون أكثر تكلفة بكثير نظرا لأنه لم يجر الإعداد للحضرنة بل تم ارتجالها: في حين أن هذه التكلفة ملحوظة بوضوح ليس فقط في المدن (المساكن غير الصحية، التلوث الشديد للهواء والمياه، كثرة المخلفات والضوضاء ومصادر الإزعاج، فوضى النقل الحضري)، ولكن أيضا خارج المدن، فإنها لا تؤخذ في الحسبان في الإحصائيات الاقتصادية. وعلاوة على هذا فإن المدينة شديدة الالتهام للمساحات: في القاهرة، على سبيل المثال، يلتهم توسع المدينة أكثر من 600 هكتار من الأرض الزراعية كل عام في حين أن مساحة الأراضي المنزرعة في مصر تمثل أقل من 5% من المساحة الإجمالية للبلاد([226]). وعلى مدى الخمس والعشرين سنة الماضية، توسعت داكار 20 كيلومترا وكينشاسا 40 كيلومترا. كما أن النتائج المترتبة على الهجرة الريفية على البيئة البشرية والطبيعية كارثية: بالإضافة إلى التصحر الديموغرافي في المناطق الداخلية للبلاد فإنها تتعرض أيضا لتصحر ثقافي مع فقدان التضامنات الأسرية، وتدهور اللغات التقليدية، ولكن أيضا مع اختفاء المهارات الفائقة، والأنواع الأحيائية والأنماط الثقافية المرتبطة بالنظم الإيكولوجية التقليدية.
طاقة مستديمة
لمدن القرن الحادي والعشرين([227])
يفترض إمداد التجمعات الحضرية بالطاقة تعبئة أشكال متنوعة جدا للطاقة، يتم الآن تصديرها على مسافات هائلة عبر العالم بأسره. والمدن شديدة الالتهام للطاقة. ولا شك في أن من الصعب التعميم: فالتجمعات الكبيرة أو المتوسطة التي تكون أكثر ازدحاما لا تكون فعالية الطاقة فيها أعلى من المدن الصغيرة إلا قليلا. على أن "فاتورة" الطاقة في المدينة مرتفعة عالميا. وفي بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، على سبيل المثال، تستخدم المدن 60% إلى 80% من الميزانية القومية للطاقة. وهذه النسبة أقل قليلا في البلدان النامية غير أنها ترتفع بالتدريج جنبا إلى جنب مع النمو الحضري السريع في تلك البلدان([228]). ويتمثل أحد أبرز آثار الحضرنة في هذه النهاية للقرن في خلق مناخات صغيرة متعددة حول التجمعات الكبرى من المدن المتجاورة.
على أن ثورة الفعالية فيما يتعلق بالطاقة والتي يطالب بها تقريران مقدمان إلى نادي روما وهما: أخذ الطبيعة في الاعتبار([229]) والعامل الرابع([230])، تتعلق في المحل الأول بالبيئة الحضرية. وهنا ينبغي تشجيع تنمية التقنيات الثورية، مثل إدخال النافذة المزدوجة الزجاج الموفرة للطاقة وجيل جديد من الثلاجات والمحركات. ويمكن أيضا تشجيع إعادة تدوير الكتلة الأحيائية والميثان الناتج عن النفايات الحضرية لإحلالهما محل الوقود الأحفوري.
وتشكل فعالية الطاقة من الآن فصاعدا أحد مفاتيح التنمية المستديمة وصداقة البيئة. إذ أن معظم المدن صارت محطات توليد للحرارة حلت فيها محل النباتات أسقف داكنة وشوارع أسفلتية. وتبين دراسة أجريت في لوس أنجلوس أن استعمال الأسقف البيضاء والأسطح الخرسانية الملونة وغرس 10 ملايين شجرة يمكن أن يخفض حرارة المدينة 3 درجات مئوية (في الساعة 15= في الساعة الثالثة بعد الظهر) وأن يقلل "السناج" الذي يعزى إلى الأوزون بنسبة 12% مما يؤدي إلى وفورات كبيرة في الطاقة (بتقليل الحاجة إلى تكييف الهواء) وإلى خفض في التكلفة المعزوة إلى الأوزون. ولهذا يمثل إنشاء المساحات الخضراء في آن معا ضرورة إنسانية وإيكولوجية واقتصادية. كما أن تطوير "هندسة معمارية ذكية" صديقة للمناخ يمكن أن يسمح باستعمال أفضل للطاقة (القراميد والجدران الكهربائية الضوئية، عزل حراري أفضل، إلخ.) كما أنه لا غنى على مستوى المناطق الحضرية عن الالتزام بخفض لانبعاثات غازات الدفيئة، بأهداف وجداول زمنية محددة بكل وضوح. وتلتزم بلدية تورونتو، على سبيل المثال، بخفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة 20% من الآن وحتى عام 2005 بالمقارنة بمستواها في 1988.
وقد أعاد إعلان إسطنبول تأكيد أولوية التنمية المستديمة. على أن تطبيق هذا المبدأ على سياسة بشأن الحق في السكن يقتضي قبل كل شئ خفض استهلاك صناعة البناء نفسها. والواقع أن إحدى "التكلفات الخفية" للنمو الحضري تنشأ عن الاستهلاك الضخم للموارد الطبيعية المرتبط بتشييد وتشغيل المباني والضرائب التي يفرضها على "رأس المال الطبيعي" للبيئة. ووفقا لخبيري معهد المراقبة العالمية نيكولاس لينسن Nicholas Lenssen وديفيد مالين رودمان David Malin Roodman([231])، فإن صناعة البناء تنتج أو "تستهلك" حوالي 40% من المواد المستخدمة في الاقتصاد العالمي كل سنة ويُعتقد أنها مسئولة إلى حد كبير عن دمار الغابات والأنهار، وتلوث المياه والهواء، وكذلك عن التغيرات المناخية. وعلى سبيل المثال، كانت المباني تمثل، في 1992، ثلث الاستهلاك العالمي للطاقة، دون أخذ الطاقة الضرورية لإنتاج ونقل مواد البناء في الحسبان.
وفيما يتعلق بالتشييد الحضري، سوف يكون علينا أن نتعلم كيف نستلهم "عبقرية المكان" وكيف نستفيد من أشكال الإسكان المحلية الأقل تكلفة في الموارد والأفضل تكيفا مع البيئات الطبيعية المحلية. ويجب من الآن فصاعدا أن نراهن على فنون معمارية جديدة تمزج بين الهياكل التقليدية والتكنولوجيات الأكثر تقدما لإقامة مبان أقل تكلفة، وأكثر فعالية، وأكثر أمانا، وأكثر "استدامة"، وأكثر متعة في الإقامة دون أن نضحي لهذا بوسائل الراحة الحديثة. والحقيقة أن إحياء الفنون المعمارية المحلية في بلدان كثيرة تكون فيه الموئل التقليدي، وهو ما نادى به، منذ عقود عديدة مضت، رائد حالم هو المصري حسن فتحي([232])، يمكن أن يقدم مسكنا متكيفا مع الشروط المناخية، بتكلفة معتدلة جدا، وموجها بصورة خاصة إلى البرامج الاجتماعية لإسكان من لا مأوى لهم، الذين يمكن أن يضعوا بأنفسهم تصميمات للبناء الذاتي([233]).
 
نحو اقتصاد حضري للمياه([234])
 
كما شدد البروفيسور أوباسي Professor Obasi، الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، في مؤتمر الموئل 2، "لا جدال في أن المياه تمثل من الآن فصاعدا عنصرا حيويا لبقاء المدن". وعلى النطاق العالمي، ما يزال 170 مليون على الأقل من سكان المدن لا يتوفر لهم بصورة دائمة مصدر للمياه الصالحة للشرب بالقرب من أماكن إقامتهم، ويحصل 25% فقط على مصدر للمياه داخل المنزل أو في أفنية مساكنهم([235]). وتمثل المخلفات الصناعية والزراعية والبشرية سبب تلوث العديد من مصادر المياه وطبقات المياه الجوفية. إنها مشكلة تتعلق بالصحة العامة([236]). غير أنها أيضا رهان جغرافي، ومن المحتمل أنها ستكون واحدة من القضايا الدولية الرئيسية في القرن الحادي والعشرين: كما شدد والي نداو Wally N Dow، الأمين العام للموئل 2، تمثل المياه "أحد العوامل الأكثر حسما" في الصراعات. ويجب إعداد سياسة حضرية للمياه ترمي إلى تفادي الفاقد الذي يرجع بصورة خاصة إلى شبكات المجاري المعيبة والتوصيلات غير المرخصة، التي تجعل المياه أكثر تكلفة بالنسبة لأفقر السكان (انظر فصل "هل ستظل المياه جارية؟"). وتمثل إقامة بنية أساسية حديثة للتجميع والتوزيع أحد العناصر الرئيسية لكل إدارة حضرية سليمة.
ولهذا فإن من الضروري تحقيق اقتصاد أفضل للمياه. وبالإضافة إلى المنطلقات التي أوردناها في الفصل المخصص لهذا الموضوع، ينبغي دمج المياه بصورة منهجية في التخطيط الحضري. ووفقا للبروفيسور أوباسي فإن "المخططين الحضريين ينسون في كثير من الأحيان أن من الضروري إقامة شبكات فعالة لتجميع ومعالجة المعطيات الهيدرولوجية وكذلك خدمات تقدير الفيضانات والصرف"؛ وعلى المستوى المعياري فإن إعلان بكين في آذار/ مارس 1996، الذي صيغ عند اختتام المؤتمر الدولي لإدارة موارد المياه في البيئة الحضرية يُرسي المبادئ الرئيسية التي أقرتها قمة إسطنبول.
وسائل النقل الحضري:
فعالية وتكامل التكاليف
 
ترتبط مسألة الطاقة ارتباطا وثيقا بمسألة وسائل النقل: وفي المدن العملاقة، تطرح حركة المرور الداخلية مشكلة حاسمة. وتعاني مناطق المدن الكبيرة في أمريكا الشمالية وأوروبا من حركة مرور داخلية بندولية كثيفة بسبب الانفصال بين مناطق العمل ومناطق السكن. ويمكن، في الأجل الطويل، أن يسمح الاقتصاد القائم على تكنولوجيات جديدة بالقضاء على ازدحام المرور في المراكز عن طريق إدخال مرونة أكبر على مواعيد العمل والحركة. ومع ذلك فإن السرعة المتزايدة للانتقالات في المرحلة الراهنة من النمو الحضري الواسع كانت لها نتائج متناقضة تتمثل في إطالة مسافات الانتقال وبالتالي مدته.
ويطرح هذا التطور على السياسيين مشكلات إدارة وسائل المواصلات والنقل، التي يجري تناولها بالتفصيل في مكان آخر([237]). وهناك حلول عديدة، وغير متعارضة على الإطلاق، يمكن أن تسمح بحل الصعوبات البالغة التي يؤدي إليها ازدحام المدن وتلوثها. ويتمثل أحد هذه الحلول في فرض تعريفات وضرائب على وسائل النقل تتفق مع التكلفة الحقيقية، وتعكس بالتالي تكلفتها البيئية من حيث الحوادث، والضوضاء، والتلوث الجوي، والتقلبات المناخية، وكذلك تكلفتها من حيث الصحة العامة. وقدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هذه التكلفة البيئية بنسبة 70% في المتوسط من إجمالي التكلفة المرتبطة بوسائل النقل في 31 بلد أوروبيا. غير أن هذه المسألة تتعلق أيضا بتكلفة الازدحام، التي تقدر بنسبة 7% من الإجمالي، والتكلفة التي لا تتم تغطيتها للبنية الأساسية للنقل العام وتشغيله المقدرة بنسبة 23% من الإجمالي([238]). ويتمثل حل آخر في إعطاء الأولوية لوسائل النقل المشترك. وفي شروط الاستخدام الأمثل يمكن، خلال ساعة واحدة من الوقت، أن يسمح مترو أنفاق بنقل 70000 شخص نحو وجهة معينة، والقطار السريع السطحي [فوق الأرض] 50000 شخص، والترام والحافلة 30000 شخص، في حين أن السيارة الخاصة لا تسمح بنقل أكثر من 8000 شخص، وهذا بافتراض أربعة ركاب لكل سيارة خاصة. ولهذا فإن وسائل النقل المشترك تمثل إمكانيات مستقبلية كبيرة([239]). وكما اقترحنا في مكان آخر([240]) فإن الازدحام المادي، و ـ على وجه الخصوص ـ التلوث الضخم الذي تسببه وسائل النقل الحضري يدعوان إلى تدابير جديدة: خفض شغل الحيز الحضري بالسيارات الخاصة إلى حد أدنى؛ واستخدام السيارات "الكهربائية" أو الهجينة (التي تسير بالكهرباء ـ البنزين)؛ والبحث عن أنواع جديدة من الوقود كالهيدروجين على سبيل المثال؛ وإقامة خطوط المونوريل (الخط الحديدي المفرد)، وهي سريعة، و"شبكية"، وغير ملوثة، وأقل تكلفة من "المترو".
وفي المستقبل تطرح نفسها مسألة تتعلق بالتخطيط الحضري. ويبدو أن الحضرنة المبعثرة ماثلة في صميم نمو وازدهار مدن سريعة التصنيع مثل سيول أو بوينوس آيرس، والتجمعات ذات النمو الديموغرافي المتواصل مثل بومباي. وتقدم المدينة المزدحمة التي تتجاور فيها الأعمال والخدمات والمنازل وتخدمها وسائل النقل العام بديلا لثقافة "السيارة كملكة متوجة ". والواقع أن المدن الأكثر ازدحاما هي الأفضل قدرة على تقديم بدائل للسيارة الخاصة([241]). وينبغي أن نضيف أن هذه المدن المزدحمة هي أيضا أكثر ملاءمة للألفة الاجتماعية وتقدم كقاعدة عامة إطارا أفضل للنضال ضد الإقصاء. غير أنه، وكما أوضحنا من قبل، فإن سياسات إرادية وموحدة، بعيدة عن سياسات السوق الحرة الرائجة، هي وحدها التي يمكن اليوم أن تنشر هذا النموذج للمدن ذات الكثافة المرتفعة خارج مناطق (أوروبا) أو أوضاع نوعية (سنغافورة وهونغ كونغ) يسود فيها هذا النموذج.
 
صعود الأبارتهيد الحضري
 
يمكن أيضا أن تكون المدينة المزدحمة فرصة للنضال ضد البعثرة الاجتماعية. والحقيقة أن حركة المرور أكثر من مجرد مشكلة مادية. ويؤدي الشكل المبعثر للحيز الحضري إلى ظهور هياكل اجتماعية جديدة. وتتسم المدن العملاقة بالإضفاء المتزايد للطابع الفردي على الحياة الاجتماعية، فالمدينة في آن معا مكان تحرير الفرد والمبادرة الشخصية ومكان العلاقات الفاقدة الهوية، وعدم المبالاة العام، وفقدان التضامنات التقليدية، والعائلية على وجه الخصوص. وفي البلدان الصناعية، تتخذ سيادة الطابع الفردي أشكالا من تحلل علاقات الجوار المرتبط بالعمل والسكن. ومن الآن فصاعدا صار اختيار المرء لمكان سكنه مدفوعا بأسباب وظيفية، أو بالدخل، أو بالانتماء الاجتماعي الذي يتجلى في المسكن.
وفي أحوال كثيرة جدا، لا يعبر التنوع عن نفسه اليوم إلا بإضفاء طابع الازدواج من خلال التقسيم الاجتماعي والاقتصادي والإثني والثقافي ومن خلال تعميم الغيتووات في الجنوب كما في الشمال. ولهذا، تظهر الأحياء المتميزة، المنكفئة على نفسها بصورة متزايدة، سواء كانت تقع في المراكز التاريخية، كما في أوروبا، أم في الضواحي، كما في أمريكا الشمالية. وتتمتع مجموعة مرفهة من المواطنين ـ أولئك الذين يدعوهم روبرت رايش "محلِّلي الرموز" ـ بكل الخدمات التي تقدمها المدينة، في مجالات الإسكان أو الاستهلاك أو التوظيف، وتبني تضامنها ليس على الجوار المادي بل على المشاركة في الأوساط الاجتماعية والثقافية المرفهة، مدعية الانتماء إلى ثقافة عالمية النزعة وإلى نمط حياة دولي، وتجد مجموعة أخرى نفسها محرومة تماما من تدفقات الحركة ومحكوما عليها بأن تظل حبيسة. ويؤدي هذا الوضع المطبوع بطابع الازدواج وهذا العزل (أو الفصل) الحضري إلى تشكل مجتمعات محلية صغيرة معزولة، تجد نفسها في كثير من الأحيان في صدام مع نظم المجتمع السائد وقواعده بل وحتى قوانينه. وبين هاتين المجموعتين توجد فئة غير مستقرة تحاول الاندماج غير أنها تظل مهددة باستمرار "بالإقصاء الاجتماعي".
ويغادر ملايين الناس، منجذبين "بأضواء المدينة"، فقر البيئة الريفية ليعيشوا في "العزلة المشتركة" البائسة في التجمعات الحضرية الكبيرة التي يجدون فيها أنفسهم في كثير من الأحيان محرومين من الخدمات الأكثر أساسية في وضع من البؤس والإقصاء يغدو في كثير من الأحيان مرتعا خصبا للعنف والتطرف. وإزاء هذه الأوضاع، ينبغي أن نتذكر أن ممارسات أساسية في التاريخ مثل "روح المواطنة" civisme، و"التهذيب" urbanité، و"الحضارة" civilisation، و"السياسة" politique ظهرت إلى الوجود في البيئة الحضرية، وترجع بأصول ألفاظها إليها. وينبغي أن نستعيد تلك النزعة الإنسانية والمُؤَنْسِنَة للمدينة بالحرص على التعزيز بصورة ملموسة للمحاور الثلاثة المتفاعلة وهى السلام والديمقراطية والتنمية([242]). وفي سبيل تفادي ظواهر العزل في الأحياء، ينبغي تطوير الإحساس بالمواطَنة، مما يعني، في المقام الأول، أنه ينبغي تنفيذ سياسة احتواء بطريقة تؤدي إلى دمج المهمشين، الذين يعانون من الإحباط، والعزلة، والإقصاء، وتصاعد الراديكالية، والعنف.
ولا حاجة بنا إلى التشديد على الدور الذي يغدو التعليم مدى الحياة مدعوا إلى أن يلعبه في النضال ضد الإقصاء الحضري وفي سبيل الممارسة الفعلية للمواطنة. وجنبا إلى جنب مع المنظمات غير الحكومية التي، مثل الحركة الدولية العالم الرابع ATD Quart-Monde، تقوم بعمل رائع في مجال احتواء المهمشين، يجب أن نقول لكل أولئك الذين يشعرون بأنهم محرومون: "تشجعوا. فالتعليم إنما يدوم مدى الحياة. إن قطار التعليم لم يفتكم إلى الأبد، ولن تكونوا مهمشين إلى الأبد. وسوف تكون أمامكم فرص أخرى للحصول على التعليم والتدريب".
وقد أدى تفكك النسيج الاجتماعي إلى فقدان الإحساس بالمصلحة الجماعية وإلى استفحال المصالح الخاصة بطبقة أو مجموعة اجتماعية أو دينية أو ترتكز على انتماء محلي ضيق جدا. ومن هنا عدم الاكتراث المتبادل الذي يعبر عن نفسه في متلازمة "ليس في فنائي الخلفي" (not in my backyard= nimby)، متلازمة إنكار الأحياء الأكثر رفاهية على الأحياء الأقل بحبوحة حق التمتع بالمرافق المشتركة والبنية الأساسية.
وعلى كل حال فإن العزل الحضري يتجه اليوم إلى المضي بعيدا إلى ما يتجاوز كثيرا العزل الذي عرفته، إلى هذا الحد أو ذاك، وبدرجات متباينة بشدة من ناحية أخرى، معظم المجتمعات والعهود التاريخية. ومن الآن فصاعدا يسكن شبح جديد مدن الجنوب، كما يسكن إلى الآن عددا من مدن البلدان الصناعية، وبصورة خاصة في أمريكا الشمالية الآن: الأبارتهيد الحضري. ألا يحق لنا إذن أن نخشى أن تغدو مدينة المستقبل مدينة كل الانقسامات، سواء أكانت اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية أم سياسية؟ وكما وصفت تيريزا پ. ر. كالديرا Teresa P. R. Caldeira فيما يتعلق بحالة سان باولو، فإن العزل المكاني والاجتماعي في المدن المعاصرة يؤدي إلى نشوء ظاهرة جديدة: ظاهرة "المعاقل المحصنة"، التي تتولى حراستها ميلشيات خاصة، أو ظاهرة "المدن الخاصة" المتجانسة ثقافيا واجتماعيا، والتي يسهم تضاعفها في التهميش والاستئصال بالتدريج لفكرة الحيز الحضري العام التي يقوم عليها مفهوم المواطنة([243]).
وفي بلدان عديدة، تنتشر على سبيل المثال "المجتمعات المحلية المغلقة" محاطة بالأسوار أو محمية بالحواجز؛ وفي الولايات المتحدة، سوف يعيش ما بين أربعة وثمانية ملايين من السكان، وفقا لبعض التقديرات، في هذه المناطق السكنية الفائقة الحماية؛ ومن ناحية أخرى فإنه، وفقا لتقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية منشور في 1996، يعيش 35 مليون أمريكي في 150000 من المجتمعات المحلية التي تديرها جمعيات خاصة([244]). وقد وصف مايك ديفيز Mike Davis أوضاع العنف الاجتماعي التي تسود لوس أنجلوس. وفي تلك المدينة، كما في مدن أخرى، تتضاعف "المدن ذات البوابات" gated cities، والأحياء المغلقة التي تحميها قوى شرطة خاصة ثقيلة التسليح، مرتبطة بالشرطة الحكومية، في حين يتم إبعاد كل أولئك المحرومين من الرخاء إلى الأطراف([245]). وفي هذه العوالم المغلقة، التي تحميها نظم ولوائح داخلية تعسفية ووسائل مراقبة إلكترونية، تغدو الشوارع خاصة، والمدارس خاصة، والمجاري والمرافق العامة خاصة. بل إن بعض الجماعات انقسمت تماما معلنة نفسها مستقلة إزاء المجتمعات المحلية([246]). وتعمل هذه الأحياء كعوالم مصغرة داخل المدينة، حيث تقدم لجماعة محدودة كل مزايا المدينة. كما يلاحظ في بعض المدن اتجاه مثير جدا للقلق نحو خصخصة الحيز الحضري العام. وعلى سبيل المثال، يتم دمج طرق المشاة والميادين في مراكز تجارية تخدم شريحة ميسورة من السكان، ولا يتم تصميم الشوارع إلا كممرات تربط مختلف المراكز وهي مخصصة للمركبات التي تسير بالمحركات فقط.
ومثل هذه الصور من الأبارتهيد الحضري لا تقتصر بحال من الأحوال على أمريكا الشمالية أو أمريكا اللاتينية. إنها تزدهر أيضا في أفريقيا، على سبيل المثال في لاغوس أو ديربان، أو في آسيا، حيث تُبنى أيضا مدن خاصة حقيقية في بعض البلدان([247]).
ويضيع بالتالي كل إحساس بحرية الحركة والتمتع بالحيز الحضري العام، الذي ينظر إليه عادة على أنه مكان للتبادل والامتزاج الاجتماعي، وهو الذي يصنع ثراء حياة المدينة. فهل يمكن أن يوجد "عقد اجتماعي" حيث لا يوجد "اتصال اجتماعي"([248])؟ وعندئذ يغدو هاجس الأمن والنظام السبب وراء عنف اجتماعي فعلي. ويجبرنا الأبارتهيد الحضري من الآن فصاعدا على أن "نتخيل أننا يمكن أن نولد، ونتعلم، ونعيش، ونعمل، ونتزوج، وننجب أطفالا، ونحال إلى التقاعد، ونموت في عزلة، ’تحت الزجاج الواقي‘، إن جاز القول، دون أن نلتقي بفقير في طريقه ليس من عمال الخدمة"([249]).
وفي هذا الشكل المتطرف من العزل، يتم تقديم الفصل وكأنه علامة على الثروة والمكانة الاجتماعية، وعلى أنه رمزي، ومن جهة أخرى تتباهى به، على أساس حجج إيكولوجية في بعض الأحيان، شركات مقاولات المدن الخاصة. وكما تشير تيريز سبكتور Térèse Spector([250]) فإن الحيز الحضري العام يغدو عندئذ "متروكا بالتدريج لأولئك الذين لا فرصة لديهم للعيش والعمل والتسوق في المعاقل الخاصة الجديدة. ويتم تركه بصورة متزايدة يوما بعد يوم للمشردين وأطفال الشوارع. وعلى العكس من الغرض الأصلي منه، يتم تنظيمه وفقا لمبادئ الفصل وإبراز الفوارق التي لا سبيل إلى التوفيق بينها. من جانب: الحيز الحضري الخاص، ومن جانب آخر: الحيز الحضري العام الذي يتم تقليصه بصورة متزايدة وتخصيصه للفقراء ـ إنها حقا جريمة تزداد تفاقما".
ولا شك في أن تفشي الأبارتهيد الحضري قد شجع عليه تفشي عدم المساواة الذي صاحب الثورة الصناعية الثالثة، وتفاقم انعدام الأمن الذي ينشأ عن الانقسام الاجتماعي المتزايد وعن رواج تجارة المخدرات والجريمة المنظمة. فمع أي نمط من أنماط التنظيم السياسي والاجتماعي يتطابق النموذج المضاد للأبارتهيد الحضري؟ هل ما يزال ينتمي إلى الديمقراطية؟ من حقنا أن نشك في هذا.
ويدعو الظهور المثير للقلق للأبارتهيد الحضري إلى استجابات أساسية تتجاوز تماما السياسات الحضرية: تدابير تشريعية بشأن الحيز الحضري العام؛ سياسات للعدالة الاجتماعية وإعادة توزيع مكاسب الثورة الصناعية الثالثة؛ سياسات وقائية ملائمة للنضال ضد انعدام الأمن الحضري، وتجارة المخدرات، والجريمة المنظمة. ولا ينبغي أن تنسينا هذه المشكلة المسألة الكبرى المتصلة بالعلاقات بين المركز والأطراف: إن المدينة المزدحمة على الطراز الأوروبي لا يجب أن تكون مدينة معزولة، ملاذا محميا في قلب منطقة حضرية؛ وفي كثير جدا من الأحيان، لا تكون المدينة الممتدة على الطراز الأمريكي، من جانبها، أكثر من سلسلة من غيتووات معزولة عن بعضها البعض ومفصولة بحدود غير مرئية. ولهذا يجب أن تسعى سياسات التخطيط الحضري إلى كسر أسوار العزلة والصمت وعدم التفاهم، عن طريق إيلاء الأولوية للعلاقات بين الأحياء، بين الناس والمهن، من خلال تشجيع تعزيز وخلق حيزات عامة، بالاستناد إلى سياسة لوسائل النقل والمواصلات الحضرية. ومن الجلي أن التنمية الحضرية يجب  أن تحقق توازنا صعبا بين التنوع والوحدة. وفي سبيل هذا يجب أن تنتج المدينة صلة اجتماعية لكن مع الحرص على استقلال الفرد وحرية تعبيره.
والإدارة تعني الاحتواء: إنها العمل بطريقة تجعل المواطنين "يتمتعون بكل الأهمية". و"أن نتعلم أن نعيش معا" ـ كما أوصت لجنة ديلور الخاصة بالتعليم في القرن الحادي والعشرين ـ هو التحدي الرئيسي: إن التنوع هو ثروتنا، تماما كما أن الوحدة هي قوتنا. والمدينة "المهجنة"، المتعددة الثقافات، المتعددة الأديان، المتعددة الإثنيات، هي مستقبلنا وأملنا. على أنه ينبغي أن يكون المواطنون أحرارا والمجرمون سجناء: واليوم، وفي أغلب الأحيان، صار النقيض هو ما يحدث، فالمواطنون، بعد أن صاروا سجناء أنفسهم، يجب عليهم، نتيجة لعجز نظم القضاء والأمن، أن يتمترسوا في حمى نظم الإنذار والشفرات والأسلاك الشائكة. إن الحرية كاملة ولكن الأمن صفر. وبهذا الخصوص، يغدو توفير الأمن لسكان المدن ضرورة أساسية. وفي أغلب الأحيان، تكون الحدود وحدها هي التي تتم حراستها: بحكم القصور الذاتي، يتم استثمار المليارات للتسلح ضد "عدو" محتمل، وهو في أغلب الأحيان وهمي أو تاريخي. غير أن الاستثمارات التي يمكن أن تتيح توفير أمن المواطنين وإقامة نظام قضائي سريع وفعال – على الأقل في الحالات الإجرامية السافرة والمتكررة ـ يتم خفضها إلى مبلغ لا يفي بالغرض.
بناء مدينة القرن الحادي والعشرين
 
وفقا لرؤية عن الثورة الحضرية تستلهم التصورات التي تُؤْثر سياسات السوق الحرة، تغدو الفوضى الحضرية والنمو الجامح للمدن في المكان وعدم تماسك التخطيط الحضري الثمن الذي لا يمكن أن نتفادى دفعه من أجل التكيف مع تغير في نمط الإنتاج، والهجرة الريفية، والتصنيع، ومع أنماط جديدة للمواصلات، ومع تغيرات العادات والسلوك. وينبغي أن نرفض هذه الرؤية عن المدينة "الطبيعية"، غير المخططة.
ويعني بناء مدينة القرن الحادي والعشرين، إذن، أن نحاول من اليوم تحقيق التوازن بين التنوع والوحدة. ويرتكز هذا التوازن، في رأينا، على المواطنة، على مشاركة كل فرد من سكان المدينة في بناء وإدارة وحكم المدينة. وهذا لأن الكثيرين من سكان المدن لم يعودوا مواطنين، أو لم يصيروا بعد مواطنين لأن المدينة تعيش اليوم أزمة.
ويمثل احترام التنوع قبل كل شئ هدفا له طابع التخطيط الحضري. فالمدينة ينبغي النظر إليها من الآن على أنها تراث حي يمكن أن يرتكز عليه وعي بالانتماء، وإحساس بالتضامن بين المواطنين. ولهذا فإن من الضروري أن نعطي المدينة وجها جديدا يوفق بين التقدم التقني والطابع الإنساني ويضمر الاحترام لأصولها وثقافتها، دون أن تخنقها الرغبة في المحافظة على المباني القائمة.
وقد أعلن المهندس المعماري كريستيان دي بورزامبارك Christian de Portzamparc الدخول في عصر ثالث للمدينة([251]). وكان العصر الأول هو عصر المدينة التاريخية المزدحمة، وكانت ذات نسيج محكم الحبك يقوم على تعاقب الامتلاء والفراغ وعلى الفخامة وروح المواطنة والتهذيب. وكان العصر الثاني، عصر حداثة لو كوربيزييه Le Corbusier، هو عصر اليوتوبيات الحضرية والسيارة، الذي يفصل بين فن العمارة  والتخطيط الحضري ويجعل المبنى جسما مستقلا ومنعزلا، منفصلا عن الموقع والمكان. إنه عصر التنميط (التوحيد القياسي) والوظيفية والأسلوب الدولي الذي يفضي، رغم النجاحات، إلى تفكك الأشكال الحضرية والتضامنات. ويعتقد كريستيان دي بورزامبارك أن العصر الثالث للمدينة يجب أن يكون عصر "تفصيل التخطيط الحضري حسب المقاس"، الذي يعيد خلق التهذيب بدون نماذج مثالية. إنها مسألة إعادة تشكيل مشهد حضري مفكك، ممزق إربا، وفقا لنهج لم يعد ينكر الماضي غير أنه مصطنع ولَعِبِيّ، وهذه هي السمة المميزة لتصور حر وحي عن التراث الحضري. وبروح مماثلة، فوفقا لـ: سيريا إميليانوف Cyria Emelianoff هناك حاجة إلى تنمية حضرية تكون ذات طابع طوبولوجي، أيْ تقوم بترسيخ جذور التضامنات في الجوار والقربى، ويعطي مكان الصدارة لكل أشكال الاستمرارية الحضرية بما يسمح بربط المبنى بالشارع، والشارع بالحي، والأحياء فيما بينها وأخيرا التجمع الحضري بالمناطق الداخلية بالبلاد([252]).
ومن جهة أخرى فإنه مع الحرص على المحافظة على المباني القائمة، ينبغي تحويل المدينة إلى تراث حي، وفي تطور مستمر، عن طريق تشجيع الاختلاط الوظيفي والاجتماعي للأحياء. ويجب أن يتمثل الاتجاه الجديد للسياسات الحضرية في فجر القرن الحادي والعشرين في إرجاع المدينة إلى سكانها، وتشجيع كل أشكال امتلاك سكان المدينة للمشهد الحضري. والحقيقة أن تدخل المواطنين في المدينة يمر عبر إحساس بالانتماء إلى المكان وباعتزاز بتراثها الحضري. كما ينبغي أيضا أن يعبر عن نفسه عن طريق شكل جديد من الديمقراطية المحلية، وبالتالي عن طريق مشاركة فعالة في إدارة المدينة. والحقيقة أن أحد التجديدات المبشرة للغاية لمؤتمر إسطنبول، والذي يجعل منه دون شك أول قمة في القرن الحادي والعشرين وليس آخر قمة في القرن العشرين، يتمثل في ظهور المجتمع المدني باعتباره فاعلا في المدينة. وكان المجتمع المدني قادرا على إسماع صوته في المنابر الاستشارية (المنظمات غير الحكومية، وخبراء المستقبليات، والقطاع الخاص، والشباب، والنساء، إلخ.) التي صارت لأول مرة، جزءا لا يتجزأ من مؤتمر للأمم المتحدة ورفعت تقاريرها إلى الحكومات في الجلسة الكاملة. كما لعب رؤساء المدن وممثلو السلطات المحلية دورا حاسما في المؤتمر وتم إبراز موقفهم الأساسي في إدارة التنمية المستديمة والمتوازنة. وقدم ممثلو المجتمع المدني والسلطات المحلية خلال المؤتمر عددا من المقترحات الشجاعة، تعكس رغبتهم في أن يلعبوا دورا حاسما في مصير المدينة، وهذا مجال فشلت فيه بعض الدول أو تخلت عنه.
ومن الجوهري بالفعل تشجيع إستراتيجية للتأهيل في المدينة. ولا يمثل قيام مواطني المدينة بدور حاسم فيها ظاهرة جديدة. وكما أوضح جورج فيلهايم Jorge Wilheim، الأمين العام المساعد لمؤتمر إسطنبول: "في الماضي، كان من المتوقع أن تقوم الحكومات بحل كل المشكلات ... وفي الوقت الراهن، ضجر الناس هذا الموقف ويتحد الكثيرون ليعيدوا بناء حَيٍّ بأنفسهم. ويمكن أن نلاحظ أن هذا التنظيم الذاتي في بلدان كثيرة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا ... وعلى مستوى أكثر تعقيدا فإن التعاون بين البلديات، وجمعيات سكان المدن، والمنظمات غير الحكومية، والجامعات، يمكن أن يسمح بتحسين الحياة في مدن الصفيح".
والواقع أن قطاع البناء غير الرسمي يمثل 80% من البناء في البلدان النامية. ولا شك في أن هذا الاقتصاد غير الرسمي أو الشعبي يمثل أحد القطاعات الأكثر دينامية في بلدان الجنوب كما أنه يشكل دليلا على استعداد السكان لتولي مسئوليتها. وعلى كل حال فإن البناء الذاتي يعكس عملية حَضرنة منفلتة وفي أكثر الأحيان مزدوجة، تضع "المدينة القانونية" في مقابل "المدينة غير القانونية"، مدينة صفيح بدون مرافق ومراكز يتوافر فيها كل ما نحتاج إليه. وفي البلدان التي يكون فيها عرض الخدمات العامة غير كاف أو بالأحرى يكون فيها السكان أفقر من أن يقوموا بإنشاء خدمة عامة مدفوعة التكلفة، قام السكان في بعض الأحيان بأنفسهم بتوفير عدد من خدمات الطوارئ. ويمكن أن تتحول هذه الخدمات إلى مشاركة ديمقراطية تثير التفاؤل بين السلطات والجماعات المحلية، بشرط أن تتمتع المبادرة المحلية بدعم مؤسسي وأن تتلقى التمويل من جانب السلطات السياسية.
وعلى المستوى الحضري، لا ينبغي استخدام ازدهار "الإدارة" الحضرية كواجهة جذابة لسياسات المنافسة الحرة: إنه يفترض التحديد الواضح لمجالات الاختصاص والمسئولية لكل سلطة من السلطات العامة، من المستوى القومي إلى المستوى المحلي، والجماعات المحلية والفاعلين في المجتمع ـ المنظمات غير الحكومية، الجمعيات والروابط، القطاع الخاص، الروابط المهنية. وينبغي بصورة خاصة إنعام النظر في الطرق الممكنة لتحقيق لامركزية أوسع للمسئوليات المدنية الكبرى ـ التعليم، والصحة، والقضاء، إلخ. ـ إزاء السلطات البلدية. فإنما في إطار المدينة قبل كل شئ يكون المواطنون مدعوين إلى أن يشاركوا، وإلى أن يكونوا فاعلين ذوي دور كامل في الحياة الديمقراطية، وإلى أن يمارسوا حقوق الإنسان وإلى أن يقوموا بواجباتهم. والحقيقة أنه في التجديد "تخطيط حضري إستراتيجي"، وليس في سياسات أحادية الجانب مفروضة من أعلى، تكمن إمكانية خلق إحساس بالانتماء إلى المدينة. ويقترح "التخطيط الحضري الإستراتيجي" قرارا مبنيا على ممارسة الإجماع، وعلى المشاركة النشيطة للمواطنين وكل الشركاء المعنيين، وعلى عمليات مفاوضات مرنة بين الفاعلين العامين والفاعلين الخاصين. ومن هذا المنظور فإن دور رؤساء المدن ينبغي أن يتم تقاسمه بين المهام الإدارية، والوساطة بين الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، وضمان المصلحة الجماعية.
وكملاذ أخير، ينبغي التشديد على مسئولية السلطات العامة، خاصة الدول، عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات التي ستكون لها نتائج على أجيال عديدة. و"ما تزال الدولة تمثل من الناحية السياسية الإرادة الديمقراطية والجهد المبذول في سبيل المساواة. ونحن لا نسعى إلى تقليص دور الدولة بل نسعى إلى تعديله. إذ أنه ينبغي أن يتكيف مع مرحلة جديدة من التطور العالمي"([253]). وإذا ظهرت مشاركات مع المجتمعات المحلية، والمنظمات غير الحكومية، ومختلف الهيئات الدولية، والقطاع الخاص، كنمط متوازن وديمقراطي لإدارة المدينة فإن السلطات السياسية لا يمكن أن تتخلى لهذا السبب عن دورها الإستراتيجي في السوق، وبصورة خاصة في مجال البنية الأساسية للطرق، وإمدادات وصرف المياه، والإسكان الاجتماعي. ويظهر الآن مفهوم جديد للدولة، مفهوم الدولة كقائد إستراتيجي، ينسق بين إرادات مختلف الشركاء باسم التضامن بين المواطنين، وبين المناطق، وبين الأجيال.
وتمثل الحضرنة السريعة ورقة رابحة: إنها تيسر الحصول بصورة متزايدة على السلع والخدمات (وبصورة خاصة في مجال الصحة والتعليم)، وتخلق بهذا فرصا جديدة للتنمية. غير أن هذه الإمكانيات سوف تظل سرابا إذا تم حرمان أولئك الذين يمكن أن يستفيدوا منها من ذلك نتيجة للفقر، أو "الأبارتهيد الحضري"، أو الأشكال الجديدة من الجنوح والفساد، أو فيض السكان، أو التلوث، أو جمود أو عدم فعالية الإدارات العامة.
ويجب أن نعيد اختراع ثقافة للمدينة لا تكون ثقافة للقوالب الدولية المكررة ولا ثقافة للتناحرات ولإضفاء طابع الغيتووات على المدينة: لهذا يجب أن نشجع التربية المدينية بشدة سواء في التعليم الرسمي حيث يجب أن يخصص لها مجال أوسع في المقررات المدرسية والجامعية، أو في التعليم اللارسمي أو غير الرسمي. واليوم تغدو المدينة في أغلب الأحيان مكانا لاجتثاث الجذور. وفي حين اعتاد المهاجرون على أن يحافظوا وقتا طويلا على عاداتهم الثقافية وعلى أن يحتفظوا بصلات قوية بمنطقتهم أو قريتهم الأصلية، فإن ظاهرة "استيطان" المدينة، إذا كانت ما تزال موجودة، قلما تدوم أكثر من جيل واحد من الآن فصاعدا. إذ أنه حالما تنقطع الصلة مع المجموعة الأصلية أو مع ممثليها في المدينة، تتلاشى التضامنات التي وحدت الأفراد في مجموعة إثنية أو محلية أو دينية. ومن جهة أخرى فإن التضامنات مع الأسرة الممتدة تتحلل قليلا قليلا إلى نسيج حضري متزايد الاتساع.
ويجب أن تكون المدينة في وضع يسمح لها بأن تقدم ثقافة تعوض عن هذه التضامنات المفقودة. ويجب أن توفر حيزا حضريا عاما وجمعيا يمكن أن يجد فيه الفرد مرفأ، ماديا ورمزيا، دون أن يفقد تماما كل سماته في مدينة مفتتة إلى مجتمعات محلية صغيرة يتجاهل بعضها البعض في أفضل الأحوال ويكره بعضها البعض في أسوأ الأحوال. ويجب أن تبني نفسها كتراث حي يقيم صلة بين الماضي والمستقبل. ويجب أن تقدم المدينة إطارا جمعيا لممارسة حرية الأفراد، كما يجب أن تتيح لكل فرد "أن يشارك" بالشروط التي تروق له، دون إقصاء أو عزل.
ويمكن أن تولد ثقافة حضرية جديدة في القرن الحادي والعشرين. إنها مسألة إرادة سياسية قبل أن تكون مسألة تقنية. والحقيقة أن الرسالة التي حملتها اليونسكو إلى إسطنبول عبرت عنها ثلاث كلمات، تم اتخاذها شعارا للوثيقة التي قدمتها إلى القمة: اجعلوا المدينة إنسانية. وكما يذكرنا الشاعر التركي ناظم حكمت "هناك شيئان لا ينساهما المرء إلا عندما يموت، وجه أمه ووجه مدينته". هذا الوجه الذي كان كل شخص في إسطنبول يأمل أن يكون وجها إنسانيا. فالمدينة ليست مجرد خليط من التقنيات، والمباني، والمنتجين ـ المستهلكين، والمحرومين المهمشين. المدينة، وفقا لكلمات كريستيان دي بورزامبارك "تحتوي على الزمن": الماضي والمستقبل، أسلافنا وأطفالنا. وأن يعيش المرء في مدينة يجب أن يعني أن يعيش في مكان ويقول: هذه حياتي، هذا هو المكان الذي يوجد فيه أو سيولد فيه أطفالي". وفي قصيدته "بوينوس آيرس"، كتب خورخي لويس بورخيس أيضا "[...] هذه المدينة،/ التي اعتقدت أنها ماضي حياتي،/ صارت مستقبلي". على أنه يوجد اليوم كثير جدا من المدن التي لا تصلح للعيش، وضاعت فيها الكرامة: لم يعد يحدث فيها اللقاء بالآخر. وسوف يتمثل أحد رهانات المدينة في القرن الحادي والعشرين في أن يعاد منح حق المواطنة إلى المدينة، وفي جعلها مكانا لتهذيب المستقبل. والمدينة، التي كانت مكان نشأة المواطنة، يجب أن تسودها الديمقراطية من جديد: وبدون هذا، سيبقى حق السكن، بين أمثلة أخرى، حبرا على ورق، وسوف تواصل المدن إحاطة نفسها بأسوار جديدة: أسوار الأبارتهيد الحضري. إن تغيير المدينة يعني تغيير الحياة.
منطلقات وتوصيات
3         إعطاء دفعة جديدة للتنبؤ الحضري والتخطيط الإستراتيجي للمدينة والنسيج الحضري.
3   إعطاء الأولوية لتطبيق حق السكن للجميع ولسياسة إسكان لا تشكل تنازلا من جانب السلطات المحلية والقومية أمام الاقتصاد غير الرسمي والسوق الحرة. ولا ينبغي فصل سياسة للإسكان عن سياسة للبنية الأساسية لكل من المواصلات، ووسائل النقل، وإمدادات وتصريف المياه، والتعليم، والصحة.
3   تعزيز المدينة كبيئة للحياة، أي صياغة المبادئ والسياسات الخاصة بإيكولوجيا حضرية تعزز ازدهار الممارسات "المستديمة"، وتقوم أيضا بدمج المدينة في بيئتها الطبيعية، بحيث يتم خلق تكافلات بين المدن المتجاورة وترابطا أكثر بين المدينة والريف.
3   تعزيز سياسة شاملة بشأن الحيز الحضري العام والجمعي. ويعني هذا تشجيع كل أشكال حيازة مجموع السكان للحيز الحضري، لوضع حد للاتجاهات نحو التفتت، والتحويل إلى الغيتووات، والأبارتهيد الحضري. ويجب الإعداد الدقيق لسياسة فعالة وديمقراطية لوسائل النقل والمواصلات الحضرية. مع احترام التوازن الإيكولوجي.
3   خلق تراث حضري حي موجه نحو الانتقال إلى الأجيال المقبلة. ويجب التفكير في المدينة على أنها إطار وقوة دافعة للتضامنات بين المجموعات الاجتماعية والأجيال. وعلى التخطيط الحضري والهندسة المعمارية، يجب أن يرتكز حب للمدينة كمصدر للتماسك والإبداعية.
3   وبهذا المنظور، يجب أن توفق سياسات المدنية بين التخطيط الحضري والهندسة المعمارية، اللذين بقيا في أغلب الأحيان منفصلين منذ النصف الثاني للقرن العشرين.
3   تشجيع كل أشكال مشاركة وتعاون المجتمع المدني، والمجتمعات المحلية، والجمعيات، والسلطات القومية والدولية، ليس فقط حتى لا تستمر معاناة العيش في المدينة كمصير، بل لتكون منشودة كمشروع مشترك يقوم على مفهومي المواطنة الحضرية والتهذيب. والحرص على توفير أمن أفضل للسكان في مواجهة الجنوح والجريمة المنظمة.
3   تعزيز التعليم للجميع مدى الحياة وبصورة خاصة التعليم الذي يقوم بتدريس المدينة: تدريس السلوك الإيكولوجي أو الاقتصادي من أجل المحافظة على المدينة كموئل، وتدريس ممارسة الحوار والمشاركة الوطنية لتحويل المدينة إلى حاضرة للمواطنين، وتدريس تاريخ المدينة واحترام تراثها، وتدريب المخططين الحضريين لخلق حب للمدينة بحيث تكون قادرة على أن تقدم لكل فرد من سكانها فرص الازدهار الشخصي.
3   تصوُّر المدينة على أنها دعامة أساسية لبناء ثقافة سلام في القرن الحادي والعشرين، وبصورة خاصة من خلال حلاوة المعشر، والتضامن، والمشاركة، ولكن أيضا من خلال الحوار الديمقراطي وممارسة الجميع للمواطنة.
 


4
مستقبل وسائل النقل الحضري:
أكثر أمانا، أكثر نظافة، أكثر قربا
 
 
تمثل وسائل النقل رهانا رئيسيا من رهانات المستقبل، وعلى وجه الخصوص وسائل النقل البرى، وبصورة نوعية أخص وسائل النقل الحضري. وفى هذه المجالات، يمكن تحقيق إنجازات كبيرة من ناحية خفض انبعاثات غازات الدفيئة، من خلال البحث عن مصادر جديدة للطاقة أو عن محركات جديدة أقل تلويثا. وفى مجال النقل الجوى، يبدو في الواقع أنه لا يمكن في الوقت الحالي أن نتوقع سوى القليل من الإنجازات البارزة خلال الأعوام المقبلة، لأنه لا يوجد إلى الآن بديل حقيقي للكيروسين كوقود. ولهذا يقتصر الجانب الأساسي من الإنجازات المحتملة التي نناقشها هنا على البعدين الحضري والبرى لوسائل النقل.
ومنذ وقت طويل يجرى تناول مسألة وسائل النقل من زاوية زيادة الحركة وسرعتها وانطلاقها: من هذا المنظور تقوم البنية الأساسية لوسائل النقل بدور رافعة الجذب الاقتصادي، فهي تحفز الطلب عن طريق مشروعات التشييد الكبرى وتزيد المنافسة الاقتصادية، الناتجة عن تنظيم أفضل لتدفقات السلع والأشخاص([254]). ولا شك في أن هذا المنظور مهم ولم يفقد شيئا من طابعه الراهن: إن الوصول الأفضل للكائنات البشرية إلى الجهات التي يريدون الوصول إليها من شأنه، من حيث المبدأ، أن يعزز رفاهيتهم والفرص التي تقدمها الحياة لهم. وهنا تتطابق سرعة الحركة مع الحرية وتمثل عاملا رئيسيا من عوامل التنمية. غير أن العالم يواجه منذ عدة عقود نموا كبيرا في وسائل النقل في المناطق الحضرية، تثير نتائجه السلبية الشكوك حول الرؤية الكلاسيكية عن التقدم عن طريق سرعة الحركة. ومهما كان حجم المدينة، فإن عدد السيارات في الطرق يزداد في المناطق الحضرية أسرع من معدل زيادة السكان مرتين أو ثلاث مرات، كما يزداد فيها استخدام السيارات أسرع حتى من ذلك. وهذه المشكلة مقلقة على وجه الخصوص في مدن البلدان النامية، حيث لا تكون الحضرنة السريعة مصحوبة دائما بتوسيع نطاق الحيز الحضري المخصص لطرق المرور. وعلى سبيل المثال فإن نسبة 11% فقط من الحيز الحضري لمدينة بنغكوك مخصصة لذلك، في حين أن النسبة الخاصة للمدن الأوروبية تتراوح من 20% إلى 25%([255]). ها هو قد أتى إذن الوقت الذي يصطدم فيه الاتجاه إلى إضفاء الطابع الفردي على الانتقال وإلى البحث عن الرحابة في المكان والزمان بعقبتين رئيسيتين: الازدحام والتلوث.
ويدفع النمو الهائل في امتلاك السيارات إلى تباعد أماكن الإقامة والعمل، وكذلك المراكز التجارية والمحاور الأخرى للحياة الحضرية. ويؤدي ازدحام وسط المدينة وإنشاء بنية أساسية جديدة إلى تضخم هذا الاتجاه. ويخلق هذا التباعد، بدوره، شبكة من الانتقالات المتباعدة التي لا تستطيع وسائل النقل العام "الكلاسيكية" تأمينها إلا لقاء صعوبات كبيرة واستثمارات باهظة. وهكذا نكون إزاء حلقة شريرة حقيقية تفضي إلى زيادة بلا حدود في استخدام السيارة الخاصة. وما دام الازدحام يفضي، بدلا من الحد من استخدام السيارة الخاصة، إلى تشييد المزيد من البنية الأساسية التي تشجع على التباعد المكاني، فإن هذه الحلقة الشريرة لا يمكن إلا أن تؤدى إلى اعتماد مجتمعاتنا بصورة مفرطة ومتزايدة دوما إزاء السيارة.
والسؤال الذي يطرحه عدد من الخبراء، من بينهم مارسيا لووى Marcia Lowe، من معهد الرقابة العالمية، بسيط جدا: هل تقوم السيارة بتحسين وصول السكان إلى الجهات التي يريدون الوصول إليها؟ أم أن على الأفراد أن يذهبوا إلى أماكن تتباعد دوما للوصول إلى الأسواق، والخدمات، وأماكن العمل، ومواقع أخرى للحياة اليومية([256]). ومن هذا المنظور، يجرّ التوسع في الانتقال بالسيارات على المجتمع أعباء كبيرة مثل تلوث الجو، والازدحام المتزايد، والإسهام في دفء مناخ الأرض، والوقت الضائع في وسائل النقل، والأضرار التي تصيب البيئة وبنية الحياة والتي تثير بصورة متزايدة استياء المقيمين بجوار مشروعات البنية الأساسية([257]). وناهيك بالثمن الباهظ المدفوع، بأرواح البشر، والإعاقات الدائمة، وتدهور الصحة ونوعية الحياة: وفقا للبنك الدولي، يموت أكثر من نصف مليون شخص كل عام بسبب حوادث الطرق، ويُصاب عدد أكبر أيضا. وثلثا الضحايا من المشاة، وثلث هؤلاء من الأطفال. وهذه المعدلات أكثر ارتفاعا أيضا في البلدان النامية. وفى الهند، لا تتجاوز نسبة راكبي السيارات الخاصة 5% فقط من ضحايا حوادث المرور الخطيرة([258]).
أما الازدحام المتزايد فإنه يتجسد في فترات ذروة المرور التي تمتد اثنتي عشرة ساعة أو أكثر في سيول وأربع عشرة ساعة في ريو دي جانيرو([259]). وفى وسط القاهرة، تزيد الضوضاء على عشرة أضعاف معدلات الصحة والأمان، وفى بعض الأحياء، تتجاوز تركزات الرصاص في الهواء من خمسة إلى ستة أضعاف المعدلات التي حددتها منظمة الصحة العالمية([260]). ويفقد سكان المناطق الحضرية الرئيسية في الولايات المتحدة ما بين مليار وملياري ساعة في الطرق المزدحمة، ويقلّ متوسط سرعة المرور في باريس في ساعات الازدحام عن 10 كيلومترات في الساعة([261]). ووفقا لدراسة حديثة، في إنجلترا، تتجاوز التكلفة السنوية للازدحام 16 مليار دولار([262]). وتقدر سلطات العاصمة بنجكوك أن مشكلات المرور تؤدى في هذه المدينة إلى خسارة 44 يوم عمل في المتوسط في السنة([263]). ووفقا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، يؤدي التلوث هناك إلى نفقات طبية سنوية قيمتها مليار دولار([264]). وعلاوة على هذا، تسهم هذه الخسائر للوقت وهذه النفقات الطبية في تضخيم الناتج المحلى الإجمالي للبلدان المعنية بصورة مفتعلة، وخادعة بوضوح، مما يظهر الطابع البالي لعدد من أدوات القياس الاقتصادي، التي تقوم أيضا بتسجيل زيادة الطاقة وخصوم التنمية باعتبارها أصولا.
ووفقا لتقرير حديث لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عن وسائل النقل الحضري، يمكن في الوقت الحالي تقدير التكلفة الاقتصادية والبيئية والاجتماعية للانتقال بحوالي 5% من الناتج المحلى الإجمالي للبلدان الصناعية الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية([265]). وينبغي بالتالي أن ننسى التبسيط القائل "سيارات أكثر = نموا اقتصاديا أكثر".
وتمثل السيارة من الآن المصدر الأول لتلوث الجو. وهى مصدر السحابة السوداء التي تغطى أغلب المدن الكبرى في العالم. ويمكن أن تكون لهذا التلوث نتائج قاتلة على الأطفال الرضع، والمسنين، والمصابين بالربو([266]). وعلى سبيل المثال، يُقَدَّر أن المستويات المرتفعة للجسيمات التي تطلقها المركبات، في المكسيك، والخطيرة بصورة خاصة على الجهاز التنفسي، تتسبب في 12500 من الوفيات كل عام([267]). وفى فرنسا، تقدر الجمعية الفرنسية للصحة العامة عدد الوفيات السنوية الناتجة عن التلوث بالسيارات بأكثر من ألف([268]). ووفقا للبنك الدولي، تقدر التكلفة السنوية للتراب والرصاص في بنغكوك، وجاكرتا، وكوالا لمبور، بـ 5 مليار دولار، أي حوالي 10% من دخل هذه المدن الثلاث. والأخطر من هذا أن التسمم بالرصاص سوف يصيب من الآن 90% من الأطفال في المدن الكبرى في أفريقيا و29% من الأطفال في المكسيك. وفى بنغكوك، سوف يكلف التسمم بالرصاص الأطفال أربع نقاط في المتوسط على مقياس درجة الذكاء. وعلى وجه الإجمال، يقدر البنك الدولي بـ 1.56 مليون وفاة في السنة الثمن الذي تدفعه آسيا بسبب تلوث الجو، الذي ينشأ جانب متزايد منه عن تلوث مصدره السيارة.
وتتسبب انبعاثات عوادم السيارات في نصف التلوث الحضري وفى أكثر من ربع انبعاثات غازات الدفيئة. فهي تشكل إذن سببا رئيسيا من أسباب دفء الأرض كما يشخصه أغلب الخبراء. والانتقالات هى مصدر تسعة أعشار انبعاثات أول أكسيد الكربون، وثلاثة أرباع انبعاثات أكسيد النيتروجين المعروفة المصدر، وثلث الجسيمات المتصاعدة إلى الجو([269]). وهذه المشكلة أكثر خطورة بكثير في البلدان النامية لأن الوقود هناك أكثر تلويثا مما في البلدان الصناعية. ووفقا للبنك الدولي، يتراوح محتوى الرصاص في الوقود الذي تستخدمه البلدان النامية بين 0.8 و1.1 من الجرام في اللتر، في حين أنه لا يتجاوز في البلدان الصناعية 0.15 من الجرام في اللتر في المتوسط . أما محتوى الديزل من ثاني أكسيد الكبريت فإنه يتجاوز في البلدان النامية ضعف مثيله في البلدان الصناعية([270]).
وفى سبعينيات القرن العشرين، كانت توجد سيارة مقابل 18 من السكان في العالم، أما اليوم فتوجد سيارة مقابل 12 من السكان في العالم. وصحيح أن معدل زيادة عدد المركبات في الطرق صار الآن أقل مما كان قبل 1970، غير أن هذا لا يمنع أنه في كل سنة تضاف 19 مليون سيارة إلى الأسطول العالمي الكلى. ووفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، صار من المرجح أن عدد السيارات الذي ارتفع بالفعل إلى أربعة أضعاف خلال الثلاثين عاما الأخيرة (من 120 مليون إلى 500 مليون سيارة)، سوف يتضاعف من جديد من الآن وحتى 2010، ليرتفع إلى مليار سيارة. وعلى سبيل التوضيح فقد كان من المتوقع، في كوريا، قبل أزمة الاقتصادات الآسيوية، أن يرتفع عدد المركبات من 3.4 ملايين إلى 12 مليونا بين 1990 و2000. وفى الاتحاد السوفييتي السابق، كان من المتوقع أن يرتفع إنتاج السيارات إلى أربعة أضعاف بين 1985 و2010، فيرتفع بالتالي من 1.3 مليون إلى 5 ملايين سيارة في السنة([271]). وفى منطقة آسيا والمحيط الهادي، وهى الآن المنتج العالمي الأول، بإنتاجها السنوي الذي يزيد على 15 مليون سيارة، كان من المتوقع أن تسمح الاستثمارات المتحققة مؤخرا لزيادة طاقات الإنتاج، قبل الانهيارات المالية في 1997-1998، بإنتاج 6 ملايين سيارة إضافية في السنة، من حيث المبدأ. والواقع أن التنافس صار بالغ الحدة بحيث صار يثير الآن مخاوف من فائض في طاقات الإنتاج على النطاق العالمي: قد يصل هذا الفائض من الآن وحتى عام 2000، إلى 22 مليون من المركبات([272]). وإذا نتج عن هذا انخفاض ملموس في الأسعار، فإنه يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع شديد في الطلب على المركبات، والضغط المتزايد على البنية الأساسية، وبالتالي تفاقم الازدحام الحضري.
وتضاف زيادة عدد السيارات إلى ارتفاع عدد الكيلومترات المقطوعة في الانتقالات. وعلى سبيل المثال، قطع الأمريكيون في 1990، للذهاب إلى أعمالهم، كيلومترات تزيد بنسبة 16% عنها في 1969، وبزيادة 88% للتسوق، وبزيادة 137% لقضاء حاجاتهم الشخصية الأخرى. وبالمقابل، تقلصت الانتقالات المخصصة للحياة الاجتماعية وأوقات الفراغ في الولايات المتحدة بنسبة 1%. فهل يمكن بالتالي أن نقول إن زيادة سرعة الحركة قد أدت إلى تحسين نوعى في انتقالات الأشخاص وفى وصولهم إلى الجهات التي يريدون الوصول إليها([273])؟
ووفقا لباحثة ألمانية من معهد فوپرتال، فإن الأولوية التي تعطى لسرعة الحركة تؤدى في كثير من الأحيان إلى استخدام للأراضي وتنظيم للنشاط الاقتصادي غريبين حقا. وتأخذ هذه العالمة في اعتبارها مثال اللبن الزبادي بالفراولة، الشعبي جدا في ألمانيا والذي يقطع، قبل أن يصل إلى المستهلك، مسافة تصل في المتوسط إلى 3500 كيلومتر عبر البلاد، بالإضافة إلى 4500 كيلومتر من التنقلات اللازمة للموزعين، وتطالب بإنتاج أكثر محلية. ولا يمكن تصور مثل هذا الإنتاج إلا إذا كانت قوة العمل أرخص ووسائل النقل أبهظ تكلفة، بما يعكس بصورة أفضل تكلفتها الحقيقية من وجهة نظر الاقتصاد، والتنمية المستديمة، ونوعية الحياة([274]).
وفى الساعات التي يذهب فيها الناس إلى أعمالهم أو يعودون فيها إلى بيوتهم لا يوجد في المناطق الحضرية، على النطاق العالمي، سوى 1.3 راكب في المتوسط للسيارة الواحدة (1.1 في الولايات المتحدة). وفى الوقت الذي تلجأ فيه بصورة متزايدة قطاعات أخرى مرتفعة الاستهلاك للطاقة إلى أنماط أخرى أقل تلويثا من المحروقات، يستهلك نشاط وسائل النقل المزيد والمزيد من البترول بالأرقام المطلقة والنسبية على السواء. ومن جهة أخرى، إذا استمرت الاتجاهات الحالية فإن عدد الكيلومترات التي تقطعها سنويا كل مركبات العالم يمكن وفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن يتجاوز في 2010 المستوى المتحقق في 1990 بنسبة 66%.
وتمثل وسائل النقل قطاعا ثقيلا يتميز بالركود التقني، "حيث يستغرق اتخاذ القرارات وقتا طويلا، وحيث يستغرق تنفيذها وقتا طويلا أيضا، وحيث تمتد نتائجها إلى المستقبل البعيد، وتؤثر على مجالات بعيدة جدا أحيانا عن المجال الأصلي وعن الفاعلين الذين يقومون بتشغيلها"([275]). ويفرض نفسه بالتالي مجهود مستقبلي خاصة وأن كل سياسة لوسائل النقل تقتضي تشييد بنية أساسية يتجاوز عمرها الافتراضي في كثير من الأحيان خمسين عاما. ويمعن بنجامان ديسِّى Benjamin Dessus النظر في النتائج المنطقية لاختيار البنية الأساسية على استهلاك الطاقة ويشدد بصورة خاصة على مزايا النقل بالسكك الحديدية. وهو يشير إلى أنه "في 1993، كان استهلاك الطاقة للقطار السريع عند مستوى 14 جراما من معادل البترول للراكب الواحد في الكيلومتر الواحد، مقابل 36 جراما للسيارة"، وإلى أنه "خلال خمسين عاما من استغلال البنية الأساسية الضرورية، يدرّ الاختيار الأساسي للقطار، إذن، منذ البداية، دخلا نتيجة توفير الطاقة بنسبة 60% بالمقارنة مع النقل بالطرق، مع تساوى كل الأشياء الأخرى"([276]).
وتفرض نفسها تدابير جديدة ومسئولة: مشاركات جديدة بين القطاع العام، والقطاع الخاص، والعلماء، والخبراء، والمستهلكين، تسمح بإيجاد حلول تتمثل في الاستغناء الجزئي عن السيارة، والنضال ضد كوارث الازدحام الحضري، وتبديد الطاقة، والأضرار الإيكولوجية التي تنجم عن غياب إستراتيجيات للأجل الطويل. ففي أية خيارات يمكن أن نفكر؟
سيارة أكثر كفاءة؟
يراهن عدد من الخبراء على "السيارات الفائقة"، هذه المركبات المنخفضة الاستهلاك للطاقة. ويبدو أن هذا الحل يستند إلى إنجازين. الأول، استخدام مواد أخف وزنا، وأكثر انسيابية، وأكثر مقاومة للصدمات: ويغدو من الممكن بالتالي استعادة جانب كبير من نسبة 80 إلى 85% من الطاقة التي تتبدد عند الاستهلاك كخسارة خالصة قبل الوصول إلى العجلات. والتجديد الثاني هو إدخال نظام هجين يجمع بين الدفع الكهربائي والبنزين: تتيح هذه الطريقة رفع كفاءة استهلاك الطاقة بنسبة تتراوح بين 30% و50%. وعلى هذا فمن المحتمل أن يؤدي الجمع بين هاتين الإستراتيجيتين اللتين تقومان على تهجين الطاقة وأقصى تخفيف للوزن إلى رفع كفاءة استهلاك السيارة للطاقة بنسبة تتراوح بين خمسة أضعاف وعشرين ضعفا بالمقارنة مع المستوى الحالي([277]). وتتجه الأبحاث من الآن نحو بطاريات الوقود التي تتيح إنتاج الكهرباء من الهيدروجين. إن بطاريات الوقود هذه، علاوة على واقع أنها تسمح بخفض كبير (وفى أفضل الأحوال بالمنع التام) للانبعاثات الملوثة من المحركات، سوف تسمح أيضا بحل واحدة من المشكلات الرئيسية التي تطرحها السيارات الكهربائية، ألا وهى مشكلة اكتفاء السيارة [أي قدرتها على إعادة شحن البطاريات ذاتيا]. وتكمن المشكلة الرئيسية في تخزين الهيدروجين، ومن هنا فكرة إنتاج الهيدروجين داخل المحرك من أنواع من الوقود مثل الميثان، أو الغاز الطبيعي، أو البنزين([278]). وتتمثل خطوة كبرى أخرى نحو إنتاج سيارات أقل تلويثا في تعميم استخدام الألواح الكهربائية الضوئية المدمجة في هيكل السيارة لشحن بطاريات السيارات الكهربائية.
كما يهتم خبراء عديدون باستخدام أنواع جديدة من الطاقة. وعلى سبيل المثال فإن غاز البترول المسيَّل الذي لا تصعد منه جسيمات (على عكس الديزل الذي ينبعث منه 0.05 من الجرام للكيلومتر) يخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 3% وانبعاثات أول أكسيد الكربون بنسبة 50%([279]). وفى هولندا، حيث محطات الخدمة التي تبيع غاز البترول المسيَّل هى الأكثر عددا في أوروبا، تستخدم 8% من السيارات الآن هذا الوقود الذي يمكن أن تشجع السلطات العامة التوسع في استخدامه عن طريق ضرائب أقل ارتفاعا من الضرائب المفروضة على الأنواع الأخرى من الوقود. ويمثل استخدام الغاز الطبيعي كوقود للسيارة، وهو منخفض التلويث أيضا بنفس القدر، خيارا آخر، مقتصرا بصورة رئيسية في الوقت الحالي على المركبات الخاصة بالأعمال أو تلك التي تعطى الأولوية للاعتبارات العملية على الاعتبارات الجمالية، لأنه يحتاج إلى تركيب مستودع كبير داخل المركبة.
ولا يوجد أدنى شك في أن "السيارات الفائقة" والمحركات التي تعمل بغاز البترول المسيل أو بالغاز الطبيعي كوقود للسيارة سوف تشكل أداة ممتازة للنضال ضد التلوث. وعلى كل حال فإن نجاح هذه السيارات يمكن أن يكون سلاحا ذا حدين، إذا كان لا مناص من أن يسهم في تضخيم مشكلة ازدحام المدن ومشكلة المساكن البعيدة جدا. ومن جهة أخرى، لا ينبغي إهمال تكلفة هذه السيارات. وتبين دراسة حديثة للاتحاد الأوروبى أن التكنولوجيات الموجودة في الوقت الحالي كافية لخفض متوسط استهلاك السيارات من البنزين بنسبة 40%، غير أن التكلفة الإضافية المرتبطة بإنتاج هذه السيارات تتراوح بين 940 و2270 وحدة عملة أوروبية écu (يورو .. الآن)([280]). على أن مثل هذه التكلفة الإضافية يمكن خفضها بشدة حالما تصير التكنولوجيات الجديدة واسعة الانتشار في السوق، بدعم السلطات العامة عن طريق الدعم المالي والضرائب التفضيلية.
والواقع، كما يشدد جون ديسيكو John Decicco ومارك روس Marc Ross، أن إحدى العقبات الرئيسية أمام اعتماد تكنولوجيات تسمح بخفض استهلاك الطاقة تتمثل على وجه التحديد في أن الفاعلين في السوق لم يبدوا إلى الآن سوى اهتمام محدود جدا بذلك. ووفقا لهذين الخبيرين فقد ظل استهلاك المركبات الجديدة راكدا منذ اثني عشر عاما، خاصة لأن سعر الوقود ظل منخفضا، ولأن شركات صناعة السيارات تعطى الأولوية لزيادة قوة وراحة المركبات على حساب قدر أكبر من الاكتفاء. ومن هنا أهمية تدابير الحوافز مثل الضرائب على المركبات المرتفعة الاستهلاك للوقود([281]). ومع ذلك تبدو بعض العلامات المشجعة. إذ أن عددا من شركات صناعة السيارات صارت تدرك أهمية إجراء خفض للانبعاثات الملوثة لمركباتها وصارت تبدى الآن اهتماما بإنتاج السيارات الهجينة أو المركبات التي تعمل بالهيدروجين، ونعنى تويوتا، أو جنرال موتورز، أو فولكسڤاغن، أو ڤولڤو، أو رينو، أو بيجو ـ ستروين، أو حتى ديملر ـ كريسلر. غير أنه، كما يشدد دانييل سبيرلنغ Daniel Sperling، تبقى المبالغ المخصصة لتطوير هذه المركبات هزيلة، فقد ارتفعت في مجموعها إلى مليارات قليلة من الفرنكات خلال تسعينيات القرن العشرين، في حين أن نفقات دعاية صناعة السيارات الأمريكية تمثل وحدها 25 مليار فرنك في السنة([282]).
ولا ينبغي أن ننسى أيضا أنه إذا كانت التكنولوجيات تتحسن فإننا نشهد في الوقت نفسه تفاقم أوضاع حركة المرور وشيخوخة أسطول السيارات، كما لا ينبغي أن ننسى أيضا أن هامش التقدم التقني أضعف في مدن الولايات المتحدة واليابان اللتين تطبقان منذ وقت أطول سياسات ترمى إلى الحد من الآثار الضارة للتلوث المروري. وتبين دراسة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنه حتى إذا تم إنزال مليون من السيارات التي تعمل ببطاريات كهربائية أو ببطاريات هيدروجين إلى الطرق في الولايات المتحدة فإن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لن تقل سوى 1% فقط بالمقارنة مع المعدلات الملحوظة في الوقت الحالي في الولايات المتحدة([283]).
وهذا هو السبب وراء حقيقة أن الإنجازات المتعلقة بكفاءة طاقة السيارات، حتى إذا كانت كبيرة، ينبغي أن تكون مصحوبة بتدابير أخرى في الأعوام المقبلة.
إعطاء الأولوية
لوسائل النقل العام
يتمثل الحل المفضل لتخفيف مشكلة الازدحام في تعزيز دور وسائل النقل العام في المراكز الحضرية الأكثر ازدحاما. والواقع أنه عندما يستخدم عدد كافٍ من الأشخاص وسائل النقل المشترك فإنها تسمح باستخدام أفضل كثيرا للمساحة والطاقة، بتكلفة أقل جدا من تكلفة السيارة الخاصة، وبخفض التلوث بصورة ملموسة وكذلك غازات الدفيئة. وتمضى وسائل النقل العام يدا في يد مع الاحتفاظ بقدر من مركزية أماكن قيام ووصول الانتقالات. ولهذا فإنها تتوافق مع الاحتفاظ بالهياكل الحضرية الموروثة من التاريخ. وهى تساعد أيضا في زيادة قيمة الاستثمارات الضخمة في البنية الأساسية والعقارات التي يتم توظيفها في وسط المدينة.
وفى البلدان النامية بصورة خاصة، تكون شبكات وسائل النقل العام غير كافية في كثير من الأحيان، بالمقارنة بالطلب المحتمل. ومع ذلك، فمن الآن حتى عام 2000، سوف تضم البلدان النامية 16 من المدن الضخمة التي يزيد عدد سكان كل مدينة منها على 12 مليون نسمة. لقد آن الأوان إذن للتخطيط بكل جدية لتحسين الشبكات القائمة أو إقامتها عندما تكون غير قائمة. والواقع أن الحيز الحضري الذي يستخدمه المشاة والنقل العام أقل مائة مرة تقريبا من الحيز الذي تستخدمه السيارات ومواقفها([284]). وفى مدن كثيرة جدا، جرى إهمال وسائل النقل المشترك وهى تعتبر الآن خدمة تخص السكان المحرومين الذين لا يمتلكون سيارات، مما ينعكس في صورة المعدات القديمة، وفى حالة سيئة، وبطاقة نقل غير كافية([285]). وينبغي أن نعكس هذا الاتجاه.
وخلال العشرين سنة الأخيرة، تم تجهيز عدد من المدن الكبرى في العالم الثالث، مثل مكسيكو سيتي، وشنغهاي، والقاهرة، بمترو الأنفاق، مما أسهم بصورة كبيرة في تحسين المرور في وسط المدينة، وكان لولا ذلك سيظل على شفا الازدحام الكلى. على أن إنشاء مترو الأنفاق باهظ التكلفة، ويرى عدد من البلدان النامية أن مواردها غير كافية لتزويد نفسها بهذا النوع من البنية الأساسية.
وتتجه السلطات العامة بالتالي بصورة متزايدة نحو إنشاء أو إصلاح شبكات خفيفة تتمحور حول استخدام الترام. والواقع أن إنشاء شبكة خفيفة أرخص كثيرا، كما شدد مارسيا لووى: إنه يكلف في المتوسط خُمْس سعر مترو السطح، وعُشْر سعر مترو الأنفاق([286]). وعلى عكس المترو، لا تقتضي الشبكة الخفيفة تشييد طريق مرور خاص مستقل، بل يمكن أن تندمج مع طرق المرور القائمة. غير أن من الجلي أنه سيكون أكثر فائدة أن يجرى الاحتياط لاستخدام مسار مخصص لها من أجل تحقيق أقصى الكفاءة ومن أجل حفز مستعمليها على الإقبال عليها: وعلى سبيل المثال، يستغرق الركاب في مانيلا 15 دقيقة لقطع 22 كيلومترا على خط الترام الخفيف، في حين يستغرق قطع المسافة نفسها في طريق السيارات حتى ساعتين. ومن جهة أخرى، دفع نجاح هذا الخط الحكومة إلى إعداد برامج لإنشاء ثلاثة خطوط إضافية.
ويتمثل حل آخر في إعادة تأهيل شبكات السكك الحديدية وربطها بخطوط الحافلات السريعة. وعلى سبيل المثال، أنشأت كل من داكار ولاغوس خطوط الضواحي الخاصة بها باستخدام الطرق القائمة. وفى هاتين الحالتين، ارتفع عدد الركاب كما أن الشبكات التي تم إنشاؤها تغطى الأموال التي أنفقت عليها، وليس هذا هو الحال المألوف في المشروعات العامة لوسائل النقل([287]). وقامت هونغ كونغ بتحديث شبكة قطارات ضواحيها بتكلفة بلغت 13.2 مليون دولار للكيلومتر الواحد، أي حوالي 10% من تكلفة مترو الأنفاق. وبطريقة مماثلة، جددت ريو دي جانيرو وسان باولو، شبكات السكك الحديدية للمناطق شبه الحضرية المحيطة بهما وكانت شبكات طويلة جدا ولكن في حالة سيئة، وهى الآن قادرة على نقل أكثر من مليون راكب كل يوم في كل مدينة منهما.
ويمكن أن يسهم تطور النقل الذكي باستخدام التليماتيك في تحقيق تنظيم أفضل لتدفق وسائل النقل، كما أنه يجعل اللجوء إلى وسائل النقل العام أكثر جاذبية. وفى هولندا، تتم برمجة إشارات المرور وفقا لعدد السيارات الموجودة في حركة المرور من أجل إعطاء الأولوية للحافلات: وقد سمح العائد الأفضل للحافلات بزيادة استعمالها وخفض معدلات تشغيلها. وبالتالي يمكن أن يرفع التليماتيك طاقة البنية الأساسية المرورية القائمة، بنسبة 10% على الأكثر وفقا للخبراء([288])، غير أنه لن يكون كافيا لحل مشكلة ازدحام المدن.
ويذكر فرنسوا أشير François Ascher أولوية أخرى لصالح وسائل النقل المشترك في السنوات المقبلة: لا مفر من أن تتكيف وسائل النقل المشترك مع تحولات المجتمع في سبيل تفادى هبوط تدريجي ومتواصل في استعمالها، ولهذا فلا مفر إذن من إعادة النظر فيها بل حتى من إعادة اختراعها. ونحن نشهد بالفعل التطبيق المتزايد لعدم تزامن ساعات عمل الأفراد، التي صارت أكثر اختلافا عما كانت في الماضي. ومن جهة أخرى فإن أكثر من نصف الانتقالات لها الآن دوافع أخرى غير العمل. وصارت تحركات الأفراد موزعة بطريقة أقل تزامنا، ونحن نشهد الآن إطالة "مدة استمرار نشاط" المدينة([289]).
وفى نظر أشير، يندرج هذا الاتجاه في اتجاه عام: إضفاء الطابع الفردي بصورة متزايدة على الممارسات والمواعيد اليومية. وبفضل الإنجازات التكنولوجية، خاصة في مجال الاتصالات، تغدو السيطرة على مقتضيات الوقت أفضل فأفضل، والحقيقة أن الناس لم يعودوا يتحركون في الزمن، بل يكيفونه لأنشطتهم. وإذا كنا لا نريد أن نترك المدن الكبرى لسيارة الفرد الواحد فإنه ينبغي إذن إعادة التفكير بعمق في وسائل النقل العام لجعلها تتكيف مع التدفقات الضعيفة ولكن الدائمة والأكثر تباينا. وقد يكون هذا أحد التحديات الرئيسية، في المستقبل، التي سوف يكون من الواجب أن تواجهها سياسات وسائل النقل الحضري خلال العقود المقبلة.
كوريتيبا: تأمين تمتع الجميع
بوسائل النقل بتكلفة اجتماعية وبيئية قليلة
كوريتيبا هى أسرع مدينة نموا في البرازيل، إذ أن عدد سكانها ارتفع إلى أكثر من ثلاثة أضعافه خلال الخمسة والعشرين عاما الماضية. غير أن هذه المدينة معروفة بأنها واحدة من أيسر المدن في الحياة في البرازيل، ويرجع هذا بجانبه الأكبر إلى سياسة متكاملة في تخطيط وسائل النقل واستغلال الأراضي. نُظمت المدينة حول محورين تتعايش على طولهما البنية الأساسية السكنية والتجارية. ويتحدد كل محور بثلاث طرق متوازية، يخصص الطريق الأوسط منها لوسائل النقل العام. أما الطريقان الآخران وهما باتجاه واحد فإنهما مخصصان لباقي حركة المرور. وقبل اعتماد خطة التنمية الحضرية في 1964، اشترت البلدية أراضي على طول المحورين بغرض بناء مساكن من أجل الفئات غير القادرة من السكان. وكان هدف السلطات تأمين وصول الجميع إلى وسط المدينة. وبالإضافة إلى المحورين الأصليين، صارت كوريتيبا تمتلك اليوم ثلاثة محاور إضافية للتنمية الحضرية.
ويتمثل أحد مفاتيح نجاح التنمية الحضرية لكوريتيبا في شبكة وسائل نقلها العام التي تستند إلى شبكة حافلات تستخدم الطريق الأوسط للتدفقات الرئيسية العابرة وتغذى الطريقين الآخرين لحركة المرور. وبصورة تعكس زيادة بالغة في الطلب، نشأت شبكة وسائل النقل العام في كوريتيبا على مر الأعوام لتلبية طلب عدد متزايد من مستعمليها. وقد ارتفع رقم هؤلاء من 50000 في اليوم في 1974، إلى 800000 في اليوم في 1994، وتسيطر شبكة وسائل النقل العام لكوريتيبا على تدفق ركاب أكبر أربع مرات من ذلك الخاص بشبكات الحافلات التقليدية. وكان العامل الأول الذي أتاح زيادة تدفق الركاب هو استخدام الطرق المخصصة لوسائل النقل العام. وكان العامل الثاني هو إدخال حافلات مفصلية أتاحت زيادة تدفق الركاب مرتين ونصف بالمقارنة بشبكات الحافلات التقليدية. وكان العامل الثالث اختراع محطات الحافلات على شكل أنبوبة، بحيث تكون المحطة مغلقة عند طرف ومجهزة بأرصفة مرتفعة لصعود الركاب الذين يدفعون أجر مسافة رحلتهم عندما يدخلون المحطة من الطرف المفتوح للأنبوبة. وقد أتاح هذا النظام تسريع صعود الركاب وتفادى وجود مُحصِّل. وقد سمح إدخال محطات على شكل أنبوبة بمضاعفة تدفق الركاب إلى 3.2 مرة بالمقارنة بالشبكات التقليدية. وكان العامل الرابع إدخال حافلة مفصلية مزدوجة سمحت بمضاعفة تدفق الركاب أربع مرات كمجموع كلى.
وقد اعتمدت السلطات المسئولة عن وسائل النقل العام "تعريفة اجتماعية" فريدة سمحت بإجراء عدد محدود من التغييرات، وهذا لتفادى معاقبة الأشخاص الذين يعيشون في الأطراف الأكثر فقرا من المدينة. وعلاوة على هذا فإنه يمكن تبادل الفضلات والقمامة المنزلية مقابل تذاكر الحافلات، مما يسمح في آن معا لأفقر الفقراء بتوفير عبء مالي لا يستهان به وللبلدية بخفض الجزء المخصص من موازنتها لجمع القمامة. وتسمح التعريفات المطبقة بتغطية مجموع تكلفة شبكة وسائل النقل العام، هذه الشبكة التي تديرها بصورة مشتركة البلدية ومشروعات محلية. وتجرى مكافأة شركات الحافلات وفقا لعدد الكيلومترات المقطوعة وليس وفقا لعدد الركاب، مما يشكل حافزا لتغطية مجموع منطقة المدينة. والبلدية مكلفة بتشييد البنية الأساسية وصيانتها، غير أن هناك حقيقة لافتة للنظر وهى أن شبكة وسائل النقل العام لكوريتيبا لا تتلقى دعما ماليا. ويركب حوالي 70% من السكان الحافلة كل يوم (وكان 28% من المستعملين الحاليين لوسائل النقل العام يتنقلون بالسيارة من قبل). وقد سمحت شبكة وسائل النقل العام لكوريتيبا بخفض استهلاك البنزين للفرد بنسبة 30% بالمقارنة باستهلاك المدن الأخرى ذات الحجم المماثل في البرازيل كما سمحت بتحسين نوعية الهواء، وهو اليوم أكثر نقاء مما في أيّ مدينة أخرى في البلاد. وتتعلق مبادرات مهمة أخرى بصورة خاصة بتحويل الحافلات القديمة إلى فصول دراسية متنقلة. وأثبتت بلدية قرطبة قدرتها على الاحتياط للتنمية الحضرية بمجملها وعلى حل المشكلات على أساس منهجي. وتعتبر تجربتها مثالا للنجاح يمكن أن تستلهمه كل البلديات الأخرى.
المصادر:
Jonas Rabinovich (Urban Development Unit, UNDP), « Curitiba : towards sustainable urban development », Environment and Urbanization, vol. 4, n° 2, octobre 1992; papiers présentés lors de reunions internationales, 1992, 1994 ; Factor Four, rapport présenté au Club de Rome, 1995; Habitat II, Information initiale sur les meilleures pratiques pour l amélioration de l environnement bâti, Nations Unies, 1995.
 
 
تشجيع وسائل النقل
التي لا تسير بمحركات
تتمثل وسيلة أخرى بسيطة جدا لتفادى النتائج السلبية للازدحام، والتلوث، وتبديد الطاقة، في إعطاء أولوية لتيسير وصول المشاة وراكبي الدراجات إلى شبكات الطرق الرئيسية، بما يجعل الشوارع العادية أكثر أمانا للدراجات وإقامة شبكات طرق للدراجات. وقد اتخذت بالفعل إجراءات بهذا الغرض في عدد من المدن، التي قررت فيها السلطات البلدية حظر وصول السيارات إلى وسط المدينة أو الخفض الشديد لفرص وصولها إليه.
وفى كوبنهاغن، مثلا، تم حظر وقوف السيارات في شوارع وسط المدينة، وحلت محل مناطق وقوف السيارات حدائق صغيرة عامة نسقها رسامون لمناظر الطبيعة، في حين تمت زيادة عدد أماكن وقوف الدراجات بجوار المحطات. وبطريقة مماثلة، ألزمت السلطات، في هراري، تجار وسط المدينة بتوفير أماكن لوقوف الدراجات([290]). وفى فرنسا، تقدم استعمال الدراجة في استراسبورغ بنسبة 15% من الانتقالات مقابل 3% بالنسبة لبقية البلاد، لأن السيارات مبعدة من وسط المدينة بفضل سياسة البلدية هناك.
وينبغي أن نحدد بوضوح أن الموقف المفضل إزاء الدراجة ليس بالضرورة موقف نبذ إزاء السيارات. وعلى سبيل المثال يستشهد معهد المراقبة العالمية بمثال هولندا، فهي ليست فقط بلدا صناعيا اتخذت فيه السلطات العامة المزيد من التدابير لصالح راكبي الدراجات، بأعلى كثافة للطرق المخصصة للدراجات في العالم، بل هى أيضا البلد الذي نجد فيه أعلى كثافة لحركة مرور السيارات، مع أنها تملك واحدة من شبكات النقل المشترك الأكثر اتساعا([291]).
والحقيقة أن الدراجة تبقى مرتبطة في كثير من الأحيان، في مخيلة السكان، بحالة مجتمع سبق إلى الوفرة والرخاء. على أنه ينبغي على العكس أن نجعل من استخدامها موضع اعتزاز، بالإصرار على مزاياها: إنها بالفعل وسيلة نقل صامتة، ومرنة، وغير ملوثة، وممتازة للصحة، ولا تتطلب سوى القليل من البنية الأساسية، وعلاوة على هذا فإن الدراجة ينظر إليها في كثير من الأحيان على أنها خطرة. غير أنه في فرنسا، على سبيل المثال، تميل البيانات إلى إثبات العكس. وتبين أرقام 1993 ما يلي: لكل 000 100 من الدراجات قتيلان، ومن المركبات الخاصة 24 قتيلا، ومن الدراجات ذات المحركات البخارية الصغيرة 25 قتيلا، ومن الدراجات البخارية 86 قتيلا. ولهذا ينبغي القيام بحملات معلومات حتى يتحسن هذا التصور الذاتي عن الأمن.
وتقدر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في تقريرها عن وسائل النقل الحضري والتنمية المستديمة أنه ما لم يتم إعداد سياسات نوعية للحفز والتنظيم فإن أنماط الانتقالات الصديقة للبيئة مثل السير على القدمين والدراجة سوف تستمر في التراجع([292]). ويوشك أن يكون هذا هو الحال في آسيا حتى إلى مدى أبعد، مع المزيد من وصول الاقتصادات الناشئة إلى مرحلة الاقتصادات الصناعية. وبالفعل فإن ارتفاع الدخول المتاحة ما يزال تتم ترجمته في كثير من الأحيان إلى اقتناء سيارة.
وعلى كل حال، توجد حركة معاكسة ملحوظة من الآن: كلما أدرك الأفراد والمجتمعات الإقليمية والمحلية ـ وعلى رأسها المدن ـ الأضرار والمخاطر التي يسببها الاعتماد المفرط على السيارة، هذا الشكل الغريب من "جنون السيارات" الذي لا نملك إلا أن نأمل في أن يؤدي رفع مستوى التعليم إلى تحريرنا منه تدريجيا في القرن الحادي والعشرين، يمكن أن نتوقع أن تشهد وسائل النقل التي تعمل بدون محرك استعادة لشعبيتها.
فهل نحن بحاجة إلى أن نستدعى الاستعمال المكثف والتقليدي للدراجات في الصين وفى مناطق من آسيا حيث أن من الضروري هناك تشجيع هذا في مواجهة إغراء الإفراط في استخدام السيارات؟ وفى هولندا والدنمارك، تتم نسبة تتراوح بين 20% و30% من الانتقالات الحضرية بالدراجة. وفى الولايات المتحدة، خلال السنوات العشر الأخيرة، ارتفع بشدة عدد الأشخاص الذين يذهبون إلى العمل بالدراجة ليصل إلى ثلاثة أضعاف، وقد ارتفع اليوم إلى ثلاثة ملايين شخص([293]). وهذه العلامات مشجعة.
ومن جهة أخرى فإن فكرة تخطيط حضري يعطى أقصى الأهمية للمشاة وراكبي الدراجات تغدو حاسمة خاصة وأنها تسمح بتعزيز النضال ضد الفقر والحرمان: وبالفعل فإن أسرة من كل أربع أسر في البلدان النامية لا تملك وسائل دفع أجرة وسائل النقل العام ـ الأمر الذي يمثل مصدر أكبر الفوارق في الحصول على التعليم، والصحة، والعمل، والخدمات، والثقافة، وكذلك مصدر إعادة إنتاج هذه الفوارق في الجيل التالي. وفى مانيلا، على سبيل المثال، يتعين على الفقراء التضحية بما يصل إلى 14% من دخولهم للذهاب إلى أعمالهم([294]). وبهذا الصدد فإنه لا حاجة بنا إلى المزيد من التشديد على أن سياسات إضفاء الطابع الحضري القائمة على انتشار التجمعات السكانية على أراضٍ متزايدة الاتساع إنما تؤدى قبل كل شيء إلى حرمان الفئات الأكثر تأثرا من السكان، لأن هؤلاء يعيشون في أغلب الأحيان في أبعد الأحياء عن مركز النشاط الاقتصادي. وتؤكد هذه المشكلة بصورة مماثلة أهمية أن يتاح للفئات الأكثر حرمانا من السكان الحصول على تذاكر مواصلات مدعومة.
نحو تنظيم أفضل للمكان
في كثير من الأحيان، تكون سياسات النقل وحركة المرور منفصلة عن سياسات تحديد مواقع المساكن، والوظائف والإمدادات. ولهذا تبذل المدن قصارى جهدها للملاءمة بين عرض النقل والطلب عليه في حين أنه يجب أن يكون بمستطاعها أيضا التأثير على الطلب، أيْ خفض الحاجة إلى الانتقال من خلال تنظيم أفضل لتحديد مواقع مختلف الوظائف الحضرية. إن حركة الفرد، وهى حرية ثمينة، تصير إكراها مكلفا بصورة متزايدة للفرد كما للمجتمع، من وجهة نظر اقتصادية، وإنسانية، وبيئية. وكما يشدد بنجامان ديسِّى فإن القرارات المتعلقة بالتخطيط الحضري تؤثر على استهلاك الطاقة بصورة خاصة: إن تبعثر أو تباعد المساكن يؤدي إلى إسراف أشد. وعلى سبيل المثال، "في حين أن ساكنا في مدينة قليلة الكثافة السكانية جدا مثل فويينكس في أريزونا (عشرة سكان في الهكتار) يستهلك في المتوسط 1.6 طن متري من معادل البترول في السنة في تنقلاته، يستهلك ساكن منطقة باريسية (خمسون من السكان في الهكتار) 0.25 طن متري من معادل البترول في السنة، ويستهلك ساكن في طوكيو أو سنغافورة (مائة وخمسون ساكن في الهكتار) أقل من 0.15 طن متري من معادل البترول في السنة"([295]).
ويشكل المنظور الحضري والتخطيط الحضري مسألة حاسمة كليا، ليس فقط من منظور تحسين شبكات النقل، بل أيضا لأن صحة السكان ونوعية حياتهم تتعرضان للخطر. والحقيقة أنه يمكن بفضل استباق أفضل للمشكلات الحضرية وإدارة إستراتيجية في الأجل المتوسط والطويل لهذه المشكلات أن يتاح بصورة خاصة خفض الحوادث المرتبطة بحركة المرور والأمراض المرتبطة بالتلوث الجوي، وبالتالي الخفض، بالوقاية، للاحتياجات من البنية الأساسية مثل المستشفيات، أو نقطة المطافئ، أو حتى خدمات الإسعاف. وفى المستقبل، سوف ينبغي إذن إعادة التفكير في استغلال الأراضي وطريقة تصميم المدن. والواقع أن النماذج الحالية تشجع في أكثر الأحيان على إطالة المسافات ومضاعفة التنقلات لإشباع كل حاجة نوعية([296]). وهذا التخطيط الحضري المبعثِر والمشتِّت الذي يصاحب استعمالا مفرضا للسيارات يكلف المدن والمجتمع غاليا: إنه يفاقم دون جدوى فقدان الأراضي، ويلحق الأضرار بالبيئة، ويعرقل الحصول على الخدمات العامة نتيجة لتوسيع المناطق الحضرية، ويدفع إلى أن تهبط الاستثمارات والإيرادات المالية في البلديات كلما انتقلت الأنشطة الاقتصادية نحو الأطراف.
وقد شدد مؤتمر الأمم المتحدة بشأن المستوطنات البشرية (الموئل 2، إسطنبول، حزيران/يونيه 1996) بقوة على ضرورة خفض وسائل النقل الحضري عن طريق توزيع الحاجات إلى الانتقال من خلال تخطيط حضري أفضل أو نموذج حضري جديد أفضل (تكثيف)، بشبكات نقل حضري مطورة وملائمة، وساعات عمل مرنة، والعمل من المنزل [بالاتصال عن طريق الوسائل الحديثة بالمكتب أو الشركة] Télécommuting. وقد ألحّ البنك الدولي بصورة مماثلة على أهمية تفادى سياسة لاستغلال الأراضي تقوم على الكثافة الضعيفة للسكان، خاصة عندما تكون التكلفة الخاصة للانتقال المتزايد أقل بصورة واضحة من التكلفة الاجتماعية([297]).
وقد بينت الدراسات التي أجريت في المدن الكبرى في كندا، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، أن ارتفاعا لكثافة السكان أو المستوطنة البشرية إلى الضعف قد أفضى إلى انخفاض بنسبة 20 إلى 30% من الكيلومترات سنويا للتنقل بالسيارة للفرد. كما أن استهلاك البنزين يتناسب عكسيا مع الكثافة الحضرية([298]). ومن هنا الأهمية المتعلقة بتكثيف للمدن وبإنشاء شبكات جديدة لوسائل النقل العام، وبالتالي بتجديد للتخطيط الحضري وبإدارة أفضل للضريبة العقارية واستغلال الأراضي.
وفى غياب سياسات منسقة تربط الحكومات، والبلديات، وصناع القرار العامين والخاصين، والخبراء، وجمعيات المستهلكين، سوف نشهد في كل القارات ازدياد الأوضاع التي لا يمكن إصلاحها إلى حد كبير مثل وضع لوس أنغلوس، حيث شجعت التنمية الحضرية أقصى التبعثر والتباعد، وحيث يتم الآن استغلال ثلثي الحيز الحضري لحركة مرور السيارات، مما يعزز الفصل الحضري التمييزي. وليس من المقصود رفض التقدم، بل المقصود، على العكس، استخدامه بمعرفة تامة في سبيل جعل المدن أكثر حضرية: ملائمة أكثر للعيش فيها، ومضيافة أكثر، ومدينية أكثر، ومدنية وديمقراطية أكثر بالتالي.
أخذ التكلفة الحقيقية لوسائل
النقل في الاعتبار بصورة أفضل
من أجل تشجيع التوسع في وسائل نقل مشترك أسرع وأكفأ، ينبغي أيضا أن نجعل أصحاب السيارات يدفعون التكلفة الحقيقية التي يتكبدها المجتمع نتيجة لزيادة حركتهم. وينبغي في الواقع كسب التأييد لفكرة أن الإفراط في التنقلات بالسيارة له نتائجه المنطقية السلبية على الاقتصاد، والبيئة، ونوعية الحياة، وبالتالي على التنمية. ولن تكون هذه المهمة سهلة، إذ أن فكرة التنمية كانت مرتبطة، في أساطير القرن العشرين، بفكرة السيارة والبنية الأساسية للطرق. وتتمثل التدابير الملائمة بصورة خاصة في زيادة الضرائب على البنزين، أو توحيد تكلفة وقوف السيارات، أو حتى استخدام نظام تسعير متدرج. ويمكن بحق استخدام الإيرادات التي يتم الحصول عليها بفضل هذه التدابير لتحسين وسائل النقل العام، والمشاركة في السيارات، والطرق الملائمة للدراجات، وطرق المشاة.
وسوف يكون الهدف النهائي من وراء هذه التدابير، وفقا لـ مارسيا لووى، بناء "شبكة وسائل نقل يسود فيها مبدأ: "الوصول، وليس الإسراف"([299]). وفى الفليبين، أدت الضرائب الثقيلة على البنزين وعلى السيارات، منذ 1975، وتحسين وسائل النقل المشترك، بين 1976 و1985، إلى انخفاض بنسبة 43% في الاستهلاك الكلى للبنزين، رغم زيادة السكان ونصيب الفرد من الدخل. وبصورة مماثلة، ففي مناطق الخدمات بوسائل النقل المشترك، انخفض الوقت الذي يتم إنفاقه على الطرق بحوالى الثلث. ومن الممكن بالتالي، حتى بالنسبة للبلدان النامية، الجمع بين السيطرة على الطاقة، وثقافة التنمية المستديمة، وتحسين وسائل النقل ونوعية الحياة الحضرية.
ويحقق التسعير المتدرج ميزة دفع تكلفة استعمال سيارة وفقا لتعريفات ترتفع عند ساعات الذروة وفى المناطق الأكثر ازدحاما في حركة المرور، مما يعكس مساهمة كل سيارة في الازدحام. ويتيح هذا المعيار في الواقع العقاب على الازدحام الذي تُعَدّ نتائجه المنطقية المتمثلة في التلوث خطيرة بصورة خاصة([300]). وقد بينت دراسة أجريت في سان فرانسيسكو في 1983 أن نظاما للتسعير المتدرج وفقا لدرجات الازدحام يرفع عدد مستعملي وسائل النقل المشترك بنسبة من 10-20%. ويعمل هذا النظام بنجاح في سنغافورة منذ 1975، وفى النرويج منذ أكثر من خمس سنوات. وهو الآن قيد الدراسة في عدد من البلدان. ولكي يكون هذا النظام مقبولا من جانب أصحاب السيارات الذين اعتادوا منذ وقت طويل على المجانية فإن كل تدبير يرمى إلى جعلهم يدفعون تكلفة استعمال سياراتهم يجب أن يكون موضوعا لجهد للشرح والتفسير. ومن جهة أخرى فإنه لتفادى معاقبة السكان الأقل تمتعا بالامتيازات، من المهم في الوقت نفسه تحسين عرض وأداء وسائل النقل العام.
نحو إستراتيجية متكاملة للمستقبل
والواقع أن الفكرة التي من الضروري وحتى من الملحّ وفقا لها اتخاذ تدابير جذرية لإعادة ابتكار سياسات للنقل، وأخذ تأثيرها على البيئة في الاعتبار، صارت متزايدة الانتشار، كما يشهد تقرير اللجنة الملكية بشأن تلوث البيئة في إنجلترا، والذي أوصى في 1944 بزيادة للضرائب على الوقود بنسبة 9% في السنة، وبخفض لنصف النفقات المخصصة لطرق السيارات، وبزيادة كبيرة للنفقات المخصصة لوسائل النقل المشترك، ووقف تنفيذ برنامج بناء الطرق. وفضلا عن هذا، ووفقا لدراسة حديثة للاتحاد البريطاني للطرق، فإنه حتى إذا ارتفعت الاستثمارات السنوية على الطرق بنسبة 50%، فسوف تستمر مشكلة الازدحام في التفاقم([301]).
ويشدد تقرير وسائل النقل الحضري والتنمية المستديمة على أهمية إعداد إستراتيجية متكاملة تجمع بين استغلال أفضل للأراضي، وإدارة أفضل لحركة المرور تشجع بصورة خاصة على اللجوء إلى وسائل النقل المشترك واستخدام رسوم المرور بالنسبة للطرق الأكثر ازدحاما، واستخدام ضريبة على الوقود تتزايد بصورة تصاعدية كل سنة "بهدف تشجيع استعمال المركبات الأكثر اقتصادية، وإنقاص طول وعدد المسافات المقطوعة بالسيارة، وخفض التنقلات بالسيارة بدون راكب، واستخدام أكبر لأنماط النقل الصديقة للبيئة"([302]).
ولا شك في أن تنسيقا أفضل وتكاملا أكبر بين مختلف أنماط وسائل النقل أمر جوهري تماما من منظور حركة أكبر، وكفاءة أكبر للطاقة، وتنمية مستديمة. وهذا هو السبب في أن تنظيما شاملا للتنقلات يجب أن يشمل إقامة بنية أساسية للإنترفيس interface [وصلة نقل المعلومات بين برنامجين أو وحدتين فى الكمبيوتر] تتيح للمستعمل تغيير نمط النقل بأقل الأضرار، وبالتالي الاختيار في كل الظروف لنمط النقل الذي يمثل أفضل موازنة بين الحاجات الفردية للركاب وحاجات المجتمع. وهناك تَحَدٍّ هائل آخر بالنسبة لعدد من البلدان النامية: تحدى المحافظة على الطرق. وهناك بالفعل تقديرات تؤكد أنه في غياب صيانة كافية، فقدت الطرق خلال العشرين سنة الأخيرة ما يعادل 45 مليار دولار نتيجة لتدهور بنيتها الأساسية وتجهيزاتها([303]).
وبصورة متزايدة، ندرك أن انطلاق سرعة الحركة ليست له نتائج إيجابية فقط بالنسبة لمجتمعاتنا وبالنسبة لبيئتنا. وسيكون علينا، في هذا المجال أيضا، أن نغير تصوراتنا عن الإنسان والمجتمع. والتحدي هائل، إذ أنه على طول التاريخ، كان تحسين الدخول وشروط الحياة مرتبطا بزيادة سرعة الحركة. ومن هنا يشدد أندرياس شافر Andreas Shafer وديفيد فيكتور David Victor على وجود ارتباط قوى بين ارتفاع الدخول وزيادة نفقات النقل([304]). والحقيقة أن التعليم والعلوم الاجتماعية والإنسانية المطبقة على السياسة الحضرية، والاتصالات، والمعلومات، مدعوة جميعا هنا إلى أن تلعب دورا أساسيا. غير أنه ينبغي أيضا العمل من خلال سياسات حافزة ذات تأثير مباشر على أساليب زيادة الحركة: بعيدا عن تأخير التقدم فإن التدابير المقترحة هنا تتيح، على العكس، الاستفادة من التقدم لتشجيع السيطرة على الطاقة ولتعزيز فعالية شبكات النقل المشترك. وينبغي أن يشمل هدف إعداد سياسة حديثة لوسائل النقل، في آن معا، خفض الأضرار التي يتم إلحاقها بالبيئة، وضمان وصول الأفراد إلى الخدمات، وإلى الجهات التي يريدون الوصول إليها، والإسهام في أن تغدو المدينة مكانا لتبادل المودة وحسن المعاشرة وليس منطقة حضرية متباعدة الأجزاء وملوثة تعمل لصالح حرمان الأكثر حرمانا. وتوجد بالفعل تكنولوجيات كافية لتحقيق هذا الهدف. فهل توجد الإرادة السياسية الضرورية لذلك؟
منطلقات وتوصيات
3   تشجيع منظور حضري أفضل وتخطيط حضري أفضل، مع أخذ التطورات الديموغرافية في الاعتبار، بهدف تفادى أن يفضي مسكن بعيد جدا إلى إطالة المسافات بين المسكن والعمل.
3         منح الأولوية لوسائل النقل العام وإعادة التفكير في ضوء التطورات الاجتماعية.
3   إعادة التقييم من خلال التعليم، والمعلومات، وتنظيم شبكات حركة المرور، وبطبيعة الحال دور وسائل النقل التي لا تسير بمحركات.
3         التعزيز بتدابير حافزة للأبحاث المتصلة بتطوير وتسويق المركبات الأقل تلويثا.
3         ضمان التمتع الفعلي للسكان الفقراء وبسعر منخفض جدا بالبنية الأساسية للنقل.
 


5
النساء يحركن العالم
 
 
ما هى الأشياء الإيجابية التي ستحتفظ بها ذاكرة المؤرخ من القرن الماضي على مدى قرن أو قرنين من الآن؟ ربما، إلى جانب عدد من الإنجازات المذهلة، البداية الأكثر حذرا لثورة كبرى: تحرير المرأة.
وفى البداية لم تكن هذه الحركة الكبرى مدرجة في برامج أي حزب تقريبا، أو في جدول أعمال أي مؤسسة تقريبا. والواقع أنها أكدت نفسها من خلال التاريخ، من خلال النزاعات ـ من خلال الاحتجاج المنظم للنساء، ومن خلال الدلائل، الملحوظة أثناء الحروب ونضالات التحرر الوطني، على أن النساء، في غياب الرجال، استطعن باقتدار أن يجعلن "الآلة تدور". ورغم المظاهر، لم يكن التغير في وضع المرأة ـ إلا في أحوال نادرة ـ مفروضا بحكم القانون: إن هذا التغير هو الذي فرض نفسه على القوانين. ومن الإنصاف للنساء أن نعترف بهذه الحقيقة: كان تحريرهن، في المقام الأول، من عملهن، المجهول والصامت، حتى وإن كان عدد كبير من الرجال المستنيرين قد أسهموا في ذلك إسهاما حاسما.
على أن هذه الثورة بعيدة عن أن تكون قد تحققت وأنجزت مهامها. لقد ظل صوت نصف العالم صامتا في أغلب الأحيان([305]). وبطبيعة الحال فإنه هنا أو هناك، في عدد من البلدان الغنية، وفى بعض العواصم المتميزة، وفى عدد من الأحياء السكنية في الجنوب، حطمت المرأة قيودها دون شك. ومع ذلك فإن المرأة، حتى في تلك المجتمعات التي اعترفت بها كمواطنة، تظل في أغلب الأحيان "جارية معتقة". إن القطيعة مع الاستعباد ما تزال لم تصل، حتى في البلدان الأكثر تقدما، إلى التمتع الكامل بالحقوق، إلى الحرية والمساواة الفعليتين.
وفى أماكن أخرى، بدأ التحرير بالكاد. وقد بدأ بالمبادئ المدرسية، بألف باء الحرية، المكتوبة في المحل الأول على سبورة الفصل الدراسي، على الكراريس المدرسية، على جدار المدرسة، مع التمزق البطيء لستار الجهل. غير أنه لا شئ قد تم كسبه بصورة نهائية: ففي البلدان الأكثر صناعية، نلاحظ هنا وهناك، منذ عدد من الأعوام، نزوعا إلى النكوص والتقهقر. وفى نظر خصوم المساواة بين الجنسين فإن أنصار المساواة قد ذهبوا إلى "أبعد مما ينبغي". وفى بلدان بالذات ما كادت تضع أقدامها على الطريق الذي يقودهن إلى المدرسة وإلى المعرفة يقوم تعصب أعمى باغتيال تلميذات المدارس. كما أن بعض الإنجازات التي ما تزال هشة إلى الآن، مثل تعليم البنات أو المساواة في الحقوق المدنية، يمكن أن تتعرض لإعادة النظر.
وبطبيعة الحال فإنه لا يمكن إنكار تحسين وضع المرأة الذي تحقق خلال العقود الأخيرة. غير أن هذا التحسين لا ينبغي أن يخفى الفوارق الصارخة التي ما تزال قائمة إلى يومنا هذا. وكما شدد برنامج الأمم المتحدة للتنمية([306]) فإنه بين كل صور عدم المساواة في التنمية، يمثل عدم المساواة بين الجنسين واحدة من الصور الأكثر نوعية، وهو "يخترق" كل البلدان، حتى البلدان الأكثر تقدما والأكثر اعتزازا بإنجازاتها في هذا المجال: وبالفعل فإن النساء لا يتمتعن بصورة حقيقية، في أي أمة أو أي بلد، بنفس الفرص التي يتمتع بها الرجال. وفضلا عن هذا، وعلى العكس من عدد من الآراء السائدة، فإن الإنجازات في مجال المساواة بين الجنسين لا تتوقف دائما على ثروة بلد، ولا حتى ـ وهذا هو الأكثر إثارة للدهشة للوهلة الأولى ـ على مستوى ما يسميه برنامج الأمم المتحدة للتنمية "بالتنمية البشرية". إن الدخل ليس العامل الحاسم في هذا المجال.
ويبين برنامج الأمم المتحدة للتنمية الثغرات الماثلة في مفهوم التنمية البشرية الذي لا يعكس بوضوح المستوى المتحقق في مجال المساواة بين الجنسين، وعلى هذا يدقق مؤشره للتنمية الذي يقوم من الناحية الأساسية على ثلاثة معايير (نصيب الفرد من الدخل، ومستوى التعليم، والعمر المتوقع عند الولادة) بإضافة "مؤشر جنسي نوعى" (مؤشر التنمية المرتبط بالجنس)، آخذا في الاعتبار الفوارق بين النساء والرجال في هذه النقاط . ومنذ 1970، قامت كل البلدان بتحسين وضع النساء، ولكن بصورة متفاوتة، ودون أن يكون الارتباط بالدخل آليا. ووفقا للتصنيف الموضوع في 1998، تأتى كندا والنرويج على رأس القائمة في هذا المجال، وتليهما السويد وآيسلندا. ومع ذلك فإن 60 بلدا من أصل 163 من البلدان المصنفة يأتي ترتيبها وفقا "للمؤشر الجنسي النوعي" أدنى من الترتيب الذي تشغله وفقا لمؤشر التنمية البشرية، مما يعكس التفاوت في معاملة النساء. على أن ما يلفت النظر أكثر هو أن هذا التصنيف يكشف عن أن عددا من البلدان النامية تسبق بكثير بلدانا أخرى مع أنها أغنى منها كثيرا. هكذا تسبق باربادوس سويسرا وإيطاليا؛ وتسبق الصين بعشرة أماكن بلدا غنيا منتجا للبترول، في حين أن نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالي في الصين نصف مثيله في ذلك البلد؛ وتلي تايلندا عن قرب بلدا عضوا في الاتحاد الأوروبي، يصل نصيب الفرد من الدخل فيه إلى أكثر من أربعة أضعاف مثيله في تايلندا([307]). وفضلا عن هذا فإن بلدانا تتصرف في موارد محدودة، ولكنها تبدى التزاما سياسيا حازما، مثل الصين، وسرى لانكا، وزيمبابوي، حققت معدلا مرتفعا من محو أمية النساء، في حين أنه في نظر برنامج الأمم المتحدة للتنمية "تأتى بلدان غنية عديدة في المؤخرة"([308]).
ويعنى هذا أننا لا ينبغي، في النضال ضد عدم المساواة بين الجنسين، أن نبالغ في تقدير نمو الدخل القومي وحده. فهذه قبل كل شئ مسألة رؤية وإرادة سياسية. وهذا الجهد ليس مرتفع التكلفة بالضرورة. بل إنه يمكن، على العكس، أن يؤدي إلى زيادة فرص تنمية أحد البلدان. ويجب أن ندرك أن مجتمعا لا توضع فيه النساء بصورة صارمة على قدم المساواة والتكافؤ مع الرجال، من الناحية القانونية ومن الناحية الفعلية، إنما هو مجتمع متهالك، تكون إنجازاته بالضرورة دون إمكاناته المبدعة والمنتجة الحقيقية، ويأبى التصدي لتحديات القرن الجديد في شروط مُثلى.
إنجازات
ولا شك في أنه قد تحققت إنجازات رئيسية على النطاق العالمي خلال العقدين الأخيرين، خاصة في مجالات اختصاص اليونسكو. وقد تحققت أروع الإنجازات بالفعل في مجال التعليم: تقلصت الفوارق بين الجنسين، فيما يتعلق بمحو أمية الكبار والتعليم المدرسي للأطفال بنسبة النصف بين 1970 و1990. إذ أن معدل محو أمية النساء، الذي كان يمثل 54% من معدل الرجال في 1970، انتقل إلى 74% في 1990. وفى الوقت الحالي، تتلقى 85% من البنات التعليم الابتدائي مقابل كل 100 من الأولاد، مقابل 65% في 1960. وبين 1970 و1990، في البلدان النامية، ارتفع معدل التحاق البنات بالتعليم الابتدائي بنسبة 1.7% في السنة، في حين لم يرتفع معدل التحاق الأولاد إلا بنسبة 1.2%. وارتفع معدل التحاق البنات بالتعليم الابتدائي والثانوي في البلدان النامية من 38% في 1970 إلى 68% في 1992. وكانت النتائج مدهشة بنفس القدر في التعليم العالي، حيث يصل معدل التحاق النساء فيه الآن إلى 70% من معدل التحاق الرجال، في حين أنه كان يصل إلى نصف معدل جنس الذكور في 1970([309]). وفى قلب المجتمع الدولي، يوجد الآن إجماع على اعتبار أن التعليم، وعلى وجه الخصوص تعليم النساء، يمثل الاستثمار الأفضل([310]).
وقد تم أيضا تحقيق إنجازات مهمة في مجال الصحة، فقد ارتفع العمر المتوقع عند الولادة للنساء بمعدل أعلى بنسبة 20% من معدل الرجال خلال العشرين سنة الأخيرة. وتقلص معدل خصوبتهن بنسبة الثلث، منخفضا من 4.7 أطفال للمرأة بين 1970 و1975 إلى 3 أطفال بين 1990 و1995، ولم تقتصر نتيجة هذا على زيادة حرية وخيارات المرأة، بل امتدت إلى تقليل أخطار تعرضهن للموت أثناء الولادة أو خلال الحمل. وخلال عشرين عاما، انخفض معدل "وفيات الأمهات" أثناء الولادة بنسبة النصف. ومنذ 1990، في البلدان النامية، لجأت نسبة تزيد على نصف النساء المتزوجات اللائى في سن الإنجاب إلى وسائل حديثة لمنع الحمل، في حين أنه في 1970 لم يكن هذا هو الحال إلا بالنسبة لربع عددهن([311]).
وفيما يتعلق بالإنجاب، سمح مؤتمر الأمم المتحدة بشأن السكان والتنمية (القاهرة، 1994) وبشأن النساء (بكين، 1995)، بتعزيز "الاعتراف بالحق الأساسي لكل زوج  وزوجة ولكل الأشخاص في أن يقرروا بحرية وبطريقة مسئولة عدد أطفالهم والمسافات بين الولادات وفى أن يتم إعلامهم بوسائل تحقيق ذلك، وكذلك بالحق في التمتع بأفضل حالة صحية ممكنة فيما يتعلق بالجنسية والإنجاب" (برنامج عمل بكين، المادة 95). ويبدو لنا هذا الاعتراف أساسيا، لأن الحرية والمسئولية لا يمكن الفصل بينهما في هذا المجال. فضلا عن أن هذه المسئولية ليست فردية فقط بل هى أيضا جماعية، حيث إنها تمر بالضرورة بتعبئة الموارد لصالح تعزيز المرأة، والأطفال، والأسر، خاصة في مجالات التعليم، والصحة، والخدمات الاجتماعية. وينادى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عن حق، بأن "الأمومة والطفولة لهما الحق في مساعدة ومعونة خاصتين" (المادة 25)، وأن "الأسرة [...] لها الحق في التمتع بحماية المجتمع والدولة" (المادة 16).
وببطء شديد، تنفتح أبواب السلطة السياسية قليلا أمام النساء، على الأقل في عدد من البلدان. وصار وصولهن إلى الحكومة أقل ندرة، وهذا في أغلب مناطق العالم: تضاعف عدد الوزيرات خلال الأعوام العشرين الأخيرة([312]). وفى السويد، 40% من البرلمانيين من النساء؛ وهذه النسبة مماثلة تقريبا في النرويج([313]). وفى الولايات المتحدة، في حين أوضح استطلاع للرأي في 1937 أن 65% من الناخبين الذين تم سؤالهم اعترضوا على فكرة التصويت للمرأة في انتخابات الرئاسة، حتى إذا كانت جديرة بمنصب الرئاسة، انخفض هذا الرقم إلى 12% في 1987. وهذه الإنجازات ملحوظة أكثر أيضا في الجنوب، رغم الأفكار الزائفة بهذا الصدد: النساء يتمتعن بتمثيل أفضل، في المتوسط، في برلمانات البلدان النامية مما في برلمانات البلدان الصناعية([314]). وفى الديمقراطيات، تلجأ النساء إلى وسائل جديدة لإسماع صوتهن: عندما تقرر جمعية نسائية أن تعلن عن طريق الصحافة أنهن سوف يقاطعن المنتجات التي يتم الإعلان عنها في برامج شبكة تليفزيونية، بسبب عنف هذه البرامج فإنه يمكن أن تتغير كل برامج هذه الشبكة بين عشية وضحاها.
خيبات أمل:
التمييز والفقر والعنف
رغم هذه الإنجازات، ما نزال بالفعل بعيدين جدا عن المساواة الفعلية التي تطمح إليها النساء عن حق منذ وقت طويل جدا، والتي اعترفت الأمم المتحدة بها لهن. ويجدر بنا بالفعل أن نتذكر، رغم ميل بعض الدول إلى رفض فكرة المساواة وتفضيل فكرة الإنصاف عليها، أن التمتع المتساوي للنساء والرجال بحقوق الإنسان مبدأ معترف به عالميا في ميثاق الأمم المتحدة. وجرت إعادة تأكيد هذا المبدأ بإعلان ڤيينا، الذي اعتمدته 171 دولة في مؤتمر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في 1993.
والحقيقة أن الفوارق بين الرجال والنساء في مجال التعليم قد تم تقليلها بنسبة النصف خلال العشرين سنة الأخيرة: ولكن هل يمكن أن نسمح لأنفسنا بالانتظار عشرين سنة أخرى قبل أن تتحقق المساواة في الحصول على التعليم في الممارسة العملية. وتستمر أشكال من عدم المساواة لا يمكن التسامح معها. ووفقا لإحصائياتنا فإن حوالي ثلثي نحو 880 مليون من الأميين في العالم من النساء، ولا تعرف امرأة واحدة من كل ثلاث نساء من الكبار القراءة والكتابة مطلقا في الوقت الحالي. وتعيش غالبيتهن في المناطق الريفية([315]). ومن أصل 130 مليون من الأطفال الذين لا يمكنهم الحصول على التعليم الابتدائي، ما تزال البنات يمثلن 60% من الإجمالي. وفضلا عن هذا، وكما أوضحت الدول المشاركة في قمة بكين، ما تزال البرامج المدرسية والمواد التربوية "مطبوعة إلى حد كبير بطابع التحيزات الجنسية". ولا يقتصر الأمر على أن المقررات المدرسية لا تعالج مشكلات تطرح نفسها بصورة يومية على النساء والبنات، بل،علاوة على هذا، تمرّ في أغلب الأحيان إنجازات النساء في صمت([316]). وفى الولايات المتحدة، وفقا لدراسة للجمعية الأمريكية للنساء الجامعيات، يحصل الأولاد على الأولوية في مواد مثل الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا ويجرى إثناء البنات عن الدخول في مثل هذه التخصصات. ويتأكد هذا الواقع أيضا في البلدان الصناعية والبلدان النامية على السواء: النساء ناقصات التمثيل في الفروع العلمية([317]). ومن ناحية أخرى فإن مشاركة أوسع للنساء في المهن التعليمية يمكن أن تكون لصالح التعليم المدرسي للبنات، حيث تضمر الأسر في بعض مناطق العالم بعض التحفظات على أن تعهد ببناتها الصغيرات إلى مدرسين. ويبدو تحرير الأطفال من المهام غير المدرسية في نفس أهمية إستراتيجية مدرسية من أي نوع.
ومع قدوم القرن الحادي والعشرين، يوجد على الأقل نبأ طيب نستطيع أن نسعد به: بصورة متزايدة، تغدو الأولوية التي يجب الاعتراف بها، بما في ذلك من حيث اعتبارات الموازنات، لتعليم النساء موضوعا لأوسع إجماع داخل المجتمع الدولي، وليس فقط لدى اليونسكو. ونحن نعلم من الآن ـ ولم يعد هذا مجرد اقتناع ـ أن ازدهار تعليم النساء يسهم بصورة حاسمة في التنمية. ويمكن أن تكون النتائج ملحوظة حتى بصورة مباشرة على المستوى الاقتصادي: وفقا لدراسات عديدة للبنك الدولي في كينيا فإن الوصول بالنساء إلى نفس مستوى تعليم الرجال من شأنه أن يرفع غلات محاصيل القوت الضروري من 9% إلى 22%، كما أن تأمين تعليم ابتدائي لجميع النساء سوف يرفعها بنسبة الربع. وفيما يتعلق بالدراسات الميدانية بشأن تأثير تعليم النساء على التنمية الاجتماعية فإنها غزيرة: في البرازيل، الأمهات اللائى لم يترددن مطلقا على المدرسة لديهن في المتوسط 6.5 أطفال، بدلا من 2.5 لدى الأمهات اللائى حصلن على تعليم ثانوي. وفى الولاية الهندية كيرالا، التي وصلت إلى محو الأمية بصورة كاملة، صار معدل وفيات الأطفال هو الأضعف في كل العالم النامي، ومعدل الخصوبة هو الأكثر انخفاضا في الهند. وفى الجنوب، ولكن أيضا في الشمال، تغدو المرأة بهذا، كما قال ادجار موران Edgar Morin برشاقة منذ ثلاثين سنة عن نساء بريتاني في بلوزيڤيت، "العميل السري للحداثة".
ورغم احتياجاتهن النوعية، في مجال الصحة والتغذية، ما تزال النساء، خاصة في العالم الثالث، أقل تمتعا بالرعاية من الرجال([318]). وتموت حوالي 600 ألف امرأة كل عام في العالم نتيجة المضاعفات المرتبطة بالحمل أو الوضع، 99% منها في البلدان النامية، كما أوضحت منظمة الصحة العالمية في شباط/ فبراير 1997([319]). وعلاوة على هذا فإن من المعتقد أن الإجهاضات التي تم إجراؤها في أوضاع صحية مفزعة هى السبب وراء 100 ألف حالة وفاة في السنة. وتقدر الأمم المتحدة أن ملايين النساء يغدون معاقات في أعقاب هذه الإجهاضات. وفضلا عن هذا فإن الإيدز([320]) يهددهن بصورة مباشرة: عدد النساء المصابات بعدوى فيروس نقص المناعة البشرية أعلى مرة ونصف من عدد الرجال المصابين بها. وفى الوقت الحالي، تمثل النساء 40% من الحالات الجديدة لهذا المرض مقابل 10% منذ عشرة أعوام([321]).
والنساء أول ضحايا الفقر. وبنسبة تزيد على الثلثين فإن الفقر له وجه امرأة ـ وجه صامت، بلا صوت ـ وجه لا نريد في كثير من الأحيان حتى أن ننظر إليه، وجه جرى إبعاده إلى هامش مجال الرؤية الاجتماعية. والواقع أن 70% من أصل 1.3 مليار من الفقراء في العالم من النساء. ويقدر عدد كبير من الخبراء أن الفقر الشديد المرتبط، كما هو الحال في كثير من الأحيان، بالتمييزات، يؤدي كل عام إلى وفاة ملايين الشابات والنساء، وخاصة النساء المسنات. ووفقا ل ميشيل أولانيون Michèle Aulagnon فإن "خطر السقوط في الفقر أكبر كثيرا عند النساء مما عند الرجال، خاصة بعد عمر بعينه، عندما تستند نظم الحماية الاجتماعية إلى مبدأ وظيفة مستمرة مدفوعة الأجر"([322]).
وخلال عشرين سنة، تضاعف تقريبا عدد النساء اللائى ضربهن الفقر في البيئة الريفية: وصل عددهن إلى 564 مليون في 1988. وأسباب الفقر النسائي، الحضري والريفي، متعددة. ومثل عدم المساواة بين الجنسين بوجه عام فإن الفقر له أسباب معقدة "يتداخل فيها المجال العام والمجال الخاص، المؤسسات و’السوق‘ (سوق العمل وسوق الزواج)"، وفقا ل غى هيرتسليش Guy Herzlich- وهذا ما يؤكده تقرير حديث للبنك الدولي([323]). وعلى سبيل المثال فإن النساء يعانين من صعوبات كثيرة في الحصول على الائتمان، أو شراء السلع، كما يقع عليهن الإجحاف في كثير من الأحيان في المواريث. وفى الجنوب، تشغل النساء جانبا كبيرا من الوظائف في "القطاع غير الرسمي"، ويعانين بالتالي من هزال أجورهن أو انعدامها ومن ضعف حمايتهن. وعلى سبيل المثال فإنه في بيرو، في ثمانينيات القرن العشرين، كانت أربعة أخماسهن يعملن في هذا القطاع. وفى أفريقيا بوجه خاص، دفعت الأزمة وانغلاق الآفاق الاجتماعية والاقتصادية النساء نحو القطاع غير الرسمي. ووفقا لليونيسيف فإن حوالي 60% من النساء اللائى يقمن بنشاط اقتصادي في أفريقيا جنوب الصحراء يعملن لحسابهن الخاص، وهذا أعلى معدل في العالم. غير أن هذه أنشطة صغيرة هزيلة الأرباح. وتقدر الباحثة الاقتصادية جينيت يومان Ginette Yoman، من كوت ديڤوار، أنه في أفريقيا الغربية، تدير المرأة 30% من الأسر، وهذه هى الأسر الأكثر فقرا([324]).
والبلدان الصناعية غير مستثناة. وفى حين أن مستوى تعليم وتدريب الرجال والنساء متكافئ في هذه البلدان إلا أن النساء أكثر تعرضا لأخطار الفقر من الرجال. لماذا؟ أولا، لأنه يقع عليهن بصورة متزايدة عبء إعالة الأسرة، في بيئة كثيرا ما تكون منكوبة اجتماعيا وماليا. وبالفعل فإن النساء يقمن وحدهن بصورة متزايدة بإدارة الأسر: منزل من كل ثلاثة منازل وفقا للأمم المتحدة؛ وفى الكاريبى وفى بعض البلدان الأفريقية، يكون هذا الرقم أكثر ارتفاعا أيضا([325]). وثانيا، لأن التمييزات تواصل ضرب النساء في سوق العمل.
وفى مجال العمل، لم تحدث بعد ترجمة تحسين تدريب النساء إلى تحسين للدخل، وإلى مساواة فعلية في الحقوق والمعرفة الاجتماعية. و"في كل بلدان العالم، ما يزال يُدفع للنساء أقل من الرجال مقابل العمل المتساوى"، كما تلاحظ منظمة العمل الدولية([326]). وتدل البيانات المتوافرة على أن نسبة النساء "العاملات" ارتفعت بنسبة أقل من 4% خلال عشرين سنة، حيث ارتفعت من 36% في 1970 إلى 40% في 1990، وأن أجر النساء لم يصل في المتوسط إلا إلى ثلاثة أرباع أجر الرجال، وإلى 30% من الدخل الأجري العالمي. ورغم مستوى مماثل من الدراسات لمستوى الرجال في البلدان الصناعية بصورة خاصة فإنهن ما يزلن محرومات من الحصول على مناصب المسئولية في أغلب الأحيان، وبصورة خاصة في القطاع الخاص. وما تزال إدارة المشروعات وعدد كبير من أرفع المناصب في الخدمة العامة مغلقة أمامهن في أغلب الأحيان، حتى وإن كان يحدث في البلدان الغربية بصورة متزايدة أن تصل العديدات منهن إلى مستويات قريبة جدا من السلطة. وفيما يتعلق بأجورهن فإنها ما تزال بعيدة عن أن تقارن بأجور الرجال([327]). وبكلمات أخرى فإن الأغلبية الساحقة من النساء يبقين حبيسات داخل ما يسميه بعض الاقتصاديين "الغيتو الوردي": العاملون في الخدمة، وزراعة الاكتفاء، والعمل المكتبي الهزيل الأجور([328]). ومن جهة أخرى ففي كل مناطق العالم، تكون النساء أول ضحايا البطالة ونقص العمالة. ووفقا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية "يبقى الحصول على دخل مستقل هدفا بعيد المنال بالنسبة لغالبية النساء".
وفى المجال السياسي، ورغم التطورات الإيجابية الأخيرة، يبقى وصول امرأة إلى السلطة العليا استثناءً: منذ الحرب العالمية، انتخبت 28 فقط من النساء لرئاسة دولة أو حكومة؛ وفى 1997، كانت امرأتان فقط تقود كل منهما حكومة، وثلاث نساء كانت كل منهن على رأس دولة([329]). وعلى النطاق العالمي، لا تشغل النساء في المتوسط سوى 11.8% من المقاعد البرلمانية، ولا تتجاوز هذه النسبة 30% إلا في أربعة بلدان([330]). وفى 48 بلدا، لا توجد وزيرة واحدة؛ وفى 136 بلد، لا توجد امرأة واحدة تحمل حقيبة وزارية في مجال الاقتصاد، وفى كل أنحاء العالم، لا تتولى النساء سوى 9.9% من كل مسئوليات مساعدي الوزراء([331]). وبين 1975 و1997، ظل تمثيل النساء في الهيئات التشريعية ثابتا تقريبا حيث كان بنسبة 12.5% على مدى عشرين عاما. وعلاوة على هذا فإنه، على النطاق العالمي، تحتفظ النساء بنسبة 7% فقط من المناصب الوزارية (ولا يتراوح المتوسط إلا بين 6% في البلدان الأقل نموا و3% في البلدان الصناعية). ويجدر بنا أن نؤكد أن مشاركة النساء في الحياة السياسية والاقتصادية ليست مرتبطة بالضرورة بمستوى تنمية البلدان: الواقع أن بعض البلدان النامية تتمتع بمعدل مشاركة أعلى من معدل بعض البلدان الصناعية. وهكذا فإن ترينيداد وتوباغو تسبقان المملكة المتحدة وأيرلندا، كما أن كوبا وكوستاريكا تسبقان فرنسا وإسرائيل، وكذلك فإن الصين والمكسيك تسبقان اليابان([332]).
ويجب أن نفهم حقوق الإنسان باعتبارها حقوق الكائن الإنساني، الرجل والمرأة، على أساس صارم من التكافؤ. ومع ذلك فإنه في عدد كبير من البلدان، لا تتمتع النساء دائما بنفس المعاملة التي يتمتع بها الرجال فيما يتعلق بحقوق الملكية، وحقوق الميراث، والحقوق المرتبطة بالزواج والطلاق. ورغم أن الاتفاقية الخاصة بالقضاء على كل أشكال التمييز ضد النساء، التي اعتمدتها الأمم المتحدة في 1979، بدأت السريان بالفعل منذ عدة أعوام، إلا أنه لم يصدق عليها سوى 161 بلد في نهاية 1998، إذ أن بلدانا عديدة لم تصدق عليها أو كانت لها تحفظات على بعض موادها. وقد شدد برنامج الأمم المتحدة للتنمية في تقريره لعام 1995على أن 90 بلدا ما تزال لا تعتبر نفسها في وضع يسمح لها باعتماد كل النصوص التي تقرر المساواة بين النساء والرجال أمام القانون.
وينعكس نقص حقوق النساء في الاضطهاد والظلم المعنوي والبدني اللذين تتعرض لهما النساء، في سياق الوضع غير المقبول المحدد لهن في أغلب الأحيان في المجتمع، وفى سياق التمييزات القانونية والعملية التي تعانى منها النساء. وعلى سبيل المثال، يتواصل استخدام العنف ضد النساء والاغتصاب كسلاح للحرب من أجل نشر الإرهاب والرعب أثناء النزاعات المسلحة([333]). وكما يشير برنامج الأمم المتحدة للتنمية فإن الحط من قدر المرأة يبدأ حتى قبل أن تبدأ الحياة: إنه يدمغ طفولتها، ويصير عنصرا من عناصر الزواج، ويتجلى في كثير من الأحيان من خلال مختلف أشكال الاستغلال الجنسي، ويمكن أن ينتهي إلى القتل أو الانتحار. ومنذ فجر التاريخ يوجد عنف مألوف ويومي للغاية في قلب المنزل نفسه. ووفقا لدراسات أجريت في تشيلي، والمكسيك، وﭙاﭙوازى غينيا الجديدة، وجمهورية كوريا، فإن ثلثي النساء على الأقل تعرضن خلال حياتهن لصورة من صور العنف المنزلي. ويقدر برنامج الأمم المتحدة للتنمية أن هذه الظاهرة تؤثر على أربعة ملايين من النساء كل عام في ألمانيا، وفى فرنسا يضرب الأزواج مليونين من الزوجات، وفى الولايات المتحدة يكون هذا حال أربعة ملايين من الزوجات، وفى كندا، واليابان، وكوريا، عانت 25% إلى 60% من النساء من المعاملة السيئة التي يلقينها من شركائهن.
ووفقا للدراسات المتاحة، تعتبر هذه الأشكال من العنف في إطار الزوجية السبب الرئيسي وراء انتحار النساء. وتوجد أشكال أخرى للعنف: تقدر مصادر غير حكومية أن 25 ألف من النساء يتم حرقهن حتى الموت كل عام في الهند بسبب نزاعات على المهر (الدوطة) ([334]). وتقدر دراسات أخرى أجريت في كندا، ونيوزيلندا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، أن امرأة من كل ست نساء يتم اغتصابها خلال حياتها. ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة، يسقط كل عام مليون طفل، من البنات بصفة رئيسية، في جحيم البغاء في آسيا. وأخيرا فإنه، وفقا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، تعانى 100 مليون من البنات من تشويهات للأعضاء الجنسية. وكل عام يقع مليونان من البنات ضحايا لذلك. ومن جهة أخرى، فمن بين 18 مليون لاجئ في العالم كله، 80% من النساء. وماذا نقول، فضلا عن هذا، عن العار الذي يمثله الاستغلال الجنسي للمراهقات الصغيرات، في البلدان الأكثر فقرا، من ضحايا "السياحة الجنسية"؟ ماذا نقول عن الفضيحة التي يمثلها اللواط مع الأطفال، المنظم في شبكات؟ وماذا نقول عن الصورة المشينة للمرأة، المعروضة "كجارية" في "الإعلانات المبوبة" لبعض وسائل الإعلام الشهيرة؟
وفى صدارة أشكال العنف ضد النساء يبرز الإجهاض التمييزى الذي يتمثل في إزالة الأجنة الإناث، وقتل الأطفال في شكل قتل البنات الصغيرات. وتبدو هذه الممارسات منتشرة بصورة خاصة في آسيا([335]). ومن المؤسف أن الإنجازات التكنولوجية يمكن أن توسع نطاق هذه المأساة إذا استمر تصوير المرأة في مجتمعاتنا على أنها مصدر للمشكلات أكثر منها فرصة. وانطلاقا من دراسات محلية أجريت في آسيا أبرزت المجلة الأسبوعية الإيكونوميست الأخطار الرئيسية المرتبطة بإساءة استخدام فحص جنس الجنين بالأشعة فوق الصوتية لأغراض تتعلق باختيار الجنس([336]). وبالفعل ففي حين أنه في الأوضاع العادية، يولد 106 من الأولاد مقابل كل 100 من البنات فإن هذا لم يعد هو الحال في عدد من بلدان آسيا حيث تكون النسبة بين الجنسين طبيعية بالنسبة للطفل الأول غير أنها تتغير بشدة في الولادات التالية. وهكذا تنتقل النسبة إلى 120.9 من الأولاد مقابل كل 100 من البنات بالنسبة للطفل الثاني في الصين وإلى 185 بالنسبة للطفل الثالث في جمهورية كوريا. ويفحص الوالدان جنس الجنين ويقرران بعد ذلك ما إذا كانا يريدان الإقدام على الإجهاض أم مواصلة الحمل إلى النهاية. وهذه المشكلة قائمة في الهند حيث يخشى الكثير من الآباء والأمهات أن يفقرهم المهر (الدوطة) عند زواج بناتهم، ووفقا لدورية Journal of family welfare فإنه من أصل 8000 عملية إجهاض أجريت في بومباي بعد تحديد جنس الجنين عن طريق الأشعة فوق الصوتية، كان جنين واحد فقط ذكرا. ولا شك في أن الصين، والهند، وكوريا الجنوبية، حظرت الإجهاض التمييزى، غير أنه من الصعب في الحياة اليومية تطبيق مثل هذه القواعد: في كثير من الأحيان يكتفي الطبيب الممارس العام بإشارة للكشف عن جنس الجنين. ويحدث كل شئ داخل نطاق من التواطؤ الصامت.
ومن المؤسف أن نتائج هذه الممارسات واضحة للغاية. وفى بعض مناطق العالم يفوق عدد الرجال عدد النساء بنسبة 5%. وقد حاول الاقتصادي أمارتيا سين تقدير عدد الأجنة الإناث المجهضة والبنات الصغيرات اللائى سقطن ضحايا لقتل الأطفال. وعلى أساس حساباته، يوجد، نتيجة لهذه الممارسات، نقص يصل إلى حوالي 100 مليون من النساء من سكان العالم. ومنذ بداية القرن العشرين، تقلصت النسبة بين عدد النساء وعدد الرجال في الهند، على العكس من النسب الملحوظة بين الجنسين في أغلب البلدان. وفى الوقت الحالي، لا توجد سوى 929 من النساء مقابل كل 1000 من الرجال، بالمقارنة مع 972 مقابل كل 1000 في 1901([337]). ومن أجل وضع حد لهذا النوع من الممارسة، ينبغي أن يعطى المجتمع دورا وكذلك سلطات حقيقية للمرأة، تتيح التعامل معها بصورة حقيقية باعتبارها كفئا للرجل.
وقد انتهى مؤتمر بكين إلى أن العنف تجاه النساء يشكل انتهاكا للحقوق الأساسية والحريات الأساسية للنساء ويحرمهن بصورة جزئية أو كلية من ممارسة هذه الحقوق والحريات. ومن الجلي أن تعديل القوانين أو تعديل تطبيقها الأكثر قسوة لا يكفى وحده لتلطيف لوحة بهذه القتامة. ولا يمكن إلا لتغيير بطئ بالضرورة، ولكن عميق، للعقليات، وإلا لترسيخ ثقافة سلام داخل عقول البشر، عن طريق التعليم على وجه الخصوص، أن يدخل بين الجنسين الاحترام المتبادل وحوارا حقيقيا.
ومن المهم بهذا الصدد أن تصغي مجتمعات البلدان الغنية إلى تجربة النساء اللائى يعشن في سياقات ثقافية واجتماعية مختلفة. ومن المهم كذلك أن تغدو إسهامات النساء في تراثنا المشترك ـ سواء أكان تراثا أدبيا أم علميا أم فكريا أم فنيا ـ واضحة ملموسة. وتمثل إعادة النظر في المقررات المدرسية، في هذا المجال، أولوية رئيسية ينبغي وضعها موضع التطبيق بصورة منهجية خلال العقد القادم.
عمل النساء
تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أنه في كل بلدان العالم، باستثناء أستراليا، وكندا، والولايات المتحدة، تعمل النساء ساعات أكثر من الرجال. ويكون التفاوت في عدد ساعات العمل بالغا في البلدان الفقيرة. وبالفعل فإنه في البلدان النامية تعمل النساء في المتوسط من 12 إلى 18 ساعة في اليوم في أنشطة متباينة مأجورة وغير مأجورة، مقابل متوسط يتراوح بين 8 ساعات و12 ساعة بالنسبة للرجال.
ووفقا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية فإنه في البلدان الصناعية، يتم تخصيص ثلثي الوقت الإجمالي الذي ينفقه الرجال في العمل لأنشطة مأجورة ويبقى الثلث لأنشطة غير مأجورة. والعكس صحيح بالنسبة للنساء. وفى البلدان النامية، يخصص الرجال ثلاثة أرباع وقت عملهم لنشاط مأجور. وهم يتلقون الجانب الأكبر من الدخل ويتمتعون بالاعتراف الاجتماعي بإسهامهم، في حين أن عمل النساء يكون في كثير من الأحيان منخفض الأجر، أو منخفض القيمة، أو يتم تجاهله([338]). وعلى أساس حسابات معقدة تأخذ في اعتبارها في آن معا قيمة العمل غير المدفوع الأجر الذي تنجزه النساء والأجر المنخفض النسبي للنساء في سوق العمل، يقدر برنامج الأمم المتحدة للتنمية بأحد عشر ألف مليار دولار في السنة "الإسهام غير النقدي وغير المنظور" للنساء، الذي لا تعكسه المحاسبة الاقتصادية. وهذه المساهمة قوية على وجه الخصوص في الجنوب. ويقدر البنك الدولي أنه "في بعض البلدان، يمكن أن يمثل العمل غير المدفوع الأجر ثلث الناتج المحلى الصافي"([339]). وحتى إذا كانت تقديرات برنامج الأمم المتحدة للتنمية مفرطة، فقد يكون من الحصافة أن تعكس الإحصائيات الوطنية بصورة كاملة الإسهام "غير المنظور" للنساء: لقد كفت النساء عن أن يتم اعتبارهن أصفارا في الإحصائيات الاقتصادية، ويغدو من الأصعب على المسئولين أن ينسوا النساء في لحظة اتخاذ القرارات الرئيسية. والحقيقة أن "الطابع غير المنظور" لإسهام النساء يفاقم الإدراك الاجتماعي الذي يجب وفقا له تصنيفهن ضمن "الأشخاص الذين يعولهم الغير" بدلا من تصنيفهن بالأحرى ضمن المنتجين([340]).
وفى مناطق عديدة، يرتبط عمل المرأة بصورة أساسية بالاقتصاد الاكتفائي الذي يتيح تغذية الأسر ولكن دون أن يدخل في إطار السوق. وبالتالي فإن هذا العمل ليس قابلا للحساب، ولا يعبر عن نفسه في صورة قيمة نقدية: ولهذا يجرى حرمان النساء في أغلب الأحيان من المكانة التي يمنحها المجتمع لمنتجي السلع الغذائية التي تباع في السوق. وبالتالي فإنه لا يتم الاعتراف بإسهام أساسي للنساء في الإنتاجية الحقيقية للعالم. ووفقا لجودي جاكوبسون Jodi Jacobson، يتمثل السبب وراء هذا في التمييز الجنسي([341]).
وعلاوة على هذا فإن النساء لا يملكن في كثير من الأحيان حق ملكية الأرض أو يملكن حقوقا مقيدة، رغم دورهن الحاسم في الزراعة. إذ تحول دون ذلك عقبات مثل الحق غير المتساوي في حالات بعينها، والعرف الذي يقصيهن في حالات أخرى، وحتى الانحيازات الجنسية للإصلاحات الزراعية([342]) في بعض الأحيان. ولهذا نتائج مهمة، وليس فقط من الناحية الديموغرافية. وبالفعل فعندما لا تستطيع النساء الحصول إلا بصعوبة على الموارد الإنتاجية ولا يملكن تخطيط دخل الأسرة ولا السيطرة عليه فإن وضعهن الاجتماعي وأمنهن الاقتصادي يتوقفان على الأطفال. والحقيقة أن معدلات النمو الديموغرافي المرتفعة الناتجة عن هذا الوضع المزعزع "تغذى حلقة شريرة من الزيادة السكانية، والندرة الأشد للموارد، والمزيد من الفقر"([343]).
وفضلا عن هذا فإنه في بلدان نامية عديدة، تقلص الدخل الذي يقدمه الرجال للأسرة نتيجة عوامل مثل الهجرة المتزايدة للرجال نحو المدن، والمستوى المنخفض للأجور، والطلاق، والهجر. وتعانى النساء بالتالي من ضغوط متزايدة القوة بصورة متواصلة من أجل إعانة أسرهن، مما يمكن أن يدفعهن، رغما عنهن، إلى استعمال طرق زراعية غير قابلة للاستمرار من الناحية الإيكولوجية في الأجل الطويل، مثل فترة إراحة الأرض التي صارت قصيرة جدا. ونتيجة للندرة، تقضى النساء الآن ساعات أطول في مهام مثل جمع الوقود، والعلف، والماء. وعلى سبيل المثال، أثبتت دراسة أجريت في مناطق من الهند جرت فيها إزالة الغابات بشدة أن النساء وأطفالهن يقضون في المتوسط من أربع إلى خمس ساعات في اليوم لجمع ما يكفى من الوقود لإعداد وجبة المساء.
وهناك حاجة ماسة إلى الاعتراف بحقوق الإنسان ودمجها بصورة أفضل في المجتمعات حتى يكون بوسع القدرة الكامنة المبدعة والمنتجة للنساء أن تعبر عن نفسها بطريقة أكثر فعالية وأقل زعزعة. والحقيقة أن إقصاء النساء بعيدا عن المحاصيل التجارية والتقدم التكنولوجي وواقع أن دورهن يقتصر في كثير من الأحيان على الاقتصاد الاكتفائي الذي لا تتمتع النساء بأي سيطرة عليه أو إلا بسيطرة محدودة عليه، يثبتان جيدا إلى أي حد يمكن أن يكون لعمل منخفض القيمة ومنخفض التقدير كثرة من الآثار المشئومة. ووفقا لتلخيص جودي جاكوبسون المشكلة ببراعة: "إذا كانت النساء، في الاقتصادات الاكتفائية، هن اللائى يقمن بصورة رئيسية بتوريد المواد الغذائية، والوقود، والماء، لأسرهن، وإذا تقلصت، في الوقت نفسه، فرصة حصولهن على الموارد الإنتاجية، فإن المزيد من الأفراد سوف يتعرضون للجوع، وسوء التغذية، والمرض، وفقدان الإنتاجية. وإذا تعلمت النساء تقنيات زراعية قابلة للاستمرار من الناحية الإيكولوجية واكتسبن معارف واسعة بشأن التنوع الجيني، كما فعلت الملايين، وإذا حدث، في الوقت نفسه، أن يتم رفض أي مشاركة للنساء في التنمية، فإنه لا مناص من فقدان هذه الحكمة".
لقد آن الأوان للاعتراف بحقوق الملكية للنساء ودمجهن تماما في عالم العمل، على قدم المساواة مع الرجال، مما يسمح بتفادي التشوهات الصارخة التي تؤدى إلى الحط من شأن جهودهن.
والحقيقة أن عدم التماثل القائم بين الرجال والنساء يشكل إحدى الصور العالمية الكبرى الثلاثة من عدم التماثل (عدم التماثل في الثروة وعدم التماثل في المعارف العلمية والتقنية ونقلها عن طريق التعليم وعدم التماثل بين الرجال والنساء). وكما سبق أن رأينا فإن هذه الصور من عدم التماثل تُراكِم في كثير من الأحيان آثارها، إذ إن النساء يتعرضن في المتوسط أكثر كثيرا من الرجال للفقر وعدم الحصول على التعليم – ويمكننا أيضا أن نضيف الحرب والعنف.
وإذا كان وضع المرأة سيئا بصورة عامة فإنه يغدو كذلك على وجه الخصوص أينما تم إضفاء الطابع المؤسسي على التمييز ضدهن. ولنكن واضحين تماما: إن نظاما يهزأ بالحقوق الأكثر أساسية للمرأة إلى حد رفض حق البنات في الذهاب إلى المدرسة لا ينبغي أبدا أن يعترف به المجتمع الدولي. ويجب إدانة إضفاء الطابع المؤسسي على التمييز ضد النساء بكل شدة: إن حقوق الإنسان الأساسية عالمية، و"يمكن أن يستفيد كل شخص من كل الحقوق والحريات" التي ينص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان "دون أي تمييز من أي نوع، خاصة بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي، أو كل وضع آخر"([344]). ولا يمكن تطبيق الحق بصورة مختلفة على فئتين من المواطنين، وفقا لما إذا كان الأمر يتعلق بالرجال أم بالنساء. وكما شددت مارى روبنسون Mary Robinson، المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فإننا "يجب أن ندمج الأبعاد الجديدة المعترف بها باعتبارها لا غنى عنها في تطبيق حقوق الإنسان: الجنس، الاستمرارية، البيئة، حق الأطفال، التزامات المشروعات الكبرى"([345]).
من الإقصاء إلى الدمج:
المرأة في قلب التنمية
من المؤسف أن موارد الأسرة توزع، في ثقافات عديدة، وفقا لمكانة أفراد الأسرة وليس وفقا لاحتياجاتهم: تجرى معاملة الرجال والأولاد أفضل من النساء والبنات. وفى بلدان كثيرة، يكون التحاق البنات بالمدارس أقل من الأولاد، الذين يحظون بالأولوية. ووفقا للبنك الدولي فإنه بالنسبة ل17 بلدا من أصل 29 بلدا نملك عنها إحصائيات حديثة، يفوق معدل وفيات البنات الصغيرات، اللائى تتراوح أعمارهن بين عام واحد وأربعة أعوام، المعدل الخاص بالأولاد من العمر نفسه([346]). وفى مناطق كثيرة من الهند، كما يشدد الاقتصادي أمارتيا سين وعدد من الخبراء، يتلقى الأبناء غذاء أكثر ورعاية أفضل من البنات، وتفسر هذه المعاملة التفضيلية ارتفاع معدل وفيات الإناث خلال الفترة الحرجة الواقعة بين الولادة والخامسة من العمر. وباستثناء البنات من سن 10 إلى سن 14، تموت النساء الهنديات، من جهة أخرى، بنسب أعلى كثيرا من الرجال، بأمراض يمكن تجنبها حتى الخامسة والثلاثين من العمر. وقد لوحظ أيضا هذا النوع من عدم المساواة في تخصيص الموارد الأسرية في ثلاثة بلدان أخرى في جنوب آسيا، والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وفى بعض أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء.
وهذا التمييز ضد النساء مؤلم للغاية حيث أنهن اللائى يقمن في الواقع، معظم الوقت، بتغيير العالم يوما بعد يوم، كما أنهن القوى الفاعلة الرئيسية للتنمية الحقيقية. وبالفعل تثبت عدة دراسات أنهن يستخدمن في أغلب الأحيان المال الذي يكسبنه لتغطية النفقات الصحية والتعليمية للأطفال، أو لإعادة الاستثمار في نشاطهن المهني، وأنهن يحتفظن منه لاستهلاكهن الشخصي بأقل مما يفعل الرجال([347]). ووفقا لأبحاث أجريت في كل المناطق النامية فإن ما يحدد مستوى تغذية الأطفال هو دخل الأم أو إنتاجها الغذائي أكثر من دخل الأب، ودرجة السيطرة التي تمارسها الأم على هذا الدخل. وكما يقول جيمس غوستاڤ سپيث James Gustave Speth، مدير برنامج الأمم المتحدة للتنمية: "في العالم الثالث من أدناه إلى أقصاه، في المناطق الريفية، يقوم الاقتصاد المحلى على أكتاف النساء".
وبهذا الصدد فإن التجربة التجديدية للتمويلات المقدمة للمشروعات النسائية الصغيرة من مؤسسات مثل بنك جرامين الذي يصل عدد عملائه إلى مليونين، 94% منهم من النساء، تقود إلى استنتاج واضح: حالما تحصل النساء على الائتمان الصغير فإن بمستطاعهن أن يلعبن دورا أنشط كثيرا من الرجال في النضال ضد الفقر. وقد لوحظ أيضا أن النساء أفضل في تسديد قروضهن وأفضل توظيفا للأموال التي تمنح لهن، ويرجع هذا دون شك إلى قابلية أقل للأمراض الاجتماعية وإلى إدراك أفضل للإدارة والاقتصاد جرى اكتسابه داخل المنزل. وتبدو المرأة، ربما لأنها أقرب إلى الطفل، أكفأ من الرجل في التخطيط للمستقبل. ولهذا يجب النظر إلى الاستثمارات التي قامت بها النساء على أنها تمثل أحد اتجاهات التغيير الأكثر تأثيرا بالنسبة للمستقبل([348]). ويتميز بنك جرامين بخصوصية أنه لا يقرض سوى الفقراء، وأغلبهم من النساء. واليوم، يعمل في هذا البنك 12 ألف شخص. ولأن بنك جرامين معروف في العالم كله فقد خلق منافسين له في بلدان نامية مثل ماليزيا، والفليبين، وبوركينا فاسو.
ونحن لا يمكن أن نتجاهل 50% من القدرة الخلاقة الكامنة للبشرية. وينبغي أن نعطى النساء وسائل القيام بدورهن ليس فقط من وجهة نظر اقتصادية، بل في كل مجالات الحياة الفكرية والعلمية التي جرى منذ وقت طويل جدا طمس موهبتهن ورؤيتهن فيها ولم يتم حتى الآن الاعتراف بهما بالقيمة الجديرة بهما. ومنذ إنشاء جائزة نوبل في 1901، لم يفز بها سوى 28 امرأة، من أصل 634 جائزة شخصية. فمن هو العبقرية الشعرية لروسيا في القرن العشرين، إلى جانب ماياكوڤسكى Maïakovski؟ على الأرجح امرأة: مارينا تسڤيتاييڤا Marina Tsvetaïeva. وقد سمعنا جميعا عن الأول. لكن من، باستثناء عشاق الشعر والناطقين بالروسية سمع عن الثانية؟ كما أن الشعبية الحالية لروائيات من أمريكا اللاتينية، مثل نيليدا بنيون Nelida Piňon أو لاورا إسكيبيل Laura Esquivel، تقدم مثالا رائعا على الإسهام الممكن للنساء في الثروة الثقافية لمجتمعاتنا، وعلى قدرتهن على الإسهام بوجهات نظر مختلفة وأصيلة، وعلى إبداء الشجاعة عندما يفتقر إليها الرجال. وإذا كنا نريد حقا تأمين نجاح إستراتيجيات التنمية فإننا يجب أولا أن نستثمر في تعليم وصحة النساء ونكفل مشاركتهن في المجالات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية للمجتمع.
دور اليونسكو
لا شك في أن أمام اليونسكو دورا أساسيا تلعبه في سبيل تعزيز وضع النساء في المجتمع. ويدعو هذا قبل كل شئ إلى التعميم الفعلي للتعليم المدرسي الإلزامي للبنات، وتحقيق التكافؤ مع الأولاد في التعليم، والحصول المضمون على التعليم المستديم الذي يمكن أن يستفيد، في المناطق الأكثر عزلة، من الإنجازات المتحققة في تقنيات التعليم عن بعد، حالما يكون قد تم القيام بتنفيذ الاستثمارات الضرورية في البنية الأساسية للاتصالات السلكية واللاسلكية. كما ينبغي أن تشجع اليونسكو على الوصول المتساوي للرجال والنساء إلى كل فروع المعرفة: في هذا المجال أيضا، يجب أن يكون التكافؤ هدفا محددا زمنيا وقابلا للتقييم. والنساء دائما ضعيفات التمثيل في مجال العلوم "الصعبة"، ويرجع هذا جزئيا إلى تصور بال عن الثقافة العلمية، باعتبارها "معقلا" ذكوريا. وينبغي بصورة مطلقة تعزيز حصول البنات والنساء على التعليم العلمي والتقني حتى تكون لهن كلمة مسموعة في الجدال الدائر حول التحديث. وبهذا سيكون بمستطاعهن المشاركة بنشاط في التنمية بالكفاءات والمسئوليات على قدم المساواة مع الرجال.
ويجب أن يكون تعليم النساء تعليما لكل النساء، طوال حياتهن: ومن المهم على وجه الخصوص أن يكون بمستطاع أجيال النساء اللائى حرمن من التعليم أن يصرن المستفيدات به في وقت لاحق من حياتهن. ويجب أن يكون لتعليم النساء الأولوية في الاستفادة بالإنجازات التي تحققت في مجال تعليم الكبار. ويشكل هذا النهج الذي بدأته اليونسكو منذ سنوات عديدة مضت، ثمرة عملية طويلة قادت إلى مؤتمر جومتيين الخاص بالتعليم للجميع (1990)، وإلى مبادرة نيودلهي لصالح البلدان التسعة المأهولة أكثر بالسكان (1993)، وإلى المؤتمر الدولي الخاص بتعليم الكبار في هامبورج (1997). ومنذ ذلك الحين تم إقرار هذا النهج باعتباره منعطفا رئيسيا في المجال التعليمي. إنه يمثل أكثر كثيرا من مجرد تدريب على محو الأمية: إن هدفه يتمثل قبل كل شئ في تحسين شروط معيشة الكبار ونوعية حياتهم، عن طريق فن تعليمي معدل، يقوم بصورة خاصة على التدريب المكثف على المعارف والتقنيات باللغة التي ينطق بها الكبار. ومزايا هذا التعليم ملموسة بصورة مباشرة في كثير من الأحيان، إذ أنه يتجسد في الأجل القصير في أنشطة مدرة للدخل. وبالتالي فإن الكبار ليسوا هم المستفيدين وحدهم، بل أيضا، وفى كثير من الأحيان، كل الأسرة، بل حتى جماعة محلية بكاملها: إن تعليم الكبار يبني الجدران ويحفر الآبار في القرى، ويسهم في تحسين الأوضاع الصحية، وييسر الحياة اليومية، ويكفل وجود كل الأطفال في المدارس. وعلى وجه الخصوص فإنه يسهم في إحياء إحساس النساء بكرامتهن، بعد مسيرة عنيدة.
وينبغي أن يتحقق للنساء تأمين حصولهن على قدم المساواة مع الرجال على التعليم المستديم مدى الحياة. ولا يجب أن يكون تعليم الكبار ميزة تقتصر على السكان الأكثر حصولا على التعليم المدرسي. ويمكن لنساء ورجال كل البلدان كل يوم، حتى لمدة ساعة واحدة، أن يتعلموا، ويعيدوا تدريب أنفسهم، ويتقدموا على طريق المعرفة، ويقوموا بتحسين معارفهم التقنية والمهنية. ومن أجل البقاء، ومن أجل الحياة بصورة أفضل، ومن أجل الحياة معا بصورة أفضل، سيكون على رجال ونساء القرن الحادي والعشرين أن يكونوا قادرين على التعلم طوال حياتهم.
ولا شك في أن أعظم نجاح حققته اليونسكو في هذا المجال هو النجاح الذي حققته بجهودها الخاصة بعض الدول الأعضاء، التي أدركت الأهمية الحاسمة لإعادة توجيه استثمارات الموازنة لصالح التعليم، وعدلت موازناتها القومية وفقا لهذه الأولوية الجديدة. وقد تعهدت الهند، والبرازيل، وبنغلاديش، وبلدان أخرى بالتزامات بالغة الأهمية في هذا المجال. ورمز فعالية هذه السياسة هو: وجود علاقة قابلة للإثبات بين زيادة الجزء المخصص للتعليم من الناتج القومي الإجمالي وانخفاض الزيادة الديموغرافية.
ولا حاجة بنا إلى الإسهاب طويلا بشأن الدور الحاسم الذي تلعبه النساء في العملية التعليمية وفى نقل القيم والمبادئ. إن المرأة، وهى المعلمة الأولى، يجب أن تكون الطرف المستفيد من كل إعادة صياغة للنظام التعليمي الذي يهدف إلى تعبئة وتنمية الثروة البشرية لأحد البلدان، بمنظور طويل الأجل.
وفيما يتعلق بحقوق المرأة، يجب أن تواصل اليونسكو تشجيع المبادرات الرامية إلى إقرار وتنفيذ الوثائق المعيارية مثل اتفاقية 1979. كما يمكن أن تسهم اليونسكو في توعية النساء بحقوقهن الحقيقية وبالقوانين التي تحميهن، عن طريق إدخال برامج "محو الأمية القانونية" في كل مراحل التعليم.
وفى نظرنا، يجب أن تكون النساء في قلب العملية الرامية إلى إحلال ثقافة السلام محل ثقافة العنف. والحقيقة أن من النادر، رغم أن التاريخ قد شهد هذا أحيانا من قبل، أن تكون النساء هن اللائى يدفعن إلى الحروب أو المجازر: وعلى العكس فإن النساء هن اللائى يحاولن، كقاعدة عامة، المحافظة على ما يتبقى من النسيج الاجتماعي ويقمن بتأمين الحماية للأسرة عندما يفلت الجنون القاتل للرجال من عقاله. وتسعى اليونسكو، عن طريق برامجها ذات الطابع التعليمي، إلى تعزيز دور المرأة في نقل القيم الثقافية الإيجابية التي تعزز روح التسامح.
وانطلاقا من مبادرة متخذة في بكين منذ القمة الخاصة بالنساء في 1995، شجعت اليونسكو عددا من الشخصيات على توقيع إعلان بشأن إسهام النساء في ثقافة للسلام، بهدف التشجيع بصورة خاصة على بناء "ثقافة للسلام، في الحياة الخاصة كما في الحياة العامة بروح من التضامن والتعاطف"، وعلى إسناد مزيد من المسئوليات إلى النساء، وعلى تعليم رفيع النوعية بشأن حقوق النساء والرجال. وقد وقع على هذا الإعلان بالفعل أكثر من ألف من الشخصيات، ورؤساء الدول أو الحكومات، والحاصلين على جائزة نوبل للسلام، ومسئولي وكالات الأمم المتحدة. ويشكل تحسين وضع المرأة إحدى الأولويات الكبرى لإستراتيجية اليونسكو. ولسنا هنا إزاء نهج "نسوى" féministe (المرأة قادرة على أن تفعل مثل الرجال) بل نحن بالأحرى إزاء نهج "نسائي" féminine، يقوم على الاعتراف المزدوج بالمساواة والاختلاف، حتى تكون النساء قادرات على التصرف باستقلال تام، بطريقتهن الخاصة في الرؤية والحياة، بأسلوبهن المميز، دون إنكار ذاتهن أبدا.
ولا شك في أن العمل في سبيل مساواة النساء ما يزال غير كاف. ومع ذلك تقدم لنا قرارات قمة بكين إطارا شاملا وموثوقا للعمل. فقد آن أوان العمل: فهل سنكون قادرين على أن نحدد في هذا المجال الأولويات الحقيقية؟ إننا مقتنعون بأنه يجب إعداد وتنفيذ إستراتيجية مستقبلية لصالح النساء، تتمحور حول عدد صغير من النقاط الجوهرية، بالاعتماد على تخصيص تمويل ملائم خلال العشرين سنة المقبلة. لأن تدخل الحكومات ضروري: أمام التفاعل، غير المواتي غالبا للنساء، بين آليات السوق، وضغوط الدوائر الخاصة، وعجز الدوائر العامة، لن يكون بوسع النساء اختراق "السقف الزجاجي" الذي يعوق الآن تقدمهن دون إصلاحات هيكلية وتدابير حصيفة تدعم المساواة الفعلية، بدون الوقوع في الإفراط في التعصب بشأن "الصحيح سياسيا" political correction أو "الصحيح أنثروبولوجيا" anthropological correction.
ويبدو لنا أنه توجد ثلاث مؤسسات مدعوة إلى أن تلعب دورا أساسيا في دعم النساء على المستوى القومي والدولي: البرلمانات، ووسائل الإعلام، والبلديات. والأمر المهم ليس فقط أن يتم تمثيل النساء في هذه المؤسسات للحياة العامة، بل أيضا أن تتصدى هذه المؤسسات لمعالجة مسائل أساسية تهم المستقبل مثل تعليم النساء، وحماية كرامتهن، والمشاركة الفعلية للنساء في الحياة الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، وتحسين مصيرهن – وهو أيضا في أغلب الأحيان مصير أطفالهن.
وفى هذا السياق، قدم برنامج الأمم المتحدة للتنمية برنامجا ينبغي أن يضعه المجتمع الدولي موضع التطبيق بلا إبطاء. أولا، يجب تحقيق المساواة القانونية في غضون عشرة أعوام من الآن، بالالتزام بجدول أعمال زمني دقيق، وصولا إلى التصديق الكامل لاتفاقية 1979. كما أن العنف ضد النساء المستخدم كسلاح حرب يجب تجريمه والعقاب عليه كجريمة حرب. ويجب شن حملات لمحو الأمية القانونية من أجل توعية النساء بحقوقهن. كما يمكن أن تقوم مؤسسات مختصة تابعة للأمم المتحدة بإعداد تقارير حسب البلدان حول وضع النساء والإنجازات المحققة على درب المساواة وفقا للأهداف المحددة من قبل المجتمع الدولي والحكومات([349]).
ويجب تشجيع القدرة على الاختيار، وبالتالي الحرية، في العمل للنساء والرجال. وعلى سبيل المثال، يجب تشجيع الرجال، عن طريق تدابير ملموسة مثل تلك التي وضعتها بلدان شمال أوروبا موضع التطبيق، على المشاركة في الرعاية الأسرية. كما ينبغي مدّ مفهوم الخدمة العامة، فيما وراء التعليم والصحة، إلى دور الحضانة، ومقاصف المدارس، والدعم التعليمي (الواجبات المدرسية، إلخ.)، كما هو الحال بالفعل في عدد من البلدان، إذا أردنا ألا تتناقض النظم المدرسية مع التعزيز الضروري للنساء عن طريق العمل. كما أن تعديل الأوعية الضريبية ونظم الضمان الاجتماعي، حتى تتكيف مع تطور دور النساء، مهم أيضا، تماما مثل تعديل القوانين المتعلقة بالملكية، والميراث، والطلاق.
غير أنه لا شئ سوف يتغير بصورة حاسمة ما لم يتم تحديد عتبة حرجة بنسبة تصل على الأقل إلى 30% على مستوى كل بلد كنسبة حد أدنى لمناصب اتخاذ القرار التي ينبغي أن تشغلها النساء على المستوى القومي. وهذا الهدف ليس عشوائيا، إذ أنه تمت التوصية به منذ 1990، في نهاية أعمال طويلة قامت بها مفوضية الأمم المتحدة لشئون وضع النساء. وفيما يتعلق بالبرلمانات أو الحكومات، كانت سيشيل، وهولندا، وأربعة بلدان من شمال أوروبا هى التي عبرت هذه العتبة. على أن الإنجازات ملحوظة أكثر فيما يتعلق بالمناصب الإدارية والقيادية المسئولة: عبرت خمسة عشر بلدا بالفعل عتبة ال30%. ويجب أن يكون هدف الحد الأدنى المتمثل في 30% موضوعا لجدول زمني دقيق داخل كل بلد، في عدد من المجالات الرئيسية لاتخاذ القرار.
ويجب، بصورة خاصة، قيام كل بلد ببلورة برامج أولوية لتحقيق التعليم الشامل للنساء على مدى الحياة، وتأمين صحة أفضل للنساء الحوامل والأمهات، وتيسير منح الائتمان للنساء. وربما كانت هذه هى النقاط الأكثر حسما لتعديل توزيع أوراق اللعبة. وبطبيعة الحال، تثبت التجربة أنه في هذه المجالات الثلاثة يغدو القيام بعمل حاسم ضروريا، وكذلك إعداد سياسات طويلة الأجل، للإزالة التدريجية للحواجز التي تعترض طريق مساواة الفرص أمام النساء وطريق التنمية.
وقد سبق أن ذكرنا المكاسب الكبيرة التي يمكن أن تجنيها البلدان النامية من تعليم النساء. والواقع أن تكلفة مثل هذه الإصلاحات محدودة جدا: وهى زهيدة بالمقارنة بضخامة النفقات غير الإنتاجية في مختلف أنحاء العالم. كما أنه وفقا لتقديرات الأمم المتحدة يكفى استثمار إضافي يتراوح بين 6.5 مليارات دولار في السنة لتأمين التعليم المدرسي الشامل للبنات في المرحلتين الابتدائية والثانوية على مدى الخمسة عشر عاما المقبلة([350]).
واليوم، تراهن المؤسسات الدولية، وبنوك مساعدة التنمية، والبنك الدولي ذاته، وبطبيعة الحال اليونسكو، التي كانت رائدة في هذا المجال، على النساء، لأنهن صرن مفتاح التنمية. إن النساء يكسبن، ويعرفن كيف يسددن قروضهن. وبصورة متزايدة، تدخل النساء في مجال الأعمال. وفى الجنوب، وخاصة في القطاع غير الرسمي، تغدو المشروعات الصغيرة بصورة متزايدة في أيدي النساء.
وإذا كان القرن العشرون قرن تحرير المرأة فإن القرن الحادي والعشرين يجب أن يكون قرن تحققها. غير أن النساء، في انتظار هذا، يعشن في الفاصل بينهما: عصر انتقالي تتجاور فيه كل المتناقضات، زمن من الأنوار والظلال العنيفة. فهل هناك ما يدهش إذن، في هذه النهاية للقرن، في أن النساء يطلقن في كثير من الأحيان صرخة ألم، وفى أنهن غالبا يستسلمن لليأس، أو الشقاء، أو التمرد؟ وهل هناك ما يدهش في أنه في اللحظة نفسها ترتفع كلمة رجاء، عندما يصلن، هنا أو هناك، إلى الظفر بعدد من الحقوق، أو إلى أن يدفعن إلى التراجع، وإنْ بصورة مؤقتة، استغلال أو اضطهاد أو إقصاء الرجل للمرأة.
ومع ذلك، فمثل هذا الرحالة البعيد النظر كلود ليڤى ستروس Claude Lévi-Strauss، الذي حلم منذ أكثر من نصف قرن مضى بأن المدارات حزينة، فإننا نغدو مقتنعين أكثر فأكثر بأن المرأة هى مستقبل الإنسان.   
وتستوقفنا حقيقة: النساء، اليوم، هن اللائى يغيرن العالم. إنهن اللائى يحركن الأرض. والمرأة ليست مشكلة: إنها قبل كل شئ حل، ونحن لا نستطيع إلا بهن أن نبني عالما أكثر عدلا، وأكثر حرية، وأكثر مساواة، وأكثر تضامنا. وكما شدد أحد مستشاري الأمين العام للأمم المتحدة للإعداد لمؤتمر بكين، جاك لانج Jack Lang، الوزير السابق للثقافة والتعليم الوطني في فرنسا: "لقد آن الأوان لمنح كل نساء هذا الكوكب المكان الجدير بهن. وينبغي أن نواجه الحقائق: إن النساء، بتحريرهن لأنفسهن، مدعوات لتحرير العالم. وبعيدا عن أن يصرن سؤالا، ستكون النساء، أولا وقبل كل شئ، حلاًّ. حلاًّ لمشكلات التخلف والزيادة الديموغرافية، حلاًّ لمشكلات استتباب السلام، حلاًّ لمشكلات السلطة والديمقراطية" ([351]).
منطلقات وتوصيات
3   منح الأولوية في الاستثمارات العامة ومساعدة التنمية لتعليم النساء والبنات بهدف إلغاء صور عدم المساواة القائمة بين النساء والرجال فيما يتعلق بالحصول على التعليم بكل مستوياته، وعلى محو أمية الكبار، وفيما يتعلق بالوصول إلى كل فروع المعرفة.
3   تيسير حصول النساء على وظائف المسئولية العامة، والإشراف، والقيادة، مع التركيز بصورة خاصة على هدف ما لا يقل عن 30% من تمثيل النساء في البرلمانات، ومجالس المجتمعات المحلية والإقليمية (البلديات، المناطق، إلخ.)، والهيئات العامة لاتخاذ القرار.
3   مراجعة البرامج والمقررات المدرسية من أجل تأمين تمثيل كاف لدور النساء، وإنجازاتهن، وإسهاماتهن؛ وتوعية المعلمين والتلاميذ بمشكلات التمييز على أساس الجنس.
3   تأمين الحصول المتساوي للنساء على الائتمان وعلى عمليات القرار الاقتصادي، وترجمة مبدأ "الأجر المتساوي للعمل المتساوي" (المادة 23، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) إلى وقائع.
3   النضال بعزم أكيد ضد صور العنف التي تمارس نحو النساء، وخاصة الإجهاضات التمييزية، وتشويهات الأعضاء التناسلية، والعنف المنزلي، والاستغلال الاقتصادي والجنسي، وأعمال الاغتصاب والعنف إزاء النساء، وخاصة في زمن الحرب، والنص على اللجوء إلى المحاكم الوطنية والدولية المختصة. وتعزيز احترام أكبر للنساء في وسائل الإعلام، وفى وسائل الاتصال المسموعة والمرئية، وعلى الإنترنت.
3   تقديم فرصة الحصول على الصحة والتغذية للنساء؛ وتقديم مساعدة ومعونة خاصة للأمومة؛ وتقديم فرصة الحصول على خدمات متعلقة بالصحة الإنجابية؛ وتحسين البيانات الإحصائية الخاصة بصحة النساء؛ وتعبئة الموارد الضرورية للأسر في مجالات التعليم، والصحة، والخدمات الاجتماعية.
3   إعداد البلدان لتقارير عن وضع النساء والإنجازات على طريق المساواة وفقا للأهداف التي يحددها المجتمع الدولي والحكومات.
3   تأمين التصديق بلا شروط، والتطبيق، والنشر للوثائق الدولية الكبرى المتعلقة بمساواة الجنسين، وخاصة اتفاقية 1979 بشأن القضاء على كل صور التمييز ضد النساء.
3         تأمين المساواة الوطنية والمدنية للنساء، وبصورة خاصة فيما يتعلق بحق الملكية والميراث.


6
النضال ضد المخدرات
التعليم والتنمية والبحث عن معنى للحياة
 
سوق سريعة التوسع
 
يبتهج عدد من الاقتصاديين بالنمو المتواصل للاقتصاد العالمي. غير أن من المؤسف أنه توجد سوق متواصلة التوسع عبر العالم: إنها سوق المخدرات، وهى مصدر أكثر صور الحرمان جذرية إذ أنها تلغى حتى مفهوم الأنا والآخر([352]). وتبلغ الأرباح التي يدرها الاتجار بالمخدرات وفقا للأمم المتحدة 400 مليار دولار في السنة، أي 8% من التجارة العالمية. ويمكن أن تتضح ضخامة هذا المبلغ إذا عرفنا أنه يعادل التجارة الدولية لصناعة النسيج في 1994([353])، أو 1% من الناتج القومي الإجمالي العالمي، أو يعادل حتى الناتج القومي الإجمالي لكل أفريقيا([354]). وإنتاج واستهلاك المخدرات في ارتفاع مستمر. ووفقا لتقرير 1996 للمجلس الدولي لمكافحة المخدرات فإنه "رغم الحظر المتزايد، انتشر إنتاج المخدرات والاتجار بها وكذلك إدمان المخدرات إلى مناطق من العالم كانت ما تزال فى منأى عنها". وكما يشدد أحد الخبراء: "دول المخدرات وديمقراطيات المخدرات، إرهاب المخدرات وحرب عصابات المخدرات، سياحة المخدرات ودولارات المخدرات، لقد غزت المخدرات كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويصاحب توسعُها عولمة الاقتصاد وعولمة ديمقراطية السوق"([355]). والواقع أن التنظيم الكفء جدا لتجارة المخدرات في شبكة عالمية بالاستناد إلى وحدات مرنة للغاية وفى حالة من التغير المتواصل يجعل كل مكافحة بالغة الصعوبة([356]). وإلى الآن ما يزال الإنتاج بالغ التركيز، إذ أن نسبة 90% من الإنتاج العالمي غير المشروع من المواد المحتوية على الأفيون تأتى من منطقتين كبيرتين: منطقة "الهلال الذهبي" (أفغانستان، إيران، باكستان) ومنطقة "المثلث الذهبي" (لاوس، ميانمار، تايلندا)، كما أن نسبة 98% من الإمدادات العالمية من الكوكايين تأتى من بلدان الأنديس (ﭙيرو، كولومبيا، بوليڤيا) ([357]). غير أن مصادر جديدة تنتشر، ومناطق الإنتاج والاتجار تتسع، ومخدرات تخليقية جديدة تظهر. ويمثل الاتجار في المخدرات الجانب الأكثر غموضا للعولمة: إنه أيضا أحد أوائل المستفيدين منها، نتيجة للمسامية المتزايدة لحدود الدول، والطابع المتقلب للصفقات المالية، وعدوى أساليب الحياة، وحتى ـ إن جاز القول ـ "أساليب الموت". ويقدر الإنتربول أنه لا تجرى مصادرة سوى ما بين 5% و15% من المخدرات المحظورة، مما يعنى أن 85% على الأقل من المخدرات تفلت من الحظر ويتم تداولها في السوق غير المشروعة التي يسيطر عليها مجرمون([358]).
ووفقا لتقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يتم في الأسواق المالية كل عام "غسيل" مبلغ 85 مليار دولار ناشئ عن أرباح هذه التجارة. وهذا المبلغ أعلى من الناتج القومي الإجمالي لثلاثة أرباع اقتصادات العالم الـ 207، وفقا لمجموعة من خبراء مجموعة السبعة([359]). وعلى هذا فإن الثروة المتراكمة لدى تجار المخدرات منذ عشرة أعوام أو خمسة عشر عاما يمكن أن تصل إلى "عدة آلاف من المليارات"([360]). والحقيقة أن تجارة المخدرات "تستفيد" منها ـ إن جاز القول ـ البلدان الصناعية في المقام الأول، على حساب شبابها: إذ أن نسبة 90% من هذه المبالغ يعاد استثمارها في البلدان الغربية([361]). ويشعر عدد من الخبراء بصورة متزايدة بالقلق إزاء التوسع السريع "للمناطق الرمادية" داخل الاقتصاد العالمي، فهي تسمح لشبكات ضخمة للجريمة المنظمة بالتغلغل إلى قلب بعض المجالات الإستراتيجية للاقتصاد الدولي، مثل الأسواق المالية العالمية الكبرى([362]). وكما يشير أحد الخبراء فإنه "في كل البلدان، يشارك الجهاز المصرفي مشاركة فعالة في إعادة توظيف أموال المخدرات، خاصة من خلال الشركات الفرعية والمراسلين المزروعين في الأرخبيل العالمي للفراديس [أو الملاجئ أو الملاذات] الضريبية"، وعلى هذا النحو أحيانا فإن "أموال المخدرات التي يتم غسيلها تكفل خدمة الدين أو تمويل مشروعات التكيف الهيكلي"([363]). والواقع أن التعقيد المتزايد الذي لم يعد يعرف خطوط الأفق بل يظل مفتوحا أربعا وعشرين ساعة في الأربع والعشرين ساعة، والبروز السريع "للمدفوعات الإلكترونية" غير المسجلة، تدعو جميعا إلى يقظة متزايدة من جانب الهيئات المنظِّمة، وتوسيع مشاركتها في مجموع المؤسسات المالية العالمية. ومن جهتها، طالبت الولايات المتحدة، مؤخرا، بتنظيم القطاع المالي خارج البنوك، من بيوت صرف العملة والسمسرة إلى الكازينوهات، مرورا بخدمات التسليم السريع، وشركات التأمين وتجارة المعادن النفيسة([364]). وينبغي أن تحترم الشركات المتعددة الجنسيات والشركات المالية عبر القومية قواعد السلوك الكفيلة بمنع غسيل الأموال ذات المنشأ الإجرامي، سواء أكانت مستمدة من تجارة المخدرات، أو تجارة الأسلحة، أو كل شكل آخر للتجارة الكبرى الإجرامية أو لنشاط المافيا (اختلاس الأموال العامة، ابتزاز الأموال، البغاء، المقامرات المحظورة، إلخ.).
ويشكل النفوذ الخفي أو المكشوف للمنظمات الإجرامية الكبرى، والذي يبدو أنه يتجه الآن إلى التزايد في عدد من بلدان الشمال والجنوب أخطارا كئيبة على الأخلاق الاقتصادية وعلى حكم القانون. ويقدر برنامج الأمم المتحدة للتنمية أن النفقات المخصصة لاستهلاك المخدرات بالنسبة للولايات المتحدة وحدها تتجاوز الناتج المحلى الإجمالي لأكثر من 80 بلدا من البلدان النامية مجتمعة. وعلاوة على هذا، وسعت المنظمات الإجرامية بصورة كبيرة المناطق الجغرافية لنفوذها لصالح عولمة وازدهار تجارة المخدرات، التي تتسع في كثير من الأحيان لتدخل في تكافل مع أنشطة إجرامية أخرى (تجارة الأسلحة، البغاء، تجارة البشر، ابتزاز المال، اختلاس الأموال العامة، المقامرات المحظورة، وتغلغل مافيا الكازينوهات، إلخ.). والواقع أن الحجم الهائل للأرباح غير المشروعة من المخدرات، وكذلك "تسلُّل" قطاعات بكاملها من الاقتصاد القانوني تتم السيطرة عليها الآن عن طريق إعادة توظيف رؤوس الأموال، يمكن أن يؤديا ذات يوم، نتيجة لديناميكا التراكم وللتركيز الملحوظ خلال العقدين الأخيرين، إلى وضع لا رجعة فيه: لن تعود أية دولة، أية قوة منظَّمة، في وضع يسمح لها بأن تقاوم، إذ أن جزءا كبيرا من الاقتصاد وأيضا من قوى النفوذ سوف ينتقل، في الشمال وفى الجنوب، عن طريق الغسيل، ليدور في فلك تجارة المخدرات. والحقيقة أن الصمت في هذا المجال يساوى مراعاة نفس المبدأ الذي تستند إليه سلطة المنظمات الإجرامية: قانون الصمت.
ولهذا فإن تجارة وتعاطى المخدرات يشكلان في رأيي أحد الأخطار الأكثر جدية التي تهدد كوكبنا، بكل نتائجها الكارثية على الصحة والتنمية والمجتمع. والحقيقة أنني بالغ التأثر إزاء هذا لأنني، باعتباري متخصصا في الكيمياء الحيوية، أعرف جيدا جدا ما هى آثار إدمان المخدرات على مراكز الاستقبال في المخ والإصابات غير القابلة للعلاج التي تنشأ ابتداءً من مستوى بعينه من التعاطي([365]). وتضاف إلى هذه الشرور الآثار الوخيمة لانتشار الإيدز بين مدمني المخدرات الذين يستعملون المخدرات عن طريق الحقن في الأوردة. والشباب والتعليم والقيم أوّل الضحايا. إلا أن إدمان المخدرات يمثل أيضا جحيما لا يطاق بالنسبة للأسرة بكاملها. على أنه، في نهاية المطاف، تغدو الديمقراطية ذاتها هى المهددة بالخطر، ومعها السلام. وكما يشدد متخصص في هذا المجال: "لا يوجد اليوم نزاع محلى لا يرتبط إلى هذا الحد أو ذاك بتجارة المخدرات"([366]). لقد صارت المخدرات صورة من صور العنف موجهة ليس فقط تجاه الأفراد بل أيضا تجاه المجتمع كله.
وتشكل المخدرات خطرا ليس فقط على البيئة البشرية، بل أيضا على الوسط الطبيعي. ففي بلدان عديدة، صار الانتشار الكثيف للمحاصيل المحظورة أحد الأسباب الرئيسية وراء إزالة الغابات، وتآكل التربة، وتلوث مياه الأنهار والمياه الجوفية بمبيدات الحشائش ومبيدات الآفات، وفقدان التنوع الأحيائي، والسرعة البالغة لتغير المحاصيل. ووفقا للحكومة الكولومبية فإنه في مقابل كل هكتار مزروع بنبات الكوكا يتم إحراق أربعة هكتارات من الغابات، ومقابل هكتار واحد مزروع بالماريجوانا يتم إحراق واحد ونصف هكتار من الغابات. ووفقا لتقرير لوزارة الخارجية الأمريكية فإن "زراعة الكوكا في ﭙيرو، وبوليڤيا، وكولومبيا مسئولة عن 90% من إجمالي إزالة الغابات المسجلة في هذه البلدان الثلاثة". ووفقا لمسئول أمريكي فإن "تجارة المخدرات هى العدو الرئيسي للبيئة، ومصدر إزالة الغابات، ومصدر التلويث الإجرامي لمجارى المياه بمواد سُمّية مستعملة في تصنيع المخدرات". وعلاوة على هذا، تعانى البيئة أيضا من الاستخدام المكثف لمبيدات الأوراق النباتية المستخدمة في إزالة زراعات المخدرات([367]). غير أنه ينبغي التشديد على أنه في حالة المخدرات "الصناعية"، يغدو هذا الإجراء ضد زراعات المخدرات غير فعال. وعلى هذا فإن الطلب هو ما ينبغي تقليله أولا، من أجل القضاء عليه بعد ذلك. وبدلا من اتهام البلدان "المنتجة"، على البلدان "المستهلكة" إذن أن تستثمر في الوقاية وفى علاج مدمني المخدرات ـ العلاج الإنساني، الفعال، العلمي، أو "الطبي". إن كل مدمن مخدرات، مثل كل مريض، يجب أن يحصل، بأسرع ما يمكن، على الرعاية التي يحتاج إليها. والمطلوب تشجيع رؤية أخرى "للدفاع" لا تتمثل في الدفاع عن الحدود بل تتمثل في الدفاع عن المواطنين. وإلا فإننا سوف نتجه إلى وضع شاذ يتمثل في تجهيز معدات دفاعية ضخمة للدفاع عن مناطق يسود فيها انعدام الأمن، والظلم، والمعاناة.
ونحن نهتم اهتماما بالغا بالمشكلات المرتبطة بالمخدرات على وجه الخصوص، لأن هذه المشكلات تكون في كثير من الأحيان انعكاسا لإخفاق إستراتيجياتنا للتنمية وكذلك "لعدم قدرتنا على أن نكفل لكل شخص اندماجا اجتماعيا كافيا"([368])، كما يؤكد هيج دي جوڤنيل Hugues de Jouvenel. وبطريقة مماثلة، جعلت ربحية هذه التجارة من المخدرات خيارا بديلا حقيقيا للتنمية، مهما كان وهميا بصورة إجرامية، إذ أنه يخلق أسواقا جديدة بما في ذلك في البلدان المنتجة. ففي حين أنه يبدو أن تعاطى المخدرات راكد الآن في جزء كبير من الشمال، حيث توجد مع ذلك أوسع سوق للمخدرات المحظورة في العالم، فإن "الأعداد الكبرى من المتعاطين يوجدون الآن في الجنوب"([369]): وفقا للأمم المتحدة "لم تعد أعلى معدلات إدمان الهيروين موجودة في البلدان المتقدمة، بل بالأحرى في عدد من البلدان النامية في آسيا، مثل باكستان، كما لوحظت معدلات مرتفعة لزيادة الإسراف في تعاطى الهيروين في بعض أنحاء أفريقيا"([370]). وعلى سبيل المثال، تبين دراسة متعددة التخصصات أجراها برنامج الأمم المتحدة للمكافحة الدولية للمخدرات أنه في باكستان، حيث كان إدمان الهيروين غير موجود تقريبا في 1979([371])، خلقت سواقط عبور الهيروين، خلال خمسة عشر عاما، سوقا من مليون ونصف من المتعاطين([372])، تدرّ أرباحا تصل إلى 1.2 مليار دولار في السنة؛ ويمكن أن نلاحظ ظواهر مماثلة في عدد كبير من البلدان المنتجة الأخرى، حيث يتم تعويض اعتدال أسعار المخدرات باتساع سوقها.
وكان لهبوط أسعار المواد الخام الزراعية أو المنجمية تأثير كبير على انفجار العرض. وبالفعل فإن الأرباح التي يمكن أن يجنيها الفلاحون من المخدرات تتجاوز الآن كثيرا الأرباح التي يمكن أن يتوقعوها من المحاصيل التقليدية. ولا يمثل الدخل المتولد عن إنتاج النباتات الأساسية للمخدرات في أحسن الأحوال إلا حوالي 3% من القيمة النهائية للمنتج المباع للمستهلك، ومع هذا فإنها تصل في المتوسط إلى خمسة أضعاف دخل المحاصيل التقليدية([373]). وعندما لم يؤد هبوط الأسعار إلى إحلال المحاصيل فقد شجع أيضا على الهجرة الريفية التي تسهم في تضخم مدن الصفيح. وفى هذه الغابات الحضرية الجديدة، حيث تتلاقى كل طرق الإقصاء والتهميش، يتضخم حجم البطالة ونقص التوظيف. وهناك يلتقي شباب بلا أمل بنماذج القدوة السيئة المميزة للمافيا من قوة وعنف. وفى الجنوب والشمال، في الغيتووات الحضرية وشبه الحضرية، ومساكن الفاڤيلا، ومدن الصفيح، و"أحياء المشاكل"، صارت تجارة المخدرات، رغم كل الأخطار التي تجرها وراءها، النشاط الاقتصادي الأكثر ربحا، إن لم يكن الوحيد بالنسبة لأشخاص بلا تأهيل، متسربين من التعليم، علاوة على أنهم ضحايا فعليون لتمييزات، ذات طابع اجتماعي أو إثنيّ، في سوق العمل.
والواقع أن تفاقم عدم المساواة بين بلدان الشمال الغنية وبلدان الجنوب الفقيرة مسئول إلى حد كبير عن نمو زراعة وإنتاج المخدرات. وبطريقة مماثلة فإن نمو المجتمعات المزدوجة، خاصة في قلب المدن الضخمة (الميغابولات) في الشمال والجنوب، يضاعف عدد المتعاطين والتجار. وهناك حقيقة مأساوية تتمثل في أن أغلب النزاعات المحلية وعددا من المنظمات الإرهابية يتم الآن تمويلها "بالأرباح الهائلة" لتجارة المخدرات، التي تمثل أيضا بصورة غير مباشرة مرتعا وخيما لأوبئة عامة كبرى. وفى أفغانستان، كان الإنتاج السنوي من الأفيون حوالي 300 طن، إلا أنه تضاعف إلى عشرة أمثال منذ بداية الحرب([374]). وهكذا تبدو المخدرات وكأنها حبل العقد المتشابكة الذي يربط الشر بسوء الحظ و"يوجد بالقوة" نتائج كل الويلات الاجتماعية. وهى تهدد بالخطر حتى معنى كل برنامج تعليمي وكل مشروع إنساني، وتقوض فكرة التقدم ذاتها بتقليص فرص الأجيال المقبلة. وتشهد كل هذه العوامل لصالح عمل سريع ومنسق على النطاق العالمي.
إزالة العرض
أم القضاء على الطلب
للقيام بعمل فعال ضد المخدرات، يجب أوّلا أن نفتح أعيننا أكثر، وأن نفتح عيون الآخرين. وعلينا أن نناقش هذه المشكلة بقدر أكبر كثيرا من الصرامة العلمية والوعي النقدي، في معاهد إنتاج المعرفة، في المدرسة، في الجامعة، في كل قنوات الإعلام الجماهيري: يجب أن نوضح بجلاء، وبلا كلل أو ملل، الأضرار الحقيقية التي أدت إليها مختلف المخدرات وما ينشأ عنها من عبودية معنوية وجسمانية وتدمير للأبدان والمواقف والقيم. وعلينا أن نقوم، كل يوم بلا كلل أو ملل، بإلقاء الضوء على الأضرار التي تلحقها بالمجتمع ـ ابتداءً من المعاناة الهائلة لأسر مدمني المخدرات ـ وكذلك بالفرد. وعلينا أن نكف عن أن نصنع من المخدرات إكسيرا ملعونا ولكن جذابا، وعلينا بالتالي أن نتخلى عن إضفاء طابع شيطاني عليها، كما نفعل في أكثر الأحيان، دون أن ندرك بوضوح أبدا أننا نصنع منها بذلك "تميمة فتيشية" لكل رغبة تنتهك العرف الاجتماعي. وعندما نصيح كثيرا "الذئب!" فإننا لا ندفع الشباب إلى الهرب بقدر ما ندفعهم إلى الانقضاض: ويبين مسح أجراه مؤخرا معهد فرنسي لاستطلاعات الرأي العام أنه في رأى 52% و44% على الترتيب ممن يتعاطون المخدرات يتمثل الدافع الأول في اللذة وحب الاستطلاع([375]). وعلينا أن نبدد الأوهام التي تحيط بالمخدرات، بأن نشرح للأطفال أنها قبل كل شئ إنكار للوجود، كما تشدد ريتا ليڤى-مونتالسينى Rita Levi- Montalcini، الحائزة على جائزة نوبل في الطب، في مقالها الرائع الذي أهدته إلى الشباب والذي يحمل بالتحديد عنوان: "مستقبلك". وسوف تكف المخدرات عن إغواء المراهقين حالما يفهمون أنها قبل كل شئ "إضعاف للقدرة على الفعل"، كما كان سيقول سپينوزا Spinoza، الذي عَرَّف الحزن بهذه الكلمات في كتابه: علم الأخلاق.
وهناك من يعتبرون أنه لم يعد ينبغي حظر المخدرات: وفقا لهؤلاء الخصوم الليبراليين للتحريم فإنه باستعادة سيطرة الاقتصاد القانوني على المخدرات يمكن النضال بصورة أفضل ضد الشرور الناشئة عن عدم شرعية السوق، مثل إثراء التجار والوسطاء (الذين يحفزون توسع هذه التجارة)، وإجرامية وعنف وتهميش مدمني المخدرات، وتجارة الأسلحة، والإرهاب، وشبهة الفساد التي تشتد وطأتها في عدد من البلدان في مجالات واسعة من الحياة العامة والسياسية. وبهذا الصدد، يشكو تقرير 1997 للمجلس الدولي لمكافحة المخدرات من وجود "مناخ عام من القبول إزاء الإسراف في تعاطى المخدرات أو التسامح معه على أقل تقدير"([376]). وبالفعل فإنه لم يعد بوسعنا أن نعبث فيما يتعلق بالمخدرات تماما كما لم يعد بوسعنا أن نفعل هذا فيما يتعلق بالأسلحة أو العقاقير الطبية، والحقيقة أن خطر حدوث انفجار في تعاطى المخدرات كبير جدا. وهذا هو السبب في أن المخدرات لا ينبغي تركها لقوى السوق، القانونية أو غير القانونية. وفى هذا المجال لا نستطيع أن نلعب دور من يطلق الجن من القمقم.
ويطالب العديد من المعلقين الآن بإحلال تدابير لتقليل الآثار الوخيمة للمخدرات محل سياسات التحريم، منطلقين من وجهة نظر مؤداها "أن المخدرات لن تختفي سريعا، وأنه لا خيار آخر لنا سوى أن نتعلم كيف نعيش معها حتى لا تحدث سوى أقل ضرر ممكن"([377]). والحقيقة أن سياسة المنع الكلى، التي لا تستند إلى تعبئة وطنية حازمة، يمكن أن تفشل، إذ أنها لن تنجح، من خلال إحداث ندرة في عرض المخدرات أمام طلب شديد، إلا في جعل هذه التجارة أكثر ربحية بالنسبة لشبكات جديدة تحل محل الشبكات السابقة. ومهما اعتقدنا أننا نحارب الجريمة المنظمة فإننا نعزز بهذا قوتها المالية وقدراتها على نشر الفساد، دافعين بقوة أقساما واسعة من المجتمع إلى الجنوح.
ومن جهة أخرى، يشدد تقرير حديث على أنه "رغم بعض النجاحات الإقليمية، لا يشكل حظر العرض مفتاحا لحل المشكلات الناشئة عن المخدرات المحظورة في العالم. إنه بالأحرى وصفة لتمويل مافيات المخدرات، والفلاحين المنتجين، وصغار التجار، والمهربين"([378]). ولم تعد هذه السياسة بلا ثمن، إذ أنه يتم إنفاق مليارات الدولارات كل عام من أجل حظر العرض، بنتائج قلما تكون مقنعة: تجريم جزء متزايد من المجتمع ("قاع المدينة" inner city، الغيتووات، الأقليات، الشباب، التفاعل بين التعاطي و"التجارة الصغيرة"، إلخ.)، وما ينسجم معه من تضخم النظام القمعي الإصلاحي، الذي يعاقب، في نهاية الأمر، مدمني المخدرات أكثر من التجار. ينبغي إذن تغيير كل شئ: من جهة، بتشجيع نظام قانوني وإصلاحي فعال ضد التجار، على كل المستويات؛ ومن جهة أخرى، بالعمل بتدابير وقائية، ولكن أيضا علاجية، على نطاق واسع. وليكن إصرارنا على هذه النقطة: ينبغي علاج مدمني المخدرات ـ والموافقة لهذا الغرض على الاستثمارات الضرورية ـ بتعبئة كل الوسائل اللازمة، سواء أكانت طبية أم علمية، أم غير ذلك.
وينبغي إذن أن نتعلم كيف نتغلب على مشكلات إدمان المخدرات في مجتمعاتنا، بتقليل هذه المشكلات إلى حد أدنى، خاصة بتفادي تجريم مدمني المخدرات. وعلى الصعيد الصحي دون سواه، تفرض نفسها سياسات عامة واقعية بشأن "الحدّ من الآثار الوخيمة" للاستجابة لواقع أن الغياب الكلى للرقابة على سوق المخدرات عامل جبار من عوامل تفشي الإيدز وأوبئة عامة أخرى. وأعتقد ، علاوة على هذا، أنه آن الأوان لإنعام التفكير في اتفاق دولي يتيح، تحت الرقابة الطبية الصارمة، توزيع المخدرات على المدمنين الذين يعجزون عن كسر دائرة الاعتياد([379]). وينبغي معاملة مدمني المخدرات على أنهم مرضى وليس على أنهم مجرمون. وهؤلاء المرضى لهم بالفعل حق الاستفادة بمتابعة طبية ومساعدة اجتماعية شأنهم في هذا شأن كل كائن بشرى يعانى من مرض قابل للعلاج. ومثل هذا الإجراء يمكن أن يجعل العنف والجنوح يتراجعان، وأن يسهم في تحطيم السوق غير الشرعية للمخدرات، وبالتالي المصدر الرئيسي لأرباح الجريمة المنظمة. وتكمن صعوبة مثل هذه السياسة في نقطة واحدة: ينبغي أن يكون الاتفاق دوليا، لأنه لم يعد يمكن تصور سياسات النضال ضد المخدرات داخل أطر قومية خالصة. ولا شك في أن تحقيق التناغم بين سياسات الدول شرط للفاعلية في مجال صار الاعتماد المتبادل فيه قويا بصورة خاصة([380]).
ومن الجلي أن مثل هذه السياسة يجب أن تكون مصحوبة ببحث معمق يجريه المجتمع العلمي والطبي، بتنسيق وثيق مع السلطات الوطنية والدولية المعنية، حول الأضرار النوعية للمخدرات. وربما سمح مثل هذا البحث، كما أشارت هيئة استشارية فرنسية، بوضع لوائح خاصة بكل مادة مخدرة "آخذين في الاعتبار مدى سُمّيتها، ومخاطر الإدمان المرتبطة بتعاطيها، والخطر الذي يمثله على التكيف مع المجتمع، والأخطار التي يلحقها تعاطيها بالغير"([381]).
على أن الوقاية، عن طريق تعليم وإعلام الجمهور، ضرورية أيضا لهذا المشروع. ونحن بحاجة إلى مساعدة وسائل الإعلام، وكذلك مساعدة السلطات البلدية والمحلية لتعزيز ما لا غنى عنه من الوعي، والالتزام، والمشاركة، ولتفادى النظر إلى إدمان المخدرات على أنه أمر عادى، هذا العذر المألوف من مجتمع يتهاون مع تدهور ومعاناة أولئك الذين يرمزون لمستقبله: الشباب والأطفال. ويشدد ميثاق الشباب للقرن الحادي والعشرين المتحرر من المخدرات (1997)، الذي لقي تأييد اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة للمكافحة الدولية للمخدرات، عن حق، على أن "التجارب الأولى للمخدرات تكون في كثير من الأحيان بدافع الفضول، والفراغ، وعدم الثقة بالنفس، وعدم مبالاة وعنف المحيط الاجتماعي المباشر، ولكن أيضا بدافع مصاعب ومعاناة الحياة اليومية"([382]).
ومع ذلك، يواصل عدد كبير من الخبراء والمؤسسات منح الأولوية لخفض العرض. ويتمثل أحد الحلول المطروحة لخفض إنتاج المخدرات وبالتالي عرضها في تنمية محاصيل بديلة مربحة بصورة كافية، وأسواق جديدة للفلاحين الذين يعيشون على الخشخاش والكوكا. ولتحقيق هذا ينبغي بالأحرى إشراك الفلاحين المعنيين في اختيار المحاصيل الجديدة، خاصة وأن إنتاج النباتات المخدرة ترتبط في كثير من الأحيان بتقاليد ثقافية، كما ينبغي توعيتهم بالأخطار التي تنطوي عليها المخدرات بالنسبة لصحتهم، وحياة مجتمعهم المحلى، وأيضا بالنسبة لسلامة البشرية قاطبة. ومن المؤسف أن سياسات القضاء على المزارع، والمساعدة على إحلال المحاصيل القانونية، مع تجاهل العوامل الثقافية للتنمية، والبيئة الاجتماعية المحلية، ومقتضيات التنمية المستديمة، وأيضا بسذاجة المركزية البشرية، قد فشلت في كثير من الأحيان.
وفى هذه الأوضاع، يبدو من الضروري إنشاء آلية للإعانات المالية والأسعار المضمونة لمحاصيل جديدة واجتذاب موارد وطنية ودولية. وقد يصلح، كمثال بهذا الصدد، برنامج التنمية PLANTE (المشروع الوطني للتنمية البديلة) الذي بدأ العمل به في 1996. وفى مثل هذا الوضع، يمكن أن يقوم المجتمع الدولي، مشاركا بدعمه المالي، بالاستثمار في المستقبل محققا النجاح والربح ومتحليا بروح الرؤية الطويلة الأجل.
والواقع أن إحلال المحاصيل، إذا لم تواكبه تدابير هيكلية مصاحبة مع دعم دولي، يبدو محكوما عليه عمليا بالإخفاق لأربعة أسباب رئيسية. ويبدو أنه لا توجد أية حكومة مستعدة لدفع الثمن الباهظ لإحلال المحاصيل على نطاق عالمي، إذا كان لا مناص من الدعم المالي لهذا الإحلال. ولا يبدو أي إنتاج زراعي قادرا على التنافس، بأسعار السوق، مع أسعار النباتات الأساسية للمخدرات. وعلاوة على هذا فإن اقتصاد عدد من البلدان المنتجة، وهى فضلا عن هذا بلدان فقيرة جدا غالبا، يقوم بصورة متزايدة على المخدرات. كما أن من المعروف، كما تشهد بعض التقارير التي تم إعدادها للأمم المتحدة([383])، أن صناعة المخدرات تمثل بالنسبة لبعض البلدان ما يصل إلى 20% من الناتج القومي الإجمالي. غير أن هناك ما هو أسوأ: حتى عندما ينتهي القضاء على المحاصيل في أحد البلدان فإنه لا يؤدي إلا إلى نتائج خادعة ومضللة، لأن الإنتاج ينتقل إلى مكان آخر، حتى في بلد مجاور في كثير من الأحيان([384]).
كل خطر عالمي يحتاج إلى حل عالمي. وكل خطر كبير يستدعى حلولا كبيرة. والحقيقة أن عددا كبيرا من البلدان أعضاء في تحالفات دولية كبرى تضمن حدودها وأمنها. وإذا أردنا أن نستهلّ القرن الجديد ببداية جديدة، فإننا سنكون بحاجة إلى عقد تحالفات مماثلة من أجل مكافحة المخدرات، تماما كما سنكون بحاجة إليها لمكافحة الكوارث من كل نوع على نطاق العالم. ولا يجوز أن تظل مشكلة المخدرات محصورة في جدل بيزنطي حول المسئولية الخاصة بالبلدان المنتجة والبلدان "المستهلكة": الحقيقة أن مثل هذه المماحكات صارت عبثية تماما لأن الحدود بين هذه البلدان المنتجة والبلدان "المستهلكة" تغدو مطموسة بصورة متزايدة منذ انفجار التعاطي في الجنوب. إذن دعونا بالأحرى نثابر على النضال ضد أسباب كل من العرض والطلب. دعونا نخلق شروطا مقبولة للحياة من أجل الفلاحين الذين تغريهم المحاصيل المحظورة الأكثر ربحية، ومن أجل الوسطاء الذين لا يملكون في كثير من الأحيان، في عدد من البلدان أو المجتمعات المحلية المحرومة، خيارا آخر للدخل ـ الذي لا يشكل مبررا بحال من الأحوال ـ، ومن أجل المتعاطين الذين يجهلون، نتيجة للافتقار إلى التعليم والمعلومات، أخطار المخدرات أو الذين يشعرون بأنهم منبوذون من مجتمع لا يتمتعون فيه بوضع يسمح لهم بصياغة حياتهم. دعونا نقدم لهؤلاء جميعا مستقبلا وأملا. والحقيقة أن النتائج المفزعة لإدمان المخدرات على الكرامة الإنسانية تشكل برهانا قويا على أهمية عمل وقائي يمرّ بالتعليم منذ الصغر.
ودعونا نتذكر أن العمل الدولي ضد تجارة المخدرات قد بدأ منذ ثمانين عاما، عندما تم إخضاع تجارة الأفيون لنظام الولاية القضائية الدولية. ومنذ ذلك الحين، خصص النظام المتعدد الأطراف عددا من الاتفاقيات وبرامج العمل ضد هذه التجارة التي ينبغي النظر إليها، في أعلى مستويات المسئولية، على أنها جريمة ضد الإنسانية. وقد أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بنفسها في تسعينيات القرن العشرين "عقد الأمم المتحدة ضد المخدرات". فهل كانت النتائج على مستوى التوقعات؟
وتتمثل الوسيلة الأكثر فعالية للنضال ضد هذه التجارة، كما أعلن القاضي الإيطالي جيوڤاني فالكوني Giovanni Falcone، قبل اغتياله على أيدي مافيا جمعية كوسا نوسترا Cosa Nostra، بوقت قصير: "إن تدمير القوة المالية للجريمة المنظمة يشترط بصورة مسبقة تعاونا دوليا قويا"([385]). ومثل هذا التعاون وحده يمكن أن يمنع تكوين "شبكة التواطؤ" هذه التي تتألف من أعمال الفساد الغامضة وعلاقات التضامن غير المعترف بها والتي وصفها الكاتب الصقلي الكبير ليوناردو شياشيا Leonardo Sciascia في رواية منشورة في 1971، بعنوان "السياق". ذلك أن شبكة التواطؤ هذه هى التي تزعزع المؤسسات الديمقراطية وتهدد ممثليها الشرعيين([386]).
وكان القاضي فالكوني يضيف أن من الضروري، من هذا المنظور، تشجيع وتنسيق "المساعي التي تتمثل غايتها في تحديد ومصادرة الثروات ذات المصدر غير المشروع"، مما يقتضي "مواءمة القوانين الدولية وتحقيق تعاون دولي دائم". وكان جيوڤاني فالكوني يطالب "قبل كل شئ بإزالة الفراديس الضريبية التي عرقلت، حتى الآن، المحاولات الأكثر جدية لبعض البلدان للحد من تدفق الأموال الناشئة عن التجارات غير المشروعة". ووفقا له فإن "هذا نضال يهم كل أعضاء المجتمع الدولي، لأنه يتوقف على نتيجته تدمير الجريمة المنظمة أو، على الأقل، حصرها بحيث لا تعود تشكل خطرا جديا على المجتمع". ودعونا نلاحظ أنه لا يبدو أن نصائح وتضحية القاضي فالكوني قد صارت عديمة الجدوى تماما، إذ أنه، في 1995، قام القضاء الإيطالي بتكثيف مصادرات الممتلكات ذات المصدر غير المشروع، كما يبدو أن أرباح أربع منظمات إجرامية إيطالية رئيسية (قدرتها إدارة مباحث مكافحة المافيا الإيطالية بعشرة تريليونات ليرة، أي 30% من رقم أعمال تم تقديره بثلاثين تريليون ليرة في 1994) قد تراجعت تراجعا هائلا في 1995([387]).
وفضلا عن هذا، لا يقتصر إنتاج المخدرات، وإلى حد بعيد، على المخدرات ذات المصدر الطبيعي. وقد أبرز المجلس الدولي لمكافحة المخدرات في تقريري 1996 و1997 الانتشار المثير للقلق في كل أنحاء العالم للمخدرات التخليقية ـ خاصة الأمفيتامينات أو المنتجات المشتقة ـ مثل ecstasy الذي يتم تصنيعه في معامل سرية. وتغذى هذه المخدرات سوقا محظورة مربحة جدا للتجار حققت بين الشباب نجاحا مثيرا جدا للقلق. وتنظر وزارة الخارجية الأمريكية إلى الأمفيتامينات، بسبب سهولة تصنيعها والزيادة الوحشية للطلب عليها، على أنها في طريقها إلى أن تصير "كابوس القرن الجديد فيما يتعلق بمكافحة المخدرات"([388]). وإزاء هذا الخطر المتعاظم ـ ومن المفارقات أنه يستفيد من التقدم في مجال الأبحاث الصيدلانية ـ سوف تفرض نفسها دون شك تدابير أخرى للمكافحة، والإعلام، والأبحاث، والتعليم، وعلى وجه الخصوص في اتجاه الشباب.
لا وجود، إذن، لحل سحري لمشكلة المخدرات. وبقدر ما سوف يوجد طلب فإن العرض سوف يجاريه. وكما يشير برنامج الأمم المتحدة للتنمية في تقرير معبر فإن "الحل الحقيقي يفرض الهجوم على أسباب إدمان المخدرات والقضاء على الفقر الذي يدفع المزارعين إلى التورط في إنتاج المخدرات"([389]).
ونحن قلقون بصورة خاصة من النتائج المنطقية لتعاطى المخدرات فيما يتعلق بمصير أطفال الشوارع الذين يصل عددهم اليوم إلى أكثر من 100 مليون والذين يكافحون كل يوم من أجل تأمين بقائهم في شروط من الحرمان الكلى. وهؤلاء الأطفال هم أول المهدَّدين بالعنف، والاستغلال الجنسي والاقتصادي، والإيدز، والجوع، والعزلة، وشرور الإقصاء، والأمية، والمخدرات. إن هؤلاء الأطفال هم "السمكة الذهبية" التي يتحدث عنها الكاتب لوكليزيو Le Clézio، والتي يسعى إلى إيقاعها في شباكهم صيادو السمك المشئومون، هؤلاء المطاردون للبراءة. وينبغي عمل كل شئ من شأنه أن يجعل هؤلاء الأطفال يندمجون تماما في المجتمع، وأن يتعلموا كيف يعيشون فيه، وأن يحصلوا على التعليم، وألا يتلاعب بهم بعد الآن المجرمون الذين يستخدمونهم في مشروعاتهم. وهؤلاء الأخيرون هم الذين يستحقون العقاب بكل صرامة لأنهم بتدميرهم للبراءة يقضون على الإيمان والثقة بالمستقبل الذي يسعون إلى تدميره.
والحقيقة أن النضال ضد إدمان المخدرات ـ تماما مثل النضال ضد الإيدز، أو النضال ضد هذه الفضيحة الجماعية التي يمثلها أطفال الشوارع والأطفال المستغلون جنسيا أو صناعيا ـ لن يكون فعالا إن لم يستند إلى تحالف كبير لكل البلدان، مترجما إلى الأفعال إرادة سياسية ترفض الاعتراف بالفشل، تماما مثلما ندافع عن بلدنا عندما تكون السيادة الوطنية في خطر. وبالفعل ففي كل الحالات التي ذكرناها أعلاه تكون الكرامة الوطنية هى المهددة بالخطر، ولا يمكن الدفاع عن الكرامة الوطنية بالمحبة ببساطة، أو بالاشتراك في اليانصيب الخيري والمهرجانات. وتتمثل أفضل طريقة للاحتفال بحقوق الإنسان، التي قمنا في 1998 بتخليد الذكرى الخمسين لإعلانها، في قرار على نطاق دولي يهدف إلى أن تكفل لحقوق الإنسان الممارسة الفعلية لكل الكائنات البشرية. وليس الباقي سوى احتفالات وبلاغة لا طائل تحتها. وسوف يتعين أن يكون برنامج الأمم المتحدة للمكافحة الدولية للمخدرات أحد أقوى برامج كل منظومة الأمم المتحدة، من زاوية سلطته وكذلك من زاوية موارده. وينطبق الشيء نفسه في مجال آخر، على برنامج الأمم المتحدة للبيئة. والواقع أن الوسائل الهزيلة التي في متناول هذين البرنامجين تعكس افتقارا إلى الإرادة السياسية وإلى الوعي العام فيما يتعلق بالوسائل الضرورية للنضال ضد المخدرات أو المحافظة على بيئة الكرة الأرضية ـ ونحن جميعا مسئولون، بدرجات متفاوتة، عن هذا العجز المزدوج.
وفى سبيل النضال ضد المشكلات المرتبطة بالمخدرات، ينبغي إذن الهجوم على أسباب التهميش والحرمان عن طريق الاستثمار في نوعية الحياة ورفاهية الشباب، وبصورة خاصة في مجال الأنشطة الرياضية وبرامج التدريب. وتقع على اليونسكو مسئولية تيسير النضال ضد الطلب على المخدرات عن طريق التعليم، وعلى وجه الخصوص عن طريق التعليم الوقائي. إذ أن التعليم وإن كان أول ضحايا المخدرات فإنه أيضا أفضل ترياق ضدها. والواقع أنه بفضل التعليم يستطيع الشباب معرفة الأضرار الحقيقية للمخدرات، وبفضل التعليم أيضا يستطيع الشباب أن يتفادوا "الاكتئاب" وأن يجدوا طريقهم في المجتمع، وبفضل التعليم، أخيرا، يستطيع الشباب اكتساب المعارف والمواقف الأخلاقية التي سوف تتيح لهم تقوية شخصيتهم والإمساك بمصيرهم في أيديهم. وبدلا من دفع ثمن الحرب والإفراط في الإنفاق على أسلحة الدفاع، دعونا نستثمر في الدفاع السلمي عن الأفراد والشباب، وفى الأمن الثقافي، وفى الحرية الروحية الحقيقية التي تيسر الوصول إلى عالم المعرفة المتحرر من كل عبودية. وحالما يتم إدراك أن هدف التعليم يتمثل حقا في "اكتساب المرء السيطرة على حياته"، فإنه يمكن بالتعليم محاربة كل إدمان: إدمان الكحول، والتبغ، والمخدرات، والطوائف، إلخ. إذ أنه عن طريق التعليم يمكن أن نتعلم الحرية والمسئولية.
وأكثر من أي وقت مضى، تغدو المسألة الجوهرية هى الإرادة السياسية للحكومات في مجال الاتفاق على حلول فعالة ووضعها موضع التطبيق. وأكثر من أي وقت مضى، تقوم اليونسكو بدور رئيسي في إطار مجالات اختصاصه: التعليم والمعلومات ضد الإسراف في تعاطى المخدرات، جهود الإعلام بين السكان، إسهام العلوم الاجتماعية والبحث العلمي من أجل المواءمة بصورة أفضل بين برامج العمل والإستراتيجيات الوطنية والعالمية، ومن أجل تقييم الأضرار النوعية للمخدرات، وهو ما يمثل موضوعا للمجادلات([390]).
على أنني سأكون صريحا: لا يستطيع التعليم والإعلام وحدهما، حتى في الأجل الطويل، القيام بكل شئ في هذا المجال، كما أن التنمية لا تستطيع ذلك إذا جرى اختزالها إلى مجرد الرخاء الاقتصادي. وحتى دون أن نشير إلى كل العقول العظيمة التي استسلمت لإغراء "الفراديس المفتعلة"، من المذهل أن نكتشف أن عددا من الأشخاص الحاصلين على مستوى عال من التعليم، والمتمتعين بدخل مرتفع، يتعاطون المخدرات في عدد من البلدان. والحقيقة أن القلق النفسي الذي يعبر عنه إدمان المخدرات لا يمكن الشفاء منه بالمعرفة وحدها. إذ أن المعرفة ذاتها، إذا ما أعدنا صياغة الشاعر هنرى ميشو Henri Michaux، يمكن أن تقود إلى الهاوية. وإذا كان للقرن الحادي والعشرين أن يتغلب على إدمان المخدرات (وهذا ما يشك فيه بعض خبراء "قصص الخيال العلمي"، الذين يتصورون على العكس توسُّع شكل من "إدمان المخدرات الخفيفة" تحت سيطرة علوم الجهاز العصبي وعلم الصيدلانيات)، فسوف يكون عليه أن يتغلب على العدمية، والركض وراء الاستهلاك، وخواء البحث المحموم عن السُّكْر والنشوة. وسيكون من الواجب حفز "تعبئة عالمية" توحد الحكومات، والبرلمانات، ووسائل الإعلام، والمشروعات، والمجتمع بأسره. وسيكون من الواجب بصورة خاصة أن نعطى من جديد معنى للحياة.
ولا شك في أن التعليم والتنمية الاقتصادية والرفاهية المادية، حتى وإن كانت أدوات رئيسية للوقاية، لن تكفى أبدا لاستئصال المخدرات. والحقيقة أن مثل هذا الاعتقاد معناه تصور أنه يمكن منع الكائن البشرى من السير على حافة الهاوية، من السعي وراء الإغراء أو النشوة أو الرعب، أو، ببساطة أكثر، من تسميم نفسه. ينبغي إذن بناء الدفاعات عن الإنسانية داخل روح البشر، خاصة وأن المخدرات تغرى أرواح المتعاطين بقدر ما تغرى أجسادهم: ويفترض هذا ازدهار حكمة جديدة وأخلاق جديدة. غير أنه ينبغي أيضا بناء الدفاعات عن الإنسانية في صميم الكرامة المستعادة للبشر: بكبح جماح الفقر المدقع، والعنصرية، والتهميش. والحقيقة أن النضال ضد المخدرات، هذا المصدر للدمار والمعاناة والحرب، إنما يعنى أيضا الاستجابة لهدف مؤسسي اليونسكو: هذا الهدف الذي يتمثل ببساطة في بناء السلام والتنمية على أساس التضامن الفكري والأخلاقي للبشرية. ويعنى النضال ضد المخدرات، من خلال جهود شاملة متضافرة، بوسائل إنسانية ومالية على مستوى الكارثة، حماية الشباب، أولادنا وبناتنا، مستقبلنا. ويعنى هذا تعجيل الانتقال من ثقافة عنف وحرب وإهانة إلى ثقافة سلام وعدم عنف وكرامة للجميع.
منطلقات وتوصيات
3         خفض الطلب على المخدرات داخل البلدان المستهلكة خاصة عن طريق التعليم والوقاية والعلاج.
3         تعليم وتوعية الأطفال والشباب فيما يتعلق بأخطار تعاطى المخدرات.
3   تعبئة المجتمع الدولي ضد السببين الرئيسيين لتعاطى المخدرات وتتمثل في التهميش والفقر، في البيئة الحضرية كما في البيئة الريفية.
3   تطوير آليات نوعية على النطاق الدولي والإقليمي والقومي للنضال ضد الفساد، وغسيل أموال المخدرات، والجريمة المنظمة. وتشجيع التصديق على، وتنفيذ، معاهدات دولية بشأن مكافحة المخدرات وعقد اتفاقيات دولية ترمى إلى تدمير السلطة المالية للجريمة المنظمة.
3   مساعدة مدمني المخدرات في التغلب على إدمانهم وعلى أن ينتهجوا بصورة متواصلة أسلوب حياة متحرر من تعاطى المخدرات، من خلال برامج ملائمة للتعليم والعلاج والتدريب المهني.
3   الحد من الآثار الوخيمة لتجارة وتعاطى المخدرات (النمو المالي للجريمة المنظمة، التجريم، الجنوح، الأمراض الاجتماعية) وبحث إمكانية التوصل، على النطاق الدولي، إلى اتفاقية تسمح تحت الإشراف الطبي، بتقديم كميات محدودة من المخدرات للمدمنين الذين يحتاجون إليها.
3   الدراسة الجادة لاعتماد السياسات المسماة "بالحد من الآثار الضارة" المطبقة في بلدان مختلفة كسياسة ولبرنامج عالمي لمكافحة المخدرات.
3         تشجيع البحث العلمي والطبي بشأن الأضرار النوعية للمخدرات والبحث العلمي بشأن تأثير زراعة المخدرات على البيئة.
3   التفكير بجدية في عقد قمة عالمية بشأن المخدرات، تنظمها الأمم المتحدة (برنامج الأمم المتحدة للمكافحة الدولية للمخدرات ومنظمة الصحة العالمية)، تأخذ في الاعتبار كل الأبعاد، القديمة والجديدة، لمشكلة تعاطى وتجارة المخدرات. وتعزيز وسائل وسلطات برنامج الأمم المتحدة للمكافحة الدولية للمخدرات.
3         حفز "تعبئة عالمية" للحكومات والبرلمانات ووسائل الإعلام والمشروعات والمجتمع ضد المخدرات والإدمان.
 


إشارات


مدخل
[1] )  Ilya Prigogine, Avant-propos, La Nouvelle Page, 1994 (F. Mayor, avec  la collaboration de T. Forstenzer) éd. du Rocher/éd. UNESCO.
[2] ) Jérôme Bindé, “Prêts pour le XXIe siècle ?”, article publié dans Le Monde, 29 juillet 1998, et dans plus de 80 périodiques de référence des différentes régions du monde.
[3] ) Eric J. Hobsbawm, Age of Extremes: the Short Twentieth Century 1914-1991, Abacus, 1995.
[4] ) Aminata Traoré, ministre de la Culture du Mali, UNESCO, juin 1999.
[5] ) Cf. Daniel Cohen, Richesse du monde, pauvretés des nations, Paris, Flammarion, 1997.
[6] ) Alain Touraine, Critique de la modernité, Paris, Fayard, 1992.
[7] ) D. Cohen, op. cit.
[8] )  J. Bindé, “Quelle société pour le XXIe siècle ?”, préface du Bilan du Monde, édition 1999, Le Monde, Paris, 1999. Version intégrale à paraître dans Futuribles.
[9] ) D. Cohen, op. cit.
[10] ) Voir notamment Richard Sennett et Roger Sue, communications aux Dialogues du XXIe siècle, UNESCO, 16-19 septembre 1998.
[11] ) انظر الفصل "تغيير المدينة يعني تغيير الحياة".
[12] ) J. Bindé, “Vers un apartheid urbain ?”, communication aux Dialogues du XXIe siècle, septembre 1998, à paraître dans Futuribles.
[13] ) J. Bindé, “Quelle société pour le XXIe siècle ?”, loc. cit.
[14] ) Anaisabel Prera Flores, El poder sin rostro, UNESCO, mai 1999.
[15] ) Alexis de Tocqueville, De la démocratie en Amérique, 4e partie, chap. v, Paris, 1835-1840.
[16] )  Cf. Business Week, “The Mob on Wall Street”, 16 décembre 1996.
[17] ) J. Baudrillard, Le Crime parfait, Paris, Galilée, 1995.
[18] ) Rapport mondial sur le développement humain, Programme des Nations Unies pour le développement (PNUD), New York, 1998.
[19] ) Ibid.
[20] ) Ibid.
[21] ) Rapport mondial sur le développement humain, PNUD, New York, 1996.
[22] ) انظر الفصل "التعليم على مشارف 2020: عن بُعْد أم بدون بُعْد؟".
[23] ) Federico Mayor, “Le devoir de mémoire”, article publié par El País , 22 avril 1999, et dans plusieurs dizaines de périodiques des différentes régions du monde.
[24] ) Mireille Delmas-Marty, Trois défis pour un droit mondial, Paris, Seuil, 1998 ; Vers un droit commun de l humanité. Conversation avec Philippe Petit, Paris, Textuel, 1996 ; Pour un droit commun, Paris, Seuil, 1994.
[25] ) E. Morin, “La terre comme patrie”, Le Courrier de l UNESCO, novembre 1995.
[26] ) استشهد بهذه الحكمة للفلسفة الرواقية، التي تستبق منذ العصور القديمة فكرة مواطنة العالم والعالمية الكوسموبوليتانية: Péter Coulmas, Weltbûrger: Geschischte einer Menschheitssehnsucht, Rowolt Verlag, 1990 .
[27] )  Emmanuel Kant, Le Conflit des facultés (1798), Paris, Vrin, 1998.
[28] )  Le développement qui suit s inspire des analyses développées lors de la troisième séance des Entretiens du XXIe siècle par J. Bindé et synthétisées dans les articles  “Prêts pour le XXIe siècle ?”, loc. cit., et “Quelle société pour le XXIe siècle ?”, loc. cit.
[29] ) Nations Unies, Rés. A/51/178.
[30] ) Rapport mondial sur le développement humain, PNUD, Nations Unies, 1996, 1997, 1998.
[31] ) H. P. Martin et H. Schumann, Le Piège de la mondialisation, Paris, Solin, 1997, The Global Trap: Globalization and The Assault on Prosperity and Democracy, Londres, Zed Books, 1997.
[32] ) J. Bindé, “Prêts pour le XXIe siècle ?” loc. cit.
[33] ) CNUCED, 1994, étude citée par Jacques Decornoy, “Inquiétants nuages audessus de la FAO”, Le Monde diplomatique, octobre 1995.
[34] ) انظر الفصل "فضيحة الفقر والحرمان".
[35] ) Alan Durning, “Asking how much is enough”, State of the World 1991, World Watch Institute, Washington, 1991.
[36] ) J. Bindé, ibid.
[37] ) Marc Ferro, “Médias et intelligence du monde”, Le Monde diplomatique, Paris, janvier 1993.
[38] ) Rapport du Comité d’aide au développement 1998, OCDE, Paris, 1999.
[39] ) انظر الفصل "عائدات السلام والأمن العالمي".
[40] ) Cité dans “Prêts pour le XXIe siècle ?”, loc. Cit.                
[41] ) E. Kapstein, communication aux Dialogues du XXIe" siècle, UNESCO, 16-19 septembre 1998.
[42] ) Alexis de Tocqueville, op. cit, 4e partie, chapitre vi
[43] ) Anaisabel Prera Flores, ¿Sociedad de mercado? No, gracias”, El País, Madrid, août 1998.
[44] ) Amartya Sen, “Development thinking at the beginning of the 21st Century”, in Economic and Social Development into the 21st Century, dir. pub. Louis Emmerij, Banque interaméricaine de développement (BID), Washington, D.C. 1997.
[45] ) Robert Boyer, “État, marché, développement: une nouvelle synthèse pour le XXIe siècle?”, communication à la conférence “Au-delà du consensus de Washington”, organisée par l École des hautes études en sciences sociales en coopération avec l UNESCO, Paris, UNESCO, 16-17 juin 1999.
[46] ) Joseph Stiglitz, “Un hérétique à la Banque mondiale”, Libération, Paris, 25 juin 1999. Voir aussi J. Stiglitz, “Towards a new paradigm for development: strategies, policies and processes”, 1998, conférence à la CNUCED.
[47] ) Max Weber, “Le métier et la vocation d homme politique”, Politik als Beruf, 1919.
[48] ) Cf. rapport du groupe de Lisbonne Limites à la compétitivité, 1995.
[49] ) وهذا التصور عن الديمقراطية صوره بصورة خاصة: Mihajlo Mesarovic, Réunion des conseillers spéciaux, UNESCO, 11 mars 1998.
[50] ) Jacques Attali, intervention aux Entretiens du XXIe siècle, 6 avril 1998, cité dans Le Monde du 28 avril 1998.
[51] ) Roger Sue, Communication aux Dialogues du XXIe siècle, UNESCO, 16-19 septembre 1998.
[52] ) قمة برمنجهام لمجموعة الثمانية، 15-17 آيار/مايو 1998.
[53] ) J. Bindé, “Quelle société pour le XXIe siècle ?”, loc. cit.
[54] ) Federico Mayor, Allocution d ouverture de la 29e session de la Conférence générale, UNESCO, 21 octobre 1997. 
[55] ) Cf. Michael Walzer, Entretiens du XXIe siècle, “Quel avenir pour la démocratie ?”, UNESCO, 13 novembre 1997.
[56] ) Gabriel Garcia Marquez, allocution lors du forum “La Vision de la prochaine génération: l Amérique latine et les Caraïbes au seuil du nouveau millénaire” organisé par l UNESCO et la Banque interaméricaine de développement (BID), Paris, 8 mars 1999.
الفصل 1
[57] ) تم تقديم بيانات تكميلية حول منظورات ورهانات التحولات الديموغرافية في فصول أخرى من هذا التقرير، وبصورة خاصة الفصول التي تتناول المدن، والأمن الغذائي، والبيئة، والفقر، والنساء.
[58] ) Sun Tzu, L Art de la guerre, Collection UNESCO d oeuvres représentatives, 1963, traduction française Flammarion, 1972.
[59] ) Source: État de la population mondiale, 1997, Fonds des Nations Unies pour la population (FNUAP), mai 1997.
[60] ) موقع الإنترنت: FNUAP.
[61] ) FNUAP, État de la population mondiale, 1998.
[62] ) Source: Nations Unies, 1998, op. cit. (chiffres pour 1990-1995. et FNUAP), État de la population mondiale 1997   : كان عدد سكان ألمانيا 82.2 مليونا في 1997؛ وكان عدد سكان بلدان أمريكا الجنوبية 327.1 مليون.
[63] ) هذا الرقم الأخير أقل 0.7 مليار في التقدير السابق لعام 1992، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى السرعة غير المتوقعة لانخفاض الخصوبة في بلدان عديدة: Source: United Nations, Department for Economic and Social Information and Policy Analysis, Population Division, Worîd Population Prospects: the 1996 Revision (24 octobre 1996); idem, “World Projections to 2150”, 1er février 1998 : ويتنبأ البديل "المتوسط" أن يصل عدد سكان العالم إلى 8 مليارات نسمة في عام 2025، وإلى 10.4 مليارات نسمة في عام 2100، وإلى 10.8 مليارات نسمة في عام 2150.
[64] ) لا يختلف السيناريو "المرتفع" والسيناريو "المنخفض" إلا بطفل واحد لزوج وزوجة (نصف طفل فوق ونصف طفل تحت معدل الإحلال).
[65] ) Hervé Le Bras, Les Limites de la planète, Paris, Flammarion, 1994.
[66] ) Jacques Vallin, Dossiers du CEPED, n° 26, Paris, 1994.  
[67] ) Chiffres pour 1990-1995. Source: Nations Unies, Division de la population, estimations de 1996.  : على حين أنه بين 1965 و1970 تجاوزت الزيادة 2% في السنة، فقد بلغت 1.72% في السنة بين 1975 و1990، قبل أن تهبط إلى المعدل الحالي. وهذا المعطى الأخير اقل من التقدير الخاص بعام 1994: Voir: Arkady Ostrovsky, “Birthrate down, hardship up”, Financial Times, 29 mai 1997.
[68] ) أيْ، وفقا لتصنيف شعبة السكان بالأمم المتحدة، أفريقيا، وأمريكا اللاتينية، ومنطقة الكاريبي، وآسيا ـ باستثناء اليابان ـ، وميلينزيا، وميكرونيزيا، وپولينيزيا.
[69] ) Chiffres pour 1996 (Nations Unies). : هؤلاء السكان موزعون توزيعا متنوعا جدا وفقا للمناطق: في البلدان المتقدمة، يمثل الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة 19.6% من السكان، مقابل 43.9% في البلدان الأقل تقدما؛ وفي البلدان النامية، تمثل هذه الشريحة العمرية 7 أضعاف عدد الكبار الذين تزيد أعمارهم على 65 سنة: chiffres FNUAP, 1998 et Nations Unies 1996.
[70] ) Jean-Claude Chesnais, “La transition démographique, trente ans de bouleversements (1965-1995)”, Paris, CEPED, 1995 (Les Dossiers du CEPED, n° 34).
[71] ) Jacques Dupâquier, “Où va la population mondiale ?”, Le Monde, 27 mai 1999
[72] ) Jean-Claude Chasteland, Le Monde, 30 août 1994.
[73] ) Projection moyenne des Nations Unies, 1996.
[74] ) Chronique du CEPED, juillet-septembre 1995 et Le Monde du 15 septembre 1995.
[75] ) Thérèse Locoh, “Familles africaines, population et qualité de la vie”, Paris, CEPED, Mars 1995 (Les Dossiers du CEPED, n° 31).
[76] ) Source: Nations Unies, Division de la population, estimation 1995 : بالنسبة للبلدان الأقل نموا. ووصل هذا الرقم إلى 63.4% بالنسبة للبلدان الأقل تقدما.
[77] ) Rapport FNUAP 1998.
[78] ) Cette carte mondiale est fournie en annexe du livre de Daniel Noin, L Humanité sur la planète, éditions UNESCO, Paris, 1997.
[79] ) Daniel Noin, op. cit., p. 14.
[80] ) Daniel Noin, op. cit., p. 20. : انظر أدناه (في هذا الكتاب) الفصل "تغيير المدينة يعني تغيير الحياة".
[81] ) D. Noin, Géographie de la population, Paris, 1995 ; cité par J. C. Grimal et G. Herzlich, La Population du monde, Paris, Le Monde éditions et Marabout, 1995. : يميز D. Noin ثلاثة تجمعات للكثافة السكانية: L Humanité sur la planète op. cit. : التجمع الصيني (1.2 مليار نسمة في 1990)، والتجمع الهندي (1.1 مليار نسمة قرب 1990)، والتجمع الأوروبي (حوالي 650 مليون نسمة).
[82] ) H. Le Bras, op. cit.
[83] ) توجد اختلافات ضخمة بين بلدان متجاورة: في جنوب شرق آسيا، يوجد فارق يصل إلى عشرين عاما تقريبا بين كمبوديا أو لاوس وماليزيا؛ وفي أفريقيا، عشرة أعوام بين كينيا وأوغندا المتاخمة. وعلى النقيض فإن العمر المتوقع عند الولادة في روسيا، خاصة فيما يتعلق بالرجال، يوجد في مستوى مماثل لبلدان نامية مثل الصين.
[84] ) Source: PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1994, chapitre 5.
[85] ) Dossiers du CEPED, n° 30, 15 février 1995. : الواقع أنه إلى الآن بدأ "الانتقال الصحي" بطيئا، غير أنه سوف يتسارع في الحال، بمجرد أن يتم توفير الوسائل ـ البسيطة جدا في كثير من الأحيان ـ اللازمة لمكافحة الأمراض المعدية أو للوقاية من الأوبئة؛ وقد تقلص فقط عندما كان ينبغي النضال ضد الأسباب الحديثة للوفاة (من السرطانات إلى حوادث الطرق). ويشير فرانس ميسليه France Meslé وجاك ڤالان إلى ركود، بل حتى تراجع خلال الأعوام الأخيرة في بعض بلدان أفريقيا الاستوائية (زامبيا، أوغندا)، في حين أن بلدانا أخرى (مدغشقر، الكاميرون، توغو) منطلقة من نفس النقطة أضافت عشرة أعوام أخرى إلى العمر المتوقع عند الولادة. ومن جهة أخرى فإن بعض البلدان النامية "المتقدمة" بالفعل في مجال النضال ضد الموت، مثل المكسيك، تجد صعوبة في خفض معدل وفيات الكبار. وبعض مناطق أوروبا الشرقية، وبصورة خاصة بلدان الاتحاد السوڤييتي السابق، تجد نفسها في وضع مماثل: يتضح أن نظامها الصحي لا يتلاءم بصورة جيدة مع النضال ضد أمراض القلب والأوعية والسرطانات، وتتسع الفجوة مع البلدان الغربية التي تكسب كل خمسة أعوام عاما جديدا في العمر المتوقع عند الولادة.
[86] ) هذه الإسقاطات ذاتها تلقى اعتراضات شديدة، إذ أننا لا نملك مزيدا من البيانات الموثوقة بشأن مدى انتشار ها الوباء ولا النماذج الأكيدة لتفشيه. ويؤكد مالكولم پوتس Malcolm Potts، الأستاذ بجامعة كاليفورنيا، أن "الإيدز سوف يقتل أشخاصا أكثر من أولئك الذين تم قتلهم خلال الحرب العالمية الثانية"، ووفقا لحسابات جاك ڤالان فإنه "في بلد ظل يرتفع فيه إلى الآن العمر المتوقع عند الولادة نصف عام كل عام فإن انتشارا للإيدز بنسبة 1% سوف يلغي عامين من الإنجازات، و10% عشرين عاما، و15% ثلاثين عاما". وسوف تشتد وطأته الثقيلة على النظم الصحية المرهقة بالفعل".
[87] ) Populations: l état des connaissances, Paris, INED, 1996.
[88] ) Louise Lassonde, Les Défis de la démographie, Paris, La Découverte, 1996.
[89] ) Caring for the Future, Report of the Independent Commission Population and Quality of Life, Oxford/New York, Oxford University Press, 1996. : على المستوى العالمي، كان الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 65 عاما يمثلون 1% من السكان، و6.2% في 1992؛ وسوف يصلون إلى 20% في 2050.
[90] ) FNUAP, Rapport sur la population mondiale 1998.
[91] ) في تونس، على سبيل المثال، يمثل الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن خمسة عشر عاما أكثر من 36% من السكان، مقابل 42% قبل عقدين. وفي الصين كان الانخفاض هائلا: بين 1975 و1990، هبطت النسبة من 40% إلى 26%، ولا مناص من أن تنخفض من جديد لتصل إلى 12% في 2020. وفي هذا التاريخ ستصل هذه النسبة إلى 25% في المتوسط في جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.
[92] ) William Mc Gum, Far Eastern Economic Review, Hong Kong, cité dans Louise Lassonde, op. cit.
[93] ) Norman Macrae, “Not too many babies, just too many oldies”, in “The World in 1995”, numéro spécial de The Economist, Londres, 1994, p. 137-138.
[94] ) Jacques Vallin, Dossiers du CEPED, n° 26, 1994.
[95] ) Michael Renner, “Transforming security”, State of the World 1997, World- Watch Institute, W. W. Norton & Company, Londres, 1997, p. 124-125 (chiffres du Bureau international du travail).
[96] ) Source: “Conjoncture 97”, cité dans Courrier international du 4 décembre 1996.
[97] ) Sergio Ricca, International Migration in Africa, 1989.
[98] ) Sharon Stanton Russell, Karen Jacobsen et William Dean Stanley, International Migration and Development in Subsaharan Africa, World Bank, Washington, 1990.
[99] ) Voir Le Monde du 25 septembre 1996.
[100] ) Source: UNHCR.
[101] ) Ibid.
[102] ) Ibid.
[103] ) Ibid.
[104] ) 26 مليون شخص مهجرون من بلادهم، و30 مليون شخص نازحون داخل بلادهم نفسها: source: UNHCR, octobre 1998.
[105] ) Source: OCDE, Trends in International Migration. 1999.
[106] ) 5,7 millions dans les années 1980, 3,3 millions dans les années 1970, Source: 1992 Statistical Yearbook of the  INS.
[107] ) انظر حول هذه القضية الجزء الثالث: "نحو عقد أخلاقي جديد".
[108] ) كل قضية من هذه القضايا موضوع لفصل مستقل، ولهذا لن يشار إليها هنا إلا بإيجاز.
[109] ) Preparing for the 21st  Century, Oxford University Press, 1993.
[110] ) Caring for the Future, Oxford University Press, 1996, chapitre 6, p. 97 (traduction française: Saisir l avenir, Paris, Economica, 1998, p. 114).
[111] ) Amartya Sen, “II n y pas de bombe démographique”, Esprit, n° 216, Paris, novembre 1995.
[112] ) Philippe Collomb, “L alimentation de la population mondiale en 2050”, Populations et sociétés, n° 312, avril 1996, Paris, INED. : تعوّل منظمة الفاو على ارتفاع عام في نصيب الفرد من المواد الغذائية المتاحة في البلدان النامية من الآن وحتى 2010: وسوف يرتفع نصيب الفرد من هذه المواد من 2500 سعر حراري في اليوم إلى 2700. وسوف تحقق بلدان الشرق الأدنى وشمال أفريقيا وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية أو تتجاوز الـ 3000 سعر حراري. ومن المحتمل أن تظل أفريقيا جنوب الصحراء وحدها عند مستويات منخفضة جدا: FAO, Dimension planétaire de l alimentation, de l agriculture et de la sécurité alimentaire: وتنتهي دراسة للمعهد الدولي لأبحاث الدراسات الغذائية IFPRI إلى نتائج مماثلة: من المتوقع ان تتجاوز الإمدادات الغذائية في كل مكان مستوى عام 1970 ومستوى عام 1990: A 2020 Vision for Food, Agriculture and Environnement, 1995.
[113] ) A. Sen, loc. cit. : أتاحت التقنيات الزراعية والتنمية التجارية التغلب على حاجز المردودات المتناقضة. وخلال العقود الأخيرة، سمح استخدام التقنيات الزراعية العالية الأداء (الري الذي يتيح تحقيق محصول مضاعف، والزراعة الأكثر عناية، واستخدام أصناف من التقاوي العالية المردود) للهند أو لجزيرة جاوة بالوصول إلى الاكتفاء الذاتي، رغم زيادة السكان وانخفاض حجم الحيازات. والحقيقة أن الانخفاض المسجل في نصيب الفرد من الإنتاج العالمي للحبوب الغذائية منذ 1984 لا يرجع إلى اختناق في التقدم التقني أو إلى إرهاق للتربة بقدر ما يرجع إلى تدابير التكيف التقني مثل تجميد الأراضي في بعض البلدان المصدرة الكبرى (الولايات المتحدة، كندا، الاتحاد الأوروبي). وعلى المستوى المحلي، يمكن أن تحجب انخفاضات للإنتاج ليس تشبعا في إمكانات المحاصيل، بل التحولات التي يجريها المستثمرون الزراعيون بحثا عن الأرباح، مثل الانتقال من محصول غذائي إلى العلف لتربية الماشية في ولاية توباسكو في المكسيك: Hervé Le Bras, Les Limites de la planète. 1994.
[114] ) Paris, Economica, 1998, p. 10-11 et chapitre 4.
[115] ) Agricultures, n° 4, juillet-août 1996: “Sécurité alimentaire, enjeux et débats”.
[116] ) A. Sen, loc. cit.
[117] ) FAO, State of Food and Agriculture 1992, Rome, 1992, cité dans Caring for the Future, op. cit.
[118] ) انظر حول هذا الموضوع فصل "هل سيكون الطعام كافيا للجميع؟".
[119] ) انظر حول هذا الموضوع فصل "أن ننمو مع الأرض".
[120] ) A. Sen, loc. cit.
[121] ) PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1998, Chapitre 3 (“La consommation dans un village mondial — inégalités et déséquilibres“), passim.
[122] ) Ibid.
[123] ) Condorcet, Esquisse d un tableau historique des progrès de l esprit humain (1795), Paris, Vrin, 1970.
[124] ) انظر حول هذا الموضوع فصل "تغيير المدينة يعني تغيير الحياة".
[125] ) Source: United Nations Centre for Human Settlements (Habitat), An Urbanizing World: Global Report on Human Settlements 1996, Oxford University Press, 1996.
[126] ) Source: ibid.
[127] ) Rémy Prud homme, Le Courrier du CNRS. n° 82, juin 1996.
[128] ) Voir Hamish McRae, The World in 2020, Londres, Harpers Collins Publishers, 1994.
[129] ) Rapport mondial sur le développement humain 1996, PNUD, New York, 1996.
[130] ) FNUAP, op. cit.
[131] ) Cf. E. U. von Weizsäcker, A.B. Lovins et L.H. Lovins, Faktor Vier, Rapport au Club de Rome, Munich, 1995.
[132] ) Programme “L homme et la biosphère” (MAB), Commission océanographique intergouvernementale (COI), Programme hydrologique international (PHI), Programme “Gestion des transformations sociales” (MOST).
[133] ) "Communiqué économique”, G7, Sommet de Lyon (28 juin 1996) (section IV).
[134] ) Tel est le message du rapport Caring for the Future, élaboré par la Commission indépendante sur la population et la qualité de la vie, présidée par Mme Maria Lourdes Pintasilgo. 
الفصل 2
[135] ) Voir Kimon Valaskakis, “Mondialisation et gouvemance”, Futuribles, n° 230, Paris, avril 1998. : وكما يؤكد المؤلف، يتعايش اليوم اقتصاد فائض من "البوفيهات" مع نقيضه، أيْ اقتصاد "الأطعمة الشعبية".
[136] )  تظهر دراسة حديثة للمعهد العالمي لأبحاث اقتصاديات التنمية World Institute for Development Economics Research تهتم بـ 124 من البلدان النامية أن مضاعفة للدخل يمكن أن تتم ترجمتها إلى انخفاض بنسبة 13% في مخاطر الأزمات الإنسانية، وأن أكثر من نصف البلدان التي تعاني من مثل هذه الأزمات خلال التسعينيات كانت قد عرفت قبل ذلك انخفاضا في متوسط الدخل خلال الثمانينيات: Financial Times, 21/01/98 .
[137] ) Le Monde, 7 mars 1995.
[138] ) Rapport mondial sur le développement humain, PNUD, New York, 1997.
[139] ) Ibid. : لا شك في أن من الصعب، في هذه الحالة، التباهي كليا بمعطيات الفترة السابقة لسقوط سور برلين.
[140] ) Nations Unies, Rés. A/51/178.
[141] ) Leandro Despouy, La réalisation des droits économiques, sociaux et culturels, Rapport final sur les droits de l homme et l extrême pauvreté, Commission des droits de l homme, Sous-Commission de la lutte contre les mesures discriminatoires et de la protection des minorités, E/CN.4/Sub.2/1996/13, juin 1996.
[142] ) Masood Ahmed, Michael Walton, K. Subbarao, Parita Suebsaeng, Poverty Reduction and the World Bank, Progress in Fiscal 1996 and 1997, Banque mondiale, Washington, D.C., 1997.
[143] ) Le Monde, 18-19 octobre 1998.
[144] )  PNUD, 1997, op. cit.
[145] ) Ibid.
[146] ) Rapport mondial sur le développement humain, PNUD, New York, 1998.
[147] ) Hamid Tabatabai, “Poverty and inequality in developing countries: A review of the evidence”, in Garry Rodgers, Ralph van der Hoeven (éd.), The Poverty Agenda: Trends and Policy Options, New Approaches to Poverty Analysis and Policy, International Institute for Labour Studies, Genève, 1995.
[148] ) Jean-Pierre Langellier, “L immense planète des délaissés”, Le Monde, Bilan du monde, édition 1998.
[149] ) Alan B. Durning, “Halte à la pauvreté”, État de la planète 1990, World Watch Institute, Washington, D.C. 
[150] ) Le Monde, 18 mars 1999.
[151] ) Financial Times, 26 janvier 1998.
[152] ) Tamar Manuelyan Atinç, Michael Walton, Stephen Commins, Social Consequences of the East Asian Financial Crisis, Banque mondiale, Washington, D.C., septembre 1998.
[153] ) Durning, 1990, op. cit.
[154] ) PNUD, 1998, op. cit.
[155] ) Rapport mondial sur le développement humain, PNUD, New York, 1994.
[156] ) PNUD, 1994, op. cit.
[157] ) PNUD, 1998, op. cit.
[158] ) PNUD, 1997, op. cit.
[159] ) Alan B. Durning, op. cit.
[160] ) Jean-Paul Fitoussi, “Mondialisation et inégalités”, Futuribles, n° 224, octobre 1997.
[161] ) Daniel Cohen, Richesse du monde, pauvretés des nations, Paris, 1997 ; Michael Kremer, “The 0-Ring theory of economic development”, The Quarterly Journal of Economics, vol. 58, n° 3, août 1993.
[162] ) "Face à la croissance de la pauvreté”, entretien avec Philippe Englehard, Esprit, mai 1997.
[163] ) PNUD, 1997, op. cit.
[164] ) Libération, “Un hérétique à la Banque mondiale”, 25 juin 1999: "رفض الصينيون رفع السيطرة الحكومية والخصخصة. ونتائجهم هي الأفضل"، كما كتب جوزيف ستيغليتس، باحث اقتصادي أول ونائب رئيس البنك الدولي.
[165] ) Amartya Sen, Levels of Poverty: Policy and Change, 1980.
[166] ) Amartya Sen, Inequality Reexamined, Russell Sage Foundation, New York, Clarendon Press, Oxford, 1992.
[167] ) Maryse Gaudier, Pauvretés, inégalités, exclusions: renouveau des approches théoriques et des pratiques sociales, Institut international d études sociales, Genève, 1993.
[168] ) Nations Unies, Sommet mondial sur le développement social. Programme d action, chapitre II: élimination de la pauvreté, 1995.
[169] ) Morgenstern, Précision et incertitudes des données économiques, cité par P. Engelhard, loc. cit.
[170] ) Philippe Engelhard, loc. cit.
[171] ) Rapport sur le développement dans le mond, Banque mondiale, Washington, 1990.
[172] ) PNUD, 1997, op. cit.
[173] ) Sylvie Brunel, “L enfer des inégalités”, Le Monde, 18-19 octobre 1998.
[174] ) Durning, op. cit.
[175] ) Gaudier, 1993, op. cit.
[176] ) International Herald Tribune, 28 février-ler mars 1998.
[177] ) Le Monde, 25 avril 1995.
[178] ) Gaudier, 1993, op. cit.
[179] ) Eliminating World Poverty: A Challenge for the 21st Century, White Paper on International Development, Secretary of State for International Development, novembre 1997.
[180] ) Le Monde, 22 décembre 1993.
[181] ) Jacques Delors, “Donner une nouvelle dimension à la lutte contre l exclusion”, allocution finale du séminaire de Copenhague, Commission des Communautés européennes, 1993. 
[182] ) Philippe Engelhard, loc. cit.
[183] ) Le Monde, 15 septembre 1995
[184] ) تقدر القيمة الحالية لديون البلدان الأكثر فقرا بمبلغ 127 مليار دولار. ونتيجة لمبادرة كولن، فإنه لا مناص من أن تتيح مجموعة تدابير تخفيف الديون خفضا يبلغ 71 مليار دولار.
[185] ) يعلن Rapport mondial sur le développement humain de 1997, le PNUD: أنه خلال الثمانينيات "كان على البلدان الفقيرة أن تسدد أسعار فائدة تصل إلى أربعة أضعاف تلك التي يتم التعامل بها مع البلدان الغنية".
[186] ) Le Monde, 18-19 octobre 1998.
[187] ) Global Development Finance 1999, Banque mondiale, Washington, D.C., 1999.
[188] ) Garry Rodgers, Ralph van der Hoeven (éd.), 1995, op. cit.
[189] ) Michael Lipton, “Poverty — Are There Holes in the Consensus ?”, World Development, vol.25, n° 7, 1997.
[190] ) Le Monde, 16 février 1996.
[191] ) Financial Times, 29 janvier 1998.
الفصل 3
[192] ) Source: United Nations Centre for Human Settlements (Habitat), An Urbanizing World: Global Report on Human Settlements 1996 ; synthèse prospective de l Unité d analyse et de prévision de l UNESCO, établie en vue de la Note présentée par le directeur général de l UNESCO à la conférence des Nations Unies sur les établissements humains (Habitat II), 1996.
[193] ) Federico Mayor, “Gouvernabilité démocratique et développement urbain”, Dialogo, UNESCO, juillet 1998. Jérôme Bindé, “Sommet de la ville: les leçons d Istanbul”, Futuribles, n° 211, juillet-août 1996, Paris.
[194] ) Source: United Nations, World urbanization Prospects: the 1994 Revision, United Nations, New York, 1995.
[195] ) United Nations Centre for Human Settlements (Habitat), An Urbanizing World: Global Report on Human Settlements 1996, introduction. : قد يصل رقم مَنْ لا مأوى لهم الذين يعيشون في الشوارع، والأماكن العامة، والمخابئ إلى 100 مليون في مختلف أنحاء العالم. وقد يصل رقم مَنْ لا مسكن لاهم في مختلف أنحاء العالم إلى مليار إذا أخذنا في الاعتبار كل أوضاع السكن العابر:(squatters, habitants de camps de réfugiés et d abris temporaires, etc.). Op. cit., p. 229 sq.
[196] ) Banque mondiale, Des villes habitables pour le XXIe siècle, 1996.
[197] ) World Resources, A Guide to the Global Environment: The Urban Environment, 1996-1997, publication officielle d Habitat II, Oxford University Press, 1996, p. 12.
[198] ) E. U. von Weizsäcker, A. B. Lovins, L. Hunter Lovins, Faktor Vier, Rapport au Club de Rome, Drœmer Knaur, Munich, 1995, p. 293, trad. anglaise Factor Four: Doubling Wealth, Halving Resource Use: The New Report to the Club of Rome, Londres, Earthscan, 1997.
[199] ) Ibid., p. 244.
[200] ) Voir à ce sujet Michael Cohen, “Habitat II and the challenge of the urban environment: bringing together the two definitions of habitat”, International Social Science Journal, mars 1996, p. 95-101. : كان محوران كبيران يوجهان أعمال المشاركين: "سكن ملائم للجميع" و"منشآت حضرية مستديمة في عالم يتحضرن".
[201] )  J. Bindé, loc. cit.
[202] ) Candido Mendes, “Conclusions”, Beyond ECO-92, p. 226.
[203] ) أيْ القدرة "على تلبية حاجات الحاضر دون تعريض فرصة الأجيال المقبلة في إشباع حاجاتها للخطر"، وفقا للتعريف الذي قدمته لجنة برونتلاند: voir le rapport de la Commission mondiale sur l environnement et le développement. Notre avenir à tous. Les éditions du Fleuve, Montréal, 1988, p. 10.
[204] ) أيْ، وفقا لتعريف برنامج الأمم المتحدة للتنمية، "عملية تقود إلى توسيع تشكيلة الفرص التي تسنح لكل شخص": Rapport mondial sur le développement humain, 1990: آخذين في الاعتبار، ليس فقط الدخل، بل أيضا عوامل أخرى، لها من ناحية أخرى نتائج كبيرة على نوعية الحياة الحضرية: "تغذية ملائمة، والوصول إلى المياه الصالحة للشرب، وتحسين الخدمات الصحية، ووصول الأطفال على نطاق أوسع إلى نظام تعليمي ذي نوعية أفضل، ووسائل نقل بأسعار ميسرة، وفرصة السكن بصورة لائقة، ووسيلة أكيدة لكسب الرزق، والوصول إلى وظائف منتجة ومجزية": Rapport mondial sur le développement humain, 1996, Paris, Economica, 1996, p. 55.
[205] ) إعلان كوبنهاغن" الذي اعتمدته قمة التنمية الاجتماعية في 1995 يقدم بالفعل تركيبا، إذ أنه يشدد على أن التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية وحماية البيئة هي المكونات المتبادلة الاعتماد وتتعزز بصورة متبادلة بالتنمية المستديمة. وإذا استعرنا ألفاظ لجنة برونتلاند فإن "عالما يسمح بالفقر الوبائي سيكون دائما معرضا للكوارث الإيكولوجية وغيرها": loc. cit .
[206] ) Henry Cisneros, “Sharing responsibilities for inner-city problems,” in World Resources, p. 13.
[207] ) Jérôme Bindé, loc. cit.
[208] ) An Urbanizing World, p. 17-21.
[209] ) Source: World Urbanization Prospects, 1990, United Nations, New York, 1991.
[210] ) Saskia Sassen, The Global City: New York, Londres, Tokyo, Princeton, NJ, Princeton University Press, 1991.
[211] ) Manuel Castells, La Société en réseaux, volume 1: L Ere de l information, Paris, Fayard, 1998, p. 435. Sur la notion de “hiérarchie globale” émergente du réseau urbain, voir Peter Hall, “The global city”, International Social Science Journal, mars 1996, p. 15-23.
[212] ) Op. cit., p. 430 et 455.
[213] ) Néstor Garcia Canclini, “Cultures urbaines de la fin du siècle: la perspective anthropologique”, Revue internationale des sciences sociales, septembre 1997, p. 386.
[214] ) Robert B. Reich, The Work of Nations: Preparing Ourselves for 21st Century Capitalism, Vintage Books, 1992, trad. française L Économie mondialisée, Paris, Dunod,1993.
[215] ) Jorge Wilheim, “Introduction: urban challenges of a transitional period”, International Social Science Journal, UNESCO, Paris, mars 1996, p. 14.
[216] ) Entretien accordé par M. James Wolfensohn, président de la Banque mondiale au journal Le Monde, 16 février 1996.
[217] ) Daniel Cohen, Richesse du monde, pauvretés des nations, Paris, Flammarion, 1997.
[218] ) Conseil pontifical Justice et paix. Pour une meilleure répartition de la terre — Le défi de la réforme agraire”, 1997.
[219] ) رسالة البابا بمناسبة اليوم العالمي للمهاجر، 1998.
[220] ) Voir François Ascher, Metapolis ou L avenir des villes, Paris, Odile Jacob, 1995.
[221] ) Voir An Urbanizing World, passim.
[222] ) Voir Danielle Beauchemin et Yves Robertson, “Des villes efficaces: un dossier prioritaire de la coopération France-Québec”, Liaison énergie-francophonie, n° 30, 1er trimestre 1996, p. 6-10 (distribué à Habitat II)
[223] ) Marcia Lowe, “Le développement des villes”, Lester R. Brown éd.. état de la planète, Paris, Economica, 1992, p. 70.
[224] ) Michel Serres, Le Contrat naturel, Paris, François Bourin, 1990.
[225] ) Voir aussi le rapport de la Commission indépendante sur la population et la qualité de la vie (Rapport Pintasilgo, Caring for the Future, Oxford University Press, 1996) : وهو تقرير يشجع بروح مماثل "أنماط الاستهلاك المستديمة".
[226] ) Source: Philippe Panerai, “Demain la terre”, Le Nouvel Observateur, Collection Dossiers, n° 11, 1992.
[227] ) انظر أيضا فصل "نحو ’ثورة فعالية الطاقة‘".
[228] ) Ce passage est inspiré pour une large part du “Background Paper” préparé pour le Dialogue tenu à Habitat II sur “L énergie durable dans les établissements humains” le 5 juin 1996.
[229] ) Wouter van Dieren, Taking Nature into Account: Toward a Sustainable National Income, New York, Copernicus, 1995.
[230] ) E. U. von Weizsäcker, A. B. Lovins, L. Hunter Lovins, Factor Four: Doubling Weaith, Halving Resource Use: the New Report to the Club of Rome, Londres, Earthscan,1997.
[231] ) Nicholas Lenssen, David Malin Roodman, “Making better buildings”, State of the World 1995, World Wateh Institute, W. W. Norton & Company, New York, 1997.
[232] ) Voir en particulier: Hassan Fathy, Architecture for the Poor ; An Experiment in Rural Egypt, Chicago, University of Chicago Press, 1973 ; Natural Energy and Vernacular Architecture: Principles and Examples with Reference to Hot and Arid Climates, University of Chicago Press, Chicago, 1986.
[233] ) Hassan Fathy, Natural Energy and Vemacular Architecture: Principles and Examples with Reference to Hot and Arid Climates, Chicago, University of Chicago Press, 1986 ; voir aussi, du même auteur: Architecture for the Poor; An Experiment in Rural Egypt, Chicago, University of Chicago Press, 1973.
[234] ) هذا الموضوع تتم معالجته بمزيد من التوسع في فصل "هل ستظل المياه جارية؟".
[235] ) Martha Duenas-Loza, Acting Director, INSTRAW (U.N. International Research and Training Institute for the Advancement of Women), “Overview of women s roles in water resources”, document diffusé à Habitat II, 14 juin 1996.
[236] ) وفقا لـ INSTRAW فإن الأمراض القابلة للانتقال عن طريق المياه هي السبب الأكثر أهمية وراء وفيات الأطفال: ينبغي أن يعزى إليها 1.5 مليار حالة إسهال و4 مليون حالة وفاة في السنة: op. cit., p. 11.
[237] ) انظر فصل "مستقبل وسائل النقل الحضري: أكثر أمانا، أكثر نظافة، أكثر قربا"، الذي يتلاءم مع مؤشرات عديدة بشأن وسائل النقل في الوسط الحضري.
[238] ) Source: OCDE, Tranports urbains et développement durable, Paris, 1995, p. 126.
[239] )  Union internationale des transports publics, Des villes à vivre: le défi du transport public, Pierre Laconte, rédacteur en chef, UITP, Bruxelles, 1996, p. 12.
[240] ) انظر فصل "مستقبل وسائل النقل الحضري: أكثر أمانا، أكثر نظافة، أكثر قربا".
[241] ) Marcia D. Lowe, “Le développement des villes”, passim, in Lester R. Brown éd., L État de la planète 1992, Paris, Economica, 1992 ; voir aussi, du même auteur: “Reinventing Transport”, State of the World 1994, World Watch Institute, W. W. Norton & Company, New York, 1994.
[242] ) Federico Mayor, op. cit.
[243] ) Teresa P. R. Caldeira, “Building up walls: the new pattern of spatial segregation in São Paulo”, International Social Science Journal, mars 1996, p. 55-66. Voir aussi, du même auteur: City of Walls: Crime, Segregation, and Citizenship in São Paulo, Berkeley, University of California Press, 1995.
[244] ) Edward J. Blakely et Mary Gail Snyder, “Divided we fall: gated and walled communities in the United States”, in Architecture of Fear, éd. Nan Ellin, New York, Princeton Architectural Press, 1997, p. 85 ; Robert Lopez, “Un nouvel apartheid social. Hautes murailles pour villes riches”, Le Monde diplomatique, 1996. OCDE, Politiques novatrices pour un développement urbain, 1996, cité par Francis Godard, “Modes de vie urbains: questions liminaires”, in Villes du XXIe siècle, dir. T. Spector et J. Theys, ministère de l Équipement, des Transports et du Logement, Paris, CERTU, 1999.
[245] ) Mike Davis, City of Quartz — Excavating the Future in Los Angeles, Londres, Verso, 1990.
[246] ) R. Lopez, loc. cit., résumé dans T. Spector, “La prospective urbaine. Un état des lieux”, Futuribles, n° 229, mars 1998.
[247] ) Voir Revue internationale des sciences sociales, mars 1996, notamment l article de Michael Sutcliffe, “La ville éclatée: Durban, Afrique du Sud”, p. 79-84.
[248] ) Blakely et Snyder, op. cit., p. 86.
[249] ) Jérôme Bindé, “La croissance des villes au XXIe siècle au Sud”, communication au séminaire “Développement viable" de l école normale supérieure, 13 janvier 1997.
[250] ) Loc. cit.
[251] ) Christian de Portzamparc, La Ville âge III, Conférences Paris d Architectes, Paris, éditions du Pavillon de l Arsenal, 1993. Voir également Olivier Mongin, Vers la troisième ville?, Paris, Hachette, 1995, préface de Christian de Portzamparc.
[252] ) Source: Cyria Emelianoff, “Trois scénarios de développement urbain”, colloque international “Quel environnement au XXIe siècle ? Environnement, maîtrise du long terme et démocratie”, 8-11 septembre 1996, abbaye de Fontevraud, France.
[253] ) Entretien ave Jorge Wilheim, Le Monde, 6 juin 1996.
الفصل 4
[254] ) Odile Heddebaut, Guy Joignaux, “Le réseau européen de transports à l horizon 2010. "Maillons manquants" et intégration territoriale”, Futuribles, n° 195, février 1995.
[255] ) Kenneth M. Gwilliam, Transport in the City of Tomorrow, The Transport Dialogue at Habitat II, TWU Papers, World Bank, Washington, D.C., 1996.
[256] ) Marcia Lowe, “Reinventing transport”, State of the World 1994, World Watch Institute, Washington, D.C.
[257] ) Émile Quinet, “Vers une politique des transports”, Futuribles, n° 195, février 1995.
[258] ) World Bank, Sustainable Transport: Priorities for Policy Reform, Washington, D.C., 1996.
[259] ) Marcia Lowe, “Rethinking urban transport”, State of the World 1991, World Watch Institute, Washington, D.C.
[260] ) World Bank, op. cit. 
[261] ) Marcia Lowe, 1994, op. cit.
[262] ) The Economist, 24 janvier 1998.
[263] ) Marcia Lowe, 1994, op. cit.
[264] ) The Economist, 18 juin 1994.
[265] ) OCDE, Transports urbains et développement durable, Paris, 1995.
[266] ) Marcia Lowe, “Redécouvrir le rail”, L État de la planète 1993, World Watch Institute, Washington, D.C.
[267] ) World Bank, 1996, op. cit.
[268] ) Le Monde, 13/06/96.
[269] ) Le Monde, 19/07/95.
[270] ) World Bank, 1996, op. cit.
[271] ) OCDE, L Automobile à l aube du XXIe siècle, Paris, 1995.
[272] ) The Economist, “The coming car crash”, 10/05/97,
[273] ) Marcia Lowe, 1994, op. cit.
[274] ) E. von Weizsäcker, A. Lovins, L, Lovins, Factor Four--Doubling Weallh, Halving Resource Use, Earthscan, 1997.
[275] ) Émile Quinet, 1995, op. cit.
[276] ) Benjamin Dessus, Énergie, un défi planétaire, Paris, Belin, 1996.
[277] ) E. von Weizsäcker, A. Lovins, L. Lovins, 1997, op. cit.
[278] ) Le Monde, “Comment réduire la pollution de l air en ville”, 15/11/97 ; The Economist, “At last, the fuel cell”, 25/10/97.
[279] ) Le Monde, 17/04/96.
[280] ) Heddebaut, Joignaux, 1995, op. cit.
[281] ) John Decicco, Marc Ross, “La nouvelle génération d automobiles”, Pour la science, La. science des transports, dossier hors-série, janvier 1998.
[282] ) Daniel Sperling, “Les véhicules électriques et hybrides”, Pour la science, La science des transports, dossier hors-série, janvier 1998,
[283] ) OCDE, La Pollution des véhicules à moteur, stratégies de réduction au-delà de 2010, Paris, 1995.
[284] ) Union internationale des transports publics. Des villes à vivre: le défi du transport public, Pierre Laconte, rédacteur en chef, UITP, Bruxelles, 1996. 
[285] ) Brian Williams, Transport in the City of Tomorrow, Discussion Paper, Dialogue for the 21st Century, Habitat II, Second United Nations Conference on Human Settlements, Istanbul, juin 1996.
[286] ) Marcia Lowe, 1993, op. cit.
[287] ) Ibid.
[288] ) The Economist, “Living with the car”, 06/12/97.
[289] ) François Ascher, “La ville, l individu et le temps concassé”, Libération, 3/4/96,
[290] ) Marcia Lowe, 1991, op. cit.
[291] ) Marcia Lowe, “Aborder l avenir à bicyclette”, État de la planète 1990, World Watch Institute, Washington, D.C.
[292] ) OCDE, Transports urbains et développement durable, Paris, 1995,
[293] ) Marcia Lowe, 1994, op. cit.
[294] ) World Bank, 1996, op. cit.
[295] ) Dessus, 1996, op. cit.
[296] ) Marcia Lowe, 1994, op. cit.
[297] ) World Bank, 1996, op. cit.
[298] ) UITP, 1996, op. cit.
[299] ) Marcia Lowe, 1994, op. cit.
[300] ) يصل تلويث محرك سيارة يدور على الواقف [أثناء توقف السيارة] إلى ثلاثة أضعاف محرك سيارة متحركة: على هذا النحو، لا يكفي تحسين التقنيات التي تجعل السيارة أكثر "نظافة" للتعويض عن زيادة التلوث المرتبط بالازدحامات الأكثر عددا: The Economist, “Living with the car”, 6 décembre 1997 .
[301] ) The Economist, 24 janvier 1998.
[302] ) OCDE, Transports urbains et développement durable, Paris, 1995.
[303] ) Kenneth M. Gwilliam, Individual Sustainable Mobility-Priorities for Policy Reform and an Agenda for Action, World Bank, Washington, 1996.
[304] ) Andréas Schafer, David Victor, “L évolution de la mobilité dans le monde”, Pour la science, La science des transports, dossier hors-série, janvier 1998. : يشدد هذان الخبيران من جهة أخرى على أنه، مهما كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية، فإن الوقت الذي يتم قضاؤه داخل وسائل النقل ظل إلى الآن ثابتا وعلى أنه يستقر في المتوسط عند 1.1 ساعة في اليوم: على سبيل المثال، نظرا لأن "سرعة حركة الأفراد ترتفع مع الدخل فإن هؤلاء يستخدمون وسائل نقل أسرع؛ وهم يقطعون بالتالي مسافة أكبر في نفس الوقت".
الفصل 5
[305] ) Federico Mayor, “Femme”, poème rédigé à l occasion de la Conférence internationale des Nations Unies sur les femmes (Beijing, 1995).
[306] ) Rapport mondial sur le développement humain, 1995.
[307] ) PNUD, Rapport sur le développement humain 1998, Paris, Economica.
[308] ) PNUD, Rapport sur le développement humain 1997, Paris, Economica.
[309] ) في كل مكان في العالم، تدفعنا بعض الإنجازات إلى أن نكون متفائلين: في البلدان العربية، بين 1970 و1990، ارتفع عدد البنات المقيدات في المدارس مقابل كل مائة ولد من 47 إلى 77. وفي التعليم العالي، ارتفع هذا المعدل من 34 إلى 65. و30% من طالبات التعليم العالي مسجلات في العلوم الطبيعية أو التطبيقية. وفي جنوب شرق آسيا ومنطقة المحيط الهادي، تضاعف معدل الالتحاق بالتعليم العالي بين 1970 و1990. وفي جنوب آسيا، انخفض معدل أمية النساء من 81% إلى 67% خلال عقدين. وفي أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، يمثل عدد البنات المقيدات في التعليم الثانوي 97% من عدد الأولاد، ويتماثل عدد النساء وعدد الرجال الذين يواصلون الدراسات العليا. وفي أفريقيا جنوب الصحراء، تضاعف عدد البنات المسجلات في التعليم الثانوي ليصل إلى أربعة أضعاف بين 1960 و1990، فارتفع من 8% إلى 32%: PNUD, Rapport sur le développement humain, Paris, Economica, 1996.
[310] ) “Education: the best investment”, déclaration conjointe de Federico Mayor, James Wolfensohn, James G. Speth, Carol Bellamy et Nafis Sadik, International Herald Tribune, 11-12 mai 1996.
[311] ) PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1995.
[312] ) من 3.4% في 1987 إلى 6.8% في 1996: Données Nations Unies, Division for the Advancement of Women, octobre 1997. Voir aussi Courrier international, hors-série n° 10, octobre 1994.
[313] ) 40.4% في السويد، 36.4% في النرويج: PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1998.
[314] ) Le Monde, 31/8/95.
[315] ) في البلدان النامية، في عام 1995، كانت نسبة النساء الأميات 38.3%، في حين كانت نسبة الرجال الأميين 21.1%. وفي البلدان الأقل تقدما، انخفضت النسبة إلى 61.9% للنساء و40.5% للرجال. وفي النيجر واليمن، تصل نسبة النساء اللائي لم يتلقين تعليما إلى قرابة 90%.
[316] )  في فرنسا، انتهى تقرير برلماني في 1997 بشأن تمثيل الرجال والنساء في الكتب المدرسية إلى أن "عدم المساواة في المعاملة بين الرجال والنساء ما يزال قائما في مجال الأدوات المدرسية التي تميل إلى نقل معرفة وتقدم للتلاميذ والتلميذات "صورة فوتوغرافية" للمجتمع في لحظة بعينها". ويوصي واضعو التقرير، بين توصيات أخرى، بتدريب المدرسين بهدف رفع وعيهم بشأن هذا التمييز على أساس الجنس: Sénat-Assemblée nationale. Rapport de Simone Rignault et Philippe Richert sur la représentation des hommes et des femmes dans les livres scolaires, mars 1997.
[317] ) النساء دائما أقل تمثيلا في مجال العلوم "الصعبة". وبين الطلبة الذين يواصلون دراسات عليا في الفيزياء لا توجد سوى 2% من النساء في اليابان، و3% في سويسرا وفي ألمانيا، و5% في الولايات المتحدة: UNESCO, Rapport mondial sur la science 1996: وقد تلقت عشر نساء فقط جوائز نوبل في المعارف العلمية مقابل 300 رجل: El Pais, 18 mars 1998.
[318] ) Organisation mondiale de la santé (OMS), rapport 1996.
[319] ) شددت المديرة التنفيذية لليونيسيف، كارول بيلامي Carol Bellamy، أثناء تقديمها لطبعة 1996 من تقرير اليونيسيف على أنه "لا مبالغة في القول بأننا إزاء إحدى مآسي عصرنا التي تلقى أشد الإهمال"، إذ أن 1600 من النساء، ومنهن مراهقات، يمتن كل يوم لأسباب ترتبط بالحمل والولادة، تاركات مليون يتيما، "فرصة بقائهم على قيد الحياة ضئيلة للغاية". وهي تذكرنا أنه "مقابل كل امرأة تموت، توجد ثلاثون امرأة يعانين من إصابات خطيرة"، أيْ أكثر من 15 مليون امرأة في السنة. ووفقا للتقرير فإن من السهل تحقيق هذا الهدف لأنه ليس مكلفا جدا. وحتى البلدان الأكثر فقرا يمكن أن تقدم للأطباء والدايات والممرضات تدريبا أساسيا لضمان الرعاية: UNICEF, rapport 1996.
[320] ) انظر فصل "السكان: قنبلة زمنية؟".
[321] ) UNICEF, rapport 1996: هناك تقديرات بأن أكثر من 15 مليونا من النساء سوف يُصبن بالفيروس من الآن وحتى عام 2000 وأن 4 ملايين منهن سوف يمتن به.
[322] ) Le Monde, 31/8/95.
[323] ) Ibid.
[324] ) Revue de presse UNICEF, France, 17/5/95, 19/6/95.
[325] ) خلال العقد الأخير، ارتفعت بطالة النساء بسرعة أكبر من بطالة الرجال، ولهذا فإنهن مضطرات في كثير من الأحيان إلى قبول وظائف عابرة. وفي فرنسا، فإن حوالي 8 من المستفيدين من دخل الحد الأدنى للاندماج من كل 10 أشخاص هم أشخاص متوحدون، تشكل النساء أغلبيتهم. وفي الولايات المتحدة، تمثل النساء اللائي بدون أزواج أو اللائي يكون أزواجهن غائبين واللائي يكون دخلهن في المتوسط أقل بنسبة 23% من خط الفقر الرسمي قرابة نصف الأسر الفقيرة التي تتلقى إعانات مالية.
[326] ) Bureau international du travail, 1995.
[327] ) تبين دراسة لمنظمة العمل الدولية أنه خلال العشرة أعوام الأخيرة، في حين أن أجور الإناث ارتفعت بنسبة 10% في الولايات المتحدة، فقد تراجعت بالمقارنة بأجور الرجال في ألمانيا، والدنمارك، والبرتغال، واليابان، وتركيا، وظلت راكدة من الناحية العملية في فرنسا، وبلجيكا، وهولندا. وتقدر هذه الدراسة نفسها أنه في البلدان الصناعية، يتم تعيين 75% من النساء في مهام ذات أجور متدنية تقليديا في القطاع الثالث وأنهن أقليات إلى حد كبير في الوظائف ذات المسئولية الرفيعة في القطاع الخاص: Voir Le Monde, 26 août 1995.
[328] ) Le Monde, 31/8/95.
[329] ) Nations Unies, Division for the Advancement of Women, “Women 2000: Women and Décision Making”, octobre 1997.
[330] ) PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1998, et “Women in Government” (janvier 1996, United Nations, Division for the Advancement of Women).
[331] ) United Nations, Division for the Advancement of Women, ibid.
[332] ) PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1998 (classement des pays selon l indicateur de la participation des femmes).
[333] ) يشكل الاغتصاب في زمن الحرب أو أشكال العنف السياسي مشكلة خاصة. وقد شهدت على هذا نساء من تشيلي، أو البوسنة، أو رواندا، أو كمبوديا، أو ليبيريا، أو الصومال في مؤتمر بكين في 1995. وتكون هذه الأعمال مدبرة في بعض الأحيان لأهداف خاصة بالتطهير الإثني. وفي بكين، في أيلول/سبتمبر 1995، أقر نص دولي، لأول مرة، بأن الاغتصاب جريمة حرب.
[334] ) “Dowry Bride-Burning in India, Part 1”, 3 février 1999, United Nations Radio Programmes-Women.
[335] ) وفقا لديموغرافي من جامعة برنستون بالولايات المتحدة، آنسلي كول Ansley Cole، هناك 60 مليونا من بنات ونساء شرق وجنوب آسيا "مفقودات". وكان يمكن أن يعشن لو لم يكن هناك تمييز بين الجنسين قبل الولادة، ولا قتل للطفلات، ولا موت نتيجة الإهمال.
[336] ) The Economist, 5/8/95.
[337] ) Jodi Jacobson, L État de la planète, World Watch Institute, 1993.
[338] ) PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1995.
[339] ) Banque mondiale, cité dans Le Monde, 31/8/95.
[340] ) Jacobson, 1993, op. cit.
[341] ) Ibid.
[342] ) PNUD, cité par G. Herzlich, Le Monde, 18/8/95.
[343] ) Jacobson, 1993, op. cit.
[344] ) المادة 2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
[345] ) Intervention à la huitième séance des Entretiens du XXIe siècle, organisés par l Office d analyse et de prévision de l UNESCO, 8 juin 1999.
[346] ) Banque mondiale, étude citée par Le Monde, 31/8/95.
[347] ) Courrier international, hors-série n° 10, octobre 1994.
[348] ) Courrier international, hors-série n° 10, octobre 1994. Voir aussi Muhammad Yunus, Vers un monde sans pauvreté, Paris, Lattès, 1997.
[349] ) WomenWatch, espace Internet d information et de discussion sur la promotion de la condition des femmes, a été créé le 8 mai 1997 (journée internationale de la femme) et regroupe la Division pour l avancement des femmes (DAW), le Fonds de développement des Nations Unies pour les femmes (UNIFEM) et l Institut international de recherche et de formation pour l avancement des femmes (INSTRAW).
[350] ) PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1995.
[351] ) Jack Lang, Demain les femmes, Paris, Grasset, 1995.
الفصل 6
[352] ) المقصود هنا بـ "المخدرات" drogues المواد المخدرة والعقاقير ذات التأثير النفسي كما تحددها الاتفاقيات الدولية المعنية.
[353] ) ONU, Rapport mondial sur les drogues 1997, Oxford University Press, 1997. Le Monde, 27 juin 1997.
[354] ) Éric de la Maisonneuve, La Violence qui vient, Paris, Arléa, 1997, p. 148.
[355] ) Christian de Brie, “La drogue dopée par le marché”, Le Monde diplomatique, avril 1996.
[356] ) Hugues de Jouvenel, “L inextricable marché des drogues illicites”, Futuribles, n° 185, mars 1994 (numéro spécial “Géopolitique et économie politique de la drogue“).
[357] )  ONU, Rapport mondial sur les drogues 1997.
[358] ) Allocution du directeur général de l UNESCO à la 58e session de l Organe international de contrôle des stupéfiants des Nations Unies (OICS), Vienne, 9 mai 1995.
[359] ) Cité dans PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1994, Paris, Economica, 1994, p. 39 ; UN Chronicle, n° 3, 1996.
[360] ) Alain Labrousse, Les Idées en mouvement, n° 35, janvier 1996.
[361] ) A. Labrousse, entretien au Nouvel Observateur, 19-25 septembre 1996.
[362] ) Voir: “The Mob on Wall Street”, Business Week, décembre 16, 1996 ; Laurent Zecchini, “La "pieuvre" mafieuse prolifère à Wall Street”, Le Monde, 3 janvier 1997; Christian de Brie, op. cit. ; LaMond Tullis, Unintended Consequences: Illegal Drugs and Drug Policies in Nine Countries, Studies on the Impact of the Illegal Drug Trade, LaMond Tullis, Series Editor, United Nations University and United Nations Research Institute for Social Development, Lynne Rienner Publishers, Londres, 1995.
[363] ) De Brie, dossier Monde diplomatique, février 1996.
[364] )  Département d État américain, “International Narcotics Control Strategy Report, 1996”, mars 1997.
[365] ) Allocution du directeur général de l UNESCO à la 58e session de l Organe international de contrôle des stupéfiants des Nations Unies (OICS), Vienne, 9 mai 1995.
[366] ) Alain Labrousse, op. cit.
[367] ) Données extraites de l ouvrage de Viviana Macias Vences, “Le control de drogas en la zona andina: una propuesta ecologica”, mémoire de thèse, Universidad Iberoamericana, Mexico, 1994.
[368] ) De Jouvenel, op. cit.
[369] ) Pierre Kopp, Michel Schiray, “Les sciences sociales face à la drogue”, futuribles, n° 185, mars 1994, p. 5-7.
[370] ) Rapport du secrétaire général de l ONU, 4 juin 1996.
[371] ) Alain Labrousse, “Géopolitique de la drogue: Les contradictions des politiques de "guerre à la drogue“, Futuribles, mars 1994, p. 9-22.
[372] ) Labrousse, dans Les Idées en mouvement, n° 35, janvier 1996.
[373] ) De Brie, op. cit. ; de Jouvenel, op. cit.
[374] ) Labrousse, Les Idées en mouvement, n° 35, janvier 1996.
[375] ) Patrick Piro, dans Les Idées en mouvement, n° 35, janvier 1996.
[376] ) Rapport de l Organe international de contrôle des stupéfiants pour 1997, par. 20.
[377] ) Ethan A. Nadelmann, “Commonsense drug policy”, Foreign Affairs, janvier/février 1998. Anthony Lewis, “The war on drugs is being lost”, International Herald Tribune, 6 janvier 1998.
[378] ) LaMond Tullis, op. cit., p. 183.
[379] ) Voir l allocution du directeur général de l UNESCO à la 58e session de l Organe international de contrôle des stupéfiants des Nations Unies (OICS), Vienne, 9 mai 1995.
[380] ) Kopp et Schiray, op. cit.
[381] ) Conclusions du Comité consultatif national d éthique (CCNE), novembre 1994, cité dans: Observatoire géopolitique des drogues. Géopolitique des drogues 1995, Paris,1995.
[382] ) Charte coordonnée par l ONG Environnement sans frontière, avec le soutien de l UNESCO et du Programme des Nations Unies pour le contrôle international des drogues (PNUCID). : كما تشدد البلدان الموقعة على أن "الاتجار بالمخدرات وتعاطيها يشكلان خطرا على تنمية وتقدم مجتمعاتنا، وأنها تفضي دائما إلى المزيد من العنف، والإجرام، والاستغلال، والتعديات الأخرى على حقوقنا" ويقتضي النضال ضد المخدرات ضمان "السلام، والحرية، والديمقراطية، والتضامن، والعدل، وحماية البيئة، والحصول على الوظيفة".
[383] ) PNUD, Rapport mondial sur le développement humain, 1994.
[384] ) Ibid.
[385] ) Giovanni Falcone, “Qu est-ce que la Mafia ?”, Conférence au Bundeskriminalamt (Wiesbaden), 1990, Frankfurter Allgemeine Zeitung, 27 mai 1992, reproduite dans la revue Esprit, n° 185, octobre 1992, p. 111-118.
[386] ) Voir Le Monde, 10 février 1998, “Cadavres exquis”. Cadavres exquis est le titre du film de Francesco Rosi inspire du roman de Leonardo Sciascia.
[387] ) Libération, 13/9/95.
[388] ) Département d État des États-Unis, “International narcotics control strategy report, 1996”, mars 1997.
[389] ) PNUD, Rapport mondial sur le développement humain, 1994.
[390] ) Voir, à titre d exemple: “Marijuana: special report”, dans The New Scientist, 21 février 1998.
 



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بدلا من صَوْمَلَة سيناء
- طبيب الأمراض العقلية - ماشادو ده أسيس
- سوريا: الطريق إلى الجحيم
- حدث 25 يناير 2011: ثورة أم ليست ثورة؟ (مفهوم مختلف للثورة ال ...
- قبل تشكيل حكومة هشام قنديل
- أثبتت فحوصى الطبية الأخيرة خلوّ جسمى من سرطان الكبد (لطمأنة ...
- احتمالات الصراع الحالى بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والإ ...
- ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الثانى
- ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الأول
- هل يتمخض الربيع العربى عن تأسيس دول إسلامية؟
- الانقلاب العسكرى المكمِّل
- كلمات فى عشية جولة إعادة الانتخابات الرئاسية فى مصر
- محاكمة ثورية للرئيس مبارك وأسرته ورجاله وإلغاء الانتخابات ال ...
- مع متاهات أرقام الانتخابات فى مصر
- مأتم ديمقراطية المجلس العسكرى والإخوان المسلمين فجر الديمقرا ...
- أساطير الجبال والغابات - برنار كلاﭭيل
- هاجس الحرب الأهلية فى مصر
- أساطير البحيرات والأنهار - برنار كلاڤيل
- أضأل امرأة فى العالم - كلاريس ليسپكتور
- أسطورة الفترة الانتقالية وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مص ...


المزيد.....




- سقط سرواله فجأة.. عمدة مدينة كولومبية يتعرض لموقف محرج أثناء ...
- -الركوب على النيازك-.. فرضية لطريقة تنقّل الكائنات الفضائية ...
- انتقادات واسعة لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بسبب تصريح ...
- عقوبات أمريكية جديدة على إيران ضد منفذي هجمات سيبرانية
- اتحاد الجزائر يطالب الـ-كاف- باعتباره فائزا أمام نهضة بركان ...
- الاتحاد الأوروبي يوافق على إنشاء قوة رد سريع مشتركة
- موقع عبري: إسرائيل لم تحقق الأهداف الأساسية بعد 200 يوم من ا ...
- رئيسي يهدد إسرائيل بأن لن يبقى منها شيء إذا ارتكبت خطأ آخر ض ...
- بريطانيا.. الاستماع لدعوى مؤسستين حقوقيتين بوقف تزويد إسرائي ...
- البنتاغون: الحزمة الجديدة من المساعدات لأوكرانيا ستغطي احتيا ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - عالم جديد - الجزء الأول - فيديريكو مايور