أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - طبيب الأمراض العقلية - ماشادو ده أسيس















المزيد.....



طبيب الأمراض العقلية - ماشادو ده أسيس


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3816 - 2012 / 8 / 11 - 22:09
المحور: الادب والفن
    



(رواية قصيرة)
تأليف الكاتب البرازيلى: ماشادو ده أسيس
ترجمة: خليل كلفت (عن الإنجليزية)

الطبعة الأولى، 1991، دار الياس العصرية، القاهرة

هذه ترجمة للرواية القصيرة

The Psychiatrist
By
Machado de Assiss





المحتويات
1: كيف حصلت إتاجواى على مستشفى للأمراض العقلية .......................
2: سَيْل لا ينقطع من المجانين ................................................
3: الله وحده يعلم ماذا يفعل ...................................................
4: نظرية جديدة ..............................................................
5: الإرهاب ...................................................................
6: الثورة ......................................................................
7: غير المتوقَّع ..................................................................
8: ورطة الصيدلى ...............................................................
9: حالتان نموذجيتان .............................................................
10: استعادة النظام ...............................................................
11: الإفراج والابتهاج ..............................................................
12: الجزء الأخير من البند الرابع ....................................................
13: الكمال ..................................................................


















1
كيف حصلت إتاجواى
على مستشفى للأمراض العقلية

تروى سجلّات أحداث إتاجواى أنه عاش فيها، مُنذ زمن بعيد، طبيب من أصل نبيل - سيمون باكامارته - وأنه كان واحدًا من أعظم الأطباء فى سائر أنحاء البرازيل والپرتغال وإسپانيا ومستعمراتها. كان باكامارته قد درس سنوات عديدة فى كلٍّ من پادْوا وكويمبرا. وعندما أعلن، فى الرابعة والثلاثين من عمره، قراره بالعودة إلى البرازيل وإلى بلدته إتاجواى، حاول ملك الپرتغال أن يُثنيه عن عزمه فعرض على باكامارته أن يختار بين رئاسة جامعة كويمبرا ومنصب المفوَّض الرئيسى لشؤون الحكومة. اعتذر الطبيب بأدب.
قال لجلالته: "العِلْم منصبى الوحيد؛ وإتاجواى عالمى".
استأنف إقامته هناك وكَرَّس نفسه لنظرية وممارسة الطب. وجعل يمارس العلاج تارةً والدراسة تارةً أخرى؛ ويُثْبِت النظريات بواسطة الكمادات.
عندما بلغ باكامارته عامه الأربعين تَزوَّج من أرملة أحد القضاة المتجوّلين. كان اسمها دونا إڤاريستا دا كوستا إى ماسكارينياس، ولم تكن جميلة أو جذّابة. سأله أحد أعمامه - وكان رجُلًا صريحًا - لماذا لم يَقُم باختيار امرأة أكثر جاذبية. أجاب الطبيب بأن دونا إڤاريستا تتمتع بهضم مثالىّ، ونظر ممتاز، وضغط دم طبيعى؛ وليست مصابة بأىّ أمراض ذات بال وكان تحليل بولها سلبيًّا. وكان من المحتمل أن تمنحه أطفالًا أصحّاء أقوياء. ولأن دونا إڤاريستا كانت تملك، إلى جانب مآثرها الفسيولوچية، وجهًا يتألف من ملامح لا هى جميلة بأخذ كلّ منها على انفراد ولا هى متناسقة مأخوذةً معًا، فقد حمد الله على ذلك، لأنه لن تُغريه التضحية باهتماماته العلمية فى سبيل تأمُّل مفاتن زوجته.
لكنّ دونا إڤاريستا فشلت فى تحقيق توقُّعات زوجها. فهى لم تُنجب أىّ أطفال أقوياء كما أنها لم تنجب، لنفس السبب، أىّ أطفال ضعفاء. والمزاج العلمى صبور بطبيعته؛ وقد انتظر باكامارته ثلاثة، أربعة، خمسة أعوام - وفى نهاية هذه الفترة بدأ دراسة شاملة عن العقْم - أعاد قراءة أعمال جميع أساطين الطبّ (بما فيهم العرب) وبعث باستفسارات إلى الجامعات الإيطالية والألمانية، وأخيرًا نصح بنظام غذائى خاصّ. ولكن دونا إڤاريستا - التى كانت تتغذى على وجه الحصر تقريبًا على لحم خنزير إتاجواى الشهى- لم تُلْقِ بالًا إلى ذلك؛ وإلى هذا الافتقار إلى الطاعة الزوجية، المفهوم لكنْ المؤسف، ندين بالانقراض الكُلِّى للسلالة الباكامارتيّة.
والحقيقة أن الاهتمام بالعلم يكون هو ذاته علاجًا أحيانًا. وقد عالج الدكتور باكامارته نفسه من خيبة أمله عن طريق الغوص أعمق فى عمله. وكانت تلك الفترة هى التى جذب فيها اهتمامه فرع جديد من فروع الطب: علم أمراض النفس. ولم يَكُن بوسع المستعمرة بأسرها بل المملكة ذاتها أن تتباهى بامتلاك أحد الثُّقاة فى هذا الموضوع. والواقع أنه كان مجالًا لم يُبذل فيه سوى القليل جدًّا من العمل المسؤول فى أىّ مكان فى العالم. وقد رأى سيمون باكامارته أن أمام العلم اللُّوزيتانى(1)، والبرازيلى بوجه أخصّ، فرصة لأن يتوّج رأسه "بأمجاد باقية" - وهذا تعبير استخدمه هو ذاته، لكنْ فقط فى لحظة نشوة وداخل جدران بيته؛ أما إزاء العالم الخارجى فكان دائمًا شديد التواضُع شديد ضبط النفس، كما يليق برجل علم.
"صحة الروح!" هتف باكامارته. "إنها أسمى غاية ممكنة لطبيب".
"بالنسبة لطبيب عظيم مثلك أنت، نعم". جاء هذا التصحيح من كريسپين سواريس، صيدلىّ البلدة وأحد أعزّ أصدقاء باكامارته.
ويُنْحِى مُسَجِّلو الأحداث باللوم على مجلس بلدة إتاجواى على إهماله للمرضى عقليًّا. كان المجانين الخطرون يُحْبَسون فى بيوتهم؛ وكان المجانين المسالمون يُتركون مُطلقى السراح تمامًا. ولم يتلقّ أىّ منهم، لا الخطرون ولا المسالمون، أىّ رعاية من أىّ نوع. اقترح سيمون باكامارته تغيير هذا كُلّه. قرّر أن يبنى مصحّة عقلية وطلب من المجلس صلاحية استقبال ومعالجة كافة المرضى عقليًّا فى إتاجواى والمناطق الحيطة بها. على أن يدفع له أهل المريض أو - إذا كانت الأسرة فقيرة جدًا - المجلس. أثار الاقتراح دهشة وفضولًا فى كل مكان فى البلدة. وكانت هناك معارضة كبيرة، فمن الصعب دائمًا أن نستأصل شأفة الطريقة المستقرّة لتسيير الأمور، مهما تكن تلك الطريقة سخيفة أو شريرة. إن مجرد فكرة جعل المجانين يعيشون معًا داخل نفس البيت بَدت عَرَضًا من أعراض الجنون، كما لمَّح كثيرون... حتى لزوجة الطبيب.
"انظرى يا دونا إڤاريستا"، قال الأب لوپيس، القسيّس المحلّى، "فكّرى فيما إذا لم يكن بمقدورك أن تجعلى زوجك يأخذ إجازة قصيرة. رُبَما فى ريو دى چانيرو. كل هذه الدراسات المكثّفة، يمكن للمرء أن يقوم بالكثير جدًّا منها وعندئذ فإن عقله...".
فزعت دونا إڤاريستا. ذهبت إلى زوجها وقالت إن لديها رغبة حارقة فى القيام معه برحلة إلى ريو دى چانيرو. وقالت إنها سوف تأكل هناك كلّ ما اعتقد هو أنه ضرورى لبلوغ هدف بعينه. ولكنّ الطبيب الداهية أدرك فى الحال فيم كانت زوجته تفكّر فأجاب بأنها لا ينبغى أن تخشى شيئًا. ثم ذهب إلى دار البلدية، حيث كان المجلس يناقش اقتراحه، الذى دعمه هو ببلاغة بحيث تمَّت الموافقة عليه دون تعديل فى أوّل اقتراع. كما أقرّ المجلس ضريبة مخصَّصة للإنفاق على إيواء، وإعالة، وعلاج المجانين المحلِّيِّين. وكان هذا ينطوى على مشكلة صغيرة، ذلك أن كل شيء فى إتاجواى كانت تُجْبَى عليه الضرائب فعلًا. وبعد دراسة مُتأنية قرّر المجلس استعمال شارَتَىْ امتياز على الخيل التى تَجرُّ عَربة جنازةٍ. وعلى كلّ شخص يودّ الاستفادة بهذا الامتياز أن يدفع ضريبة بمقدار مُقَرَّر عن كل ساعة ابتداءً من وقت حدوث الوفاة حتى انتهاء الشعائر التى تُؤَدَّى على القبر. وقد طُلب من أمين سجلّات البلدة أن يحدّد الدخل المحتمل من الضريبة الجديدة، غير أنه تاه فى العمليات الحسابية، واقترح أحد أعضاء المجلس - وكان معارضًا لمشروع الطبيب - إعفاء أمين السجلّات من مهمة لا طائل تحتها.
"الحسابات غير ضرورية"، قال، "لأن مشروع باكامارته لن يتمّ تنفيذه أبدًا. من سمع بحقّ السماء عن وضع مجموعة من المجانين معًا فى بيت واحد؟".
لكنّ العضو المحترم كان مخطئًا. فقد بنى باكامارته مستشفاه للمجانين فى الشارع الجديد، أجمل شارع فى إتاجواى. وكان للمبنى فناء فى الوسط ومائتان من غُرَف عَزْل المرضى لكُلّ غُرْفة منها نافذة. وقع الطبيب، وهو دارس شغوف للتراث العربى، على نصّ فى القرآن أعلن فيه محمد أن المجانين مقدَّسون، لأن الله حرمهم من العقل فحماهم من ارتكاب المعاصى. وجد باكامارته هذه الفكرة جميلة وعميقة فى آن معًا، ونقش النصّ على واجهة المستشفى. غير أنه خشى من أن هذا قد يُغضب القسيّس و - من خلاله - الأسقف. وعلى هذا، نسب الاقتباس إلى بنيدكت الثامن.
سُمِّيَت المصحّة العقلية السّراية الخضراء، لأن نوافذها كانت أوّل ما شوهد بذلك اللون فى تاريخ إتاجواى. واحْتُفل بالافتتاح الرسمى احتفالًا رائعًا. أقبل الناس من كل أنحاء المنطقة، بل جاء بعضهم من ريو دى چانيرو ليشهدوا الاحتفالات التى دامت سبعة أيام. وكان بعض المرضى قد تم قبولهم فعلًا وانتهز أقاربهم هذه الفرصة ليؤكّدوا العناية الأبوية والمحبة المسيحية اللتين عُوملوا بهما. أمّا دونا إڤاريستا فقد غَطّت نفسها - مبتهجة بمجد زوجها - بالحرير، والحلىّ، والزهور. كانت ملكة حقيقية خلال تلك الأيام المشهودة. أتى الجميع لزيارتها مرتين أو ثلاث مرات. ولم يتودد إليها الناس وحسب بل امتدحوها، لأنهم - وهذا الواقع يضفى شرفًا عظيمًا على مجتمع ذلك الزمن - فكّروا فى دونا إڤاريستا فى علاقتها بالروح السامية والهيبة العالية لزوجها؛ وقد حسدوها، دون شَكّ، ولكنه الحسد النبيل والمبارك الذى ينطوى عليه الإعجاب.
***
إشارة للفصل 1
(1) لُوزيتانىّ Lusitanian نسبة إلى لُوزيتانيا إحدى مقاطعات إسپانيا الرومانية وتشمل أراضى الپرتغال الحالية - المترجم.




















2
سَيْل لا ينقطع من المجانين

بعد ذلك بثلاثة أيام، وفيما كان يتحادث بمزاج منبسط مع الصيدلى كريسپين سواريس، أخذ الطبيب يبوح بأخصّ أفكاره.
"المحَبّة، يا سواريس، تدخُل فى منهجى دُون شَكّ. إنها مثل التوابل لطبخة، وأنا أفسِّر بهذا المعنى كلمات القديس پولس إلى الكورنثيين: "لَوْ... كُنتُ عالمًا بجميع الأسرار والعلم كله... وليس عندى محَبّة، لما كنتُ شيئا". غير أن الشيء الرئيسى فى عملى فى السّراية الخضراء هو أن أدرس الجنون أعمق دراسة، وأن أعرف مختلف درجاته، وأن أصنِّف مختلف الحالات، وأخيرًا أن أكتشف سبب هذه الظاهرة وعلاجها. هذا ما يتمنّاه قلبى. وأعتقد أنه يمكننى بهذه الطريقة أن أُسْدِى خدمة جليلة إلى الإنسانية".
"خدمة عظيمة"، قال كريسپين سواريس.
"بدون هذه المصحة العقلية"، واصل الطبيب، "أعتقد أننى رُبَّما كنتُ حققت القليل. ولكنها توفّر لأبحاثى مجالًا وفرصة أكبر كثيرًا مما كان سَيُتاح لى فى وضع مختلف".
"أكبر كثيرًا"، وافق الصيدلى.
وكان على حَقّ. فمن كُلّ المُدُن والقرى فى المنطقة المجاورة جاء الخطرون، والمحبطون، والعصابيُّون - المرضى عقليًّا من كل نمط ونوع. وبعد انقضاء أربعة أشهر كانت السّراية الخضراء مجتمعًا صغيرًا قائمًا بذاته. وكان لا بُدّ من إضافة قاعة تضمّ سبعًا وثلاثين غُرْفة عَزْل جديدة. واعترف الأب لوپيس بأنه لم يكن يتصوّر أن هناك كُلّ هذا العدد من المجانين فى العالم ولا أن هناك مثل هذه الحالات الغريبة من الجنون. كان أحد المرضى - وكان شابًا جاهلًا جلفًا - يلقى خطابًا كُلّ يوم بعد الغداء. كان خطابًا أكاديميًّا، مليئًا بأساليب الاستعارة، والطِّباق، والالتفات مُرَصَّعًا بكلمات إغريقية واستشهادات من شيشرون، و أپوليوس، و ترتوليان. وكان من الصعوبة بمكان أن يصدق القسيس أذنيه. ماذا؟ شخص كان قد رآه منذ ثلاثة أشهر فقط يتسكّع على نواصى الشوارع!
"هكذا تمامًا"، أجاب الطبيب، "لكن قداستكم رأيتُم بنفسكم. هذا يحدث كل يوم".
"التفسير الوحيد الذى يمكننى التفكير فيه"، قال القسيّس، "هو اختلاط الألسن فوق بُرْج بابل. لقد اختلطت اللغات هناك تمامًا بحيث أصبح من المحتمل الآن - عندما يفقد شخص عقله - أن ينزلق بسهولة من لغة إلى أخرى".
"رُبّما كان ذلك حقًا التفسير الإلهى"، وافق طبيب الأمراض العقلية، "لكننى أبحث عن تفسير بشرىّ علمى بَحْت - وأعتقد أن هناك تفسيرًا كهذا".
"ربما كان الأمر كما تقول، لكننى فى الواقع لا أستطيع أن أتخيَّل ماذا عسى أن يكون".
عديد من المرضى كان قد دفعهم الحُبّ إلى الجنون. وكان أحد هؤلاء يقضى كل وقته يتجوَّل فى أنحاء المبنى والفناء باحثًا عن زوجته، التى كان قد قتلها فى نوبة غيرة تميّزت بها بداية جنونه. مريض آخر كان يعتقد أنه نجمة الصباح. كان قد تقدّم مرارًا وتكرارًا طالبًا الزواج من سيدة شابة بعينها، وكانت قد رفضته فى كُلّ المرّات. وكان يعرف السبب: كانت تعتقد أنه بطىء الفهم إلى حَدّ مُفزع وكانت تنتظر لترى ما إذا كان يمكنها أن تصطاد زوجًا أكثر إثارة للاهتمام. وعلى هذا النحو صار نجمة لامعة، واقفًا وقد مدَّ قدمين وذراعين كالأشعة. وكان يبقى واقفًا فى هذا الوضع طوال ساعات، فى انتظار أن تحلّ محلّه الشمس المشرقة.
كانت هناك حالات جديرة بالذكر من جنون العظمة. فأحد المرضى، وهو ابن ترزى مُتواضع، اخترع شجرة أنساب رجع فيها بأسلافه إلى أفراد الأسرة المالكة ثم، من خلالهم، إلى يَهْوَه الربّ فى نهاية الأمر. وكان عليه أن يسرد القائمة الكاملة لأسلافه الذكور، مستخدمًا فِعْل "وَلَد" للربط بين كُلّ أب وابن. وعندئذ كان يلطم جبهته، ويعضّ أصابعه، ويُعيد سَرْد القائمة كلّها من جديد. مريض آخر كانت لديه فكرة مشابهة لكنه طَوَّرها بمنطق أكثر صرامة. وقد بدأ بفرضية أنه ابن من أبناء الربّ، الأمر الذى لم يكن بوسع القسّيس ذاته أن ينكره، واستنتج من ذلك - بما أن نوع الابن هو نفس نوع الأب - أنه هو ذاته إله. وهذا الاستنتاج، المستمدّ من مُقَدّمتين لا تُدْحَضان - إحداهما من الكتاب المقدَّس، والأخرى علمية - وضعه فى مكانة أسمى كثيرًا من المجانين الذين يطابقون أنفسهم مع القيصر، أو الاسكندر، أو غيرهما من البشر الفانين.
أمّا ما كان لافتًا للنظر أكثر حتى من ضروب المسّ والأوهام لدى المجانين فهو صبر طبيب الأمراض العقلية. فقد بدأ بتعيين اثنين من المساعدين الإداريين - وهى فكرة قبلها من كريسپين سواريس مصحوبةً بابنىْ أخيه. كلّف الطبيب هذين الشابين بمهمة تنفيذ القواعد والتوجيهات التى أقرّها المجلس البلدى بخصوص المصحّة العقلية. كما كانا مكلَّفَيْن بالسِّجلّات ومسؤوليْن عن توزيع الطعام والكساء. وهكذا أصبح بمستطاع الطبيب أن يكرّس كل وقته للطبّ العقلى.
قال للقسّيس: "للسراية الخضراء الآن حكومتها الزمنية وحكومتها الروحية"(1).
ضحك الأب لوپيس وقال: "ما أطرف وأبهج أن نجد مجتمعًا يَسُود فيه ما هو روحىّ".
بعد أن تحرّر من الأعباء الإدارية بدأ الدكتور باكامارته دراسة شاملة لكُلّ مريض: تاريخه الشخصى والعائلى، عاداته، ما يحبّ وما يكره، هواياته، مواقفه إزاء الآخرين، وهلم جرا. كما قضى ساعات طوالًا يدرس ويخترع ويجرّب طرق العلاج النفسى. لم ينَم إلّا قليلًا ولم يأكُل إلّا القليل، وعندما كان يأكل كان يظلّ يعمل، فعلى مائدة الغداء كان بإمكانه أن يقرأ نصًّا قديمًا أو أن يفكّر مَلِيًّا فى مشكلة صعبة. وفى كثير من الأحيان كان يجلس طوال وجبة غداء دون أن يقول كلمة واحدة ﻟ دونا إڤاريستا.
***
إشارة للفصل 2
(1) لعب بالألفاظ، حيث إن ما هو espritual يعنى فى آن معًا "ما هو روحى" و"ما ينتمى إلى العقل" - تعليق الطبعة الإنجليزية.











3
الله وحده يعلم ماذا يفعل

بعد انقضاء شهرين على هذا الحال كانت زوجة الدكتور امرأة مُحَطَّمَة تمامًا. لَمْ تَلُمْ زوجها بل عانت فى صمت. انسحبت إلى حالة من الاكتئاب العميق، وأصبحت نحيلة ومائلة إلى الاصفرار، ولم تَكُن تأكُل سوَى القليل، وكانت تتنهَّد على نحو متواصل. ذات يوم، وأثناء الغداء، سألها عمّا بها. أجابت بحزن بأنه لا شيء بها. ثم غامرت لأوّل مرّة بأن تشكو قليلًا، قائلة إنها اعتبرت نفسها الآن أرملة: تمامًا كما كانت قبل أن تتزوّج منه.
"مَنْ كان يمكنه بحق السماء أن يظن أن مجموعة من المجانين...".
لَمْ تكمل الجملة. أو، بالأحرى، أكملتها برفع عينيها إلى السقف. كانت عينا دونا إڤاريستا أكثر ملامحها جاذبية - كانتا واسعتين وسوداوين، وكانتا تستحمّان فى ضوء يلفّه البخار مثل الفجر. كانت قد استخدمتهما من قبل بنفس الطريقة إلى حَدّ كبير عندما كانت تحاول أن تُغرى سيمون باكامارته بطلب يدها. كانت الآن تُلوّح بسلاحها من جديد، وهذه المرة فى سبيل الهدف الجلىّ الواضح الذى يتمثل فى الإجهاز على العلم. لكن الدكتور لم يرتبك. ظلّت عيناه حازمتين، هادئتين، ثابتتين. لَمْ تعكّر تجعيدة واحدة صفاء جبينه، الصافى مثل مياه خليج بوتافوجو. وربما لعبت ابتسامة خفيفة على شفتيه عندما قال: "يمكنك أن تذهبى إلى ريو دى چانيرو".
أحست دونا إڤاريستا وكأنّ الأرض قد تلاشت من تحتها وكأنها تطفو فى الهواء. لَمْ تَكُنْ قد ذهبت قط إلى ريو، التى - رغم أنها لم تكن تعدو أن تكون صورة باهتة مما هى عليه اليوم - كانت بالمقارنة مع إتاجواى عاصمة عظيمة وساحرة. ومنذ الطفولة كانت تحلم دائمًا بالذهاب إلى هناك. كانت تتوق إلى ريو كما كان لا بد لعبرىٍّ فى الأسر البابلىّ أن يتوق إلى أورشليم، لكنها مع استقرار زوجها بكل هذا الثبات فى إتاجواى كانت قد فقدت الأمل. وها هو الآن يتيح لها، فجأة، أن تحقّق حلمها. لَمْ يَكُن بمستطاع دونا إڤاريستا أن تُخفى ابتهاجها. أخذها سيمون باكامارته من يدها وابتسم بطريقة هى فى آن معًا زوجيّة وفلسفيّة.
"ما أغرب علاج الروح!" هكذا فكّر. "هذه السيدة تُصاب بالهزال وتذوى لأنها تعتقد أننى لا أحبها. وأنا أمنحها ريو دى چانيرو فتصبح على ما يرام مرّة أخرى". ثم دوّن ملاحظة عن هذه الظاهرة.
نفذ إلى قلب دونا إڤاريستا هاجس مباغت. لكنها أخفت قلقها واكتفت بإبلاغ زوجها أنها لن تذهب أيضًا، إن لم يذهب هو، لأنه لا يمكنها طبعًا أن تسافر وحدها.
"عمتك ستذهب معك"، أجاب الدكتور.
لا بدّ من الإشارة إلى أن هذا الحلّ كان قد خطر على بال دونا إڤاريستا. لكنها لم تقترحه، لأنه سيفرض على زوجها تكاليف كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، كان من الأفضل أن يأتى الاقتراح منه هو.
"أوه، لكنْ النقود التى سيكلّفها ذلك!"، قالت وهى تتنهّد بارتياح.
"لا يهمّ"، أجاب. "هل عندك أىّ فكرة عن دخلنا؟".
أحضر لها دفاتر الحساب. ورغم أن دونا إڤاريستا كانت مأخوذة بكميات الأرقام، فإنها لم تكن واثقة مما تدّل عليه، ولهذا أخذها زوجها إلى الخزانة حيث كانت النقود محفوظة.
يا للسماء! كانت هناك جبال من الذهب، آلاف فوق آلاف من الكروزادو والدوبلون. ثَرْوَة! وبينما كانت تشرب هذه الثروة بعينيها السوداوين، اقترب منها الطبيب بفمه وهمس عابثًا: "مَنْ كان يمكنه بحقّ السماء أن يظن أن مجموعة من المجانين...".
فهمَتْ دونا إڤاريستا وابتسمت وأجابت بإذعان تام: "الله وحده يعلم ماذا يفعل".
بعد ذلك بثلاثة أشهر سافرَتْ إلى ريو بصحبة عمتها، وزوجة الصيدلى، وإحدى بنات عَمّ الصيدلى، وقسّيس كان باكامارته قد عرفه فى لشبونه وتصادف وجوده فى إتاجواى، وأربع خادمات، وخمسة أو ستّة من السُّفرجية الذكور. جاء جمع صغير ليشهدوا سفرهم. كان الوداع حزينًا للجميع فيما عدا الدكتور، ذلك أنه لم يزعج نفسه بشيء خارج دنيا العلم. حتى دموع دونا إڤاريستا، رغم أنها كانت مخلصة وغزيرة، لم تؤثر فيه. وإذا كان هناك شيء جذب اهتمامه فى تلك المناسبة، إذا كان قد ألقى نظرة قلقة شبه پوليسية على الجمع المحتشد، فإن ذلك لَمْ يَكُن إلّا لأنه ارتاب فى حضور مُرَشَّح أو مُرَشَّحَيْن للإيداع فى السراية الخضراء.
بعد الرحيل امتطى الصيدلى والطبيب حصانيْهما وانطلقا عائديْن. كان كريسپين سواريس يحملق إلى الطريق، بين أذنى حصانه الأغبر. أما سيمون باكامارته فقد راح يمسح بعينيه الأفق والجبال البعيدة وترك لحصانه مهمة العثور على طريق العودة. رمزان كاملان للإنسان العادى والعبقرى! أحدهما يحملق مُثَبِّتًا نظره على الحاضر بكل دموعه وحرْماناته؛ والآخر يتطلّع فيما وراء ذلك إلى الفجر المجيد لمستقبل سيقوم هو بتشكيله.
***

























4
نظرية جديدة

بينما كان حصانه يعدو وئيدًا، خطرت على بال سيمون باكامارته فرضيّة جديدة وجريئة. والواقع أنها كانت جريئة إلى حدّ أنه كان بمستطاعها، فى حالة إثباتها، أن تقوم بتثوير أُسُس علم أمراض النفس. خلال الايام القليلة التالية فكّر وأنعَم التفكير فى هذه الفرضية. ثم بدأ يذهب، فى وقت فراغه، من بيت إلى بيت، فيتحدث مع أهل البلدة عن ألف شيء وشيء ويؤكد الحديث بنظرة نافذة أفزعت حتى أشجع الشجعان.
ذات صباح، بعد أن استمرّ ذلك نحو ثلاثة أسابيع، تَلقَّى كريسپين سواريس رسالة تقول إن الطبيب يرغب فى رؤيته.
"يقول إن الأمر هامّ"، أضاف الرسول.
شحب وَجْه الصيدلى. لا بدّ أن شيئًا قد حدث لزوجته! ولا بدّ من الإشارة إلى أن مُسَجِّلى أحداث إتاجواى يُسهبون فى الحديث عن حُبّ كريسپين ﻟ سيزاريا ويشيرون إلى أنهما لم ينفصلا على الإطلاق طوال الثلاثين عامًا من زواجهما. وعلى هذه الخلفيّة فقط يمكن للمرء أن يفسر ذلك المونولوج، الذى كان الخدم يسترقون إليه السمع فى كثير من الأحيان، والذى كان الصيدلى يسبّ به نفسه: "أنت تفتقد زوجتك، أليس كذلك؟ تُوشك على الجنون بدونها؟ تستحقّ ما يحدث لك! تُذْعن دائمًا للدكتور باكامارته! من قال لك أن تدَع سيزاريا تسافر؟ الدكتور باكامارته، هو الذى فعل. عندما يقول أىّ شيء فأنت تقول آمين. انظرْ الآن إذن ما هى النتيجة، أيها الدَّلْدُول الحقير، القذر، البائس، المتذلّل! المتزلّف! الإمّعة!". وأضاف شتائم كثيرة أخرى قبيحة لا ينبغى للمرء أن يوجّهها إلى أعدائه، ناهيك عن نفسه. ويمكن أن نتصوّر بكل سهولة وَقْع الرسالة عليه ومزاجُه على هذا الحال. أوقع العقاقير التى كان يمزجها وطار بكل معنى الكلمة إلى السراية الخضراء. حَيّاه سيمون باكامارته مسرورًا، لكنه احتفظ بابتهاجه كما ينبغى لرجل حكيم أن يفعل - مكتومًا ببالغ الاحتراس.
"أنا سعيد جدًّا"، قال.
"بعض الأخبار من زَوْجَتيْنا؟"، سأل الصيدلىّ بصوت مرتجف.
أومأ الطبيب إيماءة رائعة وأجاب: "شيء أهمّ بكثير - تجربة علمية. وأنا أقول ’تجربة‘، لأننى لا أجرؤ بعد على تأكيد صحة نظريتى. هذه حقًا طبيعة العلم ذاتها يا سواريس: بحْث لا ينتهى. لكنها، رغم أنها ليست سوى مجرّد تجربة إلى الآن، فقد تُغَيِّر وجه الأرض. إلى اليوم يُعتقد أن الجنون جزيرة صغيرة فى محيط من العقل. وأنا أبدأ الآن فى الشكّ فى أنها ليست أبدًا جزيرة بل قارة".
صمت قليلًا، مستمتعًا بذهول الصيدلى. ثم أخذ يشرح نظريته بإسهاب. كان عدد الأشخاص المصابين بالجنون، فى اعتقاده، أكبر بكثير مما يُفترض عادة! وقد طوّر هذه الفكرة بفيْض من الحجج، والفحوص، والأمثلة. وجد كثيرًا من هذه الأمثلة فى إتاجواى، لكنه أدرك المغالطة التى ينطوى عليها حَصْر مُعطياته فى زمان واحد ومكان واحد ولهذا لجأ إلى التاريخ. أشار بوجه خاص إلى عدد من مشاهير التاريخ: سقراط، الذى كان يعتقد أن له شيطانًا شخصيًّا؛ پاسكال، الذى خاط على تقرير عن الهلوسة داخل بطانة معطفه، محمد، كاراكالّا، دوميتيان، كاليجولا، وآخرين. إنّ دهشة الصيدلى إزاء خلط باكامارته ما هو شرير بما هو مجرّد مضحك دفعت الطبيب إلى إيضاح أن هذه الصفات التى تبدو متباعدة هى فى الواقع مظاهر مختلفة لنفس الشيء.
"السلوك غير الطبيعى، يا صديقى، وحشيّة متنكّرة لا غير".
"عظيم، عظيم جدًّا"، هتف كريسپين سواريس.
وفيما يتعلّق بالفكرة الأساسية الخاصة بتوسيع عالم الجنون، فقد وجدها الصيدلى مُتكلَّفة إلى حدّ ما؛ لكن تواضعه، الذى يمثّل فضيلته الرئيسية، منعه من الإدلاء برأيه. بدَلًا من ذلك، عَبّر عن حماس نبيل. أعلن أن الفكرة سامية وأضاف أنها "شيء جدير ببوق المنادى". وهذا التعبير الأخير يحتاج إلى شَرْح. مثل المُدُن والقرى والمستوطنات الأخرى فى المستعمرة فى ذلك الزمان، لم يكن لدى إتاجواى جريدة. كانت إتاجواى تستخدم وسيلتين لنشر الأخبار: الأولى ملصقات مكتوبة بخط اليد يتم تثبيتها بالمسامير على أبواب دار البلدية، وعلى أبواب الكنيسة؛ والثانية.. بوق المنادى.
وإليك الطريقة التى كانت تعمل بها الوسيلة الأخيرة: كان يتم استئجار شخص ليوم أو أكثر ليطوف فى الشوارع وهو ينفخ فى البوق. عندئذ كان يمكن أن يتجمع حشد من الناس وأن يعلن الرجل أىّ شيء دُفع له المال ليعلنه: علاج للملاريا، هبة للكنيسة، أرض مزرعة مّا للبيع، وما أشبه ذلك. بل يمكن أن يكون ملتزمًا حتى بإلقاء قطعة شعرية على الناس. أزعج هذا النظام دائمًا طمأنينة الأهالى، لكنه بقى زمنًا طويلًا بفضل فعاليته الإعجازية تقريبًا. ومهما بَدا هذا غير قابل للتصديق، فإن بُوق المنادى مكَّن التجار فعلًا من بيع سلعهم الرديئة بأسعار عالية. ومكَّن مؤلفين رديئين للغاية من أن يشقُّوا طريقهم بوصفهم عباقرة. أجل، حقًا ليست كُلّ مؤسسات النظام القديم تستحق ازدراء قرننا.
"لا، لن أعلن نظريتى على الجمهور"، أجاب الطبيب، "سأقوم بشيء أفضل: سأطبِّقها".
وافق الصيدلى على أنه رُبّما كان من الأفضل أن يبدأ على ذلك النحو. وأنهى كلامه بقوله: "سيكون هناك كثير من الوقت لبوق المنادى فيما بعد".
لكن سيمون باكامارته لم يَكُن يُصْغِى. بَدا غارقًا فى التأمُّل. عندما تكلَّم أخيرًا، كان كلامه صادرًا عن رَوِيَّة وإنعام تفكير.
قال: "فَكَّرْ فى البشرية، على أنها صَدَفة مَحار كبيرة. تتمثل مهمتنا الأولى، يا سواريس، فى أن نستخرج اللؤلؤة - أىْ العقل. بكلمات أخرى، ينبغى أن نحدّد طبيعة وحدود العقل. الجنون ببساطة هو كُلّ ما يقَع خارج تلك الحدود. لكنْ ما العقل إن لم يَكُنْ توازُن القوى العقلية؟ لهذا، فإن الفرد الذى ينقصه هذا التوازُن فى أىّ نقطة هو مجنون إلى ذلك المدى".
أجاب الأب لوپيس، الذى أفضى إليه أيضًا بنظريته، بأنه واثق تمامًا من أنه فهمها إلّا أنها تبدو خطرة إلى حدّ ما وأنها ستحتاج على أىّ حال إلى عمَل أكثر مما يمكن أن يقوم به طبيب واحد.
"وفقًا للتعريف الحالى للجنون، والذى كان مقبولًا دائمًا"، أضاف الأب لوپيس، "السياج المحيط بهذا النطاق واضح وكافٍ على أكمل وَجْه. لماذا لا نبقى داخل حدوده؟".
ارتسمت مسحة مُبهمة لابتسامة على شفتىْ الطبيب الدقيقتين والحذرتين، ابتسامة امتزج فيها الازدراء بالشفقة. لكنه لم يقل شيئًا. كلّ ما فى الأمر أن العِلم مدّ يده إلى اللاهوت - بثقة تردد معها اللاهوت حول ما إذا كان ينبغى أن يؤمن بنفسه أم بالعِلم. وكانت إتاجواى والعالم بأسره على حافة ثورة.
***

5
الإرهاب

بعد ذلك بأربعة أيام فزع سكان إتاجواى عندما سمعوا أن شخصًا اسمه السيد كوستا تَمّ إيداعه السراية الخضراء.
"مستحيل!".
"ماذا تعنى، مستحيل! أخذوه هذا الصباح".
كان كوستا واحدًا من المواطنين الذين يحظون بأشدّ الاحترام فى إتاجواى. وكان قد ورث 400,000 كروزادو بعُملة الملك چُوان الخامس الجيّدة. وعلى حدّ قَوْل عمه فى الوصيّة، كانت الفائدة على هذا الرأسمال ستكفى لإعالته "حتى نهاية العالم". لكنه بمجرَّد أن تلقَّى الميراث بدأ فى إقراض الناس بدون فائدة: ألف كروزادو لشخص، ألفان لآخر، ثلاثمائة لآخر، ثمانمائة لآخر، إلى أن - عند نهاية خمس سنوات - لم يبق شيء. ولو أن الفقر حَلَّ به دفعة واحدة، لكانت صدمة أهالى إتاجواى الطيبين هائلة. لكنه جاء شيئًا فشيئًا. انتقل كوستا من الثراء الوافر إلى الغنى، ومن الغنى إلى يُسْر الحال، ومن يُسْر الحال إلى ضيِق ذات اليد، ومن ضيِق ذات اليد إلى الفقر والإملاق. والناس الذين كانوا - منذ خمس سنوات - يرفعون قبعاتهم وينحنون له بشدّة بمجرد أن يروه وهو على مبعدة صفّ من المبانى، أصبحوا الآن يربّتون على كتفه، وينقرون بأصابعهم على أنفه، ويبدون عليه ملاحظات فظّة. لكن كوستا ظَلّ دمثًا، باسمًا، مُذعنًا بمهابة. ولم يَكُن يُزعجه حتى واقع أن أولئك الأقلّ دماثة هم نفس الأشخاص الذين كانوا يدينون له بالمال؛ على العكس من ذلك، بدا أنه يُحَيّيهم بابتهاج خاصّ.
ذات مرّة، عندما سخَر منه أحد هؤلاء المدينين الأبديّين فلم يزد كوستا عن أنْ ابتسم، قال له أحد الأشخاص: "أنت لطيف مع هذا الشخص لأنك لا تزال تأمل أن يكون بمستطاعك أن تجعله يسدّد ما يدين لك به". لم يتردّد كوستا لحظة واحدة. ذهب إلى المدين وأعفاه من الدين. "من المؤكد"، قال الرجل الذى كان قد أبدى الملاحظة القاسية، "إن كوستا ألْغَى الدين لأنه أدرك أنه لن يمكنه استرداده بحال من الأحوال". لم يَكُن كوستا ساذجًا؛ لقد توَقّع رَدّ الفعل هذا. ولكونه قادرًا على الابتكار وغيورًا على شرفه، وجد بعد ذلك بساعتين طريقة يبرهن بها أنه لا يستحق هذا الطعن: أخذ قليلًا من النقود وأقرضها لنفس المدين.
"والآن آمُل..."، فكّر كوستا.
هذا الصنيع من كوستا أقنع السُّذَّج والمتشككين على حدّ سواء. بعد ذلك لم يشكّ أحدٌ فى نُبْل روح ذلك المواطن الفاضل. كُلّ المحتاجين. ولا يهمّ كم كانوا جبناء - أقبلوا بعباءاتهم المرقَّعَة وطرقوا بابه. ولكنّ كلمات الرجُل الذى طعن فى دوافعه ظَلّت تأكل فى روحه كالدود. ولكن هذا بدوره انتهى، فبعد ذلك بثلاثة أشهر طلب منه ذلك الرجل مائة وعشرين كروزادو، واعدًا بسداد المبلغ فى غضون يومين. كان هذا المبلغ هو كل ما بقى من الميراث، ولكن كوستا منح السلفة فى الحال، دون ترَدُّد أو فائدة. كانت تلك وسيلة للتعويض النبيل عن الوصمة التى لطّخت شرفه. وربما كان الدين سيسدّد عاجلًا أو آجلًا، ولسوء الحظّ لم يكن بإمكان كوستا أن ينتظر، فبعد ذلك بخمسة أشهر تم إيداعه السراية الخضراء.
يمكن للمرء أن يتصوّر بسهولة الذُّعْر الذى تفشَّى فى إتاجواى، عندما علم الأهالى بالأمر. قال بعضهم إن كوستا أصيب بالجنون أثناء تناول الغداء، وقال آخرون إن ذلك حدث فى الصباح الباكر. وتحَدَّثوا عن النوبات العقلية التى كانت تنتابه، والتى وصفها بعضهم بأنها كانت عنيفة ومفزعة، وآخرون بأنها كانت خفيفة وحتى مسلِّية. أسرع كثير من الناس إلى السراية الخضراء. هناك وجدوا كوستا المسكين هادئًا وإن كان مُندهشًا قليلًا، يتحدث بفكر صافٍ سليم ويتساءل لماذا أحضروه إلى هناك. ذهب بعضهم وتحدثوا مع الطبيب. أثْنَى باكامارته على تقديرهم للمريض وتعاطفهم معه، لكنه أوضح أن العلم هو العلم وأنه لم يكن بإمكانه أن يسمح لمجنون بأن يظلّ مُطلق السراح. كان آخر من تشفَّع (لأن أحدًا لم يجرؤ، بعد حدوث ما سأرويه فى الحال، على الذهاب لرؤية الطبيب الرهيب) سيّدة هى ابنة عَمّ المريض. أخبرها الدكتور أنه لا شك فى أن كوستا مجنون، وإلّا لما بَدَّد كُلّ النقود التى...
"لا! أنت مخطئ فى ذلك!" قاطعته المرأة الطيبة بحماس. "لا ينبغى لومه على ما فعل".
"لا؟".
"لا، يا دكتور. سأروى لك ما حدث بالضبط. لم يكُن عَمِّى رجُلًا سيئًا عادة، لكنه عندما كان يغضب كان يغدو شرسًا إلى حَدَّ أنه لم يكُن حتى ليخلع قبعته لتحية موكب دينى. حسنًا، ذات يوم، قبل وفاته بوقت قصير، اكتشف أن عبدًا سرق منه ثورًا. أصبح وجهه أحمر مثل الفلفل؛ وارتجف من الرأس إلى القدّم؛ وعلا الزَّبَد فمه. فى تلك اللحظة جاءه شخص قبيح أشعث الشعر وطلب منه شربة ماء. قال عَمِّى (تغَمَّده الله برحمته) للرجُل أن يذهب ليشرب من النهر - أو من الجحيم، فهذا لا يعنيه مطلقًا. حملق فيه الرجُل غاضبًا، ورفع يده مُهدِّدًا، وأطلق هذه اللعنة: "لن يدوم مالُك أكثر من سبع سنوات ويوم واحد، هذا مؤكّد كما أن هذه بالتأكيد هى نجمة داود!" وأبرز نجمة داود موشومة على ذراعه. كان ذلك هو السبب وراء الأمر كُلُّه، يا دكتور - لقد حَلَّت لعنة ذلك الرجُل الشرير على النقود".
اخترقت عينا باكامارته المرأة المسكينة مثل خناجر. وعندما أنهت كلامها، مَدّ يده بحفاوة وكأنها زوجة نائب الملك ودعاها للذهاب والحديث مع ابن عمّها. صَدّقته المرأة المسكينة. أخذها إلى السراية الخضراء وحجزها فى العنبر الخاص بأولئك الذين يعانون من الأوهام والهلاوس.
عندما عُرف هذا الازدواج عن باكامارته الشهير، فزع الأهالى. لم يَكُن بإمكان أحد أن يُصَدّق ذلك، لأنه لا سبب على الإطلاق يجعل طبيب الأمراض العقلية يحجز امرأة عاقلة تمامًا كان خطؤها الوحيد التشفُّع لصالح قريب تعيس الحظّ. كثر القيل والقال حول هذه الحالة على نواصى الشوارع وفى صالونات الحلاقة، وفى غضون فترة قصيرة تطوّرَت إلى رواية كاملة، بعروض غرامية من الطبيب على ابنة عَمّ كوستا، وازدراء ابنة العَمّ، وأخيرًا انتقم الطبيب منهما معًا. كان كُلّ شيء واضحًا للغاية. لكنْ ألم يكذّب عقْم الدكتور وحياته المكرسة للعلم قصة كهذه؟ كلّا. لم يكُن ذلك سوى قناع يُخفى به خيانته. بل إن واحدًا من أكثر أهالى البلدة سذاجة همس بأنه كان يعرف أشياء أخرى بعينها - أشياء لم يكُن بوسعه أن يقول ما هى، لافتقاده إلى الدليل الكامل - لكنه كان يعرف أنها صحيحه، وكان يمكنه حتى أن يُقسم عليها.
"أنت صديقه الحميم"، سألوا الصيدلى، "ألا يمكنك أن تقول لنا ماذا يجرى، ماذا حدث، وما السبب...؟".
كان كريسپين سواريس بالغ السرور. كانت هذه الاستفسارات من جانب الأصدقاء الحائرين، ومن جانب أولئك القلقين والفضوليّين بوجه عام، تُساوى الاعتراف العام بأهميته. لم يكُن هناك أدنى شَكّ حول هذا الأمر، كان السكّان بأَسْرهم يعرفون أنه، الصيدلى كريسپين، هو الصديق الحميم والمؤتمن لطبيب الأمراض العقلية، وشريك الرجُل العظيم. هذا هو السبب فى أنهم أقبلوا جميعًا يهرولون إلى الصيدليّة. وكان بإمكان المرء أن يقرأ كل هذا فى التعبير المرح والابتسامة المتحفظة على وجه الصيدلى - وفى صمته، ذلك أنه لم يتفوَّه بأىّ إجابة. فقط كلمة أو كلمتين أو ثلاث كلمات من تلك الكلمات البسيطة ذات المقطع الواحد على الأكثر، تغطّيها نصف ابتسامة مُخلصة وفيّة ومليئة بأسرار علمية لم يكُن بإمكانه أن يبوح بها لإنسان دون إحساس بالخطر والعار.
"يجرى شيء غريب جدًّا"، فكَّر أهالى البلدة.
لكنّ شخصًا منهم لم يزد عن أن هزَّ كتفيه ومضى فى طريقه. كانت لديه اهتمامات أكثر أهمية. كان قد بنى منذ فترة قصيرة بيتًا رائعًا، له حديقة كانت تُحْفَة من تُحَف الفنّ والذوق. وكان أثاثه، المستورد من المجر وهولندا، يُرَى من الشارع، لأن النوافذ كانت مفتوحة دائمًا. هذا الرجُل، الذى أصبح ثريًّا بفضل صناعته لسروج نقل الأحمال، كان يحلم دائمًا بامتلاك بيت فخم، وحديقة مُتْقنة الإعداد، وأثاث نادر. والآن، بعد أن حقّق كل هذه الأشياء وأصبح يعيش فى شبْه تقاعُد، كان يكرّس أكثر وقته للاستمتاع بها. ولا شك فى أن بيته كان أفضل بيت فى إتاجواى، كان أفخم من السراية الخضراء، وأكثر مهابة من دار البلدية. وكنت تسمع العويل وصرير الأسنان بين النخبة الاجتماعية فى إتاجواى متى سمعوه يُمتدح أو حتى يُذكر - بل، عندما كان يخطر وحسب على بالهم. ويملكه مجرّد صانع سروج لنقْل الأحمال، يا للّه!
"ها هو يُحملق فى بيته"، كان بإمكان عابرى السبيل أن يقولوا. فقد كان من عادته أن يقف مُسمّرًا قدميه كُلّ صباح وسط حديقته ويُحملق بشغف فى البيت. كان بإمكانه أن يظل على هذا الحال ساعة كاملة، إلى أن يُدْعَى إلى تناول الغداء.
رغم أن جيرانه كانوا يحيُّونه ببالغ الاحترام دائمًا، فقد كانوا يسخرون منه خلف ظهره. عَلَّق أحدهم بأن ماتيوس كان بإمكانه أن يصنع مالًا أكثر بكثير من صناعته لسروج نَقْل الأحمال ليضعها على ظهره - وهو تعليق غامض إلى حَدّ ما، لكنه مع ذلك كان يقذف بسامعيه إلى نوبات من الضحك.
كلّ يوم بعد الظهر، عندما كانت الأُسَر تخرج للنزهة بعد الغداء (كان الناس يتناولون الغداء مبكرًا فى تلك الأيام)، كان بإمكان ماتيوس أن يقف مُسمّرًا قدميه عند النافذة الوسطى، وقد ارتدى بأناقة ملابس بيضاء على أرضية غامقة. ويمكنه أن يظلّ هناك فى وقفة مهيبة على مدى ثلاث أو أربع ساعات، إلى أن يحلّ الظلام. وقد يخمّن المرء عن حق أن ماتيوس يقصد قصدًا إلى أن يصبح موضع الإعجاب والحسد، رغم أنه لم يعترف بمثل هذا الغرض لأحد، ولا حتى ﻟ الأب لوپيس. مع ذلك توَصّل صديقه الطيّب، الصيدلى، إلى مثل هذا الاستنتاج وأبلغه ﻟ باكامارته. خطر على بال طبيب الأمراض العقلية أن السروجى، ما دام بيته مبنيًّا من الحجر، رُبّما كان يعانى من الپتروفيليا(1)، هذا المرض الذى سبق أن اكتشفه الدكتور وظلّ يدرسه لفترة من الزمن. هذا التحديق المتواصل فى البيت.
"لا، يا دكتور" قاطعه كريسپين سواريس بقوّة.
"لا؟".
"معذرة، لكنك ربما لا تعرف..." ثم قصّ على الطبيب ما يفعله السروجى كُلّ يوم بعد الظهر.
التمعت عينا سيمون باكامارته بشهوانية علمية. استجوب كريسپين بشيء من الإسهاب، وكانت الإجابات التى تلقاها مُرْضية له بكل وضوح، بل سارّة. لكنْ لم يكُن هناك أبدًا ما يُوحى بنيّة شريرة فى وجه الطبيب أو سلوكه - بل على العكس تمامًا - عندما طلب ذراع الصيدلى لجولة قصيرة فى شمس الأصيل. كانت المرة الأولى التى يمنح فيها هذا الشرف لصديقه الحميم المؤتمن. قَبِل كريسپين الدعوة، مذهولًا ومرتجفًا. فى تلك اللحظة بالضبط، أقبل شخصان أو ثلاثة لمقابلة الدكتور. وفى صمت تركهم كريسپين للشياطين. كانوا يعوقون الجولة؛ ورُبّما فكَّر باكامارته حتى فى أن يدعو أحدهم بدلًا من كريسپين. أىّ نفاد صبْر! أىّ تلهُّف! أخيرًا غادر الزُّوَّار وبدأ الرجُلان جولتهما. اتخذ طبيب الأمراض العقلية وجهة بيت ماتيوس. أخذ يتمشَّى بالقرب من النافذة خمس أو ست مرات، على مهل، وكان يتوقَّف من حين لآخر ويلاحظ السلوك البدنى والتعبير الوجهى للسروجى. لم يلاحظ ماتيوس المسكين سوى أنه كان موضوعًا لفضول أو إعجاب أهمّ شخصية فى إتاجواى - كثَّف ماتيوس مهابة تعبيره، وفخامة وقفته... وا أسفاه! لم يكُن يُساعد إلّا على إدانة نفسه. وفى اليوم التالى تَمّ إيداعه.
"السراية الخضراء سجن خصوصى"، قال طبيب فاشل.
لم يسبق أبدًا لرأى من الآراء أن شاع وانتشر بمثل تلك السرعة. "سجن خصوصى" - كانت الكلمتان تترددان من أحد طرفى إتاجواى إلى طرفها الآخر. وكان ذلك بخوف دون شك، لأنه خلال الأسبوع التالى لحادثة ماتيوس تمّ إيداع السراية الخضراء أكثر من عشرين شخصًا، منهم شخصان أو ثلاثة من مواطنى البلدة البارزين. قال الطبيب أن المرضى عقليًّا وحدهم هم الذين يتم قبولهم، لكنْ لم يصدّقه سوَى قِلَّة. ثم جاءت التفسيرات الشعبية للمسألة: الانتقام، الشراهة، عقابٌ من الربّ، مونومانيا(2) أصابت الدكتور نفسه، خطة سرية من جانب ريو دى چانيرو لتدمير الازدهار الاقتصادى الناشئ لإتاجواى، وأخيرًا لإفقار هذه البلدية المنافسة، وألْف إبداع آخر من إبداعات الخيال الشعبى.
فى هذه الفترة عادت مجموعة المسافرات من زيارتهن التى استغرقت عدّة أسابيع لريو دى چانيرو. ذهب الطبيب، والصيدلى، و الأب لوپيس، وأعضاء المجلس، وموظفون آخرون كثيرون، لاستقبالهن. أمّا اللحظة التى رأت فيها دونا إڤاريستا زوجها من جديد فقد نظر إليها مُسَجِّلو أحداث تلك الفترة على أنها واحدة من أعظم لحظات التاريخ الأخلاقى للإنسان سُمُوًّا وجلالًا، بسبب التبايُن الصارخ بين هاتين السجيَّتَيْن المتطرّفَتَيْن (رغم جدارتهما كليهما بالثناء). أطلقت دونا إڤاريستا صيحة، وتمتمت بكلمة أو كلمتين، وألقت بنفسها نحو زوجها بطريقة أوْحَت فى آنٍ معًا بشراسة قطَّة مُتَوحّشَة والعاطفة الرقيقة ليمامة. لم يكُن باكامارته النبيل كذلك. فبالموضوعية التشخيصية، وبدون أن يُرْبك للحظة واحدة صرامته العلمية، مَدّ ذراعيه للسيدة، التى ألقت بنفسها بينهما وأُغْمِىَ عليها. كان الحادث عابرًا؛ بعد ذلك بدقيقتين كان أصدقاء دونا إڤاريستا يُرَحّبون بها وبدأ الموكب العائد إلى البلدة.
كانت زوجة طبيب الأمراض العقلية تُمَثِّل أمَل إتاجواى. كان الجميع يعتمدون عليها فى تخفيف البلاء الذى نزل عليهم. من هنا كان الابتهاج العام، والحشود فى الشوارع، والرايات، والزهور فى النوافذ. أمّا باكامارته صاحب المقام الرفيع، والذى كان قد عهد بزوجته إلى ذراع الأب لوپيس، فقد سار غارقًا فى تأملاته بخُطًى محسوبة. على العكس من ذلك، كانت دونا إڤاريستا تُدير رأسها بحيوية ونشاط من ناحية إلى أخرى، وهى تُراقب بفضول الاستقبال الدافئ غير المتوقّع. سأل القسيّس عن ريو دى چانيرو، التى لم يرها منذ عهد نائب الملك السابق، وأجابت دونا إڤاريستا بأن ريو هى أجمل مشهد يمكن تصوُّر وجوده فى العالم بأسره. فالحدائق العامة، التى اكتملت الآن، جَنّة تجَوّلت فى أرجائها كثيرا - وشارع الليالى الجميلة، ونافورة البطّ... آه! نافورة البطّ. حقيقة يوجد بطّ هناك، بطّ مصنوع من المعدن ويقذف بالماء من الأفواه. شيء ساحر. قال القسيّس إن ريو دى چانيرو كانت بديعة حتى فى أيامه هناك ولا بُدّ أنها أبدع الآن. ولا عجب فى ذلك، لأنها كانت أكبر بكثير من إتاجواى وكانت، بالإضافة إلى ذلك، العاصمة... لكنْ لم يكُن بإمكان المرء أن يصف إتاجواى بأنها قبيحة؛ كان فيها عدد من المبانى الجميلة، مثل سراية ماتيوس، السراية الخضراء...
"وبخصوص السراية الخضراء"، قال الأب لوپيس، مُنزلقًا بالحديث بمهارة إلى الموضوع "ستجدينها مليئة بالمرضَى".
"حقًا؟".
"أجل. ماتيوس هناك...".
"السُروجى؟".
"كوستا أيضًا هناك. كذلك ابنة عمّ كوستا، وفلان، وعلّان، وترتان، و...".
"كلُّهم مجانين؟".
"فيما يبدو"، أجاب القسيّس.
"لكن كيف؟ لماذا؟".
أرخى الأب لوپيس زاويتىْ فمه وكأنه يقول إنه لا يعلم أو لا يرغب فى أن يقول ما يعلم - وهى إجابة مُبْهَمة، لم يكُن من الممكن تكرارها لأىّ شخص. أحست دونا إڤاريستا أن من الغريب حقًا أن يكون كل أولئك الناس قد أصيبوا بالجنون. رُبّما من السهل أن يحدث لشخص أو لآخر. لكنْ لهُم جميعًا؟ لكنْ كان من الصعوبة بمكان أن تَشُكّ فى حقيقة الأمر. كان زوجها رجلًا مُتَعلّمًا، عالمًا؛ ولم يكن ليقوم بإيداع أىّ شخص السراية الخضراء بدون دليل واضح على الجنون.
أكّد القسيّس ملاحظاتها على نحو متقطّع "من غير شَكّ... من غير شَكّ...".
بعد ذلك بساعات قليلة جلس حوالى خمسين شخصًا إلى مائدة سيمون باكامارته على مأدبة العودة إلى البلدة. كانت دونا إڤاريستا الموضوع الإجبارى لشُرْب النخْب، والخُطَب، والأشعار، وكانت كلُّها مجازيّة للغاية. كانت زوجة أبوقراط الجديد، رَبّة العِلم، ملاكًا، الفجر، المحبة، المواساة، الحياة ذاتها. كانت عيناها نجمَتيْن، حسب تعبير كريسپين سواريس، وشمسين، بالمجاز الأقلّ تواضعًا لأحد أعضاء المجلس. وجد الطبيب كلّ هذا مملًا بعض الشيء لكنه لم يُظهر أىّ دلائل على نفاد الصبر. فقط مال على زوجته وقال لها إن مثل تحليقات الخيال هذه، وإنْ كان مسموحًا بها فى مجال الخطابة، غير قابلة للتحقيق فى الواقع. حاولت دونا إڤاريستا أن تقبل هذا الرأى؛ لكنْ - حتى إنْ أسقطت من حسابها ثلاثة أرباع هذا التملُّق - سيبقى هناك ما يكفى لنفخها نفخًا شديدًا. أحد الخطباء، على سبيل المثال - مارتين بريتو، فى الخامسة والعشرين من عمره، وهو شخص مُتَأنّق مُدَّع، وشديد الوَلع بالنساء - خطب قائلًا إن ميلاد دونا إڤاريستا حدث على النحو التالى: "بعد أن منح الله الكون للرجُل والمرأة، وهما ماس ولؤلؤة التاج الإلهى" (وهنا قام الخطيب بمطّ هذه العبارة بزهو من أحد طرفىْ المائدة إلى طرفها الآخر)، "قَرَّر أن يتفوَّق على نفسه وهكذا خلق دونا إڤاريستا".
غَضَّت زوجة الطبيب بصرها بتواضع نموذجى. التفتت سيّدتان أخريان، كانتا تعتبران التعبير المداهن ﻟ مارتين بريتو مسرفًا ووقحًا، لتراقبا أثره على زوج دونا إڤاريستا. وجدتا وجهه مُكفهرًّا بالشكوك، والتهديدات، وربما الدم. تراءى للسيّدتيْن أن الاستفزاز كان كبيرًا حقًّا. صَلَّتا للّه ليمنع وقوع أىّ كارثة مأساويّة - أو، ويظلّ هذا أيضًا أفضل - ليؤجّل وقوعها إلى اليوم التالى. أكثر السيّدتيْن تَرفُّقًا بالناس أقَرَّتْ (فى سريرتها) بأن دونا إڤاريستا كانت فوق الشبهات، لأنها كانت عديمة الجاذبية تمامًا. مع ذلك لم تكُن كُلّ الأذواق مُتشابهة. ربما بعض الرجال... هذه الفكرة جعلتها ترتجف من جديد، وإنْ بعنف أقلّ من ذى قبل؛ بعنف أقلّ، لأن طبيب الأمراض العقلية كان يبتسم فى تلك اللحظة ﻟ مارتين بريتو.
عندما قام الجميع من المائدة، ذهب إليه باكامارته حيث هو وأطراه على مديحه ﻟ دونا إڤاريستا. قال إنه كان ارتجالًا متألّقًا، مليئًا بمجازات خطابية رائعة. هل ابتكر بريتو بنفسه الفكرة المتعلقة بميلاد دونا إڤاريستا أم أخذها من شيء قرأه؟ لا، كانت مبتكرة تمامًا؛ لقد خطرت على باله بينما كان يخطب واعتبرها ملائمة للاستعمال كذروة خطابية. والواقع أنه كان يميل دائمًا إلى ما هو جرىء وجسور أكثر مما هو رقيق ومرح. كان يُفَضّل الأسلوب الملحمى. ذات مرّة، على سبيل المثال، كان قد ألَّف قصيدة غنائية حول سقوط مركيز بومبال وقال فيها إن "تنّين العدمية البشع سحقته مخالب انتقام الله". كما أنه ابتكر كثيرًا من المجازات الخطابيّة القويّة الأخرى. وقد أحَبّ المفاهيم السامية، والأفكار العظيمة والنبيلة...
"يا للشخص المسكين!"، فكر طبيب الأمراض العقلية. "من المحتمل أنه يعانى من إصابة فى المخ. ليست حالة بالغة الخطورة ولكنها تستحقّ الدراسة".
بعد ذلك بثلاثة أيام علمت دونا إڤاريستا، لدهشتها، أن مارتين بريتو يعيش فى تلك اللحظة فى السراية الخضراء. شاب له مثل تلك الأفكار الجميلة! أرجعت السيّدتان الأخريان إيداعه إلى الغيرة من جانب الطبيب، لأن كلمات الشاب كانت وقحة على نحو استفزازى.
الغيرة؟ لكن كيف يمكن للمرء، إذن، أن يفسر أن يتم بعد ذلك بوقت قصير إيداع أشخاص لا يُمكن تصّوُّر أن الدكتور كان يُغار منهم: تشيكو المحب للمزاح وغير المؤذى، فابريسيو مُسَجِّل العقود والوثائق، وكثيرون غيرهما. ازداد الفزع حدّة. ولم يَعُد أحد يعرف العاقل من المجنون. وعندما خرج أزواجهن إلى الشارع، أشعلت نساء إتاجواى الشموع لمريم العذراء. واستأجر بعض الرجال حرسًا خاصًا ليتجوّلوا معهم.
كُلُّ مَنْ كان بإمكانه أن يغادر البلدة فعل ذلك. لكنّ أحد الهاربين أُلْقى القبض عليه فى نفس اللحظة التى كان يغادر فيها. إنه چيل بيرنارديس وهو شاب ودُود ومُهَذَّب؛ مُهَذَّب حقًا إلى حد أنه لم يقُل لأحد أهلًا أبدًا دون أن يرفع قبعته وينحنى إلى الأرض. وفى الشارع كان يمكن أحيانًا أن يجرى أربعين ياردة ليصافح رجُلًا أو امرأة - أو حتى طفلًا، مثل الابن الصغير لقاضٍ مُتَجوّل. كانت له موهبة خاصة فى الدّماثة. كان يدين بقبوله من جانب المجتمع ليس فقط لسحره الشخصى بل كذلك أيضًا للعناد النبيل الذى كان يصمد به أمام أىّ قَدْر من أنواع الرفض، والاعتراض، والجفاء، وما أشبه ذلك، دون أن يغدو مثبّط الهمّة. ثم إنه، متى نجح فى دخول أحد البيوت، لم يكُن يغادره أبدًا - ولا كان المقيمون فيه يريدونه أن يغادر، لأنه كان ضيفًا ممتعًا ولطيفًا. رغم شعبيته وما تولّد عنها من ثقة بالنفس، شحب لون چيل بيرنارديس عندما سمع ذات يوم أن طبيب الأمراض العقلية كان يراقبه. فى الصباح التالى، بدأ فى مغادرة البلدة لكنْ تَمّ اعتقاله ونقله إلى السراية الخضراء.
"هذا لا يجب السماح باستمراره".
"يسقط الطغيان".
"مُستبدّ! خارج على القانون! جولياث!".
فى البداية كانت أشياء كهذه تُقال بأصوات خفيضة وفى البيوت. فيما بعد صراخ الناس بها فى الشوارع. كان التمرُّد يرفع رأسه القبيح. خطرت فكرة تقديم التماس للحكومة لاعتقال وترحيل سيمون باكامارته لأشخاص كثيرين حتى قبل أن يعبّر عنها پورفيريو، بإيماءات سُخْط بليغة، فى صالون الحلاقة الذى يمتلكه. دعنا نلاحظ - وهذه صفحة من أجمل صفحات تاريخ قاتم - أنه حالما بدأ سُكّان السراية الخضراء يزدادون بسرعة، ارتفعت أيضًا أرباح پورفيريو لأن كثيرًا من زبائنه أصبحوا يطلبون إذ ذاك أن يُفْصَدُوا؛ لكن المصالح الخاصة - قال الحلاّق - ينبغى أن تترك مكانها للصالح العام. "يجب الإطاحة بالطاغية!" كان إخلاصه للقضية عظيمًا إلى حَدّ أنه أطلق هذه الصيحة بمجرّد أن سمع عن إيداع شخص اسمه كويليو كان قد رفع ضدّه دعوى قضائية.
"كيف يمكن لأىّ شخص أن يصف كويليو بالجنون؟" صرخ پورفيريو.
لم يُجب أحد. قال الجميع إنه كان سليم العقل تمامًا. لم تنتج الدعوى القضائية ضدّ الحلاق، وهى تتصل بملكية عقارية، عن كراهية أو ضغينة بل عن الصياغة الغامضة فى حجّة نقل الملكية. كان ﻟ كويليو سمعة ممتازة. أفراد قلائل، دُون شَكّ، كانوا يتحاشونه؛ حالما كانوا يرونه من مسافة يقترب كانوا يجرون إلى النواصى ويفرُّون إلى الدكاكين. والحقيقة أنه كان يعشق المحادثة - المحادثة الطويلة، سكران بجرعات كبيرة. وهكذا لم يكُن وحيدًا أبدًا تقريبًا. كان يفضّل أولئك الذين كانوا يعشقون الحديث أيضًا، لكنْ كان بإمكانه أن يساوم، عند الضرورة، من أجل محادثة من جانب واحد مع الأكثر صمتًا. أمّا الأب لوپيس، الذى كان يكره كويليو، فكان كلّما رآه يترك شخصًا استشهد ﺑ دانتى بتغيير طفيف من عنده:
"La bocca sollevo dal fiero pasto
Quel seccatore…"(3)
لكنّ ملاحظة القسيّس لم تؤثّر على التقدير العام الذى كان يلقاه كويليو، لأن بعضهم عزا هذه الملاحظة إلى مجرّد عداء شخصى واعتقد آخرون أنها صلاة باللّاتينية.
***
(1) پتروفيليا petrophilia: الحب المرضى للأحجار والصخور - المترجم.
(2) مونومانيا monomaia: مَسَ عقلى مقصور على فكرة واحدة - المترجم.
(3) "رفع الطاعون فمه عن وجبته الوحشية". قام الأب لوپيس بإحلال كلمة Seccatore (الطاعون) محل كلمة Peccator (الخاطئ) عند دانتى. وكان الكونت أوجولينو، الخاطئ، يقضم رأس خاطئ آخر. الجحيم، النشيد 33 - ملاحظة الطبعة الإنجليزية.








6
الثورة

تحالف حوالى ثلاثين شخصًا مع الحلّاق. أعدُّوا شكوى رسمية وأخذوها إلى المجلس البلدى، الذى رفضها على أساس أن البحث العلمى لا ينبغى تقييده لا بالتشريع المُعادِى ولا بأهواء الدهماء وأفكارهم الخاطئة.
"نصيحتى لكم"، قال رئيس المجلس، "هى أن تتفرَّقوا وتعودوا إلى العمل".
كان من الصعوبة بمكان أن يكْبح الجمْع غضبه. أعلن الحلّاق أن الناس سيزحفون إلى السراية الخضراء ويدمّرونها؛ وأن إتاجواى ينبغى ألّا تُستخدم بعد الآن جثّة للتشريح فى تجارب طاغية فى الطبّ؛ وأنّ العديد من الأشخاص المحترمين بل البارزين، فضلًا عن الكثيرين من الأشخاص المتواضعين لكنْ الجديرين بالاحترام، مُلْقَوْنَ الآن سُجَناء فى غُرَف عَزْل المرضى فى السراية الخضراء؛ وأن الطبيب مدفوع بكل جلاء بالشراهة لأن أجره تَغيَّر تَغيُّرًا طرْديًّا مع عدد المجانين المزعومين الموضوعين تحت رعايته-
"هذا غير صحيح"، قاطع الرئيس.
"غير صحيح؟".
"منذ حوالى أسبوعين تَلقّينا رسالة من الدكتور اللامع أعلن فيها أنه، نظرًا للقيمة الكبرى لملاحظاته وتجاربه بالنسبة له كعالم، لن يقبل بعد الآن أىّ مدفوعات من المجلس أو من أسَر المرضى".
أمام هذا العمَل النبيل الذى يدُلّ على إنكار الذات، كيف يمكن للمتمردين أن يُصرُّوا على موقفهم؟ ربما كان الطبيب يرتكب بعض الأخطاء لكن من الجلىّ الواضح أنه ليس مدفوعًا بأىّ مصلحة غريبة على العلم؛ ولإثبات الخطأ عليه، سيكون مطلوبًا شيء آخر أكثر من الحشود المخالفة للقانون فى الشوارع، هكذا تكلَّم الرئيس، وصَفَّق المجلس بأسره مُؤَيّدًا.
فكَّر الحلاّق مَلِيًّا لحظات معدودة ثم أعلن أنه مُنِح تفويضًا شعبيًّا؛ وأنه لن يمنح إتاجواى سلامًا حتى التدمير النهائى للسراية الخضراء، "باستيل العقل البشرى ذاك"- وهو تعبير سمع شاعرًا محليًّا يستخدمه وكرّره فى تلك اللحظة بقوّة هائلة. بعد أن تكلّم، أعطى إشارة لرفاقه وقادهم إلى الخارج.
وجد المجلس نفسه أمام ضرورة عاجلة. كان عليه، مهما كان الثمن، أن يمنع التمرُّد وسفْك الدماء. ومما زاد الأمر سوءًا أن أحد أعضاء المجلس، بعد أن كان أيْد الرئيس، تأثر بقوّة استعارة "باستيل العقل البشرى" إلى حَدّ أنه غيَّر رأيه. نادى باتخاذ إجراء لإزالة السراية الخضراء. بعد أن عبْر الرئيس عن دهشته واستيائه، علَّق العضو المنشقّ: "لا أعرف شيئًا عن العلم، لكنْ إذا كان أشخاص كثيرون جدًّا اعتبرناهم دائمًا عقلاء محجوزين على أنهم مجانين، فكيف نعرف أن المجنون الحقيقى ليس طبيب الأمراض العقلية ذاته".
عضو المجلس هذا، وكان شخصًا واضح التعبير للغاية اسمه سيباستياون فريتاس، تحدّث بشيء من الإسهاب. عرض الحجّة المقنعة ضدّ السراية الخضراء بتحفُّظ لكنْ باقتناع أكيد. ذُهل زملاؤه. تَوسَّل إليه الرئيس أن يساعد على الأقل فى حفظ القانون والنظام عن طريق عدم التعبير عن آرائه فى الشارع، حيث يمكنها أن تعطى الجسد والروح لما كان حتى ذلك الوقت مُجَرّد زَوْبَعة من ذرّات غير متناسقة. هذه الاستعارة وازنت إلى حَدّ ما استعارة الباستيل. وعد سيباستياون فريتاس بألّا يشرع فى أىّ عمل فى الوقت الراهن لكنه احتفظ بحقه فى السعى إلى إزالة السراية الخضراء بالوسائل القانونية. ثم همس لنفسه بهيام: "باستيل العقل البشرى ذاك!".
مع ذلك، أخذ الحشْد ينمو. والآن أصبح ليس ثلاثون بل ثلاثمائة يتبعون الحلّاق، الذى ينبغى أن نذكر لقبه عند هذه النقطة لأنه أعطى التمرُّد اسمه: كان يُدْعَى ستيويد كورن، ولهذا عُرفت الحركة باسم تمرُّد الكورنيّين. وعندما كانوا يندفعون عبر الشوارع كالإعصار نحو السراية الخضراء، كان من الممكن مقارنتهم حقًّا بالجماهير التى اقتحمت الباستيل، مع التسليم الواجب، بطبيعة الحال، بالفارق الكبير بين پاريس وإتاجواى.
طفل صغير وثيق الارتباط بالأسرة دخل مُسرعًا قادمًا من الشارع ورَوَى الأخبار ﻟ دونا إڤاريستا. كانت زوجة الطبيب تقيس فستانًا من الحرير (وهو واحد من السبعة والثلاثين فستانًا التى كانت قد اشترتها عندما كانت فى ريو).
"ربما كانوا مجرَّد مجموعة من السكارى"، قالت وهى تُغَيّر موضع دبُّوس. "بنيديتا، هل ذيل الفستان مضبوط؟".
"نعم، يا سيدتى"، أجابت الجارية، التى كانت تجلس القرفصاء على الأرض، "إنه يبدو رائعًا. استديرى فقط قليلًا جدًّا. هكذا. إنه مضبوط تمامًا، يا سيدتى".
"ليسوا مجموعة من السكارى، يا دونا إڤاريستا"، قال الطفل فى خوف. "إنهم يصرخون". "الموت للدكتور باكامارته الطاغية".
"الزمْ الصمت! بنيديتا، دقّقى النظر هنا على الجانب الأيسر. ألا تعتقدين أن خطّ الخياطة مَثْنِىّ قليلًا؟ سيكون علينا أن نفكّ الخياطة ونخيط من جديد. حاولى أن تجعليها مُتقنة ومُتساوية هذه المرة.
"الموت للدكتور باكامارته! الموت للطاغية!"، صرخ ثلاثمائة صوت فى الشارع.
شحب وَجْه دونا إڤاريستا. ظلَّت واقفة حيث كانت مثل تمثال، مشلولة من الفزع. جرت الجارية على نحو غريزى إلى الباب الخلفى. أمّا الطفل، الذى كانت دونا إڤاريستا قد رفضت تصديقه، فقد استمتع بلحظة من الارتياح المكتوم لكنْ العميق.
"الموت لطبيب الأمراض العقلية!"، صرخت الأصوات، التى كانت الآن أقرب من ذى قبل.
رغم كونها فريسة سهلة لانفعالات السرور، كانت دونا إڤاريستا امرأة صلبة فى وقت الشدائد. لم تُصَبْ بإغماء. اندفعت مسرعة إلى الحجرة الداخلية حيث كان زوجها يعمل. فى لحظة دخولها المندفع، كان الدكتور يفكّر مَلِيًّا فى عبارة لابن رشد. كانت عيناه، العمياوان عن الواقع الخارجى لكنْ النَّافذتان للغاية فى عالم الحياة الداخلية، ترتفعان عن الكتاب إلى السقف وتعودان إلى الكتاب. نادته دونا إڤاريستا باسمه مرتين بصوت عالٍ دُون أن ينتبه إليها أدنى انتباه. وفى المرة الثالثة، سمعها وسألها عَمّا يُزْعجها.
"ألا يمكنك أن تسمع هذا الصياح؟".
أصغى طبيب الأمراض العقلية. كان الصياح يقترب ويقترب، مُهَدّدًا، مُفزعًا. فهم الطبيب. نهض من الكرسى المريح وأغلق الكتاب وبخطوة ثابتة هادئة سار إلى خزانة الكُتب وأعاد المجلّد إلى مكانه. أدَّى إدخال المجلّد فى مكانه إلى خُروج الكُتب على جانبيْه خُروجًا طفيفًا عن الخطّ. سوَّاها سيمون باكامارته بعناية، ثم طلب من زوجته أن تذهب إلى حجرتها.
"لا، لا"، توَسَّلت زوجته الفاضلة. "أريد أن أموت إلى جوارك... حيث مكانى".
ألحَّ سيمون باكامارته على ذهابها. طَمْأَنها على أنها لم تكُن مسألة حياة أو موت وقال لها إنه سيكون واجبها، حتى لو كانت مسألة حياة أو موت، أن تظلّ على قيد الحياة. أحْنَتْ السيدة الشقية رأسها، دامعة ومطيعة.
"تسقط السراية الخضراء"، صاح الكورنيّون.
خرج طبيب الأمراض العقلية إلى الشُّرْفة الأمامية وواجه الغوغاء المتمردين، الذين كانت رؤوسهم الثلاثمائة مُشِعّة بفضائل ومشاعر المواطن الصالح ومُعتمة بالغضب العنيف. عندما رأوه صَاحوا: "مُتْ! مُتْ!" أشار سيمون باكامارته إشارة تَدُلّ على رغبته فى أن يتكلَّم، لكنهم أخذوا يصيحون بصوت أعلى. عندئذ لوَّح الحلّاق بقبَّعته كإشارة لأتباعه ليلزموا الصمت وقال للطبيب إن بإمكانه أن يتكلَّم، بشرط ألّا تُسيئ كلماتُه استغلال صبر الناس.
"سأقول القليل وإذا أمكن لا شيء على الإطلاق. هذا يَتوقَّف على طبيعة الشيء الذى جئتم لالتماسه".
"نحن لا نلتمس أىّ شيء"، أجاب الحلّاق، وهو يرتجف من الغضب. "نحن نطلب تدمير السراية الخضراء أو على الأقلّ إطلاق سراح جميع المسجونين فيها".
"لا أفهم".
"أنت تفهم تمامًا، أيها الطاغية. نريد منك أن تُطلق سراح ضحايا حقْدك، نزواتك، شراهتك...".
ابتسم الطبيب، لكن ابتسامة هذا الرجُل العظيم لم تكُن لتدركها أعين الجمع المحتشد: كانت عبارة عن تقلُّص طفيف لعضلتيْن أو ثلاث عضلات، لا أكثر.
"أيها السادة"، قال، "العلم شيء جدِّىّ ويجب أن نعامله بكل جديّة. وفيما يتعلّق بقراراتى المهنية فأنا لا أحسب حسابًا إلّا لله والعلماء الثقاة فى فرعى الطبى الخاصّ. وإذا شئتم أن تقترحوا تغييرات فى إدارة السراية الخضراء، فأنا مستعدّ للإصغاء إليكم؛ لكنْ إذا أردتم أن أكون غير صادق مع نفسى، فإن المزيد من الكلام سيكون بلا جدْوَى. كان بإمكانى أن أدعوكم لتعيين لجنة لتأتى وتدرس الطريقة التى أعامل بها المجانين الذين تم إيداعهم تحت رعايتى، لكننى لن أفعل، لأننى إن فعلت ذلك فهذا يعنى أننى أحسب لكم حسابًا فيما يتعلّق بأساليبى، وهذا ما لن أفعله أبدًا مع مجموعة من المتمردين أو - بقدر ما يتعلّق الأمر بذلك - مع غير المعنيّين من أىّ نوع".
هكذا تكلّم طبيب الأمراض العقلية، وصُعِق الناس عند سماع كلماته. من الواضح أنهم لم يتوقّعوا مثل هذا الهدوء ومثل هذا الحزم. وكانت دهشتهم أكبر عندما انحنى لهم الطبيب بوقار، وأدار ظهره، وسار عائدًا على مهل إلى البيت. سرعان ما استعاد الحلّاق رباطة جأشه، وحَثَّ الغوغاء، ملوّحًا بقبّعته، على هدم السراية الخضراء. كانت الأصوات التى استأنفت الصياح قليلة وضعيفة. فى هذه اللحظة الحاسمة أحسّ الحلّاق فى دخيلة نفسه بطموح عارم إلى الحُكم. إذا ما نجح فى الإطاحة بطبيب الأمراض العقلية وتدمير السراية الخضراء، سيكون بإمكانه حقًّا أن يستولى على المجلس البلدى، وأن يسيطر على السلطات البلدية الأخرى، وأن يجعل نفسه سَيّد إتاجواى. كان قد كافح على مدى سنوات قبل ذلك كىْ يُوضع اسمه فى القوائم التى كان أعضاء المجلس يُختارون منها بالقُرْعَة، لكن التماساته رُفضت لأن مركزه فى المجتمع اعتُبر مُتعارضًا مع مسؤولية كهذه. كانت المسألة مسألة الآن أو أبدًا. علاوة على ذلك، كان قد قاد الشغب فى الشارع إلى نقطة قد تعنى فيها الهزيمة السجْن وربما النفْى أو حتى المشنقة. لسوء الحظّ، كانت إجابة الطبيب قد أفقدت الكورنيّين الجانب الأكبر من القُوَّة الدافعة. عندما أدرك الحلّاق هذا، أحَسَّ وكأنّه يصرخ: "حُقَراء! جُبَناء!." لكنه كبح مشاعره ولم يقل سوى: "أصدقائى، فلنقاتل حتى النهاية! إن خلاص إتاجواى فى أيديكم الشريفة، والبطولية، فلندمِّر السجن الكريه الذى يحتجز أو يهدد أطفالكم وآباءكم، أمهاتكم وأخواتكم، أقاربكم وأصدقاءكم، وأنتم أنفسكم. هل تريدون أن يُلْقَى بكم فى زنزانة وأن يتم تجويعكم بالخبز والماء حتى الموت أو ربما أن تُضْرَبُوا بالسياط حتى الموت؟".
نشط الغوغاء، وهمسوا، وصاحوا، وتجَمَّعُوا حَوْل الحلّاق. كان التمرد يُفيق من ذهوله ويهدّد بهدم السراية الخضراء.
"تقدَّمُوا!" صاح پورفيريو ملوّحًا بقبعته.
"تقدَّمُوا!" رَجَّع أتباعه الصَّدى.
فى تلك اللحظة دار فيلق من جُنود سلاح الفرسان حول ناصية الشارع وأقبل زاحفًا نحو الغوغاء.
7
غير المتوقَّع

كان الجمْع يبدو مذهولًا بوصول جُنود الفرسان؛ وكان من الصعوبة بمكان على الكورنيّين أن يصدّقوا أن قوّة القانون كانت تُمارس ضدّهم. توقَّف جُنود سلاح الفرسان وأمر قائدهم الحَشْد بأن يتفرّقوا. بعض المتمردين أحسُّوا بميل إلى أن يطيعوا، لكن آخرين تجمّعوا حول الحلّاق، الذى رَدّ بجسارة على القائد العسكرى:
"لن نتفرّق. إذا شئتم، يمكنكم أن تقضوا على حياتنا، لكنْ ليس غير: لن نتخلَّى عن شرفنا أو حقوقنا، فعليها يتوقّف خلاص إتاجواى".
لا شيء كان بإمكانه أن يكون أكثر حماقة أو أكثر طبيعية من هذه الإجابة. وهى تعكس النشوة الغامرة التى تخلقها الأزمات الكبرى. وربما كانت تعكس أيضًا إفراطًا فى الثقة فى صبر القائد العسكرى، هذه الثقة التى سرعان ما بدّدها أمر القائد بحَشْو الأسلحة. ما تلا ذلك لا يُوصف. انفجر الجمْع بغضبه. نجح بعضهم فى الهَرب عن طريق تسلُّق النوافذ أو الجَرْى فى الشارع، لكن الغالبية، التى ألهبتها كلمات الحلّاق، زأرت بالغضب وتَشبَّثَت بمواقعها. بدَت هزيمة الكورنيّين وشيكة، عندما انتقل ثُلث جُنود سلاح الفرسان فجأة، لأسباب غير مبينة فى سجلّات أحداث البلدة، إلى جانب المتمردين. هذا التعزيز غير المتوقّع قوَّى من عزم الكورنيّين بطبيعة الحال وثَبَّط هِمّة القُوَّات المسلّحة الشرعية. رفض الجنود الموالون أن يهاجموا رفاقهم و- واحدًا بعد الآخر - انضموا إليهم، وكانت النتيجة أنه فى دقائق معدودة تَبدَّل وَجْه الصراع بأسره. فالقائد العسكرى، الذى لم يكن يدافع عنه سوى حفنة من رجاله ضدّ كتلة متراصَّة من المتمرّدين والجنود، استسلم وسلَّم سيْفه إلى الحلّاق.
لم يُضَيّع المتمرّدون المنتصرون لحظة واحدة. حملوا الجرْحى إلى أقرب المنازل واتجهوا نحو دار البلدية. تآخَى الشعب والقُوَّات المسلّحة، هتفوا بحياة الملك، ونائب الملك، وإتاجواى، و"قائدنا العظيم پورفيريو". سار الحلّاق على رأسهم، مستخدمًا السيف ببراعة وكأنه لم يكُن سوى مُوسَى طويلة طولًا غير مألوف. كان النصر يحوم كهالة فوق رأسه، وكانت مهابة الحكم تسرى فى كُلّ حركة من حركاته.
اعتقد أعضاء المجلس، الذين كانوا يراقبون من النوافذ، أن القُوَّات المسلّحة اعتقلت الكورنيّين. قَرَّر المجلس رسميًا أن يبعث بالتماس إلى نائب الملك راجيًا منه أن يمنح أجر شهر إضافى لجنود سلاح الفرسان، "الذين أنقذ تفانيهم الشديد فى الواجب إتاجواى من فَوْضَى التمرُّد وحُكْم الرعاع". وهذه العبارة اقترحها سيباستياون فريتاس، الذى كان دفاعه عن المتمردين قد صدم زملاءه بعنف. لكن أعضاء المجلس التشريعى سرعان ما تَبدَّدت أوهامهم. كان بإمكانهم فى تلك اللحظة أن يسمعوا بكل وضوح الهتافات بحياة الحلّاق و"بموت أعضاء المجلس" و"بموت طبيب الأمراض العقلية". رفع رئيس المجلس رأسه عاليًا وقال: "مهما كان مصيرنا، لا ننسينَّ أبدًا أننا خَدَم إتاجواى". اقترح سيباستيان أنه رُبّما كان بإمكانهم أن يخدموا التاج والبلدة على أفضل نحو عن طريق التسلُّل إلى الخارج من الباب الخلفى والذهاب إلى مكتب القاضى المتجوّل طالبين النُّصْح والمساعدة، لكن كلّ أعضاء المجلس الآخرين رفضوا هذا الاقتراح.
بعد ذلك بقليل من الثوانى دخل الحلّاق وبعض نوابه قاعة الاجتماعات وأبلغوا المجلس البلدى أنه تمَّ حلُّه. استسلم أعضاء المجلس وتمَّ إيداعهم السجن. ثمَّ ألحَّ أصدقاء الحلّاق عليه ليتولى منصب حاكم إتاجواى باسم صاحب الجلالة. قَبِلَ پورفيريو هذه المسؤولية، رغم أنه، كما أخبرهم، كان مدركًا تمام الإدراك عبئها الثقيل والمشكلات الشائكة التى تستتبعها. قال أيضًا إنه سيكون عاجزًا عن الحكم دون تعاونهم، هذا التعاون الذى وعدوه به دون إبطاء. ثم ذهب الحلّاق إلى النافذة وأبلغ الأهالى بما حدث؛ وصاحوا موافقين. اختار الحلّاق لقب "حامى البلدة باسم صاحب الجلالة وباسم الشعب". أصدر فى الحال عِدّة أوامر هامّة، وبلاغات رسمية من الحكومة الجديدة، وتقريرًا رسميًا إلى نائب الملك يتضمّن الكثير من إعلانات الولاء والطاعة لصاحب الجلالة، وأخيرًا البيان التالى المقتضب لكنْ القوىّ إلى الشعب:
أيها الإخوة الإتاجواييُّون:
كان مجلس بلدى فاسد ولا مسؤول يتآمَر تآمُرًا مُخزيًا ضدّ صاحب الجلالة وضدّ الشعب. كان الرأى العام قد أدانه، والآن قام بحلّه قبضة من المواطنين بمساعدة جُنود سلاح فرسان صاحب الجلالة الشجعان. وقد تمّ تفويضى بموافقة إجماعية بالحُكم إلى أن يقرّر صاحب الجلالة اتخاذ إجراء رسمى بهذا الشأن. أيها الإتاجواييُّون، إننى لا أطلب سوَى ثقتكم وعونكم فى استعادة الهدوء والأموال العامة، التى بَدَّدها المجلس بطيْش. فلتعتمدوا على أننى سأقدّم كل تضحية شخصية من أجل الصالح العام، ولتظلُّوا مطمئنِّين إلى أننا سنحصل على التأييد الكامل من التاج.
پورفيريو كايتانو داس نيڤيس
حامى البلدة باسم صاحب الجلالة وباسم الشعب.
لاحظ الجميع أن البيان لم يقل شيئًا أيًا كان عن السراية الخضراء، واعتبر بعضهم ذلك منذرًا بالشرّ. بَدا الخطر عظيمًا حقًا عندما - فى غمرة التطورات الهامة التى كانت تجرى - أودع طبيب الأمراض العقلية السراية الخضراء حوالى سبعة أو ثمانية مرضى جُدُدًا، بينهم أحد أقرباء الحامى. فَسَّر الجميع إجراء باكامارته تفسيرًا خاطئًا بوصفه تحدِّيًا للحلّاق واعتقدوا أن من المرجّح أن يتمّ فى غضون أربع وعشرين ساعة تدمير السجن الرهيب وإيداع طبيب الأمراض العقلية السجن.
انتهى اليوم نهاية سعيدة. بينما كان مُنادى البلدة يمضى ببوقه من ناصية إلى ناصية يقرأ البيان، كان الأهالى يجوبون الشوارع ويقسمون أنهم مُستعدُّون للموت من أجل الحامى. لم تكن هناك سوَى هتافات قليلة جدًّا تعارض السراية الخضراء، لأن الأهالى كانوا واثقين من أن الحكومة سرعان ما ستقوم بإزالتها. أعلن پورفيريو ذلك اليوم إجازة رسمية، ولخَلْق تَحالُف بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، طلب من الأب لوپيس أن يحتفل بهذه المناسبة بإقامة تسبيحة شُكْر. أصدر القسّيس رفضًا علنيًّا.
"هل يمكننى أن أفترض على الأقل"، سأل الحلّاق بتجهُّم يُنذر بالسوء، "أنك لن تتحالف مع أعداء الحكومة؟".
"كيف يمكننى أن أتحالف مع أعدائك"، أجاب الأب لوپيس (إنْ كان بإمكان المرء أن يسمِّى ذلك إجابة)، "فى حين أنه لا أعداء لك؟ أنت تقول فى بيانك إنك تحكم بموافقة إجماعية".
لم يتمالك الحلّاق نفسه عن الابتسام. حقًّا لم تكن هناك تقريبًا أىّ معارضة ضدّه. وبصرف النظر عن قائد جُنود الفرسان، والمجلس، وبعض أعيان البلدة، هَلَّل له الجميع؛ وحتى الأعيان لم يعارضوه فى الحقيقة. والواقع أن الناس باركوا اسم الرجُل الذى سيحرّر إتاجواى أخيرًا من السراية الخضراء ومن سيمون باكامارته الرهيب.
***






8
ورطة الصيدلى

فى اليوم التالى غادر پورفيريو واثنان من معاونيه قصر الحكومة (الاسم الجديد لدار البلدية) وانطلقوا نحو مسكن سيمون باكامارته. كان الحلاق يعرف أن ما يلائمه أكثر هو أن يأمر باكامارته بالقدوم إلى القصر لكنه كان يخشى أن يرفض الطبيب وهكذا قرر أن يتجمل بالصبر والأناة فى استخدام سلطاته.
كان كريسپين سواريس فى فراشه فى ذلك الوقت. كان الصيدلى يعانى عذابًا عقليًّا متواصلًا فى تلك الأيام. دعته صداقته الحميمة مع سيمون باكامارته إلى الدفاع عن الدكتور، ودعاه انتصار پورفيريو إلى الوقوف إلى جانب الحلّاق. وهذا الانتصار، بالإضافة إلى شدة كراهية الناس ﻟ باكامارته، جعل من غير المجدى وربما من الخطورة بمكان بالنسبة ﻟ كريسپين أن يواصل صداقته مع الدكتور. لكن زوجة الصيدلى، وكانت امرأة مسترجلة على صلة حميمة جدًّا مع دونا إڤاريستا، قالت له إنه يدين لطبيب الأمراض العقلية بعهد ولاء. بَدَتْ الوَرْطة غير قابلة للحلّ، وهكذا تحاشاها كريسپين بالحيلة الوحيدة التى أمكنه أن يدبّرها: قال إنه مريض وذهب إلى الفِراش.
فى اليوم التالى أخبرته زوجته أن پورفيريو وبضعة رجال آخرين يتجهون نحو بيت سيمون باكامارته.
"إنهم ذاهبون لإلقاء القبض عليه"، فكّر الصيدلى.
قادته فكرة إلى أخرى. دار بخياله أن خطوتهم التالية ستكون إلقاء القبض عليه هو، كريسپين سواريس، بوصفه شريكًا فى الجريمة. كان الأثر العلاجى لهذه الفكرة غير عادىّ. قفز الصيدلى من الفراش، ورغم احتجاجات زوجته لبس وخرج. ويتفق مُسَجِّلوا أحداث البلدة جميعًا على أن السيدة سواريس أحسّت براحة كبرى إزاء نُبْل زوجها الذى كان ذاهبًا، فيما اعْتَقَدَتْ، للدفاع عن صديقه، وهم يشيرون بنفاذ بصيرة إلى القُوَّة الهائلة التى تملكها فكرة، حتى إن كانت غير صحيحة؛ ذلك أن الصيدلى مشى ليس إلى بيت طبيب الأمراض العقلية بل إلى قصر الحكومة مباشرةً. عندما وصل إلى هناك عَبَّر عن خيبة أمله لأن الحلّاق كان بالخارج؛ وكان قد أراد أن يطمئنه على ولائه وتأييده. والواقع أنه كان قد اعتزم أن يفعل ذلك فى اليوم السابق لكنْ منعه المرض - ذلك المرض الذى بَرْهَن عليه فى تلك اللحظة بكُحَّة مُغتصبة. كان كبار الموظفين الذين تحادث معهم يعرفون صداقته الحميمة مع طبيب الأمراض العقلية ولهذا قَدَّرُوا تقديرًا عاليًا مَغْزَى هذا الإعلان للولاء. عاملوا الصيدلى بأعظم الاحترام. أخبروه أن الحامى كان قد ذهب إلى السراية الخضراء فى مُهمَّة هامَّة لكنه سيعود فى الحال. قَدَّمُوا له كُرْسيًّا، ومشروبات منعشة، والكثير من الإطراء، قالوا له إن قضيّة پورفيريو الشهير هى قضية كُلّ وطنىّ صادق - الأمر الذى وافق عليه بحماس واقترح أن يؤكّده فى بيان قوىّ إلى نائب الملك.
***






















9
حالتان نموذجيتان

استقبل طبيب الأمراض العقلية الحلّاق فى الحال. قال له إنه لا يملك أىّ وسائل للمقاومة وإنه لذلك مُستعدّ للخضوع للحكومة الجديدة. طلب فقط ألّا يُجْبروه على أن يكون حاضرًا عند تدمير السراية الخضراء.
"الدكتور واقع فى سُوء تفاهُم"، قال پورفيريو بعد هُنيهة. "لسنا مُخَرِّبين. عن حَقّ أو عن غير حَقّ يعتقد الجميع أن أغلب الأشخاص المحبوسين هنا عقلاء تمامًا. لكن الحكومة تقرّ بأن المسألة علمية بحْتَة وأن القضايا العلمية لا يُمكن حلّها بواسطة التشريعات. أضفْ إلى هذا أن السراية الخضراء هى الآن مؤسسة بلديّة راسخة. ولهذا يجب علينا أن نتَوصَّل إلى حَلّ وسَط يسمح باستمرار عملها ويهدِّئ الجماهير فى آن معًا".
لم يستطع الطبيب أن يُخفى دهشته. اعترف بأنه كان يتوقّع ليس تدمير السراية الخضراء وحَسْب بل كذلك اعتقاله شخصيًّا ونَفْيه. وكان آخر شيء فى العالم يمكنه أن يتوقعه هو-
"ذلك لأنك لا تقدّر المسؤولية الخطيرة للحكومة حَقّ قدرها"، قاطع الحلّاق. "الناس، فى عمَاهُم، قد يشعرون بسخط مشروع إزاء شيء لا يفهمونه؛ ولهم الحَقّ، بالتالى، فى أن يطالبوا الحكومة بأن تعمل حسب أسس بعينها. لكن الحكومة يجب أن تتَذكّر واجبها المتمتِّل فى تعزيز المصلحة العامة، سواء كانت أم لم تكُن هذه المصلحة متفقة تمامًا مع المطالب التى قَدّمَتْها الجماهير ذاتها. والثورة، التى أطاحت أمس بمجلس بلدى فاسد وجدير بالازدراء، تصرخ منادية بتدمير السراية الخضراء. لكن الحكومة ينبغى أن تظلّ هادئة وموضوعية. وهى تعلم أن إزالة السراية الخضراء لا يمكنها أن تُزِيل الجنون. وهى تعلم أن المرْضى عقليًّا يجب أن يتَلَقَّوْا العلاج. وهى تعلم أيضًا أنه لا يمكنها أن توفّر بنفسها هذا العلاج وأنه ينقصها حتى القُدْرة على تمييز العاقل من المجنون. هذه أمور تَخُصّ العلم، وليس السياسة. إنها أمور تحتاج إلى نوع القرار الدقيق المصقول الذى تَهيّأتَ أنتَ، وليس نحن، لممارسته. كُلّ ما أطلبه هو أن تساعدنى فى أن أمنح درجة من الرضا لأهالى إتاجواى. وإذا أقمتُم أنت والحكومة جبهة متحدة واقترحتم حلًّا وسَطًا من نوع ما، فسوف يقبله الناس. دعنى أقترح، إلّا إذا كان لديك شيء أفضل تقترحه، أن نُطْلِق سراح أولئك المرضى الذين شُفُوا عمليًّا وأولئك الذين تُعَدُّ أمراضهم مُعتدلة نسبيًّا. بهذه الطريقة يمكننا أن نبيّن كم نحن كرماء وأسخياء دون إعاقة جديّة لعملك".
ظلّ سيمون باكامارته صامتًا حوالى ثلاث دقائق ثم سأل: "كم كان عدد الإصابات فى القتال الذى دار أمس؟".
فَكّر الحلّاق فى أن السؤال غريب إلى حَدّ ما، لكنه أجاب بسرعة بأن أحد عشر قُتلوا وأن خمسة وعشرين جُرحوا.
"أحد عشر قتيلًا، خمسة وعشرون جريحًا"، كَرَّر طبيب الأمراض العقلية مرتين أو ثلاث مرات.
ثم قال إنه لم يوافق على اقتراح الحلّاق وإنه سيحاول أن يدبّر حلًّا وسَطًا أفضل، سيقوم بإبلاغه للحكومة فى غُضون أيام قليلة. سأل عددًا من الأسئلة عن أحداث اليوم السابق: هُجوم جُنود سلاح الفرسان، الدفاع، تَبدُّل المواقف من جانب جُنود سلاح الفرسان، مقاومة المجلس، وهلم جرا. أجاب الحلّاق بالتفصيل، مع التشديد على العار الذى سقط فيه المجلس. سَلَّم بأن الحكومة لم تحصل إلى الآن على تأييد أهمّ رجالات المجتمع وأضاف أن طبيب الأمراض العقلية ربما كان مفيدًا للغاية بهذا الخصوص. ستكون الحكومة مسرورة، حقيقةً، إذا كان بإمكانها أن تعدّ بيْن أصدقائها أسمى شخصية فى إتاجواى، وفى المملكة بأسرها دُون شَكّ. لكنْ لا شيء مما قاله الحلّاق غَيَّر ذلك التعبير على وَجْه الدكتور الصارم. لم يُظهر باكامارته لا غُرورًا ولا تَواضعًا، كان يصغى فى صمت، جامدًا مثل إله من حَجَر.
"أحد عشر قتيلًا، خمسة وعشرون جريحًا"، كَرَّر الطبيب بعد أن غادره زُوَاره. "حالتان نموذجيّتان. هذا الحلّاق تبدو عليه أعراض واضحة للازدواج السيكوپاتى. وكدليل على جُنون الأشخاص الذين يُهَلِّلُون له، ماذا يمكن للمرء أن يطلب أكثر من واقع أن أحد عشر قُتِلُوا وخمسة وعشرين جُرِحُوا، حالتان نموذجيّتان!".
"عاش حامينا المجيد!"، هتف أكثر من ثلاثين شخصًا كانوا ينتظرون الحلّاق أمام البيت.
ذهب طبيب الأمراض العقلية إلى النافذة وسمع جانبًا من خطاب الحلّاق.
"لأن هَمِّى الرئيسى، نهارًا وليلًا، هو أن أحقِّق بإخلاص إرادة الشعب، ثِقُوا بى ولن أخيِّب أملكم. أطلب منكم شيئًا واحدًا لا غير: الزموا الهدوء، حافظوا على النظام. لأن النظام، يا أصدقائى، هو الأساس الذى ينبغى أن تقوم عليه الحكومة".
"عاش پورفيريو!"، هتف الناس وهم يلوِّحُون بقبعاتهم.
"حالتان نموذجيّتان"، غَمْغَم طبيب الأمراض العقلية.
***

























10
استعادة النظام

فى غضون أسبوع كان هناك خمسون مريضًا إضافيًّا فى السراية الخضراء، كلهم مُؤَيّدُون مُتَحمّسُون للحكومة الجديدة. أحسّ الناس بإهانة بالغة. أصيبت الحكومة بذهول، ولم تعرف كيف تردّ. چوان پينا، وهو حلّاق آخر، قال بصراحة إن پورفيريو "باع حريته المدنية كمواطن ﻟ سيمون باكامارته لقَاء قدر من الذهب" - هذه العبارة التى جذبت عددًا من أكثر المواطنين سُخْطًا إلى صَفّ پينا. أدرك پورفيريو، الذى رأى مُنافسه على رأس انتفاضة مُحتملة، أنه سيُطاح به إنْ لم يُغَيّر مسلكه فى الحال. لهذا أصدر مَرْسُومَيْن، أحدهما يُلغى السراية الخضراء والآخر ينفى طبيب الأمراض العقلية من إتاجواى.
لكن چوان پينا وضَّح بجلاء وبلاغة أن هذين المرْسُوميْن مُجَرّد خدْعَة، مُجَرّد خطوة لإنقاذ ماء الوَجْه. بعد ذلك بساعتين تمّ خَلْع پورفيريو وتَولَّى چوان پينا العبء الثقيل للحُكْم. وجد پينا نُسَخًا من البيان الموَجَّه إلى أهالى البلدة، والمذكرة الإيضاحية الموجهة إلى نائب الملك، ووثائق أخرى أصدرها سلفه. وكانت لدَيْه وثائق أصلية جديدة حرَرها وأرسلها باسمه هو وإمضائه هو، وتشير سِجلّات أحداث البلدة إلى أن صياغة الوثائق الجديدة كانت مُختلفة نوعًا ما. وعلى سبيل المثال، حيث كان يتحدّث الحلّاق الآخر عن "مجلس بلدى فاسد ولا مسؤول"، تحدث چوان پينا عن "هيئة أفسدتها نظريات فرنسية متعارضة كلية مع المصالح المقدسة لصاحب الجلالة".
كان لدى الحاكم الجديد بالكاد وقت لإرسال الوثائق عندما دخلت البلدة قُوَّة عسكرية أرسلها نائب الملك واستعادت النظام. وبناءً على طلب طبيب الأمراض العقلية، سلّمت القوّات المسلّحة إليه فى الحال پورفيريو وحوالى خمسين شخصًا آخرين، ووعدت بتسليم سبعة عشر شخصا غيرهم من أتباع الحلّاق حالما يتم شفاؤهم بما فيه الكفاية من جُروحهم.
تُمَثِّل هذه الفترة فى أزمة إتاجواى ذرْوة نُفوذ سيمون باكامارته. كان يحصل على ما يُريد أيًّا كان. على سبيل المثال، المجلس البلدى، الذى أعيد تأسيسه عندئذ، وافق دون إبطاء على إيداع سيباستياون فريتاس المصحة العقلية. كان طبيب الأمراض العقلية قد طلب هذا فى ضوء انعدام التماسك الاستثنائى لآراء عضو المجلس البلدى، الأمر الذى اعتبره باكامارته علامة واضحة على المرض العقلى. فى وقت لاحق حدث نفس الشيء ﻟ كريسپين سواريس. عندما علم الطبيب أن صديقه الحميم ونصيره المخلص قد انتقل فجأة إلى صف الكورنيِّين، أمر بإلقاء القبض عليه ونقله إلى السراية الخضراء. لم ينكر الصيدلى تحوّل ولائه لكنه أوضح أنه كان مدفوعًا بخوف رهيب من الحكومة الجديدة. قبل سيمون باكامارته هذا الإيضاح على أنه صادق؛ لكنه أشار إلى أن الخوف يعتبر من الأعراض الشائعة للشذوذ العقلى.
ربما كان أقوى دليل صارخ على نفوذ طبيب الأمراض العقلية هو ذلك الإذعان الشديد الذى سلم به المجلس البلدى إليه رئيسه ذاته. كان هذا المسؤول البارز قد أعلن أن الإهانة التى أصابت المجلس لن يغسلها إلّا دم الكورنيِّين. علم باكامارته بذلك عن طريق سكرتير المجلس، الذى كرّر كلمات الرئيس بحماس هائل. أودع الطبيب السكرتير السراية الخضراء أولًا ثم انطلق إلى دار البلدية. أبلغ المجلس أن رئيسة يعانى من الـ.. هيموفيرال مانيا(1)، وهو مرض اعتزم أن يدرسه أعمق دراسة، الأمر الذى سيكون له، كما تمنَّى، نفع عظيم للعالم كله. تردَّد المجلس للحظة ثم أذعن.
مُنذ ذلك اليوم فصاعدًا، ازداد سُكّان المصحة العقلية بسرعة أكبر حتى من ذى قبل. ولم يكُن بمقدور أحد أن ينطق بكذبة عادية تمامًا، حتى كذبة من شأنها أن تفيده بكل وضوح، دُون أن يتمّ إيداعه السراية الخضراء فى الحال. المتَّجرون بالفضائح، المتأنّقُون تأنُّقًا زائدًا، الأشخاص الذين كانوا يقضون الساعات فى حَلّ الألغاز، الأشخاص الذين كانوا يحشرون أنفسهم فى الحياة الخاصة للآخرين، الموظفون المنتفخون زهوًا بالسلطة - كُلّ هؤلاء جاء بهم عملاء طبيب الأمراض العقلية. استثنى الطبيب المحبِّين لكنْ ليس العابثين، لأنه كان يعتقد أن المحبِّين يمتثلون لدافع صحِّى، وأن العابثين يستسلمون بالعكس لرغبة مَرَضيَّة فى الغَزْو. لم يتَحيّز ضدّ البُخلاء ولا ضدّ المسرفين: كان يتمّ إيداعهم المِصحّة العقليّة على حَدّ سوَاء؛ وهذا ما جعَل الناس يقولون إن مفهوم طبيب الأمراض العقليّة عن الجنون شمل الجميع من الناحية العملية.
ويعبّر بعض مُسَجِّلى أحداث البلدة عن شكوكهم فى استقامة سيمون باكامارته. وهم يشيرون إلى أن المجلس البلدى أجاز، بإيعاز منه، لكُلّ الأشخاص الذين يتفاخرون بأنهم من أصل نبيل أن يلبسوا خاتما من الفضّة فى إبهام اليد اليسرى. ويشير مُسَجِّلو أحداث البلدة هؤلاء إلى أن جواهرجيًّا - كان صديقًا حميمًا ﻟ باكامارته - صار غنيًّا، كنتيجة لذلك القانون البلدىّ. لكن نتيجة أخرى تمثَّلت فى إيداع لابسى الخواتم السراية الخضراء؛ حقًا رُبّما كان علاج هؤلاء الناس التعساء، وليس إثراء صديقه، هدف الطبيب اللامع. لا أحد يعلم علم اليقين أىّ سلوك من جانب لابسى الخواتم هو الذى دَلّ على مرضهم. فَكّر بعضهم فى أنه ميلهم إلى الإشارة كثيرًا جدًا، خاصة باليد اليسرى، مهما كان المكان الذى هُمْ فيه - فى البيت، فى الشارع، أو حتى فى الكنيسة. ويعلم الجميع أن المجانين يستخدمون الإشارات كثيرًا جدًّا.
"أين سيقف هذا الرجُل"، قال رجال البلدة البارزون. "آه، ليتنا أيدنا الكورنيِّين!".
ذات يوم، بينما كانت الاستعدادات تجرى لحفلة راقصة ستُقام ذلك المساء فى دار البلدية، أصيبت إتاجواى بصدمة عندما سمعت أن سيمون باكامارته أرسل زوجته هو إلى المصحة العقلية. فى البداية ظَنّ الجميع أنها خدعة من نوع ما. لكنها كانت الحقيقة المطلقة. تم إيداع دونا إڤاريستا فى تمام الساعة الثانية صباحًا.
"كنت أشكّ دائمًا فى أنها امرأة مريضة"، قال طبيب الأمراض العقلية رَدًّا على سؤال من الأب لوپيس. "اعتدالها فى كُلّ الأمور الأخرى كان من الصعب أن يتوافق مع جنونها بالحرير، والمخمل، والمخرمات، والمجوهرات، هذا الجنون الذى بدَأ بعد عودتها من ريو دى چانيرو مُباشرة. مُنذ ذلك الوقت بدَأت ألاحظها عن قُرْب. كان كلامها دائمًا حول هذه الأشياء. إذا كلّمْتُها عن البلاطات الملكية فى عصور سابقة، أرادت أن تعرف ما نوع الملابس التى كانت النساء يلبسنها. إذا زارتها امرأة أثناء غيابى عن البيت، كان الشيء الوحيد الذى تخبرنى به زوجتى، حتى قبل ذكر غرض الزيارة، هو كيف كانت المرأة تلبس وأىّ مجوهرات أو أصناف ملابس كانت مُناسبة وأيّها كانت قبيحة. ذات مرّة (وأظن أن قداستك ستتذكر هذا) قالت إنها تعتزم صُنْع فستان جديد كُلّ سنة من أجل عذراء الكاتدرائية. كُلّ هذه الأعراض تدُلّ على وضع خطير. لكن الخطورة الكاملة لمرضها صارت ظاهرة جليّة الليلة. اختارت كُلّ الملابس التى ستلبسها فى الحفل الراقص وقامت بإعدادها وتجهيزها كُلّها. كُلّ شيء باستثناء شيء واحد: لم تستطع أن تحسم اختيارها النهائى بين عقْد من العقيق الأحمر وعقْد من الياقوت الأزرق. أمس الأول سألتنى أىّ عقْد منهما ينبغى أن تلبس. قلت لها إنه لا فَرْق، وإن كلًا منهما مُلائم للغاية. أمس على الغداء كَرَّرَتْ السؤال. بعد الغداء كانت صامتة وغارقة فى تفكير حزين. سألتُها ماذا بها. "أريد أن ألبس عقْدى الجميل الذى من العقيق الأحمر، لكن عقْدى الياقوت الأزرق رائع جدًا". "إذن البسى العقْد الياقوت الأزرق". "لكننى لن أستطيع فى هذه الحالة أن ألبس العقْد العقيق الأحمر". وفى منتصف الليل، حوالى الساعة الواحدة والنصف، استيقظتُ. لم تكُن فى الفرَاش. نهضتُ وذهبتُ إلى حُجرة الملابس. كانت جالسة هناك ومعها عقْدان، أمام المرآة، تُجرّب الأول ثم الآخر. حالة واضحة من حالات الخَبل. حجزتُها فى المصحة العقلية فى الحال".
لم يَقُل الأب لوپيس شيئًا. لم يُرْضه الإيضاح تمامًا. أدرك الطبيب ذلك وأخبره أن المرض النوعى ﻟ دونا إڤاريستا هو الـ... ڤيستيمانيا(2)، ولم يكن مُستعصيًا على العلاج بحال من الأحوال.
"آمل أن أعالجها تمامًا فى غُضون أسبوعين، وعلى أىّ حال أتوقَّع أن أتعَلّم الكثير جدًّا من دراسة حالتها"، قال الطبيب فى نهاية حديثه.
هذه التضحية الشخصية حَسَّنَتْ إلى حَدّ كبير - صُورة الدكتور اللامع عند الناس. الشكّ، عدَم الثقة، الاتهامات - نفاها جميعًا إيداع زوجته هو والتى أحَبَّها من كُلّ قلبه. ولم يكُن بمستطاع أحد أبدًا بعد ذلك أن يَتّهمه بدوافع غير تلك المتصلة بالعلم ذاته. كان فوق كُلّ شَكّ رجُلًا يَتّسم بالأمانة والاستقامة وبالموضوعية العميقة، كان يجمع فى شخص واحد بين كاتو و أبوقراط.

***
إشارتان للفصل 10
(1) هيموفيرال مانيا hemoferal mania: جُنون التعطُّش إلى الدماء - المترجم.
(2) ڤيستيمانيا vestimania: جنون الملابس - المترجم.













11
الإفراج والابتهاج

نَدع القارئ يُشارك الآن أهالى إتاجواى دهشتهم عندما علموا ذات يوم أن مجانين السراية الخضراء قد أُطلق سراحهم.
"كُلّهم؟".
"كُلّهم".
"مُستحيل. البعض رُبّما. لكنْ الكُلّ؟".
"الكُلّ. هو ذاته قال ذلك فى بيان أرسله اليوم إلى المجلس البلدى".
أبلغ طبيب الأمراض العقلية المجلس، أولًا، أنه راجع الإحصاءات ووجد أن أربعة أخماس سُكّان إتاجواى موجودون فى السراية الخضراء؛ ثانيًا، أن هذا العَدد الكبير غير المتناسب للمرضى جعله يقوم بإعادة بَحْث نظريته الأساسيّة عن المرض العقلى، تلك النظرية التى تُصَنِّف كمرضى كُلّ الأشخاص غير المتوازنين عقليًّا؛ ثالثًا، إنه كنتيجة لإعادة البَحْث هذه فى ضوء الإحصاءات، استنتج ليس فقط أن نظريته غير سليمة بل أيضًا أن السَّواء يكمن فى الافتقار إلى التوازُن وأن غير الأسوياء، المرضى حَقًّا، هُم المتوازنون حقًّا، العقلاء مائة فى المائة؛ رابعًا، أنه نظرًا لما سبق سَيُطلق سراح الأشخاص المحتجزين الآن وسيقوم بإيداع السراية الخضراء كُلّ الأشخاص الذين سيكتشف أنهم مرضى عقليًّا وفقًا للنظرية الجديدة؛ خامسًا، أنه سيستمرّ فى تكريس نفسه للسعى وراء الحقيقة وأنه يثق فى أن المجلس سيواصل منحه تأييده؛ سادسًا، أنه سيقوم بردّ الاعتمادات المالية التى تَلقّاها لإطعام وإيواء المرضى، تُخْصَم منها المبالغ التى تم إنفاقها فعلًا، وهذا ما يمكن التحقُّق منه عن طريق فَحْص سجلّاته وحساباته.
لم تكن دهشة إتاجواى أكبر من ابتهاج أقارب وأصدقاء المرضى السابقين. الولائم، الحفلات الراقصة، الفوانيس الورقية الملونة، الموسيقى، كُلّ شيء للاحتفال بالمناسبة السعيدة. لن أصف المهرجانات، لأنها هامشية ليس إلّا بالنسبة لهذا السِّجلّ التاريخى؛ يكفى أن نقول إنها كانت جيدة الإعداد، وطويلة، ولا تُنْسَى.
***
12
الجزء الأخير من البند الرابع

انتهت المهرجانات، استأنف المرضى السابقون حياتهم السابقة، كُلّ شيء بدَا طبيعيًّا. عاد عُضو المجلس فريتاس ورئيس المجلس إلى مكانيهما المعتادين، وحكم المجلس إتاجواى دون تدَخُّل خارجى. پورفيريو الحلّاق "عانى كُلّ شيء"، كما قال الشاعر عن نابليون؛ والواقع أن پورفيريو عانى أكثر من نابليون، لأن نابليون لم يتم إيداعه السراية الخضراء أبدًا. اكتشف الحلّاق الآن أن الضمان الباهت لحرفته أفضل من الكوارث المتألقة للسُّلطة. حُوكم على جرائمه وحكم عليه، لكن أهالى البلدة توسلوا إلى صاحب الجلالة ليصفح عن حاميهم سابقًا، وصفح صاحب الجلالة. قَرّرت السلطات ألّا تحاكم چوان پينا، لأنه أطاح بحاكم غير شَرْعى. ويعتقد مُسَجِّلو أحداث إتاجواى أن إعفاء پينا من الاتهام والمحاكمة هو الذى أوْحى بمثلنا المأثور الشائع:
القاضى لـن يُلقى المسؤولية أبـدًا
على مُحتال يسرق من مُحتال آخر
مَثَلٌ لا أخـلاقى، لكنه جَـمّ الفائدة
لم تعد هناك أىّ شكاوى ضد طبيب الأمراض العقلية. لم يكُن هناك حتى استياء من أفعاله السابقة. والواقع أن المرضى السابقين كانوا يحسُّون بالعرفان لأنه أعلن أنهم عُقلاء؛ وأقاموا حفلة راقصة على شرفه. ويروى مُسَجِّلو أحداث البلدة أن دونا إڤاريستا قَرّرت فى بداية الأمر أن تترك زوجها لكنها غَيّرت رأيها عندما فَكّرت مَلِيًّا فى مدى خواء حياتها بدونه. لقد تغَلّب إخلاصها لهذا الرجُل صاحِب المبادئ السامية على استيائها بسبب ما أصابها من إهانة، وعاشا معًا أسعد من أىّ وقت مضَى.
على أساس النظرية الجديدة عن الأمراض العقلية والمشروحة فى البيان، استنتج كريسپين سواريس أن حصافته التى تمَثّلت فى تحالفه مع الثورة كانت مظهرًا من مظاهر صحته العقلية وقد تأثَّر تأثُّرًا عميقًا بشهامة باكامارته. مَدّ الطبيب يده إلى صديقه القديم عند إطلاق سراحه من السراية الخضراء.
"رجُل عظيم"، قال الصيدلى لزوجته.
لا حاجة بنا إلى أن نشير إشارات خاصة إلى إطلاق سراح كوستا، كويليو، وبقية المرضى المذكورين فى هذا السِّجلّ. كان كُلّ شَخْص حُرًا الآن فى أن يستأنف طريقته السابقة فى الحياة. على سبيل المثال، مارتين بريتو، الذى كان قد تَمّ إيداعه المصحة العقلية بسبب خطاب يشتمل على امتداح زائد ﻟ دونا إڤاريستا، ألَّفَ الآن خطابًا آخر على شرف الدكتور، "الذى رفعت عبقريته الرفيعة جناحيها وطارت عالية فوق قطيع الدهماء إلى أن ضارعت الشمس فى ارتفاعها وفى تألُّقها".
"أشكرك"، قال الطبيب. "من الجلىّ أننى كنت على حَقّ عندما أطلقت سراحك".
فى غُضون ذلك أقَرّ المجلس البلدى، بدون مناقشة، تشريعًا محليًّا يُنَبِّه إلى الجزء الأخير من البند الرابع من بيان باكامارته. أجاز التشريع الجديد لطبيب الأمراض العقلية إيداع السراية الخضراء كُلّ الأشخاص الذين يُكتشف أنهم مُتوازنون عقليًّا تمامًا. لكن المجلس، مُتذكرًا تجربته المؤلمة فيما يَتّصل برَدّ الفعْل الشعبى إزاء المصحة العقلية، أضاف شَرْطًا نَصّ فيه على أنه، ما دام الغرض من التشريع هو توفير فرصة للدكتور لاختبار نظريته الجديدة، سيبقى التفويض سارى المفعول لمدة سنة واحدة فقط، واحتفظ المجلس لنفسه بالحقّ فى إغلاق المصحة العقليّة فى أىّ وقت إذا تطَلَّب الحفاظ على النظام العام ذلك.
اقترح سيباستياون فريتاس تعديلًا فحواه أنه لا يجوز تحت أىّ ظَرْف من الظروف إيداع أعضاء المجلس السراية الخضراء. تَمّ إقرار التعديل بالإجماع تقريبًا. كان الصوت الوحيد المعارض هو صوت جالڤاون عُضو المجلس. أكَّدَ بهدوء أن المجلس، إذ يُجيز القيام بتجربة علمية على أهالى إتاجواى، سيكون هو ذاته لا علميًّا إذا استثنى أعضاءه أو أىّ قسم من السكان من الخضوع للتجربة. "إن وظيفتنا العامة"، قال، "لا تستثنينا من الجنس البشرى". لكنهم أسكتوه صائحين.
قبل سيمون باكامارته التشريع المحلّى بكل قيوده. وفيما يتعلّق باستثناء أعضاء المجلس، أعلن باكامارته أنهم ليسوا مُعَرّضين بحال من الأحوال لخطر الإيداع، لأن تصويتهم لصالح التعديل أظهر بوضوح أنهم غير مُتوازنين عقليًّا. لم يطلب سوى تسليم جالڤاون إليه، لأن هذا العُضْو أبْدَى تَوازُنًا عقليًّا استثنائيًّا، ليس فقط فى رفضه للتعديل بل أكثر من ذلك فى الهدوء الذى احتفظ به فى وَجْه المعارضة والإساءة غير المعقولتين من جانب زملائه، وافق المجلس على الطلب فى الحال.
فى ظلّ النظرية الجديدة لم تكن تكفى أعمال أو تصريحات قليلة لشخص من الأشخاص لتقرير أنه غير سوِىّ: كان من الضرورى القيام ببحث طويل ودراسة شاملة لتاريخه. الأب لوپيس، على سبيل المثال، لم يُنْقَل إلى السراية الخضراء إلا بعد مُضىّ ثلاثين يومًا على إقرار التشريع الجديد. أمّا فى حالة زوجة الصيدلى فقد تطلّب الأمر خمسين يومًا من الدراسة. طاف كريسپين سواريس بالشوارع مُهتاجًا، وكان يقول لكُلّ شَخْص أنه سيقتلع أُذُنَىْ الطاغية من مكانهما. أحد الأشخاص الذين تكَلَّم معهم - وكان شخصًا يُكِنّ، كما كان الجميع يعرفون، كراهية شديدة ﻟ باكامارته - جَرى وحَذَّر طبيب الأمراض العقلية. شكره باكامارته بحرارة وحجزه فى المصحة اعترافًا منه باستقامته وحُسْن نيّته حتى تجاه شَخْص كان يمقته، وهذه علامة من علامات التوازن العقلى الكامل.
"هذه حالة غير مألوفة الي حَدّ كبير" قال الدكتور ﻟ دونا إڤاريستا.
عندما وصَل كريسپين سواريس إلى بيت طبيب الأمراض العقلية، كان الحُزْن قد تغَلَّب على الغضب. لم يقتلع أُذُنَىّ باكامارته من مكانهما. حاول الطبيب أن يُطَيّب خاطر صديقه القديم. قال له إن زوجته رُبَّما كانت تعانى من إصابة فى المخّ، وأن هناك فُرْصة طيِّبة للشفاء، وأنه فى الوقت نفسه ينبغى أن يحتفظ بها طبعًا فى الحَجْز. لكن طبيب الأمراض العقلية اعتبر من المرغوب فيه أن يقضى سواريس معها جانبًا كبيرًا من الوقت، لأن رياء الصيدلى وعدم أمانته الفكرية قد يُساعدان فى التغلُّب على السموّ الخُلُقى الذى وجده الدكتور عند مريضته.
"ليس هناك ما يبرّر"، قال الطبيب، "ألَّا تتناولا أنتَ وزوجتك وجبة الظُّهْر الخفيفة معًا كل يوم فى السراية الخضراء. بل يمكنك أن تبقى معها ليلًا".
كلمات سيمون باكامارته وضعَتْ الصيدلى فى وَرْطَة جديدة. كان يريد أن يكون مع زوجته، لكنه فى نفس الوقت كان يفزع من العودة إلى السراية الخضراء. ظَلّ مترددًا عدّة دقائق. ثم خلَّصَتْه دونا إڤاريستا من الوَرْطَة: وعدَتْ بأن تَزُور زوجته كثيرًا وأن تحمل الرسائل بين الاثنين. قَبَّل كريسپين سواريس يديها شاكرًا. صدمت أنانيته الجبانة طبيب الأمراض العقلية وكأنها تَدلُّ على منتهى السموّ تقريبًا.
رغم أنه احتاج إلى نصف سنة تقريبًا للعثور على ثمانية عشر مريضًا للسراية الخضراء، لم يتراخ باكامارته عن بذل جهوده لاكتشاف المجانين. ذهب من شارع إلى شارع، ومن بيت لبيت، يُلاحظ، ويستجوب، ويدوّن مُلاحظاته. وعندما كان يُودِع شخصًا المصحة العقلية، كان يفعل ذلك بنفس إحساس الإنجاز الذى كان يُودِع به من قَبْل دزينة من الأشخاص دفعة واحدة. عدم التناسُب هذا كان يؤَكّد فى حَدّ ذاته سلامة نظريته الجديدة. أخيرًا غَدت الحقيقة حَوْل المرض العقلى معروفة بكل وضوح. ذات يوم أوْدَعَ باكامارته القاضى المتجوّل السراية الخضراء، بعد أسابيع من الدراسة التفصيلية لسلوك الرجُل والاستجواب الشامل لأصدقائه، الذين شملوا كُلّ الأشخاص الهامّين فى إتاجواى.
أكثر من مرّة كان الطبيب على وشك أن يُرْسل شخصًا إلى السراية الخضراء، ثم سُرْعان ما كان يكتشف عيبًا خطيرًا فى اللحظة الأخيرة. فى حالة المحامى سالوستيانو، على سبيل المثال، اعتقد باكامارته أنه عثر على امتزاج كامل بين الصفات الفكرية والخلقية بحيث يكون من الخطورة بمكان أن يترك الرجُل مُطلق السراح. طلب من أحد عملائه أن يأتى به إلى المصحّة، لكن العميل، الذى كان يعرف محامين كثيرين، شَكّ فى أن يكون عاقلًا حقًا وأقنع باكامارته بأن يسمح بتجربة بسيطة. كان لهذا العميل صديق حميم وكان متهمًا بتزوير وصية. نصح هذا الصديق بأن يستخدم سالوستيانو كمحامٍ له.
"هل تعتقد حقًا أنه سيقبل القضية؟".
"سيقبل بالتأكيد. اعترفْ له بكل شيء سوف ينقذك من العقوبة".
ذهب صديق العميل إلى المحامى، وأقرّ بأنه زَوَّر الوصية، وتَوَسَّل إليه أن يقبل القضية. لم يطرد سالوستيانو الرجُل. دَرسَ التُّهَم والأدلَّة التى تثبتها. فى المحكمة جادَل بإسهاب كبير، مُبرهنًا بصورة مُقنعة أن الوصية حقيقية. بعد حُكْمٍ بالبراءة تلقّى المدّعى عليه التركة وفقًا لشروط الوصية. ولهذه التجربة يدين هو والمحامى العلّامة كلاهما بحريتهما.
قلّما يفوت شيء على إدراك رجُل ذى بصيرة أصيلة. ومنذ بعض الوقت كان سيمون باكامارته قد لاحظ حكمة، وصبر، وتفانى العميل الذى ابتكر هذه التجربة. وهكذا قَرَّر أن يُودِعه السراية الخضراء، التى أعطاه فيها معزلًا من معازل المرضى الممتازة.
تمّ فَصْل المرضى فى فئات. فى أحد الأرْوقة كان يعيش فقط أولئك الذين كانت صفتهم الأخلاقية البارزة هى التواضع. احتلّ المتسامحون على نحو بارز رواقًا آخر، وهناك أيضًا أروقة أخرى خُصّص كُلّ منها لكُلّ من الصادقين، الصرحاء، الأوفياء، الأسخياء، الحكماء. بطبيعة الحال شجب بعض أصدقاء وأقارب المجانين النظرية الجديدة. بل حاول بعضهم إقناع المجلس البلدى بإلغاء التفويض الذى كان قد منحه ﻟ باكامارته. لكن أعضاء المجلس تذَكَّرُوا بمرارة كلمات زميلهم السابق جلڤاون؛ لم يكونوا يرغبون فى أن يروه بينهم من جديد، وهكذا رفضوا. بعث سيمون باكامارته برسالة إلى المجلس، لا ليشكره بل ليهنّئه على هذا الموقف الصادر عن الحقْد الشخصى.
بعض الأشخاص البارزين فى إتاجواى ذهبوا عندئذ سِرًّا إلى الحلّاق پورفيريو. وعَدوا بأن يدعموه بالرجال، والمال، والنفوذ إذا قاد حركة أخرى ضدّ طبيب الأمراض العقلية والمجلس البلدى. أجاب بأن الطموح قاده ذات مرّة إلى الانتهاك العنيف للقانون لكنه أدرك الآن حماقة مثل هذا السلوك؛ وبأن المجلس، بحكمته، فَوَّضَ الطبيب أن يقوم بتجربته الجديدة لمدّة سنة واحدة؛ وبأن على أىّ شَخْص يعترض على ذلك أن ينتظر إلى أن تنتهى السنة وعندئذ - إذا أصَرَّ المجلس على تجديد التفويض - عليه أن يقدِّم التماسًا إلى نائب الملك؛ وبأنه لن يُوصى مرّة أخرى باللجوء إلى طريقة لم تُحَقّق نفعًا وأدّت إلى عديد من حالات الوفاة والإصابات الأخرى، الأمر الذى سيكون عبئًا أبديًّا على ضميره.
أصْغَى طبيب الأمراض العقلية باهتمام كبير عندما أخبره أحد عملائه السرِّيِّين بما قاله پورفيريو. بعد ذلك بيومين تم حَجْز الحلّاق فى السراية الخضراء. "أنتَ مُدان إذا فعلتَ وأنتَ مُدانٌ إذا لم تفعل"، عَلَّق المريض الجديد.
عند انتهاء السنة التى سُمح بها لإثبات النظرية الجديدة، فَوَّض المجلس البلدى طبيب الأمراض العقلية بأن يُواصل عمله ستة أشهر أخرى كَىْ يجرّب طرُق العلاج. ونتيجة هذه التجربة الإضافية من الأهمية بحيث إنها تستحق عشرة فصول، لكننى سأكتفى بفصل واحد. وهذا الفصل سيقدّم للقارئ قُدْوَة مُلْهمة للموضوعية وإنكار الذات العلميّيْن.
***









13
الكمال

مهما كان ما بلغه من اجتهاد ونفاذ بصيرة فى اكتشاف المجانين، تفَوَّقَ سيمون باكامارته على نفسه عندما شرع فى علاجهم. ويُسَلّم كُلّ مُسَجِّلى أحداث البلدة بأنه وُفِّقَ فى شفاء حالاته على نحو مُذْهل للغاية.
من الصعب حقًّا أن نتصوَّر نظامًا علاجيًّا أكثر عقلانية. فبعد أن قَسَّم المرضَى إلى فئات حسب الصفات الغالبة لديهم، شرع الدكتور فى تحطيم تلك الصفات. استعمل علاجًا فى كُلّ حالة ليغرس الصفة المميزة المناقضة تمامًا، وكان يختار الدواء النوعى والجرعة الأكثر ملاءمة لِعُمْر المريض، وشخصيته، وحالته الاجتماعية.
لعَلّ حالات التواضُع تصلح كأمثلة. فى بعض هذه الحالات، كان من الممكن أن يكفى شَعْرٌ مُستعار، أو مِعْطَف جميِل، أو عصًا لرَدّ العقل إلى المجنون. فى حالات أكثر تعقيدًا لجأَ طبيب الأمراض العقلية إلى الماس، والشهادات الفخرية، وما أشبه ذلك. المرض الذى أصاب أحد المجانين المتواضعين، وكان شاعرًا، قاوم كُلّ أنواع العلاج. كان باكامارته قد يئس تقريبًا من علاجه، عندما خطرت على باله فكرة: أن يجعل المنادى يطُوف ببوقه ويعلن أن هذا المريض فى عظَمة جارساون أو پندار.
"كان الأمر أشبه بمعجزة"، قالت أُمّ الشاعر لإحدى صديقاتها. "ابنى شُفِى الآن تمامًا. مُعجزة...".
مريض آخر، من فئة المتواضعين أيضًا، بَدا مُستعصيًا على العلاج. لم يَكُن العلاج النوعى المستخدم للشاعِر ليصلح، لأن هذا المريض لم يَكُن كاتبًا؛ والواقع أنه كان يوقّع باسمه بالكَاد. لكنّ الدكتور باكامارته أثبت أنه على مُسْتَوى التحدِّى. قَرَّر أن يجعلهم يُعَيّنُون المريض سكرتيرًا لفرع الأكاديمية الملكية فى إتاجواى. كان سكرتير ورئيس كُلّ فرع يتم تعيينهم بقرار من الملك. وكانوا يتمتعون بامتياز أن يُخاطَبوا بلقب صاحب السعادة وامتياز أن يلبسوا ميدالية ذهبية. رفضت الحكومة فى لشبونه التماس باكامارته فى بداية الأمر؛ لكن بعد أن أوضح الطبيب أنه لم يطلب التعيين كتشريف حقيقى لمريضه بل فقط كوسيلة علاجيّة لمداواة حالة صعبة، وبعد تَدخُّل وزير المستعمرات (وهو ابن عَمّ للمريض)، وافقت الحكومة فى نهاية الأمر على الالتماس. وجرى التهليل للشفاء الناتج من ذلك على أنه مُعجزة أخرى.
"مُدْهش، مُدْهش حَقًا"، قال الجميع عندما رأوا التعبير الصحِّى المتباهى على وَجْهَىْ المجنونيْن السابقيْن.
كانت طريقة باكامارته ناجحة من الناحية الجوهرية فى كُلّ حالة، رغم أن الصفة الغالبة لدى المريض أثبتت فى قليل من الحالات أنها منيعة حصينة. فى هذه الحالات انتصر طبيب الأمراض العقلية عن طريق الهُجوم على نُقطة أخرى، شأنه فى ذلك شأن قائد عسكرى إستراتيچى بارع.
مع نهاية خمسة أشهر كان كُلّ المرضى قد تَمّ شفاؤهم. كانت السراية الخضراء خالية. أما عُضو المجلس جالڤاون، المبتلَى بكل تلك القسْوة بالإنصاف والاعتدال، فكان سعيد الحظّ إذْ فقَد عَمًّا، وأنا أقول سعيد الحظّ لأن وصيّة العَمّ كانت مُلتبسة وحصَل جالڤاون على تفسير لها لصالحه عن طريق رشوة قاضييْن. باستقامة معهودة أقَرَّ الدكتور بأن الشفاء تحَقَّق ليس بواسطته بل بواسطة القُوَّة العلاجية للطبيعة. كان الأمر على خلاف ذلك تمامًا فى حالة الأب لوپيس. كان باكامارته يَعْلم أن القسّيس يجهل اللغة اليونانية تمامًا، ولهذا طلب منه أن يقوم بتحليل نقدى للترجمة السبعينية للعهد القديم(1). قَبِلَ الأب لوپيس المهمة. وفى غضون شهريْن ألَّف كتابًا حَوْل الموضوع وأطلق سراحه من السراية الخضراء، فلم تبق هناك سوى فترة قصيرة.
"لماذا لا يأتى كريسپين لزيارتى؟" كانت تسأل كل يوم.
كانوا يجيبون عليها بإجابات مُتباينة وأخيرًا قالوا لها الحقيقة بلا تزويق - لم يكُن بإمكان العقيلة الفاضلة أن تكتم عارها وسُخْطها. شملت انفجارات غضبها تعابير مثل "فأر"، "جبان"، "إنه يتحايل حتى على الروشتات الطبية". لاحظ سيمون باكامارته أنه سواء كانت أو لم تكن هذه التشخيصات لزوجها صحيحة، فهى تثبت بوضوح عودة هذه المرأة إلى العقل. وأطلق سراحها بلا إبطاء.
إذا كنت تعتقد أن طبيب الأمراض العقلية كان يشعّ سعادة وهو يرى آخر نزيل يغادر السراية الخضراء، فمن الجلىّ أنك لم تَفْهم الرجُل بعْد. كان شعاره هو الكمال. وفيما يخصَه فإن اكتشاف النظرية الصحيحة للمرض العقلى لم يكن كافيًا، كما لم يكن كافيًا إقامة حكم العقل فى إتاجواى مع الإزالة الكاملة للشذوذ النفسى. الكمال! شيء مّا أشعره أن نظريته الجديدة كانت تحمل فى داخلها نظرية أحدث وأفضل.
"فَلْنَرَ"، قالَ لنفسه، "ما إذا كان بمقدورى أن أكتشف الحقيقة الجوهرية النهائية".
أخذ يذرع الغرفة الضخمة جيئة وذهابًا، مارًا بخزانات الكتب. خزانة بعد خزانة - أضخم مكتبة فى كل أنحاء ممتلكات صاحب الجلالة فيما وراء البحار. روب دو شامبر من حرير موشّى بالذهب (هدية من إحدى الجامعات) كان يغطى الجسم المهيب والمتقشّف للطبيب الشهير. كانت القمّة المنبسطة لرأسه، الذى أحالته أفكار العالم التى لا نهاية لها إلى رأس أصلع، مُغَطّاة بِشَعْر مُستعار. أمّا قدماه، اللتان لم تكونا صغيرتين ولا ضخمتين، بل مُتناسبتين تمامًا مع جسمه، فكان يغطيهما زوج عادى من الأحذية بأبازيم نحاسية بسيطة. لاحظْ الاختلاف: تلك الأشياء التى كانت لها أىّ علاقة بعمله كعالم هى وحدها التى كانت مُترفة بأىّ معنى من المعانى؛ أمّا بقية الأشياء فكانت بسيطة ومُقتصدة.
هكذا أخذ طبيب الأمراض العقلية يذهب ويجيئ فى المكتبة الفسيحة الأرجاء، غارقًا فى التفكير، غريبًا على كل شيء فيما عدا المشكلة العويصة الغامضة المتمثلة فى عِلم أمراض النفس. تَوقَّف فجأة. سأل نفسه، وهو يقف أمام نافذة، وكُوعُه الأيسر يستند على يده اليمنى المفتوحة وذقنه على يده اليسرى المضمومة: "هل كانوا كُلّهم مجانين حقًا؟ هل شفيتهم حقًا؟ أليس عدم التوازُن العقلى طبيعيًّا ومتأصلًا بحيث كان من المحتّم أن يؤكد نفسه بمساعدتى أو بدون مساعدتى؟".
سرعان ما توصل إلى هذا الاستنتاج: العقول البالغة التوازُن فى ظاهر الأمر والتى فرغ لتوّه من "علاجها" كانت فى الواقع غير مُتوازنة طول الوقت، تمامًا مثل عقول بقية الناس السليمة بكل وضُوح. كان مرضها الظاهرى سطحيًّا وعابرًا.
فَكَّر طبيب الأمراض العقلية مليًّا فى نظريته الجديدة بمشاعر مختلطة. كان سعيدًا لأنه، بعد طول الدراسة، والتجريب، والنضال، استطاع أخيرًا أن يؤكّد الحقيقة المطلقة: لم يكن هناك قَطّ ولن يكون هناك أبدًا أىّ مجانين فى إتاجواى أو فى أىّ مكان آخر. لكنه كان تعيسًا لأن شَكًّا هاجمه. ففى حقْل الطب العقلى كان لا بدّ لتعميم عريض كهذا، مطلق كهذا، أن يكون خاطئًا على نحو حتمى تقريبًا. فقط لو أمكنه أن يعثر على مجنون واحد فاضل وبالغ التوازُن على نحو لا سبيل إلى إنكاره، لغدَت النظرية الجديدة مقبولة - ليس كمبدأ مطلق بلا استثناءات، وهو أمر غير مقبول، بل كقاعدة عامة قابلة للتطبيق على أغلب الحالات الاستثنائية تقريبًا.
وَفْقًا لمسَجِّلى أحداث البلدة، شَكَّلت هذه الصعوبة أفظع عاصفة من العواصف الروحية التى مَرّ بها باكامارته الشُّجاع فى مجرى حياته المهنية العاصفة. لكن العواصف تُخيف الضعفاء وحدهم. وبعد عشرين دقيقة بَدَّد فَجْرَ رقيق، لكنْ مُشْرق الظلام، من وجه طبيب الأمراض العقلية.
"طبعًا. هذا هو؛ طبعًا".
ما كان يقصده سيمون باكامارته هو أنه عثر فى نفسه على الحالة الكاملة التى لا سبيل إلى إنكارها للجنون. كان يملك الحكمة، والصبر، والتسامح، والصدق، والولاء، والشجاعة الأدبية - كُلّ الصفات التى تجتمع لتصنع مجنونًا بكُلّ معنى الكلمة.
لكنه شكّ عندئذ فى ملاحظته الشخصية لنفسه. لا بُدّ أنه ناقص بطريقة ما بالتأكيد. ليتحقّق من الحقيقة فيما يتعلّق بنفسه دعا إلى اجتماع لأصدقائه واستجوبهم. تَوسَّل إليهم أن يجيبوا بصراحة مطلقة. وافقوا جميعًا على أنه لم يكن مخطئًا.
"لا عيوب؟".
"لا عيوب على الإطلاق"، أجابوا كلُّهم فى نَفَس واحد.
"لا رذائل؟".
"لا رذائل".
"كامل من كل ناحية؟".
"من كل ناحية".
"لا، مستحيل!" صاح طبيب الأمراض العقلية. "لا يمكننى أن أصدّق أننى متفوّق إلى هذا الحدّ على زملائى البشَر. إنكم تتركون أنفسكم تتأثّرون بعاطفتكم نحوى".
أصَرّ أصدقاؤه. تَردَّد الطبيب، لكن الأب لوپيس جعل من الصعب عليه ألّا يقبل حكمهم.
"هل تعرف لماذا تُمانع فى أن تتعرَّف فى نفسك على الصفات السامية التى نراها كلّنا بكُلّ هذا الوضوح" قال القسّيس. "ذلك لأنك تملك صفة إضافية تزيد من قيمة الصفات الأخرى: التواضُع".
أحنى سيمون باكامارته رأسه. كان فى آنٍ معًا حزينًا وسعيدًا، لكنه كان سعيدًا أكثر منه حزينًا. أودع نفسه السراية الخضراء من غير إبطاء. تَوسَّل إليه زوجته وأصدقاؤه ألّا يفعل. قالوا له إنه سليم العقل بكُلّ معنى الكلمة. انتحبوا، ناشدوا. كُلّ ذلك دون جَدْوًى.
"هذه مسألة علم، مسألة نظرية جديدة"، قال، "وأنا الحالة الأولى لتطبيقها. إننى أجسّد النظرية والممارسة فى آنٍ معًا".
"سيمون! سيمون، حبيبى!" صاحت زوجته. كان وجهها غارقًا فى الدموع.
لكن الدكتور، وكانت عيناه تَتّقدان بالاقتناع العلمى، دفعها بعيدًا بلطف. دخل السراية الخضراء، وأغلق الباب خلفه، وبدأ مهمة علاج نفسه. ويُقَرّر مُسَجِّلو أحداث البلدة، مع ذلك، أنه توفّى بعد ذلك بسبعة عشر شهرًا سليم العقل كما كان دائمًا. ويجرؤ بعضهم حتى على القول إنه كان المجنون الوحيد (بالمعنى المبتذل أو اللَّاباكامارتى) الذى تَمّ إيداعه المصحة العقلية فى أىّ وقت من الأوقات. لكن هذا الرأى لا ينبغى أخذه مأخذ الجد. كان مبنيًّا على ملاحظات تُنْسَب إلى الأب لوپيس - خطأ دون شكّ، لأن القسِّيس، كما كان الجميع يعرفون، أحبّ طبيب الأمراض العقلية وأُعجب به. على أىّ حال، دفن أهالى إتاجواى البقايا الفانية ﻟ سيمون باكامارته بعظيم الأُبّهَة والإجلال.
***
إشارة للفصل 13
(1) الترجمة السبعينية للعهد القديم: باليونانية - المترجم.








تذييل
ماشادو ده أسِّيس وروايته القصيرة
بقلم: المترجم

رغم مكانته العالية فى الأدب البرازيلى الحديث وآداب اللغة الپرتغالية الحديثة بوجه عام، ورغم أهميته التى لا جدال فيها كروائى عالمى، ظلّ ماشادو ده أسيس (1839-1908) شبه مجهول فى عالمنا العربى. ولم تعرف العربية حتى الآن، على حدّ علمى، سوى واحدة من روائعه الروائية هى كونكاس بوربا التى نقلها المرحوم سامى الدروبى إلى اللغة العربية فى 1963.
ولد چواكيم ماريا ماشادو ده أسيس فى 1839 فى مدينة ريو دى چانيرو، التى لم يغادرها قط، لأسرة فقيرة ملونة. كان أبوه نقّاشًا متواضعًا، وكان خلاسيًا ("مولّاتو": أحد الأبوين أبيض والآخر أسود). وكانت أمه برتغالية متواضعة عملت خادمة عند بعض الأسر الغنية. ماتت أمه وهو طفل وتزوج أبوه من أخرى كانت خلاسية مثله وكانت أمًّا ثانية للطفل. وبعد أن توفّى أبوه ظلّت ترعاه رعاية الأم إلى أن انفصل هو عنها. عمل صبيًّا فى مطبعة (وعمره 15 سنة)، ومصحّح پروڤات فى مكتبة خاصة، ومحررًا فى جريدة مرموقة، ومندوبًا لها فى مجلس الشيوخ (فى الحادية والعشرين). وفى الخامسة والعشرين بدأ يحقق شهرة فى ريو بمسرحياته ومراجعاته الأدبية وأعمدته السياسية. عمل موظفًا حكوميًّا وظل كذلك إلى آخر حياته فتقلّب فى وظائف عديدة وشغل أرفع المناصب الحكومية. فى الثلاثين من عمره (1869) تزوج من برتغالية مثقفة كانت تكبره بخمس سنوات هى كارولينا أوجوستا خافيير دى نوڤايس التى كانت سليلة أسرة نبيلة من البارونات، بعد مقاومة من بعض أهلها، لأسباب واضحة، وتأييد من أمها، وكانت حياتهما الزوجية سعادة متصلة على مدى 35 سنة (ولم يرزقا بأولاد) إلى أن توفيت فى 1904 فكان "كأنه هو الذى مات" قبل أن يلحق بها فى 1908 مصابًا بسرطان فى الفم بعد أن عاش حياة كافح فيها الفقر والأصل الخلاسى ثم نوبات الصرع والخوف الدائم من الجنون، هذا الجنون الذى حوّل عددًا من رواياته إلى "معرض للجنون" (كونكاس بوربا، طبيب الأمراض العقلية، إلخ.).
ابتعد ماشادو بنفسه عن الصراعات السياسية. ورغم أنه كان خلاسيًّا، لم يشارك فى الحملة المناهضة للرقّ، وإنْ كان قد احتفل بإلغاء الرق (1888)، ولم يحفل بالتطورات السياسية التى انتهت إلى سقوط الإمپراطورية (1889)، غير أن ماشادو ركز جهده فى خدمة اللغة كأساس للوحدة الثقافية لبلاده التى منحها آثارًا أدبية خالدة وفى إنشاء الأكاديمية البرازيلية للآداب التى أصبح رئيسًا لها كما أصبح العميد المعترف به لأدباء البرازيل.
أحبّ ماشادو أعمال سويفت، ستيرن، مارك توين، وقبل كل شيء تريسترام شاندى (رواية ستيرن)، وكان يمقت الطبيعيِّين و إميل زولا النجم الصاعد فى سماء الأدب آنذاك.
تقع أعمال ماشادو ده أسيس فى 31 مجلدًا غير أن شهرته تقوم على رواياته الثلاث: مذكرات براس كوباس بعد وفاته (1880)، كونكاس بوربا (1891)، دون كازمورّو (1900). وبهذه الروايات وبأعمال نثرية وشعرية أخرى حقق ماشادو مكانته المرموقة فى الأدب البرازيلى والعالمى، ويصفه خوسيه لويس مارتنيث، الناقد المكسيكى، بأنه "الشخصية البارزة للآداب البرازيلية" ويعده "واحدًا من كبار القصاصين العالميِّين"، ويقول عنه دَدْلى فيتس: "كان ماشادو ده أسيس قوة أدبية تتجاوز القومية واللغة، تضارع دون شك فلوبير، أو هاردى، أو چيمس"، ويصفه د. شاكر مصطفى بأنه: "رأس الكلاسيكيِّين الخالدين فى أدب البرازيل" ويضيف: "وكما يرتبط اسم "غوته" فى أذهاننا بالقمم التى تسنّمها الأدب الألمانى على جبل الأولمپ، وكما يثير فى أذهاننا اسم "شكسبير" روائع الأدب الإنجليزى، يرتبط الأدب البرازيلى، فى تاريخ انبثاقه وقوته، باسم ده أسيس"، ويقول عنه روچيه باستيد فى مقدمته لرواية كينكاس بوربا: "ليس فى الأدب البرازيلى، بين الاتجاه الباروكى فى القرن السابع عشر والاتجاه الحديث فى القرن العشرين، فترة كلاسيكية كما فى معظم الآداب الأوروپية. غير أن هناك كاتبًا كلاسيكيًا شاءت المعجزة أن يكون واحدًا لا ثانى له" ويضيف مشيرًا إلى تعريف ﻟ أندريه چيد للكلاسيكية: "ما من كاتب يمكن أن يُعَدّ كلاسيكيًا أكثر من ماشادو ده أسيس"، ويقول عنه وليم ﻟ. جروسمان أحد مترجميه إلى الإنجليزية: "ربما كان الكاتب المتحرر من الأوهام بصورة كاملة فى الأدب الغربى"، ويؤكّد والْدو فرانك فى مقدمته للترجمة الإنجليزية لرواية دون كازمورّو، رائعة ماشادو ده أسيس، أنه كان رائدًا للعالم الروائى الذى ألفناه عند مارسيل بروست و فرانتس كافكا: "الإبهام كجوهر للحياة الإنسانية".
هذه الرواية القصيرة التى رأينا أن ننشرها الآن بالاسم الأصلى: "طبيب الأمراض العقلية"، بعد أن سبق أن نشرناها باسم "السراية الخضراء"، نُشرت بالپرتغالية لأول مرة ضمن مجموعة قصصية فى 1882. وفى هذه الرواية (هذه الأنتى-يوتوپيا أو الديستوپيا) القصيرة نلتقى بالجريمة النظرية كأساس لرواية وبالتالى لرؤية للحياة، ليس كما يطبقها شاب صغير لا حول له ولا قوة يريد أن ينقذ بجريمة واحدة وحيدة هى قتل مرابية عجوز ("إذا جاز أن تُسمَّى جريمة!") حياة إنسان عظيم فى تقديره لنفسه لا ينقصه سوى أن يتخطى عقبة بؤسه الراهن بثروة يحصل عليها فى الحال (راسكولنيوكوڤ)، بل كما يطبقها سيمون باكامارته، طبيب الأمراض العقلية الرهيب، المؤيَّد من كل سلطة قائمة، ليمارس على البشر، كل البشر الواقعين داخل نطاق سلطاته، نظريته الأولى ثم نظريته الثانية المناقضة تمامًا للأولى عن الجنون، بكل إخلاص العالم لفكرته وباستبعاد أو سحق كلّ دور لهؤلاء البشر فى تقرير حياتهم ومصيرهم، والنتيجة: شقاء البشر فى ظلّ استبداد من نوع أو آخر. وطوال القرن العشرين، سيخرج سيمون باكامارته الرهيب، الذى أبدعه ماشادو فى 1882، من سجن الرواية القصيرة إلى العالم الحقيقى، عالم البشر، ومن بلدة "إتاجواى" الصغيرة فى البرازيل إلى مساحات شاسعة فوق الكرة الأرضية ليحقق نظرية هنا من وراء قناع، ونظرية أخرى هناك من وراء قناع آخر، ونظريات عديدة فى مكان واحد مع تغيير الأقنعة، لتصل مأساة الجريمة النظرية، التى ربما كانت إطارًا عامًا لحياة الإنسان منذ فجر التاريخ (البشر بوصفهم موضوعًا للتاريخ وأيضًا: فئرانًا لتجاربه الجماعية)، إلى أبعاد ومستويات لم تخطر من قبل على بال بشر.

المصادر:
* مقدمة والْدو فرانك للترجمة الإنجليزية لرواية دون كازمورّو، نيويورك، 1953.
* مجموعة قصص قصيرة (بالإنجليزية) من أمريكا اللاتينية بعنوان "عين القلب" نيويورك، 1974.
* مقدمة روچيه باستيد لرواية كونكاس بوربا، ترجمة سامى الدروبى، دار دمشق للطباعة والنشر، 1963 (العدد 6 من سلسلة روائع الأدب الغربى).
* أدب البرازيل للدكتور شاكر مصطفى؛ سلسلة عالم المعرفة الكويتية "101 (1986)".
* أدب أمريكا اللاتينية؛ جزءان، ترجمة أحمد حسان عبد الواحد؛ سلسلة عالم المعرفة الكويتية "116 (1987)، 122 (1988)".




كلمة الغلاف

فى هذه الرواية القصيرة نلتقى بالجريمة النظرية كأساس لرواية وبالتالى لرؤية للحياة، ليس كما يطبقها سيمون باكامارته، طبيب الأمراض العقلية الرهيب، المؤيَّد من كل سلطة قائمة، ليمارس على البشر، كل البشر الواقعين داخل نطاق سلطاته، نظريته الأولى ثم نظريته الثانية المناقضة تمامًا للأولى عن الجنون، بكل إخلاص العالم لفكرته وباستبعاد أو سحق كلّ دور لهؤلاء البشر فى تقرير حياتهم ومصيرهم، والنتيجة: شقاء البشر فى ظلّ استبداد من نوع أو آخر. وطوال القرن العشرين، سيخرج سيمون باكامارته الرهيب، الذى أبدعه ماشادو فى 1882، من سجن الرواية القصيرة إلى العالم الحقيقى، عالم البشر، ومن بلدة "إتاجواى" الصغيرة فى البرازيل إلى مساحات شاسعة فوق الكرة الأرضية ليحقق نظرية هنا من وراء قناع، ونظرية أخرى هناك من وراء قناع آخر، ونظريات عديدة فى مكان واحد مع تغيير الأقنعة، لتصل مأساة الجريمة النظرية، التى ربما كانت إطارًا عامًا لحياة الإنسان منذ فجر التاريخ (البشر بوصفهم موضوعًا للتاريخ وأيضًا: فئرانًا لتجاربه الجماعية)، إلى أبعاد ومستويات لم تخطر من قبل على بال بشر.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سوريا: الطريق إلى الجحيم
- حدث 25 يناير 2011: ثورة أم ليست ثورة؟ (مفهوم مختلف للثورة ال ...
- قبل تشكيل حكومة هشام قنديل
- أثبتت فحوصى الطبية الأخيرة خلوّ جسمى من سرطان الكبد (لطمأنة ...
- احتمالات الصراع الحالى بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والإ ...
- ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الثانى
- ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الأول
- هل يتمخض الربيع العربى عن تأسيس دول إسلامية؟
- الانقلاب العسكرى المكمِّل
- كلمات فى عشية جولة إعادة الانتخابات الرئاسية فى مصر
- محاكمة ثورية للرئيس مبارك وأسرته ورجاله وإلغاء الانتخابات ال ...
- مع متاهات أرقام الانتخابات فى مصر
- مأتم ديمقراطية المجلس العسكرى والإخوان المسلمين فجر الديمقرا ...
- أساطير الجبال والغابات - برنار كلاﭭيل
- هاجس الحرب الأهلية فى مصر
- أساطير البحيرات والأنهار - برنار كلاڤيل
- أضأل امرأة فى العالم - كلاريس ليسپكتور
- أسطورة الفترة الانتقالية وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مص ...
- مقالات مترجمة فى الفن التشكيلى
- أساطير البحر - برنار كلاڤيل


المزيد.....




- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - طبيب الأمراض العقلية - ماشادو ده أسيس