أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - الأساطير والميثولوچيات السياسية(1) راؤول چيرارديه عرض: خليل كلفت















المزيد.....


الأساطير والميثولوچيات السياسية(1) راؤول چيرارديه عرض: خليل كلفت


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3899 - 2012 / 11 / 2 - 08:27
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


(مجلة العربى الكويتية العدد 423 فبراير 1994)
المؤلف هو راؤول چيرارديه Raoul Girardet أستاذ التاريخ المعاصر فى معهد الدراسات السياسية بپاريس وقد أصدر قبل هذا الكتاب العديد من المؤلفات، منها "النزعة القومية الفرنسية 1871- 1914"، و"فكرة الاستعمار فى فرنسا 1871- 1962". والكتاب هو الأساطير والميثولوچيات السياسية Mythes et mythologies politiques، الذى يقدم بحثا من نوع جديد وفريد: الميثولوچيات السياسية بمجموعات أساطيرها فى فرنسا خلال القرنين الأخيرين: التاسع عشر والعشرين.
ويستعرض المؤلف "ثيمات" thèmesوأساطير كتابه من خلال توثيق "اقتباس" واسع النطاق من أعمال الأدباء والمؤرخين والفلاسفة الفرنسيين طوال القرنين.
من تاريخ الأفكار السياسية إلى عالم الخيال السياسي
تمهيدا لإيضاح الفكرة الرئيسية لكتابه يسجل راؤول چيرارديه أن المؤلفات الكثيرة التى يجرى تأليفها منذ أجيال عديدة فى إطار ما يسمى "بتاريخ الأفكار السياسية" تحصر استكشافها، باستثناءات قليلة وحديثة جدا، فى "مجال الفكر المنظم، المصوغ صياغة عقلانية، والمتسلسل منطقيا، دون سواه" والمقصود بسواه هنا هو على وجه التحديد: عالم الخيال l’imaginaire.
ويرى المؤلف أن هذا النهج مفهوم ومشروع فهو "متوارث عن تلك الأولوية التى توليها الحضارة الغربية، منذ ثلاثة قرون تقريبا، لما هو عقلى: فقط فى إطار المواجهة بين المذاهب، فى إطار اشتباك أو تصادم ‘الأنساق الفكرية‘ يتم إدراك وفهم المناظرات الكبرى التى تجابهت فيها تاريخيا الرؤى المتعارضة لمصير الأمم". ولا يجادل المؤلف فى مشروعية هذا النهج ولا يرغب بحال من الأحوال فى إعادة النظر فيه فهو النهج السائد على كل حال فى تاريخ الأدب، أو تاريخ الفن، أو تاريخ العلوم. ويتمثل الهدف الجوهرى للكتاب فى توسيع مجال ما يسمى بتاريخ الأفكار السياسية ليمتد فيشمل عالم الخيال، فالكتاب إذن محاولة لاستكشاف شكل بذاته من أشكال عالم الخيال هو فى حالتنا عالم الخيال السياسى، بدلا من الحالة الراهنة التى يصفها المؤلف كما يلى: "الواقع أن كل ما يستعصى على الصياغات الجازمة، كل ما ينبع من الأعماق الخفية للقوى الحلمية، يظل مستبعدا فى منطقة ظِلٍّ يندر حقا من يجرؤ على التوغل فيها. وقلما يؤخذ الحلم فى الاعتبار إلا حينما يتم التعبير عنه فى الشكل التقليدى الذى يُتفق على تسميته باليوتوپيا، أى نوع أدبى محدد تماما، له غايات تعليمية مؤكدة بوضوح، يخضع لترتيب صارم فى العرض، ويسهل فهمه بالذكاء المنطقى وحده".
ويشدد المؤلف على "التأثير التاريخى" للأفكار السياسية وخاصة "لعدد من المؤلفات السياسية العظيمة" مثل مؤلفات لوك، أو روسو، أو مونتسكيو، أو ماركس، فلولا هذه المؤلفات لما كانت مجتمعات أواخر القرن العشرين بصورتها الراهنة.
غير أن هذا لا يمكن أن يستبعد "التأثير التاريخى" لعالم الخيال السياسى، للأحلام الجمعية والمخاوف الجمعية، للأساطير والميثولوچيات السياسية. والواقع أن الاضطرابات السياسية خلال القرنين الأخيرين من التاريخ الأوروپى كانت مصحوبة بفوران ميثولوچى مذهل: فضح لمؤامرة شريرة ترمى إلى إخضاع الشعوب لسيطرة قوى غامضة ولعينة؛ تصورات عن عصر ذهبى مفقود يجدر بنا أن نستعيد نعيمه أو ثورة منقذة تتيح للبشرية أن تدخل الطور النهائى لتاريخها وتكفل أن يسود العدل إلى الأبد؛ تطلُّع إلى الزعيم المنقذ، مُصلح النظام أو القائد المظفر لعهد جديد من العظمة الجماعية، إلخ. إلخ. إلخ..
وهناك أيضا حقيقة أن بعض هذه "الثيمات" ماثلة "فى خلفية بعض المذاهب العقائدية الكبرى للقرن الماضى، بما فيها تلك التى تستند بكل قوتها إلى دقتها فى البرهنة وإلى الطابع ‘العلمي‘ بصفة جوهرية لفرضياتها"، غير أن الألفيات الثورية، ونزعات الحنين إلى الماضى، وعبادة الزعيم الملهم، والهواجس الشريرة، يمكن أن تتخذ الشكل المباشر للأسطورة: "وعندئذ تفرض الأسطورة نفسها بكل استقلالها، فتتشكل فى نسق متماسك وكامل من المعتقدات. وفى هذه الأحوال، لا تعود الأسطورة تستند إلى أية شرعية أخرى سوى شرعية مجرد تأكيدها، ولا إلى أى منطق آخر سوى منطق انتشارها الحر".
ويأخذ الكتاب على عاتقه مهمة دراسة حالة فرنسا خلال القرنين المذكورين من حيث الأساطير السياسية انطلاقا من تصورات بذاتها عن ثيمات الأساطير السياسية وحلول بذاتها لإشكاليات هذه الأساطير. وهكذا تتبلور كموضوعات للبحث والتأمل أربع "كوكبات ميثولوچية" أى أربع مجموعات أبنية ميثولوچية تنتمى كل مجموعة منها إلى ثيمة محورية وتنتظم حول نواة مركزية، وهذه الكوكبات أو المجموعات الميثولوچية الأربع الكبرى هى: المؤامرة، المخلِّص، العصر الذهبى، الوحدة.
الأسطورة السياسية
والأسطورة عند علماء الأنثروبولوچيا تتمثل فى سرد يتعلق بالماضى ("فى سالف العصر والأوان.."، "كان يا ما كان..")؛ "لكنه يحتفظ فى الحاضر بقيمة تفسيرية بالغة الأهمية بقدر ما يوضح ويعلل بعض الانقلابات فى مصير الإنسان أو فى بعض أشكال التنظيم الاجتماعى". وينقل المؤلف عن ميرسيا إلياد قوله: "تروى الأسطورة تاريخا مقدسا، إنها تسرد واقعة جرت فى الزمن السحيق القدم، زمن البدايات الخرافى. وبعبارة أخرى، تروى الأسطورة كيف جاء واقع ما إلى الوجود سواء أكان هذا الواقع كليا، الكون، أم مجرد جزء ليس إلا: جزيرة، نوع من النبات، سلوك إنسانى، مؤسسة". وعند آخرين، يختلط مفهوم الأسطورة بمفهوم الخداع، ذلك أن الأسطورة - باعتبارها وَهْما أو توهما أو تهويما - تُبَدِّل معطيات الملاحظة التجريبية وتتعارض مع قواعد الاستدلال المنطقى، وبهذا تقوم كحاجز بين حقيقة الوقائع ومقتضيات المعرفة. وعند آخرين غيرهم، هم قراء چورچ سوريل "تمثل الأسطورة نداء إلى الحركة، وحثًّا على العمل، وهى تبدو فى نهاية المطاف حافزا لطاقات ذات قوة استثنائية".
وهذه الأبعاد الثلاثة لكل أسطورة بوجه عام نجدها ماثلة كذلك فى كل أسطورة سياسية. "حقا إن الأسطورة السياسية تلفيق، أو تشويه أو تفسير للواقع يمكن الطعن فيه موضوعيا. غير أن من الصحيح أنها، كسرد خرافى، تؤدى أيضا وظيفة تفسيرية، فتقدم عددا من المفاتيح لفهم الحاضر، وتشكل شفرة رموز يمكن للفوضى المحيرة للوقائع والأحداث أن تبدو متسقة من خلالها. كما أن من الصحيح كذلك أن هذا الدور التفسيرى يتضاعف بدور تعبوى: بفضل كل ما تقوم بتوصيله من دينامية نبوئية، تشغل الأسطورة مكانا رئيسيا بين أسباب الحملات الصليبية وكذلك بين أسباب الثورات".
بين سيولة ومنطق الخطاب الأسطورى
والأسطورة، كالحلم، لا يمكن حصرها أو تحديدها أو حبسها داخل حدود صارمة، فذلك لا يؤدى إلا إلى تشويه الأسطورة وإفقارها وبترها وتجريدها من ثرائها وتعقيدها. كما أن من الجهل التام، كما يقول كلود ليڤي-ستروس أن نحاول أن نطبق على دراسة "الواقع الأسطورى" مبادئ "التحليل الديكارتى".
وهذه السيولة الجوهرية للأسطورة بوجه عام هى أيضا سمة أكيدة للأسطورة السياسية التى تتميز ثيماتها بشبكة مرهفة وقوية من الصلات التكاملية: "فالحنين إلى الماضى إلى العصور الذهبية المنصرمة يصبّ عادة فى الانتظار والتبشير النبوئى ببعث تلك العصور. وبالمقابل فمن النادر حقا ألا تقوم الحركات الخلاصية الثورية بإثراء رؤيتها للمستقبل بصُور أو إحالات مستقاة من الماضى. ومن جهة أخرى فسرعان ما يتم قطع الخطوة الفاصلة بين فضح المؤامرات الشريرة والتطلع إلى نداء المخلّص، إلى الزعيم المنقذ، ذلك الذى تنتظره مهمة تخليص الأمة من القوى الشريرة التى تريد بسط سيطرتها عليها".
على أن الصلات بين ثيمات الأساطير السياسية لا تتمثل فى صلات التكامل فحسب، فهناك فى كثير من الأحيان صلات تناقض. وليس بين مستكشفى عالم الخيال من يفوته الإلحاح على هذا الجدل بين الأضداد، فالأسطورة مزدوجة كما توضح سلسلة من الأعمال الرائعة التى كرسها جاستون باشلار للتمثيلات السيكولوچية للعناصر الطبيعية الكبرى: "فالبيت حلم المأوى، والتلاقى، والأمان، يمكن أن يغدو صورة الزنزانة، ورمز الاضطهاد فى السجن، ورمز الدفن، وحتى رمز القبر. و‘ثيمة‘ المغارة يمكن أن تكون مُحمَّلة بالرعب كما يمكن أن تكون مُحمَّلة بالروعة. والثعبان هو فى آن واحد موضوع تقزُّز، ووعد خصوبة، وأداة إغواء. والجذر الذى يمتصّ عصارات الأرض ليحملها نحو السماء، لكنْ الذى ينمو إلى أسفل نحو مملكة الموتى تحت الأرض، يُفْهَم فى آن واحد كقوة حياة وقوة ظلام".
والأسطورة السياسية لا تخرج عن هذه القاعدة، قاعدة انقلاب الأسطورة إلى العكس.
وثيمة المؤامرة ذاتها لا تكون مصحوبة بالضرورة بالدلالات السلبية وحدها: صورة المكيدة الشيطانية تقابلها تلك الخاصة بالمؤامرة المقدسة. وإذا كان هناك ظلام يهدد فهناك أيضا ظلام يحمى وكثيرا ما يمارس "أبناء النور" نضالهم فى الليل. والمكيدة وحدها هى القادرة على إحباط المكيدة. وهكذا فإن السرّ، والقناع، وقَسَم التكريس، وجماعة المؤتمَنين، والمساعى الخفية، وباختصار كل ما يشجبه الآخر ويفزع منه، ينقلب فجأة ويكتسب عند هذا الآخر جاذبية مظلمة وطاغية.
والقرين الخرافى الذى يصاحب دائما تقريبا وجود أو ذكرى البطل التاريخى شاهد على ظاهرة مماثلة. إن الإجلال أو اللعن يتغذيان على نفس الوقائع، وينموان انطلاقا من نفس الحبكة. وبين صورة ناپليون العظيم وصورة غول كورسيكا لا تعارُض سوى فى زاوية الرؤية. وسواء أكان مكلَّلا بهالة المجد أم بسُحُب عاصفة مكفهرة فإننا نعثر فى نهاية المطاف على نفس الوجه الواحد. إن غرابة الأصول، وسرعة الصعود، والإرادة المسيطرة، وطبيعة الانتصارات، وضخامة الكوارث، إن كل ما يساهم - فى حالة - فى صنع صورة العظمة، يشكل - فى الحالة الأخرى - وصمة العار.
وفيما وراء سيولة الخطاب الأسطورى وازدواجه، هناك منطق للخطاب الأسطورى. فكما أن الصور التى تفرزها أحلامنا تخضع لقوانين بذاتها للتكرار والتداعى "يبدو أن الآليات التوليفية للخيال الجمعى لا تملك تحت تصرفها سوى عدد محدود نسبيا من الصيغ". هناك إذن، على حد تعبير كلود ليڤي-ستروس، "نحو" syntaxe للأسطورة، حيث تظهر عناصر بناء السرد الذى يتألف من سلسلة أو توليفة من الصور "مجمَّعة فى مجموعات متماثلة، ومنتظمة فى تداعيات ثابتة"... وهكذا فإن "ثيمة" المخلِّص، الزعيم مبعوث العناية الإلهية، ستظهر مرتبطة دائما برموز تطهيرية: البطل المنقذ هو الذى يُخلِّص، ويحطم القيود، ويصرع الغيلان، ويجبر القوى الشريرة على التقهقر. كما أنه مرتبط دوما بصُوَر مشرقة متألقة - الذهب، الشمس الصاعدة، بريق النظر؛ وبصُوَر عمودية - السيف، الصولجان، الشجرة المعمرة مائة سنة، الجبل المقدس. كذلك فإن "ثيمة" المؤامرة الشريرة ترد مُحالة إلى نسق رمزى خاص بالدنس: المتآمر يترعرع فى الأماكن النتنة، ومثل الحيوانات النجسة، يزحف ويندسّ، وينفث السم والنجاسة...
ميثولوچيا المؤامرة
والمؤامرات الأسطورية التى استحوذت على عالم الخيال الجمعى الفرنسى خلال القرنين الأخيرين هى: المؤامرة اليهودية، المؤامرة اليسوعية، المؤامرة الماسونية.
والهدف النهائى لكل مؤامرة من هذه المؤامرات لا يقلّ عن السيطرة على العالم.
فاستنادا إلى "خطة منهجية" تهدف المؤامرة اليهودية إلى "غزو واستعباد الكرة الأرضية"... و"سيدور الصراع على المستوى الاقتصادى، والسياسى، والاجتماعى، والدينى. وستُستخدم كل الإستراتيچيات، تلك الخاصة بالمضاربة المالية وكذلك تلك الخاصة بالاستيلاء على السلطة الحكومية أو بالسيطرة على وسائل التعليم والإعلام".
أما الرهبانية اليسوعية ذات السلطة الهائلة والتى تعمل على بسط هيمنتها على العالم فقد أقامت شبكة هائلة من المراكز السرية للجاسوسية والتخريب فى مواقع لا حصر لها على الكرة الأرضية.
وهدف المؤامرة الماسونية "هو "التعجيل بدمار النظام الملكى والمسيحى القديم، والإعداد لقيام السيادة العالمية للحرية والمساواة" من خلال "خطة منظمة ومنهجية للتدمير" يستغرق تحقيقها عشرين سنة، وكان الأب بارويل - أحد أبرز مروجى هذه الأسطورة - يرى منذ 1797 أن "منشأ ومسار الثورة الفرنسية يمكن إرجاعهما من الناحية الجوهرية إلى مساعى الماسونية، وهى الوارثة لتراث طويل من الضغائن إزاء الملكية والكنيسة".
وهناك بطبيعة الحال أسس تاريخية موضوعية أكيدة لأساطير المؤامرة والتآمر مهما قامت هذه الأخيرة بتحريفها وتشويهها كما تفعل كل أسطورة. فلا أحد يجهل دور الماسونية خاصة فى تاريخ الجمهورية الثالثة (1870- 1940) كمجموعة ضغط سياسى وأداة للسيطرة الأيديولوچية. وتستند ثيمة المؤامرة اليسوعية إلى قيام بعض القساوسة والنبلاء، منذ عهد الإمبراطورية الأولى، بتأسيس مختلف الجمعيات السرية وغير السرية التى نذرت نفسها لقضية الثورة المضادة. وهناك، فيما يتعلق بالمؤامرة اليهودية، ردود الأفعال التى أثارها، خلال القرن 19، لدى بعض أقسام الرأى العام الفرنسى، التحرير المفاجئ للطوائف اليهودية وازدياد أعداد ممثليهم فى قطاعات مهمة فى الحياة الاقتصادية أو الفكرية أو المدنية.
وبدون هذا الاستعداد العام لتلقِّى أساطير المؤامرة، بفضل وجود شفرة رموز محفورة سلفا فى معايير عالم الخيال فى صفوف قطاعات واسعة من الرأى العام، ما كان بوسع مروِّجى هذه الأساطير أو مستغليها لأهدافهم أن يجدوا فرصة للتأثير الفعال للرسالة المراد نقلها. "وهكذا فحتى أولئك الذين يريدون التلاعب بعالم الخيال مرغمون على الخضوع لمقتضياته. إن الأسطورة توجد بصورة مستقلة عن مستغليها المحتملين؛ إنها تفرض نفسها عليهم أكثر كثيرا مما يساهمون هم فى تشكيلها".
ميثولوچيا المخلِّص (المنقذ)
أو مبعوث العناية الإلهية
على مدى قرابة قرنين من الزمان يُدوِّى فى تاريخ فرنسا بلا انقطاع صوت الاستغاثة بالمخلِّص. ومن ناپليون بوناپرت إلى پيتان وديجول، مرورا ببولانچيه أو پوانكاريه أو دوميرج، تتشكل كوكبة بذاتها من الصُور حول شخصية موهوبة. إن المسألة تتعلق هنا إذن "بالظهور المفاجئ لمخلّص على رأس السلطة، لبطل يستأثر بكل حرارة الأمل الجمعى".
ويستقصى راؤول چيرارديه أربعة نماذج لهؤلاء المنقذين أو المخلصين، وهى نماذج قد تتطابق أو تتراكب غير أنها قابلة أيضا للعزل والفصل والتعريف المستقل.
فنموذج سينسيناتوس (وهو رومانى اشتهر بالبساطة والزهد، تولى منصب الحاكم المطلق مرتين ثم عاد فى نهاية المطاف إلى محراثه) هو نموذج رجل الدولة الذى تتمثل مهمته فى الطمأنة والحماية والإصلاح والاستقرار، وينعكس هذا النموذج الأصلى فى نماذجه الجديدة الفرنسية فى السيرة الأسطورية لكل من دوميرج 1934 وپيتان 1940.
ونموذج الإسكندر هو نموذج القائد الشاب، المغامر الجسور، المتقد الحماس، المندفع إلى المجد، والذى يشق طريقه عبر التاريخ بسرعة برق خاطف. وصورة ناپليون الشاب ضمن الأسطورة الناپليونية هى التجسيد الحديث لهذا النموذج الأصلى الذى ينتمى إليه أيضا "الرأس الذهبى" بطل القصيدة الدرامية الطويلة بهذا العنوان لپول كلوديل.
والنموذج الأصلى الذى يمثله صولون المشرِّع هو نموذج ناپليون باعتباره المشرِّع المؤسِّس لنظام جديد من المؤسسات، والماريشال پيتان، المؤسِّس "لنظام جديد"، والچنرال ديجول فى 1958 "وهو يرسى مبادئ وقواعد جمهورية جديدة" (الجمهورية الخامسة).
أما نموذج موسى، النموذج الأصلى للنبى، المبشِّر بأزمنة قادمة، المدفوع بدافع مقدس، القائد لشعبه على دروب المستقبل، فهو نموذج ناپليون السيرة الناپليونية فى سانت هيلانه وهو يعلن من هناك "تحرير الشعوب والقوميات"، وهو نموذج الچنرال ديجول، على الأقلّ كما يراه أندريه مالرو بعد وفاته.
ميثولوچيا العصر الذهبي
تُحيل أساطير العصر الذهبى دوما إلى "أيام زمان" وهى أزمنة عاشها الناس فعلا قبل أن يحلموا بها، فهى باقية فى ذاكرة الجماعة المعنية وكذلك فى الذاكرة الفردية. غير أن هناك ماضيا يتعلق بما يُعرف بذاكرة التاريخ. والماضى الذى تشير إليه "أيام زمان" هذه لم يُعرف قط بصفة مباشرة، غير أن ظهوره خارج الزمن المنقضى يمنحه قوة إضافية على قوته كنموذج وقوته كنموذج أصلى.
وفى مواجهة صورة حاضر يسود الإحساس بأنه لحظة انحطاط، يقف المطلق المتمثل فى ماض من الكمال والضياء. وتتبلور حول تصوُّر "أيام زمان" كل الاندفاعات، كل قوى الحلم، وتتحول إلى أسطورة.
فنحن إذن إزاء صُور لماض تحوَّل إلى أسطورة، ورؤًى لحاضر أو مستقبل وفقا لما كان، أو لما يُفترض أنه كان، فى الماضى. ولن يكون سوى تاريخ مبتور للغاية للأيديولوچيات الفرنسية ذلك الذى يحجب وجود هذه الصور، أو ينسى وفرة هذه التصورات، أو يهمل سلطانها على الأرواح والقلوب.
ويشير چيرارديه إلى ذلك التأرجح الدائم الأليم الذى يميز ميثولوچيات العصر الذهبى جميعا "بين العجز عن إعادة تشكيل ما كان وبين قوة الرجاء الذى تحتفظ به الذكرى على الدوام".
ومن هنا تلك النداءات التى لا تُحصى - الدائمة فى مجرى الحياة السياسية الفرنسية والقادمة من كافة الآفاق الأيديولوچية - إلى الصبّ من جديد فى الماضى، إلى العودة إلى الزمن المتسامى للبدايات.
والحقيقة أنه فى المجتمعات المسماة بالحديثة، حيث يسيطر إيقاع التغيير الذى يزداد سرعة بلا انقطاع، لا مناص من هذا الارتعاش الانفعالى، ذى الطابع الجمالى والعاطفى فى وقت واحد، والذى يتشبث بالبقايا والأنقاض المستعادة من ماض ما يزال قريبا للغاية. ونجد ثيمة "العودة إلى العصور الوسطى" ماثلة، خاصة فى فترة ما بين الحربين، فى خلفية كافة الأبحاث التى تطمح إلى تحديد نمط للمجتمع يرفض فى وقت واحد مبادئ الفردية الليبرالية ومبادئ الدولة الاستبدادية الشمولية.
ميثولوچيا الوحدة
ومع العصر الحديث، مع اتجاه الروح الاجتماعية إلى الانفجار إلى شظايا، وتآكل التضامنات السابقة، وتدهور الأشكال القديمة للحياة الجماعية، تتسع الهوة بلا انقطاع بين مختلف المجموعات الاجتماعية، وتنغلق كل مجموعة منها على نفسها، وعلى مصالحها، وعلى آرائها المسبقة، وعلى أساليب حياتها وفكرها، وتأتى التغيرات التى تقلب أوضاع الأشكال التقليدية للعمل البشرى، فى اتجاه قدوم حضارة تقنية جديدة لا يكون فيها الشغيل سوى مجرد ترس منعزل. وإلى جانب ذلك هناك "الفجوة المتزايدة العمق، والقائمة منذ قدوم عصر التنوير، بين ما يتعلق بنسق المعرفة العلمية وما يتعلق بعالم صبوات الإيمان"، ويسود "شعور قوى بالتوجس إزاء المجابهة المحتومة بين نسقيْن محدديْن ومتعارضيْن من القيم سرعان ما يتجسدان فى كنيستيْن، كنيسة العلماء وكنيسة الكهنة، تدّعى كل منهما العصمة المطلقة".
ويغدو الشغل الشاغل هو ذلك المتعلق بوحدة ينبغى استعادتها، وبتوازن ينبغى إحياؤه، على صعيد الأخلاق الفردية وكذلك على صعيد الوعى الجمعى، فى قلب الإنسان وكذلك على مستوى مؤسسات الدولة. ويظلّ فى نهاية المطاف نفس الوسواس الخاص بفجوة ينبغى ردمها، بانقسام ينبغى تفاديه، بتناقض ينبغى التغلب عليه.
ورغم أن صيحة بوسويه: "الحياة هى الوحدة، الموت أكيد خارج الوحدة" لا ترتفع وحدها فوق الساحة بل تردّ عليها صيحة بنچامان كونستان: "التنوع هو الحياة، التماثل هو الموت"، فإن التمزق القائم يظلّ يدفع الرأى العام والمفكرين، من چان چاك روسو إلى سان سيمون وأوجوست كونت وميشيليه وغيرهم، نحو ثيمة الوحدة التى تتبلور حولها ميثولوچيا كاملة تتشعب ثيماتها وتتعدد أساطيرها. وتبرز ثيمات المشاركة والمائدة والأعياد الثورية والاحتفالات الاتحادية والحماس الجماعى والجبرية الجغرافية التى تشكل الأمة الفرنسية والتى ترفع تأكيد الوحدة الفرنسية إلى مستوى ضرورة الرمز الهندسى ولازمنيته. وتتبلور مجموعتان من القوى المتناقضة: قوى الخير وهى قوى التلاقى والتجمع والتلاحم، وقوى الشر وهى قوى التبعثر والتفرق والتفكك.
على أن هذا البحث المفعم بالحماس المشترك، بكل تلك القوة وبكل ذلك الشمول، انتهى إلى التوالد المتعارض للعقائد، وقوانين الإيمان، والكنائس. وانقلب حلم الاتحاد ضد نفسه. وربما من هنا هذه الكثافة فى البحث عنه، وهذا الإصرار المؤثر على نداءاته.
العرب والأساطير السياسية
بعد أن استعرضنا بإيجاز شديد الخطوط الرئيسية لكتاب الأساطير والميثولوچيات السياسية يحقّ لنا أن نتساءل عن مغزى قراءة مثل هذا الكتاب بالنسبة لنا: هل هناك مغزى يخصُّنا نحن العرب فيما وراء القيمة التى لا جدال فيها لمعرفة حاضر أو تاريخ فرنسا؟ وبعبارة أخرى: هل هناك وجود لأساطير سياسية تناظر الأساطير السياسية الفرنسية فى ثقافتنا الراهنة، بكل ما يعنيه وجودها المحتمل من أبعاد التحريف والتفسير والتعبئة كما سبق أن رأينا؟.
وبطبيعة الحال، ليس هنا مجال مثل هذه المناقشة. ولهذا سنكتفى بالإشارة إلى رأى كاتب فرنسى آخر، وهو المستعرب ريشار چاكمون. ففى مقدمته لترجمته الفرنسية لمجموعة من مقالات الدكتور فؤاد زكريا، بعنوان: "علمانية أم إسلامية - العرب فى ساعة الاختيار"، يشير الأستاذ چاكمون إلى النزوع إلى الانطواء على النفس ورفض الآخر لدى ثقافة عربية-إسلامية عاجزة عن تجاوز الميثولوچيا السياسية الأصلية للعصر الذهبى، والمؤامرة، والوحدة، والمخلّص "المنقذ"، ويُحيل فى الهامش إلى كتاب راؤول چيرارديه الذى أتينا على عرضه منذ قليل، مُوحيا بذلك بانطباق مبدأ ونظرية الأساطير والميثولوچيات السياسية، بنفس ثيماتها ومجموعاتها الأربع الكبرى، فيما يتعلق بثقافة عربية-إسلامية راهنة، وهو انطباق ينبغى بحث مداه واستقصاء خصوصياته.
إشارة
1: عرض خليل كلفت لكتاب: Raoul Girardet, Mythes et mythologies politiques, Éditions du Seuil,1986 بمجلة العربى الكويتية العدد 423 فبراير 1994؛ وقد صدر الكتاب المذكور فيما بعد بالعربية: راؤول چيرارديه: الأساطير والميثولوچيات السياسية، ترجمة: خليل كلفت، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1995؛ والعرض منشور هنا كما كتبته وليس كما نُشر فى المجلة.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تفسير الرئيس المصرى الدكتور محمد مرسى لآية الله والعلماء
- زيارة جديدة إلى -مزرعة الحيوانات- رواية -مزرعة الحيوانات- چو ...
- عوالم عديدة مفقودة
- الشرف والغضب لا يكفيان [مراجعة لكتاب: نعوم تشومسكى:-الحيلولة ...
- الكتب معرفة ومتعة - الجزء الأول
- حول الأسلوب فى السينما - أندريه بازان
- جنوب أفريقيا عصر مابعد سياسة الفصل العنصرى (الأپارتهيد)
- إلا الرسول الكريم
- هل انتصرت الثورة المضادة فى مصر؟
- حروب القرن الحادي والعشرين مخاوف وأخطار جديدة
- بورخيس - كاتب على الحافة
- عالم جديد - الجزء الرابع - فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الثالث- فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الثاني - فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الأول - فيديريكو مايور
- بدلا من صَوْمَلَة سيناء
- طبيب الأمراض العقلية - ماشادو ده أسيس
- سوريا: الطريق إلى الجحيم
- حدث 25 يناير 2011: ثورة أم ليست ثورة؟ (مفهوم مختلف للثورة ال ...
- قبل تشكيل حكومة هشام قنديل


المزيد.....




- بعيدا عن الكاميرا.. بايدن يتحدث عن السعودية والدول العربية و ...
- دراسة تحذر من خطر صحي ينجم عن تناول الإيبوبروفين بكثرة
- منعطفٌ إلى الأبد
- خبير عسكري: لندن وواشنطن تجندان إرهاببين عبر قناة -صوت خراسا ...
- -متحرش بالنساء-.. شاهدات عيان يكشفن معلومات جديدة عن أحد إره ...
- تتشاركان برأسين وقلبين.. زواج أشهر توأم ملتصق في العالم (صور ...
- حريق ضخم يلتهم مبنى شاهقا في البرازيل (فيديو)
- الدفاعات الروسية تسقط 15 صاروخا أوكرانيا استهدفت بيلغورود
- اغتيال زعيم يكره القهوة برصاصة صدئة!
- زاخاروفا: صمت مجلس أوروبا على هجوم -كروكوس- الإرهابي وصمة عا ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - الأساطير والميثولوچيات السياسية(1) راؤول چيرارديه عرض: خليل كلفت