أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - موسم الهجرة إلى الشمال الراوي كيف يرى العالم؟















المزيد.....



موسم الهجرة إلى الشمال الراوي كيف يرى العالم؟


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3898 - 2012 / 11 / 1 - 00:44
المحور: الادب والفن
    


هل هو نقيض م. س. أم مكمله أم صورة عنه؟

يجب توضيح لمن لم يقرأ موسم الهجرة إلى الشمال، أن الراوي شخصية من شخصيات الرواية، وليس لسان حال الكاتب، يختفي الكاتب في ثوبه، ويجعله يقول ما يريد قوله، وبوصفه شخصية من شخصيات الرواية، أخذ بعدًا خاصًا به ككل الشخصيات الروائية، وساهم في التأثير علينا كمُروى لنا. لهذا سيضع تحليلنا البنيوي في اعتباره هذا البعد الخاص من بين أبعاد أخرى تشكل هوية كل شخصية روائية، وبكلام آخر الأهمية السردية –أهمية الروي أليسه راويًا؟- التي لا تنفصل هنا عن الأهمية الحدثية، لأنه فاعل للروي وفاعل للفعل، فنجمع بين غريماس وبروب، على اعتبار أن موسم الهجرة من الشمال نصًا حديثًا (رواية) ونصًا قديمًا (حكاية)، وهذه ناحية أخرى من نواحي النقد لا تتعلق بتحليلنا.

بناء على ما سبق، باعتبار أن الراوي شخصية من الشخصيات ذات أبعاد خاصة بها، سيكون في قلب الأفعال فاعلاً لها ومشاركًا فيها وبالتالي مؤثرًا فينا تبعًا لدوافع نفصلها كالتالي: بعد أن يعلن الراوي عن غرق م. س. (7)، مع أنه "يجيد السباحة" (ص 49)، يشككنا في غرقه، فنحسب أنه اختفى كي يذهب إلى "جبل آخر" (ص 28)، حسب تعبير لم. س. نفسه، يحط عنده الرحال، ويبدأ فصلاً آخر من فصول مغامراته، ومن هنا دافع الريبة، وبعد أن يقرن الراوي غياب م. س. ب "ليلة قائظة من ليالي شهر يوليو" (ص 49)، أي في الصيف الساخن بينما هو "جنوب يحن إلى الشمال والصقيع" (ص 34)، يتركنا ساهمين، ومن هنا دافع الغرابة، وكذلك بعد أن يقرن الراوي هذا الغياب بفيضان النيل "وكان النيل قد فاض ذلك العام أحد فيضاناته التي تحدث مرة كل عشرين أو ثلاثين عامًا" (ص 49)، يجعلنا نتساءل، ومن هنا دافع اللاعادية، حيث تصبح هذه الفيضانات "أساطير يحدث بها الآباء أبناءهم" (ص 49)، ليصبح م. س. في القرية –كما كان في لندن- التعبير عن كل هذا بنيويًا، وليأتي اختفاؤه تسويغًا للاعادية في حدث سيصبح من ذاكرة أهل القرية وخيالاتهم التي لن تتأخر عن إسباغ نهاية أو بداية لكل هذا عندما نقرأ: "أخلدوا إلى الرأي أنه لا بد قد مات غرقًا، وأن جثمانه قد استقر في بطون التماسيح التي يغص بها الماء في تلك المنطقة" (ص 50)، علمًا بأن هناك "جثثًا حملها الموج إلى الشاطئ... لم تكن بينها جثة مصطفى سعيد" (ص 50)، أي أن التماسيح قد اختارت ألذ جثة لأسنانها، ألا وهي جثة م. س.، هي دون غيرها، ويا للعجب! دافع الغرابة مرة ثانية. من هنا، يؤكد الراوي على اختفاء لاعادي، وموت لاعادي، ورأي لأهل القرية لاعادي، لتأكيد بالتالي أن: "مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقًا، وأنه فعلاً أكذوبة أو طيف أو حلم أو كابوس ألم بأهل القرية تلك ذات ليلة داكنة خانقة، ولما فتحوا أعينهم مع ضوء الشمس لم يروه" (ص 50)، وهو رأي للراوي لاعادي، دافع اللاعادية دومًا، لأن م. س.، وحسب النص، لم يفعل ما هو مشين للقرية، إذن لماذا يصبح كابوسًا لها؟ دافع الريبة من جديد. إن الراوي، كفاعل وكمشارك وكمؤثر، وبكل بساطة كشخصية روائية، لا يفعل سوى أن يقوم بدوره، من خلال كل هذه الإرهاصات، التي هي إرهاصاته بشكل من الأشكال، وذلك للإجابة على السؤال التالي: "هل كان من المحتمل أن يحدث لي ما حدث لمصطفى سعيد؟ قال أكذوبة، فهل أنا أيضًا أكذوبة؟" (ص 52). لندخل، عن طريق مباشر، في كنه تصوره الأخلاقي الأحادي للعالم، هذا التصور الخاص بسلسلة أفعاله ومواقفه كما سنرى، ولنكتشف تأرجحه بين صورة نقض ساذجة لم. س. أو منطبقة.

صورة نقض ساذجة لم. س.
بينما كان "الشمال" لم. س. يمثل "البلاد التي تموت من البرد حيتانها" أو "السراب البارد"، كما نفضل القول، يصبح "الشمال"، في حالة الراوي، شمالاً تأتي منه النسمات المنعشة المزيجة من رائحة الأرض والشجر: "... فمضيت أتسكع في شوارع البلد الضيقة المتعرجة، تلامس وجهي نسمات الليل الباردة التي تهب من الشمال محملة بالندى، محملة برائحة زهور الطلح وروث البهائم ورائحة الأرض التي رويت لتوها بالماء بعد ظمأ أيام، ورائحة قناديل الذرة في منتصف نضجها، وعبر أشجار الليمون" (ص 50-51).

صحيح إن أزقة البلد الضيقة المتعرجة تذكر بأزقة لندن، واختلاط الروائح فيها، وإن اختلفت، هي ذاتها في العاصمة الإنجليزية، أي أن هناك صورة واحدة لمكانين مختلفين، لكن الموقف منها هو الأهم، والموقف، في حالة الراوي، هو موقف دومًا أخلاقي أحادي، أمام الموقف اللاأخلاقي والأحادي لم. س.، فها هو عندما "يمر ببيت ود الريس... يسمع زوجته تصرخ باللذة، ويحس بالخجل لأنه اطلع على أمر لم يكن من حقه أن يطلع عليه" (ص 51). وكذلك "لم يكن يحق له أن يظل يقظًا يتسكع في شوارع البلد، وبقية الناس في أسرّتهم" (ص 51).

إنه ينطلق من موقف يبدو معارضًا لعادات أهل البلد وتقاليدهم (تسكعه، سماعه لصراخ اللذة، يقظته في الليل دون الناس) ولكنه يجعل من أثر هذه العادات والتقاليد أثرًا وجوديًا، فينوء بعبئها، لينتهي التعارض بين موقفه منها وموقفه فيها، بينما ظل عليها م. س. خارجًا، حتى ما بعد عودته، وهذا ما يفسر اختفاءه.

في التحليل البنيوي، شخصية الراوي وشخصية م. س. هما بالأحرى علاقتان حسب تودوروف، الأول علاقة ما هو أخلاقي في النص، والثاني ما هو لاأخلاقي، فتنتزع عنهما الصفة الأحادية التي هي موقف من الموقف، موقف الناقد بفكره العلمي من موقف المؤلف بفكره المثالي. لهذا سننظر إلى الشخصيتين كعلاقتين، أو، وهما في قلب الفعل، وسنحللهما دون فكرة مسبقة وحكم مسبق.

بناء على هذه النظرة المنهجية إلى الشخصية كعلاقة، يربط الراوي إحساسه بالخجل الذي "اعتراه حين سمع مناغاة ود الريس مع زوجته... (ب) تلك الصورة التي رسمها مصطفى سعيد... فخذان بيضاوان مفتوحتان" (ص 52)، أي أن تلك صورة "رذيلة" لم. س.، وما حدث للراوي كان صدفة. ومن ناحية أخرى، يحاول أن يُظهر نفسه مرتبطًا بجده ارتباطًا كليًا، وهذا هو المستوى الأعظم للموقف الأخلاقي، على عكس م. س. الذي يرى السر في "البساطة"، وذلك لما "يصل عند بيت جده، فيسمعه يتلو أوراده استعدادًا لصلاة الصبح. ألا ينام أبدًا؟ صوت جدي يصلي، كان آخر صوت أسمعه قبل أن أنام، وأول صوت أسمعه حين أستيقظ" (ص 52)، بمعنى أنه هو أيضًا، كجده، "لا ينام أبدًا"، وإلا كيف عرف بذلك؟ إنه الراوي، ولكنه الشخصية الحية، وكأن الروي هذا شرطه.

ويبتعد الراوي كعلاقة أكثر عندما يقول عن جده: "وهو على هذه الحال لا أدري كم من السنين، كأنه شيء ثابت وسط عالم متحرك" (ص 52)، أي أن الجد الضمير، والراوي البصيرة، البصيرة متحركة، والضمير ثابت، حتى أن البلد يصبح له صورة: "البلد الآن ليس معلقًا بين السماء والأرض، ولكنه ثابت، البيوت ثابتة" (ص 52) أي بعد لا ارتباط البلد بشيء (معلق بين الأرض والسماء) "يثبت" كالضمير الذي لا يتزعزع، فينقلنا بذلك من موقف لاحقيقي إلى موقف لاحقيقي، وكل ذلك ليبالغ من "أصالة" البلد، ومن "أصالته" مقابل "عدم أصالة" م. س.، وخاصة عندما يتساءل: "قال إنه أكذوبة، فهل أنا أيضًا أكذوبة؟" (ص 52). ليجيب الجواب القاطع: "إنني من هنا" (ص 52). وإذا ما اعترف دون أن يقصد بأنه "عاش معهم على السطح لا يحبهم ولا يكرههم" (ص 52)، نجده يضيف بشكل "قاطع" "كنت أطوي ضلوعي على هذه القرية الصغيرة، أراها بعين خيالي أينما التفت" (ص 52-53)، فها هو ينقلها معه، كشخصية، كعلاقة، أو فيه، ليلغي أنه "عاش معهم على السطح" (ص 52)، وليقول لنا أنا علاقة مزدوجة، أما م. س.، فعلاقة مفردة، يرى القرية بعين خياله بطريقة تختلف عن طريقته، والمقصود، بالطبع، تأكيد ازدواج العلاقة لديه، وبالتالي اختلافه عنه.

ومن منطلق الاختلاف بين الراوي وم. س. نبدأ جملة من التبريرات العلائقية:
1- منطق التبرير فيما يخص غربته عن القرية
"أحيانًا في أشهر الصيف في لندن، إثر هطلة مطر، كنت أشم رائحتها. في لحظات خاطفة قبيل المغيب كنت أراها، في أخريات الليل، كانت الأصوات الأجنبية تصل إلى أذني كأنها أصوات أهلي هنا" (ص 53).

2- منطق التبرير فيما يخص دراسته
"صحيح أنني درست الشعر، بيد أن هذا لا يعني شيئًا. كان من الممكن أن أدرس الهندسة أو الزراعة أو الطب. كلها وسائل لكسب العيش" (ص 53).

3- منطق التبرير فيما يخص أصله وفصله
"الوجوه هناك، كنت أتخيلها، قمحية أو سوداء، فتبدو وجوهًا لقوم أعرفهم، هناك مثل هنا، ليس أحسن ولا أسوأ. ولكنني من هنا، كما أن النخلة القائمة في فناء دارنا نبتت في دارنا، ولم تنبت في دار غيرها" (ص 53).

4- منطق التبرير فيما يخص الاستعمار ومصيره
"وكونهم جاءوا إلى ديارنا، لا أدري لماذا، هل معنى ذلك أن نسمم حاضرنا ومستقبلنا؟ إنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلاً أم آجلاً كما خرج قوم كثيرون عبر التاريخ في بلاد كثيرة" (ص53).

في الأمثلة السابقة، التبريرات العلائقية تأخذ منحى أهم من الشخصيتين م. س. والراوي، وذلك من خلال المسند اليه، القرية وأهل القرية، بشكل مباشر أو غير مباشر، والمرعب في الفقرة الأخيرة أن الراوي كمسند "لا يدري لماذا جاء المستعمرون إلى بلاده"، وأنه يرمي بهاجس الحرية، الذي هو هاجس مصيري وتاريخي، على تبعة السؤال الساذج واللاتاريخي: "هل معنى ذلك أن نسمم حاضرنا ومستقبلنا؟" ويؤكد خروج المستعمرين الحتمي، ولكن "القدري"، أي، فيما معناه، لنرض بهم، وبمصيرنا البائس الحالي، لأنهم في الغد، وبقدرة قادر، سيخرجون (كذا)، من خلال منطق لاتاريخي، ووعي مثالي للعلاقة المعقدة القائمة بين مستعمِر ومستعمَر، بين مستغِل ومستغَل، بين قامع ومقموع، حيث يتحول التاريخ إلى تسوية إرث ما بين طرفين دون إحساس بالذنب ولا بالجميل: "سكك الحديد والبواخر والمستشفيات والمصانع والمدارس ستكون لنا، وسنتحدث لغتهم دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل. سنكون كما نحن، قوم عاديون، وإن كنا أكاذيب من صنع أنفسنا" (ص 53).

إنه منطق سكوني (سنكون كما نحن) يرى "أننا كنا أكاذيب من صنع أنفسنا" (التعميم للطيب صالح وقد أخذ دور الراوي فانتهى هذا كعلاقة مؤقتًا)، أي إلقاء كل شيء على تبعة الذات لا الوسط الخصوصي ولا الظرف السياسي والشرط الاجتماعي وكل باقي العوامل الموضوعية التي هي الحاسمة في تشكيل النفس و "صنعها". وهذه ليست مرحلة من مراحل وعي الراوي، كما يمكن أن يتصور البعض، بل حالة ثبات للاوعي حتى آخر الرواية، حالة ثبات للمحاور الدلالية، يحددها رولان بارت بالإبلاغ، بالرغبة (أو بالبحث)، بالاختبار (أو بالتجرية). الإبلاغ في "ستكون لنا" لن يتم، لأنه يعنى القعود عن فعل أي شيء، والرغبة في ما "سيكون لنا" لن تُشبع، لأنها تتوقف على المستقبل، والاختبار في "كنا أكاذيب من صنع أنفسنا" ينم عن تجربة ليست أكيدة بسبب شَرطيتها (وإن).

الصورة المنطبقة
تنطبق العلاقة م. س. كصورة على العلاقة الراوي كصورة من وقت إلى آخر، ويعبر الراوي عن ذلك بالقول: "مات مصطفى سعيد منذ عامين، ولكنني ما أفتأ أقابله من حين إلى آخر. لقد عشت خمسة وعشرين عامًا، وأنا لم أسمع به، ولم أره. ثم، هكذا فجأة أجده في مكان لا يوجد فيه أمثاله. وإذا بمصطفى سعيد رغم إرادتي، جزء من عالمي، فكرة في ذهني، طيف لا يريد أن يمضي في حال سبيله" (ص 53-54).

إذن اللقاء هنا انطباق، وهو انطباق نموذجي في دلالالته، فم. س. يشكل جزءًا من عالم الراوي وذهنه رغم إرادته، أي أن الراوي عبارة عن علاقة مفتوحة لم. س.، ويأخذ اللقاء هنا شكل المطاردة، كالقرية للراوي عندما كان في لندن، إنه هاجس نفسي عميق، وفي الوقت ذاته، عالم قائم، إي أن انتحار م. س. أو غرقه غير حقيقيين. لكن الملفت للنظر لسانيًا، امتلاء الراوي بم. س.، وإلا ما معنى الانطباق، والانطباق علاقة بنيوية تملأ الأخرى، وفي نهاية المطاف، بنية تملأ بنية، وذلك حسب قواعد ثلاث برأي رولان بارت: الإبدال، التعدد، العجز.

يحاول الراوي أن يبقي على الانطباق ناقصًا ليتواصل دون أن يكتمل، من خلال الإبدال داخل بنيته، إبدال م. س. بم. س. آخر، فيسقط في الشك: "وإذا إحساس بعيد بالخوف، بأنه من الجائز ألا تكون البساطة هي كل شيء. مصطفى سعيد قال إن جدي يعرف السر. الشجرة تنمو ببساطة، وجدك عاش، وسيموت ببساطة. هكذا، لكن هب أنه كان يسخر من بساطتي؟" (ص 54).

الشك عنصر محوّل في بنية الراوي، ولكن إلى أين سيؤدي كعنصر فكري؟ هذا هو الأهم. وهل سيقلب رأسًا على عقب الاستنتاجات السابقة التي توصلنا إليها؟ إنه يعتبر نفسه "بسيطًا"، ولكنه ليس واثقًا، إذ يقول "من الجائز ألا تكون البساطة هي كل شيء"، وهذا شيء جيد، ثم لا يلبث أن يلغي الشك، ويدخل في العجز عن طريق صورة مكررة لم. س. يرسمها للراوي موظف متقاعد يلتقيه في القطار، صورة "غير عادية" (ص 55) عن م. س. "النابغة" (ص 55) "المعجزة" (ص 55) من له فعل السحر على الأشياء والناس والزمان، شخصية فوق الطبيعة وفوق العلم، صورة مكررة ولكن من زاوية جديدة ليكون التعدد للصورة الواحدة، فتكون النتيجة غير ما يوده الراوي، إذ كما قال م. س. البساطة هي كل شيء، والسخرية في شأنها كانت أبعد ما يكون عنه: على الانطباق أن يكون كاملاً.

إن ولع الراوي بكل ما له علاقة بم. س. (كنا على وشك القول بكل ما له علاقة بالعلاقة دعمًا لتحليلنا) وإصغاءه الشديد للحكايا التي عنه يدخلانه في حالة من العجز، فيسعى إلى مكان مريح إلى جانبه:

"وصمت الرجل برهة، فأحسست برغبة شديدة في أن أقول إنني أعرف مصطفى سعيد، وإن الظروف ألقت بي في طريقه، فقص عليّ، ذات ليلة مظلمة قائظة، قصة حياته، وإنه قضى آخر أيامه في قرية مغمورة الذكر عند منحنى النيل، وإنه مات غرقًا، وربما انتحارًا، وجعلني أنا دون سائر الناس وصيًا على ولديه" (ص 56).

لنلاحظ الجملة الأخيرة: "وجعلني أنا دون سائر الناس وصيًا على ولديه"، لنؤكد الأهمية التي يسبغها الراوي على نفسه من موقعه إلى جانب م. س.، وكأنه م. س. ثان (التعدد). وبينما هو هنا جزء من عالم م. س.، كان م. س.، في بداية هذا الفصل، جزءًا من عالم الراوي (الإبدال)، لكن في البنية التي تجمعهما لم يعد هناك انطباق لصورتين ولعالمين، بل صورة لشخص واحد ولعالم واحد تخضع إحداهما للأخرى (العجز)، نوع من الطباق لغويًا. وسؤال الشاب السوداني الذي يحاضر في الجامعة له حين أزال الصورة الزائفة التي رسمها لم. س.: "هل أنت ابنه؟" (ص 60)، هذا السؤال يؤكد التماهي بين الشخصين (الإبدال)، حتى ولو بقي التعبير عن ذلك دون تفسير غير طيف يعرض للراوي(التعدد): "وفي الخرطوم أيضًا عرض لي طيف مصطفى سعيد بعد محادثتي مع المأمور المتقاعد بأقل من شهر كأنه جِن أطلق من سجنه، سيظل، بعد ذلك، يوسوس في آذان البشر ليقول ماذا؟ لا أدري!" (ص 58). بالطبع، لا يدري (العجز).

ورغم ذهابه إلى الطبيعة، إلى الحقيقة: "وتذكرت أيضًا أنني حين خرجت من بيت مصطفى سعيد تلك الليلة، كان القمر الماحق قد ارتفع مقدار قامة الرجل في الأفق الشرقي... " (ص 58)، أي رغم خروجه من الصورة، فهو لا يستطيع أن يخلص من أثر "الوهم" المعادل لم. س. عليه، لا يستطيع أن يخلص منه كعلاقة: "... كان القمر الماحق قد ارتفع مقدار قامة الرجل في الأفق الشرقي، وإنني قلت في نفسي إن القمر مقلم الأظافر. لا أدري لماذا خيل لي أن القمر مقلم الأظافر؟" (ص 58). هو لا يدري لمطاردة الوهم له، أو العجز، والمعبر عنه بصورة القمر اللاعادية السابقة المعبرة عن الإبدال والتعدد.

عبر المحاور الثلاثة، تعدد إبدال عجز، تنبني شخصية الراوي و شخصية م. س. وكأنهما شخصية واحدة، فهاتان الشخصيتان تخوضان غمار الروي من حدث إلى حدث، ومن فعل إلى فعل، وتتحددان بمشاركتهما في الفعل والحدث، في الوصف والتذكر. عندما يتذكر الراوي ما قاله م. س.: "إن القاضي قبل أن يصدر عليه الحكم في الأولد بيلي قال له: إنك يا مستر مصطفى سعيد، رغم تفوقك العلمي، رجل غبي! إن في تكوينك الروحي بقعة مظلمة، لذلك، فإنك قد بددت أنبل طاقة يمنحها الله للناس: طاقة الحب" (ص 58)... عندما يتذكر يمارس التذكر ليفهم التفوق العلمي لم. س.، وليربطه بطاقة الحب التي لديه، وما "نقض" غباء م. س. بذكاء الراوي، أو البقعة المظلمة في تكوين الأول الروحي بالبقعة المضيئة في تكون الثاني الروحي، هذا "النقض" ما هو سوى التعبير عن الوصول إلى "نقاء" الصورة وانطباق محاورها الثلاثة، إبدال تعدد عجز، فكأنها محور واحد خارج حدود الزمان والمكان، تصبح الأشياء فيه غير حقيقية، والناس كلهم، وليس الراوي فقط، صورة لم. س.: "هكذا في لحظة خارج حدود الزمان والمكان، تبدو له الأشياء، هو الآخر، غير حقيقية، يبدو له كل شيء محتملاً. هو أيضًا قد يكون ابن مصطفى سعيد أو أخاه أو ابن عمه" (ص 60).

نمطان من التفكير المثالي
يحاول الراوي، من خلال تبادلية بين الاختلاف والانطباق، أن يأتي بنمطين من التفكير، محورهما، بالطبع، م. س.، أحدهما لسوداني وآخر لإنجليزي، معتبرًا أنهما "كانا يقولان كلامًا مثل هذا، ويضحكان على مرمى حجر من خط الاستواء، تفصل بينهما هوة تاريخية ليس لها قرار" (ص 64).

الاستشهاد السابق، وإن أوحى "برفع الكلفة" بين السوداني الأسود والإنجليزي الأبيض، وبالموقع الواحد، أي بالانطباق من ناحية، ثم بالاختلاف من ناحية، عندما قال "تفصل بينهما هوة تاريخية ليس لها قرار"، في الواقع، ليست هناك أدنى هوة سيميائيًا تفصل بين الاثنين المعبرين عن نمطين من التفكير المثالي.

يعطي "السوداني" صورة زائفة لم. س.، ودومًا من خلال لغة التهويل السائدة: "مصطفى سعيد كان أول سوداني تزوج بإنجليزية، بل إنه كان أول سوداني تزوج بأوروبية إطلاقًا. أظن أنكم لم تسمعوا به، فقد نزح منذ زمن، تزوج في إنجلترا، وتجنس بالجنسية الإنجليزية. غريب أن أحدًا هنا لا يذكره، مع أنه قام بدور خطير في مؤامرات الإنجليز في السودان في أواخر الثلاثينات. إنه أخلص أعوانهم. وقد استخدمته وزارة الخارجية البريطانية في سفارات مريبة في الشرق الأوسط، وكان من سكرتيري المؤتمر الذي انعقد في لندن سنة 1936. إنه الآن مليونير، يعيش كاللوردات في الريف الإنجليزي" (ص 59).

ينفي الراوي، بالطبع، هذه الصورة الزائفة، عندما يرسم صورة لم. س. في القرية، ولكن الأهم من هذا ما يقوله "الإنجليزي" فيه: "وهنا تدخّل الرجل الإنجليزي، وقال إنه لا يدري صحة ما قيل عن الدور الذي لعبه مصطفى سعيد في مؤامرات السياسة الإنجليزية في السودان، الذي يعلمه أن مصطفى سعيد لم يكن اقتصاديًا يركن إليه" (ص 61).

صحيح هناك اختلاف بين الرأي الأول والرأي الثاني، بينما هناك "انطباق" عندما ننتقل من صورة للسياسة زائفة لم. س. (رسمها السوداني) إلى صورة للاقتصاد زائفة لم. س. (رسمها الإنجليزي): "كان ينتمي إلى مدرسة الاقتصاديين الفابيانيين الذين يختفون وراء ستار التعميم هروبًا من مواجهة الحقائق المدعمة بالأرقام" (ص 61).

ومقابل الصورة الاجتماعية الزائفة لم. س. (رسمها السوداني) من عين السوداني للإنجليزي: "أول سوداني تزوج بإنجليزية... إلخ" (ص 59)، لدينا صورة اجتماعية أخرى زائفة لنفس الشخصية (رسمها الإنجليزي) ولكن من عين الإنجليزي للسوداني: "يظهر أنه زير نساء. خلق أسطورة من نوع ما. الرجل الأسود الوسيم المدلل في الأوساط البوهيمية. كان، كما يبدو، واجهة يعرضها أفراد الطبقة الأرستقراطية الذين كانوا في العشرينات وأوائل الثلاثينات يتظاهرون بالتحرر. يقال إنه كان صديقًا للورد فلان ولورد علان. وكان أيضًا من الأثيرين عند اليسار الإتجليزي... إلخ" (ص 62).

للخلط في الصورة هدف سيميائي، فم. س. عبارة عن خطوط متقاطعة بين البوهيمي والأرستقراطي واليساري واليميني، وهو في كل هذا :واجهة للتحرر" لا غير. لكن من الملاحظ على مستوى نظام الشخصيتين توافقهما في الاختلاف، وبالتالي توافقهما في الانطباق الذي يصل الراوي إليه ضمنيًا داخل رحم الروي، ويترك الإنجليزي يتجول فيه، ذاهبًا من رأي حول م. س.: "لو أنه تفرغ للعلم لوجد أصدقاء حقيقيين من جميع الأجناس، ولكنتم قد سمعتم به هنا. كان قطعًا سيعود، وينفع بعلمه هذا البلد الذي تتحكم فيه الخرافات" (ص 62)، إلى رأي حول البلد وأهله: "ها أنتم تؤمنون بخرافات من نوع جديد، خرافة التصنيع، خرافة التأمين، خرافة الوحدة العربية، خرافة الوحدة الإفريقية. أنكم كالأطفال تؤمنون أن في جوف الأرض كنزًا ستحصلون عليه بمعجزة، ستحلون جميع مشاكلكم، وتقيمون فردوسًا. أوهام. أحلام يقظة. عن طريق الحقائق والأرقام والإحصائيات، يمكن أن تقبلوا واقعكم، وتتعايشوا معه، وتحاولا التغيير في حدود طاقاتكم" (ص 63).

ودائمًا ضمنيًا في "التمنطق" السيميائي السابق يرمي الراوي إلى الانطباق، وبكلام آخر إلى التشابه، بينه كبنية وبين م. س. كبنية، بينه كعلاقة وبين م. س. كعلاقة، بينه كصورة وبين م. س. كصورة، في عرضه للاختلاف، للتباين، ودون أن يشاء إلى إبراز ما هو سلبي في دلالاته:

عدا عن الخلط بين ما هو خرافات وأوهام وطلاسم وبين ما هو آمال قومية ومطامح سياسية واجتماعية هناك دعوة لاعلمية -رغم أن القائل يدعو إلى التفرغ للعلم-إلى ما يسميه "الحقائق والأرقام والإحصائيات"، وكأنه يريد أن يقول للسودانيين: كونوا واقعيين وارضوا بما أنتم عليه وبما يمكنكم فعله "في حدود طاقاتكم" التي هي محدودة أساسًا. وبالطبع، سينبري السوداني، بنفس الطريقة واللغة، مفندًا آراء الإنجليزي، بينما يخلد الراوي إلى أفكاره قائلاً: "ما جدوى النقاش؟ هذا الرجل –رتشارد- هو الآخر متعصب. كل أحد متعصب بطريقة أو بالأخرى. لعلنا نؤمن بالخرافات التي ذكرها، ولكنه يؤمن بخرافة جديدة، خرافة عصرية، هي خرافة الإحصائيات" (ص 63).

وهكذا ينقلب تحليل العلاقات بين مستعمِر ومستعمَر بين مستغِل ومستغَل بين قوي وضعيف إلى نوع من التعصب وإلى تلاعب بالكلام، وأي كلام كان، وبدلاً من تحديد العوامل نجدنا نسقط في تعميم المواقف: المنطق اللاعلمي لهذه المواقف، والتصور الأخلاقي في الاقتصاد السياسي، والاختلاف المثالي في الانطباق البنيوي، وكل ذلك على مستوى الحشو وثرثرة "مثقفين" فيما بينهم.

الثنائية الأخلاقية المهيمنة
يلعب الراوي دورًا أساسيًا كمرسل للروي في بنية موسم الهجرة إلى الشمال، وم. س. إذا كان البطل الأساسي للرواية، فبفضل الراوي بدوره الأساسي كمرسل للروي كما قلنا، وكمُضَمِّن للخطاب، كل ما قيل في م. س.، كل ما قاله م. س.، يرقى إلى المستوى الثاني للتأويل بفضل كلام الراوي، وما يتضمنه من إشارات وعلامات وصور ومعلومات، المحاور الكلامية كالمحاور الفكرية كالمحاور الجمالية، باختصار كل منطق الروي الذي هو المنطق الروائي. ومن منطق التقسيم المثالي: شرق/غرب، خير/شر، صالح/طالح، طيب/سيء، أو التوفيق المثالي بين شرق وغرب، خير وشر، صالح وطالح، طيب وسيء... إلخ، يأخذ الراوي بعرض فلسفته عن الكون والحياة: "الدنيا تسير باختيارنا أو رغم أنوفنا" (ص 65) "وأنا كملايين البشر، أسير، أتحرك، بحكم العادة في الغالب، في قافلة طويلة تصعد وتنزل، تحط وترجل. والحياة في هذه القافلة ليست كلها شرًا" (ص 65).

إذن، أول ما يوحي التضمين الخطابي أن هناك عملية "صعود ونزول" أو تحرك بينهما وفق العادة فحسب، أي بشكل ميكانيكي، وفي قافلة طويلة ليست الحياة فيها شرًا كاملاً ولا خيرًا كاملاً، هي جمع بين الاثنين حتى وإن انقسمت ما بينهما. هناك من يختار وهناك من لا يختار: "بعضنا يصلي جماعة وراء الشيخ، وبعضنا يتحلق حلقات يرقص ويغني ويصفق" (ص 65-66). أي ما بين غير مُفحش ومُفحش! وتصبح للطبيعة الصفة الأخلاقية الثنائية المهيمنة: أبيض وأسود "وحين يبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود نقول... إلخ" (ص 66) حر وبرد أو فجر وليل: "أشباح الليل تتبخر مع الفجر، وحمى النهار تبرد مع نسيم الليل" (ص 66) جنوب وشمال أو غرب وشرق: "النهر بعد أن كان يجري من الجنوب إلى الشمال ينحني فجأة في زاوية تكاد مستقيمة، ويجري من الغرب إلى الشرق" (ص 66)... إلخ.

يتلقى المرسل إليه الروي، أي القارئ، الرسالة التي يتضمنها، أي الرواية، من المرسل، أي الراوي، فيفهم كل هذا، ربما، ولكن لم يكن قصد الراوي أن يفهم القارئ كل هذا كما تم عرضي له. في الواقع، الراوي طرف في لعبة الكلام، وليس كل الأطراف. يحصل أن يكون الراوي كل الأطراف في الكتب المقدسة، لكن موسم الهجرة إلى الشمال ليست كتابًا مقدسًا. قلنا إنه بنية وإنه علاقة وإنه صورة، ونقول إنه موضوع فلسفي وأخلاقي، ودون أن يعرف ما يشي به رويه، كلامه بعبارة أخرى، بكونه مطارَدًا بثنائية أخلاقية، من داخل الصفة الواقعية التي له. أما م. س.، فالثنائية الأخلاقية تطارده من داخل الصفة المتافيزيقية التي له، -هو كلي الوجود كما رأينا- وذلك عندما أمكنه أن يصبح في أي مكان وفي أي واحد من البشر، ومع هذا، يحاول الراوي نفيه من فكره، ليس بإرادته على نفسه بل بإرادة الروي عليه: "لكن أرجو ألا يتبادر إلى أذهانكم، يا سادتي، أن مصطفى سعيد أصبح هوسًا يلازمني في حلي وترحالي" (ص 65). هو ينفيه من فكره أو في فكره، ولكنه يبقى موجودًا في مكان آخر داخل هذا الفكر أو خارجه، يبقى موجودًا في الروي.

في الواقع –يقول رولان بارت- ليس المشكل أن نستبطن أسباب الراوي ولا التأثيرات التي يلحقها الروي بالقارئ، يجب وصف الكود الذي عَبره يستدل عليه الراوي والقارئ طوال الرواية نفسها. عبر الكود الذي هو م. س. نستدل على أنه كلي العلم رغم غيابه: "إنني أترك زوجتي وولديّ وكل ما لي من متاع الدنيا في ذمتك، وأنا أعلم أنك ستكون أمينًا على كل شيء" (ص 69). ها هو يعلم كل شيء مسبقًا. وهو كامن في المستقبل مع أنه صار ماضيًا، إذ أنه، حسب أهل القرية، مات غرقًا، وما طلبه إلى الراوي الاهتمام بزوجه وولديه إلا محض شكليات، أولاً لأن الراوي وم. س. كليهما واحد، وثانيًا لأن ما يقوله م. س. سوف يقع: لا يريد لولديه أن يسافرا كما فعل، وأن ينشآ نشأة غير عادية كنشأته: "جَنِّبْهُما مشقة السفر، وساعدهما أن ينشآ نشأة عادية، ويعملا عملاً مفيدًا" (ص 69). وعندما نتساءل كيف؟ فلا بد أن يأتينا عبر الكود الجواب المثالي التالي: "إذا نشآ مشبعين بهواء هذا البلد وروائحه وألوانه وتاريخه ووجود أهله وذكريات فيضاناته وحصاداته... إلخ" (ص 70)، وكأن كل مسافر سيتنكر لكل هذا، وكأن كل هذا هو شرط للنشأة "العادية". إنها فكرة مكررة على طول الرواية تؤرق الراوي، وتبعث على الأرق، صورة للكود الذي هو الراوي الآن ثنائية للعادي واللاعادي، للرثاء والبطولة (ص 70)، للبقاء والذهاب (ص 70)، للرحيل والاستقرار: "ذاك النداء البعيد لا يزال يتردد في أذني، وقد ظننت أن حياتي وزواجي هنا سيسكّنانه" (ص 70).

ومن موقع "الكل العالِم"، يقول الكود الذي هو م. س.: "إنني أعرف بعقلي ما يجب فعله، الأمر الذي جربته في هذه القرية، مع هؤلاء القوم السعداء" (ص 71). هل حقًا هم سعداء؟ هؤلاء الكود الذين هم أهل القرية البائسة النائية على ضفة النيل؟ وكيف هم سعداء؟ وما معنى السعادة هنا؟ هذه الفكرة التي كان يرددها المستعمرون والتي تقول لفهم الكود المعني هنا، أهل القرية، والوقوف عليه من كل جوانبه: أتركوهم في حالهم الذي اعتادوه، إي في بؤسهم، فهم لا حاجة بهم إلى "التقدم"، إنهم سعداء في هذا الوضع، و "الحضارة" سوف تقلقهم وتقض مضاجعهم! ومن خارج الكود –وما ذلك إلا للعودة إلى داخله- هي الفكرة التي دافع عنها توفيق الحكيم في كل إنتاجاته فيما يخص "الفلاح الفرعوني السعيد"! وأين هم الفلاحون في موسم الهجرة إلى الشمال؟ يراهم الراوي من بعيد ككود كرحالة أو كسائح في باخرة تمخر الماء: "الرجال صدورهم عارية، يلبسون سراويل طويلة، يقطفون أو يزرعون حين تمر بهم الباخرة كقلعة عائمة وسط النيل، يرفعون قاماتهم ويلتفتون إليها برهة ثم يعودون إلى ما كانوا فيه" (ص 66). الباخرة كقلعة، الكود الذي هو متحصن فيها، وهم كبشر سريعي العطب وقد أخذ كود أهل القرية بعده الإنساني، صورة عابرة، وربما الصورة الوحيدة غير المشفرة لهم في الرواية. ومن موقفه كعلاقة أخلاقية أحادية يتساءل: "هل هؤلاء الناس الذين يطلق عليهم "الفلاحون" في الكتب؟ لو قلت لجدي إن الثورات تصنع باسمه والحكومات تقوم وتقعد من أجله لضحك" (ص 68). وككود أصم لا يعطي الجواب الذي من الجدير إعطاءه.

العجز الكودي هنا معبر للغاية، فالراوي عبر هذا العجز يعيد إنتاج نفسه، ليعلم القارئ ما يجهله:

أولاً: جد الراوي ليس من الفلاحين الذين تصنع الثورات باسمهم، إنه يحتل مكانًا على صدر ما نسميه البورجوازية الفلاحية الصغيرة أو المتوسطة، والتي، حسب موقعها هذا، لها مصلحة في ترك الأمور على عواهنها: "كل الذين يفلحون فيه يجيئون إلينا مرة كل عامين أو ثلاثة بجماهيرهم ولواريهم ولافتاتهم يعيش فلان ويسقط فلان. كنا مرتاحين أيام الإنجليز من هذه الدوشة" (ص 68). كمان! إنهم سعداء في هذا الوضع! بينما الانتخابات تعبير عن الديمقراطية. على الأقل، هو لا يفضح "ديمقراطية الأنظمة المشرقية". الكود هنا لا يتجاوز مستواه المرجعي، لهذا كانت المعلومات حوله جافة أرشيفية.

ثانيًا: الراوي لا يحدد الكود الذي هو بصدد استكشافه ويفكك بل يعمم ويحزم: "وبالفعل يمر بنا جمع من الناس على لوري قديم وهم يهتفون: عاش الحزب الوطني الديمقراطي الاشتراكي (8)! هل هؤلاء الناس الذين يطلق عليهم "الفلاحون" في الكتب؟" (ص 68). التعميم هنا واضح، والتحزيم غامض، فتذهب معاني "كالثورة" و "الديمقراطية" و "الاشتراكية" هباء. صحيح هناك اشتراكيون زائفون، ولكن هناك اشتراكيون حقيقيون، كما يقول كود أهل القرية عند تفكيكه وتحديد عناصره، والروي لا يتضمن العلامات الخاصة بكل عنصر، حتى أنه لا يُعنى بمعنى "الحكومة"، منحى وبرنامجًا وتوجهًا واتجاهًا، فيرمي الجميع في سلة واحدة، ويملأها بالكودات، وكل هذا بدافع تلك الثنائية الأخلاقية المثالية المهيمنة، وفي بنية موسم الهجرة إلى الشمال، هذه الثنائية الأخلاقية المثالية المهيمنة هي القوة الدافعة للإبلاغ، كما يقول جاكوبسون.


* يتبع دور مصطفى سعيد



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موسم الهجرة إلى الشمال المفهوم عن الشرق
- موسم الهجرة إلى الشمال المفهوم عن الغرب
- موسم الهجرة إلى الشمال المفهوم عن الذات
- ضد الدين وليس ضد الإسلام
- تأملات في واقع الثورات العربية
- رسالة إلى العفيف الأخضر
- الحل الوحيد للمسألة السورية
- هنا العالم رواية الثورة الإعلامية
- مدينة الشيطان رواية الثورة الإسرائيلية
- الصلاة السادسة رواية الثورة التونسية
- قصر رغدان رواية الثورة الأردنية
- زرافة دمشق رواية الثورة السورية
- البحث عن أبولين دوفيل رواية الثورة المصرية
- نافذة على الحدث الأعمال الكاملة
- حوارات بالقوة أو بالفعل
- دمشق كروما فاشية فأينهم مقاتلو الظل؟
- الله وليس القرآن الأعمال الكاملة
- الجنس والله
- الكون لم يخلقه الله
- الإسلام دراسة أعراضية


المزيد.....




- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - موسم الهجرة إلى الشمال الراوي كيف يرى العالم؟