أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - قصر رغدان رواية الثورة الأردنية















المزيد.....



قصر رغدان رواية الثورة الأردنية


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3818 - 2012 / 8 / 13 - 16:58
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الأعمال الروائية (32)


د. أفنان القاسم



قصر رغدان
LE PALAIS DE RAGHDAN




رواية

















































إلى ملوك تحت السيل



































القسم الأول

في فناء الحريات وحقوق الإنسان الواقع بين متحف البحرية ومسرح شايو، كان يقام عرض الموضة لكريستيان لاكروا الخاص بالزي النسائي المشرقي، ومن الناحية الأخرى للفناء، كان يضاء برج إيفل بكل بهائه وأبهته كجزء من ديكور باذخ. من هذه الناحية، ناحية ساحة تروكاديرو، لم تكن حركة السيارات سهلة، لتواجد كل هذا العدد الهائل من المدعوين المحظوظين، فشق فرانك لانج طريقه في سيارته الفيراري الحمراء بصعوبة كبيرة دون أن يجد مكانًا يركن فيه جوهرته الصغيرة، واضطر في النهاية، مثل غيره، إلى الصعود على الرصيف. فكر رجل التحري الخاص فيما بقي له من وقت، ساعة صغيرة لتفقد المكان للمرة الأخيرة، قبل وصول الملكة سونيا التي يقام العرض على شرفها، فخف بين جمهرة من المنتظرين على باب السرادق إلى لقاء رجال الأمن، وألقى نظرة معهم على صفوف المقاعد الأربعة من ناحيتي الحلبة. اجتمع بالمبدع في الناحية المخصصة له ولفريقه من السرادق، واتفق معه على استقبال الضيفة الكبيرة حال وصولها، وإجلاسها قبل الجميع. كانت عارضات الأزياء كثيرات، بعضهن نصف عاريات، وبعضهن عاريات، وهن بين أيدي من يلبسونهن من خياطين وخياطات، وكان فرانك لانج ينظر إلى ما تحت متناول يده من جمال لا يضاهى، دون أن يكون بإمكانه لمسه، ويبتسم. كان يبتسم، ويفكر في أبولين دوفيل. لم يكن يريدها أن تكون هنا لئلا تعطل عليه كل شيء، وحسبما بدا له لم تكن ضابطة الدي جي إس إي هنا. لكن من له مهنته لا يضمن سير كل شيء على ما يرام إلا بعد أن ينتهي، والعرض لم يبدأ بعد، والملكة لم يجئ بها رجال السفارة من فندق جورج الخامس. كان فرانك لانج مكلفًا من طرف الملك عبدول، ملك الأردن، زوجها، بحراستها والسهر على حمايتها. فجأة، قرع جرس هاتفه المحمول، وقال له أحد رجال السفارة إنهم على بعد خمس دقائق من ساحة تروكاديرو. وفي الحال، أخبر رجل التحري الخاص كريستيان لاكروا بما أُخبر به، فترك هذا خياطاته وخياطيه يكملون إلباس ساحرات العرض، ورافق فرانك لانج حتى رصيف الفناء. كانت سيارة المرسيدس السوداء التي تقل ملكة الأردن قد وصلت في الوقت نفسه الذي حطا فيه القدم على الرصيف، فانحنى كريستيان لاكروا حال نزولها منها، وهي محاطة برجال السفارة، وقبّل يدها تحت فلاشات الكاميرات كما لو كانت نجمة من نجوم "البوب ستار"، ثم رجاها بالتقدم معه ومع فرانك لانج حتى المقعد الخاص بها داخل السرادق. انحنى كريستيان لاكروا لها من جديد، واستأذنها بالذهاب ليقود "بناته". عندما وقف رجال السفارة هنا وهناك، أشار فرانك لانج إلى رجال الأمن، وهو يرفع إبهامه بينما بقية أصابعه مضمومة، بمعنى أن كل شيء على ما يرام. بعد ذلك، امتلأ المكان بالمدعوين والمصورين.
خفتت الأضواء في السرادق، ليكون تسليطها على العارضات اللواتي أخذن بالظهور الواحدة تلو الأخرى مع موسيقى شهرزاد لريمسكي-كورساكوف، والملكة سونيا، مثل باقي الحضور، تغدق عليهن وابلاً من بسمات الإعجاب. كانت كل واحدة من الفتيات اللواتي يتواردن مكحلة العينين بكحل غزير، وملوثة الشفتين بأحمر مثير، بينما تربط شعرها بشال مطرز تطريز بدويات البتراء يجر على الأرض، وتلبس فستانًا طويلاً فضفاضًا شفافًا نبطيًا بلون زاه يختلف من فستان إلى آخر، ومن تحته تبدو مفاتنها بكل روعتها الوثنية. وكانت تلك هي الدفعة الأولى التي ما أن قطعت الحلبة ذهابًا إيابًا، وخرجت من حيث دخلت، حتى تبعتها دفعة ثانية، بالفستان الطويل الفضفاض الشفاف النبطي نفسه، ولكن المفتوح على الصدر فتحتين دائريتين تبين منهما الحلمتان، وعلى البطن فتحة دائرية تبين منها السرة، وبالشال المطرز نفسه، ولكن المرفوع كتاج امرئ القيس على الرأس. أما الدفعة الثالثة، فكانت تربط كتفيها بالشال المطرز، وتلبس الفستان الطويل الفضفاض الشفاف النبطي، وهذا على عكس سابقيه كان مشقوقًا من جانبيه حتى الخصر، ومفتوحًا عند الصدر على كامل الثديين. جاء دور الدفعة الرابعة، فتهادت العارضات في سروال عرب من الحرير، عرب وادي عربة، لونه أزرق وأبيض، يرتفع إلى ما تحت الثديين، بينما تدور بالعنق أربع سلاسل حمراء وسوداء وبيضاء وخضراء، ويغطي الوجه تحت العينين برقع يمثل إحدى خيام الأونروا. الدفعة الخامسة كانت تشم وجهها من الجبين، فالأنف، فالفم، حتى الذقن، وتربط شعرها بشالين مطبوعين بفسيفساء مادبا الأموية يتساقطان من جانبي الرأس على جانبي الفخذين اللتين غطى ما بينهما خنجر معقوف مدمى مربوط بسلسلة مقدسية من خشب الزيتون تدور حول الخصر، وكان هذا كل لباس العارضات. والدفعة السادسة كانت ترمي كل عارضة منها على جسدها العاري عباءة سوداء درزها المبدع بحروف عربية ذهبية ضخمة تختلف من عباءة إلى أخرى، والعباءة بغطاء تنشق من قمة الرأس إلى أَخْمَص القدم. وهكذا تتالت الدفعات مدة ساعة من الزمن، كان آخرها ظهور كريستيان لاكروا تحت عاصفة من التصفيق، وهو يتأبط ذراع عروس في فستان من التل الأحمر لم تكن أخرى غير أبولين دوفيل. تساقطت شلالات الفلاشات عليها، فأعمتها، وعندما أشبع المصورون حاجتهم، وعادوا إلى أماكنهم، نظرت ضابطة المخابرات الخارجية إلى حيث كانت ملكة الأردن جالسة، فلم تجدها، وإلى حيث كان فرانك لانج واقفًا، فلم يكن هناك. هرعت إلى الخارج، وهي تمزق ذيل ثوبها، وتخلع حذاءها، ونظرت في كل الأنحاء. كان كل شيء يبدو طبيعيًا، ولا شيء يقلق رجال الأمن. خفت إلى الذهاب خلف السرادق، فلاحظت شقًا طويلاً في جانبه، لكنها لم تطل التفكير كثيرًا، أخذت تعدو باتجاه برج إيفل، ومن وراء السور القصير لحدائق تروكاديرو المعلقة وبركها ونوافيرها، نظرت، ورأت الملكة سونيا تحت مصابيح الأعمدة الوهاجة معصوبة العينين والفم واليدين، قبل أن يلقي رجال السفارة بها في سيارة المرسيدس السوداء التي جاءت بها، وينطلقون، والعجلات تزحك، والإسفلت يحترق تحت العجلات.

* * *

ما أن وصلت سيارة المرسيدس السوداء سفارة الأردن الواقعة في ضاحية نيي-سير-سين الأرستقراطية حتى انفتح المدخل الفخم، واختفت السيارة في أحشاء السفارة. بعد ذلك، جذب رجال السفارة الملكة سونيا من ذراعها، وصعدوا بها الدرج العريض إلى مكتب السفيرة، وهم يمضون بعدد لا يستهان به من رجال السي آي إيه الضخام الأجسام. كان بعضهم يضع قبعة على رأسه، وبعضهم لا يضع، وكانوا كلهم يراقبون بدقة ما يجري، وذهب بعضهم بأمر من رئيسهم ليشددوا الحراسة على الباب الذي غابت من ورائه ملكة الأردن، وهذا يتكلم همسًا في هاتفه المحمول مع واشنطن، ولا يسمع أحد ما يقول غير "واشنطن كما قلتم لي" "واشنطن كما أمرتموني" "واشنطن تم التنفيذ بالتنسيق معكم". رمى رجال السفارة الملكة المعصوبة العينين والفم واليدين على مقعد، وهي تلهث إعياء، وغادروا المكان. بعد قليل، انفتح الباب، ودخل رجل التحري الخاص. حرر يدي صاحبة الجلالة، وفك الضماد الغائر في فمها، ثم الضماد المحيط بعينيها. عندما رأته الملكة سونيا، صاحت بشرًا:
- هذا أنت فرانك لانج؟ حمدًا لله!
- لا تتحمسي كثيرًا لوجودي، يا مولاتي، همهم فرانك لانج.
نهضت الملكة سونيا، وهي تضغط معصميها بأصابعها محاولة انتزاع ألمها، وراحت تنظر إلى مكتب سفيرتها الذي تعرفه تمام المعرفة، العلم، الصورتان، المدرج الروماني، وهي تقول ذاهلة:
- ولكن... ماذا أرى؟ أين أنا؟ ما كل هذا المزاح فرانك لانج؟
- ليس هناك أي مزاح، يا مولاتي، همهم رجل التحري الخاص.
- يتم اختطافي ليؤتى بي إلى عقر داري؟ نبرت ملكة الأردن. ومن طرف من؟ أنت، فرانك لانج؟ من كلفه جلالة الملك بحراستي والسهر على حمايتي؟
- لم أفعل سوى ما أمرت به، أوضح رجل التحري الخاص.
- زوجي جلالة الملك هو الذي أمرك ب...
- هنا، في عقر دارك، كما تقولين، سيكون كل شيء على ما يرام.
- سأعود إلى فندقي في الحال، وغدًا سأركب أول طائرة إلى عمان.
نبرت ملكة الأردن، وهي تغذ السير صوب الباب، وفرانك لانج يقول من ورائها:
- أخشى ألا يستجاب لك.
فتحت الباب، فإذا بعمالقة السي آي إيه يسدون فوهته بقاماتهم، ويضطرونها إلى إغلاقه تحت صرخاتها المحتجة.
- هدئي روعك، يا صاحبة الجلالة، طلبت سفيرة الأردن البيضاء ذات الشعر الأسود، وكالملكة في الأربعينات من عمرها، وهي تدخل من باب جانبي.
- أروى، هل أنا أحلم، يا أروى؟ صاحت الملكة سونيا، وهي تسارع إلى إلقاء رأسها على كتف السفيرة باكية.
- يؤسفني أن أقول لك لا، أنت لا تحلمين، يا صاحبة الجلالة، همهمت السفيرة أروى رشيدات.
استدارت الملكة سونيا، وطلبت من فرانك لانج، وهي تمسح دمعها:
- أريد أن أعرف كل شيء.
تطلع فرانك لانج في عيني أروى رشيدات قبل أن يقول:
- عندما تساور امرأ الهموم يغلب على تصرفاته طابع اليأس، لكن الملوك شيء آخر، يأسهم ليس كيأسنا، ولهذا هم ملوك.
- زوجي لم يعرف اليأس يومًا، نبرت ملكة الأردن.
- همومهم ليست كهمومنا، أضاف رجل التحري الخاص، ولهذا هم ملوك. كما أن تصرفاتهم ليست كتصرفاتنا، ولهذا هم ملوك، وإلا ما الفائدة أن تكون ملكًا؟
- لماذا يريد جلالة الملك أن يجعل من زوجته رهينته؟ سألت الملكة سونيا بنبرة حادة.
- لأنه يريد التخلي عن السلطة، أجاب فرانك لانج بنبرة متماسكة.
- ماذا؟! التخلي عن السلطة؟!
- ألم أقل لك إن للملوك تصرفات ليست كتصرفاتنا؟
- التخلي عن السلطة لمن؟
- للشعب.
- وهل أنا من أمنعه؟
- أنت، يا مولاتي.
أخذت الملكة سونيا تقهقه كالفاقدة رشدها، وفرانك لانج يقول:
- عندما يحب المرء كثيرًا يصبح هذا الحب عبئًا كبيرًا، وفي حالة الملوك، حبهم ليس كحبنا.
- أبدًا لن أسمح له بالتخلي عن السلطة حتى ولو كان حبه لي أكبر حب، صاحت الملكة سونيا، وهي تستشيط غضبًا.
- أرأيت؟
- أبدًا، أبدًا، أبدًا.
- لقد قطع قراره.
- ليتخل عن السلطة إذا كانت السلطة تثير كل هموم الدنيا لديه، ولكن ليتخل عنها كملك.
- لن يتخلى عنها كمهرج.
- إذا تخلى عنها للشعب كان مهرجًا، أكبر مهرج.
- أنا كما أعرف جلالته ليس لقراره أي شيء على علاقة بالتهريج.
- بلى!
- في قرار جلالته كل الحكمة.
- بينما كل الحكمة في التنازل لولده الحسيني عن العرش.
- للشعب.
- ابنه الحسيني لم يزل قاصرًا، لكني سأكون هنا، أنا الملكة. سأحكم بالوصاية. اليوم أنا أحكم دون وصاية، وغدًا سأحكم بوصاية.
- لمصلحة من؟
- كما تقول، لمصلحة الشعب.
- أي شعب؟
- ليس الإخوان المسلمين حتمًا.
- أمريكا تريدهم، وهم لهذا هنا، في عقر دارك، يا مولاتي.
- أروى! صاحت الملكة سونيا، وهي تهز سفيرتها من ذراعها، لماذا لا تقولين شيئًا؟
- ماذا تريدينني أن أقول، يا مولاتي؟ همهمت السفيرة الأردنية، كنت مع جلالته قبل اختطافك، وصرت مع جلالتك بعد اختطافك.
- إذن لماذا لا تقولين شيئًا؟
- كمهندسة في الطاقة النووية، بين التقدم الذي تمثلينه والتخلف الذي يمثله أولئك الذين سيأخذون الحكم، أنت تعرفين جيدًا إلى أين سيذهب اختياري.
- لقد اختار جلالته، وعلينا كلنا واجب احترام هذا الاختيار، قال فرانك لانج، وفي الوقت ذاته فتحت أبولين دوفيل الباب الجانبي، ودخلت، وهي تغلقه من ورائها. كابتن دوفيل! هتف رجل التحري الخاص.
- لأول مرة لن تكون لنا قضية مشتركة ندافع عنها لانج، رمت ضابطة المخابرات الخارجية قبل أن تلثم السفيرة أروى رشيدات من ثغرها.
- لقد تأخرت كثيرًا، يا حبيبتي، همست سفيرة الأردن، وهي تلمس وجنة الشقراء الساحرة لمسًا خفيفًا.
- ليس كثيرًا، ولكني تأخرت، ردت أبولين دوفيل، كان عليّ أن أسرق لجلالة الملكة.
عادت أبولين دوفيل تفتح الباب الجانبي، وأحضرت علبة كرتون كبيرة قدمتها للملكة سونيا.
- أبولين دوفيل، همهمت ملكة الأردن، تعجبني مفاجآتك، وسارعت إلى إخراج إحدى عباءات كريستيان لاكروا السوداء من العلبة، وابتسامتها تتلألأ على شفتيها، وكأنها استعادت حريتها.
خفت الملكة سونيا إلى معانقة ضابطة الدي جي إس إي، وشكرها، وهذه تقول:
- سترتدينها عندما أخلصك من هذه الورطة.
- هذا لأنك ستقدرين على ذلك؟ تهكم فرانك لانج.
- قلت لك لن تكون لنا قضية مشتركة ندافع عنها، ردت أبولين دوفيل.
- أنا قضيتي الملك.
- وأنا قضيتي الملكة.
- القضيتان واحدة.
- لا، ليست واحدة، للملك قضية انتهت بينما للملكة قضية بدأت.
- قضية الملك لم تنته، ولن تنتهي، وليست هناك قضية أخرى غيرها، أو، إذا شئت، كل القضايا الأخرى مقابل قضية الملك ثانوية.
- تسمي قضية التقدم ثانوية؟ قضية الحرية ثانوية؟ قضية الأنثى ثانوية؟ كل هذه القضايا ليست ثانوية بل أساسية، وهي تجتمع كلها في فستان طويل فضفاض شفاف نبطي من فساتين كريستيان لاكروا الرائعة كقضية واحدة. أما ملكك، فقضيته في نهاية المطاف الإخوان المسلمون ومن لف لفهم الذين سيتخلى في الواقع عن السلطة لهم وليس للشعب. عندما نعجز عن الحكم نسلمه لمن يستأهله، وليس لمن يريد الحكم من أجل الحكم وجر البلاد إلى الوراء، إلى عصور جدع النساء والانحطاط. سأقف مع ملكتي، دميمة كانت أم جميلة، ويا للحظ أنها جميلة، وجميلة جدًا.
- وأنا أيضًا سأقف مع ملكتي، قالت أروى رشيدات، وهي تصفّ إلى جانب المرأتين بمواجهة رجل التحري الخاص.
- مع الأسف كل شيء قد تم، قال فرانك لانج، وأنتن لا تستطعن فعل أي شيء.
- ليس هناك شيء نهائي لانج قبل أن يتم بالفعل، قالت أبولين دوفيل، وأنت أكثر من يعرف هذا.
- لم يتم التخلي بعد، قالت سفيرة الأردن.
- لن يتم التخلي، أكدت ملكة الأردن.
- إذا لم يتم التخلي بعد، فهو سيتم في غضون الساعات القليلة القادمة، أكد فرانك لانج. وأنا بعد انتهاء مهمتي بخصوصك، يا صاحبة الجلالة، سأغادر باريس إلى عمان كي أكون إلى جانب جلالته في هذه اللحظات العسيرة. سأقول له إنك تحبينه أكثر من أي كائن آخر على وجه الأرض، وبرهاني على ذلك تمسكك بالعرش بكل قوتك، لكنني أخشى أن يزيده هذا عزمًا وتصميمًا على تنفيذ ما قرر وبأقصى سرعة خوفًا من وقوع ما لا يُتوقع وقوعه، لأن الملوك لا يخافون إلا من شيء واحد، أن يجدّ ظرف يضطرهم إلى تبديل ما عزموا عليه، وهم بهذا أكثر منا جَروحية.












القسم الثاني

انتشر خبر تخلي الملك عن السلطة في قصر رغدان انتشار النار في الهشيم، فكان رجال القصر بين مصدق ومكذب، وبدوا كلهم في وضع الغائب عن الصواب. لم يكن رئيس الديوان كرئيس التشريفات كوزير البلاط ككل الباقين من مستشارين وسكرتيرين وسكرتيرات حتى العاملين على البدالة والسائقين والحجّاب، لم يكونوا كلهم هم أنفسهم، كانوا شيئًا آخر أقرب إلى النعال المثقوبة، فالسلطة لم يعودوا أحذيتها اللامعة، وهم، رأوا صورهم في المرايا عرايا كما ولدتهم أمهاتهم، فحاولوا إخفاء عوراتهم دون أن ينجحوا، وفي الواقع، كانت عورات الكبار منهم أنهم كبار، وعورات الصغار منهم أنهم صغار، والكبير كالصغير كان يجد نفسه كبيرًا في ظل الملك، فأين الملك؟ وأين ظله؟ فقدوا كل جاه، لكنهم لم يفقدوا كل أمل، فراح كل منهم يتبارى لتعظيم من أوجدوه بعد أن أوجدهم، فلربما عاد عن رأيه. لكن جلالته لم يكن يريد أن يكون ملكًا لهم قبل أن يكون ملكًا له، وهو لهذا قرر التخلي عن السلطة، والبدء من الصفر، كأي فرد لم يولد ملكًا، أن يبدأ من الصفر، أن يتعلم كيف يكون ملكًا، وأن يُخضع نفسه لاختبارات الحياة، ربما ينجح، وربما لا ينجح، وإذا لم ينجح، جرب شيئًا آخر. في لندن، لم يكن يفكر في الملك الذي صاره، وكان يفكر في الطبيب الذي لم يصره، لكن أساتذته في المدرسة العسكرية قرروا كل شيء عنه. في واشنطن، كان الأمر مختلفًا، لم يكن مختلفًا كثيرًا، لكنه كان مختلفًا، ليس أساتذته في المدرسة العسكرية هم الذين قرروا عنه كل شيء، وإنما ظرف من الظروف التي يخشاها الملوك. تعرّف هناك على من ستغدو الملكة، وهو لهذا صار ملكًا. واليوم للتخلي عن كل شيء، كان عليه أن يتخلى أول ما يتخلى عن الملكة، وبعد ذلك عمن يوهمونه أنه ملكٌ كلَّ يوم، عن الحاشية.
أول شيء فعله بخصوص الحاشية كان إقالة رئيس ديوانه ورميه في السجن بتهمة الفساد، عند ذلك فهم كل رجال القصر أن مسألة التخلي مسألة جادة، وأنهم مهما عظّموا الملك لن يُشعروا الملك بأنه ملك، فأهملوا الملك، وتقاعسوا عن خدمته، والملك وجدها فرصة سانحة ليثبت لهم أنه ملك دونهم، فأقال هذا أو ذاك، وسجن هذا أو ذاك، رفع الصغير، وجعل منه كبيرًا، وأنزل الكبير، وجعل منه صغيرًا، كان على الملك في ساعات حكمه الأخيرة أن يثبت جدارته، ولكن فعله جاء متأخرًا، وأثره ظل محدودًا. لم يبدل ذلك شيئًا من الوضع الميئوس للبلد، ولم يحل دون غضب الناس من الفاسدين، وكل رؤوس الدولة منهم.
دخل فرانك لانج على الملك في مكتبه، فوجده في قميص تاهيتي الرسم نصف كم، وهو يركن رأسه في كفه، وعلى وجهه تبدو أمارات الحيرة.
- مولاي، لم كل هذه الحيرة وكل شيء تم كما تريد، بدأ رجل التحري الخاص الكلام. جلالة الملكة زوجتكم بعيدة إلى أمد أحسبه لن يكون طويلاً، ولكنه كاف لتنفيذ ما عزمتم عليه دون التأثير فيكم، والحاشية من حولكم لم تعد تزين لكم ما يرغمكم على البقاء في الحكم.
- وأنا في لندن قرب أمي لا أشعر بكوني ملكًا بل ابنًا، همهم ملك الأردن.
- هل يخاف جلالتكم من الحرية إلى هذه الدرجة؟ طرح فرانك لانج سؤاله بشكل مباشر.
- هذا لأنني وأنا قرب أمي لست حرًا؟ طرح الملك سؤاله كجواب للسؤال.
- الابن قرب أمه يكتفي بكونه ابنًا.
- حقًا ما تقول، فهل يكون الملك أكثر حرية؟
- هذا يتوقف.
- على ماذا؟
- صائد الطير يقول عن هذا حريتي.
- لم أكن أبدًا صائدًا لشعبي.
- فلنفترض حقًا ما تقول، ولكن غيرك يصطاد باسمك.
- لهذا السبب أريد التخلي عن السلطة.
- هل يمكن إرجاء ذلك قليلاً، الوقت الذي تطلق فيه أبولين دوفيل سراح جلالة الملكة؟
- أنت لا تثق بالشعب ثقتي به.
- الواقع، يا مولاي، أنا لا أثق بحكام الشعب الجدد. أمريكا، نعم، تثق بهم، وتعمل على مجيئهم، لأن السياسة قحبة، فليسمح لي جلالتكم، وهم تحت ثوب الثورة يسعون لجر البلاد إلى عصور الانحطاط وجدع النساء في سبيل الإبقاء على مصالحهم كما كانت دومًا مصالحهم، وإلى الأبد.
- لكني أنا أثق بالشعب ولا أثق بحكامه القدامى كالجدد. وها أنا استبق الجميع، وأصنع للشعب ثورته.
- ليس هكذا تصنع الثورات، يا مولاي.
- إذن تصنع كيف؟
- آه، لو كنت أعرف!
- لنبدأ كيفما اتفق، وبعد ذلك سنرى.
- وإذا حصل لك شيء.
- وأنا خارج الحكم لن يحصل لي شيء.
- لكني سأحمي جلالتكم.
- لأنك أخلص المقربين مني، فرانك لانج.
- لا، ليس لهذا.
- إذن لماذا؟
- لأني، على عكس كل الأبناء، وأنا في باريس قرب أمي لا اشعر بكوني ابنًا بل ملكًا، وأنت تدفع لي جيدًا.
زينت ثغر الملك ابتسامة واسعة، وبعد ذلك عبس، وراح يهمهم:
- أنا أتحرق شوقًا إلى رؤية صاحبة الجلالة زوجتي.

* * *

خرج الملك عبدول من مكتبه، وهو يدفع فرانك لانج أمامه، ليتناول طعام الغداء معه في البلد، كما كانت رغبة جلالته، فوجد حارسيه الشركسيين اللذين يرتديان كممثلين هزليين ثيابهما الفلكلورية، وهما يرتكزان بقدمهما على الجدار، ويدخنان سيجارة، دون أن يباليا بملك أو بغير ملك. دفع الملك الباب على سكرتيرته لتطلب له تاكسي بعد أن رفض الذهاب بسيارته المرسيدس المصفحة، فوجدها تضاجع وقوفًا مع أحد الأمراء. نادى على مستشاره، فلم يلب مستشاره النداء. كان يغط في نوم عميق، وهو يضع وجهه على أكداس مكدسة من الملفات. حار الملك في أمره، ففتح فرانك لانج تلفونه المحمول، وطلب للملك تاكسي.
- هل رأيت، فرانك؟ قال الملك، عندما تفلت السلطة من بين يديك كيف يعاملك مخدوموك.
- ولكن جلالتك لم يتخل عن السلطة بعد، رد رجل التحري الخاص.
- كما لو كنت تخليت، وهذه هي النتيجة.
- وإذا كان الأمر مجرد إشاعة؟
- ولكن الأمر ليس مجرد إشاعة.
- فلنفترض أن الأمر مجرد إشاعة.
- بإشاعة أم بغير إشاعة، الملك دون سلطة ليس ملكًا.
- تريد القول السلطة أولاً؟
- وظلال الملوك والرؤساء وعظام الكون الذين حطوا الرحال في هذا القصر دون سلطة ليست ظلالاً.
- تزول السلطة، فيزول كل شيء.
- ومع ذلك، السلطة لا تكلف شيئًا، بضعة أوامر.
- وعددًا هائلاً من المهرجين.
ضحك الملك، وقال، وهو يترك قصر رغدان، ويقف على عتبته بانتظار التاكسي:
- كان أبي يعرف كل هذا ويتجاهله.
- لأنه كان يريد أن يموت ملكًا.
- على من؟ على الأردنيين أم على المهرجين؟
- الأردنيون شعب من أروع شعوب العالم.
- لهذا هم يحتاجون إلى ملك بالفعل، ملك غيري.
- مولاي...
- ادعني عبدول كما أدعوك فرانك.
- مولاي، هل سيجدون غيرك؟ سؤال صغير أطرحه عليك.
- سنرى إذا كانوا سيجدون غيري.
- مولاي...
- قلت لك ادعني عبدول.
- مولاي...
- لماذا تصر على دعوتي مولاي؟ هل تريدني أن أعطيك أمرًا كيلا تدعوني مولاي؟
- مولاي، عندما يتخلى الملك عن السلطة يصير ملكًا بالفعل في عيون الناس.
- سنرى إذا كنت مؤهلاً لذلك.
وصل التاكسي، فارتبك السائق عند رؤية الملك. نزل ليقبل يده، فرفض صاحب الجلالة. تركه ينحني لتمثال خيالي، بينما ركب، وركب فرانك لانج إلى جانبه، وانتظر كلاهما أن يتوقف السائق عن الانحناء، ويقودهم إلى المطعم الشعبي "هاشم"، إلى أن كان ذلك. أخذ السائق يهبط بسيارته الطريق المنحدرة الدائرية من باب القصر الداخلي إلى بابه الخارجي، وفرانك لانج يفكر: دون الملك أي معنى لقصر رغدان؟ ودون قصر رغدان أي قيمة لعمان؟ ودون عمان أي تاريخ للأردن؟ لم يخرج الحرس لتحية سيدهم، رأوه، وجاءت عيونهم في عينيه، ولم يتحركوا من أماكنهم. تحرروا مما هو مفروض عليهم، فلم يكن ذلك واجبًا. كان ذلك أشبه بكل شيء في مملكة هي شبه مملكة، مملكة كاذبة. والملك عبدول لم يعد يطيق هذا، أن يكون ملكًا على مملكة كاذبة، أن يكون ملكًا كاذبًا. ومع ذلك، كان مع عبور التاكسي ينظر إلى وجوه أفراد رعيته، ويجد أنها كلها حقيقية. كان الناس حقيقيين، ألا يكونوا أنفسهم شيء آخر، لكنهم كانوا حقيقيين، ألا يكونوا قدر أنفسهم شيء آخر، لكنهم كانوا حقيقيين، ألا يكونوا كما يتمنون لأنفسهم شيء آخر، لكنهم كانوا حقيقيين.
- في مطعم هاشم كل الأطباق لذيذة، همهم الملك.
- هل ذقتها كلها؟ سأل فرانك لانج.
- لا، لم أذق أيًا منها، أجاب الملك.
- ستُرضي ذائقتك الطبخية بعد قليل، قال فرانك لانج مبتسمًا. منذ متى وأنت تحلم بذلك؟
- منذ اليوم الذي صرت فيه ملكًا.
- أنت على الأقل تعلمت شيئًا آخر.
- ما هو؟
- أن تحب ما يكرهه الناس.
- لهذا لم أكن شعبيًا.
- وكذلك...
- ماذا؟
- الحرمان.
- شظف العيش؟
- لا تتلفظ بحماقات، يا صاحب الجلالة.
أنزلهما سائق التاكسي عند فوهة الحوش القابع في نهايته مطعم هاشم، ورفض أن يأخذ أجرته. كان يردد: إنه لشرف عظيم لي، يا مولاي! أنه لشرف عظيم لي، يا مولاي! وعاد يريد تقبيل يد جلالته، وعاد ينحني للتمثال الخيالي.

* * *

خرج صاحب مطعم هاشم لاستقبال الملك أول ما رآه قادمًا بصحبة فرانك لانج، وبالغ في انحنائه، خصه بأحسن طاولة، وجاءه من وراء الآلة الحاسبة بالكرسي المنجد الذي له: ويا سيدنا، ويا سيدنا، ويا سيدنا...
- أحضر لنا من كله، طلب الملك عبدول، حمص وحمص حب وفول وفول بالطحينة وفلافل وكل ما معها من بصل ونعنع وزيتون ومخلل وخبز التنور خاصة.
- وكل ما معها، أعاد صاحب المطعم كالإنسان الآلي.
- وكل ما معها، قال الملك عبدول من جديد. أليس كذلك، فرانك؟
- وكل ما معها، قال فرانك لانج.
- وماذا ستشرب، يا سيدنا؟ سأل صاحب المطعم.
- سأشرب من الماء الذي يشرب منه الناس، أجاب صاحب الجلالة، وهو يرفع إبريقًا من الفخار موضوعًا على الطاولة، ويزربع من فوهته.
- تحت أمرك، يا سيدنا، همهم صاحب المطعم قبل أن يذهب.
تناول رجل التحري الخاص إبريق الفخار من يد الملك، وزربع من فوهته، ثم أعاده إلى مكانه.
- ما رأيك فرانك؟ سأل الملك، وهو يتنهد، وينظر من حوله سعيدًا.
- كل شيء يتوقف على ما سنأكل، أجاب فرانك لانج.
- إنه أحسن مطعم شعبي في البلد، قال الملك بشيء من الزهو.
- أنتم على الأقل تجدون هذا أما نحن... همهم فرانك لانج.
- الهمبرغر.
- والفريت.
- لكنني آكل من الهمبرغر ثلاثة ساندويتشات أو أربعة ولا أشبع.
- ليس هذا لأنك صاحب جلالة، يا صاحب الجلالة. كلنا يفعل هذا.
- أعرف أنكم لستم كلكم ملوكًا، ومع ذلك.
- نحن ديمقراطيون في كل شيء حتى في أكل الهمبرغر، رمى رجل التحري الخاص، وهو يضحك والملك معه. أنا أمزح، يا مولاي.
- أعرف أنك تمزح، وإلا ما شاركتك الضحك. مهما يكن، همبرغر أو دون همبرغر، أنتم ستظلون ديمقراطيين في الوقت الذي نحن لم نكن فيه ديمقراطيين أبدًا.
- ما أسهل الديمقراطية وما أصعبها، هتف رجل التحري الخاص.
- أعرف أن الديمقراطية صعبة سهلة، همهم ملك الأردن، الديمقراطية كاللغة، لتتعلمها يجب أن تولد معها.
- ما عدا في مستشفى الأمراض العقلية.
- لكن الأردن ليس مستشفى للأمراض العقلية، والأردنيين ليسوا مجانين.
- البعض منهم، الثوريون. هل تفهمني؟
- لا حاجة بي إلى قراءة فرويد كي أفهمك.
- وكل الذين يكرهون أمهاتهم.
- تعني أنني لن أكون أبدًا ثوريًا؟
- سيكره جلالتك أمه لأجل شعبه.
- لم يقل فرويد هذا.
- ومن أخبرك أن فرويد قال كل شيء؟
بدا على جلالته الارتباك، وراح يلقي نظرة زائغة. مضت ساعة على وجودهم في المطعم أو يزيد، والملك لا يبتسم، ولا يتكلم. أخذت أطباق الأكل تتوارد على أيدي خدم المطعم، فتكلم الملك، وابتسم، وهو يتابعها إلى أن وقف على فحواها: دجاج محمر، وخروف مشوي، وسمك مقلي، ومحاشي، ومخاشي، و... و... فقطع الملك ابتسامته، وصاح عابسًا:
- ليست هذه طلباتنا!
- إنهم الجيران، يا سيدنا، همهم صاحب المطعم، ما أن علموا بقدومك حتى طبخوا لك كل هذا بلمح البصر ليرضوك، وليعبروا عن فرحهم بوجودك بينهم.
- مولاي، حضورك ترك أثرًا في حياتهم لا يُمحى، همهم رجل التحري الخاص.
- ولكن، فرانك، ماذا عن ذائقتي الطبخية؟ سأل الملك، وهو يعود إلى الابتسام.
- سترضيها في مناسبة أخرى، أجاب فرانك لانج، وهو يغرف للملك، اليوم فصاعدًا لسوف تتكرر المناسبات.
أخذ الملك ورجل التحري الخاص يأكلان بشهية، والجيران يسترقون النظر إليهما من الباب سعداء. كان للأكل طعم خاص غير ما اعتاد عليه ملك البلاد، في قصر رغدان كان الأكل نفسه، ولكن لم يكن الطعم نفسه. ومع ذلك، كان كل من يأكل في قصر رغدان يثني على مهارة الطباخ. لم يكن ذلك بسبب المهارة، ربما كان ذلك بسبب الجو. في العصور الوسطى، كان ملوك فرنسا يجربون أطباقهم الجديدة تحت أسنان المرضى، وكانت المستشفيات مختبراتهم الطبخية. لم يكن ذلك بسبب الجو، أو، ربما بسبب الجو شيئًا ما، الجو الذي لم يعتد المرء عليه كما هو حال جلالة الملك في المطعم الشعبي، وبسبب شيء آخر على علاقة حتمًا بالطبخ، وليس بالطباخ. خلال الأكل لم ينطق الملك عبدول بكلمة واحدة، كان يأكل، ومن حين إلى آخر كان يبتسم، كان يبتسم ابتسامة خفيفة، وينظر أمامه دون أن ينظر إلى أحد. كان يبدو عليه الصفاء، ليس بسبب لباسه البسيط، وكانت تبدو عليه الرصانة، ليس بسبب هيبته الملكية، ومن حين إلى آخر، كان يحمل إبريق الفخار، ويزربع من فوهته.

* * *

اقترح الملك على رجل التحري الخاص أن يتحليا هناك غير بعيد لدى حلويات جبري، فذهبا سيرًا على الأقدام، والناس بين متحايل ومتجاهل، وهؤلاء لأنهم لم يكونوا يريدون للملك إحراجًا. كانوا يتصرفون كما لو كان الأمر عاديًا، ولم يوهموا الملك بشيء آخر. كانوا يريدون أن يمضي الأمر بشكل طبيعي، مما أسعد الملك، وجعله ينسى التاج الوهمي الذي ينقله دومًا على رأسه مثقلاً إياه.
- تفضل بانتظار صدر الكنافة الجديد في الداخل، يا سيدنا، طلب الخادم من الملك، وهو يجرف بمجرفته آخر ما في الصدر من حلوى، ويضعه في صحن.
نظر الملك عبدول حوله، ورأى ماسح أحذية يقعي غير بعيد، فقال لفرانك لانج:
- سنمسح حذاءينا، فرانك، بانتظار ذلك، واتجه نحو ماسح الأحذية. يسميه الناس حلاق الأحذية، همس الملك في أذن رجل التحري الخاص.
- هذا لأنه يصوبنها بفرشاة؟ جازف فرانك لانج في كلامه.
- تمامًا، أكد الملك.
- ويجرف الرغوة بموسى تدفع صاحب الحذاء إلى لمس لحيته، أضاف رجل التحري الخاص، وهو يجازف في كلامه دومًا.
- ليس تمامًا، قهقه الملك.
- حقًا لم أدرس في علم النفس هذه الظاهرة، همهم الفرنسي، وهو يبتسم.
- علم الأحذية، رمى الملك.
- مولاي، القمع بسبب هذا.
- أنا أعتذر.
- مولاي، لا تعتذر.
- أنا أعتذر عن قمع لم أرتكبه.
- مولاي، كل علم النفس يقوم على القمع، وأنت صدقت القول، إنه لعلم أحذية تدوس الرؤوس.
- لكني ما قصدت إلا الهزء والسخرية.
- ليس أنا.
طوقت الملك مجموعة من العابرين لثوان، فتحسس جيبي بنطاله، وهتف برجل التحري الخاص:
- لقد سرقني أولئك السوريون محفظتي وهاتفي المحمول.
خف فرانك لانج إلى اللحاق بهم، وغاب بضع دقائق أخذ ماسح الأحذية "يحلق" خلالها حذاء الملك. عاد رجل التحري الفرنسي، وهو يحمل هاتف الملك المحمول ومحفظته، ويسأل:
- كيف عرف جلالتك أنهم سوريون؟
- ليس هذا لأنهم كتبوا ذلك على جباههم، أجاب الملك.
- إذن كيف؟
- عندما كان العراقيون هنا أيام محنتهم كان يحصل للناس معهم الشيء ذاته.
- حلاقة حذائك أعادت إليه لمعانه، علق فرانك لانج.
- تعال، إنه دورك الآن، هتف الملك بينما راح أحد الصبيان يعرض عليه شراء خرطوش سجائر بثمن منخفض. لا أريد سوى علبة واحدة.
- كل الخرطوش، يا سيدنا، قال الصبي.
- أنا لا أدخن إلا لمامًا، برر الملك عبدول مسلكه.
- كل الخرطوش، يا سيدنا، أعاد الصبي.
- سأشتريه لك، فرانك، قال الملك لرجل التحري الخاص الذي بدأ ماسح الأحذية "بحلق" حذائه.
- أنا لا أدخن إلا لمامًا مثلك، يا مولاي، قال فرانك لانج.
- كل الخرطوش، يا سيدنا، كله، ألح الصبي، وعلبة الكبريت بالمجان.
- هات، نفخ الملك، وهو يعطي للصبي ورقة نقدية. احتفظ بالباقي.
- الله يديمك، يا سيدنا، الله يحميك، لهج الصبي بالدعاء، وهو يتفحص الورقة النقدية.
- بعد الكنافة السيجارة ألذ شيء، قال الملك، وهو يفتح الخرطوش، ويخرج علبة أعطاها لفرانك لانج، ثم علبة احتفظ بها. خذ، قال الملك لماسح الأحذية، هذا لك، أعطاه كل ما تبقى في الخرطوش من علب، وورقة نقدية، وهذا يدعو للملك، ويدعو.
وضع الملك سيجارة في فمه دون أن يشعلها، وذهب مع مرافقه الفرنسي باتجاه صدر الكنافة الجديد، بينما فرانك لانج يتأمل حذاءه، ويبتسم إعجابًا.

* * *

- بعد الكنافة، قال الملك عبدول، وهو ينفخ سيجارته، ليس هناك أطيب من فنجان قهوة تركية سنأخذها في مقهى السنترال بالوجه المقابل. أشار جلالته إلى باب عمارة مفتوح على الرصيف المقابل، وهتف: هيا بنا! أمسك بيد فرانك لانج، وهو يقطع الطريق خائفًا بين صف سيارات طويل لا نهاية له، ولا يتوقف دقيقة واحدة، ومن باب العمارة المفتوح صعد الرجلان على درج ضيق ليجدا نفسيهما في قاعة مليئة بالزبائن والدخان.
- سنجلس على البلكون، قال الملك للنادل.
- تحت أمرك، يا سيدنا، همهم النادل، وهو يحمل للملك مقعدًا وثيرًا.
نظر الملك من البلكون، وهو يبتسم. تبدت له كل منطقة البلد تحت قدميه، بحركتها التي لا تنتهي، وصخبها، وأصالتها.
- الحركة والصخب والأصالة، ألقى الملك كما لو كان يلقي بيت شعر.
- أشك في الأصالة، يا مولاي، علق فرانك لانج.
- اتركني وشأني فرانك، هلا سمحت؟ نبر الملك.
- لا شيء فوق رغبتك، همهم رجل التحري الخاص.
- نعم، هكذا، همهم رجل البلاد الأول.
- ماذا تريد أن تشرب، يا سيدنا؟ سأل النادل.
- الركوة عندكم أعظم ركوة، هتف الملك.
- قهوة تركية، يا سيدنا؟ همهم النادل.
- بالهيل المطحون، وقليل السكر، عاد الملك عبدول يهتف.
- الخواجا أيضًا؟ سأل النادل فرانك لانج الذي هز رأسه موافقًا.
- وأحضر لنا طاولة نرد، قال الملك وابتسامته تتسع وتتسع.
- تحت أمرك، يا سيدنا.
فجأة، صاح النادل من مكانه:
- تنين عالريحة.
وحمل طاولة نرد كانت منسية على طاولة قريبة، وضعها أمام الملك ورجل التحري الخاص، وفتحها لهما، وهو يهمهم:
- شرفتما السنترال.
اختفى قليلاً قبل أن يعود بركوة مزدوجة، صب منها القهوة التركية اللذيذة الرائحة في فنجانين صغيرين موضوعين في صحنين صغيرين. جاء المثقفون من رواد المقهى، والتفوا حول اللاعبيْن المهميْن، وكلهم راح يشجع الملك، والملك يكسب في كل مرة. ترك فرانك لانج مكانه لغيره، وغيره لغيره، والملك لا يتوقف عن الكسب إلى أن أوقف سيد البلاد اللعب، وقال:
- ليس بالغش يكسب الملك.
فاحتج الحضور بصوت واحد:
- حاشا الله أن يغش جلالتكم.
- ليس أنا، صحح الملك، وإنما أنتم، وأولكم فرانك. لماذا جعلتموني أكسب وجعلتموكم تخسرون؟
- مولاي... همهم فرانك لانج تحت ابتسامات كل من كان هناك.
- عبدول، قال الملك، كنتُ موضوعًا للغش، وتداوم على اعتباري ملكًا.
- مولاي...
- آمرك بدعوتي عبدول.
- أمرك، يا مولاي.
- ماذا قلنا؟
- عبدول، كل ما فعلناه أننا يسرنا لك أسباب الكسب. أما إذا كنت تعتبر ذلك غشًا من طرفنا لصالحك، فاعذرنا.
- مولاي... همهم أحد المثقفين.
- عبدول، أمر الملك.
- عبدول، الحق أن الحظ لم يؤاتنا، فعملنا على أن تكون أنت المحظوظ.
- مولاي... همهم مثقف ثان.
- عبدول، صاح الملك.
- أبو نواس كان يخاطب الرعاع كما لو كانوا ملوكًا وأنت تريدنا أن نخاطب الملوك كما لو كانوا رعاعًا! صاح المثقف الثاني.
لكنه رضخ لأمر جلالته:
- عبدول، كل ما في الأمر أننا أردنا أن نتشبث باللعب مع الملك على الرغم من خسارتنا.
- إنه لشرف عظيم أن نلعب مع جلالتك، وأن نخسر، همهم مثقف ثالث.
- اللعب مع جلالتك قصيدة، يا سيدنا، همهم مثقف رابع، ولكي تكون القصيدة ناجحة كان عليك أن تكسب على الدوام.
- أن يكسب جلالتك هذا يعني أن نكسب كلنا، همهم مثقف خامس.
طلب الملك قهوة تركية للجميع، وتحول الاتصال إلى تواصل بين الملك والمثقفين.

* * *

أراد الملك أن يشتري ساعة لزوجته الملكة في السوق السوداء، فذهب مع فرانك لانج إلى ساحة الجامع الكبير. كان بائعو الساعات المهربة كلهم سوريين، وكانوا يبيعون بضاعتهم على مرأى ومسمع جميع أفراد الشرطة.
- هذه ساعة كارتييه صح، يا سيدنا، همهم البائع، وهذه ساعة كارتييه مش صح. الصح ثمنها مائة دينار، ومش الصح خمسون.
تناول الملك عبدول الكارتييه الصح، وراح يتفحصها. أعطاها لفرانك لانج كي يتفحصها بدوره، وتناول الكارتييه مش الصح دون أن يجد أي فرق بينهما. أعطى مش الصح لرجل التحري الخاص، واستعاد الصح، وذهب متأملاً.
- آخذ الصح بخمسين، قال الملك. اقبل أو لا تقبل.
خلصهما البائع الساعتين، وأخذ يخلطهما، والملك عبدول يصيح:
- أين الصح من غير الصح الآن؟
حمل الملك الساعتين، وقلّبهما، وهو يقول:
- كلاهما الشيء نفسه.
قلّبهما فرانك لانج بدوره، وقال:
- صحيح ما قلت، الشبه بينهما كامل.
حمل البائع الساعتين، وطلب، وهو يمد إحداهما:
- ماذا قلت، يا صاحب الجلالة؟ أعطيكها بخمسين.
- وكيف لي أن أعرف الصح من غير الصح؟
ضحك البائع الماكر، وقال:
- أنا أعرف. خذ، هذه هي الصح.
فلم يأخذها.
- والله إن هذه هي الصح.
- لا تحلف.
أخذ فرانك لانج يتفحص غير الصح، ويقول:
- مولاي، هذه هي الصح.
نظر الملك إلى الساعة الصح، وقال "لا"، وإلى غير الصح، وقال "لا"، وأعطى للبائع ظهره، والبائع ينادي عليه، ويقول:
- الساعتان صح، يا مولانا.
- وإذا ما كانتا غير صح، الاثنتان؟
أمسك المهرب الملك من ذراعه، وجذبه:
- انظر إلى الكبسة هنا، هذه الكبسة لا أحد يستطيع تزويرها، إنها كبسة كارتييه.
- سآخذ الساعتين بخمسين. اقبل أو لا تقبل.
- مبروك عليك، يا سيدنا، ودفعهما في يده، وأغلق عليهما أصابعه.
عاد الملك يقلّب النظر في الساعتين، وبعد بعض التردد دفع للبائع خمسين دينارًا، فافرنقع البائع، وفرانك لانج يقول:
- صفقة رابحة، عبدول، حتى ولو لم تكونا صح، صفقة رابحة.
- لكني أفكر فيم ستفعل الملكة بساعتين.
- ستستعمل واحدة إلى أن تخرب ثم ستستعمل الثانية.
- وإذا لم تخرب؟ إذا كانت صح بالفعل، ولم تخرب؟
- ستعرف أن الثانية مش صح، وسترتاح.
- وإذا كانت الثانية صح؟
- ستتركها ككل شيء صح في قصر رغدان.
عتمت ملامح الملك، وهمهم:
- وهل هناك شيء صح في قصر رغدان؟
في تلك اللحظة، دوى هتاف: "الله أكبر!"، فوضع الملك الساعتين في جيبه، والتفت إلى مجموعة من المصلين الخارجين من المسجد الكبير. كانوا يحملون صور الملك، وأعلام الأردن، وأعلام الإخوان المسلمين، ويافطات تندد بالفساد، وتطالب بالمساواة بين الأردنيين، وبالعدل، وبالحرية. غضب الملك عندما رأى صوره، صورًا كانت للتغطية، فذهب، والكل ينظر إليه، ومزقها. تناول أعلام الإخوان المسلمين، وأنزلها. بعد ذلك، تقدم الملك المتظاهرين، وأخذ يصرخ:
- يسقط الملك!
فالتقطه رجال الأمن، وذهبوا به إلى مركز الشرطة.

* * *

في حجرة التوقيف، تعرف ملك الأردن على ملوك آخرين. كانوا قبيحي الوجوه، قذري الملابس، لكنهم كانوا يملأون المكان، ولم يكن هناك مكان لظلالهم.
- أنا ملك البطيخ، قال الأول.
- أنا ملك البطاطا، قال الثاني.
- أنا ملك المناقيش، قال الثالث.
- أنا ملك الشاي، قال الرابع.
- أنا ملك الشاورما، قال الخامس.
- أنا ملك التشيكين تيكا، قال السادس.
- أنا ملك المعكرونة، قال السابع.
- أنا ملك العدس، قال الثامن.
- أنا ملك الزيت والرز والصابون، قال التاسع.
- أنا ملك البالات، قال العاشر.
- أنا ملك الكنادر، قال الحادي عشر.
- أنا ملك الخردوات، قال الثاني عشر.
- أنا ملك العقاقير، قال الثالث عشر.
- أنا ملك العاهرات، قال الرابع عشر.
- أنا ملك العاهرين، قال الخامس عشر.
- وأنا ملك الملوك، قال الملك.
أخذوه في أحضانهم، وأخبروه أن لولاهم لكان استغلال التجار أكبر استغلال، ولمات الناس من الجوع والمسغبة. كانوا "لوبي" الشعب، ملوكه ضد مافيوزاته، وهم لم يكونوا في مركز الشرطة إلا لأن التجار وشوا بهم لأجل التخلص منهم، ورفع الأسعار ما شاء لهم. جاء فرانك لانج، وكفلهم كلهم والملك، وأطلق سراحهم. رافقهم الملك إلى مقرهم تحت السيل، فذهبوا إلى قصر رغدان، وأحضروا له سريره، ومكتبه، وبيجامته. قالوا له أنت ملكنا، ونحن السمع والطاعة.




القسم الثالث

توقفت الأزمنة تحت السيل عند منتصف الليل، فلم تعد تسمع تأوهات عمان. كان الملك ينام ملء جفنيه، وكان لا سيل هناك. كانت الأقبية جافة، وجسد عمان نحيفًا. بين ذراعي عمان، كانت جبالها الجرداء، وكانت آلاف النجوم الميتة. كان الموت يتنفس في عمان، وأصابع ميتافيزيقية تخرج من البتراء، وتخلع شلحات النساء. كانت الطريقة الوحيدة التي يعبّر فيها التاريخ عن حبه لعمان. كانت الأصابع الحجرية تخلع شلحات النساء، وتنفل ضفائرهن، وكان جمالهن باهرًا. لم تكن النساء كغيرهن، كن نساء عمان، من ضلع الصخر كن، ومن شبق الدين. لهذا كان الحلم بنساء عمان معصية للأنبياء، وفي عمان كان الرجال أنبياء كلهم. لم يكن فرانك لانج لينام ملء جفنيه كمليكه، لكنه كان يحلم كما يحلم الأنبياء بنسائهم. عارية كانت أبولين دوفيل في حضنه، حية كانت، وعقربًا. كانت تلدغه، فيتألم، ويتمنى ألا يزول ألمه. كان الألم الذي تسببه له أبولين دوفيل، وهي تلدغه، اللذة. لم يكن ألم اللذة، كان اللذة، وكان فرانك لانج يتأوه دون أن يسمعه أحد، حتى أبولين دوفيل العارية في حضنه لم تكن تسمعه. كانت لا تسمع شيئًا، كانت مشغولة بلدغه، تترك السم يسيل من نابها إلى كل جسده، فيلتف فرانك لانج بذراعيها، ويترك نفسه لها، هكذا، يترك كل نفسه لها، فيكون موضوعًا لشهوتها، كالرعية موضوعًا للملكية. كان فرانك لانج وقتها موضوع الشهوة، هذا ما كان عليه أن يكون بالمقابل، أن يكون موضوع الشهوة، لتغدق عليه أبولين دوفيل كل الألم، كل اللذة.
- انهض لانج، همست أبولين دوفيل في أذنه، وهي تهزه هزًا خفيفًا.
نهض رجل التحري الخاص دفعة واحدة، فهدأته، وهي تغدق عليه ابتساماتها بسخاء.
- هذه أنا، همهمت ضابطة الدي جي إس إي، عدت بالملكة إلى عمان.
- إذن لم يكن ذلك سوى حلم، همهم فرانك لانج.
- يا منحل الأخلاق! رمت أبولين دوفيل دون أن تتوقف عن إغداق ابتساماتها عليه بسخاء، تغتصبني خلال نومك!
- لم يكن اغتصابًا، أقسم لك.
- إذن ماذا كان، أيها الفُطر؟
- كان شيئًا أقرب إلى عناق الأنبياء.
- لا تقل لي إن الإخوان المسلمين هم الذين أباحوا جسدي لك.
- أبولين دوفيل، لماذا لا نتزوج؟... أعرف أنك تحبين الجنسين، سأترك لك مطلق الحرية.
- سنتزوج في أحد الأيام، أيها الفُطر، لست أدري متى.
- لن نرجئ ذلك إلى الأبد.
- يجب أن تساعد ملكة الأردن كما أساعدها، أنا لا أطلب منك التخلي عن ملكك، وبعد ذلك سنرى.
- لماذا لا تساعدين أنت ملك الأردن كما أساعده؟
- عليه التنازل عن العرش للحسيني ولده القاصر، وترك كل شيء لوصاية زوجته، أم أنك ستجعل من أصحاب اللحى كوابيسك بدلي؟
- لقد وقع جلالته على حلفائه، ملوك تحت السيل، وسيخلّص البلاد من الإخوان المسلمين كما تريد جلالتها، وكذلك من الفاسدين حلفائها.
- لن تقبل جلالة الملكة.
- ولن تقبل أمريكا.
- لكننا سنحاول، قل لي إننا سنحاول، لتكن الملكة وصية، وبعد ذلك ليكن الملك أي شيء آخر، ليكن رئيسًا. في بلاد العرب لا يوجد فرق كبير بين الملك والرئيس إلا بالاسم. هل تفهمني، أيها الفُطر؟
- انتهى العهد الذي يكون فيه الرئيس رئيسًا إلى الأبد.
- رئيس الأردن سيكون ثلاث مرات رئيسًا، أعدك ألا يبقى إلى الأبد. ثلاث مرات شيء كثير، والرئيس الديمقراطي بالفعل يكره البقاء في الحكم طويلاً. ثلاث مرات لانج، هل تسمعني. لنتفق أنا وأنت حالاً.
- وماذا عن زواجنا؟
- يلعن دين، نبرت أبولين دوفيل، يلعن دين، يلعن دين! أي خراء الحياة مع منحصر!
- استبداد الحب هذا هو.
- وهذا هو قضيبي، هل تنسى أنني كابتن، وأن لي قضيبًا كغيري من الضباط! يلعن دين، يلعن دين، يلعن دين! انبسط الآن، كن قضيبي!
- غدًا سأكلم جلالة الملك بالتنازل عن العرش للحسيني ولده.
- هل رأيت كم هو الحب جميل الآن؟
- لكن البلاد ستمر بحال عصيبة لا سابق لها.
- هذا من شرط كل ثورة.
- عندما كنت أريد الثورة على أمي كنت أعمل على تدهور الوضع بيننا إلى أقصى حد.
- أرأيت؟
- كان علي أن أرعبها بينما كنت أرتعب منها ارتعابًا، فأتظاهر بالجنون.
- التظاهر بالجنون كالجنون ليس شيئًا بذي بال عندما نصر على ما نريد.
- صحيح ما تقولين، في لحظة معينة نحن لا نعلم، الجنون هو هكذا، ألا نعلم إذا كان جنونًا.
- عندما نصر على ذلك.
- نعم، عندما نصر على ذلك.
- اتفقنا إذن؟
ولم تنتظر منه جوابًا، جذبته إلى صدرها، وقبلته قبلة طويلة، طويلة، طويلة جدًا.

* * *

في الصباح، لحق فرانك لانج بالملك ليبول وإياه على طرف السيل.
- لن يطفو السيل بالبول، قال الملك، بالبول أو بدونه، في الصيف لا سيل هناك.
- لكنه سيطفو بالأفكار، قال رجل التحري الخاص.
- الأفكار، تنهد الملك.
- الأفكار التي تشغلنا، تنهد رجل التحري الخاص.
- إذن ليسهم الدكتاتوريين فقط، همهم صاحب الجلالة.
- الأنبياء أيضًا، همهم فرانك لانج.
أخذ الرجلان يبولان، فسأل الملك:
- ماذا لديك فرانك؟
- الملكة هنا.
- أبولين دوفيل هي التي أخبرتك؟
- وأنا أوافقها الرأي.
- التنازل عن العرش للحسيني ولدنا.
- مولاي...
- عبدول.
- عبدول، سيمضي الأردن بحال عصيبة، وستكون...
- أكثر من هذه الحال العصيبة؟
- إنما الحُكْم بُعْد النظر، سيتفاقم الوضع، وستكون البديل الوحيد.
- لأنني لست اليوم البديل الوحيد؟
- هناك بدائل عديدة ربما كنت أحدها، ولكنك لست البديل الوحيد.
- لم يجرؤ أحد على قول ما قلت حتى هذه الساعة.
- لأنني أستمد الشجاعة من... اغفر لي.
- وإذا لم أغفر لك؟
- لا أحد يساويك في الإزعاج، خراء!
- من يخرّي الآخر، أنا أم أنت؟
- أنت، جلالتك، خراء، خراء!
انتهى الرجلان من البول، واعتذر فرانك لانج. عادا إلى قاع السيل ليجلسا على حجرين من حجارته، ولم ينظر أحدهما إلى الآخر. جمع الملك حفنة رمل فضية في قبضته، ونثرها.
- تحت السيل هذا أكثر راحة من كل العروش، همهم الملك.
- هذا صحيح، همهم فرانك لانج.
- ومع ذلك.
- لم تتغلب على خوفك.
- السلطة لمن يخاف، هذه بديهية لا تحتاج إلى علماء النفس.
- لن تخاف لما يجيء الشعب بك إلى السلطة.
- هذا ما يعلمه كل الحكام ولا يعملون به، حتى الذين يجيء الشعب بهم إلى السلطة. لهذا، يتقدمون عندكم هيابين من أجل افتكاك عهدة ثانية، ويعملون كل ما بوسعهم في سبيل ذلك.
- تريد القول الحكام عندنا يخافون من فقدان السلطة.
- السلطة لمن يخاف، كما قلت لك، لمن يخاف من أي شيء ومن كل شيء وأول الأشياء السلطة.
- جلالة الملكة زوجتكم من هذا النوع.
- سأذهب إذن لتقديم الساعتين لجلالتها.
- احتفظ بواحدة إلى وقت آخر، وقت عودتك إلى الحكم، احتفظ بالصح.
- وكيف لي أن أعرف؟
- الصح هي التي ستحتفظ بها.
ابتسم الملك، وشد بيده على ذراع رجل التحري الخاص تعبيرًا عن حبه له. بادله فرانك لانج الابتسامة بابتسامة، فجاء ملك المناقيش، وقال لهما إن الفطور جاهز. كانت تنتصب في القلب الحجري للسيل طاولة كبيرة عليها شتى أنواع الفطائر، وملك المناقيش يقول إنه ليس ملكًا للمناقيش فقط، وكانت هناك شتى أنواع المشروبات الساخنة، وأكثر من هذا وذاك، كانت هناك تلك العشرة، عشرة ملوك ليسوا كغيرهم. قاموا كلهم تحية لملك الملوك، وهتفوا:
- يحيا الملك!

* * *

بينما كان الملك عبدول يكتب مرسوم التنازل عن العرش للحسيني ولده، وصل موكب الملكة سونيا إلى تحت السيل. نزل الأمير الحسيني أول من نزل، وركض بسنيه الخمس عشرة إلى أحضان أبيه.
- بابا، صاح الفتى.
- كنت على وشك المجيء إلى قصر رغدان، قال الملك، وهو يقبل الحسيني من خده.
- لقد تأخر الوقت بنا كثيرًا، يا صاحب الجلالة، بادرت الملكة سونيا إلى القول.
تقدمت أبولين دوفيل، وانحنت بين يدي الملك، ثم همهمت:
- التاريخ يُصنع في أعماق السيل، يا صاحب الجلالة.
- نِعْم القول، همهمت أروى رشيدات، وهي تنحني بدورها بين يدي الملك.
- ليس هذا رأي صاحبة الجلالة الملكة، قال الملك دون أن تخلو نبرته من لذعة تهكم.
- آه، يا إلهي! ابتهلت الملكة سونيا، وهي تمسح بمنديلها دمعة. هل هذا هو المقر الذي استبدلته بآخر، يا مولاي؟ انظر إلى أي درك نزلت بنفسك!
- يبقى المقر ملكيًا أينما أقف، قال الملك.
- لم يكن هذا رأي القيصر، قالت الملكة.
- القيصر هو القيصر وأنا هو أنا، رنت كلمات الملك رنًا.
- أنا لا أراني هنا ملكة حتى ولو كنت في أبهى الحلل، رنت كلمات الملكة رنًا.
- دومًا ما كانت السلطة لديكِ كرغبة في الإغراء، نبر الملك عبدول.
- هذا لأنني امرأة، نبرت الملكة سونيا.
- لا، عارضها الملك عبدول، هذا لأنك ملكة.
وقّع مرسوم التنازل عن العرش لولده القاصر بيد عصبية، ورماه لها، وهو يقول:
- الآن أنت الملكة وأنت الملك.
- سأكون إلى جانبها، يا مولاي، قالت الفرنسية الشقراء.
- وأنا أيضًا سأكون إلى جانبها، يا مولاي، قالت سفيرة الأردن في باريس.
- أنا سيكون إلى جانبي ملوك تحت السيل، همهم الملك عبدول، وملوك تحت السيل يتوافدون ليحيطوا به.
- انتبه إلى نفسك، يا مولاي، همهمت أروى رشيدات، وهي تبادل جلالة الملك نظرة طويلة.
- لنذهب من هنا، أمرت الملكة سونيا، الرائحة هنا لا تطاق.
- إنها رائحة قصر رغدان، رد الملك.
- رائحة قصر رغدان! ألقت الملكة استغرابًا.
- من هم داخله لا يشمونها لأنهم اعتادوا عليها، قال الملك، يشمها فقط من هم خارجه.
- سأرافق الملكة سونيا بعد إذن جلالتك، قال فرانك لانج.
- ستكون بحاجة إليك أكثر مني، همهم الملك عبدول.
عاد ولده يحتضنه، وهو يسأل:
- بابا، لماذا لا تأتي معنا؟
- لم يعد لي مكان في قصر رغدان، يا ولدي، أجاب صاحب الجلالة.
مسحت الملكة سونيا بمنديلها دمعة ثانية، فاقترب الملك عبدول منها، وأخرج من جيبه ساعة من الساعتين اللتين اشتراهما لها من السوق السوداء.
- إنها لك، همهم الملك عبدول، لا تبكي أبدًا.
تناولت الملكة سونيا الساعة، وتأملتها بعينين مغرورقتين بالدموع. قبلت الملك عبدول من خده، ورمت بنفسها في سيارتها المصفحة، ليعود الموكب بها من حيث جاء.

































القسم الرابع

لم يجر حفل التتويج في قاعة العرش، قاعة أشبه بمسرح الأراجوز، حسب الملكة سونيا، بل في حديقة قصر رغدان، فانحنى كبار رجال الدولة والجيش والدين والتجارة للملك الصغير بتاجه ومشلحه وصولجانه، وقبلوا يده، والملكة الأم كاللبؤة إلى جانبه عابسة لا تبتسم لأحد. كان فرانك لانج وأبولين دوفيل وأروى رشيدات يقفون على المنصة الملكية غير بعيدين عن قوة الدجل، وهي تعرض نفسها تحت سماء مليئة بالأقواس النارية، فكل أولئك النشامى، كل أولئك الضباط، كل أولئك الشيوخ، كل أولئك التجار، لم يكونوا شيئًا آخر غير بؤس الولاء، وبأس البؤس في الحال العصيبة التي تمضي بها البلاد. نسوا ملكهم القديم كلهم، بين ليلة وضحاها نسوه، ونظروا بالطرف إلى الملكة، الوصية على العرش، وهم يرتدون أثواب النفاق. وعلى أنغام قصيدة عصماء، راحوا يأكلون ما طاب من طعام، ويشربون ما لذ من شراب.

يا سيدي أسعف فمي ليقول
في عيد تتويجك الجميل جميلا

أسعف فمي يطلعك حرًا ناطفًا
عسلاً، وليس مداهنًا معسولا

يا أيها الملك الأجل مكانةً
بين الملوك، ويا أعز قبيلا

يا ابن الهواشم من قريش أسلفوا
جيلاً بمدرجة الفخار، فجيلا

نسلوك فحلاً من فحول قدموا
أبدًا شهيد كرامةٍ وقتيلا

لله درك من مهيبٍ وادعٍ
نسرٍ يطارحهُ الحمامُ هديلا

يدني البعيد من القريب سماحـةً
ويؤلف الميئوس والمأمولا

- ما هي سوى نهاية، همس فرانك لانج في أذن أبولين دوفيل.
- تريد القول ما هي سوى بداية، همست أبولين دوفيل في أذن فرانك لانج.
- في علم النفس النهاية بداية، همهم رجل التحري الخاص.
- أشكرك على تأكيد ما أقول دعمًا لمواقفي، وذلك من أجل إشباع رغباتي، همهمت ضابطة المخابرات الخارجية.
- هذا لأنني أسعى إلى الإنسان الكامل.
- لا يوجد إنسان كامل.
- ومن قال لك إنه يوجد؟
- أنت.
- قلت أسعى، فهل أنجح؟
- منذ قليل كنت تؤيدني.
- أرغب في مناكدتك.
- لن أُشبع رغباتك.
- ولماذا أنا متعلق بك؟
- انظر إلى الملكة كم هي جميلة.
- كم هي عابسة.
- لهذا هي جميلة.
- لهذا هي ملكة.
- لا تحب النساء مع الأسف، تدخلت أروى رشيدات.
- هل حاولتِ معها؟ سألت الضابطة البيضاء الشقراء.
- حاولت، أجابت السفيرة البيضاء السوداء.
- هذا لأنها مثلي، قال رجل التحري الخاص.
- مثلك! صاحت المرأتان بصوت واحد، والملكة سونيا تلتفت إليهما، فأقفلتا فمهما بأصابعهما اعتذارًا.
- أقصد فقدت أمها، وهي صغيرة، ولم تعد تغير منها، أوضح فرانك لانج.
- أنت تغير من أمك؟ عادت المرأتان إلى القول بصوت واحد.
- لماذا لا تفهمان؟ قال رجل التحري الخاص يائسًا. من أبي، لم أعد أغير من أبي، هذا لأني فقدته، وأنا صغير. إضافة إلى ذلك، لأني فقدته، غدوت تحريًا. ليكون التحري ناجحًا، عليه أن يكون دون عقدة. بفضل أبي الذي فقدته، أنا ما أنا عليه. أعمل تحريًا، وأحب الجنس الآخر.
أمسكت المرأتان إحداهما بيد الأخرى، وقالتا:
- نحن ما نحن عليه، ونحن نحب بعضنا، ولم تزل أُمّانا على قيد الحياة.
- هناك من المشاعر ما يصعب على علم النفس تفسيرها، همهم فرانك لانج.
- أنا أحب النساء ليس لأنهن نساء، ولكن لأنهن لسن رجالاً، همهمت أروى رشيدات.
- أعرف الآن لماذا لم تنامي في حياتك مع رجل واحد، همهمت أبولين دوفيل.
- كان يحبني إلى حد الجنون، وجدت السفيرة الأردنية نفسها تعترف، ويرسل إليّ على الكلية كل يوم رسالة، وفي أحد الأيام حملت كل رسائله إلى العميد، وسلمته إياها، هكذا، بدافع غريزي لا تفسير له. كلمات كانت تفيض حبًا، لا يقابلها المرء بالغضب، وأقل من ذلك بالعقاب. استدعى العميد والده، فماذا فعل والده، فتح رأسه، وأخذه إلى المستشفى ليعالجه، وبعد ذلك برئ من حبه لي. كنت قد وقعت في غرامه، لكني كنت أشعر بالذنب، فلم أبح له بغرامي، وبقيت أشعر بالذنب طوال حياتي. إنه الغرام اللعنة، الغرام الإلهام.

يا ملهمًا جاب الحياة مسائلاً
عنها، وعما ألهمت مسؤولا

يهديه ضوء العبقري كأنهُ
يستل منها سرها المجهولا

يرقى الجبال مصاعبًا ترقى به
ويعاف للمتحدرين سهولا

ويقلب الدنيا الغرور فلا يرى
فيها الذي يرضي الغرور فتيلا

خبر بها المتأكلين قصاعهم
نهمًا، وبؤس حطامها مأكولا

يا مبرئ العلل الجسام بطبه
تأبى المروءة أن تكون عليلا

أنا في صميم الضارعين لربهم
ألا يريك كريهةً وجفيلا

- بعد أن وقع اختيارها على المهندسة التي هي أنت في الطاقة النووية، هل ستعلن الملكة تعيينها لك رئيسة للوزراء هذا المساء؟ سألت أبولين دوفيل أروى رشيدات.
- لست أدري، أجابت سفيرة الأردن في باريس.
- ألا تريانها عابسة؟ تدخل فرانك لانج.
- وماذا يعني أن نراها عابسة؟ سألت المرأتان.
- إنها في أصعب حال نفسيًا، أوضح رجل التحري الخاص، إنه مصيرها الذي يشغلها، وهي لهذا ستعلن هذا المساء تعيين أروى رشيدات رئيسة للوزراء.

والضارعات معي، مصائرُ أمةٍ
ألا يعود بها العزيز ذليلا


فلقد أنرت طريقها وضربته
مثلاً شرودًا يرشد الضليلا

وأشعت فيها الرأي لا متهيبًا
نقداً، ولا مترجيًا تهليلا

يا سيدي ومن الضمير رسالة
يمشي إليك بها الضمير رسولا

حجج مضت، وأعيده في هاشم
قولاً نبيلاً يستميح نبيلا

يا ابن الذين تنزلت ببيوتهم
سور الكتاب ورتلت ترتيلا

الحاملين من الأمانة ثقلها
لا مصغرين، ولا أصاغر ميلا

جلس الملك الحسيني على كرسي العرش إلى جانب أمه، ثم ما لبث أن انحنى على أذنها، وهمس:
- ماما…
- لا تدعني ماما، يا صاحب الجلالة، انتهرته الملكة سونيا.
- ماما، لا أحد يسمعنا، همهم الملك الصغير.
- حتى لو لم يسمعنا أحد، همهمت الوصية على العرش. ماذا تريد، يا صاحب الجلالة؟
- أريد الذهاب إلى التواليت.
- مولاي، ألا يمكنك الانتطار؟
لكنه نهض دفعة واحدة، فأشارت الملكة سونيا إلى فرانك لانج ليتبعه.
- بيوت الماء أهم من كل قصور الدنيا، همهمت أبولين دوفيل.
- وكل قبورها، همهت أروى رشيدات.

والطامسين من الجهالة غيهبًا
والمطلعين من النهى قنديلا

والجاعلين بيوتهم وقبورهم
للسائلين عن الكرام دليلا

شدت عروقك من كرائم هاشم
بيض نمين خديجة وبتولا

وحنت عليك من الجدود ذؤابة
رعت الحسيني وجعفرًا وعقيلا

هذي قبور بني أبيك ودورهم
يملأن عرضًا في الحجاز وطولا

ما كان حج الشافعين إليهم
في المشرقين طفالة وفضولا

حب الألى سكنوا الديار يشفهم
فيعاودون طلولها تقبيلا

اقتربت أبولين دوفيل وأروى رشيدات من الملكة سونيا، والتصقتا بمسند مقعدها كيلا يسمعهما أحد.
- أول فعل يقوم به جلالة الحسيني بوصفه ملكًا ليس التوقيع على تعييني رئيسة للوزراء، همهمت أروى رشيدات.
- في لحظة من اللحظات يكون هناك ما هو أهم، يا أروى، فكوني صبورة، همهمت الوصية على العرش. هل فكرت في بعض الأسماء؟
- فكرت، عادت أروى رشيدات تهمهم.
- لن يكون أي من هؤلاء المداهنين وزيرًا، همهمت الفرنسية الشقراء.
- وبمن تريديننا أن نحكم؟ قالت الملكة سونيا.
- بالنصف إذن، قالت أبولين دوفيل.
- سيقوم النصف الآخر بانقلاب، عادت الملكة سونيا إلى القول.
- بالثلثين.
- لن نحكم بثلثين.
- بالثلاثة أرباع.
- سنفكر في الأمر.
- فكرت في بعض الأسماء، قالت أروى رشيدات.
- موافقة دون أن أعرف من، قالت الملكة سونيا.
- هل كلهم فاسدون إلى هذه الدرجة؟ سألت ضابطة المخابرات الخارجية.
- كلهم، أكدت الوصية على العرش، حتى النبي منهم.

يا ابن النبي، وللملوك رسالة
من حقها بالعدل كان رسولا

قسمًا بمن أولاك أفضل نعمة
من شعبك التمجيد والتأهيلا

إني شفيت بمجد قربك ساعةً
من لهفة القلب المشوق غليلا

وأبيت شأن ذويك إلا منةً
ليست تبارح ربعك المأهولا

فوسمتني عزًا وكيد حواسد
بهما يعز الفاضل المفضولا

ولسوف تعرف بعدها يا سيدي
أني أجازي بالجميل جميلا

ولسوف تدرك بعدها يا سيدي
أني أماري بالأصيل أصيلا

عاد الملك الصغير، وهو في منتهى السعادة. ابتسم لأمه، وابتسمت أمه لفرانك لانج. جاء إخوة الحسيني الصغار وأخواته الصغيرات ليهنئوه، فصاحت عليهم أمهم، وطردتهم. جاء أخ الملكة، وانحنى بين يديها، ثم قبلها من خدها، فانتهرته:
- هذا ما يسمى بالهزر!
انحنى بين يدي الحسيني، ثم قبله من خده.
- لماذا لا تستمع إليّ؟ زجرته الملكة سونيا.
- أهلاً بك، يا خالو، هتف الملك الصغير.
- اعذرني، يا مولاي، همهم خال الملك، لم تكن المسافة قصيرة بين واشنطن وعمان.
- أنا أعذرك، قال الملك.
- أما أنا، فلا، قالت الملكة الأم.
- لكنك تجدينني هنا، يا صاحبة الجلالة، قبل تشكيل الحكومة الجديدة، قال خال الملك.
استدارت الملكة سونيا، وقالت لأبولين دوفيل:
- رهانك على الربع غير الفاسدين من الوزراء ذهب أدراج الرياح.
نهضت، وهي تطلب من ابنها:
- بعد إذن جلالتك.
وذهبت غاضبة، فلحق بها فرانك لانج، كان عليه واجب الوقوف إلى جانبها كما وعد مليكه. في جناح الملكة سونيا، قال رجل التحري الخاص:
- مدام، الفرق بين الحكم وإرادة الحكم هو الضرورة.
- هل أنادي إذن على خصومي لتشكيل الحكومة؟ نبرت الملكة سونيا.
- لن يقبل خصومك.
- أصحاب اللحى يريدون كل شيء أو لا شيء، الخصوم دومًا ما كانوا هكذا، وعندما يكون العجز، ولا تستطيع مواجهتهم، تلجأ إلى الإيهام، منذ تأسيس المملكة، ونحن نلجأ إلى الإيهام، من أجل إنقاذ المملكة.
- إيهام إلى الأبد لا يوجد، نفسية الشعوب لا يخدرها الإيهام إلى الأبد، في مستشفى الشعوب الإيهام الكثير كالمضاد الحيوي الكثير لا نفع له.
- عند ذلك نلجأ إلى وسيلة أخرى للعلاج.
- تقصدين وسيلة للخلاص.
- لن نلجأ إلى القتل الرحيم.
- إذن ستكون وسيلة للخلاص باتجاهكم أنتم يا حكام.
- وهل هناك من شيء آخر غير خلاصنا؟
- في بلد غير موجود على الخارطة هذا ما يقول حكامه، بسبب ذلك تغدو لهم نفسية ملعونة، نفسية ملعونة من نوع الخراء، فالخراء لعنة جاء منها الشيطان.
- لديك الحق فرانك لانج، فالحكم خراء، لكنه خراء لذيذ.
- وعد من وعود الآلهة، يا صاحبة الجلالة.
- باتجاهنا نحن الحكام في بلاد غير موجودة على الخارطة، وعد إلهي يفترض منا عددًا من الوعود نقطعها، فنحن آلهة من الخراء صغار، ولكن إلى متى نبقى، ونحن نزين للناس أننا نسعى إلى تحقيقها دون أن تتحقق أبدًا؟ عند ذلك نلجأ إلى آخر فعل، فعل خراء إلهي فرانك لانج، وذلك بعمل كل شيء من أجل إظهارنا ضحايا.
- لكن نفسية الشعوب لا يخدرها الإيهام إلى الأبد كما قلت لك، الإيهام تحت شكله الأقل سحرًا يتحول إلى اتهام. انظري إليك، يا صاحبة الجلالة، أنت مركزًا لكل الخيالات المجنونة. الذكاء والسيطرة على كل النفوس من أصعب حقول علم النفس لأن ليس من السهل أن يجتمعا لدى الكثير من البشر، لهذا كانت الطبقات، ولهذا كانت الملكات.
- لهذا أنقذت المملكة في عز أزمتها، ولم أزل أنقذها إلى اليوم، حقًا على طريقتي كوصية على العرش، ولكن إلى متى؟
- أنت لن تديري الأزمة، يا صاحبة الجلالة.
- كان زوجي يدير الأزمة، فانظر أين هو الآن.
- هذا لا يعني أنه فقد ذوقه للسلطة.
- فقدان ذوق السلطة، هذا ما أخشاه.
- مع امرأة مثلك، كرئيسة وزراء، مع مهندسة في الطاقة النووية، مع كل هذه الأنوثة في عالم بطريركي جاء من أعماق الصحراء، أنت لن تديري الأزمة، ستعملين على خلق شروط مختلفة.
- لن تكون في صالحي إلا إذا...
- تقصدين الدكتاتورية؟
- يقولون الإسلام هو الحل.
- عند ذلك سنعود إلى جلالة الملك زوجك.
- يكون كل شيء قد انتهى.
ذهبت الملكة سونيا إلى قناني الكحول، وصبت منها كأسًا قدمتها لرجل التحري الخاص.
- وأنتِ، ألا تأخذي كأسًا؟ سأل فرانك لانج.
- أنا لا أشرب الكحول، أجابت الملكة سونيا.
- ولماذا كل هذه القناني إذن؟
- في أحد الأيام، أحد الأيام الأولى من تبوء زوجي العرش، كانت في القصر الكثير من قناني الكحول، فأردت أن أذوق إحداها، كان ذلك بدافع الفضول لا أكثر، لكن لمجرد رائحتها عافتها نفسي. أمرت بإفراغها كلها في المرحاض، وما أن علم عبدول بالأمر حتى استشاط غضبًا، وأعاد ملء القصر بالقناني. قال لي قناني الكحول هذه امتحانه كملك وقت الأزمات، إذا قاوم ما تزين له من متعة، أثبت أنه قادر على تجاوز الأزمات، وأنه كفؤ لحكم البلاد.

* * *

في تلك اللحظة، كان الملك المتنازل عن العرش يعب الكحول عبًا، تحت الأعين الحزينة لملوك تحت السيل. انتهرهم، وطردهم، فغادروا مذعنين. كان سعيدًا، كانت لحظة من أسعد لحظاته سعادة، وهم لو خيروه بين تاج المُلك وكأس الكحول لاختار كأس الكحول. لأن كأس الكحول ابنة يومها، وتاج المُلك مسئولية كل يوم. كانت لحظة من أكثر لحظاته حرية، الحرية التي لم يعطَهَا، ها هو ينعم بها دون أسوار ولا حراس ولا بروتوكولات. كانت لحظة من أشد لحظاته صدقًا، لأول مرة في حياته يجد نفسه صادقًا مع نفسه، هذا ما كان يهمه، نفسه، الصدق مع نفسه، الكذب مع الغير كان شيئًا غير مهم، على الغير، أما الصدق مع نفسه، فأهم من كل شيء في الوجود. كان الصدق هو الوجود، ودون الصدق لا معنى للحياة، لا معنى لقرص النحل، لا معنى لعض السمك، لا معنى لخدش القطط. كان كل شيء يبدو على حقيقته، حتى الزائف كان يبدو على حقيقته، لهذا كان الزائف في لحظة الصدق جميلاً، خلابًا، فذًا، عبقريًا، خالدًا، سرمديًا، هذا لأنه لم يكن حقيقيًا، ولأنه لم يكن حقيقيًا كان في لحظة الصدق كابتداع آخر له، ابتداع يجعله حقيقيًا. لماذا كل هذا الحزن على الكذب إذن، والكذب هو في نهاية المطاف صدق؟ هكذا هي أخلاق الملوك في نهاية المطاف، مزيج من هذا وذاك، أقرب إلى المقدس في لحظة من أعظم لحظات عدم الإيمان، عدم التوبة، عدم الطهارة، لحظة من أعظم لحظات عدم اليقين. لقد كان ملكًا، وكانت تلك أخلاقه. حتى في الوضع الأشد انحطاطًا، ستظل تلك أخلاقه، لأنه كان ملكًا. لهذا لم يجد أمامه من منفذ آخر إلى المدنس غير العدمية، ليهرب من كونه ملكًا لبعض الوقت، لمدة يحتسي خلالها كأسين من الكحول أو ثلاث، لينكر عليه أخلاقه، ليشعر بضعفه، ليحرر نفسه من سلطته، ليغدو فردًا كباقي الأفراد، ليشتم أباه لو عنّ له، ليقول لأبيه لماذا صنعتني ملكًا، ولأنني لا أريدني ملكًا أنا غاضب منك، وأنا لهذا أشتمك، أشتمك، وأشتم أمي لو عنّ لي، اشتم امرأتي، أشتم ابني، أشتم ابنتي، أشتم، أشتم الكل، أشتم الكون، أشتم دون تردد، وأتذوق طعم الشتيمة، أتذوق طعم الشتيمة اللذيذ، طعم الشتيمة، أتذوق طعم الشتيمة، أتذوق الطعم اللذيذ ليلعن دين، الطعم اللذيذ، يلعن دين، الطعم اللذيذ للشتيمة، يلعن دين، يلعن دين، أرى أن لا شيء يوجد على الإطلاق، وأن لا قيم أخرى هناك غير قيمتي كفرد، وأعود أشتم، يلعن دين، يلعن دين، يلعن دين، أشتم، دون سلطة، دون تاج، دون صولجان، أشتم، أشتم، دون وهم السلطة، ودون وهم التاج، ودون وهم الصولجان، أشتم، أشتم، أشتم، وأظل أشتم، وأظل أشتم، وأظل أشتم، إلى الأبد أظل أشتم، أشتم، أشتم، أشتم، إلى الأبد، أظل أشتم إلى الأبد، إلى الأبد، أشتم، أشتم، أشتم، أشتم، أشتم... وصلت سيارة مرسيدس قديمة، وهي تسعل، ونزل منها سائقها الذي كان عم الملك عبدول نفسه.
- عندما كان والدك أخي المغفور له جلالة الملك الحسيني على وشك الموت، بدأ العم الجليل الكلام، ظنت زوجتي أنني، كولي للعهد، قد غدوت ملكًا، فتصرفت كملكة، وذلك عندما أمرت بتبديل ستائر قصر رغدان بأخرى تناسب ذوقها، لكن فعلاً بسيطًا كهذا في ظرف جسيم كذاك كان أهوج، وكان ذريعة لفعل آخر أكثر تعقيدًا جعلني أدفع الثمن غاليًا. غدوت أنت ملكًا، وذهبت أنا مع زوجتي الهندية كي أقضي حياتي كما يقضي آلاف البشر العاديين حياتهم قرب نهر الغانج.
تقدم عم الملك من يد الملك، وقبلها، ثم همهم:
- اعذرني يا مولاي، لم أهنئ جلالتك باعتلائه العرش، وها أنا أفعل اليوم لست أدري قبل فوات الأوان أم بعده.
انحنى طويلاً، ثم ركب سيارته المرسيدس القديمة، وذهب.

* * *

في صباح اليوم التالي للإعلان عن الحكومة الجديدة برئاسة أروى رشيدات، أول رئيسة وزراء امرأة للأردن، قعد المستوزرون إلى جانب هواتفهم، وهم ينتظرون الأمر بتعيينهم. أرسل رئيس مطاعم الشاورما صكًا كبيرًا لرئيس مجلس النواب كي يتوسط له، وكذلك فعل رئيس مطاعم التشيكين تيكا، فصرف رئيس مجلس الأمية، كما يقولون، الصكين، ولم يفعل شيئًا لا لهذا، ولا لذاك، لكنه توسط لرئيس تجار المعكرونة، لأن هذا يخصه بعمولة عن كل طن معكرونة، وذلك منذ عشرات الأعوام. ومن أجل كرسي وزير في حكومة كلها سرسرية وحرمجية، دعا رئيس تجار العدس رئيس مجلس الأعيان على كأس عرق، وقال لكل كأس يشربها ألف دينار يأخذه، فشرب رئيس مجلس البلطجية، كما يقولون، حتى تختخ، وبقي غائبًا عن الوعي لسكرته طوال عدة أيام اضطر خلالها رئيس تجار العدس إلى رشوة خال الملك بالمبلغ الذي يطلبه، وهكذا فعل كل من رئيس تجار الزيت والرز والصابون، ورئيس تجار البالات، ورئيس تجار الكنادر، فكانت لهم الوزارة التي يريدونها. أما ملك الخردوات، فكانت هديته لرئيسة الوزراء الجديدة سيارة كاديلاك، جعلته على رأس وزارة الاقتصاد. لكن حيلة رئيس تجار العقاقير كانت أكبر حيلة، عندما كتب نصف الصيدليات التي له باسم جلالة الملكة الوالدة، وقال إنها تبرعت بما تجني من أموال للمستشفيات الشعبية التي يملكها، فهي ملكة الشعب الملكة الوالدة، من الشعب وإلى الشعب. ولكي يرد عليه رئيسا تجار العهر من الجنسين، دشنا جامعًا باسم الملك الصغير، جامع الحسيني سمياه، وقالا إنهما سيأتيان بحجارته الشريفة من القدس الشريف. لكن المفاجأة الكبرى كانت بتوزير العديد من الوزراء القدامى، المعروفين بفسادهم، وعندما احتجت الصحافة، والأحزاب، وجمعيات عدم نبش قبور الموتى، بررت أروى رشيدات، رئيسة الوزراء المحنكة ذلك، بكونهم سرقوا حتى شبعوا، ولأنهم شبعوا مما سرقوا لن يعودوا إلى السرقة من جديد. كان رأي أبولين دوفيل كذلك، بينما سخر فرانك لانج منها، وقال للسرقة علاج، ألا وهو ألا تكون هناك سرقة، وألا تكون هناك سرقة، على البلد أن يرقى، ويرقى معه الجميع. اقترحت أروى رشيدات رئيسة الوزراء بناء مفاعل نووي من أجل توفير الطاقة، فبالطاقة ينهض البلد، وتنفيذ مشروع البحرين، فبالماء يرتوي البلد، ودون هذين الفعلين الجبارين لن يكون هناك حل للمشاكل المستعصية، ستتغير الوجوه، ولن تتغير الأحوال. رفض التجار الاقتراحين، لأنهما سيحرمانهم من الأرباح الطائلة التي يجنونها على ظهور المعدمين، ورفضهما الإخوان المسلمون، لأنهما سيعطلان عليهم الوصول إلى الحكم، بينما وافق عليهما ملوك تحت السيل، ومن يقول ملوك تحت السيل يقول أيضًا ملك الملوك.

* * *

قال فرانك لانج للملكة سونيا:
- جلالتك لن تقبل باختطاف الملك عبدول.
- لن أقبل، فهل سيسمعون لي؟ قالت الملكة بمرارة.
- لماذا لا تخبئينه هنا، يا صاحبة الجلالة؟ اقترحت أبولين دوفيل.
- هنا، في قصر رغدان؟ أبدت الملكة سونيا تعجبها.
- إنه المكان الأكثر أمنًا، يا صاحبة الجلالة، قالت أروى رشيدات.
- قصر رغدان للمملكة البطن الذي يحبل بالملوك، خاطر فرانك لانج بالقول، وهو يستمد ذلك من فلسفته النفسية.
- كم مرة يحبل بهم؟ سألت الوصية على العرش.
- في كل مرة يريدون أن يولدوا من جديد، رد رجل التحري الخاص بشيء من الخيال الفرويدي.
- سنهربه إلى فرنسا، قالت ضابطة المخابرات الخارجية، ريثما...
- أنا لا أؤيد الفكرة، سارعت رئيسة الوزراء إلى القول.
- ولا أنا، نفى فرانك لانج، سيعرف رجال السي آي إيه مكانه، وسيصفونه.
- لنترك إذن الطرفين يتحالفان ضده، همهمت الملكة سونيا، ولنضربهم بيد من حديد، فنخلص من كليهما.
- سيكون من الممكن هذا تحت شرط أن يكون الشعب مع جلالتك، قال فرانك لانج، والشعب في الوقت الحاضر ليس مع جلالتك كما لم يكن مع جلالته، وهو يراه عاجزًا عن تغيير أي شيء في عالم مُمات يتجاوزه. الشعب سيكون مع جلالة الملك عندما يعلم بما يرمي الملك من خير لغاية إسعاده، وخيره بالمفاعل النووي ومشروع البحرين. الآن وقد تحرر ممن صنعهم، نفسيًا وعمليًا، يستطيع المتنازل عن العرش تحقيق ما لم يستطع تحقيقه الملك، بوقوف الشعب معه، وبأموال الشعب المسروقة، تحقيق هذين المشروعين الحياتيين وكل الباقي، الدستور، القوانين، الأحكام، الأحلام، حلم جميل كالاتحاد الأوروبي بين دول المنطقة، يكون الأردن بمثابة القلب له، حلم أجمل يؤسس للديمقراطيات في العالم العربي، يجعل من هذا العالم مهدًا للعلم، للأدب، للفن، للرياضة، للسينما، للتكنولوجيا المنتجة، وأعني بالمنتجة حرية الرأي، حرية العقيدة، حرية الكتابة، الحرية، كل الحرية، وهذه هي ثورة العرش بالإيجاز.
- ثورة الشارع، قالت الملكة الوصية على العرش.
- الثورة، فقط الثورة، قالت رئيسة الوزراء.
- إنها ليست الثورة الفرنسية على التأكيد، قالت أبولين دوفيل.
- لن أقول ما قالوه للويس السادس عشر بخصوصها، همهم رجل التحري الخاص، فالثورة الفرنسية كانت ضد العرش، والثورة الأردنية مع العرش.
- لماذا تريدها أن تكون ثورة العرش، وهي ثورة الشارع؟ سألت الملكة سونيا.
- كان الأمير شارل يقول لمواطنيه قوموا بثورة، أجاب فرانك لانج، كان يريد أن تكون ثورة العرش وفي الوقت ذاته ثورة الشارع. هناك نفسية لكل ثورة، والثورة في الأردن نفسيتها هي هذه، ثورة العرش. وفي النهاية ما هو هدف الثورة أيًا كانت نفسيتها إن لم يكن تبديل النظام وليس ترقيعه، ثورة العرش على العرش في الخصوصية الأردنية!
- ثورة الشارع، عادت الملكة سونيا إلى القول.
- هذا لا ينفي ذاك في الخصوصية الأردنية، أكد فرانك لانج.
- ولكن الشعب لا يعلم شيئًا من هذا، قالت أروى رشيدات، ولن يعلم، فالخصم قوي متنفذ. فكر الثورة من فكر الشارع، وعلى الشارع أن تجرفه العواصف بكل ما فيه، أو أن تهزه بقبضة قوية تجعله يقوم من خدره، تجعله يفتح عينيه، تجعله يفكر كما يجب عليه التفكير. لا بد من فعل استثنائي يستنهض النفوس.
- إذن لنتركهم يختطفون الملك، فجّرت أبولين دوفيل.
- إنها أيضًا فكرتي، صاحت الملكة سونيا.
- سيصفونه في الحال، قال رجل التحري الخاص.
- ليسوا مجانين كي يصفوه في الحال، قالت الضابطة الفرنسية، سنجده، وسننقذه، وسنطلع الشعب على كل شيء. ماذا قلتِ، يا صاحبة الجلالة؟
- لنترك التاريخ يكتب نفسه بنفسه، همهمت الوصية على العرش.
لكن لرئيسة الوزراء لم يكن الرأي ذاته.





















القسم الخامس

في ظلام عمان الدامس، حضرت أروى رشيدات بين يدي الملك عبدول، وهي تلتف بعباءة سوداء كلها، كيلا يعرفها أحد. كان معها شاب وشابة جميلان، وكأنهما قمران من أقمار جرش. فوجئ جلالته برئيسة الوزراء، لكنها أوضحت:
- كان عليّ المجيء بنفسي لأنني أعلم تمام العلم مدى سخريتكم من كل شيء، من الحياة، من الوجود، من الله، نعم حتى من الله، في لحظة العبث الرهيبة هذه التي تعيشونها، قالت أروى رشيدات دفعة واحدة.
- هل قرروا اغتيالي؟ سأل الملك عبدول، وهو يبتسم.
- وهل يجرؤون؟
- إذن ماذا؟
- لقد قرروا اختطافك.
- سأنتظرهم، وسنرى.
- مولاي، وأنت ملك لم تستطع معهم شيئًا.
- ربما سأستطيع معهم شيئًا، وأنا...
- مولاي، أنت خير من يعلم ما هو نظامك.
- نظامي مجرم، هكذا هم أورثوني إياه.
- إذن لم المراهنة على ما لا يراهن عليه؟
- ماذا تقترح دولتك؟
- من هذا السيل اصعد الجبل مع هذين الشابين في الحال، فهم سيجيئون بين لحظة وأخرى. للبلاد ملك، ولدك، وأنت بالنسبة لهم لم تعد موجودًا. الكلاب نعم، اغفر لي يا صاحب الجلالة، أما أنت، فلا. سيختطفونك، ولن يعرف أحد مكانك، وكأنك مت بالفعل.
- وبعدما أصعد الجبل؟
- هذان الشابان سيقولان لك.
التفّ ملوك تحت السيل حول الملك، وراحوا يعانقونه واحدًا واحدًا، ودموعهم تتساقط على خدودهم.

* * *

في صباح اليوم التالي، جاء فرانك لانج وأبولين دوفيل ليريا المجزرة التي ارتكبها "مجهولون" في ملوك تحت السيل، كما قال رجال الأمن الذين كانوا هناك. عدّا خمس عشرة جثة، ولم يقعا في سرير الملك عبدول ولا حول مكتبه على قطرة دم واحدة.
- لم يقتلوا جلالته، الأمر أجلى من الشمس، همهم رجل التحري الخاص. - آلو، قالت ضابطة المخابرات الخارجية بعد أن طلبت باريس من هاتفها المحمول، نعم، لم يقتلوا جلالته، هل من أكليشيهات تؤكد ذلك؟ كان الظلام شديدًا؟ الأقمار الصناعية ترى كل شيء حتى النمل في جحورها، شديدًا كان الظلام أم غير شديد. ظلام عمان شيء آخر؟ طيب، طيب، طيب، شكرًا. أقفلت، وقالت لفرانك لانج: تم رصد حركة غريبة هناك، وأشارت إلى جبل عمان المحاذي للسيل.
- كل هذا "هناك"، قال رجل التحري الخاص هازئًا، وهو يشير إلى ظهور الديار ببلاكينها وفرنداتها.
- ليس كل هذا هناك إذا صعدنا من المكان الذي صعد منه الملك.
- وأين هو المكان الذي صعد منه الملك؟
- سريره، وإن شئت مكتبه.
قطعت أبولين دوفيل بطن السيل الجاف من المكان الذي افترضت قطع الملك منه، وبدأت تصعد الجبل، وفرانك لانج يتبعها. وجدا نفسيهما في درب متعرج شقته الأقدام، عند نهايته فرندة تقف في الفضاء، أطلت منها الشابة التي رافقت الملك، وراحت تشير إليهما لما فجأة دفعها اثنان، وسقطت عند قدمي الفرنسيين جثة هامدة. طلبت أبولين دوفيل رجال الشرطة قبل أن تعجل إلى اللحاق بفرانك لانج، وتدخل معه الشقة من بابها المحطم. نظرا بحذر في كل الغرف، وخرجا إلى الفرندة، ومن فوق رأيا بعض الجيران، وهم يدورون بالشابة الميتة، ثم ما لبثا أن سمعا نفير سيارات الشرطة، دون أن يرياها. كان النفير ينبثق من قلب جبل عمان، وكان عليهما أن يخبطا خبط عشواء من وراء آثار الملك. لماذا هذه الجريمة؟ لماذا في تلك اللحظة؟ وهل لهذه الجريمة علاقة باختفاء الملك؟ وهما على وشك مغادرة الشقة، سمعا أصوات أشياء تسقط في غرفة المهملات، فسارعا إليها، ووجدا على الأرض بين أكوامها امرأة معصوبة الفم واليدين، مربوطة على كرسي منقلب. كانت المرأة خرساء، تتكلم بعينيها الجاحظتين، وتعابير وجهها المرتعبة. ركضت حال فكها إلى الفرندة، وعلى مرأى الشابة راحت تطلق أنصاف صرخات، وتشد شعرها، وتلطم، تريد أن تلقي بنفسها لولا رجل التحري الخاص وضابطة الدي جي إس إي. كان رجال الشرطة يصلون من فوق، ومعهم رجال الإسعاف، فأخذت أبولين دوفيل المرأة بين ذراعيها، وساعدها فرانك لانج على إدخالها. حملت المرأة صورة الشابة، وأشارت إلى نفسها، وهي تذرف مر الدمع، لتقول إنها ابنتها.
- ماذا تقول؟ سأل فرانك لانج.
- تقول إنها ابنتها، أجابت أبولين دوفيل.
- اسأليها لماذا قتلوا ابنتها.
- هذا لأني أفهم لغة الخرسان؟
- اسأليها من قتل ابنتها.
- أمرك عجيب لانج!
- اسأليها، اسأليها.
حاولت أبولين دوفيل أن تسأل الأم، وهي تصيح، وتشير، وتهدئ الأم جاذبة إياها إلى صدرها تارة، مبعدة إياها عن صدرها تارة، دون أن تفلح في معرفة أي شيء.
- فهمت، قال فرانك لانج.
- حقًا؟ قالت أبولين دوفيل دهشة واستغرابًا.
- تقول المرأة إنهم حطموا الباب، وذهبوا مباشرة إلى الفرندة حيث كانت ابنتها، ودفعوها، خلال ذلك كان أحدهم يعصبها، ويقيدها، ويلقي بها في غرفة المهملات.
- ولكن كل هذا واضح لانج.
- ها هي تجذبك.
- وهذا واضح أيضًا.
- اذهبي معها!
- أنا ذاهبة معها.
- اذهبي معها، اذهبي معها!
- أنا ذاهبة معها، يلعن دين.
- اذهبي معها، اذهبي معها، اذهبي معها!
- أنت تخريني، اخرس!
قلبت الأم كل جوارير الابنة، ولم تقع على ما تريد. أخذت قلمًا، وكتبت على قصاصة اسمًا وعنوانًا أعطتها لأبولين دوفيل، وهي تقول كلامًا غير مفهوم، وتشير إلى مكان غير بعيد، وتدفعهما نحو الباب المحطم. كان درج في الخارج طويل، طلبت إليهما الصعود، وهي تقول دومًا كلامًا غير مفهوم، وتشير إلى القصاصة التي كتبت عليها الاسم والعنوان، وتحاول إفهامهما أن المكان ليس بعيدًا. تركاها، وهما يتمتمان، بينما راحت تنزل الدرج جريًا إلى حيث كانت هناك ابنتها القتيلة.

* * *

أمرت الوصية على العرش باطلاع الملك الصغير على أسرار الجنس، هذا ما نصحها إياه مستشاروها، ليكون رجلاً أول ما يكون، ولئلا يحب الرجال، فيحرم المملكة من وريث للعرش. أرسلوا من وراء عشر بنات من بنات تحت السيل، وبعد أن غسلوهن، وعطروهن، وألبسوهن أجمل الثياب، بدون كلهن كالأميرات. اختارت الملكة أقلهن جمالاً خوفًا من أن يتعلق الملك الصغير بها، ويقع في غرامها، وأوصوها آلاف الوصايا، وأول الوصايا ألا تتصرف كموضوع للجنس، وإنما كشريك كامل الحقوق والواجبات. لهذا عندما وجد الملك الحسيني ذو الخمسة عشر عامًا نفسه وحيدًا معها في الجناح الخاص به لتناول الطعام، وجلس قبلها، رفضت الاستجابة لإشارة آمرة من يده بالجلوس، فنهض، وأجلسها بنفسه، وهو يدفع الكرسي بكل احترام تحتها. وبعد ذلك، بينما هما في غرفة النوم، والستائر كلها مسدلة، والأضواء خافتة، رفضت الاستجابة لإشارة آمرة من يده بخلع ما ترتدي، فتقدم، وراح يخلع بنفسه ثيابها. وفي لحظة من اللحظات، فقد الملك سيطرته على نفسه، وكل هذا الجمال بين أصابعه، فسقط بفمه على ثديها، وعض بأسنانه حلمتها، لكنها صفعته.

* * *

وبالفعل، لم يكن المكان بعيدًا، كان في شارع جبل عمان، قرب الدوار الأول. طرق الفرنسيان الباب، فسال تحت طرقاتهما. تبادلا نظرات حائرة متسائلة، ودخلا متردديْن. وهما في الصالون، وصلهما صوت بكاء لرجل ينتحب كان يضم شابًا ممددًا على الأرض. شخص رجل التحري الخاص ببصره إلى بقعة كبيرة من الدم، وتفقدت الضابطة الشقراء الغرف. كان الشاب الذي رافق الملك عبدول مع الشابة على طريق الهرب من المجهول، فبعد كل هذه الجرائم لم يعد الاختطاف هو الهدف، وغدا كل شيء جزءًا من المعلوم، ولكن دون معرفة كيف ومتى.
- نعم، كان جلالته هنا، همهم الرجل التعس.
- هل كان هنا وقت الجريمة؟ سأل فرانك لانج.
- من الغباء طرح سؤال كهذا لانج، همهمت أبولين دوفيل.
- لم يكن هنا، أجاب الرجل، وهو يمسح دمعه بظاهر يده.
- كانوا يعرفون أنه كان هنا، قال رجل التحري الخاص.
- يلعن دين، يلعن دين، يلعن دين، رددت ضابطة الدي جي إس إي، وهي تهصر أسنانها.
- يجيئون بعد أن يكون الملك هنا، همهم فرانك لانج.
- هذا لأنهم يعرفون كل شيء، قالت أبولين دوفيل، لكنهم يصلون متأخرين، ولأن هذا الشاب وتلك الشابة رفضا الإدلاء بشيء قتلوهما، وتجدهم الآن في الطريق إلى المحطة الثالثة.
- يجب الوصول قبلهم، فلا يرتكبون جريمة على جريمة، سارع فرانك لانج إلى القول.
- الوصول قبلهم كيف؟ وما يدريكَ أنهم وصلوا؟
- الملك في خطر.
- هذا إذا كان وصولهم قبل أن يغادر.
- الملك في خطر، في خطر.
- وما يدريكَ أنه لم يغادر؟
- علينا الذهاب إلى إنقاذه.
عادت أبولين دوفيل إلى اللعن، وهي تهصر أسنانها، وصاحت:
- إلى إنقاذه أين؟ هم لديهم علامات ترشدهم!
- ولماذا لا يذهبون مباشرة إلى حيث هناك الملك؟ تساءل رجل التحري الخاص.
- سؤال مهم.
- لأنهم لا يعرفون، أجاب فرانك لانج على فرانك لانج. ولأنهم لا يعرفون، يفعلون مثلنا.
- يتبعون الطريق التي أخذها الملك.
- ولماذا يقتلون؟
وبدوره، أخذ فرانك لانج يلعن، وهو يهصر أسنانه:
- لأن لا أحد من أوفياء الملك يشي به، هذا شيء بائس من كابتن في الدي جي إس إيه.
تدخل الأب المنكوب:
- سمعتهم يقولون إنهم سيذهبون إلى بيت رئيس وزراء سابق ليس بعيدًا من هنا.
- بيت رئيس وزراء سابق؟ سأل فرانك لانج.
- أحد المخلصين لجلالته حتمًا، قالت أبولين دوفيل.
- بيته على مرمى حجر من هنا، همهم الأب، وهو يعود إلى البكاء.
- يكونون قد وصلوا، همهم رجل التحري الخاص يائسًا.
- ألم يقولوا شيئًا آخر؟ سألت الفرنسية الشقراء.
- هم لا يعرفون المحطة الرابعة للملك، كابتن دوفيل، قال فرانك لانج.
- لن نصل قبلهم إذن، همهمت ضابطة المخابرات الخارجية.

* * *

أخذت بنت تحت السيل تخلع للملك الصغير ثيابه، والملك الصغير يترك نفسه طوع يدها، حتى عرته تمامًا، فخجل جلالته من انتصاب عضوه، وخبأه بيديه، لكن بنت الهوى انفجرت بالضحك. سحبته من ذراعه إلى السرير، ومددته، فكانت فرصة الحسيني الذهبية. تغطى باللحاف، وراح ينظر، وينتظر. اقتربت بثغرها من ثغره، فلم يعرف كيف يلتقمه، وكما فعل بحلمتها، عضه بأسنانه. صاحت المرأة من الوجع، وصفعته. هذه المرة، سالت دموع الملك الصغير على وجنتيه.

* * *

كانت بوابة فيلا رئيس الوزراء السابق مفتوحة على مصراعيها، وكانت أحواض الزهور محطمة، وفي لوحة من لوحات الجنة، وجد فرانك لانج وأبولين دوفيل جسد الجنائني مطعونًا في أكثر من مكان طعن من فقد رشده. وهما في أشد حيرتهما، وصلهما من خلفهما صوت رجل كهل يقول:
- كان خير من يفهم لغة الخزامى.
استدار الفرنسيان.
- هذا لأن للخزامى لغة؟ سألت أبولين دوفيل.
- ربما هي التي وشت به، رمى الرجل الكهل.
- أنت رئيس الوزراء السابق؟ سأل فرانك لانج بفظاظة.
- كنت رئيسًا للوزراء عدة مرات عندما كان الحسيني الأب ملكًا، أجاب الرجل الكهل. الأزمة أنا، همهم رئيس الوزراء القديم. لكني لشرفي لم تكن لي أية فضيحة، كفضيحة كازينو غيت مثلاً، وفضيحة الراقصات الحيفاويات، وفضيحة اليخت الملكي، وفضيحة المكرمات الجامعية وغير الجامعية، وفضيحة الدبلومات ورخص القيادة، وفضيحة الوساطات، وفضيحة الدبابات، وفضيحة المناسف، وفضيحة المحاكم، وفضيحة تزوير الانتخابات، فضيحة التزوير الشامل، تزوير الحياة، وفضيحة أموال صندوق النقد الدولي، وفضيحة البنوك، وفضيحة حرية الرأي، وفضيحة حرية التعبير، وفضيحة حرية التعهير، وفضيحة الصحافيين، صحافيي المخابرات، وشعراء المخابرات، وروائيي المخابرات، ومن كله، فضيحة مخابرات من كله، مخابرات العقل، مخابرات البطن، مخابرات الفرج، وفضيحة الراديو الغائطي، والتلفزيون الغائطي، والإنترنيت الغائطي، الغائط، الإعلام، الجامعات، وفضيحة المعاهدات، معاهدة وادي عربة أكبر فضيحة، وفضيحة الأمراء طفيليي الدولة، خاصة الأمراء، كانوا على عهدي اثنين أو ثلاثة، واليوم هم بالعشرات، بالمئات، بالآلاف، وفضيحة بيع نصف أراضي البلد للإسرائيليين، وفضيحة لطش نصف أراضي البلد الآخر كالبطيخ عالسكين، وفضيحة رواتب السي آي إيه، وفضيحة خنازير الهند التي هي الأردنيون، وفضيحة، وفضيحة، وفضيحة، الأردن برمته فضيحة، لهذا اختار جلالته أن ينزل عندي ضيفًا.
- ولماذا قتلوه هو، عاد فرانك لانج يسأل بفظاظة، وهو يشير إلى الجنائني، ولم يقتلوك أنت؟
ضحك الرجل الكهل، وقال:
- ألم أقل لك؟ لشرفي.
- قل الحقيقة، يا شرف الخراء! جمجمت أبولين دوفيل.
- لم أقل الحقيقة في حياتي مرة واحدة، اعترف رئيس الوزراء السابق.
- لهذا كنتَ رئيسًا للوزراء عدة مرات، قال رجل التحري الخاص.
- الحقيقة... أنا من قتل هذا الجنائني، همهم الرجل الكهل.
- لماذا؟ نبرت ضابطة المخابرات الخارجية.
- لو لم أقتله لعرف مطاردو جلالته المكان الذي يوجد فيه الآن، أجاب رئيس الوزراء القديم، ولكانت مذبحة يذهب ضحيتها كل سكان مخيم جبل الحسين.
- ليست هذه كل الحقيقة، قال فرانك لانج.
- هذا الجرذ الكهل كان في حياته رجلاً قويًا، قال رئيس الوزراء السابق مشيرًا إلى نفسه، ودون سلطة لا أحد يسأل عنك، مضت سنون طويلة، وأنا أنتظر أن يسأل أحد عني، ثم أعطاني جلالة الملك الفرصة مرتين، مرة عندما مر عندي، ومرة عندما وجدتني مضطرًا للقتل من أجل سلامته.
- جميل أن يعطيك أحدهم الفرصة مرتين، همهم فرانك لانج.
- جميل أن يعطيك أحدهم جسده لتطعنه عشرات المرات، همهمت أبولين دوفيل.
- كي تستعيدي شعور الرجل القوي، يا سيدتي، همهم رئيس الوزراء السابق، ولو لعشرات الثواني، أنتِ على استعداد لتفعلي المنكر.
- فعل منكر أكثر من هذا؟ سأل فرانك لانج.
- مضت سنون طويلة، وأنا أنتظر أن يسأل أحد عني، همهم الرجل الكهل من جديد، أن يناديني "دولتك".
تبادل التحريان نظرة من فهم كل شيء، وأرادا الانسحاب.
- لم تشربا القهوة، سارع رئيس الوزراء السابق إلى القول. جلالته في أمان، والقهوة كان خير من يعرف صنعها، أضاف، وهو يشير إلى الجنائني القتيل، لكن لدي قهوة فرنسية من عندكم.
- من عندنا؟ سأل فرانك لانج وأبولين دوفيل، وهما يتجهان إلى البوابة.
- من عندكم، عاد الرجل الكهل إلى القول، قهوة كما تحبونها.
- كما نحبها؟ سأل الفرنسيان.
- كما تحبونها، همهم الرحل الكهل.
- سنشربها في المرة القادمة، قال رجل التحري الخاص وضابطة المخابرات الخارجية معًا.
- المرة القادمة متى؟ سارع رئيس الوزراء السابق إلى القول.
- المرة القادمة، أعاد التحريان.

* * *

تكركرت بنت الهوى بالضحك، وهتفت عارية من وراء ستار:
- افتح عينيك الآن.
فتح الملك الصغير عينيه، وسأل:
- أين أنت؟
فلم تجبه.
- قولي، أين أنت؟ وهو يبحث عنها عاريًا.
- هنا، وصله صوتها.
- هنا أين؟
- هنا، هنا.
- هنا أين؟ هنا أين؟
- هنا، هنا، هنا.
خرجت من مخبئها، وجاءت على رؤوس أصابع قدميها من ورائه، وهو يردد حائرًا:
- هنا أين؟ هنا أين؟ هنا أين؟
نطت على ظهره، وهي تنفجر بالضحك، فحملها، وراح يدور بها، ومن ثقلها، سقط على الأرض معها، وأخذ يدغدغها، وهي تضحك، وهو يضحك، ثم سكتا دفعة واحدة. أمسكته، وفتحت بين فخذيها، لكنه تفجر، وهو على بابها. كانت أول مرة في حياته، فخاف، وراح يرتعد، لكنها احتضنته بحنان، وجعلته يغفو على ثديها.

* * *

في منتصف الدحلة النازلة إلى شارع بسمان، كان رجال الشرطة قد سبقوا أبولين دوفيل وفرانك لانج إلى جريمة شنعاء ذهب ضحيتها كل أفراد عائلة من الطفيلة، وكان مرتكبوها يعلمون تمام العلم أن الملك عبدول لم يحط الرحال عندها، فهم فقدوا كل أثر له بعد زيارته السريعة لرئيس الوزراء الكهل. كانت غايتهم أخرى: ضرب الأردنيين ببعضهم، وهم لهذا حلقوا للجثث شعرها أو جعدوه، وهندسوا لمن له شارب شاربه ليوهموا أن الفاعل من الحلاقين، والحلاقون كلهم فلسطينيو الأصل. إلا أن أحدهم كتب بدمه قبل أن يسلم روحه: أنا أصلع، وهذه التي على رأسي باروكة شقراء بينما باروكتي أنا خروبية، وهي موجودة في الجارور.
- عبقرية هذا الطفيلي ما بعدها عبقرية، همهم رجل التحري الخاص، وهو يفتح الجارور، ويخرج منه الباروكة الخروبية.
- بفضل هذه الباروكة تفادى الأردن حربًا أهلية، همهمت ضابطة المخابرات الخارجية، وهي تسحب الباروكة الشقراء عن رأس الرجل، فتبين فقوسته.
- عندما عجزوا عن الوقوع على جلالة الملك أرادوا دفعه إلى تسليم نفسه، وطز في الوطن، طز في الناس، طز في الله، طز في محمد، طز في عيسى، طز في الدين.
- سيعرفون في الأخير أنه في مخيم جبل الحسين، لكن من هنا إلى أن يعرفوا لن يتوقفوا عن ارتكاب الجرائم.
- وفي لحظة من اللحظات سيتحول الأمر لديهم إلى انتقام.
- كما تنتقم الأم من وليدها لانج.
- الأم شيء هائل في وضع كهذا.
- لا تلح كثيرًا يلعن دين.
- لا تنرفزي كابتن دوفيل.
- إذن الأب، هل يعجبك هذا.
- أفضل الأب على الأم في عالم بطريركي كهذا. هل لم يزل أبوكِ على قيد الحياة؟
رمى كل منهما الباروكة التي يحملها، وغادر التحريان المكان.

* * *

عندما فتح الملك الصغير عينيه لم يقع على بنت هوى تحت السيل، فأمر بإحضارها، لكنهم جاءوه بأخرى لم تعجبه. حاولت معه بلسانها، فاشمأزت نفسه منها. طردها، وصاح بهم ليحضروا بنت الهوى الأولى، لكنهم جاءوه بثالثة حاولت معه بأصابعها، فلم يحتمل. طردها كما طرد سابقتها، وهددهم. جاءوه برابعة لم يشأ أخذها من رِدفيها، ضربها بصولجانه عليهما، وبنت الهوى تصرخ.

* * *

في شارع بسمان كان الهدوء مطلقًا، الحلاقون يحلقون، وزبائنهم يبتسمون، لكن ما لفت انتباه فرانك لانج وأبولين دوفيل متفرجو سينما بسمان من أصحاب اللحى، وهم يخرجون بالمئات بعد انتهاء فيلم هاري بوتر. كان كل الرواد منهم، وكانوا كلهم يذهبون إلى دكان العطار في الوجه المقابل، ويشترون الأبخرة والجرعات والعصي. اخترق الفرنسيان زقاقًا أوصلهما إلى الحوش الذي كان فيه مطعم هاشم، فوجداه خرابًا على خراب.
- إنه المطعم الشعبي المفضل للملك، همهم رجل التحري الخاص.
- عندما تعجز عن الوقوع على من تتعقبه تبحث عنه في درب قديم ربما يوصلك إليه، همهمت ضابطة المخابرات الخارجية.
- كلاسيكي كل هذا.
- وكل هذا العنف؟
- الغاية دومًا واحدة: الضغط على الملك.
انحنت الشقراء الساحرة، وتناولت من تحت صحن محطم قرصًا محشوًا من الفلافل، نفخت عليه، وقسمته نصفين أعطت نصفًا لرجل التحري الخاص، وبدأت بالتهام النصف الآخر.
- لذيذ! همهمت أبولين دوفيل، وهي تترك المكان مع فرانك لانج.
- بالفعل، همهم رجل التحري الخاص.
- لماذا لا تدعونا على شيء نأكله قبل الذهاب إلى مخيم جبل الحسين؟
- سنأكل كنافة في محل الحلوى الذي أكلنا فيه أنا والملك، إنه خلف هذه العمارة.
وهما يدوران من حول العمارة، رأيا مجموعة من المارة تحيط بعدد من الجثث الملقى بها من بلكون مقهى السنترال مع طاولات النرد. هذا القاص الفلاني، قال أحدهم، وهذا الروائي العلاني، قال ثان، وهذا ناقد المعلقات الأستاذ المخضرم، قال ثالث.
- للضغط على الملك؟ سألت أبولين دوفيل.
- ولكن ما الأهمية؟ أجاب فرانك لانج على السؤال بسؤال.
- كل هؤلاء الكتاب!
- بلا أية قيمة.
- ها هم يتخبطون إذن.
لم يسمعها، كان يعجل إلى قطع الطريق حتى حلويات جبري، حلويات نهبوها، وطاولات خربوها.
- هذا هو محل الحلوى الذي أكلتما فيه أنت والملك؟ همهمت أبولين دوفيل، وهي ترفع غريبة باللوز عن الأرض، وتنفخ عليها، ثم تقضمها، وتضيف: لذيذ!
- هذا هو، همهم فرانك لانج.
- هل تريد واحدة؟ سألت الشقراء الفرنسية، وهي تواصل قضم الغريبة باللوز.
كانت مظاهرة من السوريين تتقدم من الجامع الكبير، وهي ترفع أعلام الثورة ويافطات كتب عليها: الدين لله والسوق السوداء للجميع، حرية السوريين من حرية الأردنيين، ساعات كارتييه صح... وكان المتظاهرون يهتفون: سلمية! سلمية! سلمية! تصدى لهم بعض الملثمين بكوفياتهم، وراحوا يرشقونهم بالحجارة. وعما قليل، حمي وطيس المعركة ما بين الطرفين.
- لنذهب من هنا، طلب فرانك لانج من الشقراء الساحرة.
أمسكها من يدها، وجذبها، وهي تلتقط حبة بقلاوة من صدر منقلب.
- على مهلك، طلبت.
إذا بصبي ذلك اليوم، بائع السجائر، يتعلق على ذراع رجل التحري الخاص، وهو يمد إليه بيديه المضمدتين خرطوشًا عُلَبُهُ مسحوقة، وسجائرُ عُلَبِهِ مفتتة.
- ما هذه الهامّة؟ سألت أبولين دوفيل.
وفرانك لانج يصيح بالصبي قبل أن يدفعه:
- لا.
- يا له من قلب قاس قلبك! أنبته ضابطة المخابرات الخارجية.
لكن رجل التحري الخاص كان يريد مغادرة وسط المدينة بأقصى سرعة:
- كقلب أمي، ألقى فرانك لانج.
- كقلب أمك لانج؟ سألت أبولين دوفيل والهم يساورها فجأة.
- كقلب قفاي، صاح رجل التحري الخاص، فلم يسمع ماسح أحذية ذلك اليوم، وهو يناديه.
- أحدهم يقول لك يا خواجا، نبهته الشقراء الفرنسية.
- يا خواجا.
- ليس اليوم، قال فرانك لانج لما وقع على ماسح الأحذية الملفوف كل رأسه وإحدى عينيه بضماد.
- كما تريد، يا خواجا.
- قلبك قاس كقلب أمك لانج؟ عادت أبولين دوفيل تسأل بأسى.
- كقلب قفاي قلت لك.
جذبها ماسح الأحذية، وجعلها تضع قدمها، وبعينه الواحدة أخذ يرغي صندلها، ومع صندلها أصابع رجلها دون أن يرى جيدًا ما يفعل. جذبها فرانك لانج بدوره، وأبولين دوفيل تنط على قدم واحدة، وتمسح الصابون بمنديلها. كانا قد ابتعدا عن المظاهرة، وصارا قرب سينما رغدان.
- لم تكن تمزح، كقلب أمك، همهمت ضابطة المخابرات الخارجية.
توقف فرانك لانج، وأمسكها من كتفيها، وهو يهزها، ويقول:
- أبولين، ماذا دهاك؟
- لا شيء. ظننت أننا تزوجنا، وأن...
- أبولين، ما أروعك!
- ...لك قلبًا قاسيًا كقلب أمك.
- أبولين، خراء إذن!
تركها غاضبًا، فاعترضه متفرجو سينما رغدان، وهم يخرجون بالعشرات بعد مشاهدتهم لفيلم بورنوغرافي. كان يبدو عليهم أنهم نخبة مثقفي البلد، والبرهان على ذلك دخولهم المكتبة الموجودة على الرصيف المقابل. رآهم فرانك لانج وأبولين دوفيل، وهم يستمنون من وراء الرفوف، ويمسحون بأوراق الكتب، ثم يحشون بالأوراق فم صاحب المكتبة ليحللها، فمهنته الأصلية صيدليّ، كما قالوا، وليقول أيها الرائع وأيها غير الرائع من أدب الغائط.
وهما يمضيان بالمحكمة القديمة، أوقفهما شواذ العدالة، هكذا كان الناس يسمونهم، بعد أن تحولت المحكمة القديمة إلى مكان لا حاكم على المرء فيه غير جسده. ابتسما لهم، واعتذرا. لاحظت أبولين دوفيل امرأة تجلس على السور، وهي يبدو عليها الضياع، فذهبت إليها، وسألتها عما بها، فقالت إنهم اغتصبوها في مركز الشرطة، وهي تنتظر أن تفتح المحكمة القديمة أبوابها لترفع شكوى. وفي ساحة العبدلي، نزلت من أحد الباصات فتاة، وهي تبكي، وذهبت مباشرة إليهما. سألها فرانك لانج وأبولين دوفيل عما تبغي، فقالت البحث عمن خدعها. ثم جاءت ثانية وثالثة ورابعة وخامسة، وكلهن يطلبن من التحرييْنِ أن يمددا لهن يد العون.

* * *

جاءت الملكة سونيا لتقنع الملك الصغير، لتقول له إن بنت هوى تحت السيل هي التي ترفض المجيء إلى مخدعه، ولتخبره بالقرار الذي اتخذته، بزواجه قبل بلوغه، فما عليه سوى أن يختار من الأميرات من يشاء. لكنه لم يستجب للوصية على العرش، وأصر على إحضار بنت الهوى الصغيرة، على إجبارها بالحضور لو يلزم، وهو إذا ما تزوج، تزوجها هي، وإذا ما خلّف، خلّف منها هي، ومنها يريد وريثًا للعرش. لم تتردد أمه عن صفعه، والصياح عليه، وبقلب الأم القاسي هددته بإنزال الصواعق على رأسه.

* * *

وبينما كان فرانك لانج وأبولين دوفيل على وشك صعود الدرج الطويل المعلق بين الجنة والجحيم اللامتناهي من ساحة العبدلي إلى جبل الحسين، توقفت بينهما سيارتان على حين غرة، وأجبرهما جهنميو عمان على الصعود فيهما. ساقوا بهما كالمجانين، وهم يشتمون العابرين، وإذا ما أعاقتهم سيارة عن التقدم، نزلوا، وحطموا أنف سائقها. على ذلك الإيقاع الهَرَعِيّ، لم يمض وقت طويل حتى وجدا نفسيهما على باب مخيم جبل الحسين. تركهما الجهنميون، وهما في غاية الدهشة، واختفوا تاركين أبواب السيارتين مفتوحة على مصاريعها. غادر رجل التحري الخاص وكابتن الدي جي إس إي السيارتين، وهما بين مصدق ومكذب، وأرادا التوغل في المخيم، فلم يجدا مكانًا يضعان القدم فيه. كان آلاف سكان المخيم بل عشرات آلافهم وربما مئات آلافهم يحيطون بالخيمة التي يوجد فيها الملك، ويجعلون من أجسادهم حصنًا منيعًا. وكان يتوافد من كل أنحاء المخيم الآلاف من سكان عمان بل عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف، ومن الزرقاء، ومن معان، ومن السلط، ومن الكرك، ومن الرمثا، ومن كل مدن البلاد. كانوا يتوافدون، وكانوا يأخذون شكل الطيور تارة، وشكل الزهور تارة. لم يكن الفرنسيان الوفيان بعيدين عن الخيمة الملكية كثيرًا، لكنهما لم يستطيعا اجتياز "السيل" بأمواجه البشرية إلا بعد طويل وقت وكبير عناء. دخلا الخيمة الملكية، وبصعوبة رأوا الملك جالسًا بين عشرات من مواطنيه. صغارًا كانوا من حوله وكبارًا، شيوخًا وشبابًا، نساءً ورجالاً. عندما وقعت عينا الملك عليهما، ابتسم لهما، فحياه فرانك لانج بإصبعين يلامسان جبهته، وانحنت له أبولين دوفيل إكبارًا وإجلالاً.
















القسم السادس

مضت أسابيع طويلة والملك الصغير يصر على إحضار بنت هوى تحت السيل إليه بعد أن رفض كل امرأة أخرى غيرها، ولم يعد يتناول الطعام مع إخوته وأخواته ووالدته، في البداية كان يأكل معه، ثم لم يعد يأكل لا معه ولا مع غيره. خلال ذلك، وقّعت الوصية على العرش، تحت ضغط الشارع، على مرسوم يقضي بانتخاب أول رئيس للأردن، فترشح الملك عبدول للمنصب كما ترشح غيره. كانت حملة الملك شعبية وعقلانية، لم يكن فيها مكان للمساعي العشوائية بعد أن جعل من رئيسة الوزراء المستقيلة أروى رشيدات رئيسة للحملة. وكان أهم أهداف الحملة إنشاء مفاعل نووي بطاقة متجددة، فشمس الأردن بالأطنان، والبيئة في كل أنحاء العالم حمايتها تتطلب مشاريع خضراء كهذه. لكن ما وقع في اليوم الذي أُعلن فيه عن نجاح عبدول الحسيني أول رئيس منتخب ديمقراطيًا للبلاد، أن الملك الصغير السابق أشعل النار في ستائر قصر رغدان، وأحرقه، انتقامًا من الذين حرموه من حب لم يحصل عليه. عندما لم تجد مكانًا تنام فيه، أعدت الملكة السابقة سونيا حقائبها، وقررت العودة إلى الكويت، المدينة التي وُلدت فيها. جاء الملك السابق إلى المطار لوداعها، ووداع الملك الصغير السابق، وكل الباقين من أمراء سابقين وأميرات سابقات. وقبل أن تصعد السيدة الجليلة سلم الطائرة، همس الرئيس الجديد للبلاد في أذنها، وهو يضع يده في جيبه:
- سأشتاق إلى الحرب الكلامية التي كنتِ من ورائها اجتماعيًا وسياسيًا.
- ولكنك لم تشارك فيها، همهمت الوصية السابقة على العرش.
- كان عليّ أن أكون حياديًا.
- فتركتني نهبًا لكل لسان.
- كنت أعرف أنك ستوقفينهم عند حدهم أيًا كانت حدة النبرة التي يهاجمونك فيها، وكانت نفسي تمتلئ بك إعجابًا.
- لم أكن لأتفوق عليهم لو لم تكن بظلك هناك.
- كزوجة كل ملك.
- وعندما كنت أصاب بوجع الرأس كنت آخذ حبتي أسبرين.
- الكل يصاب بوجع الرأس بين الفينة والفينة.
- ولا يأخذ الكل بالضرورة حبتي أسبرين، فيشعر بعد حين بتحسن. أنا كنت آخذ حبتي أسبرين، لا لشيء، ولكن لأني كنت آخذ حبتي أسبرين.
- ولكن لأنك كنت تأخذين حبتي أسبرين.
- لم أكن بحاجة إلى ذلك، كان ذلك كما لو كنت أريد أن أعرف الوقت دون أن أنظر إلى الساعة أو أن أقترح فكرة دون أن أعرف ما هي.
سالت دموع الملكة القديمة، وسارعت إلى الاختفاء من أعلى سلم الطائرة، فأخرج الرئيس عبدول الحسيني الساعة الثانية التي اشتراها من السوق السوداء لها، وتأملها ملياً قبل أن يعيدها إلى جيبه.
وهو يجلس بجوار أروى ارشيدات في السيارة التي تقله إلى مخيم جبل الحسين، قال لمهندسة الطاقة النووية:
- أعظم فكرة أن يكون موقع المفاعل النووي في المكان الذي كان فيه قصر رغدان حيث الشمس لا تنقطع وكل تاريخ الأردن يشرق من القلعة ليس بعيدًا عنه، حقًا إن فكرتك هذه أعظم فكرة.
- ليست فكرتي، يا سيادة الرئيس، همهمت رئيسة الوزراء السابقة.
- كنت أظن...
- ليست فكرتي.
- فكرة من إذن؟
- فكرة سونيا، جلالة الملكة السابقة.



باريس الاثنين في 2012.08.13



أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011
33) تراجيديا النعامة 2011
34) ستوكهولم 2012
35) شيطان طرابلس 2012
36) زرافة دمشق 2012
37) البحث عن أبولين دوفيل 2012
38) قصر رغدان 2012


الأعمال المسرحية النثرية

39) مأساة الثريا 1976
40) سقوط جوبتر 1977
41) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

42) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
43) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
44) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
45) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
46) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
47) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
48) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
49) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

50) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
51) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
52) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
53) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
54) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
55) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
56) خطتي للسلام 2004
57) شعراء الانحطاط الجميل 2007 – 2008
58) نحو مؤتمر بال فلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم 2009
59) حوارات بالقوة أو بالفعل 2007 – 2010
60) الله وليس القرآن 2008 - 2012
61) نافذة على الحدث 2008 - 2012



[email protected]






























قصر رغدان رواية الثورة الأردنية لهي بالأحرى رواية علائقية، يرتبط فيها الشارع بالعرش، فقدر الأردن خاص ليس كغيره من الأقدار، وهو لا بد أن يمضي بأقدار الناس، ودون ذلك لا يوجد حل لمعضلاتهم. لهذا يغامر النص على طريقته، ويترك الكاتب نفسه كالقارب الماخر للعباب معه، لكن ما هو غير عقلاني يصبح طريقًا لما هو عقلاني، فتلد الأزمة الأردنية حلها من داخلها، بعد أن يشير النص بأصابعه العشر إلى أسبابها ومسببيها.

إذن يبدأ النص بشيء أقرب إلى السريالية موهمًا بمنطق هو في حقيقته غير منطق (اختطاف الملكة بأمر الملك)، وعلى هذا الأساس تُبنى كل وقائع الرواية لنصل في الأخير إلى تحقيق ما لا يمكن تحقيقه، أليسه هدف كل ثورة؟ الملك وقد غدا رئيسًا للبلاد.

للرواية هموم أخلاقية وجمالية كثيرة، تحترم أبطالها حتى عندما يضطرها السياق إلى الكشف عن خواصهم السردية غير الاعتبارية للتعميق الدلالي والتأزيم الدرامي، لهذا قراءة هذه الرواية تتطلب الكثير من الحذر، والكثير من بعد النظر، والكثير من الذوق السليم، فالحكم السريع المتهور يطفئ كل إشراقة أمل، ويساهم في تفاقم أزمة ستكون كارثة الكوارث لكل الأردنيين.

هذه الرواية هي الرابعة من السلسلة التي يكتبها أفنان القاسم مع بطليه التيميين فرانك لانج رجل التحري الخاص وأبولين دوفيل ضابطة الدي جي إس إي.


* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زرافة دمشق رواية الثورة السورية
- البحث عن أبولين دوفيل رواية الثورة المصرية
- نافذة على الحدث الأعمال الكاملة
- حوارات بالقوة أو بالفعل
- دمشق كروما فاشية فأينهم مقاتلو الظل؟
- الله وليس القرآن الأعمال الكاملة
- الجنس والله
- الكون لم يخلقه الله
- الإسلام دراسة أعراضية
- فولتير والمثقفون العرب
- ردًا على سامي أبي الذيب الله وليس القرآن
- شعراء الانحطاط الجميل
- البؤساء فكتور هيغو الجزء الأول
- شيطان طرابلس
- ستوكهولم
- تراجيديا النعامة
- الشيخ والحاسوب
- وصول غودو
- مؤتمر بال الفلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم في كتاب
- أمين القاسم الأيام الفلسطينية


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - قصر رغدان رواية الثورة الأردنية