أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الشيخ والحاسوب















المزيد.....



الشيخ والحاسوب


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3736 - 2012 / 5 / 23 - 12:56
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الأعمال الروائية (26)


د. أفنان القاسم


الشيخ والحاسوب
LE VIEL HOMME ET L’ORDINATEUR

التحرّي الأخير لشيرلوك هولمز
La dernière enquête de Sherlock Holmes



رواية













































إلى ذكرى سير آرثر كونان دويل






































القسم الأول

كل هذا جواهر*، الصيف، الشيخوخة، الوجود، الموت، التفكير في الموت من فترة إلى أخرى كي أتذكر أنني لم أزل على قيد الحياة، كي أسأل نفسي ليس ماذا فعلت وإنما ماذا سأفعل، ومع ذلك لم يبق وقت كثير، ربما الوقت الكافي لكتابة آخر تحرٍ، التحري السادس والعشرين، تحرٍ ينقذني من العزلة، فالعزلةُ جواهرُ بالفعل، أُفَضِّلُ الموتَ على العزلة، القبرَ على الاختناق، الرمادَ على النسيان وتخلي الناس عنك، تخلي الآلهة، تخلي الأبناء، تخلي العالم، تخلي كل شيء. التخلي أكبر الجواهر. التخلي هو القُبلة الأخيرة للوداع، وبعد ذلك الألم دون أن تتألم، الجوع دون أن تجوع، الظمأ دون أن تظمأ، وجِماع الظلال. الظلال. الذكريات. الذكريات الظلال. ظلال الظلال. الذكريات البعيدة كالقريبة. الذكريات كلها البعيدة والقريبة ظلال، وهي من نوعِ الجواهرِ لما تكون جميلة. منمنمة. مدغدغة. مغتالة للحواس. من نوعِ الجواهرِ السوداء لما تكون بيضاء كضحكة امرأة نمتَ معها في شبابك من جهاز المخابرات. ضحكتها البيضاء، دائمًا البيضاء، حتى عندما تنظف أسنانها بدم الأبرياء. من نوعِ الجواهرِ السوداء. كل الذكريات الطلية من نوعِ الجواهرِ السوداء. أما الأخرى، الذكريات الأخرى، الذكريات التي هي بالفعل سوداء، فهي كابوس المتعة التي لا تنتهي. نوع من اغتصاب جديد للماضي، بإرادة العاجز والمستسلم كليًا لقدره. اغتصاب لوثي. ضدي. نفيي. أقرب إلى إفراغ الجسد من ذاته. تفريغ الذات. قيئها. متعة القيء. متعة الاغتصاب. متعة الانتهاك. وطعن كل الماضي الأسود على دُفُعات، كتوارد الذكريات المذلة، المهينة، المشينة. على دُفُعات. ثم تجيء كل الأفكار الأخرى. الأفكار لا الذكريات. كل الأفكار التي كانت عظيمة في لحظة من اللحظات لأنها أفضت إلى حل معضلة في تحرٍ طال أو أنه لم يكن سوى تطويل لا يد لنا فيه. طريق مسدود أوله في زقاق من أزقة لندن وآخره في جهنم.

------------------
* المقصود خراء.
لهذا أنا أعيش اليوم في مدينة الجواهر. باريس. لأجل تحرٍ أكتب عنه يكون الأخير. بعد خمسة وعشرين تحريًا مع هولمز. خمسة وعشرون تحريًا. ثم السكوت. التحري السادس والعشرون. لأجل أن أخرج من العزلة. أن أخرج من الظلام إلى الأضواء في مدينة الجواهر. لندن في هذا العمر ليست أحسن منها. لهذا فضّل هولمز قضاء تقاعده في ريف مانشستر مع النحل كما فعل أبوه وجده قبل أبيه. مع ذباب العسل. يا للهول! العسل دون فم امرأة، آه! أي هول! والشمع. الشمع لما يحترق في صومعة. يا للهول! يا للهول! وخلايا النحل. خلايا السحاق. يا للهول! يا للهول! يا للهول! عرضت خدماتي على كل مكاتب التحري الخاص، فنظروا إلى الشيب الغازي لدماغي، وابتسموا. نأسف، يا دكتور واتسون! كانوا كلهم أجمل من جواهر بنات ليل بيغال الصغيرات اللواتي لا يكبرن أبدًا كما أكبر أنا. نأسف، يا دكتور واتسون! حدثتهم عن الخمس والعشرين لطمة، عن الجرائم التي حِلْتُ وهولمز دون ارتكابها، وعن الأخرى التي ارتكبت دون إرادتنا. الجرائم الأخرى التي هزت العالم بعد أن قرأ عنها في كتبي كل العالم، وبفضلها كانت شهرتنا الماضية، وليس بفضل تلك التي استطعنا الحيلولة دونها أنا وهولمز. الجرائم التي تدغدغك من جواك، وتصعد فيك بكل لذة العالم. الجرائم المذهلة، أبشع الجرائم، التي ارتكبت على يد أبشع الرجال، وأحيانًا أجملهم وأرقهم وأكثرهم ملائكية. كانت تلك الجرائم الفظيعة أكثر ما يريده الخيال الجماعي، خيال مغتصب للأنا، بإرادة الأنا، وبإرادة شيء آخر أقرب إلى فتح جرح في اليد بسكينٍ ذي ثُلَمٍ. نأسف، يا دكتور واتسون! حقًا، حقًا، كلنا أسف، يا دكتور واتسون!
على قفاي! العالم كله على قفاي! أريد أن أمارس الدعارة على قفا العالم، أن أفتح مواخير للجثث، أن أحرق العالم بين فخذي امرأة عانس تشبهني، امرأة عانس لها قضيب تشبهني، امرأة عانس لم تعد تبكي مثلي على ماضٍ انتهى، على مجدٍ زائف، كمجد الأيقونات في الصوامع. مجد ذكوري. أقرب إلى مجد ضابط من ضباط السكوتلاند يارد. مجد عسكري. مجد امرأة عانس ملوثة الشفتين. لم تعد تحسن التقبيل. مجد قدري. زائل. زائل لأنه قدري. نوع مما يُفرض على المرء بالقوة. ككل مجد يتساقط، لا يدوم. العالم كله على قفاي! سأكتب في الحاسوب: العالم كله على قفاي! لعل أحدهم يفهم.
قمت إلى الحاسوب، وفتحته. عشرات الإيميلات. كانت سبامات كلها ما عدا إيميل واحد من ابنتي سوزان. بائعة الأزهار في شارع فوبورغ-سانت-هنوريه. شارع الدائرة الثامنة الباذخ، هناك ليس بعيدًا من مصنع الشعوب الذي هو قصر الإليزيه وبيوت الدعارة الحديثة التي هي السفارات ومحلات الترف للسادة والسيدات غير السادة والسيدات، أناس لغائطهم رائحة أثمن عطور باريس، وقاعات عرض اللوحات التي يرسمها رسامو مونمارتر بثلاثة سنتات وتباع بآلاف اليوروات. بعشرات آلاف اليوروات. بابا حبيبي، أنا غاضبة من نفسي، لأنني دفعتك إلى مغادرة لندن. كنت لا أعلم أنك لن تجد تحرِّيَكَ الأخير في باريس، أو ما قبل الأخير. تحرِّيُكَ ما قبل الأخير. ما قبل الأخير. أسمعت؟ ما قبل الأخير. لا أريد أن أفقدك، يا بابا. أريدك أن تعيش إلى الأبد. أن تعيش إلى الأبد، إلى الأبد. طيب؟ أن تعيش إلى الأبد، يا بابا. باريس فكرتي، يا بابا. لماذا لا تعود إلى دارنا؟ دارنا مغلقة منذ تركناها، يا بابا. كل شيء مغلق في دارنا. في دارنا كل شيء مغلق، وكل شيء مغلق عليه في دارنا، حتى الشمس التي تتسلل من صُفوق نوافذنا. الشمس مغلق عليها في دارنا. كالظلام. كالظلال. الظلال التي تركناها، ولم نأخذها معنا. كل شيء مغلق، كل شيء مغلق عليه، يا بابا. باريس فكرتي أنا، فكرة سيئة. لم أشأها أن تكون هكذا. ربما كنت طفلتك التي أرادت أن تكون إلى جانبها. طفلتك. طفلتك المدللة أكثر مما يجب. أكثر من اللازم. أكثر من كل شخصياتك التي دللتها في كتاباتك، شخصياتك التي تكرهها خاصة، يا بابا. أطلب منك المغفرة، يا بابا. اغفر لي. اغفر لي، اغفر لي، يا بابا. اغفر لي. اغفر لي. اغفر لي.
هزني إيميل ابنتي، مدللتي، هزًا عنيفًا. حذفت كل السبامات، وأنا أشتم مرسليها، وألعنهم واحدًا واحدًا. إذا أردت أن تكون أقوى الرجال في العالم فياغرا بأبخس الأثمان. الدكتور واتسون، ليس أنا، الدكتور واتسون يدلك على أحسن الطرق في الحصول على أكبر قدر ممكن من المتعة. قضيب قصير لدينا كل الحلول. اختراق من الخلف دهون البيت الأبيض. قذف بدري نحن هنا من أجل تعليمك أحسن الوسائل للحيلولة دون ذلك. كل الأوضاع الجهنمية في فيديو مجاني لزبائننا ذوي الامتياز. حمّل كل الأفلام الإباحية بالمجان. الصيدلية الكندية تخفيضات هائلة لكل أنواع الحبوب الزهرية منها والزرقاء. كل البطاقات البنكية مقبولة، الدفع محمي. إرسال كتوم خلال 48 ساعة. ضع نجمة الأفلام الإباحية المثيرة ليندا بيترسون في فراشك. كل اللعب المنفوخة بثلاث فتحات مع جهاز تحركه حركة اهتزازية... هنيئًا لك دكتور واتسون، أنا، ثلاثة مليون دولار الجائزة الأولى لياهو من نصيب إيميلك. العالم كله على قفاي، كتبت ردًا على هذا الإيميل الأخير، "فَكْيُو"! ابنتي، حبيبتي، مدللتي، قلت لنفسي، وأنا أعيد قراءة إيميلها. لماذا كل هذا الإلحاح على عودتي إلى 221ب شارع بيكر، شقتنا التي اشتريتها من ورثة السيدة هدسون قبل تقاعدي بخمسة أعوام؟ كل الظلال التي فيها أريد خنقها، لهذا أغلقت عليها، وذهبت. أريد خنقها. ظلال هولمز الجد والأب والابن وظلال السيدة هدسون وأحفاد السيدة هدسون أول الظلال التي أريد خنقها. لم يكن ذنبي لأنكِ تركتِ ظلالك هناك، يا ابنتي. لكن لا يد لك في الأمر. لقد تم كل شيء في الوقت الذي قررتُ فيه أن أترك كل شيء حتى ظلالي التي شاخت مثلي، فالظلال تشيخ، يا ابنتي، مثلنا، لكنها أبدًا لا تموت. لهذا تريدين أن أبقى حيًا إلى الأبد، كظلالي. هذه هي الفاجعة الكبرى. لم أتوقع أبدًا أن أسمع منك مثل هذا الكلام. أن أبقى حيًا دون روح. كالأشباح. دون روح. كالصور الافتراضية. أن أشبه صورة تحلمين بها عني. صورة لا تُمَسّ. صورة من الأضواء والجواهر. فجأة خلتها تبكي. رأيت دموعها تسيل على وجنتيها، وهي تكتب لي. أحسست، وكأنها تخط آخر كلماتها لي. آخر رغباتها. آخر شهواتها. السرية. آخر شهواتها السرية. ضَرَبَتْ في دماغي فكرة أنها في خطر الموت، وأنها تودعني، فنهضت واقفًا دفعة واحدة، ورفعت سماعة الهاتف:
- آلو، سوزان؟
وهذه الصرخات التي سقطت عليّ سقوط الصاعقة:
- كم مرة قلت لك ألا تتلفن، ألا تتلفن، يلعن دين، ألا تتلفن، ابعث من وراء مومس غيري أحسن لك، وحل عن ظهري...
وطُرق الهاتف في وجهي.
يلعن دين على أبي يلعن دين على أبي أبي يلعن دين! وطرقت الهاتف بدوري. لكنني لم أتلفن إلا من أجل دموعك، لم أتلفن لسبب آخر، لم أتلفن إلا من أجل أن أقول لك بصوت مسموع كم أنا أحبك. كانت على الطاولة زنابق صفراء في إناء هشمته، وجرحت يدي. لم يكن الجرح بذي بال، لعقته حتى توقف عن النزيف. انحنيت ولملمت الزنابق الصفراء. زنابق ذهبية. الذهب ينبت في الأصص، وليس فقط على صدور الحسناوات. كان هولمز يقول زنابق الموت، وكانت المرحومة مارغريت زوجتي تحبها كثيرًا. أحبتها كثيرًا حتى ماتت من حبها لها. زنابق صفراء كقطع الذهب أكرهها، لهذا ترسلها لي ابنتي مرة كل أسبوع، فأضعها في مزهرية، وأتأملها كلما تقع عليها عيناي، أتأملها، وأنا أفكر أن هذه الزنابق الصفراء قتلت زوجتي مارغريت التي كنت أحبها أكثر من أي كائن آخر في الوجود. أعدت وضعها في إناء آخر، وجمعت بأطراف أصابعي قطع الزجاج، وأنا آخذ حذري لئلا أجرح نفسي للمرة الثانية. فتحت باب البلكون الصغير، ووضعتها قرب عش للحمام هناك، فأنا لا أقف على البلكون أبدًا. بلكون يطل على منتزه واسع، وأنا لا أخرج على البلكون. لا في الصيف ولا في الشتاء. أنظر إلى المنتزه من النافذة، ولا أخرج على البلكون. أدوخ لما أخرج على البلكون، رغم أني أسكن في الطابق الأول، وأشعر بكوني على وشك السقوط. لهذا جعل الحمام من بلكوني عشًا. ومن وراء الستارة أتابع عناق الحمام على بلكوني، القبلات العديدة المثيرة، ثم قعود الأنثى بعد كل قبلة ملتهبة، إلى أن يصعد الذكر عليها، ويكبسها ضاربًا بجناحيه الهواء. عدة ثوان. يصعد، ويضرب، ويكبس، ثم ينزل، وينشلّ، يبدو عليه الضياع. إنه الحب المضيّع للعقل. يبقى ساكنًا في مكانه، وهو يبدو عليه الضياع. لا يتحرك. ذاهلاً يبقى. يبدو عليه الضياع. بينما الأنثى تحلق عنه مبتعدة. المومس. سأبعث من وراء مومس في الحال، يا ابنة ال... اقتربت من الحاسوب، فإذا بسوزان ابنتي على السكايب تكتب آلاف المرات: بابا بابا بابا بابا بابا بابا بابا... تكتب ولا أراها، الكاميرا والتلفون ممنوعان. بابا بابا بابا بابا بابا بابا بابا...
- سوزان، لماذا أنت هكذا، يا حبيبتي؟ لماذا طرقت التلفون في وجهي؟
- أحبك، يا بابا!
- وأنا أيضًا أحبك! لماذا تعاملينني هكذا؟
- هكذا أحسن لنا، نحن الاثنين.
- ولكن لماذا؟ ماذا فعلت كي تعامليني هكذا؟
- لم أعد أحتمل، يا بابا.
- لم تعودي تحتملين ماذا، يا ابنتي؟
- لم أعد أحتمل.
- ماذا؟
- لم أعد أحتمل، لم أعد أحتمل.
- لم تعودي تحتملين؟
- لم أعد أحتمل، لم أعد أحتمل، لم أعد أحتمل.
- وأنا أيضًا لم أعد أحتمل.
- هل ستغادر إذن؟
- إلى أين؟
- كما قلت لك.
- إلى لندن؟
- إلى شارع بيكر. هل ستغادر إلى شارع بيكر؟
- مرة تريدينني أن أحضر قربك هنا في باريس، ومرة تريدينني أن أغادر بعيدًا عنك هناك إلى لندن.
- أريدك أن تترك كل شيء هنا، وأن تعود إلى بيتنا. أن تفتح النوافذ.
- أن أفتح النوافذ.
- وأن تتصل بهولمز.
- أن أتصل بهولمز.
- هولمز مثلك يعاني، ألا تعتقد أنه يعاني مثلك؟
- منذ مدة طويلة لا أعرف أخباره.
- حتمًا هولمز مثلك يعاني.
- هولمز مثلي يعاني.
- هولمز مثلك يعاني، عليكما أن تجدا التحري المناسب ليخلص كل منكما من معاناته.
- ولكن كيف؟! سوزان، اسمعي لي...
- أنت من سيسمع لي.
- سوزان، التحري السادس والعشرون لن يكون، لن يكون أبدًا.
- سيكون، وستكتب عنه كتابك، ستكتب كتابك السادس والعشرين. هل تسمعني، يا بابا؟
- أسمعك.
- كتابك ما قبل الأخير.
- كفى مزاحًا، يا سوزان.
- أنا لا أمزح، يا بابا. السادس والعشرون ما قبل الأخير.
- في هذا العمر؟ وفي مدينة الجواهر الثانية؟
- في هذا العمر، وفي مدينة الجواهر الثانية. ستجدان تحرِّيَكُما.
- هولمز لن يوافق. تعرفين كيف هو اليوم متعلق بنحلاته.
- سيوافق.
- لن يوافق.
- سيوافق، وإن لم يوافق دفعناه إلى الموافقة دفعًا. دفعًا. دفعناه دفعًا.
- أنت لا تعرفين إذن هولمز كما أعرفه.
- كما تعرفه أنت بالطبع لا، لنقل أنا أعرفه قليلاً.
- أنت تعرفينه قليلاً.
- أنا أعرفه قليلاً، أقل بكثير منكَ.
- أنت تعرفينه قليلاً، قليلاً جدًا.
- أنا أعرفه قليلاً جدًا.
- أنت تعرفينه قليلاً جدًا، هذا صحيح، قليلاً جدًا.
- أنا أعرفه قليلاً جدًا، هذا صحيح، قليلاً جدًا. أما إذا أصر على عدم المجيء إلى لندن، فسنقترح عليه الحضور إلى باريس، وسنتدبر الأمر.
- أمر ماذا؟
- أمر تحرّيكما السادس والعشرين، أمر شهرتكما كالماضي، لئلا تموتان كجرذين. هل تريد الموت كجرذ، يا بابا؟
- اسمعي سوزان، اتركيني أفكر في الأمر.
- ليس لديك الوقت الكثير لتفكر في الأمر، فكّر في الأمر معي الآن.
- ليس لدي الوقت الكثير لأُفَكِّ... توقفي، يا سوزان. ماذا تخفين عني؟
- ستعرف بعد قليل.
- آه، يا إلهي! ماذا هناك، يا سوزان؟ لهذا تريدين مني أن أترك كل شيء، وأعود إلى بيتنا؟ قولي لي، يا سوزان، ماذا هناك، برب السموات؟
انقطع الاتصال، وأنا اضرب على المَلامِس، وأصرخ: سوزان! سوزان! سوزان!
ضربت خيالي صورة من صور السافاري الفريدة لما كنت أرافق أبي وأمي وأنا صغير. رهط من الأسود واللبؤات والأشبال على الرمل. رملٌ كالذهب. قرب البحر. بحرٌ كالزمرد. شديد الخضرة كعيني أمي. كعيني ابنتي. كعيني زوجتي. كانت تلك الحيوانات الصهباء ذات الشعر الأشقر كشعر أمي، كشعر ابنتي، كشعر زوجتي، تلعب تحت هناك على الشاطئ كالدمى. كالدمى كانت تلعب. كانت تلعب كالدمى. كانت تلعب كالدمى الافتراضية. كانت تلعب كالدمى. كالدمى. كانت تبدو غير مهتمة بمصيرها، بالمصير. المصير لم يكن يخطر على بالها، وكأن العالم كان لها وحدها. وكأنها كانت العالم. كان مصير العالم مصيرها، وبما أنها كانت العالم، لم تكن تتساءل ما هو المصير. كنت أنظر إلى عيني أمي، لما أطلق أبي طلقته القاتلة، فرأيت في امتدادهما اللامتناهي سقوط أحد الأشبال مخضبًا بدمه. عندما صرخت أمي من الهلع على الحيوان الصغير التفتُّ، فرأيت أمه تعضه من رقبته، وتسحبه، بينما ولى أفراد كل الرهط الأدبار. بابا بابا بابا بابا بابا بابا بابا...
- أين ذهبت، يا سوزان؟ لماذا ذهبت؟ لماذا تعاملين بابا هكذا؟ هذا ليس لطفًا منك!
- ستكتب كتابك السادس والعشرين هذه المرة، يا بابا.
- سأكتب جواهري السادسة والعشرين هذه المرة! ماذا دهاك، يا سوزان؟ إياك أن تذهبي قبل أن تقولي لي ماذا دهاك، قولي لي ماذا هناك.
- عدني أولا بالعودة إلى دارنا.
- ..........................
- عدني.
- .........................
- عدني، يا بابا، أرجوك.
- .........................
- بابا، عدني، أرجوك.
- .........................
- بابا، أنت هنا؟
- .........................
- بابا، لا تتصرف كطفل، أرجوك، أنت هنا؟
- .........................
- لا تتصرف كطفل، يا بابا. عدني بترك كل شيء في باريس والذهاب إلى شارع بيكر، على أن تتصل بهولمز.
- .........................
- بابا، إذا كنت تحبني، افعل ما أطلبه منك، وسأكون لطيفة معك المرة القادمة. سأكون لطيفة معك أكثر من المرات السابقة، من كل المرات السابقة. عدني، يا بابا، وسأكون لطيفة معك مدى الحياة. بابا بابا بابا بابا بابا بابا بابا...
كنت أبكي كطفل، وأنا أكاد أختنق من اللُهاث، يا للحظ أن ابنتي لم تكن تسمعني، لم تكن تراني! كنت أبكي، وأنا أقول لنفسي هذه المرة سأفقدها إلى الأبد. كانت في خطر، وكان الخطر قادمًا من لندن، لهذا كانت تلح على عودتي إلى شارع بيكر، إلى بيتنا في شارع بيكر، كي أعمل وهولمز على إنقاذها. هكذا فهمت من كلامها، الخطر المهددها قادم من لندن.
- بابا، أنت هنا؟ بابا!
- طيب، يا سوزان، يا حبيبتي سوزان، كما تريدين، سأعود إلى شارع بيكر.
خلتني أسمعها تصيح، وأنا أقرأ:
- أنت أحسن بابا في الوجود!
وانقطع الاتصال كالمرة السابقة.
وتلك الطلقة القاتلة في قلب الشبل، وصرخة أمي، وابتسامة أبي. الآن فقط بعد عشرات الأعوام أرى ابتسامة أبي. ابتسامة مثلجة. كان أبي يقطر إثلاجًا. كان قاتلاً. ككل قاتل كان يقطر إثلاجًا. هجمتُ عليه، وأخذتُ أضربه في صدره، وهو يحاول أن يتفادى ضرباتي، ويقهقه قهقهة المجرم إلى أن تمكن من محاصرتي بين ذراعيه. شدني إليه بقوة، وأنا أبكي. ذهبت إلى النافذة، وألقيت نظرة على نقطة بعيدة هناك عند نهاية المنتزه. رأيت أحدهم يختبئ من وراء جذع شجرة. ظننته يراقبني. لكنه ما لبث أن ابتعد. التفت نحوي مرتين، ثم غادر المنتزه. بل كان يراقبني. سوزان كانت في خطر، وأنا كنت تحت المراقبة. ومرة أخرى طلقة أبي، وصرخة أمي، واللبؤة التي تعض ولدها الصريع من رقبته، وتسحبه، وتسحبه، بينما يترك الدم بقعًا كبيرة على الرمل.
التفتُّ إلى شاشة الحاسوب بحركة آلية، فإذا بي أقع على صورة سوزان، وهي تتصارع بين القبضات الحديدية لثلاثة من الرجال الضخام. فتحت مكبر الصوت بحركة غريزية، وإذا بابنتي تصرخ مستنجدة بي: باباااااااااااااااااااااااااااا... وبدوري رحت أصرخ: سوزان، ما الذي يجري، يا سوزان؟ وأخبط بكفي على الشاشة. ما الذي يجري؟ ما الذي يجري؟ ما الذي يجري، يا سوزان؟ بابااااااااااااااااااااااااااااا... وأنا أخبط بكفي على الشاشة. ما الذي يجري؟ ما الذي يجري؟ ما الذي يجري؟ وانقطع الاتصال على نصف صرخة لسوزان، فسقط العالم في هوة الصمت، وأنا معه. رحت أسقط صارخًا دون صوت، وأتهاوى، وكأنني أقوم بلعبة افتراضية مع الشياطين في مملكتهم السفلى. غدوت شيطانًا مثلهم، ونسيت أن ابنتي كانت تصرخ هناك في الحاسوب، وتطلب نجدتي، وأنا عاجز، لا أستطيع أن أفعل شيئًا.

* * *

النحل وما أدراك ما النحل! ما أدريه شيء آخر غير حضور هذه الحشرة العابثة، العابثة على عكس كل ما يقول علم النبات، منذ ستين مليون عام. العابثة مثلي، فمن العبث تنتظم الأشياء. تغدو خلايا. تنتج شمعًا وعسلاً. النحل يعبث بالرحيق ولا يحرقه، يعبث بشفاه الأزهار ولا يدميها، يعبث بمهابلها ولا يخترقها. تلقيح الأزهار الأنثوية بغبار طلع الأزهار الذكرية نوع من العبث الوجودي للكائنات الموجودة على الأرض. لكنه في حالة النحل فعل الاستثناء. وكل هذا جواهر، كما يقول الدكتور واتسون. جواهر سوداء. الاستثناء جواهر. لم أعد أطيق كل هذا. الاستثناء. دون الاستثناء لا يكون استقراء. استقراء لمعالم الجريمة. لا يكون الجمع بين الطريحة والنقيضة لأجل الوصول إلى الحصيلة. كل ما تعلمته على يدي هيغل، أبي الفلاسفة الإنجليز. كل هذا جواهر، يا دكتور واتسون. هيغل جواهر. هيوم، ديكارت، وكل الآخرين من الفلاسفة الإنجليز. جواهر سوداء كما تقول. لا أريد أن أعيش كل هذا من جديد. أنا أحلم كالماضي، النحلة التي فيّ تحلم كالماضي، لكني لم أعد أريد أن أعيش أحلامي. أحلام كثيرة، نعم، في هذا العمر، جميلة، كلها جواهر. كعسل النحل. العسل جواهر النحل. أكل الكثير منه أمر لا يحتمل. الطيران من زهرة إلى زهرة أمر لا يطاق. أمر منهك. أمر مهلك. أمر مدمر. ومع ذلك يطير النحل من زهرة إلى زهرة منذ ستين مليون عام. ستين مليون عام، يا دكتور واتسون. من زهرة إلى زهرة. الشعب الوحيد بين شعوب الأرض العامل حتى الهلاك هو شعب النحل. حتى الدمار. حتى الإبادة. ويحلم النحل بملكة ومملكة وبأنهار عسل. لم أعد أريد كل هذا، كل هذه الأحلام. لم أعد أريد أن أعيش أي حلم منها. أي حلم. أي حلم. لم أعد أريد أن أعيش أي حلم. كل هذا يثير في نفسي الغثيان. كل الماضي يدفعني إلى الضحك. إلى الضحك الأسود كالجواهر السوداء، يا دكتور واتسون. هناك جواهر سوداء وجواهر بيضاء، وكل صنيع كان لي جواهر سوداء. ربما كانت لك تلك المآثر التي اجترحناها معًا جواهر بيضاء لكنها لي جواهر سوداء. أسود من جواهر العناكب. اليوم لو قدر لي أن أختار بين النحل والعناكب فضاءً للتأمل والبحث لاخترت العناكب. العناكب جواهرها سوداء. سوداء، يا دكتور واتسون. سوداء. سوداء كالقمر الأبيض في الليل. كحقول مانشستر الخضراء. كأوسمة جوقة الشرف الحمراء. سوداء. لهذا لم أعد أريدها كل هذه الأحلام. لا هذه ولا تلك. لم أعد أريد أن أعيش أقل واحد منها. أقل مغامرة. يكفيني العيش بين عبث النحل وجواهره الحلوة حتى التقزز.
ذهبت إلى خزانتي الزجاجية لأتأمل أوسمة جوقة الشرف الثلاثة التي نلناها أنا وأبي وجدي، أوسمة حمراء. حمراء قاتمة. مرصعة بالتاج الملكي. مع تحيات صاحبة الجلالة الملكة، يا سيد هولمز. هتف وزير الدفاع قبل أن يزرع الوسام في صدري، ويؤدي لي التحية العسكرية. جرى ذلك قبل خمس أو ست سنوات من تقاعدي. كان الوسام يعني أن أوقف كل حلم، كل مغامرة. مع تحيات صاحبة. كل مغامرة. الجلالة. لكني لم أكن أطيق الفراغ. أبي كان يقول الفراغ مفسدة. نحن نعيش لنعمل، يا هولمز الصغير، كان يقول لي. وأمي: أترك هولمز الصغير وشأنه، لقد نال كفايته من العمل اليوم. كالنحل. منذ ستين مليون عام والنحل يعمل دون توقف. من الجنون أن نعمل دون توقف. أنا لأمي لقد نلت كفايتي من العمل ذلك اليوم بينما كنت أتظاهر بالقراءة. لم أكن أفهم شكسبير لهذا لم أكن أحبه، وأنا في الوقت الحاضر مع كل الفراغ الذي لدي أداوم على عدم حبي له رغم قراءتي لكل أعماله. أكون أو لا أكون. أية كارثة! شخصيًا أنا أقف عند حد أكون. في أكون كل التحدي الوجودي، ولا داعي إلى أو لا أكون. كل هذا سجع مقفى وفهلوة لفظية لا أكثر. أكون أو لا أكون. أي كلام مفخم! مجاني! جواهري! بل أكون، بل أكون، وفقط. أكون أو أكون. لا خيار. العدم غير مطروح. إطلاقًا. أكون. أكون. لهذا داومت على الذهاب من مغامرة إلى أخرى بعد نيلي لوسام جوقة الشرف. كي أكون. ثم اخترقت الفضاء المعتم للنصف الثاني من عبارة شكسبير: لا أكون.
تناولت قبعة الصائد الكامن، ومسحت عنها الغبار، ورسمت على ثغري ابتسامة ساخرة. لم تكن القبعة لي، كانت لأبي صاحب نظرية الفراغ مفسدة. راودتني الرغبة في البصاق عليها، ثم رميتها على مدى يدي، فحلقت نصف تحليق، وسقطت من وراء الكنبة. الفراغ مفسدة المفاسد، ولكن هذا لا يقال بصوت أبي المتبجح، ولا بغروره، ولا باستخفافه وازدرائه. أترك هولمز الصغير وشأنه. لماذا لم أصفعه وقتذاك؟ فقط لأجل الرعشة التي دومًا ما كانت تصاحب نبرة أمي. وشأنه. وشأنه. أترك هولمز الصغير وشأنه. تعال إلى ذراعيْ ماما، يا شيرلوك. وشأنه. وشأنه. أترك هولمز الصغير وشأنه، لقد نال كفايته من العمل اليوم. ثم كانت تقبلني قبلات عديدة، قبلات لا تعد ولا تحصى، من كل وجهي، ومن فمي. وشأنه. وشأنه. طعم شفتي أمي لم يزل على فمي. وشأنه. وشأنه. وشأنه. أترك هولمز الصغير وشأنه. في فمي. في لعابي. ماما تحب شيرلوك، يا شيرلوك. وشيرلوك يحب ماما، يا ماما. ماما تحب شيرلوك كثيرًا، يا شيرلوك. وشأنه. وشأنه. وشأنه. سأتركه وشأنه، يصيح أبي. ينظر إليّ، وأنا بين ذراعي أمي ممتعضًا، ويخرج. ماما تريد أن تلعب الغميضة مع شيرلوك، يا شيرلوك. كانت فرصتنا عندما يخرج. أَغْمِضْ عينيك، ثم افتحهما عندما تقول ماما افتح عينيك لشيرلوك، يا شيرلوك. أُغْمِضُ عينيّ، ثم أفتحهما عندما تقول ماما افتح عينيك لشيرلوك، يا ماما. وشأنه. وشأنه. أتركه وشأنه. أُغْمِضُ عينيّ، وتبدأ الأقنعة بالكلام معي، بالضحك، بمد ألسنتها لي، بالقهقهة. هل يفتح شيرلوك عينيه كما قالت ماما، يا ماما؟ لا، ليس بعد. انتظر أن تقول ماما أن يفتح عينيه لشيرلوك، يا شيرلوك. بالضحك، بمد ألسنتها. بالقهقهة. آخذ بالقهقهة. يغدو وجهي قناعًا، فأتشوق إلى البحث عن ماما. هل يفتح شيرلوك عينيه كما قالت ماما، يا ماما؟ قلت لك لا، ليس بعد. انتظر أن تقول ماما أن يفتح عينيه لشيرلوك، يا شيرلوك. آخذ بالضحك كالأقنعة، بمد لساني، بالقهقهة. هل يفتح شيرلوك عينيه كما قالت ماما، يا ماما؟ يحل الصمت، صمت عميق، فأتوقف عن القهقهة، وتتساقط الأقنعة، كل الأقنعة، تتساقط الأقنعة كلها عن وجه واحد لكل الوجوه. لكل الوجوه وجه واحد يشبه وجه أمي، فأحتار، أيها وجه ماما؟ ماما! هل يفتح شيرلوك عينيه كما قالت ماما، يا ماما؟ لا جواب، فأفتح عينيّ، والخوف يزحف في أوردتي. أصرخ: ماما! هل يفتح شيرلوك عينيه كما قالت ماما، يا ماما؟ الصمت دومًا. ماما! ثم من بعيد، من بعيد جدًا، من أقصى مكان أجهله أسمع: يفتح!
كانت عشرات من الغليونات هناك، استرعى انتباهي غليون الكالاباش الضخم، غليون جدي حتمًا، فهو لا يوجد تقريبًا في الأسواق اليوم. حملته، كان ثقيلاً. وضعته في فمي، فسقط من بين شفتيّ لثقله. عضضته، وأنا في صدري أسب كل الغليونات في العالم أولها غليون الكالاباش. أية كارثة غليون الكالاباش! أية سخرية! أخذت أبتسم، وأنا أعض الغليون الثقيل الضخم، فبدوت كتمثال من تماثيل شمع مدام توسو. أبشعها. تماثيل شمع مدام توسو كلها بشعة، لكني كنت أبشعها. تماثيل من شمع. لهذا هي بشعة حتى ولو كانت جميلة. بشعة. كلها. تماثيل شمع مدام توسو. وأنا أشدها بشاعة. تبًا! انتزعت الكالاباش من فمي، وألقيته في الخزانة، وكل الغليونات تساقطت على بعضها البعض. من شمع. هولمز من شمع. كالشمع الذي تنتجه نحلاته. الشمع بول نحلاته، والعسل خراؤها، يا دكتور واتسون. شمع. شمعيّ. هولمز. صديقك القديم هولمز شمعيّ. شمع. من بول النحل. تناولت من عشرات المعاطف المطوية أحدها. معطف مستدير قصير رميته على كتفيّ، فبان لي شكل عاهرات ميدان سوهو. تذكرتُني عندما تنكرتُ في جسد عاهرة ذات مرة بمعطف كهذا ولا شيء تحته، فجذَبَتْ ساقاي المنتوفتان كل نخبة لندن الأرستقراطية. لم أفلت منهم إلا بفضل ليموزين أحد شيوخ الخليج، ولما كشفت له سري تعلق الشيخ بي أكثر. أنت روح قلبي، يا ابني! وسقط علي. في الليموزين. هددته بمسدسي، فأوقف السيارة، وقذفني خارجها. لم أكن أعلم أن الفرق بيننا وبين النساء طفيف جدًا. أنت روح. وربما لا يوجد أي فرق. قلبي. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد لدي ذلك الإحساس بالعداء والاحتقار للمرأة. ليس مائة بالمائة.
رميت المعطف، وأنا أنظر إلى ساعتي، وخرجت إلى خلايا النحلات التي أعمل على تربيتها. كان موعد تبديل الأسطوانة. ما يُدعى بقابلية التكيف فيما يخص النحل صحيح. هكذا أنا مع كل مغامراتي التي قمت بها. حتى أنني أحيانًا ما كنت أتساءل عن أصلي، إذا ما كنت نحلة دون أن أعلم. التكيفية. كي أُوفر على النحل تعب جمع مؤونته من الزهور، وأُريح هذا الشعب من مصيره المجحف، فصلته عن ملكته التي تعيش أفواج النحلات على دَنِّها الدؤوب، فلكي تنظم العمل في مملكتها، تبث الملكة نغمًا شجيًا لإطراب رعيتها – اكتشافي المذهل - وعوضتها عن الدَّنِّ بالموسيقى الكلاسيكية. بيتهوفن موزارت بيرد تشايكوفسكي أندرو مانز... هذا ما يؤثر في حواسها الفطرية في الواقع. ومن ناحية ثانية، أطلقت في بيوت النحلات شذا الأزهار، فلم تعد بحاجة إلى الكد بحثًا عن الشذا من زهرة إلى زهرة. أما بخصوص التلقيح، فقد أجريت طريقة التعفير، وكانت النتيجة مذهلة: زيادة الإنتاج، وإطالة عمر النحلات والأزهار، الأولى لأنها أعطت كل قواها لأجل العمل دون أن تغادر بيوتها، والثانية لأنها لم تمارس العشق عنوة عن طريق وسيط، فتوفرت لها كل أسباب العناق البورجوازية. زيادة الإنتاج دون استغلال، والتمتع بالحياة دون غصب أو اغتصاب. هذه هي روح العدل والديمقراطية كما كتبت في دراستي الفريدة من نوعها عن النِّحالة. والملكة؟ سيسأل أحدهم. ما هو مصيرها؟ مصيرها ككل الملكات في العالم أن تنعم بمضاجعة كل ذكور النحل في مخدعها، فتأتي بالبيض، وتشرف على تربية اليرقانات.
قطعت حديقتي المزججة، وأنا أمضي بأروع الأزهار وأكثرها فرادة، تأملت هذه الزهرة أو تلك، وداعبت هذه الزهرة أو تلك، ونظفت تربة هذه الزهرة أو تلك، إلى أن وصلت المكان الخاص ببيوت النحلات. لم أحتج إلى ارتداء البزة الواقية، فكل النحلات تعمل في خلاياها تحت وقع الموسيقى وبين رائحة العطر. أعدت وضع الأسطوانات، وعملت على برمجتها. فتحت أحد أبواب بيوت النحلات، وألقيت نظرة عليها. بدا لي أن بعض النحلات قد سمنت أكثر من اللازم، رفعت إحداها بإصبعين، وفحصتها. لم يكن الأمر بذي بال، كانت النحلة سمينة بعض الشيء، ولكنها دومًا رشيقة، كانت تحاول النط، وهي بين إصبعيّ، تريد التحرر بعيدًا عن سلطاني. سمينة. قلت لنفسي هذا لأنها لم تعد ترهق نفسها كثيرًا كالماضي. أعدتها إلى بيتها، وأغلقته، وأنا أعزم على مراقبة هذه الظاهرة بين بناتي. قرع فجأة تلفوني المحمول قرعة واحدة، فقلت رسالة هامة، لأني أرفض كل مكالمة هاتفية تحول دون عملي، والتلفون الثابت كنت قد قطعت حبله. افتح حاسوبك، يا هولمز، برب السماء افتحه، وكلمني على السكايب، الأمور خطيرة جدًا جدًا جدًا. دكتور واتسون.
عجلت العودة إلى الصالون، وأنا أفكر لم تعد الأمور خطيرة بالنسبة لنا، أنا والدكتور واتسون، منذ قرن لم تعد خطيرة، فما بالك أن تكون اليوم خطيرة وخطيرة جدًا جدًا جدًا؟ يبالغ. قلت يبالغ. ولكن الدكتور واتسون لم يكن ليبالغ يومًا. إذن فهو يمزح. يمزح. بعد كل هذا الانقطاع؟ أضف إلى ذلك أن الدكتور واتسون لم يكن ليمزح أبدًا. ربما كانت طريقة ماهرة لدفعي إلى فتح حاسوبي المحمول بسرعة والتحدث معه. اشتاق لي. قلت لنفسي. ولكن في هذا العمر نحن لا نشتاق. نحن لا نشتاق لأحد. نشتاق للموتى. فقط.
- دكتور واتسون، ماذا دهاك؟
ظهر كل وجه الدكتور واتسون على الشاشة وكأنه وجهٌ لمجنون أو مشعوذ.
- شيرلوك، الأمور خطيرة جدًا جدًا جدًا.
عندما يناديني الدكتور واتسون باسمي الصغير هذا يعني الحدب الأبوي وكل تفرعاته الضمنية أو أن الأمور خطيرة جدًا جدًا جدًا بالفعل، ولم يكن في الظرف الحالي أي مكان للحدب الأبوي.
- لماذا لا تبحث عن واحد غيري، يا جون؟
وأنا أيضًا عندما أدعو الدكتور واتسون في ظرف كهذا باسمه الصغير هذا يعني أنني أفهم أن الأمور خطيرة جدًا جدًا جدًا. أطلق الدكتور واتسون نفسًا مرتاحًا، وقال، وقد نعمت نبرته، لكنها نبرة داومت على تصدير قلق صاحبها الكبير:
- الحمد لله أنك تفهم الوضع، يا هولمز.
- لم تقل لي شيئًا بعد كي أفهم الوضع، والحق أنني لا أريد أن أفهم شيئًا، ولكن قل لي على الرغم من ذلك، كلي آذان صاغية.
- لقد تم اختطاف ابنتي سوزان.
أطلقت ضحكة مدوية.
- لا تضحك، يا هولمز، أرجوك.
- لقد تم اختطاف اب... ولماذا سوزان؟ لماذا سوزان، يا دكتور واتسون؟
- هذا ما أود معرفته.
- لا بد من خطأ هناك.
- أنا أكلمك من بيتها، انظر إلى بيتها كيف قلبوه رأسًا على عقب، كانوا يبحثون عن شيء لا أدري ما هو، ورأيتهم على شاشة الحاسوب، وهم يسوقون سوزان بعنف، وابنتي تصرخ منادية إياي كي أذهب لنجدتها.
- لا بد من خطأ هناك، سوزان بائعة الزهور! وأنت المتقاعد!
- يؤسفني أن أخيب أملك، يا هولمز، فلا خطأ هناك.
- لا خطأ هناك؟
- لا خطأ هناك.
- إذا كان لا خطأ هناك، إذن فهو أحد أعدائك القدامى، ضابط من جهاز المخابرات.
- آخر تحرٍ قمنا به صحيح لم يكن كله في صالح السكوتلاند يارد، لكننا لم نتهم أحدًا بالتواطؤ خلال سلسلة التفجيرات التي هزت لندن.
- كيف هذا لم نتهم أحدًا بالتواطؤ؟ قلنا إن للسكوتلاند يارد يدًا فيها لأسباب سياسية.
- نعم، ولكننا لم نسمِّ أحدًا من الضباط، حتى أننا لم نقل إن رئيس الوزراء كلير من ورائها، أنت تعلم إذا لم يكن لديك ما يثبت ذلك أذهبوك إلى المحكمة بتهمة الثلب.
- اسمع، يا صديقي العزيز، لماذا لا تذهب لترى كلير، وتسأله...
- كادرون.
- كادرون؟
- نعم، كادرون.
- كادرون من؟
- رئيس الوزراء الحالي.
- معذرة! اذهب إلى كادرون هذا، وإذا ما كان الأمر صحيحًا، بمعنى أن السكوتلاند يارد هو من اختطف سوزان، اطلب منه أن يعمل على إطلاق سراح ابنتك، وينتهي الأمر.
وبإصبعي الصغرى نقرت، وقطعت الاتصال.
صببت كأس براندي، وأشعلت سيجارًا. كان من عادتي عندما أريد أن أفكر في شيء، أقول عندما أريد أن أفكر في شيء ولا أقول عندما أريد ألا أفكر في شي، عندما أريد أن أفكر في شيء، أن أفكر في شيء آخر. كرة القدم، بيليه، مارادونا، بلاتيني. الرقاصون السحرة، وأصحاب القضبان الحقيقية. ليس كلاعبي اليوم المخنثين منايك الملاعب. ربما ما عدا واحد أو اثنين، زيدان قليلاً، وبيكهام أقل بقليل. الآخرون كلهم مخنثون، كلهم يتعاطون ما ينشط أقدامهم، فهم لا قضبان حقيقية لديهم يلعبون بها وبها يسجلون أهدافهم. أولئك كانت لهم قضبان حقيقية يرقصون بها والعالم كله معهم. على أنغام الرومبا والكانكان. وإذا ما لم يكن خطأ هناك، تجدهم الآن يرقّصون سوزان على قضبانهم. سوزان الرقيقة كالورد الذي كانت تبيعه. وفي إحدى المرات جاء بلاتيني إلى حيّنا في الماي فير. كان عابرًا. جاء إلى حيّنا. كان وحده. كنا نلعب في الساحة المقابلة للسفارة الأمريكية. أنا وبعض الأصدقاء. كنا نلعب على الرغم من كبر سننا. لننسى كبر سننا. ولشيء آخر. لست أدري ما هو. ليس لأن النهار كان مشمسًا. لم نكن نحب الشمس. خاصة الشمس في لندن. كنا نحب الشمس في بلاد الشمس. ليس في لندن. في جزيرة بالما مثلاً أو في الجزائر. ليس في لندن. بلاتينيي كان على ما يبدو سائحًا. كان وحده. وإذا لم يكن السكوتلاند يارد وحده المسؤول فسوزان تم خطفها في باريس؟ وإذا ما كان الخاطفون من رجال الدي جي إس إي؟ كان وحده. عندما رأيته عرفته وصحت: بلاتيني، تعال. فجاء. كان لا يتقن كلمتين بالإنجليزية، وأنا شرحه بالفرنسية، كنت لا أتقن كلمتين، لكننا تفاهمنا. يمكن أن يكون الجهازان الفرنسي والبريطاني متفاهمين ما بينهما. ولكن لماذا؟ قلت لبلاتيني ناديتك كي تلعب معنا. لم يختر فريقي. كان يريد معاندتي. لكني... لكن جواهر سوداء كل هذا. جواهر أسود من سوداء، فلا أعداء للدكتور واتسون بين أفراد السكوتلاند يارد، اثنان أو ثلاثة، وبين أفراد المخابرات الفرنسي أقل. وسوزان بِرِقَّةِ الزهور التي تبيعها. قرع هاتفي المحمول قرعة واحدة، فقلت رسالة من واتسون. يلعن دين على أبي يلعن دين على أبي أبي يلعن دين، أعد الاتصال بالسكايب، يا هولمز! دكتور واتسون. جرعت كل كأس كونياكي، وسحبت نفسًا طويلاً من سيجاري، ثم أعدت الاتصال مبادرًا القول للوجه المجنون المتصدر للشاشة: ماذا فعلت لجهاز المخابرات الفرنسي، يا واتسون؟
- لا شيء، بماذا أحلف لك؟
- إذن فهي الحكاية المعروفة للأوغاد، لقطاع الطرق، بائعة زهور في شارع فوبورغ-سانت-هنوريه، من أجل الوصول إلى الذي يتربع على القمة في الإليزيه أو إلى أي شخص آخر، إلى أي خراء آخر، فما يدريني أنا، الابتزاز، يا دكتور واتسون، وأنت أعلم الناس بذلك.
- سوزان كانت تعرف أن الاختطاف سيتم، حتى أنها حددت ساعته، وأرتني على شاشة الحاسوب الكيفية التي تم فيها.
كان اللعب مع بلاتيني شيء أقرب إلى السحر، شيء أروع من الاختطاف، شيء أمتع من الابتزاز، كان اللعب مع بلاتيني شيئًا، كيف أصفه؟ بكل بساطة إلهيًا، كان الله يلعب معنا.
- هل تسمعني؟
- نعم، أسمعك.
- قلت لك لقد طَلَبَتْ مني العودة إلى لندن من أجل التحري السادس والعشرين والاتصال بك.
كان الله يلعب معنا، وكان الضياء، وكانت كل رسالة المسيح، وكان كل جمال مريم، مريم التي كنت أحتقرها من بين من أحتقر من النساء، مريم بكل جمالها وكل قدسيتها كانت تلعب معنا، بلاتيني كان الله، كان عيسى، كان مريم، وفي تلك اللحظة الاستثنائية مع عدم التصديق الكلي سجلت هدفًا ضد بلاتيني. غووووووووووووووووول!
- هل تسمعني، يا هولمز؟ هولمز، هل تسمعني؟
- نعم، نعم، أسمعك.
- قلت لك سأغادر باريس إلى لندن في قطار هذا المساء، وسنلتقي غدًا صباحًا في شارع بيكر.
سجلت هدفًا، فكان الصراخ من طرفي وكل الغبطة الدينية، وكان بلاتيني كله إشراقًا، كان سعيدًا لسعادتي. كان يراني أصرخ، وأنا أرتعش. كنت مُهَلَّلاً. كلي. كنت كلي مُهَلَّلاً. لم أكن أنا. كنت كلي. كنت مُهَلَّلاً كلي. كنت كلي المُهَلَّل في كل العالم.
- يا هولمز! يا هولمز، هل تسمعني؟
- سنلتقي غدًا لنتحدث، فقط لنتحدث. إياك أن تعتمد عليّ في أي شيء.



































































القسم الثاني

كانت كل صُفوق نوافذ الشقة في شارع بيكر مفتوحة وكل دِرَفِهَا، رأيتها من بعيد كالجسد في مشرحة، وكان القنديل القريب يتأرجح بهالاته على العامود المائل. ماد رأسي والعالم. تشبثت بالجدران، والحقيبة التي أحملها تكاد تسقط من يدي، إلى أن وصلت باب البناية. وأنا على الدرج، عاد لي تماسكي، فرحت أصعده بقدميْ شاب ثلاثًا ثلاثًا. لم يدخل المفتاح في القفل، كانوا قد حاولوا فتحه على طريقتهم دون أن ينجحوا، فاخترقوا الشقة من النوافذ. حاولت فتح الباب ثانية، وفي خيالي تعض اللبؤة على شبلها الصريع من رقبته، وتسحبه، وتسحبه، وخطٌ من الدم الثخين يبرق بريق الذهب على الرمل. انفتح الباب، وعجلت الدخول. تسحبه، تسحبه، والدم، والذهب، والبحر. كان كل شيء في مكانه. والدم، والذهب، والموت. قلت لنفسي كل شيء في مكانه. ولكن لا. كل الإضبارات في مكتبي اختفت. كان الحاسوب مشتعلاً، ودوائر فيه تدور إلى ما لا نهاية. كل ما لي من ملفات امحت. كل التحريات الخمسة والعشرين الماضية. كلها. والدم، والذهب، والتراجيديا. لست أدري لماذا فكرت في التراجيديا الإغريقية. والدم، والدم، والدم. وصرخات سوزان: بابااااااااااااااااااااااااااااا...
رفعت الهاتف أول ما قرع.
- الدكتور واتسون؟ أعتذر لإزعاجك، الكولونيل جيفرسون من السكوتلاند يارد.
- نعم، يا كولونيل جيفرسون.
- من الضروري أن ألتقيك غدًا بصفتي اللارسمية.
- بصفتك اللارسمية؟
- مقهى بيكاديللي سيركَس على الساعة العاشرة صباحًا.
كنت أفكر في ابنتي، في ملفاتي، لكن من عدم الحيطة الحديث عن هذا في الهاتف، ومع كولونيل كنت أعرفه، لكنه لم يكن من أصدقائي.
- دكتور واتسون، أنت معي؟
- أنا معك؟
- غدًا على الساعة العشرة في مقهى بيكاديللي سيركَس.
وأقفل. والدم، والدم، والدم. أخرجت زجاجة نبيذ من حقيبتي، فتحتها، وجرعت الدم من فوهتها، مرة، مرتين، ثلاث، وارتددت إلى الوراء. كدت أسقط، فجلست على أقرب مقعد. بعد قليل، قمت، وأغلقت النوافذ بصُفوقِهَا ودِرَفِها. تراميت على الكنبة، وذهبت مفكرًا. لماذا يريد الكولونيل جيفرسون أن يراني غدًا صباحًا؟ وبصفته اللارسمية؟ بالنسبة لي كان كل شيء واضحًا: المخابرات البريطانية هي التي من وراء اختطاف سوزان، والبرهان وصولهم إلى صميم بيتي ومصادرتهم لكل تحرياتي الخمسة والعشرين. كانت ابنتي تعرف هذا، لهذا طلبت مني الرجوع إلى لندن، للحيلولة دون مصادرة الملفات، ثم للحيلولة دون إلحاق الأذى بها. في الملفات كل الأسرار التي يفترضون وجودها، ويسعون إلى الوقوع عليها، أما إذا لم يجدوا فيها شيئًا، فسوزان في قبضتهم، عندئذ سيمارسون ابتزازهم، كما هو دأبهم.
أخذت من فوهة الزجاجة عدة جرعات كبيرة من النبيذ، وتراخيت. لم أعد أفكر في شيء. كنت كمن دخل الجحيم. التهمتني النيران. كنت أذوب في جوفها كقطعة معدن. دماغي. كان دماغي يذوب كقطعة معدن. كنت أنظر إلى دماغي، وهو يذوب كقطعة معدن. وأنا ساكن سكون الموتى الفاتحين عيونهم، كنت أنظر إلى دماغي، وهو يسيل كقطعة معدن. كنت أنظر، وفقط. كنت أنظر، وأنظر، وفقط. كنت أنظر، وأنظر، وأنظر، وفقط. كان دماغي يذوب في جوف اللهب المرعد كقطعة معدن. كان يذوب. كان دماغي يذوب كقطعة معدن. كان يذوب. كان يذوب، ويذوب. كان يذوب، ويذوب، ويذوب. دماغي. كان يذوب، ويذوب، ويذوب... ونمت نومًا عميقًا، وأنا أفتح عينيّ.
في صباح اليوم التالي، على تمام الساعة العاشرة، أول ما وضعت قدمي في مقهى بيكاديللي سيركَس، إذا بالكولونيل جيفرسون يشير إليّ بالاقتراب. كان في ثيابه المدنية، وكانت ابتسامته العريضة تحت شاربيه الأنيقين تذكرني بابتسامة زميلته تلك التي ضاجعتها في شبابي، ابتسامة من الجواهر السوداء الصافية.
- طلبتُ لنا قهوة دوبل، يا دكتور واتسون، قال لي الكولونيل جيفرسون، وهو يسلم عليّ.
وما أن جلست حتى أحضرت فتاة سوداء بعينين خضراوين الطلب، وهي تبتسم لنا. عينان خضراوان أشبه بعيني النساء الثلاث اللواتي أحببتهن بصدق. رمت ورقة الحساب التي تلقفها رجل المخابرات بمهارة، ودخل في الموضوع مباشرة.
- رئيس الوزراء كادرون هو بنفسه من كلفني الاتصال بك، يريد أن يعرف إذا كان لديك من البراهين ما يدين كلير وخليفته كراون في تفجيرات لندن كنتَ قد خبأتَها لخوف أو لتقدير منك أنها تمس الأمن الوطني. ما يرمي إليه كادرون الانتخابات القادمة، مع تفاقم الأزمة المالية، وعدم وجود حل سحري لها، يريد أن يرفس حزب العمال في قفاه، قيادة سابقة ولاحقة، يريد أن يوسعهم شتمًا وإهانة، فيضمن بذلك عودته إلى الحكم رغم كل الخراء الذي نغرق فيه حتى شوشتنا، وهو يقول لك قل كل ما عندك جهارًا، ولا تخش شيئًا، هو وكل المحافظين سيكونون إلى جانبك بكل ما أوتوا من قوة وعزم.
ولا كلمة عن ابنتي، ولا كلمة عن ملفاتي، ولا كلمة عن قفاي. صحت بأعلى صوت:
- ولكنك تسخر ممن، يا ابن ال...
وسكت، وأنا أتلفت من حولي، فرؤوس كل من في المقهى استدارت باتجاهي. خفضت صوتي، وانحنيت على الطاولة بوجهي أقرب ما يكون من وجهه.
- أمس رجالك اختطفوا ابنتي سوزان في باريس، وقبل الاختطاف أو بعده، لست أدري متى، فأنا أقيم في فرنسا، اخترقوا شقتي شارع بيكر من النوافذ، وصادروا كل ملفاتي، والآن تجيء لتقول لي رئيس الوزراء كادرون هو بنفسه من كلفك. أين ابنتي، يا كولونيل جيفرسون؟ وماذا في نيتكم أن تفعلوا إذا لم تجدوا في ملفاتي ما تبحثون عنه؟
ولا كلمة واحدة، أخرج هاتفه المحمول من جيبه، وركّب رقمًا، وأول كلام لمحدثه كان:
- نيك أمك، كادرون! ماذا تفبركون أنت وخلية أمنك في 10 داون ستريت من وراء قفاي؟
- كولونيل جيفرسون كن حليمًا ولا تغضب مني، سارع رئيس الوزراء إلى القول، قل للدكتور واتسون الملفات كلها سأعيدها إلى مكانها في الحال إذا استعد للتعاون معي.
- كل هذا جميل، وسوزان، ابنة الدكتور واتسون، لماذا اختطفها رجالك؟
- ماذا؟
تفجر صوت رئيس الوزراء من السماعة، فثقب لي أذنيّ.
- سوزان، ابنة الدكتور واتسون، اختطفها رجالي! أرجوك أيها الكولونيل جيفرسون ألا تمازحني على مثل هذه الطريقة الوقحة، لا تنس أنني الرجل الأول قبل جلالة الملكة، وباستطاعتي لاتهامٍ كهذا أن أرميك في الحبس، كولونيل أم غير كولونيل، سكوتلاند يارد أم غير سكوتلاند يارد، قفاي أم غير قفاي، في الحبس، هل كنت واضحًا معك، أيها الكولونيل جيفرسون؟
وطرق السماعة في وجهه.

* * *

في بنطلوني الجينز وتيشيرتي وباسكيتي وكاسكيتي، وأنا تحت نوافذ 221ب شارع بيكر، الساعة العاشرة إلا دقيقة، قرع هاتفي المحمول قرعة واحدة، فقلت إنها رسالة من الدكتور واتسون. تحية، يا هولمز. لدي موعد على العاشرة مع الكولونيل جيفرسون من سكوتلاند يارد، تعرفه، لقاء غير رسمي، كما قال، إذن لن يطول، انتظرني في أحد مقاهي الحي ورسالة لاحقة مني. دكتور واتسون. وضعت السماعة في أذني كي أستمع إلى بعض المعزوفات الباروكية على الكمان. أمس مساء لم أتناول طعام العشاء لقرفي من المعلبات واللحوم المبردة، وهذا الصباح لم آخذ سوى فنجان شاي مع قطعة فلابجاك تجاوزت التاريخ المحدد. كان في شارع بيكر القليل من المقاهي، أما كويك فهو يقع في الوجه المقابل لشقة الدكتور واتسون. قلت ألتهم واحد همبرغر بسرعة مع فنجان قهوة، وأراقب وصول صديقي، وأنا أستمع إلى الموسيقى الأحب إلى قلبي. النحلات تبكي مع قلبي، لأنه لم يحب بعد، هل الحب مصنوع من العسل أم من مر القبلات؟ أنهيت هامبرغري عن بكرة أبيه دون أن يروقني طعمه، وأخذت باحتساء قهوتي الباردة، قهوة كالبول، مع سيجارة شقراء أشعلتها، ونفختها في سماوات الكمان. وقعت عيناي بالصدفة على مانشيت جريدة بيد أحدهم يجلس غير بعيد من طاولتي: الربيع العربي يصل إلى بلاد إسبرنسا. وفي الحال، فكرت في النفس الكلية، ليس كما كان يفهمها الفلاسفة، كما كان يدعو الكيماويون القدامى النار المركزية في الأرض، وقلت هذه أجمل صورة عن ثورات البشر، النفس الكلية، فكل شيء كان قبل أن يكون، إنه مبدأ الحياة. إذا بالرجل يطوي جريدته، ويجيء ليجلس أمامي، فرفعت السماعة، وأوقفت الموسيقى.
- أعتذر عن هذا الاقتحام غير المناسب، يا سيد هولمز، قال الرجل.
- تقصد غير المهذب، قلت.
- لست أدري إذا كان مهذبًا أم غير مهذب، فهذا يتوقف.
- على ماذا؟
- على ما سأقوله لك.
- منذ متى وأنت تترصد خطواتي؟
- منذ وصولك إلى المحطة.
- وكيف عرفت؟
- الهاتف المحمول لصديقك الدكتور واتسون تحت التنصت.
- ماذا لديك؟ لِد!
- سوزان واتسون ماتت تحت التعذيب.
- هل هذا مزاح؟ لا تقل لي إن هذا ليس مزاحًا.
- لا فائدة من البحث عنها، قل لأبيها لم تعد هناك أية فائدة.
ونهض.
- لم تقل لي من أنت.
- رئيس الملائكة جبرائيل.
وتركني.
- هيه!
التفت.
- وما يدريني أنا، ربما كانت سوزان تلعب البوكر مع مأموري غريمك رئيس الشياطين.
- انتظر رسالة مني على هاتفك الم...
- حتى أنا هاتفي المحمول تحت التنصت؟
- سأحدد لك ولأبيها أين يمكنكما أن ترياها.
وابتلعه شارع بيكر.

* * *

سبب الخبر للدكتور واتسون صدمة نفسية، خلته في عرض المحيط، سنارته بين أسنان أبي منقار، طويل طويل، أطول من عشرة أمتار، وأبو منقار يسحبه ضد الأمواج. يسحبه. أبو منقار يسحبه. بأقصى سرعة يسحبه، والدكتور واتسون يربط السنارة حول صدره من تحت إبطيه، وأبو منقار يسحبه. يسحبه، يسحبه. أبو منقار بأقصى سرعة يسحبه، والأمواج ترتفع أكثر من عشرة أمتار، وأبو منقار يسحبه. يسحبه، يسحبه، يسحبه. قام إلى زجاجة نبيذه، وعب منها. نبيذ فرنسي، قال لي. بوردو. عب منها جرعات كبيرة. كنت لا أحب النبيذ الفرنسي، وأقل البوردو. سكوتش. قلت سكوتش. أشار بيده إلى لامكان، فقمت، وأحضرت كأسًا وزجاجة لم تُفتح بعد. شيفاز ريغال. وأنا أرشف جرعتي الأولى سمعت واتسون يبكي. سمعته ينادي. لم يكن ينادي سوزان. كان ينادي بصوت خفيض جدًا. لكنه كان لا ينادي سوزان. كان ينادي مارغريت. زوجته. مارغريت... ثم أخذ يسب، ويلعن. أخذ يسب مارغريت، ويلعنها. يا ابنة المومس، كان يقول. كان يسبها، ويلعنها. مارغريت، يا ابنة المومس، كان يقول من جديد. خلته، وقد غدا هو الساحب لأبي منقار. كان يعوم أفضل من السمك، وأسرع. كان هو من يسحب أبا منقار، والسنارة دومًا ملفوفة حول صدره من تحت إبطيه. كان يسحب أبا منقار، وأبو منقار يتبع من ورائه، أبو منقار بطول عشرة أمتار، كان يسحبه، ويضرب الأمواج بيديه، ويشق الأمواج العالية. يشق، ويضرب، ويسحب، ويسحب، وأبو منقار مشدود إلى السنارة، يتبع، ولا يفوه بكلمة. وفي الأخير، صرخ الدكتور واتسون من أعمق نقطة في كيانه: سوزااااااااااااااااااااااان!
فجأة، اعتدل، مسح دمعه، وقال لي بهدوء كما هو دأبه عندما تتعقد الأمور، وتصل الذروة في تعقدها:
- كادرون يقول ليس هو، وجيفرسون يقول ليس هو، إذن من يكون؟
- هل يكون رئيس الملائكة جبرائيل؟
- ومن هو هذا الرجل، رئيس-الملائكة-جبرائيل كما تقول؟ كيف يمكنه أن يكون متأكدًا من موت سوزان إلى هذه الدرجة؟ ولماذا يريدنا ألا نبحث عنها؟ ما الذي يخفيه ولا يريدنا أن نعرفه؟
- الدرب الثالث، هذا شيء محير.
- ربما الثاني، أعني الأول، درب المخابرات البريطانية.
- الكولونيل جيفرسون كان قاطعًا، أليس كذلك؟
- السكوتلاند يارد ليس فقط جيفرسون، يا هولمز، هل تدرك جيدًا معنى هذا الكلام؟
- أدرك، يا عزيزي واتسون، أدرك، لماذا لا أدرك؟
- لم تزل روحك ذكية، يا هولمز، على الرغم من مرور السنين.
- للمنطق روح لا تشيخ، يا عزيزي واتسون.
- حقًا، للمنطق روح لا تشيخ، لقد قتل المنطق ابنتي، يا عزيزي شيرلوك.
وعاد ينوح، فأنهيت كأسي الأولى، ورفعت زجاجة الويسكي، وأنا أقول سأذهب للنوم، وغدًا نكمل إلصاق عناصر الموضوع. دخلت الحجرة التي كنت من العادة أنام فيها لما أحل ضيفًا على الواتسون، وأقفلت عليّ الباب بالمفتاح لست أدري لماذا. بل كنت أدري، كنت أريد أن أهرب من واتسون، منه، من أنفاسه القانطة. كنت أريد ألا أراه إلا وهو يلطم الموج بذراعيه الشابتين الصلبتين، ويسحب أبا منقار المشبوك من الفم بسنارته. بطول عشرة أمتار. يضرب الموج، ويضرب، ويضرب، ويسحب، ويسحب، ويسحب، دون أن يصيب قلبه التعب. يتعب منه البحر، ويخضع له السمك، وهو لا يتعب. يشق بذراعيه الموج، ويضرب، ويضرب، ويضرب، ويسحب، ويسحب، ويسحب، وأبو منقار يتبع، ويتبع، ويتبع، بطول عشرة أمتار، ويتبع، ويتبع، ويتبع، كاللعبة، كاللعبة الافتراضية يتبع، ويتبع، ويتبع.
أنهيت كأسي الثانية في نفس اللحظة التي دقني فيها ألم في مثانتي كاد يصرعني، أطلقت صرخة لم أستطع منعها، وذهبت أركض إلى التواليت. كان الدكتور واتسون نصف ثمل، فنهض مع عبوري كالسهم، وبذل عدة خطوات من ورائي. تركني أدخل التواليت، وانتظر، فإذا بي أطلق صرخة ثانية مدوية. طرق عليّ باب التواليت، وسألني إذا ما كان كل شيء على ما يرام، ولما لم أجب، دخل ليراني ملقى على الأرض.
- بروستاتي لم تحسن التوقيت هذه المرة، همهمت.
ساعَدَنِي على القيام، وشرح لي:
- من هم في مثل عمرنا لا مناص، البروستات تغدو العدو الأول. سبق وقلت لك أن تقطعها أو أن تحكّها إن لم تكن مصابة.
- إن لم تكن مصابة؟
- إن لم تكن مصابة.
- إن لم تكن مصابة بماذا؟
- بالسرطان.
- وما يدريني؟
- إذا داومت الآلام على الاحتفال وكل يوم لها عيد ميلادك يجب اقتطاع جزء منها لتحليله مجهريًا.
- وهل هذا وقته الآن، يا جون؟
ابتسم الدكتور واتسون رغم أطنان الحزن التي تطحن قسماته، ولم يتردد عن شدي بين ذراعيه.
- سيكون تحرينا السادس والعشرون، يا شيرلوك، أليس كذلك؟
هززت رأسي، وأنا أقول:
- كلما بدت المسألة أكثر تعقيدًا كلما غدت أكثر إثارة.
وفي الوقت نفسه دقني الألم دقًا. لما غادرتني النوبة، سمعته يقول:
- في الماضي كان حلاق القصر هو من يعالج الملوك الذين كانوا في مثل حالتك، ولم يكونوا بحاجة إلى طبيب مثلي.
- حلاق القصر.
- تعال يا هولمز، سأدلّك لك بروستاتك، وغدًا سيكون كل شيء على ما يرام.
دفعني من أمامه إلى السرير، ومددني، وهو يرسم ابتسامة على شفتيه، ابتسامة أشبه بابتسامة أمي.

* * *

في الصباح الباكر، قرع ساعي البريد الباب، وسلم الدكتور واتسون صندوقًا يحوي كل ملفاته، وكذلك رسالة مسجلة وجد فيها سي دي عليه كل ما تم حذفه من حاسوبه مع كلمة اعتذار من كادرون. لأنهم لم يجدوا فيها ما يريدون، همهم صديقي العجوز. هل حقًا هذا هو السبب؟ لأنهم لم يجدوا فيها ما يريدون؟ لا بد أنهم صوروها كلها. لأنهم يسعون إلى نفض يدهم من مصرع سوزان. سوزان تم التضحية بها مقابل وهم: تواطؤ كلير وكراون مع الإرهاب. بمعنى دون مقابل. إذا بتلفوني المحمول يقرع قرعة واحدة، إنه رئيس الملائكة جبرائيل قلت لنفسي، وكان بالفعل هو: موعدنا خلال ساعة رصيف التيمز تحت قنطرة بغ بن. حذار من اللعب بالنار. رئيس الملائكة جبرائيل.
- ارتد ثيابك، يا دكتور واتسن.
- هل هو رجلنا؟
- هو رجلنا، وهو ينتظرنا خلال ساعة.
- هل أحلق ذقني، يا هولمز؟
- ليس لدينا وقت لحلق ذقننا.
- إذن عن إذنك.
أقفل عليه باب حجرته، فذهبت لأضع ثياب البارحة، ثياب لا توافق المناسبة. ترددت. ربما أعارني الدكتور واتسون ما أرتديه غير جينزي الأزرق وتيشيرتي الأحمر. وفي خاتمة الحساب، ارتديت ثياب البارحة. خرجنا نحن الاثنان من حجرتينا في وقت واحد، أنا كقبضايات فاينسبري بارك، وهو في بدلة سوداء، وربطة عنق سوداء، ونظارة سوداء، كرجل التحري المبتدئ الذي يظن أنه يختفي تحت زيه المضحك بينما كل شيء فيه يكشف عن شخصيته. انتظر صديقي العجوز أن أقول شيئًا. اقتربت منه، وفككت ربطة عنقه، وبهدوء سحبت نظارته.
- هكذا أفضل، همهمت.
وضعت النظارة على عينيّ، وغادرنا المكان.

* * *

أخذنا سيارة الدكتور واتسون الدودج القديمة، لم يشأ أن نذهب في تاكسي، كان يعتقد أننا سنعيد جثمان سوزان معنا إلى البيت. لم تكن حركة السير في لندن صعبة كعادتها في كل صباح، فابتسم الأب الحزين. كان لديه انطباع أن كل لندن ذاهبة معنا لاستقبال ابنته الميتة. مضى بقصر بكنغهام، رغم أنه ليس على طريقنا، هكذا، مضى بالقصر، ونظر إلى نوافذه، وإلى حرسه الفلكلوري. أحنى رأسه، بإجلال، وعاد يبتسم من جديد. كان يفكر أن الملكة هناك في مكان ما، ربما معلقة بين الأرض والسماء، كملاك من ملائكة جبرائيل، من أجل سوزان... إلى أن وصلنا قنطرة بغ بن. أوقف السيارة العتيقة الضخمة في مكان ممنوع على رصيف القنطرة، ونزلنا درجها الضيق بسرعة، لنجد نفسنا وحدنا قرب بعض القوارب الراسية. تبادلنا نظرة تساؤل، ونظرنا إلى قوارب كان الموت يخيم عليها كلها، ففي أي المراكب كانت سوزان؟ وهل هي حقًا في أحدها؟ رفعنا وجهينا العابسين إلى القنطرة، وبان طرف من ساعة بغ بن. العقرب الكبير. نصف العقرب الكبير، وقد تجاوز العاشرة بقليل. نصف العقرب الكبير. ظننا أنه لا يتحرك، فاشتد قلقنا. قلقنا نحن الاثنان. قلقنا. قلقنا على سوزان من ألا تكون ميتة، وأن تكون هي من ستأتي للقائنا. قلق واحد لنا نحن الاثنان. بتنا نشبه بعضنا إلى حد كبير وكأننا توأمين. هذان العجوزان يلعن دين على أبي يلعن دين على أبي أبي يلعن دين لهما قلق المراهق عند أول موعد مع حبيبته. فهل ستكون سوزان؟ سوزان الميتة، هل تكون هي؟ تأتينا، وتقبلنا نحن الاثنين من شفتينا، وتقول لي بابا كما تقول لأبيها، ثم نصعد بها إلى الدودج، الدودج العتيقة الضخمة المصفوفة في مكان ممنوع على قنطرة بغ بن، المركونة على الرصيف، نضعها على ركبتينا، نحن الاثنان، وتقول لي بابا كما تقول لأبيها، ثم تقبلنا، سوزان القتيلة، تقبلنا من شفتينا، تقبلنا، تقبلنا من شفتينا. سوزان الصريعة.
فُتح باب أقرب المراكب منا، مركب ذو طابقين، وبان رئيس الملائكة جبرائيل. أشار إلينا بالصعود، فتردد الدكتور واتسون، رأيته يتقدم خطوة، ويتأخر خطوة. أمسكته من ذراعه، وسرت به. كانت العبارة تتحرك تحت أقدامنا تحركًا طفيفًا، والمركب يميل يمنة ويسرة ميلاً يسيرًا. ونحن فوق نظر واتسون إلى الماء نظرة خائفة، وعجل الدخول من وراء الرجل، وأنا من وراء صديقي القديم، وإذا بنا أمام جثة سوزان الممددة على حجر ضخم، ومن حولها ثلاثة من ضخام الأجسام، يرتدون بدلات سوداء وربطات عنق سوداء، ويضعون على أعينهم نظارات سوداء. توقعت أن ينهار، الدكتور واتسون، لكنه كان رابط الجأش، دار من حول ابنته، وأنا أخلع النظارة السوداء، وأنظر إلى حيث ينظر دون أن يفوه بكلمة. أعياه سحب أبا منقار، بينما جاء سرب من أسماك القرش، وبدأ يمزق اللحم اللذيذ، فتحول البحر إلى بركة من الدم لا أبعاد لها، بركة من الدم تتراخى حتى أبواب جهنم، والدكتور واتسون يترك جسده طافيًا على سطحها. أرخى جسده، وأرخى روحه، وأرخى أذنيه، وأخذ يستمع إلى تمزيق أسماك القرش للحم أبي منقار، تمزيقها، تمزيقها، تمزيقها، ومضغها، راح يستمع إلى تقطيع أسماك القرش للحم اللذيذ، وهو شبه غائب عن الوعي، بين الحقيقة والحلم. رُفعت المرساة، في الوقت الذي بدأ فيه الضخام الثلاثة يربطون سوزان بالحجر الضخم، فجلس الدكتور واتسون، وهمهم: أشعر بالدوار. مخرنا ثلاثة أرباع الساعة، ثم توقف القارب في عرض التيمز. جذب رئيس الملائكة جبرائيل قضيبًا، فزلق الحجر بسوزان من فوهة إلى سطح النهر، وغاص. جذب رئيس الملائكة جبرائيل القضيب من جديد، ودار المركب بنا عائدًا إلى النقطة التي انطلقنا منها.

* * *

حيانا الكولونيل جيفرسون، ونحن ندخل مكتبه:
- ها أنتما تعودان إلى المهنة، أيتها العصوان العجوزان!
- جيفرسون، بدأ الدكتور واتسون القول، إذا لم تكونوا أنتم قتلة ابنتي، جدوا لي أولاد المومس هؤلاء، وإلا...
- وإلا ماذا؟
- كولونيل جيفرسون، أخذتُ الكلام، لن نعطيكم صك البراءة طالما بقي القاتل حرًا، وإلا...
- وإلا ماذا؟
- لماذا تتم تصفية ابنتي، وأنا لا شيء ملموس لدي لإدانة كلير وكراون؟
- ولماذا تُقتل الآنسة واتسون في وضح النهار وقاتلها يصول ويجول كما يشاء في لندن؟
غمغم الكولونيل جيفرسون بيأس:
- يا سادة، يا سادة...
- لا يا سادة ولا من يحزنون، أجب.
- نعم، أجب.
صاح وهو يضرب بكفه على مكتبه:
- رجاء، يا سادة.
وبعد قليل:
- فتشَ رجال الضفادع المكان الذي ألقيت فيه جثة سوزان المفترضة...
- المفترضة! قلنا نحن الاثنان باستغراب.
- المفترضة، نعم، المفترضة (بحدة) لأنهم لم يجدوا لها أي أثر.
- أي أثر! قلنا نحن الاثنان باستغراب.
- لا تعتبراني مغفلاً.
- مغفل! قلنا نحن الاثنان باستغراب.
- حسنًا! سأقوم بالتحري من جهتي، وسأخبركما بما سأحصل عليه من نتائج، هذا إذا ما حصلت على شيء. انصرفا.
ونحن قرب الباب:
- إياكما النبش من جهتكما كما كنتما تفعلان في الماضي، حذَّرَنَا الكولونيل، اليوم كل شيء تبدل، أقل خَرَقٍ سيعطل عليّ كل ما أنوي القيام به.
ونحن في الممر الطويل من مبنى السكوتلاند يارد، لمحت أحدهم يخرج من مكتب، ويدخل في آخر: رئيس الملائكة جبرائيل. طلبت من الدكتور واتسون أن ينتظرني في الدودج، وذهبت إلى حيث دخل هذا الشخص الغريب.
أول ما رآني أمامه، بادرني بقول:
- من الطبيعي أن يخفوا الجثة، ويواصلوا التظاهر بأن لا يد لهم في الأمر، وأنا ما كان قصدي سوى مساعدتكم.
- وماذا لو أقول إنه أنت.
- لن يصدقك أحد.
- حتى مع دليل بشهادة شهود؟
- الدكتور واتسون؟
- حتى مع دليل بشهادة الدكتور واتسون؟
- لن يجرؤ الدكتور واتسون على الشهادة على أي شيء.
- سيجرؤ.
- إذن سيكون له نفس المصير الذي كان لابنته.
أعطيته ظهري، وأنا كلي حيرة. ويدي على قبضة الباب، سمعته يقول:
- لم يكن قصدي سوى تقديم خدمة للدكتور واتسون ولك.

* * *

بعد ثلاثة أيام، قرع تلفوني المحمول قرعة واحدة، فسارعت أقرأ: موعدنا نحن الثلاثة خلال ساعة في ساحة الطرف الأغر. كولونيل جيفرسون. قلت للدكتور واتسون من عدم الحيطة أن نذهب بالدودج، فأخذنا تاكسي. كان الكولونيل جيفرسون قد ألصق لحية حمراء على وجهه، فلم نعرفه إلا بعد أن دس قُصاصة في جيبي، وغادر دون أن يلتفت. قرأت: إسبرنسا. وإذا بنفير سيارة تخترق ساحة الطرف الأغر، وصياح فتيات يقلدن صياح الهنود الحمر، وهن يخرجن بصدورهن العارية من نوافذها. كتبن على نهودهن "إسبرنسا"، ولوحن بعلم هذا البلد، وهن يبتسمن للمارة. أخذ بائع ساندويتشات السجق الساخن يصفق لهن، ويصيح كصياحهن. "هوت دغ إسبرنسا". تقدمنا من كشكه قرب عامود نلسون، وفي الوقت نفسه امتلأت الساحة الشهيرة بالمتظاهرين الهاتفين بشعارات ضد الحكومة. كانوا من الطلبة الغاضبين لارتفاع رسومهم، ومن بين اللافتات التي كانوا يرفعونها: يحيا ربيع إسبرنسا. أخذ بائع السجق يصورهم، وهو يقهقه. التفت إلينا، أنا والدكتور واتسون، وقال لنا: انتظر التاريخ طويلاً لتكونوا معه عادلين. وإذا بالقنابل المسيلة للدموع تتفجر هناك ليس بعيدًا، وكوكبة من الجنود الخيالة تنبثق بحوافرها من خلف الأسود الأربعة، لتفريق المتظاهرين، وتحطيم الأكشاك، ولعنفها كانت الخيول تقفز في ماء النافورتين. لم يكن نلسون ينظر إليها، كان ينظر إلى بورتسماوث. ساعدنا بائع السجق على رفع أشيائه، فرأينا على الأرض كمية كبيرة من الصور لمتظاهري إسبرنسا سقطت من غلاف، من بينها صورة لسوزان، وهي تصرخ مع الصارخين، وتلوح بقبضتها مع الملوحين. في المساء نفسه، علمنا من الحاسوب اغتيال الكولونيل جيفرسون.

* * *

- لقد وضح الأمر، يا عزيزي العجوز، قال الدكتور واتسون، هناك صراع على صدر السكوتلاند يارد بين قوتين غاشمتين، أو لنقل بين قوة غاشمة جدًا وقوة أقل، فكل القوى غاشمة بشكل من الأشكال على صدر المخابرات البريطانية وكل المخابرات في العالم، بين قوتين تتصارع ما بينهما ذهبت ابنتي سوزان ضحيةً. كنا نعتقد أن اللغز كامن في آخر تحرٍ لنا قبل التقاعد، لغز ليس بلغز، فلنقل تكهنًا، ليتحول التكهن إلى مأساة شخصية. لا، يا هولمز، اللغز ليس في ملفاتي، اللغز في بلاد إسبرنسا.
- نعم، مع الأسف الشديد، قلتُ، اللغز كل اللغز هناك في العاصمة أور، عاصمة هي اليوم كالنار في مركز العالم. اسمح لي أن أقول لك، يا عزيزي العجوز، إن سوزان أخطأت في توريط نفسها مع السكوتلاند يارد.
- لقد أخفت عني هذا تمامًا، ولم تخبرني بشيء.
- الأوامر حتمًا.
- لكني لا أستطيع التصديق، ابنتي التي تجرحها الورود!
- كانت تتقن الإسبرنسية بطلاقة، أليس كذلك؟
- تتكلمها كأهلها بعد أن تعلمتها في أوكسفورد.
- لهذا السبب.
- ليس لهذا السبب فقط.
- وأيضًا؟
- ربما لأنها ابنة تحرٍّ قديم مثلي.
- يا ليت كان الأمر كما تقول.
- أعرف. الأمر أعقد من هذا، أعقد بكثير من هذا.
- ما العمل إذن وقد شاهدنا بأم عيننا جثتها؟
- ما العمل؟ ما العمل؟ ما العمل؟ ما يسمح لنا بمعرفة لِمَ قتلوها.
- سأحزم حقائبي حال عودتي إلى مانشستر، ثم سآخذ أول طائرة إلى أور. بشرط...
- كل ما تطلب، شيرلوك.
- أن تعتني ببناتي.
- ببناتك؟
- بنحلاتي.
ضحك الدكتور ياتسون:
- سأعتني بها وكأنها بناتي، حال مغادرتك سأذهب مع حاسوبي المحمول للإقامة قربها، هكذا سأنقطع عن العالم، وأبدأ بكتابة تحرّينا السادس والعشرين.
- نقطة هامة.
- ما هي؟
- تلفونانا مراقبان وحاسوبانا، هم يسمعوننا في هذه اللحظة.
- سيكون أول تحرٍ في العالم يُكتب على مرأى ومسامع البشرية جمعاء، سنكشف كل شيء على الشبكة العنكبوتية، عن طريق الفيسبوك والتويتر واللنكد والفليكر، سنجعل لنا من كل البشرية شريكًا وحاميًا.
































القسم الثالث

كانت العاصمة أور رأسًا على عقب، وأنا في قلب ثورتها، أقف كاللقلق على قدم واحدة، وأنظر من حولي حائرًا ببنطلوني الترغال وقميصي الهاواي وصندلي الأسترالي وكاسكيتي المقلوب، بعد أن تركت حقيبة ظهري الصغيرة في حجرة فندق صلاح الدين، باسم الشارع الذي يوجد فيه. كان الرصيف وسخًا، والجدران ملوثة بالشعارات، وبعض الخيمات البلاستيكية هنا وهناك. وهناك، هناك في البعيد، رجال أمن السلطة وأدواتها، أدوات الموت المدججين بالسلاح، يقفون هناك، دون أن يتحركوا، وكأنهم تماثيلٌ تتأمل. طريقتي كانت بسيطة: وجودي في إسبرنسا يعرفه الآن كل أعدائي، بدل أن أذهب إليهم، هم سيأتون إليّ. طريقة هولمزية يدركها الكل، وأنا لهذا قلت لنفسي واثقًا: سأتسكع قليلاً في أور القديمة، وسأرى. رأيت وجه أمي في كل الوجوه، فلم يرحني ذلك. الوجوه التي تمضي في الأزقة الرطبة، والوجوه التي تنظر من الدكاكين والطاقات إلى السائح الغريب الذي كنته. كل الوجوه وجه أمي. وكانت قسمات وجه أمي كلها مرتاحة، وهي، قسماتها على أي حال لم تكن أبدًا إلا مرتاحة، فأزعجني الأمر كثير الإزعاج. أينما نظرت وجه أمي غير العابس. لم تكن تعرف ما هو العبوس أمي. أينما التفتُّ، وجه أمي المبتسم. لا يترك ماما وحدها شيرلوك، يا شيرلوك. لا تترك شيرلوك وحده ماما، يا ماما. لا يترك ماما وحدها شيرلوك لئلا تضيع، يا شيرلوك. لا تترك شيرلوك وحده ماما لئلا يضيع، يا ماما. لا يترك ماما وحدها شيرلوك لئلا تضيع، لئلا تضيع، نعم شيرلوك؟ لئلا تضيع، يا شيرلوك. لا تترك شيرلوك وحده ماما لئلا يضيع، لئلا يضيع، نعم ماما؟ لئلا يضيع، يا ماما. لا يترك ماما وحدها شيرلوك لئلا تضيع، لئلا تضيع، لئلا تضيع، آه شيرلوك؟ لئلا تضيع، يا شيرلوك. لا تترك شيرلوك وحده ماما لئلا يضيع، لئلا يضيع، لئلا يضيع، نعم ماما؟ لئلا يضيع، يا ماما. فجأة إذا بدراجة نارية يسوقها رجل نحيف طويل يضع على عينيه نظارة سوداء ومن ورائه رجلان آخران نحيفان طويلان يضعان على عينيهما نظارة سوداء، ينقض عليّ بأقصى سرعة. ولولا شابين رفعاني على الرصيف لكان هلاكي أكيدًا. استدرت لأشكرهما، فرأيتهما يضعان إصبعًا على فمهما لئلا أقول شيئًا. أخرج أحدهما هاتفًا محمولاً من جيبه، وهو يداوم على الابتسام، وقدمه لي. أشار إلى هاتفي المحمول، فعرفت أن هذا بدله. أخرجته، وأعطيته إياه. وبالإشارات دومًا، أخبرني الشاب أنه سيتصل بي هو، التلفون الذي أعطاني إياه ليس مراقبًا. ابتسمت لهما بعد أن فهمت كل شيء، وغادرا المكان في الحال.
عدت أنظر إلى الوجوه، دون أن أقع على وجه أمي، كانت الوجوه وجوه أصحابها، وأنا لهذا كنت مبسوطًا، لأول مرة منذ وصولي أور كنت مبسوطًا، أجسّ التلفون الإسبرنسي، وأبتسم. نعم، ماما؟ لئلا يضيع، يا ماما. لئلا يضيع. لئلا يضيع. لئلا يضيع. لا تترك شيرلوك وحده ماما. وأنا أعود أدراجي، لاحظت من أحد الأزقة أحد الملثمين بكوفية يسعى في أثري. لم أكن خائفًا من الضياع، وفي جيبي الهاتف الجديد. كان هناك من يسهر على حياتي، لكني فضلت الحذر كما ترجوه مني أمي. لئلا يضيع. لئلا يضيع. لئلا يضيع. دخلت فندقي، ثم حجرتي، ومن ورائي أوصدت الباب بالمفتاح. ما أن ألقيت بنفسي على السرير إلا والهاتف يقرع. آلو؟ موعدنا في مزرعة أبو نادر، ضاحية أور، خلال ساعة. اسأل أي واحد يدلك على المكان، مزرعة أبو نادر. ثانكس مستر هولمز! وانقطع الخط. نعم، ماما؟ لئلا يضيع، يا ماما. لئلا يضيع. لئلا يضيع. لئلا يضيع. لا تترك شيرلوك وحده ماما. وإذا ما كان هذا كله تمثيلاً بتمثيل؟ الدراجة النارية، الشابان المنقذان، التلفون الجديد؟ لئلا يضيع. لئلا يضيع. لئلا يضيع. كان على أي حال دربًا من بين دروب. لا تترك شيرلوك وحده ماما. وكان عليّ أن أذهب أيًا كانت التكهنات، أيًا كانت المخاطر.
بالفعل، كان الكل يعرف مزرعة أبي نادر، أوصلني إليها تاكسي طلبه لي مستخدم الفندق. لئلا يضيع. لئلا يضيع. لئلا يضيع. كالأسطوانة. كالأسطوانة المخددة. جواهر كل هذا، يا دكتور واتسون. لكن الخيار لم يكن بيدي. لا تترك شيرلوك وحده ماما. لئلا يضيع. لئلا يضيع. لئلا يضيع. نعم، جواهر كل هذا. جواهر سوداء. والمزرعة كانت بعيدة. في ضواحي أور البعيدة. ومنعزلة. لئلا يضيع. لئلا يضيع. لئلا يضيع. عاودني طعم قبلة أمي على فمي، جواهر سوداء، فأحسست لأول مرة في حياتي بالعار. العار لما يغدو أركيولوجيا نريدُ طمسَ كل معالمها بأية وسيلة. تلفت من حولي، كانت المزرعة خالية من كل روح حي. تقدمت من سلسلتها الضخمة، ووقفت تحتها، وأنا أفحص حجارتها. حجارة نيولوتية. من العصر الحجري المصقول. وقفت طويلاً تحت السلسلة، بعد أن تأملت طويلاً حجارتها. ولا أحد يأتي. رفعت رأسي إلى قمة السلسلة حائرًا. لمست أحد حجارتها، وهززته، كان رخوًا موشكًا على السقوط وكل السلسلة معه. انتظرت طويلاً أكثر مما يجب، وفي النهاية قلت لنفسي ربما كان الموعد في كوخ المزرعة هناك ليس ببعيد. نظرت إلى قمة السلسلة للمرة الأخيرة، وأخذت الطريق إلى كوخ المزرعة. كانت في طريقي بئرٌ مفتوحة، فنظرت داخلها، وأنا أتدلى على التقريب بكل وسطي العلوي. لم يكن فيها ماء. تعلقت بالحبل، وكأني على وشك السقوط في قعر البئر. لا، لم يكن فيها ماء. بلى، كان فيها ماء. أحسست بظمأ شديد، فألقيت الدلو في البئر، وأنا على وشك الإلقاء بنفسي. رفعت الدلو، وشربت أعذب ماء في حياتي. ترددت عدة مرات، وأنا ألتفت إلى فوهة البئر، ثم عدت آخذ الطريق إلى الكوخ. لم يكن كوخًا، كان منجرة. كان كوخًا حولوه إلى منجرة. رأيت أسطوانة جبارة، وعادت الأسطوانة المخددة التي في رأسي إلى الدوران. لئلا يضيع. لئلا يضيع. لئلا يضيع. لا تترك شيرلوك وحده ماما. لست أدري ماذا لمست، فإذا بالأسطوانة الضخمة تنقض عليّ، كمومس من جهنم تنقض عليّ، تحشرني في الزاوية، تسحق كل تاريخي الماضي. خمسة وعشرون تحريًا. عشرات الجرائم التي حِلت دونها والأخرى التي ارتُكبت أو ارتَكبت دون إرادتي. تسحقها. كل تاريخي وتاريخ أبي وتاريخ جدي. تسحقها. كل هذه التواريخ تسحقها. والشفرة على وشك أن تحولني إلى عقرب من جهنم توقفت الأسطوانة.
هرع أحدهم نحوي لهفًا سائلاً إذا ما كنت بخير. قال إنه النجار. كان في الناحية الأخرى من المزرعة. لما سمع صوت الآلة المدمرة جاء يجري. وعاد يسأل:
- هل أنت بخير؟ سألني رجل.
- كدت أروح بشربة ماء، قلت.
- من حسن الحظ أنني سمعت، وأنني وصلت في الوقت المناسب.
ابتسمت، وقلت:
- كان لدي موعد هنا.
فأبدى الرجل دهشته:
- موعد هنا؟ ومع من؟
- لست أدري.
ضحك الرجل:
- موعد مع شخص لا تعرفه؟
- شيء كهذا.
- لم أر أحدًا يمر من هنا، من النادر أن يمر أحد من هنا، وأنت، يا للحظ أنني سمعت، وأنني وصلت في الوقت المناسب... كنت في الناحية الأخرى... لما سمعت... يا للحظ، يا للحظ!
- كيف أعود إلى أور؟
- لا باصات ولا تاكسيات تمر من هنا، وبسبب الأحداث، تقريبًا لا أحد. الناس لم تعد تخرج من بيوتها. إنها الثورة لو تعرف.
- أعرف.
كنا قد خرجنا من المنجرة.
- وما هو أقرب مكان أجد فيه فندقًا؟
- أقرب مكان؟ ولكنه بعيد. أقرب مكان على بعد عشرين كيلومترًا. وأنا لا مكان أنام فيه، أنام تحت السلسلة الحجرية، هل رأيت السلسلة الحجرية؟ أنام تحت السلسلة الحجرية.
- ليست لديك سيارة؟
- لا. بلى. لدي تراكتور.
- ستكريني إياه.
- إنه وراء المنجرة.
- هل يعمل على الأقل؟
كنا قد سرنا إلى ما وراء المنجرة.
- يعمل. لا يعمل.
- يعمل أو لا يعمل؟
- يعمل ولا يعمل.
كنا قد وصلنا التراكتور وصعدنا فيه.
- هذا الزر إذا لمسته سبب لك أتعابًا.
- أية أتعاب؟
- إنه تراكتور من العهد العثماني، يعني قديم وكهل.
- إذا كان ذلك يتوقف على القدم والكهولة فلا تخش عليّ شيئًا. عليّ إذن ألا ألمس هذا الزر.
وكدت ألامسه بإصبعي، فصاح:
- حذار، يا مستر.
- خذ.
أعطيته ربما أكثر من ثمن تلك الآلة القديمة الكهلة.
- وأي طريق آخذ إلى الفندق؟
- تلك.
أشار بإصبع مبتورة إلى منتصفها. شغّلت التراكتور، فقفز منه خارج التراكتور.
- إياك أن تلمس ما قلت لك.
- ستستعيد التراكتور من الفندق.
- هذا هو. سأستعيده. ذات يوم.
كان التراكتور يعمل أفضل مما توقعت، انتهبت عدة كيلومترات، وإذا بسيارة سوداء واقفة، يبدو أنها تعطلت، وثلاثة ظلال حولها. مع اقترابي منها، تبينت الرجال الثلاثة النحاف الطوال الذين حاولوا قتلي في أزقة أور، فقفلت عائدًا، بينما هم لما عرفوني، جاؤوا يجرون في أعقابي. تمكنوا من اللحاق بي، والقبض عليّ. جروني إلى مستودع حصيد غير بعيد، قيدوني، وأشعلوا النار، وذهبوا، وما هي سوى عدة دقائق حتى سمعت انفجارًا هائلاً. التراكتور. أنقذني من جاء من قليل القلة على سماع الانفجار، وجعلوني أعود إلى أور في سيارة الشرطة.

* * *

واتسون، أيها النذل، يا واتسون! كل العالم لا يعرفك، وأنت تعرفك، تعرف أنك نذل! على العالم أن يعرفك، ولكنك جبان، لا تجرؤ على قول الحقيقة للناس، عن طريق الفيسبوك، لآلاف الناس، بل لمئات آلافها. الحقيقة. نعم الحقيقة. لمئات آلاف الناس التي تعرفك ولا تعرف أنك نذل. سوزان فضلت الموت لأنك نذل. سوزاني، ابنتي، مدللتي، مدللتي التي أُحبها أكثر من كل الشخصيات التي أكرهها، أكثر من نفسي التي أكرهها. لهذا أنا نذل، أو بالأحرى هو واتسون، الدكتور واتسون، الطبيب النطاسي القديم في مستشفيات لندن الكبرى حيث تعالج الأميرات والأمراء. لا علاقة لذلك بالعلامات الحسية، العلامات التي يستطيع الطبيب أن يكتشفها بالحس وحده، الصفات النفسية الحسية الحركية للاضطرابات. سوزان أميرتي، مدللتي، كان عليّ واجب معالجتها، في أكبر مستشفيات لندن باريس نيويورك، أن أعالجها، أن أتعالج وإياها، أنا المريض بزغب ظهرها. نذل. واتسون. نذل. نذل. نذل. لهذا فَضَّلَت الموت على عناق بابا. فضلت مضاجعة الشيطان في الجحيم. هناك حيث الكل عرايا، من لهب وطمي معجونين. لهب وطمي. لهب ومني. يا للهول! لهب وشبق أزلي كشبق الآلهة. لهب ودمع. لهب. مادة الخلق الأولى. نذالة. نذالة وبراءة وحلم سرمدي بنهدين صغيرين مدورين قاتلين يحرقان على حلمتيهما كل معاصي الوجود. هذا هو الوعد الإلهي. هذه هي الجنة التي تحترق لتغدو جحيمًا آخر. هذا هو عالم الماوراء في حضنٍ تُختصر فيه كل القبلات كل الآثام. أينها، يا واتسون، هذه الآثام الشهية السرمدية السرسرية الساحقة انتشاءً بعد أن ماتت سوزان؟ أينها؟ أينها؟ أينها؟
جرعتُ النبيذ من فوهة زجاجتي، وذهبت أبحث في حاسوبي المحمول عن فتاة تشبه سوزان تقضي الليل معي، فالليل طويل إلى جانب نحلات هولمز، وهولمز ليس لديه شيء يقوله لي أقوله للعالم، شيء لا علاقة له بنذالتي حتى الساعة.
- آلو، نعم، في مانشستر. هل لديك سيارة أم آتي لآخذك؟
- لدي سيارة.
- أنت هي التي رأيتُ صورتها على إنترنت، شقراء وعيناك خضراوان؟
- نعم، يا سيدي، أنا هي.
- كم ستأخذ منك المسافة؟
- إذا كان كل شيء على ما يرام، ثلاثة أرباع الساعة على الأكثر.
- إلى اللقاء دون تأخير إذن.
حلقت بسرعة، وأفرغت زجاجة عطر شانيل "إيغويست" على ذقني وشعري وجسدي. ارتديت قميصي الحريري الأخضر، وسروالي المخملي البني، ولبست جواربي الحريرية الحمراء دون حذائي، وأقفلت الحاسوب المحمول والتلفون المحمول والنوافذ المعلّقة. كان السرير مرتبًا أحسن ترتيب، لكن رائحة الغرفة من سيجار هولمز أزعجتني. أفرغت زجاجة عطر شانيل "إيغويست" ثانية في كل مكان، حتى في المنفضة، حتى في الجوارير، حتى في المرحاض. عدت إلى الصالون، وأنا أنظر إلى ساعتي، وما هي سوى بضع دقائق حتى جاءني دق باليد على الباب. فتحت، فإذا بي تِجاه سوزان.
- سوزان!
- إذا أراد سيدي أن يناديني سوزان، فلا مانع لدي، قالت "الكول-غيرل"، وهي تبعدني عن طريقها.
خلعت جاكيتها، فإذا بها عارية الصدر.
- تريد أن نعمل هذا أين؟
- هلا ارتحت قليلاً؟
- ليس كثيرًا رجاء.
- بوردو.
- ليس خلال العمل.
- إذن عصير.
- عصير. من فضلك.
- برتقال، تفاح، كرانبري؟
- كرانبري.
جلستُ قربها على الكنبة، بعد أن أحضرت ما طلبت، وقدمت لها كأسًا:
- ها هو ذا كرانبريك، يا سوزان.
تناولت الكأس، ووضعتها جانبًا. وبأصابعها الملونة بألوان جهنم الزرقاء والحمراء والخضراء والسوداء ألوان بيكاسو وفان غوغ ويوحنا المعمدان وغوغان، فكت قميصي. ألقته جانبًا، وقبلتني من حلمتي تمامًا كما تفعل سوزان، فأخذ اللهب المتجمد في قمم هملايا يسيل كالحمم من براكين الجسد المجهولة، براكين تُكتشف كل مرة يكون فيها عناق للملعونين الذين كنت واحدًا منهم. كنت نذلاً، ولكني كنت ملعونًا أولاً وقبل كل شيء. ملعونًا، يا سوزان، يا ابنتي. نعم، ملعونًا كنت، يا حبيبتي. كان بابا نذلاً، ولكنه كان ملعونًا كملوك الإغريق. وكان بابا، عندما تقبلينه من حلمته، لا يراك كبابا وإنما كملك من ملوك الإغريق، كملك من ملوك الإغريق الملعونين، وكان بابا يراك لا كابنة وإنما كعشيقة من عشيقات عوليس. عشيقة كانت في يوم مضى تلعب دورًا في أسطورة نكتبها اليوم، دور هلاكها، على فراش حب ملعون. هكذا كنا أنا وأنت، يا بابا، يا طفلتي، يا مدللتي، يا سوزاني، هكذا كنا أنا وأنت، جزءًا من أسطورة نكتبها اليوم، أدوارًا، ملعونة حقًا، لكنها خالدة.
أرادت أن تخلع سروالي، فجذبتها من يدها:
- تعالي.
سحبتها إلى غرفة النوم، رميتها على السرير، واقتلعت كل ما كانت ترتدي. لم تكن ترتدي أشياء كثيرة، لكنني اقتلعت كل ما كانت ترتدي، بعنف، ككل غير جنتلمان، في لحظة من لحظات العمر المجنونة، غير المفسرة، شيء آخر غير لحظات التحري، غير المنسجمة، واقتلعت كل ما أرتدي، فجاءتني بثغرها كي تأخذني من جذري، لكني، قبضت عليها من كتفيها، وأمليت إملاء الأب على ابنته:
- أنقذيني مما أنا فيه، يا سوزان، خففي قليلاً من لعنة أبيك، خذيني بين ذراعيك هذه المرة إلى الجحيم على ألا أعود أبدًا...
- هيه، أنت توجعني! صاحت الكول-غيرل.
- أريد أن أخرج من أسطورتنا، همهمتُ. لم أعد أريد أن ألعب دورًا فيها. كل الأدوار أتركها لكِ كي تلعبيها مع غيري...
- هيه، ولكنك مجنون، يا هذا!
- خذي...
أخرجتُ مِحقنًا من جرار طاولة الليل، وأخذت أرميها بعشرات بمئات الجنيهات الإسترلينية.
- فقط اضربيه فيّ، لأني جبان. طوال عمري كنت جبانًا أداوي المرضى في أجسادهم ولا أداوي جسدي أو أداوي القتلة من مرض الجريمة في نفوسهم ولا أداوي نفسي. اضربيه فيّ... خلصيني مني، يا سوزان!
دفعتُ المِحقن في قبضة الفتاة، والفتاة ذاهلة غير مصدقة قَرِفَة من العالم.
- دعيني أخرج من أسطورتنا، دعيني أغادر حلقة الملعونين...
اقتربتُ بقبضتها من عضوي، كانت قد قررت إنقاذي، وهي لم تزل واقعة تحت هيمنة القرف من العالم وعدم التصديق والذهول. دَفَعَتِ المِحقن فيّ، وأنا أصرخ، وهي تواصل إفراغ الأداة جهنمية شيطانية إلى أن دمرتني تمامًا. ومرة أخرى طلقة أبي، وصرخة أمي، واللبؤة التي تعض ولدها الصريع من رقبته، وتسحبه، وتسحبه، بينما يترك الدم بقعًا كبيرة على الرمل. أمام انفجار الدم، ألقت الفتاة بالمِحقن بعيدًا، وهي تطلق صرخة، صرخة واحدة. صرخة واحدة فقط. جمعت ما جمعت من مطر النقود، وهرعت نحو الباب، بعد أن أخذت ثيابها، دون أن تعيد ارتداءها، ثم غادرت الجحيم عارية.

* * *

وسيارة الشرطة تشق شوارع أور الجانبية بأقصى سرعة تقدر عليها، كانت تصلني هتافات هائلة من الشوارع الرئيسية، على الرغم من سقوط الليل، تطالب كلها بإسقاط سلطة أور، ورأيت جماهيرَ بعضٍ منها، ورجال أمن السلطة وأدواتها أدوات الموت المدججين بالسلاح يحيطون بها دون أن يتدخلوا. على باب مركز الشرطة، لمحت الرجل الملثم بالكوفية، ذلك الذي كان يسعى من ورائي في أزقة أور. حاول إخفاء نفسه عني، فأهملته، ولم أبد اهتمامي به.
وهم يدخلونني مكتب ضابط المركز، رأيت في الممر أربعة رجال بلحى سوداء طويلة، وهم يحملون صندوقين ضخمين بينما يقودهم شخص هو أيضًا بلحية، لحية أشد سوادًا من لحى الآخرين وأكثر طولاً، كان يتلفت حواليه كالصقر، وعيناه تقدحان بالشرر. نهض ضابط المركز على عكس ما ظننت هاشًا باشًا ليحتفي بي:
- خذ مكانًا، يا سيد هولمز. سيجار، يا سيد هولمز؟
- بكل سرور.
أشعله لي، وهو يقول:
- حضورك شرّفَ أور، لكنه يحصل في لحظة حرجة من لحظات البلد، كما ترى.
- كما أرى جيدًا جدًا.
سحب جرار مكتبه، وأخرج تلفوني القديم.
- تفضل، يا سيد هولمز. إنها عصابات تتصارع فيما بينها. الحمد لله على سلامتك.
- عصابات؟
- عصابات تتصارع فيما بينها، كما قلت لك، يا سيد هولمز، وهي تتربص بكل غريب. جرى الأمر نفسه مع ابنة صديقك الآنسة سوزان واتسون، فقدمنا لها كل عون طوال مدة إقامتها، إلى أن غادرتنا بمحض إرادتها إلى عمان. كان ذلك بالطبع قبل مصرعها، كان ذلك مع بداية الأحداث المأسوفة التي تجري في أور وكل بلاد إسبرنسا.
- عند من غادرت الآنسة واتسون أور إلى عمان؟
- الله أعلم... ثم ما الفائدة بعد أن قُضي الأمر، وانتهى كل شيء؟
- أن أعرف لماذا قُتلت؟ ومن قَتلها؟
- الله أعلم!
ونهض.
- ليس لدي أي مبرر لاحتجازك.
- لاحتجازي؟
- أقصد باستطاعتك العودة إلى فندقك بكل حرية وأمان، ولكن حذار من الوقوع بأيدي عصابات أور المنتشرة كثيرًا هذه الأيام.
- شكرًا للسيجار.
- لا شكر على واجب.
قرب الباب، سأل من وراء ظهري:
- ومتى ستكون مغادرتك إن شاء الله؟
- ربما غدًا ربما بعد غد.
- بالتوفيق، يا سيد هولمز، بالتوفيق.
وغمز اثنين من رجاله لمتابعتي. بالطبع لم أره، وهو يغمز رجاله لمتابعتي، وإنما هذا أمر مفروغ منه في عالم أونطة بوليسي كعالم أور، وخاصة إذا ما كان البوليس ضالعًا، وفي ظرف حساس كظرف المدينة.
وأنا أغذ السير بين بعض المحتجين المتفرقين هنا وهناك في شارع صلاح الدين، إذا بالشابين اللذين أخذا هاتفي وأعطياني آخر يغذان السير بدورهما من ورائي.
- والله لسنا نحن، شيرلوك! قال أحدهما. أولاد الكلب رأونا، وبما أنهم يضعون هاتف فندقك تحت التنصت، سهل عليهم التقاط رقم الهاتف الذي أعطيناك إياه، وتم ما تم.
أضاف الآخر:
- هل تعتقد، شيرلوك، أن الأمور لم تزل كما هي على أيامك؟ لا سر للتحري اليوم، كل شيء مكشوف للتكنولوجيا، وأنا متأكد أنهم يسمعون حديثنا الآن في هذه اللحظة.
- قولا لي أولاً كيف عرفتماني.
- وهل يخفى القمر؟ لا، بجد. لدينا شبكة اجتماعية على مستوى عالمي، شيرلوك. رفاقنا يعملون جيدًا على الأرض، معلوماتهم تفوق أحيانًا في دقتها معلومات السلطة.
- طيب، والآن أفرغا كل ما في جيوبكما.
- سوزان واتسون هي من فجر الانتفاضة، قال الأول، جاءت مع إسبرنسيين من عمان، وفجرت الثورة، كان لديها المال والأفكار والكاريزم، فأثرت في الشباب، وكل الشباب القادم معها من عمان قام بمهمات الاتصال على أكمل وجه. عندما انتهى عملها، غادرتنا مع صحبها، هذا كل ما هنالك. علينا نحن أن نواصل المشوار حتى إسقاط السلطة وتأسيس نظام بالفعل حر وديمقراطي وشرعي. سلطة شراميط فاسدين هم هنا منذ 65. أكبر دكتاتورية في التاريخ. هم هنا على أدمغتنا، في أدمغتنا، قسمٌ منهم الله الله، يعني مغوليين لاهوتيين، وقسمٌ منهم يا الله يا الله، يعني مخوزَقين مخوزِقين. سوزان قمر الثورة المضيء إلى الأبد إذا كنت تريد أن تعرف.
أضاف الثاني:
- أما ما يشاع عن أنهم قتلوها، فكل هذا خزعبلات، سوزان يمكن أن تكون هنا، يمكن أن تكون هناك، عادت ربما أو ستعود، فالثورة لم تنته بعد.
- يا شُطار! وما رأيكم إذا ما قلت لكم إنني رأيت جثتها بأم عيني؟
انفجر الشابان ضاحكين.
- يخلق من الشبه أربعين، شيرلوك، هذا ما يقوله المثل عندنا، وهم قد لفلفوا كل شيء.
- هم؟ من هم؟
- كل أعداء الثورة.
- أعداء الثورة في باريس؟ في لندن؟
- أعداء الثورة في كل مكان.
شوشني كل هذا، فقلت:
- الحق أنهم ألقوا بجثتها أمامي في التيمز، وبحثنا عنها، ولم يمض وقت طويل على ذلك، دون أن نجدها.
- أرأيت، شيرلوك؟ قال الأول، إخراج، لا شيء غير إخراج، غير متقن.
قال الثاني:
- سنعطيك عنوانًا في عمان، اذهب وتأكد بنفسك، ربما كانت هناك.
وضع أحدهما في جيبي ورقة مطوية، وسأل:
- متى ستغادر إلى عمان؟
- سأقوم بأول وآخر اتصال بسفارتنا ثم أغادر.
- لا تقم بأي اتصال بسفارتكم، سوزان خلال وجودها في أور لم تتصل بها على الإطلاق.
قالا قبل أن يبتعدا:
- إلى اللقاء، ربما مع سوزان.
بعد عدة أمتار سمعت طلقات نارية، فخخفت لأرى، كان أحد الشابين صريعًا، والثاني جريحًا في كتفه، وهذا الجريح يحمل الصريع بين ذراعيه، ويهزه غير مصدق ما وقع. رأيته يهزه، ويقول له انهض. رماه أرضًا، وبيديه راح على قلبه دفعًا، بعنف، وضراوة، والدم يتساقط من كتفه على وجه القتيل، ثم ما لبث أن فتح الفم الملوث، وراح ينفخ فيه، ومن جديد، عاد يضغط بيديه القلب الميت، بعنف، وضراوة، وعاد ينفخ في الفم الدموي، ولما فهم أن لا فائدة من ذلك، انفجر يبكي على فم صاحبه، وعاد ينفخ في فمه يائسًا، ينفخ في فمه، ويقبله من فمه، ينفخ، ويقبل، في الدم والموت، ينفخ، ويقبل، ينفخ، ويقبل، ثم ذهب معه في قبلة طويلة لاعبة. رفعته من ذراعه، وسحبته. ونحن نلتفت إلى الميت، رأينا قضيبه منتصبًا تحت بنطاله.
استقبلنا شبان الثورة، فاهتم طبيب من بينهم وعدد منهم بالكتف المصابة، بينما تجمع عدد آخر أمام رجال أمن السلطة، وراحوا يقذفونهم بالحجارة، وبكل ما هو قابل للقذف. جذبتني من يدي بعض فتيات الثورة، وهن يقلن لي: سنصطاد التنين، تعال! ففهمت في الحال ما يعنين. اخترقن بي إحدى الكنائس، وإذا بنا وسط مجموعات شبابية تتعاطى الكوكايين. كانت هناك المسطولات من البنات اللواتي يكشفن عن أفخاذهن، ونصف المسطولات، بعضهن يقبّلن بعضهم، وبعضهن يقبلن بعضهن، وبعضهن يتناقشن مع بعضهم، وبعضهن يتناقشن مع بعضهن. رأيت متحجبات يكشفن عن أفخاذهن، ورأيت أصحاب لحى يقبلن سافرات، وكذلك رأيت أحد الخوارنة الشبان، وهو يقتاد ولدًا في العاشرة من عمره إلى جناح الكنيسة الخلفي، لكني كنت مأخوذًا ببنات الثورة اللواتي أنا بصحبتهم. جعلنني في وسطهن، وهن يضحكن ضحكًا لذيذًا، وبدأن بتسخين الكوكايين على ورقة من الألمنيوم، واستنشاق بخاره. بعد عدة دقائق، اخترقنا كلنا عالم الثورة الجميل، وذهبت نائمًا بين أجمل الأفخاذ في العالم.

* * *

في اليوم التالي، رميت الهاتفين المحمولين في سلة المهملات كيلا يعرف أحد مكاني، ترددت قليلاً، وأنا أرفع حاسوبي المحمول، رميته فوقهما، وخرجت لاكتراء سيارة أوستن زرقاء صغيرة أسافر بها إلى عمان. بين إغفاءتين ليلة أمس، أرسلت إيميل إلى الدكتور واتسون دون أن أستلم منه جوابًا: سوزان كانت تعمل لمخابرات طرف ثان ربما الأمريكان، سأوافيك بتفاصيل أكثر بعد وصولي عمان. شيرلوك هولمز. قرأت في جريدة بعد أن دفعت فاتورة الفندق: المتظاهرون يقتحمون قصر السلطة، القتلى بالعشرات، ورئيس السلطة لا أثر له. لم أكن جيدًا نفسيًا، مصرع الشاب أمس أثر فيّ كثيرًا، ولا جسديًا، بسبب الكوكايين. تعمدت ألا أقول للدكتور واتسون لربما كانت ابنته لم تزل على قيد الحياة. لم أكن متأكدًا تمامًا. نوع من التقزز يسلب لي روحي. أشبه بخراء نحلاتي عندما يفسد، فألقي به في المرحاض. عمان كانت فكرة الشابين، وهما كانا على حق، لكن تقززي لم يكن على علاقة بهذا. أنا هنا للتحري، أليس كذلك؟ كأيام زمان. لا، ليس كأيام زمان. التقزز هذا لم أكن أشعر به بمثل هذه الحدة. كنت أشعر به، ولكن ليس بمثل هذه الحدة. كما لو كانت المملكة المتحدة تخرأ في فمي! حالة نفسية سريعة الزوال، يسميها دكاترة التحليل النفسي. شيء غير طبيعي توجبه الجلالة. لو خُيّر لي أن أكون ملكة إنجلترا لما وافقت، لعملت ثورة من أجل الجمهورية كما قال ذات مرة شارل. ظريف شارل. ملك قادم بحق. ولكن متى؟ هل تريد أن أخطط شيئًا في سبيل تحقيق ذلك، يا شارل؟ لكنى أحب الملكة. ليس لأنها ملكتي، لأنها أمي.
وأنا أرمي حقيبة ظهري الصغيرة في صندوق الأوستن، مرت بي أخرى، أختها، أوستن وزرقاء وصغيرة، والرجل الملثم بالكوفية المطاردني خلف مقودها. قلت هو أيضًا مغادر أور إلى عمان. كيف كان يحتمل كوفية تخفي كل رأسه ومعظم وجهه في مثل هذا الحر المهول؟ لهذا تجاوزني، واختفى، ليرفع لثامه. بحثت عن مكيف هواء في الأوستن. لا يوجد. سيريح نفسه مني لمدة نصف ساعة، ثم سيعود للاطمئنان على عدم تبديلي لرأيي، وأنني مستمر في السفر إلى عمان. سأفكر في شيء آخر غير عمان، فأنا أكره هذه المدينة. غالبًا ما زرتها سائحًا أو لتحرٍ. مدينة العبث الأحمق. هناك العبث الأحمق والعبث اللا أحمق، وعمان مدينة العبث الأحمق، مدينة لا يُستأهل العيش فيها إلا لأصحابها الأثرياء الحمقى. لو كنت تسونامي لمحوتها من الوجود، كي أنقذ أهلها الطيبين من أصحابها الحمقى أصحاب العبث الأحمق. ها هو. صاحبنا ها هو. بلثامه الأحمق. من يكون؟ لماذا لا يكف عن مطاردتي؟ لماذا لا يأتيني ويحدثني كجنتلمان؟ بعثوني كي أتجسس عليك، هل تسمح؟ أو اسمح لي أن أقتلك في اللحظة التي يقررون فيها ذلك. أنا لا يد لي في الأمر. إنه العبث الأحمق. وذلك التقزز الذي لا ينتهي. يكاد يخنقني. ليس وقته. يجب أن أصل إلى عمان، إلى عاصمة مملكة جواهر سوداء لملك جواهره بيضاء، أن أعيد تركيب كل عناصر مسألة سوزان واتسون. أنا متأكد الآن أنها لم تكن تعمل مع السكوتلاند يارد، إذن لماذا دفعت أبيها إلى ترك كل شيء في باريس والبدء بالتحري السادس والعشرين في لندن؟ بَرَقَ تقززي في رأسي، ساعدني تقززي على التوصل إلى استنتاج. لأمرين. الأمر الأول عندما أوهمت سوزان أباها، وبالتالي أوهمتني، لأن أباها دوني هو نصف تحرٍ، عندما أوهمتنا أن السكوتلاند يارد هو مختطفها، وهو قاتلها، بينما ليس هو مختطفها، ولا هو قاتلها، قمة التعقيد، قمة الإثارة، وهذا بالضبط ما قلته للدكتور واتسون، ومن أجل ذلك قبلتُ عمل التحري معه بعد تقاعد دام عدة أعوام. ماكرة هذه السوزان! بعد كل شيء أمرها الحقيقي، سرها، سنكشفه، وبالفعل أنا في الطريق إلى كشفه. ليست المخابرات البريطانية من وراء اختطافها ولا من وراء الانتفاضة في إسبرنسا التي كُلِّفَتْ بتفجيرها، هناك طرف ثان. قلت قبل قليل الأمريكان، ولكن ربما كان الفرنسيون أو الألمان هذا الطرف الثاني. لا، الألمان لا تأثير كبير لهم في المنطقة ولا مصالح كبيرة كالفرنسيين والأمريكان. إذن الطرف الثاني هو فرنسا أو أمريكا. بل فرنسا. فرنسا. لأن لا مصلحة للأمريكان في تفجير ثورة في إسبرنسا. هم يفضلون أن تبقى الأمور على ما هي عليه، أن تبقى على علاتها، أن يستغلوا المنطقة بها، أن يضغطوا بها. إسبرنسا ورقة من ورقاتهم المالية والحياتية والهولوودية، يا هولمز، كما كان سيقول لي الدكتور واتسون. كل العناوين الكبيرة للصحافة تقول هذا. ليس الدكتور واتسون فقط. كل العناوين على إنترنت التي تضطرك إلى قراءتها. فرنسا. لن أُبدي حماسًا أكبر حتى هذا الطور من التحري. الأمر الثاني الذي يساعد تقززي على التوصل إليه في قضية اختطاف سوزان ألا وهو تحويل كل التحري في الدرب الخاطئ: البريطانيون وليس الفرنسيين. هكذا ستتمكن المختطفة من تخفيف العقوبة التي سينزلها بها خاطفوها، بدل حكم الإعدام الحبس أو النفي تحت هوية أخرى. لقد كنتُ مخلصة لجهازي حتى عندما انقلب عليّ! حتى هذه اللحظة.
عاد الملثم إلى الظهور، جاءني من خلفي، وراح يطلق النفير، تركته يمر. مرّ، وهو يحدجني بعينيه، وكأنه يقول لي علي يديّ ستكون نهايتك. هذا كل ما في الأمر بخصوص قضية سوزان. قتيلة ذلك اليوم لم تكن هي، ربما كانت لِيمها، ربما كانت تمثالاً من تماثيل مدام توسو، ربما كانت جواهر سوداء، ولكن أبدًا سوزان. أُلقيت جثتها في التيمز، وبعد ساعة لم يتم العثور عليها. أما رئيس الملائكة جبرائيل، فهو عميل مزدوج. إنه يعمل للبريطانيين، ويعمل للفرنسيين، وذلك لتأكيد ما يريده الفرنسيون من موت سوزان "على يد البريطانيين"، وإبعادنا أنا وأبيها على درب خاطئ أو مسدود، وينتهي الأمر. يجب التأكد من كل هذا. كل هذا ما هو سوى افتراضات. في لغة التحري التي لنا كل هذا ما هو سوى جواهر سوداء. وإذا ما كانت جواهر بيضاء؟ سنطرح هذا السؤال على شكسبير.
بدا من بعيد جسر اللنبي، معلق في الفضاء كأنه جسر من جسور جهنم. لا بد من عبور نهر المسيح إلى الضفة الشرقية، إلى ما يدعى بالأردن، بلد العبث الأحمق. وإن شئت بلد الجواهر السوداء. عشرات السيارات المنتظرة كانت هناك. تعمدتُ صف سيارتي بعيدًا عن سيارة الرجل الملثم: أوستن زرقاء وصغيرة وأرقامها الثلاثة الأخيرة 7 و9 و8. أخذت حذري جيدًا. كنت قد قلت لنفسي، وإذا كانت هناك أكثر من سيارة أوستن زرقاء وصغيرة؟ 7 و9 و8. لم تكن هناك غيرها. أوستن وزرقاء وصغيرة والأرقام الثلاثة الأخيرة 7 و9 و8. صففت سيارتي من الناحية الأخرى للباركنغ، ودخلت قاعة المسافرين، وفي اللحظة ذاتها حدجني الملثم بعينيه، وخرج. إذا كان ما أفكر فيه هو هذا، فعلت مثله، والبادئ أظلم. راقبته، وهو يتلفت يمنة ويسرة، وهو يستلقي تحت سيارتي. إذن سيفك الفرامل كما حدست. كنت أسرع منه، ذهبت إلى سيارته، وفككت فراملها. عند عودته إلى قاعة المسافرين، وجدني أجلس، ولا أنظر إلى أحد. أنهى أوراق الخروج، وخف إلى سيارته. رأيته من بعيد، وهو يقطع الجسر بسرعة الريح، وكانت الفاجعة الشكسبيرية الوضيعة أن سحق أربعة أو خمسة من حرس الحدود قبل أن يسقط وسيارته الأوستن الزرقاء الصغيرة في نهر الأردن، ويتبع ذلك انفجار. جريت مع الجارين، حتى أنني نزلت مع النازلين لأرى. كان رأس الرجل بلثامه في طرف، وجسده في طرف، وكان جسده كله محترقًا، بينما لم يمسس رأسه أقل رَضّ. نزعت الكوفية، لأقع على رئيس الملائكة جبرائيل.
جواهر، جواهر، جواهر حمراء كالدم الأحمر لهذا المجرم!
بالطبع، أعدت ربط فرامل سيارتي، وقطعت الجسر تاركًا نهر الموت من ورائي. ذهب عني التقزز، وحل محله الاكتئاب، كذلك الذي كنت أشعر به عندما أمشي في شارع أكسفورد في لندن، يكفي أن أنظر إلى وجوه كل أولئك المستهلكين النهمين الظامئين إلى مجد القشور، ولا أرى أن لهم كلهم وجهًا واحدًا كوجه أمي. يكفي أن تسيطر وجوههم الجواهر السوداء عليّ، كل الجواهر السوداء، جواهر سوداء كانت ساندويتشاتهم، جواهر سوداء كانت مشروباتهم، جواهر سوداء كانت ملابسهم، خاصة الملابس الخفيضة الثمن مقابل ماركس آند سبنسر، وهم يهجمون عليها كالمهسترين، ربما هم يأكلونها بدل أن يلبسوها، وتغدو جواهر سوداء. أو، على الأقل، هم يعلكونها كما تعلك فتيات الخليج المجدوعة مشافرهن هوليوود شوينغام من تحت الحجاب الأسود علك قحبات سوهو، وهن ينتظرن بيأس زبائنهن بعد منتصف الليل. اكتئابي، وأنا ليس بعيدًا عن عمان، كان أقصاه. تمنيت لو أوقف السيارة، وأقيء. لكني شئت أن أبقى ضحية اكتئابي، كي أُلْهَمَ بباقي القصة، بعد أن تخلصنا من العميل المزدوج. فجأة، إذا بي أسير من وراء سيارة ليست أوستن، وهذه بدورها تسير من وراء أخرى ليست أوستن، والسيارتان أكبر من الأوستن. لم يتركاني أعبر. فجأة أيضًا، إذا بالسيارة التي أمامي، السيارة الثانية، تدق رادّتُها الأمامية بالرّادّة الخلفية للسيارة الأولى. أعاد سائق السيارة الثانية الكرة، وسائق السيارة الأولى يكاد يجن. زمرت للسيارة الثانية، وأشرت إلى السائق المقطب المتوتر فيما معناه: ولو يا رجل، لماذا تفعل هذا؟ لكنه أعاد الكرة للمرة الثالثة، وهذه المرة انفجر مقهقهًا، بينما عينا السائق الأول تقدحان شررًا.
زمرتُ بعنف، ففتح السائق الثاني لي الطريق. حاولت الابتعاد بسيارتي الصغيرة من أجل الذهاب أمام السيارتين الكبيرتين، فلم أتمكن من ذلك إلا بشق النفس. تقدم سائق السيارة المضروبة منذ قليل، وضرب رادّتي برادّته، وهو متوتر مقطب أولاً، ثم انفجر يقهقه. إلا أنه قطع قهقهته على ضرب السيارة البادئة بهذه اللعبة غير الافتراضية له من جديد. كشر، وطلب من سائقها أن يسبقه، فسبقه، ووضع نفسه بيني وبين الآخر. جاء ليضربني أنا، وهو مقطب متوتر، ثم انفجر يقهقه. ضربه المضروب منذ قليل، وكأنه انتقم من الشيطان بعينه، وانفجر يقهقه. ولكي يجيب عليه الثاني بعدي الآن في هذه اللعبة غير الافتراضية لم يتوقف عن ضربي ولا عن القهقهة، وكلما ضربه الثالث كشر، وراح يضربني أنا، وأنا لا ذنب لي في شيء. أخذتُ أول طريق فرعي، وتركتهما يواصلان السير في الطريق الرئيسي. كانت كآبتي قد تبخرت، وحواسي كلها قد استيقظت، ولم أكن أحب هذا. كان ذلك أشبه بحالي، وأنا ألعب الغميضة مع أمي، كل حواسي مستيقظة... وماما يا ماما، وشيرلوك يا شيرلوك، جواهر سوداء، كلها مستيقظة. بعد مضي عشرين دقيقة، عدت آخذ الطريق الرئيسي، وأنا أقول لنفسي لقد وصل المعتوهان إلى عمان حتمًا، لكني ما أن عبرت بطريق فرعي آخر، حتى رأيتهما يخرجان منه، وينقضان عليّ، وهكذا عدنا إلى الجنون الأحمق حتى مشارف مدينة العبث الأحمق.





















القسم الرابع

في عمان، لم أنزل في فندق. لم أشأ أن تقع المخابرات الأردنية ولا أية مخابرات أخرى في العالم على مكاني. قبل أن أعيد سيارة الأوستن الزرقاء الصغيرة إلى وكيل شركة الاكتراء، وقبل أن أدفع تكاليف الرادّتين الأمامية والخلفية، عرّجت على سوق البلد كما يقولون. اشتريت من إحدى دكاكين الألبسة التقليدية ثوبًا بدويًا فضفاضًا وكوفيةً وعقالاً. الثوب خفيف، وكذلك الكوفية. مع الحر الشديد السالب لهوية المدينة، المدينة الأخرى، فعمان كانت مدينتين، كما كنت أنا شخصيتين، هذه المشحرة، الجهنمية، الحمقاء، وتلك الحلمية، التاريخية، الأركيولوجية، التي لم تعد موجودة إلا في رؤوسنا نحن المجانين الأوروبيين. كنت مضطرًا، تمامًا كالمرحوم رئيس الملائكة جبرائيل. جلست في السيارة، وبدلت ثيابي، ومن حقيبة ظهري الصغيرة أخرجت لحية مستعارة من بين عدة لحى تتناسب والخط الأنيق الذي كانه شاربي. كانت عيناي اللتان بكل الألوان مشكلة كبيرة، لكن مع أشعة الشمس الثابتة، لم يعد الأمر بذي بال كبير. لم أتكلم كلمة واحدة مع وكيل اكتراء السيارات، تم كل شيء وكأني أخرس. وفي الحال، بعد ذلك، أخذت تاكسي إلى العنوان الذي أعطاني إياه شابّا أور، ودومًا دون أن أتكلم كلمة واحدة. فهمت عندما صاح السائق، وهو يقرأ العنوان، باستياء، أن المكان بعيد.
سحاب.
مدينة صغيرة أشبه بمدن اللعنة، لكن سليمان كان من الظرافة واللطف الشيء الأكثر من كثير، مما خفف الكثير من اختناقي. أول شيء قاله لي لما نزعت لحيتي المستعارة، إنني هنا في مكان آمن، في قلب منطقة نفوذ المخابرات. كان رد فعلي الساخر:
- عملت كل ما بوسعي كيلا يعرف أحد مكاني، وها أنت تلقي بي بين أسنان الذئب!
أطلق ضحكة طنانة، ورمى:
- فم الذئب هو أفضل مكان يمكنك الاختباء فيه!
قبل أن يضيف:
- أنا إسبرنسي كما تعلم، شيرلوك، وزوجتي أردنية الأصل، أبوها ضابط كبير في المخابرات.
- أحلى وأحلى!
- كل بيت من بيوت سحاب معظم أفراده أو كلهم مخابرات، يتوارثون المهنة أبًا عن جد. ولكن اطمئن لن يعرف أحد بوجودك، ليس لدي في بيتي أي جهاز هاتفي أو حاسوبي. إذا ما احتجت إلى الواحد أو الآخر، دكاكين التاكسيفون كثيرة.
وبنبرة جسيمة:
- ماذا يمكنني أن أفعل من أجلك، شيرلوك؟
- الوصول إلى طرف من أطراف المعضلة التي اسمها سوزان واتسون.
قدم لي سيجارة، ووضع أخرى في فمه. أشعلهما، وبعد لحظة من الصمت:
- لا توجد على وجه الأرض اثنتان كسوزان، أرادت أن تعمل ثورة في بلاد إسبرنسا، ما يسمى بالربيع العربي، نجحت، ونجحنا كلنا، والحمد لله.
- وحدها؟ تعمل ثورة وحدها؟
- ليس وحدها. معنا. نحن أبناء إسبرنسا المتأردنين. كانت عمان لها وبعد ذلك لنا محطة، محطة لا غير. كانت تذهب إلى بغداد، يوم، يومين، ثم لا تلبث أن تعود بالمال والسلاح.
- والسلاح؟ السلاح لماذا، وهي ثورة سلمية؟
- فيما لو اضطرتنا الأحداث إلى استعماله، شيرلوك، هل تفهم؟
- ليس كثيرًا.
- تعال.
ونهض. ألصقت لحيتي المستعارة، وأنا أشعر ببعض الألم في مثانتي، منذ دلكني الدكتور واتسون، الألم المسببتهُ لي بروستاتي. سرت برفقة سليمان في شوارع جرداء محطمة الأرصفة بين السكان، ولا أحد ينظر إليّ. كان لباس التنكر كاملاً. لنقل شبه كامل. وإلى حد الآن. كان شبه كامل. قرأت على لوحة في مدينة المخابرات والخراب: طبيب من كله. كل شيء فيها أجرد وجاف ومحطم ومتنكر مثلي كوجوه أفراد المخابرات. دخلنا دكان لبيع الأدوات الكهربائية المنزلية، فوضع صاحبها على الباب "مغلق". أغلقه، وهو يتلفت يمنة ويسرة. كانت له نظرة الشرير الفطري، مثلي في بعض الأحيان، عندما أنظر مثلاً إلى رأس كنت السبب في فصله. ومن سُلّم داخلي، نزلنا طابقين تحت أرضيين. أشعلنا المصابيح اليدوية، ولمعت عيوننا كعيون الذئاب على مرأى صناديق الأسلحة والذخيرة.
- لم تحمل سوزان كل هذا على ظهرها، شيرلوك، قال سليمان. سحاب ليست على بعد كبير من الحدود العراقية، وبفضل هذا (فتح بابًا لسرداب ذهب ضوء مصباحه اليدوي إلى أقصى نقطة هناك قبل أن يتكسر ويتلاشى) حمل الشباب كل هذه الصناديق.
سكت قليلاً، وأضاف:
- إذا اضطرتنا الأحداث إلى استعمالها في أور استعملناها، شيرلوك.
تدخل ذو النظرة الشريرة:
- في أور أو في عمان، شيرلوك.
- في عمان؟ سوزان كانت تريد أن تعمل ثورة في عمان؟
- ليس سوزان، سوزان أنهت عملها في أور، وغادرت، وإنما نحن. على هذا النظام أن يقوم بإصلاحات أو يسقط لكنه غير قادر على القيام بإصلاحات.
- نظام العبث الأحمق!
لم يفهم الشاب ذو النظرة الشريرة، وربما لم يسمعني:
- يريدون أن ننزل إلى الشوارع، وأن يكتبوا لنا ما نهتف به أو ما نطالب، وإياكم وإياكم وإياكم، وخاصة إياكم أن تمسسوا طيز أوباما، فأوباما الحاكم الفعلي لهذا البلد، لا طيزه ولا الطيز المدللة لزوجته مليكة الزنوج في النرويج، هكذا يقولون لنا في الأمن. وبعد ذلك يأتون ليتحدثوا عن الديمقراطية، البدوي أبدًا لم يكن ديمقراطيًا، ولن يكون، هكذا يُولد، وهكذا يموت، والملك بدوي، لنقل نصف بدوي، فأمه مثلك، شيرلوك، إنجليزية. لو سمعني أحد أقول هذا الكلام، لزُج بي في السجن مدى الحياة. رأس السمكة هي الفاسدة، وسيأتي يوم نقول هذا الكلام علنًا ودون أي خوف كما يجري اليوم مع أهلنا في أور. أنا بدوي، شيرلوك، وإن شئت أردني الأصل، كالفساد، الفساد أردني الأصل. سنجتثه ذات يوم من جذوره، واللي يصير يصير! عندئذ سيكشف النظام للعالم عن حقيقته الغاشمة، لأنه لن يتردد عن ذبح كل الأردنيين، أصل وغير أصل، إسبرنسي وغير إسبرنسي، أردني وغير أردني، كل الأردنيين، كما يجري في سوريا.
نفخت:
- أوف!
وأنا أضحك:
- هذا أطول درس لي في السياسة!
ضحكنا ثلاثتنا، وصعدنا. سألت الشابين فجأة:
- ومع من كانت تعمل، سوزان؟ من كان من وراء كل هذا؟ بريطانيا؟
- الله أعلم.
قال صاحب النظرة الشريرة، بينما سليمان:
- إنها المقاومة في العراق.
- القاعدة؟
- الله أعلم. الله أعلم، شيرلوك.
أذّن المؤذن، فاعتذر صاحب النظرة الشريرة:
- عليّ الذهاب إلى المسجد.
سارعنا إلى الخروج، وذهبنا، نحن من طريق، وهو من طريق. قلت لسليمان:
- يقولون إن سوزان قُتلت، هل تعتقد أنت بذلك؟
- سوزان قُتلت! سوزان الندورة والحذر والذكاء تترك نفسها تُقتل؟ سوزان لم تُقتل، ولن تُقتل!
- إذن أينها؟
- الله أعلم. الله أعلم، شيرلوك.
- سآخذ تاكسي إلى عمان، كي أبعث إيميل إلى أبيها الدكتور واتسون، من هنا سيعلمون أنني في سحاب، وسيعملون كل ما بوسعهم للتنكيد عليّ، وإعاقة التحري الذي أقوم به.
- ولكن ليس هذا كل شيء، شيرلوك، ثم دعنا نأكل لقمة أولاً. زوجتي تعد لك طبقًا سعوديًا غدا سحابيًا بالوكالة، التفويض أمر واجب في هذه المدينة الحمقاء بخصوص قضية الأفواه النهمة الأفواه الحمقاء التي هي أفواهنا: "البرياني"، اسم الطبق البرياني على اسم البهارات الهندية، وهو مشكّل من الدجاج والرز والخضروات.
انفجرت ضاحكًا على وصف الحمقاء الذي استعمله سليمان، لم أكن وحدي من يقول عن العاصمة الأردنية حمقاء، وفقط العاصمة الأردنية، ربما لتداعي الأفكار، أو لحماقة الجوع عندما نحيا ونموت من أجل أن نسد حاجتنا إلى الشبع، وهذا، ليس فقط في سحاب أو عمان. لا، لم يكن من الحمق كل هذا.

* * *

بعد القيلولة، ذهبت وحدي إلى عمان من أجل الإيميل: برب السماء، يا جون، لماذا لم ترد على إيميلي؟ الكل ينفي مصرع سوزان، في أور كما في عمان، لا بد أن هذا الخبر سيسعدك. لا أعرف بعد الطرف الذي كانت سوزان تعمل معه. سأغادر غدًا إلى بغداد، محطتي الثالثة، أتمنى أن أوافيك بتفاصيل أكثر. أما إذا كانت سوزان بالفعل لم تُقتل، فلا بد أنها في خطر. عليك أن تشن حملة واسعة على إنترنت عبر الفيسبوك كما اتفقنا لأجل تعاطف الناس معها، ودفع خاطفيها إلى التفكير ألف مرة قبل أن يلحقوا بها أقل أذى. شيرلوك هولمز.
لم أكن بعيدًا من المدرج الروماني، كانت كل الوجوه هناك قبيحة بابتساماتها، على عكس وجه أمي، كل الوجوه بابتساماتها قبيحة، مؤذية، تعنفك، تعتدي عليك، كانت كلها لرجال المخابرات، هكذا استخلصت. كان في الأردن على كل مواطن مخبر، حتى الله كان عليه مخبر. للحيلولة دون اكتشافي، عزمت على العودة إلى سحاب في الحال، لكن ما لفت نظري، جعلني أتأنى. كان صبي في العاشرة من عمره يخربش بقلم رصاصه على "الملك" من الشعار المكتوب في كل مكان في كل مكان من مدينة العبث الأحمق "الله الملك الوطن". كان يبدو عليه أنه يتسلى بعيدًا عن مقاعد الدراسة. خرج له من الجحيم رجل أَمَرَهُ بالمجيء، فهرب الطفل، وبدأت المطاردة بين المخبر و"المجرم". تحت المدرج، وسط المدرج، فوق المدرج. فوق المدرج، وسط المدرج، تحت المدرج. لمحت خنجرًا يخفيه الرجل في صدره، فاضطرني ذلك إلى اللحاق به. تحت المدرج، وسط المدرج، فوق المدرج. استل الرجل خنجره، واندفع باتجاه الطفل. عرقلته بقدمي، فسقط من الناحية الأخرى للمدرج، وبقي في مكانه مسجى دون حراك. ابتسم الطفل لي، وابتسمت له. عاد ينزل المدرج بسرعة. تحت، رفع الصغير رأسه، وعاد يبتسم لي.
لما عدت عند سليمان، كان الليل يتساقط لا كما يتساقط في لندن. كان ليل الخراب. الخراب بالفعل. كم كان ليل سحاب خرائبيًا سراديبيًا ابن مومس. لم تكن في سماء سحاب نجوم. وكانت أبواب بيوتها كلها مغلقة على أصحابها، دون أن يُسمع لهم أي صوت، وكأنهم غير موجودين. كان ليل سحاب أشبه بليل الدسيسة. انتظرنا أنا وسليمان إلى ساعة بعيدة من ليل الدسيسة، بدافع الحذر، ومشينا ثلاثة أرباع الساعة خارج مدينة المخابرات، فإذا بنا وسط كثبان من الرمل، فوقنا نجوم لا متناهية، وبعيدًا هناك في اللا مكان، ضوء فانوس ينوح معلق على باب برّاكة. دفعنا باب البراكة لتستقبلنا مجموعة من عشرة شبان الواحد أجمل من الآخر، كلهم يبتسمون، ولكلهم هيئة الآلهة.
- كل هؤلاء هم مقاتلو المستقبل الذين صنعتهم سوزان واتسون! قال سليمان.
- مقاتلو المستقبل؟ قلت.
- لما يحين ذلك، كما قلت لك، شيرلوك، وحين الاضطرار، فقط حين الاضطرار.
لم يكن كل هذا يجديني نفعًا، كان كل هذا كلامًا فارغًا كما يقول تشرشل. امتعضت، وشعرت بالألم أكثر، كانت بروستاتي تدقني بإبرها.
- أنت لم تأت بي إلى هنا لتقول لي هذا، سليمان.
تدخل أحد الشبان:
- نحن اليقين المرئي والملموس على أن سوزان هي من وراء الثورة في إسبرنسا.
أخرج من صندوق مليء بالأسلحة والذخيرة رشاشًا، وبدأ يداعبه كجسد امرأة:
- كل هذا بفضلها.
- سبق وعرفت هذا.
- لكنك لم تعرف شيئًا، شيرلوك.
- هل سوزان من درّبكم على معالجة السلاح؟
- سوزان!
- أعني...
رمى سليمان:
- لهذا جئت بك هنا، شيرلوك، كي تسمع من فم الشباب كيف تم تدريبهم، وترى وكرهم في قلب الصحراء. ليس تمامًا في قلب الصحراء، ولكن بعيدًا عن فم الذئب.
قال شاب آخر:
- إنهم الإخوة العراقيون. رجال المقاومة.
- إذن هل تكون المخابرات العراقية من وراء كل هذا؟
- رجال المقاومة ليسوا رجال المخابرات.
- أشكركم على كل حال.
وإذا بي أنعطف على نفسي، وأصرخ من حدة الألم في مثانتي تمامًا كما حصل معي ذاك المساء بين يدي الدكتور واتسون. حال الشباب دون سقوطي، ومددوني على السرير ذي الأقدام القصيرة حيث كانوا يجلسون. همهمت:
- إنها بروستاتي.
ابتسم سليمان:
- هذا لا شيء، شيرلوك.
قال شاب:
- نعرف عطارًا قديمًا له أصابع سحرية.
عدت أصرخ، فحملني أشدهم قوة على ظهره، وراح يهرول بي، وسليمان لا يفارقني لحظة واحدة. أوضح سليمان:
- كوخه على بعد خطوتين من هنا.
وبالفعل كان كوخ العطار ليس بعيدًا، عرف أول ما رآنا ندخل عليه كل شيء. لم أكن أدري كيف سقطت لحيتي المستعارة خلال المسير، فحصني الرجل بعينين همجيتين، وطلب إلى صاحبيّ العودة بعد ساعة. جعلني أستلقي على الطاولة، وخلع بنطلوني بأصابع عصبية، ثم كلسوني، وهو يتأملني كلي مليًا. توضأ، وصلى، وأنا من فترة إلى أخرى أطلق صرخة حادة أحاول منعها، فتتمزق إلى ألف آه! بعد ذلك، جاء إليّ بإصبعه، بسمل، وأدخلها فيّ، وراح ببروستاتي تدليكًا، وهو يهمهم بصوت منخفض عبارات طلسمية. أراحني بالفعل، لكن المفاجأة كانت، عندما رفع الرجل عباءته، وتقدم مني بقضيب منتصب لم تصنع الحياة أضخم منه. سقط عليّ، وأراد حشوه فيّ. دفعته عني بقوة شاب استعدتها لا أدري كيف، فسقط كالحشرة على الأرض. دعست بقدمي رأسه البشع، وسارعت إلى مغادرة كوخه القذر.
لم أكن أعرف العودة إلى حيث كان الشباب، فرحت كالضائع في ليل الصحراء. وأنا أنظر إلى الكون، أردت أن أنسى الأحلام الحقيرة التي كان آخرها ما عشته منذ قليل. الأحلام الوضيعة. كان الكون في تلك اللحظة جميلاً بشره وحقده لكنه لم يكن حقيرًا. كنت أقول لنفسي، وأنا أرفع رأسي إلى ملايين النجوم، وأشم رائحة جسد الصحراء الشَّبِقِ في الليل، إن الآلهة مضحكون وكذابون، لأنهم يتركون للبشر أحلامهم الحقيرة. لهذا هم قساة القلوب، ولأجل هذا لم أكن متدينًا، ولأجل هذا جعلت من التحري دينًا. ربما كنت قبلانيًا في إجراءاتي دون أن أعلم، ولكني لم أكن متدينًا. أمي كانت متدينة، وأبي كان مثلي، أبي صاحب فلسفة الفراغ. وها أنا أصنع الآن فلسفتي، فلسفة جديدة، فلسفة هولمزية، تضاهي فلسفة ديكارت، الفيلسوف البريطاني، فلسفة الدهاق. فالوجود ممتلئ، وليس هناك من فراغ إلا في الرأس. لهذا نفكر، كما يقول الفيلسوف البريطاني ديكارت، نملأ أنفسنا، فنوجد. من أجل الأحلام الحقيرة.
وأنا هائم على وجهي، سمعت خطوات صامتة من ورائي، رأيت أحدهم يرفع رأسه بحذر من وراء أحد الكثبان، وينظر إليّ، وما أن أسير حتى يترك مكانه إلى كثيب آخر، يختبئ، وينظر إليّ. كنت أنتقل من كثيب إلى آخر، وهو أيضًا يفعل ما أفعل، يختبئ، وينظر إليّ. دون لحيتي كنتُ بالنسبة إليه امرأً مشكوكًا في أمره. وماما يا ماما. وشيرلوك يا شيرلوك. استمرت لعبة الغميضة بعض الوقت، كثير الوقت. كنت أذهب من كثيب إلى آخر وهو أيضًا، ويختبئ، وينظر إليّ... إلى أن بان لي الضوء الشاحب للفانوس حيث كان الشباب على أحر من جمر الغضى بانتظاري. سارعت إلى الدخول، والمتعقبني يدخل، هو أيضًا، كالسهم من ورائي، ليسقط بين الأذرع القوية والأعقاب الكرزية. عندما عرفوا فيه متربص المجموعة، انفجروا كلهم ضاحكين:
- ولكن هذا السحلية!
- ما الذي جعلك تتبع شيرلوك كالوغد، يا سحلية؟
- ألا تجد أن كل هذا ليس ظريفًا، يا سحلية؟
- يا سحلية!
- نعم، كل هذا ليس ظريفًا، يا سحلية!
- يا سحلية!
- يا سحلية!
- كل هذا ليس ظريفًا، يا سحلية!
- يا سحلية!
- يا سحلية!
- يا سحلية!
قدّم ما أعطيته من سبب، فاستمروا في التنغيص عليه. يا سحلية! يا سحلية! يا سحلية! فجأة سقط علينا مكبر صوت سقوط الصاعقة:
- سلموا أنفسكم واحدًا واحدًا وإلا أطلقنا النار...
ولكنهم كانوا قد أطلقوا النار قبل ذلك بكثير. كان هناك نفق، فلم أشأ أخذه. أصر سليمان على ذلك. أوضح لي إنه سيؤدي بي إلى غير بعيد من الحدود العراقية، ورماني بحقيبة ظهري الصغيرة قائلاً إنه جلبها عندما مر بالشباب، وأنا في عمان، مرورًا عاجلاً ليحدثهم بأمري، ولأننا كنا سنقضي ليلتنا معهم. كان الجنود الملكيون يقصفون المكان بوحشية، بجهنمية، كانوا يريدون محقه، محوه، كانوا يريدون ألا يكون أردنيًا، ألا يكون. لما التفتُّ قبل الدخول في النفق، رأيت الأشلاء تتطاير كالبجع الدامية، ففكرت في تشايكوفسي.


































القسم الخامس

من المرعب جلب الموت إلى بيتي. الموت. بيتي. من المرعب. الموت. العدم. العدم لما يتمشى في الغرف معك، لما يتناول قدح نبيذ بصحبتك، لما ينظر إلى ما تنظر في الحاسوب، لما ينام في سريرك، لما يحلم حلمك، وعندما لا يأتيك النوم، ينهض وإياك ليأخذ قرص منوم مع نصف كأس ماء. يأخذ قرص منوم كما تأخذ ولا يأتيه النوم كما لا يأتيك. كيف تنظر إلى الليل إذن من عين العدم؟ وإلى العمر؟ وإلى الشيخوخة؟ الشيخوخة. الشيخوخة. كيف تنظر إلى الشيخوخة؟ كيف تنظر إلى الشيخوخة والعدم ينظر؟ لما ينظر العدم إلى الشيخوخة ينظر إلى صورته الأخيرة، ويهمس في أذنك: لقد فقدت شبابك، أيها المسكين! بددتها في التحريات! في أمور بشرية! أمور بشرية... التحريات، وكل شيء. كل شيء. أمور بشرية. كالذهاب إلى بيت الماء. أمور بشرية. كالتحليل البولي. كالآلام التي تعالَج بقرص أسبرين. كالجراح التي لا تعالج. أمور بشرية. كالعُنّة. العُنّة اكتمال العدم. بكل أبهته. بكل سيمفونيته. بكل جهنميته. أقوى من كل الحروب التي لم يتم كسبها. من كل الزلازل. من كل المفاعيل النووية. كالكذب. الكذب انتقاص الوجود. بكل صدقه. بكل برقه. بكل رعده. أقوى من كل المدن التي لم يتم فتحها. من كل القارات. من كل المجرات. لكنها لم تكذب عليّ، سوزان، ابنتي، وماتت دون أن تقول لي وداعًا. تركتني وحدي إلى عدمٍ يبقى. وحدي. إلى عدمٍ يكون. العدم حولي. فوقي. تحتي. فيّ. العدم في كل مكان. كل مكان العدم. تركتني وحدي. أواجه مصيري. عدمي. وحدي. ماتت قتلاً. لأنها أرادت ألا تموت كالآخرين. ألا تموت كما سأموت. كما سأحيا. لنقل كما سأحياه من أيام لن تكون كثيرة بعيدًا عنها. أو أنني لا أحيا، فالعدم أنا. أنا العدم الحيّز. شيء كارثي كل هذا، لكن هكذا هو الوجود. الوجود عدم. آه! يا ابنتي، لماذا تركتِهم يغتالونك، ويغتالون معك آخر تحرٍ لي كنت سأكتبه من أجلك؟ التحري السادس والعشرون. من أجلك. فقط من أجلك. لأنك طلبت مني أن أكتبه وليس لأني كنت أريد الخروج من عزلتي. كنت أكذب على نفسي، كنت أوهم نفسي بالخروج من عزلتي. لأنك طلبت مني أن أكتبه. أن أكتبه. الكتابة أمر من أمور ليست بشرية. إلهية. الكتابة شيء إلهي. لهذا تَغير الآلهة منا نحن الكتاب، فتحقد علينا، وتعاملنا بقسوة. لهذا قتلتك الآلهة لي. كي تنتقم من كل ما كتبت. تحرياتي الخمسة والعشرون كانت تزعجها، تنكد عليها، تنغص عليها عيشها، لهذا كان انتقامها مني في كبدي. قتلتك، سوزان. آه! يا كبدي. قتلتك. قتلتك. كما تُقتل الكلاب قتلتك. قتلتك. قتلتك. قتلتك. قتلتك، وقتلتني. أنا أبوك الطيب، قتلتني. أنت مدللتي. قتلتك، وقتلتني. روحي. حياتي. شيخوختي. الملعونة. شيخوختي الملعونة. زنابقك الصفراء. شعرك الأصفر. لون عينيك الأخضر. البحر. الأشبال. الأموات. الطلقات. سافاري. عناق الموتى قبل النهوض من الفراش والذهاب إلى العمل. كل صباح. أمور بشرية. قبل النهوض. كل صباح. عناق الموتى. كخنق الآهات. أمور بشرية. أمور بشرية. كدموعي. أمور بشرية. أمور بشرية. أمور بشرية. كل صباح. كخنق الآهات. كدموعي التي تسيل على خدي كي يمسحها البشر لي بأصابعهم الحانية... جون واتسون.
فتح القنصل البريطاني العسكري في بغداد باب الغرفة التي تركني أقرأ فيها ما كتبه الدكتور واتسون في الفيسبوك، وقال لي بقسماتِ وجهٍ معتمة:
- كلام مؤثر ما كتبه صديقك، العالم كله قرأ ما كتب، فكانت الردود كثيرة، حتى نحن اكتسحتنا الرسائل.
- كلام مؤثر، هذا صحيح.
- يا سيد هولمز، أعيد ما قلته لك، للتأكيد فقط لا غير، إن السكوتلاند يارد لا يد له في مصرع الآنسة واتسون، السكوتلاند يارد بشقيه المدني والعسكري. مخابراتنا العسكرية، وعن علم أقول لك، لأنني القنصل العسكري، لا يد لها في الأمر. وأنا شخصيًا، لم ألتق بسوزان واتسون في بغداد على الإطلاق. علمت بوجودها، فهي تحمل جواز سفر فرنسيّ إلى جانب جواز سفرها الإنجليزي، من القنصلية الفرنسية، وبشكل روتيني خالص.
- جواز سفر فرنسي إلى جانب جواز سفرها الإنجليزي؟
- ربما كان من الأفضل أن تعمل قفزة.
- عند القنصل العسكري الفرنسي؟
- ربما كان لديه ما يقوله لك.
- سأعمل قفزة.
- ربما ستفاجئ سوزان في مكتبه.
وانفجر ضاحكًا. ضحكت لضحكته، بدافع المجاملة، بينما أضاف:
- هي أو شبحها.
قبل أن ينفجر ضاحكًا من جديد، وأنا أنظر إليه بشيء من الاستهجان. استعاد هيئته الجادة، وطلب، وهو يدفعني دفعًا قليلاً من أمامه:
- تفضل، يا سيد هولمز.
رافقني حتى رأس الدرج الداخلي، وتركني أذهب.
سرت في شوارع بغداد، وأنا أنظر إلى آثار الحرب في كل مكان، على الجدران، على الوجوه، على جذوع الشجر. بغداد! كانت على الرغم من كل هذا الهول تحيا. ليس كواتسون. لكن رسالته إلى العالم كانت بالفعل مذهلة. كان يبدو عليه أنه لا يصدق إيميلي الأخير. بالنسبة له سوزان ماتت. إلى الأبد ماتت. كنفسه. ماتت. لهذا بكى العالم معه. أما إذا ما لم تمت سوزان، فكلام أبيها قنبلة ذرية تفجرت في معسكر الأعداء. واتسون حَمى ابنته دون أن يشاء، قلت لنفسي. أو ربما كان يشاء، وكل هذا تكتيك من طرفه. هو أعظم تكتيكي في العالم. مضيت بمسجد مقبَّب برخام فستقيّ، فستقيّ كلون الجنس، وخطر ببالي فجأة مخدع شهرزاد الفستقيّ. مخدع لا علاقة له البتة بالواقع. خيالي. كان خيالي هو من صنع هذه الصورة المتناقضة بين المسجد والمخدع. وبينما أنا على بعد مائة متر من بيت الله، إذا بانفجار مدو، وعشرات جثث المصلين والعابرين. سيارة مفخخة. أشرت إلى تاكسي، وأنا أركض، فلم يتوقف، إلى ثان، فلم يتوقف، إلى ثالث، فلم يتوقف. وجدت نفسي ألج في شارع شعبي، فقرأت على الصحف المفروشة أرضًا: اختطاف رئيس السلطة في إسبرنسا. انحنيت، وأخذت أقرأ الخبر دون أن أرفع العدد بين أصابعي. قتلى بالعشرات... مكان الرئيس غير معروف... المختطفون غير معروفين...
- سيدي... سيدي...
رفعت رأسي، فإذا بصبي في العاشرة من العمر يعطيني "سي دي"، وبإصبعه الصغير يشير إلى ناحية. نظرت، فرأيت القنصل العسكري البريطاني، وهو يبتسم. عمل التحية العسكرية، واختفى. أذهلني كل هذا، فوقفت حائرًا، وقد نسيت الصبي الذي جلس على الأرض، وفتح يده من أجل قطعة نحاسية. وفي اللحظة التي عدت فيها أنحني، مر من فوق رأسي صاروخ، وتفجر غير بعيد مني. حملت الطفل، ورميته معي من وراء برميل كان ملقى هناك. تتالت الصواريخ، والصبي من الرعب قد انفجر باكيًا. خبأ نفسه داخل البرميل، لكنه مع تواصل الانفجارات والصواريخ قام، وراح يجري، وأنا أصيح من ورائه ليعود، فشفطه أحد الصواريخ، ولم يعد له أي أثر.
- تعال، يا خواجة، تعال.
جذبني أحدهم من ذراعي، وأنا لم أزل أنظر إلى الجهة التي امحى فيها الصبي مذهولاً بين مصدق ومكذب.
سألني الرجل، وهو يركبني في سيارته:
- أين فندقك؟
- فندقي... (كان السي دي لم يزل بيدي) اذهب بي بالأحرى إلى "سيبركافيه" كي أقرأ هذه الأسطوانة.
- حاضر، يا خواجة. أنت أمريكي؟
- إنجليزي (همهمت وأنا لم أزل مذهولاً بين مصدق ومكذب للمصير الذي آل إليه الطفل) أنا إنجليزي.
- لا يضق صدرك، يا خواجة (وبدأ يرسل الصواريخ من فمه) كل هذا غدا شيئًا عاديًا لنا. نحن بغداديو اليوم أنفقنا عمرنا بين الغضب والحرب.
توقف قرب مقهى من القرون الوسطى فيه أحدث أجهزة الكمبيوتر، طلب الرجل لي قهوة، وهو يقول للنادل "إنجليزي"، فابتسم النادل لي.
- سأنتظرك، يا خواجة، في السيارة، ريثما تنتهي.
لم يكن على الأسطوانة ما يُقرأ، كان عليها فيلم سينمائي أو تلفزي لثورة شبابية في الشوارع المؤدية إلى ميناء مارسيليا. "ثورة المجانين" للمخرج لخضر هاء. نشكر بلدية مارسيليا على كل ما قدمت من أجل تنفيذ هذا الفيلم، قرأت في الأخير. ضحكت في سري، فما علاقة هذا الفيلم بسوزان واتسون؟ أنهيت قهوتي، وعدت أركب سيارة الرجل إلى القنصلية الفرنسية.
- انتظرني، حتى ولو تأخرت انتظرني؟
- حاضر، يا خواجة.
فوجئت بكون القنصل العسكري الفرنسي امرأة في الثلاثين من العمر ذات جمال أخاذ، استقبلتني، وكأني أسقط عليها من السماء:
- أوه، أنا سعيدة جدًا جدًا جدًا لاستقبال ذائع الصيت التحري الفذ مستر هولمز بعينه!
- وأنا أيضًا، يا سيدتي.
قبّلت يدها، وهي تطلق الضحكات من أعماق قلبها.
- تفضل، تفضل.
أجلستني على كنبة، وجلست إلى جانبي.
- ماذا تشرب؟ (وبالعربية) قهوة؟ شاي؟
- قهوة، لو سمحت.
قرعت جرسًا، وهي تقول:
- إذا أردت قدح سكوتش أو براندي.
دخل خادم بعد أن طرق الباب، ووقف بانتظار الأوامر، دون أن يفوه بكلمة.
- اثنان قهوة، قالت الجميلة الفرنسية بنبرة عسكرية جافة.
وما أن خرج الخادم، حتى عاد إليها تهللها.
- لا بد أنك في بغداد من أجل تحرٍ جديد.
ولم تتركني أجيب.
- لقد قرأت كل ما كتبه الدكتور واتسون عن تحرياتكما السابقة. خمسة وعشرون، أليس كذلك؟ مدهش! مدهش! المعالم الأولى، الاستقراء، الربط بين كل هذا، وفي الأخير الخاتمة المذهلة. كل خاتماتك مذهلة، يا شيرلوك، اسمح لي بأن أناديك شيرلوك. كلها، على الإطلاق، كل النهايات مذهلة، وأنا إيزابيل، نادني إيزابيل.
- إيزابيل، اسم جميل.
- أشكرك. ماذا كنت أقول؟ وأهم الأهم هذا العرض الشاد لانتباه القارئ، إنه أسلوب الدكتور واتسون هذا صحيح، ولكن كل التشويق بفضلك.
عاد الخادم يطرق الباب، ويدخل بفنجاني قهوة على رؤوس أصابعه. وضعهما مع كأسي ماء، وخرج. رشفت رشفة من فنجانها، وهي تتابع:
- كل هذا وكأنه قصة خيالية... الواقع في نهاية المطاف شيء خيالي، ألستَ متفقًا معي ، يا شيرلوك؟
- خاصة لما يُقرأ بعيني مخلوقة ساحرة كإيزابيل.
انفجرت تقهقه بأقصى قوة، وهي تميل، وتضربني على فخذي ضرباتِ المدلِّلِ. تركتها تنهي قهقهاتها، وقلت:
- الآنسة سوزان واتسون.
تظاهرت بالجد:
- ما لها الآنسة سوزان واتسون؟
- لماذا كانت في بغداد؟
- سائحة.
- سائحة؟
- قبل أن تتوفى في حادث تفجير سيارة مفخخة.
- تقولين توفيت الآنسة واتسون في بغداد؟
- اذهب إلى مقبرة الفرنسيين، ستجد قبرها.
- دُفنت هنا؟
- في مقبرة الفرنسيين.
نَهَضَتْ دون أن تتوقف عن الكلام، سحبت جرار مكتبها، وعادت بجواز سفر فرنسي:
- كانت تود الذهاب بعد بغداد إلى القاهرة، غداة الثورة. نحن الأوروبيين يعجبنا أن نرى التغيير، متزعزع في مصر هذا صحيح، ولكن يعجبنا ذلك. هذا جواز سفرها الذي لم تستطع سحبه المسكينة من القنصلية المصرية. انظر! ها هي الفيزا التي كانت قد طلبتها. خذ، يا سيد هولمز، خذ جواز سفرها، فتعطيه لأبيها.
تناولتُ جواز السفر، وفتحته على صورة سوزان. كانت صورتها، وكان جواز سفرها. كل هذا صحيح.
- مقبرة الفرنسيين، همهمت ساهمًا.
- نعم، مقبرة الفرنسيين.
جرعت قهوتي على دفعتين، ونهضت.
- لكنك لن تفلت مني بسهولة هكذا، يا شيرلوك، قالت إيزابيل، وقد عادت تشلح شخصيتها العسكرية الناشفة.
أمسكت يدي، وطلبت:
- سنتعشى سوية، هنا، فوق، في شقتي.
لمستني من تحت قميصي، المفتوح حتى سرتي، وراحت تسحب شعرات صدري سحبًا خفيفًا، وهي تهمس:
- هذه الدعوة على علاقة بالواقع الذي يتحول إلى خيال في عيني الآنسة إيزابيل.
- إيزابيل...
أصغت بكل حواسها:
- دومًا ما كانت في هولمز شخصيتان، هذه التي أمامك هي شخصية المحقق، وتلك، شخصية العاشق، تركتها من ورائي منذ أخذي للتقاعد.
- منذ أخذك للتقاعد؟ هذا بعيد، يا عزيزي شيرلوك.
- ليس جد بعيد، لكنه بعيد.
سارت بي إلى الباب، وهي تضيف:
- لا تخش شيئًا، لكل داء دواء.
وعادت إلى القهقهة المتصادية اللذيذة رغم ذلك.
في الخارج، أول ما رآني السائق، ترك من كان يتحدث معهم، وخفّ إليّ.
- مقبرة الفرنسيين، قلت له.
- حاضر، يا خواجة.
بالفعل، كان قبر سوزان هناك. سوزان واتسون. لندن 1985 – بغداد 2011. كانت صورتها. كانت زهورها. بائعة الزهور. بائعة الزهور الغريب أمرها كانت زهورها. وتلك التي قذفوا بجثتها في التيمز؟ لم يُبْلِغ الفرنسيون الدكتور واتسون عن وفاة ابنته، لماذا؟ ولماذا هذه الدعوة غير المتوقعة من القنصل العسكري الفرنسي على العشاء؟ غير المتوقعة. وكل هذه الرقة المقدمة لي على طبق من فضة؟ لماذا؟ أوصلني الرجل إلى فندقي، المأمون. دفعت له أكثر مما طلب، فراح يلهج بالثناء عليّ، ويقول الله ينصر بريطانيا العظمى، الله ينصر الإنجليز.
أخذت حمامًا باردًا، فالحرارة شيء لا يطاق في بغداد. قلت لن أتصل بالدكتور واتسون إلا بعد لقائي الثاني بالآنسة إيزابيل، قنصل فرنسا العسكري. عزمت على النوم طلبًا لراحة البدن وانسجام الأفكار، وإذا بطرقات على الباب تصلني. فتحت لثلاثة ضخام قال لي أحدهم هناك من يريد رؤيتي في جناحه، لم أسأل من هو، فالتحري عليه أن يعرف من هو دون أن يسأل. ارتديت ثيابي، وأنا أفكر فيمن يكون، فكرت حتى في شبح صدام حسين، ولم أصل إلى من يكون.
أول ما أدخلوني الجناح الفخم، قال لي رئيس الوزراء، وهو عارٍ تحت أصابع ثلاث من أجمل المدلكات:
- هولمز في بغداد، ولا يتفضل بالسلام عليّ! كان عليّ أن أتدبر الأمر على طريقتي، فيكون هذا اللقاء ما بيننا بكل أمان.
كان عدد من رجاله الضخام المسلحين هنا وهناك وكلهم على عيونهم نظارات سوداء، وكأنهم لا يرون شيئًا مما يدور في جناح رئيس الوزراء.
- الواقع أنني لم...
إذا بثلاث مدلكات بجمال الأخريات، لست أدري من أين خرجن، يتقدمن مني، ويخلعن عني ثيابي، ويمددنني قرب رجل بغداد القوي.
- عندما يبدي هولمز اهتمامه بشيء يريد أن يعرفه كل الناس هذا يعني أنه يبحث عن شيء آخر.
- السيد رئيس الوزراء يفهم تمامًا اللعبة التي ألعبها، لكني في بغداد من أجل اقتفاء أثر الآنسة واتسون بالفعل.
- أحضرا لنا كأسي براندي وسيجارين، قال لمخدوميه.
ثم لي:
- أنقل أحر آيات تعازيّ للسيد واتسون، ولا تنس أن تنقل له معها إعجابي، فقد قرأت كل أعماله الخمسة والعشرين.
- هل من خدمة أقدمها إلى السيد رئيس الوزراء؟
- خدمة واحدة.
- ها أنا أصغي إليك.
جاؤوا بالبراندي والسيجار، أشعلوه، وذهبوا، بينما الأيادي الناعمة لا تتوقف عن عملها الفوطبيعي.
- مليون دولار.
- مليون دولار؟
- عشرة مليون دولار، يا هولمز، مقابل أن تصنع لي هولمز عراقيًا مثلك.
- كل مخابرات العالم الموجودة في بغداد لحمايتك، وتريد هولمز عراقيًا مثلي؟ أنت تمزح، يا سيد رئيس الوزراء.
أفرغ رئيس الوزراء كل كأسه في حلقه، وقال، وهو يستدير على ظهره:
- أنا لا أمزح. أريد واحدًا مثلك لا مثيل له...
تناولت إحدى الفتيات عضوه، وراحت تدلكه، فانتصب، ورئيس الوزراء يتابع دون أن يبدي أي اهتمام بما تفعل:
- واحدًا لا يرقى إليه الشك.
- هذا شرف لي، يا سيد رئيس الوزراء، ولكني على التقاعد اليوم، وأنا إذا ما كنت في بغداد، فلأجل ابنة صديقي.
أخذ رجال الكارتيلات يدخلون بملفاتهم واحدًا واحدًا، ورئيس الوزراء يوقع دون أن يقرأ، وهم يهمسون: عشرة بالمائة يا سيدي، عشرون بالمائة يا سيدي، خمسة بالمائة... بل خمسة عشرة بالمائة يا سيدي، إلى آخره، بينما أخذت المدلكات الثلاث يتناولن فرج رئيس الوزراء بأفواههن بالمناوبة. ثلاثون بالمائة يا سيدي، خمسون بالمائة يا سيدي، خمسة وسبعون بالمائة يا سيدي. أطلق رئيس الوزراء مع سماعه للرقم صيحة مكتومة، أتبعها بصيحات مكتومة متتالية مع إطلاقه في أفواه مدلكاته. في تلك اللحظة، تحطم باب الجناح تحت أقدام بعض المسلحين الملثمين الذين قتلوا كل من كان هناك، أولهم رئيس الوزراء. قلبه أحدهم بقدمه ليتحقق من موته، وبصق على وجهه، ثم جاءني أنا المختبئ من وراء الكنبة. خلع كوفيته، فإذا بي أجدني أمام الرجل الذي حملني بسيارته. رماني بالكوفية كي أغطي عريي، وابتسم لي:
- نحن رجال المقاومة، يا خواجة.
وبسرعة، أعطى أمره لرجاله بالانسحاب، وأنا من ورائهم دون أن أنسى حمل ثيابي.
على الثامنة والنصف مساء، أخذت تاكسي إلى القنصلية الفرنسية، وعلى الرغم من صعوبة السير، وصلتها على تمام التاسعة. أصعدني الحارس إلى شقة مدام القنصل العسكري، وكان الترحاب الحار، وكان المديح، وكان الغنج. كنت لم أزل واقعًا تحت تأثير ما حصل في جناح رئيس الوزراء، لكن إيزابيل حاولت كل ما بوسعها التخفيف عني. كل هذا متوقع، يا شيرلوك، قالت لي. وشيئًا فشيئًا لَفّني سحر الجو حتى أنني لم أنس رئيس الوزراء فقط بل وسوزان كذلك ورب سوزان، نسيت نفسي. كانت المرأة مذهلة، فلم أستطع منع نفسي عن لمس يدها أو مداعبة شعرها. تركتني بعد العشاء، وأنا في السرير. غابت عدة لحظات، وعادت بحبة زرقاء على طبق من ذهب. قدمتها لي، وهي تقهقه بجنون العاشقة، وقامت معي بفعل الحب في أروع أوضاعه.
في صباح اليوم التالي، همست في أذني:
- قبل عودتك إلى لندن، امض بمارسيليا، وقم بلقاء المخرج الجزائري المعروف لخضر هاء من طرفي.
عادت تقبلني، وأنا أرى في عينيها دمعة حبيسة.
- الوداع، يا حبيبي.
في مطار بغداد، قرأت في جريدة: مصرع القنصل العسكري الفرنسي على أيدي أوباش بغداد.







القسم السادس

زرت قبر سوزان في بغداد، يا عزيزي جون. سوزان التي رأينا جثتها في لندن كانت سوزان واحدة أخرى. من منهما سوزان بالفعل؟ لست أدري. أرسل لك إيميلي هذا من الطائرة التي أقلها إلى مارسيليا. لماذا مارسيليا؟ لن أقول لك على إنترنت النافذة المفتوحة على العالم عالم المخابرات أول عالم. كلماتك عن الحبيبة سوزان كانت مؤثرة جدًا، لقد استطعت ببضع كلمات أن تحميها، هذا إذا ما كانت هناك سوزان ثالثة، سوزاننا. هولمز.
طلبت عبر غوغل معلومات عن لخضر هاء، فلم تكن هناك عنه أية معلومة. قلت لنفسي لا بد أنه عرف باغتيال إيزابيل، وهو يعرف حتمًا لماذا، وحالما ينتشر خبر وجودي في مارسيليا، سيبادر بالاتصال بي، وهذا ما حصل. لهذا أول ما وضعت القدم في مارسيليا صرحت لجريدة "لا بروفنس" على الهاتف أن لدي معلومات خطيرة حول مصرع الملحق العسكري لفرنسا في بغداد سأكشف عنها قريبًا، وليدبجوا خبرًا أوليًا حكيت ما أعرفه عن حياة إيزابيل الشخصية، وقلت إنني كنت في فراشها الليلة التي سبقت مصرعها. إيزابيل. كانت تعرف كل الحقيقة عن مسألة سوزان. ضحكتها اللازمنية لم تزل ترن في أذني. لمساتها الماورائية على جسدي، قبلاتها، همساتها. كانت إيزابيل نوعًا من شخصيات تحرياتي التي لا تُنسى، شخصيات مؤثرة في الإنسان، في تاريخ الإنسان، وتظل لاتاريخية.
تركت فندقي المطل على الميناء، وذهبت إلى البحر. مارسيليا كانت خرافية بين أصابع مسائها الصيفي، نساؤها كلهن برنزيات. نظرت إلى النساء بعين أخرى غير عيني الشيخة، كان ذلك بفضل إيزابيل، ونظرت إلى البواخر. كانت البواخر تتمايل، وهي في مكانها، وكانت رائحة السمك الطازج تغزو المكان. إيزابيل. لماذا كل هذه العطايا القليلة؟ لماذا كل هذه العطايا القصيرة؟ كانت تعرف أنهم سيقتلونها، ليس لأنها طلبت منى الاتصال بصديقها المخرج الجزائري. كانوا يريدون قتلها قبل ذلك، ولسبب آخر، فعجل لقائي بها بقتلها. هذا الفعل الأحمق. أكثر من أحمق. جواهر. جواهر سوداء. كل هذه الجرائم. كل هذه الدماء. جواهر سوداء. وهستيريا مخابراتية. هستيريا. هستيريا مخابراتية. رحت أسب، ورحت ألعن. رحت ألعن مهنتي أوسخ المهن لأن من نتائجها مصرع مخلوقة رائعة مخلوقة لا مثيل لها كإيزابيل. مخلوقة فردوسية. مخلوقة افتراضية على الرغم من حضورها المرئي والمحسوس حضورها الكلي. يلعن دين. لِمَ كل هذه الجواهر السوداء؟ تبدت لي الأزقة المحاذية للميناء كلها جواهرية، البحر، الناس، أبو منقار، دكتور واتسون، روائح أطباق مارسيليا اللذيذة، كلها جواهرية. جواهر سوداء. سوداء. أسود من سوداء. ومن حولي كنت أنظر، فأرى ما رأيته في فيلم لخضر هاء. النوافذ المسيجة بشبكات كشبكات الرموز في الجاسوسية، شبكات لمنع تسلل الناموس، والثياب المنشورة على حبال في البلاكين، والكثير الكثير من العرب. كل عرب مارسيليا يشبهون بعضهم، وفي رأسي كلهم كان لهم وجه تلك المرأة القبائلية الموشومة التي رأيتها ذات يوم مضى في شارع أكسفورد. الموشومة من أعلى جبينها إلى ما تحت ذقنها. المرصعة أسنانها بالبشاعة. بالذهب. في رأسي، يا أمي. في رأسي. رأسي الذي طالما أمسكتِهِ بين يديكِ، وقبلتِهِ. قبلتِنِي. قبلتِنِي، يا أمي. من رأسي، ومن خدي، ومن فمي. وماما يا ماما، وشيرلوك يا شيرلوك. قبلتِنِي، يا أمي، من فمي، حيث قبلتني إيزابيل عشرات، مئات، آلاف القبلات قبل أن تموت.
لم أر إذا ما كان الخبر قد تم نشره في عدد المساء، فقد عدت إلى الفندق لأريح جسدي قليلاً، ورأسي، وقلت لنفسي إذا جاءني هاتف لخضر هاء، هذا يعني أن الخبر قد وصل إلى أيدي الكل.
في ساعة متأخرة من الليل، وأنا بين غافٍ وصاحٍ، قرع الهاتف.
بادرت:
- لخضر هاء؟
- نعم، أنا.
- هل كان من الصعب عليك معرفة فندقي؟
- كنت متأكدًا من أنك ستنزل في فندق قرب الميناء، ولم يطل بي الوقت حتى وقعت عليك.
- أين سنلتقي؟
- أكلمك من مقهى ليو ماليه، إنه على بعد خطوتين من فندقك، اسأل فتاة الاستقبال تدلك عليه.
كان المقهى خلف فندقي تمامًا. مقهى واسع. زبائنه قلة. كانوا يجلسون هنا وهناك تحت أضواء خفيفة، وهم يحتسون البيرة. ذهبت باتجاه اليد التي تشير إليّ.
- قرأت تحرياتك الخمسة والعشرين عدة مرات إلى أن خُيل لي أنني أنا من قام بها، قال المخرج الجزائري، فعرفتك أول ما دخلت، أنت شيخ عجوز اليوم لا شبه لك بالثاني، ومع ذلك عرفتك أول ما دخلت.
- الثاني الذي فيّ أم الثاني الذي كان شابًا؟ سألتُ.
- الثاني، فقط الثاني.
بعد قليل من الصمت، قال لخضر هاء:
- هذا المكان أفضل مكان نلتقي فيه بعيدًا عن أعين رجال الأمن والمخابرات.
- لماذا كلفوك بإدارة فيلم أعتقد أنه لم يوزع؟
- بلى، تم عرضه على بعض القنوات الصغيرة للتورية فقط لا غير.
- كانوا يريدون أن يعملوا بروفات ثورة على الأرض بين أناس حقيقيين –ومن العرب فضلاً عن ذلك- وفي شوارع حقيقية، ومع قوى أمنية حقيقية، كل شيء حقيقي كالمسلسلات التلفزية الحقيقية، أليس كذلك؟
- لم أكن أعرف شيئًا عن هذا.
- أعرف أنك لم تكن تعرف.
حضر النادل، فطلب لخضر هاء لنا بيرة، وفي الحال بعد ذلك، أخرج من جيب سترته حاسوبًا صغيرًا وضع فيه أسطوانة، وطلب مني أن أنظر، وهو يوضح:
- هذه اللقطات تمت في الكواليس، وهذه سوزان واتسون، شيرلوك. هؤلاء هم رجال المخابرات الفرنسية العراقيون الذين تدربوا في شوارع مارسيليا على تنفيذ الثورة في بلاد إسبرنسا.
- هم إذن من دربوا بدورهم الشباب الأردنيين من أصل إسبرنسي.
- هم.
- وبعد ذلك، أشرفت الآنسة واتسون على كل شيء إلى أن تم اختطافها، ثم اغتيالها.
- اختطافها نعم، أما اغتيالها... لم تقل لك إيزابيل إنهم وضعوا جثة كلب في قبرها البغدادي المزعوم؟ دومًا ما كانت صديقتي إيزابيل ابنة بلدي المارسيلية ضد كل العملية، كانت تقول على الإسبرنسيين أن ينهضوا وحدهم كما فعل التوانسة، دون معونة من أحد سوى عزيمتهم على النهوض.
- وأنت؟
- أنا فنان، مخرج سينما أنا، عندما وقفت على الحقيقة هددوني، لهذا تجدني أحتفظ بما أحتفظ (أشار إلى السي دي في حاسوبه) كي أحمي نفسي، سوزان أيضًا تحتفظ بسي دي كهذا، لكنهم مجرمون، لا شيء يمنعهم مما يعزمون على تنفيذه. بعد قتلهم لإيزابيل، أنا خائف، شيرلوك، يجب أن تفعل شيئًا من أجلي.
- أنا لست إلهًا، أنا كائن بشري.
- يجب أن تفعل شيئًا من أجل الفنان. دومًا ما كنت أريد أن أكون فنانًا. كان أبي يريدني أن أصبح لاعب كرة قدم. كان يأخذني في المساء إلى الملعب، ويطلب مني اللعب معه. عندما يتعب من اللعب، كنت ألعب معي طوال الليل على الرغم من تعبي. كان يجبرني على اللعب طوال الليل. عندما كنت أشعر بالتعب وبحاجتي إلى النوم كان يضربني، ويرمي الكرة بين ذراعيّ، ويقول لي العب! كنت ألعب طوال الليل. ألعب وألعب وألعب. كان يريدني أن أكون نجمًا من نجوم كرة القدم. كنت ألعب طوال الليل. كان يقول لي لك رأس من ذهب فلا تضعه باطلاً. كان يجبرني على اللعب طوال الليل، فألعب طوال الليل، وأنام طوال النهار. كنت ألعب كالمعتوه. كبطل من أبطال "ننتندو". كنت ألعب كمن يلعب بقدره. كانت الكرة قدري، وأنا كنت ألعب بقدري. كالمعتوه. كبطل من أبطال "ننتندو". إلى أن كان يوم لم أعد أحتمل أكثر، ضربت الكرة في رأس أبي، وصرعته.
وإذا بقوة من الشرطة تخترق المقهى، وهي تصوب فوهات أسلحتها إلينا، وتصرخ:
- بوليس البوليس! ارفعوا أيديكم ولا تتحركوا!
بدأوا يتقدمون طاولة بعد طاولة إلى أن حاصروا طاولتنا وأسلحتهم مصوبة إلينا من كل صوب، ثم انفضوا، وتقدموا من باب داخلي، كسروه بأقدامهم، وراحوا يطلقون، ومن القاعة الداخلية أفراد الشرطة، بمعاونة قطاع الطرق، يطلقون على بوليس البوليس، والأموال الكثيرة تتطاير، وأكياس المخدرات، و"العذراوات"، كما كان الناس يسمون عاهرات مارسيليا. تخبأنا أنا ومرافقي تحت الطاولة، ومرافقي يرتعد من شدة الخوف. سقط مسدس أحد قتلى بوليس البوليس قربنا، فحمله لخضر هاء بيد مرتعشة. خلصته إياه، ووضعته في جيبي، وأنا أضغط عليه بأصابعي. كان بلاتيني كله إشراقًا، كان سعيدًا لسعادتي. كان يراني أصرخ، وأنا أرتعش. كنت منتشياً. كلي. كنت كلي منتشياً. لم أكن أنا. كنت كلي. كنت منتشياً كلي. كنت كلي المنتشي في كل الكون. قمنا، واستطعنا أن نتدبر أمر الهرب من جحيم البوليس وبوليس البوليس.
همهم لخضر هاء، ونحن نعود إلى الميناء:
- تصورت للحظة أنهم جاؤوا لقتلي.
ضحكت:
- وأنا كذلك. التحري هذا ما يفكر فيه دون انقطاع.
- ومتى سيتم ذلك؟
- قتلي أم قتلك؟
- قتلي وقتلك.
- أنت هذا المساء، وأنا غدًا.
- أنا هذا المساء.
- وأنا غدًا.
- وأنت غدًا.
- لأنهم عرفوا أنني أعرف كل شيء الآن، أنا أعرف كل شيء، وأنت ليس كل شيء، ومع ذلك، فما تعرفه كافٍ لاغتيالك، لهذا سأغادر مارسيليا إلى باريس غدًا في أول قطار، وإذا صدف أننا بقينا على قيد الحياة، فسيكون موعدنا مع ليو ماليه لنحتسي كأس البيرة التي طلبناها، ولم نشربها.
ودعته، وهو ينظر من حوله غائباً، ومن حوله البحر والموت وكل قوارب الصيادين. وأنا أخترق شارع فندقي، وصلتني ضربات كرة، فنظرت. كان رجل يجلس على عتبة أحد المنازل، وصبي في العاشرة يلعب الكرة. كان يلعب، ويلعب، ويلعب... دون هوادة.

* * *

في محطة سان-شارل كان خبر تصفية المخرج الجزائري لخضر هاء يتصدر الصفحة الأولى لكل الجرائد، وفي إطار صغير لا يلاحِظُ أهميته إلا من هم مثلي: مفاوضات بين الثوار والسلطة لإطلاق سراح رئيس إسبرنسا. اشتريت تذكرة إلى عاصمة الحب، ورميت حقيبتي الصغيرة على ظهري. كانوا يريدون إرهاب منتفضي إسبرنسا بشتى السبل، وأول السبل كل هذه التصفيات، فبحثت بين الوجوه المسافرة عن وجه أمي دون أن أجده. كانت محطة سان-شارل ككل المحطات في العالم محطة للوجوه. كانت الوجوه تتحرك فيها كالأقنعة، وجوه يرتديها المسافرون كي يخفوا شخصيتهم الثانية تمامًا مثلي. كان المسافرون شيئًا مثلي أنا التحري، شيئًا يختبئون خلفه. أمي كانت تختبئ خلف وجهها الحقيقي، لهذا كانت أصيلة. أو يخبئون وجوههم خلفه، ويجعلون منه قناعًا. ماما تحب شيرلوك، يا شيرلوك. لا أجيبها. ماما تحب شيرلوك، يا شيرلوك. أداوم على الصمت. ماما تحب شيرلوك، وتصحن أسنانها، يا شيرلوك. وأنا بصوت ناعم خفيض لا يعبر عن أقل حب: شيرلوك يحب ماما، يا ماما. كان وجه ماما قناعًا للآخرين، أما ماما، فكانت تختبئ خلف وجهها. شيرلوك زعلان من ماما، يا شيرلوك؟ وبصوت ناعم خفيض يعبر عن كل الزعل في الوجود: شيرلوك غير زعلان من ماما، يا ماما. تجذبني بين ذراعيها، وتأخذ بي قبلاً من كل وجهي، وعلى فمي تطبع قبلة كبيرة.
كان رجال الشرطة في كل مكان على الرصيف، إلا أنني تدبرت أمري. صعدت إلى القطار دون أن يروني. سيدي، تذكرتك؟ مقعدك في العربة ليست القادمة، التي تليها. كنت أعرف على أي حَساء سمك يلعبون، فهذا المراقب واحد منهم، وهو حتمًا ما أن أعطيته ظهري حتى راح يتكلم في عبه: إنجليشيّكم هنا، في العربة رقم كذا المقعد رقم كذا. وبالفعل عشرات من رجال الشرطة أخذت تركض، وتصفر، تنهر الناس، وتدفعهم. كنت قد غادرت القطار قبل ذلك بكثير، وأخذت أركض بين القطارات الراسية كالقوارب في ميناء مارسيليا، وما لبث رجال الشرطة أن تبعوني، وهم يركضون من ورائي. انقسموا إلى مجموعتين، والهدف محاصرتي. رآني بعضهم، وأنا أقفز على خطوط السكة الحديدية، فبدأوا بإطلاق النار عليّ. كان القرار قد تم: أقتلوه قبل أن يقتلنا. الاستعارة هنا شكسبيرية، فمن سأقتل ومن؟ حملت المسدس الذي سقط من بوليس البوليس أمس في مقهى ليو ماليه، وقلت لنفسي: أقتلُ من يريد قتلي. وبعدما أرهقتهم من قطار إلى قطار، ومن سكة حديدية إلى سكة حديدية، تم لهم محاصرتي. كنت أختبئ في مقصورة، وهم ينقسمون دومًا إلى مجموعتين. ولكي أرميهما في معركة طاحنة تدور ما بينهما، أطلقت النار على جدار زجاجي في الوجه المقابل، فسقط محدثًا ضجيجًا هائلاً دفعهما إلى قتل بعضهما، وهم يخبطون خبط عشواء، لا يدرون ما يفعلون. وبينما هم يتساقطون كالذباب بنيرانهم هم أنفسهم، غادرت المحطة إلى مكتب اكتراء السيارات، ومن هناك، وليت وجهي شطر باريس.

* * *

صففت السيارة، وصعدت شارع فوبورغ-سانت-هونوريه على قدميّ. كان لدي شعور كل الأباطرة والملوك الذين كانوا قد مشوا على رصيفه، شعور بأنهم أباطرة وملوك لا لشيء إلا ليضعوا أقدامهم على بلاطه. نظرت إلى فتريناته، وعرفت لماذا يغدو المرء ملكًا أو إمبراطورًا. كان كل هذا البذخ يعني هذا، وكل هذه النساء الاستثنائيات التي تمضي من هنا، منذ ماري-أنطوانيت تمضي من هنا، تعني هذا، وكل هذه الأحلام التي لا تطول كثيرًا، والتي لا تلبث أن تنهار عند نهاية الشارع الفرنسي، شارع فرنسا، شارع أمة الأمم، أم الأمم، سيدة الكون.
وجدت باب دكان الزهور التي كانت سوزان تعمل فيها مفتوحًا، رميت قصر الإليزيه على الرصيف المقابل بنظرة التحري الخبيرة، ودخلت. لم يكن أحد في الدكان، كانت الزهور، زهور من كل نوع وكل لون، لكن الزهور لم تكن أحدًا، على الأقل لم تكن الشخص الذي أبحث عنه. حملت مسدسي بدافع الحذر، واجتزت طاولة العمل إلى الفرع الداخلي من الدكان. ما أن لمحتني السيدة الجميلة الأنيقة أصل من ورائها حتى استدارت شاهقة. دفعتها إلى باب داخلي، وفحصت المكان، لم يكن هناك أحد غيرها.
- برافو! كنت عظيمة، يا سيدتي!
- أنا تحت أعين رجال الأمن ليل نهار، وها أنا أنذرك، لن يتأخروا عن المجيء.
- هذا لا يهم، أكون قد أنهيت عليك.
ووضعت فوهة المسدس في صُدغها، صُدغ ناعم ليس كغيره من أصداغ آخذ فيها الشيب، فتمايلت، وبدت مستعدة لقول كل شيء.
- إذا قلتُ لكَ، فهل...
- جميلة كل هذه الزهور بينما الآنسة واتسون تفطس في أحد الأقبية بانتظار تصفيتها.
- سوزان في السفارة الفرنسية في أور، وهي في صحة جيدة.
- هل الإليزيه من وراء كل هذا؟
- طوّعتها بناء على طلبهم.
- كي تبعثي بها إلى الجحيم؟ ثورة، وجواهر سوداء!
- نفوذ وحصة من البترول معقولة وعرق الناس. أمريكا نجحت في مصر. الأزمة المالية لن يقدر على حلها أحد، فنتصرف، نتصرف حسب إرادتنا، حسب استطاعتنا، لتأجيل الكارثة أو للتخفيف على الأقل من الانحسار، وكل ما نفعله، ثورة أم غير ثورة، يرمي إلى ذلك، وفقط إلى ذلك.
- أنا لا أفهم شيئًا في السياسة وأقل في الاقتصاد، لكني أشم الرائحة الكريهة للخراء، رائحة الصراع الأبدي بين هذه القوة وتلك على حساب عرق الناس، وهذه المرة بثورة لاستغلالهم هم يساهمون فيها.
- سوزان صحيح فجرت الثورة في أور، لكن الثورة أفلتت من يدها، أخذ يقودها أهلها، وسوزان معهم، فتخلت فرنسا عن المعجزة سوزان.
- ولماذا هي في أور تحت علم سفارتكم؟
- عملة تبادل.
- عملة تبادل؟
- عملة تبادل.
- عملة تبادل، أعدت.
وهمهمت لنفسي:
- حتى في عالم النحل.
- كيف؟
- ملكة النحل أيضًا.
- ما لها ملكة النحل؟
- عملة تبادل.
أعطيتها ظهري، قمت ببضع خطوات، ثم عدت، وأنا أهمهم "كم سأكون مغفلاً، لو كنت مغفلاً"، وبأقصى قوة، ضربتها على صُدغها الناعم بمسدسي، فسقطت غائبة عن الوعي. كانت هناك زنابق صفراء، تناولت بعضها، ألقيتها عليها، وخرجت بقدم خفيفة.














القسم السابع

بشرى سارة، يا دكتور واتسون، سوزان حية ترزق، حية ترزق، هل تدرك؟ ترزق، حية ترزق. أسمعك تقول أدرك، وبدقة خارقة للعادة تتابع عن بُعد مجرى أفكاري. قطعة من ذهب المنطق، يا صديقي العزيز. سأغادر باريس إلى أور من أجل العمل على تحريرها. الفرنسيون هم الذين كانوا من وراء كل هذا. سأعرض لك المسألة بالتفصيل حين عودتي بصحبة المحروسة، ومن هنا إلى أن نلتقي، واصل حملتك على إنترنت، إياك أن تترك حاسوبك إلا عندما أتأكد من تحرير سوزان. لم تجب على إيميلاتي، ولم تعد بك حاجة إلى الإجابة بعد أن اتضح كل شيء. إلى اللقاء قريبًا، أيها الشيخ الفتان!
وجدت أور لم تعد أور، أور تحولت إلى متاريس، وأنقاض، وتجمعات، ومظاهرات، من ناحية، ورجال أمن السلطة وأدواتها أدوات الموت المدججين بالسلاح من ناحية. كانت أور المدينة السماوية قد تحولت إلى مسرح جحيمي. كانت أور الجحيم. الجحيم. أور. كانت. كانت أور نهاية الأزمان، النهاية. كانت أور قمامة الثورة، القمامة. كانت أور الوجه الآخر لأمي، الدميم عندما كانت تغضب، ولم تكن أمي تغضب أبدًا. كانت أور أمي الغاضبة، قُبلتها على فمي. كانت أور سوزان التي أحببتها لما كنت شابًا، أول حب لي، وغارت منها أمي، ولم تكن أمي تغير أبدًا. كانت أور جسدًا مفتوحًا لكل أبناء السبيل، امرأة فاجأها الحيض، وهي تعاشر قضيبًا من قضبان آلهة الكنعانيين. وكانت أور الفضاء عاليًا، والضفائر، ونهدي مريم الساحرين المقطوعي الحلمتين. كانت أور حلمتيْ مريم المقطوعتين في فم الذئاب، وفخذيها الملوثتين بمني الذئاب، وبطنها الأملس ملاسة الرمل، وقد غدا خشنًا تحت أظافر الذئاب. كانت أور قذارة الذئاب، مراياهم المحطمة، مراحيضهم المعطرة، جواهرهم السوداء، جواهرهم الفحم بلون وجوههم، كانت جواهرهم، جواهرهم الفحم، كانت جواهرهم السوداء، وكانت شمسها بلون جواهرهم السوداء، كان كل شيء يأخذ شكل جواهرهم. السوداء. الحمراء على شفاه نسائهم، الزرقاء على جفون نسائهم، الخضراء على أقمار نسائهم. كل شيء، كل شيء، على شكل جواهرهم السوداء. كانت أور جواهرهم المقدسة. جواهرهم المقدسة. أور. كانت. جواهرهم الشريفة كانت أور. كانت أور جواهرهم الشريفة. كانت أور تاريخ جواهرهم المقدسة. وكانوا بجواهرهم يبنون المساجد. لأنها مقدسة. والكنائس. والمعابد. من جواهرهم. كانوا يبنون بيوت الله من جواهرهم المقدسة. وكانت جواهرهم ترشق كل وجوه سكان أور وسكان إسبرنسا، كل سكان إسبرنسا، من البحر إلى النهر. كانت جواهرهم المقدسة البحر والنهر، وكانوا إذا ما أرادوا الاستحمام يستحمون في جواهرهم المقدسة. وكانت لأور أطيب رائحة، كانت لأور رائحة جواهرهم المقدسة. كانت أور بجواهرهم المقدسة مقدسة، وهم لهذا أرادوا أن يُغرقوا العالم بجواهرهم المقدسة. جواهرهم المقدسة. جواهرهم الشريفة. كانت أور عاصمتهم من جواهرهم المقدسة، أور الجواهر المقدسة، الجواهر الشريفة، المدينة الجواهر المقدسة، الوطن الجواهر المقدسة، التاريخ الجواهر المقدسة، الأركيولوجيا الجواهر المقدسة، الثورة الجواهر الجواهر، ضد الجواهر، ضد الجواهر الشريفة، ضد الجواهر المقدسة، الثورة التي فجرتها سوزان، فهل ستتنكر الثورة لها؟ هل ستفضل جواهرها عليها؟ كيف يمكن تحرير سوزان من كل هذه الجواهر، المقدسة وغير المقدسة؟
قلت للقنصل العسكري الفرنسي لدى السلطة الإسبرنسية:
- لما أفلتت الثورة من أيديكم عدتم تدعمون السلطة التي أردتم إسقاطها.
- السياسة هي دومًا هكذا، قحبة، يا موسيو هولمز.
- ولما غدت الثورة سوزان وسوزان الثورة، قلتم عملة تبادل، لهذا اختطفتموها.
- ألم أقل لك إن السياسة قحبة، يا موسيو هولمز؟
- أتساءل إذا ما كنتم تفعلون الشيء ذاته كما تفعلون في السياسة مع زوجاتكم. ماذا تريدون مقابل أن تطلقوا سراح سوزان؟
- رئيس السلطة.
- حليف الغد.
- حليف الأمس.
- حقًا السياسة قحبة، قحبة فقط، لا شكسبيرية ولا مولييرية.
- أوَّلية، يا موسيو هولمز.
- أنتم في بيئتكم.
- كالسمك في الماء.
- والمفاوضات أين ستدور؟
- في أي مكان من أور.
- ومع من؟
- مع أيِّ كائنٍ كان في أور.
دخل علينا رجل ملتحٍ، وفي الحال عرفت فيه الرجل ذا اللحية الطويلة الطويلة جدًا والسوداء السوداء جدًا والعينين الصقريتين مع مرافقيه الأربعة الضخام البشعين الحاملين لصندوقين كبيرين في ممر مركز الشرطة. قام الملحق العسكري الفرنسي لاستقباله، بينما قمت أنا إلى الباب.
شرحت للشاب الذي أرسلني إلى عمان، المضمدة كتفه، المشلولة بسبب الطلقة التي أصابته في ذلك اليوم، كل شيء بخصوص مبادلة الرئيس بسوزان، كان محاطًا بمجموعة من الشبان والشابات، مجلس الثورة.
- بشرط ألا يعود إلى السلطة، قال الشاب.
- هذا الشرط أنا لا أضمنه، قلت.
- إذن ستستمر الثورة.
- الثورة مع سوزان خير ألف مرة من الثورة دون سوزان.
كان الأمر أسهل من انتشال القمر من الماء. حصل التبادل في سرداب السجن الواصل بين قسميه الشرقي والغربي، بينما هتاف الناس في الخارج يدق أبواب السماء. سوزان. هذه هي سوزان. أخيرًا. هذه هي قمر لندن وأور. أخذتها بين ذراعيّ، وشددتها إلى صدري طويلاً، وهي تذرف الدمع. ارتمت في أحضان الشاب، وقبلت كتفه المضمدة المشلولة، وهي تواصل ذرف دمعها إلى أن جفت الينابيع في جبال أور. رفعها الشبان على أكتافهم، وخرجوا بها وسط الهتافات العارمة، خرجوا بها إلى الضوء، على الرغم من أن الوقت كان ليلاً، الثورة كانت الضوء.

* * *

- بابا، أنا سوزان، يا بابا!
- ......................
- بابا حبيبي، أنا سوزان، يا بابا!
- ......................
- بابا، رد عليّ، أنا سوزان!
- .....................
- بابا، ما لك؟ رد على سوزان، يا بابا، رد على سوزان، رد على سوزان، يا بابا!
- .....................
- بابا (بدأت تنشج) رد على حبيبتك، طفلتك، سوزان، مدللتك، رد على سوزان، يا بابا!
- .....................
- بابا، بابا، (بدأت تجهر بصوتها) رد عليّ، رد على سوزان، يا بابا، رد على سوزان، رد على سوزان (بدأت تنهار) على سوزان، على سوزان، على سوزان!
- ........................
- (انفجرت) بابا، رد على سوزان!
- ........................
- (انسحقت) رد على سوزان، رد على سوزان، رد على سوزان!
- ........................
- (تلاشت) بابا، بابااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا...
- ........................
- (انفجرت) بابا...
ومن الطرف الآخر في مانشستر، دوت طلقة واحدة، قوية، شيطانية، ملائكية، جهنمية، فردوسية، نبوية، هيولية، قدسية، لوثية، إلهامية، هلاكية، إنقاذية، فعضت اللبؤة شبلها القتيل من رقبته، وراحت تسحبه على الرمل، راحت تسحبه على الرمل، راحت تسحبه على الرمل...
- (زلزلت صرختها العالم) باباااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا...

* * *

السعادة لا حاجة لنا بها.
قضيت يومين إلى جانب سوزان وحبيبها الإسبرنسي، لم يترك الحزن سوزان لحظة واحدة. طلبت منها التسلي بالثورة، واللعب بالنار. قلت لنفسي لربما سيخفف عنها ذلك قليلاً مما تعاني. دفعتها إلى ممارسة الحب كالمهووسة، وتعاطي المخدرات. رجوتها ألا تؤمن بالأقانيم الثلاثة، لو أرادت، وأن تجعل من فرحها الرجاء. قلت لها إن كل شيء في النهاية جواهر، خراء إضمارًا، الحياة، الوجود، البشر، الأرض، البحر، السماء، أغاني إلفيس بريسلي، ساقا ماريلين مونرو، نهدا آفا غاردنر، وكل النجوم المؤلهين الذين كانوا على أيامي، وكنت أحبهم، وكل الرقاصين السحرة، بيليه، مارادونا، بلاتيني، كل الرقاصين السحرة، وكل النجوم المؤلهين الذين كنت أحبهم، والذين كانوا على أيامي. كل شيء في النهاية جواهر. جواهر. في النهاية. كل شيء. كل شيء في النهاية جواهر. كل شيء في النهاية جواهر. جواهر. كل شيء في النهاية جواهر. جواهر. جواهر. كل شيء. كل شيء. كل شيء. قلت لها كوني جنرالة، واقتلي الأطفال. كوني لئيمة، ودمري الخلايا. كوني مشروخة، واكتمي الأصوات. إياك أن تكوني تحرّيّة، كوني كل شيء على أن تكوني تحرّيّة. مهنة التحرّي خطأ ارتكبه أبوك، لهذا انتحر. انتحر لأن العالم لا يستأهل واحدًا مثله هذا صحيح، ولكن لأن مهنة التحرّي خطأٌ ارتكبه. العالم نعالنا البالية. أحلامنا الوضيعة. خبزنا الدمويّ. قلت لها كوني دموية، وستنسين. لن تنسي أباك، ولكنك ستنسين. ستنسين شيئًا آخر هو أبوك، لكنه ليس أباك. بيتُ دعارة الحياة. الحياة. دعارة. بيت. بيتُ دعارة الحياة. بيتُ دعارة الحياة. الحياة. بيتُ دعارة الحياة. الحياة. الحياة. بيتُ دعارة. بيتُ دعارة. بيتُ دعارة. حزنك الغالي لن يفضي إلى الشعور بعزتك، ولن تتسنمي صهوة المجد. ابحثي عن المجد في مكان آخر. مكان لا يعرف الحزن. بيت دعارة. اصنعي من حزنك لحنًا للكمان، وضيّعي الأرواح. اجعليها تعيش ارتهاناتها بطغيان حزنك، هكذا ستدركين أن الحزن روح الشيطان، والفرح روح الألخيماء. الفرح العالي، المتعالي، الممتنع عن الاحتراق في شعاع بِتَا قوس قزح لما الألوان تغدو جراح الجرائم، والأطياب أنفاس المجرمين. الأنفاس التي لا تُحتمل. تُحتمل. لا تُحتمل. التي. الأنفاس. الأنفاس التي لا تُطاق. بيت دعارة. مكان لا يعرف الحزن. مكان يخلع فيه آدم آدميته، فيغدو نفسه، حقيقته يغدو، يغدو نفسه، دون أوهام ولا ميداليات ولا تعاظم أو عظمة، يكتفي، يكفّ عن التصرف بعظمة، في ساحة الطرف الأغر، في كل ساحات العالم، وقد غدت كل واحدة منها ساحة الطرف الأغر، يكفّ عن التصرف بعظمة، فقط يتصرف، كالحوافر المقطوعة الحاملة للعالم دون أجساد الخيول، يتصرف، يلقي بنفسه، كالحوافر المقطوعة، يسعى، دون أحلام، دون أحلام وضيعة. آدم دون معارك انتصر فيها. دون مكان. يُكَوّن المكان. مكان يعرفه الحزن، وهو لا يعرفه. بيت لتقوى الجسد، لبتولية منتهِكَة للحُرُمات، لدنيوية، للتاريخ الدنيوي. مكان لا يعرف الحزن... لَمْ أَكِلّ عن ترداد مكان لا يعرف الحزن، مكان لا يعرف الحزن، مكان لا يعرف الحزن، لكن ابنة صديقي ابيضت عيناها من الحزن، فقررتُ العودة إلى إنجلترا، والبقاء إلى جانب بناتي.



* الكتابة الأولى شتاء 2011
* الكتابة الثانية الأحد 1 نيسان/أبريل 2012












أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) بنيوية خاضعة لنصوص أدبية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004

[email protected]
شيرلوك هولمز، رجل التحرّي الخاص، يحتفظ بخصائصه المعروفة، وبطريقته في فك الأحاجي، لكنه هنا ليس كمثله من نواحٍ متعددة، أولاً وقبل كل شيء هو ابن زمننا، صحيح أنه شيخ، إلا أن قلبه ينبض بمشاعر الشباب وحيويتهم، ثانيًا هو صاحب مفاهيم مبتكرة عن شؤون الحياة، ثالثًا هو بسيط جدًا في أفعاله، أفعاله الأبعد استقصاءً هي الأقرب إلى أفعالنا. ما عدا التشويق والإثارة، من الكلمة الأولى حتى الكلمة الأخيرة، ينسج المؤلف بنية شخصيتيه الأساسيتين، هولمز والدكتور واتسون، حسب إشكالية نفسية تجعلهما أكثر إنسانية وأبعد كونية، لتطرح كل منهما، عن طريق السلوك أو الخلق، مسائل جوهرية تهمنا كأفراد، فيجرؤ المؤلف، ويجرؤ الأسلوب، وتجرؤ الموضوعات، ويقدم أفنان القاسم للقارئ رواية بوليسية بكل مقوماتها "السوداء" وكل أبعادها الإجمالية.

أن يُلقى شيرلوك هولمز في قلب الربيع العربي (الخريف العربي؟)، فعل كهذا يستوجب الجراءة والمهارة، فهل الرهان الكبير هو الرهان على الشخصية أم على الموضوع أم على الاثنين معاً أم على ماذا؟

فيما يخص العنوان المقتبس عن "الشيخ والبحر" لأرنست همنغواي، عدا عن الشيخ، الدكتور واتسون في النص، هناك لازمة لبعض المشاهد يوظفها المؤلف في سياقات جديدة.



* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وصول غودو
- مؤتمر بال الفلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم في كتاب
- أمين القاسم الأيام الفلسطينية
- خطتي للسلام الاتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين
- البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثالث
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثاني
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الأول
- أنفاس الديوان الثالث
- أنفاس الديوان الثاني
- أنفاس الديوان الأول
- أربعون يومًا بانتظار الرئيس
- أفنان القاسم يجيب على أسئلة -سيدتي-
- كتب وأسفار
- الذئاب والزيتون
- أم الجميع ابنة روما
- أم الجميع سقوط جوبتر
- أم الجميع مأساة الثريا
- الاغتراب
- الكناري


المزيد.....




- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...
- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...
- فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي ...
- “ثبتها للأولاد” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد لمشاهدة أفلام ...
- محامية ترامب تستجوب الممثلة الإباحية وتتهمها بالتربح من قصة ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الشيخ والحاسوب