أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثالث















المزيد.....



المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثالث


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3673 - 2012 / 3 / 20 - 10:36
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة


الروايات (8)


د. أفنان القاسم


المسار


مسار حلم ممنوع


رواية


القسم الثالث


نسخة مزيدة ومنقحة


الطبعة الأولى المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1981
الطبعة الفرنسية دار لارماطان باريس 2004




17
جمع اسكندر الترانزستور في حضنه، انحنى برأسه عليه، وتحززت تقاطيع وجهه، بينما وقفت أمه شاحبةً من أمامه، وهي تعض منديلاً. كان يتابع أخبار تحركات الجيش الإسرائيلي بعد أن احتل القدس، ووصل حتى مشارف القناة، وتسلق مرتفعات الجولان. ضاقت نَفْسُ الأم، وفي اللحظة ذاتها، مزقت المنديل بأسنانها. أمسك اسكندر بخناق المذيع، وجعله يُصَعِّدُ زفراتٍ طويلة، فغدت تلاوته تتقطع، وقلب الأم يتقطع، وحلم اسكندر يحترق، ورأسه يميد.
صدحت موسيقى دون توقع، لم يكن مصدرها المذياع، فهي ليست موسيقى عسكرية، والمذيع لم يزل يتلو نشرته الإخبارية، وإنما الحجرة المجاورة، فانتفضت الأم، وصاحت من مكانها:
- ميشيل! يا ميشيل... ألا تستحي على دمك، يا ميشيل!
كان ميشيل، الأخ الأصغر لاسكندر، ذو العشر السنين، يستمع إلى أسطوانة فوق (( بك أب )) البطاريات الصغير، هدية عيد ميلاده. كان يتمدد على بطنه فوق سجادة قديمة، وإلى جانبه ارتمى صديقه الطفل سليم.
- ألا تستحي على دمك، يا ميشيل؟ نحن في حرب، وأنت لا يهمك سوى أن تسمع الأغاني!
التفت ميشيل إلى أمه حالما رآها في جوف الباب، وهي تقبض بالمنديل على قلبها، دون أن يوقف الأسطوانة، مما جعلها تعود إلى نبرتها المؤنبة:
- استحِ على دمك، يا ميشيل!
أوطأ ميشيل البك أب، وقال لها:
- هأنذا أوطئه.
- قلت لك استحِ على دمك، أطفئه قبل أن آتي، وأحطمه لك!
أطفأ ميشيل البك أب، واعتدل برمًا في جلسته، بينما الأم تهمهم:
- لقد قالوا أخبارًا سيئة.
لم يكن لديها الوقت لتلاحظ مدى انطباعه، ولت على عقبيها حيث هناك اسكندر، ورأته يفتح عينين ذاهلتين في الفراغ، فهمست تسأل بحذر:
- هل قالوا شيئًا آخر؟
لكنه رفع إليها عينيه الذاهلتين، وعاد يخفضهما، مما جعلها تلح عليه بالسؤال:
- هل قالوا شيئًا آخر، يا اسكندر؟
وضع اسكندر المذياع جانبًا، وقال لها، وهو عاجز عن التنفس:
- لم يقولوا أكثر مما سمعت.
جلست أمه على الأريكة البالية قربه، وأخذ قلبها يدق دقات سريعة، وحاجباها يتوتران دون توقف، ثم سألت لاهثة:
- هل تعني ... هل تعني أنهم آتون، في طريقهم إلينا؟
استند اسكندر بظهره على ظهر الأريكة، وقال بكلمات لا شك فيها:
- إن هذا ينبئ.
مشيرًا إلى المذياع.
فزعت الأم:
- هذا يعني أنهم آتون!
- هذا صحيح.
- وتقولها هكذا بكل برودة!
قبضت على ذراعه، ثم ما لبثت أصابعها أن تراخت، ويدها أن تساقطت:
- أنا، يا اسكندر، خائفة!
أحست بكلماتها، وهي تستبق الأحداث على فمها، فجمعت في حضنها المنديل، وراحت تبرر قولها:
- من أجلكم... نعم، من أجلكم جميعًا!
صدحت الموسيقى من جديد، راح النغم الغربي يملأ بكثافته الحجرة، ويدك جدرانها، وفي صدرها يعمل زوبعة.
- يا للطفل اللعين الذي لا يسمع الكلام!
صاحت به من مكانها:
- ميشيل! يا ميشيل!
لكن ميشيل لم يكن يسمع إلا موسيقاه، ارتعدت فرائصها، وراحت تسارع إليه:
- أهذا وقته، يا ميشيل؟
قال ميشيل:
- أنا أسمع موسيقى، يا ماما.
- لكن هذا ليس وقته، إن الموسيقى لمن كسبوا الحرب، أما نحن، فقد خسرناها. أطفئ البك أب، يا ميشيل، أطفئه حالاً، وإلا كسرته لك!
- أريد أن أسمع موسيقى، يا ماما.
قال له سليم موبخًا:
- استمع إلى كلام أمك!
حرك سليم إصبعه على زر البك أب، وقطع المعزوفة.
قالت الأم:
- نعم، هكذا!
- ولكن، يا ماما، هذه موسيقى!
فلم تتمالك، راحت تصرخ في وجهه، شرسة كالوحوش:
- لسنا بحاجة إلى موسيقى مثل هذه! (وهدأت فجأة): وأنا التي كانت تقول عنك رجلاً سابقًا لأوانه!
كاد ميشيل يبكي، فخفت إليه تضمه، وتشمه:
- اليهود في طريقهم إلينا، يا ميشيل!
أحس الطفل بعذابها السابق لأوانه، خلاها طويلاً تداعب له شعره، ثم قال:
- حاضر، يا ماما، لن أعود إلى إشعاله ثانية.
انزاحت عنه، وهي تضمه بعينيها، ولاحظت أن الطفل الآخر يرنو إليها دون أن يجرؤ على الاقتراب منها، فجذبته من كتفه، وشدت بين كفيها أصابع يديه. التصق ميشيل بها، ثم سألها:
- هل أنت خائفة، يا ماما؟
ابتعلت السؤال بمرارة، وامتلأت عيناها بغيمة من الدمع:
- لا! لست خائفة، ولماذا أخاف؟
- ظننت أنك خائفة.
- أنا! لا، لست خائفة! لن أخاف، وأنا معك، ألست رجلي؟ قل، ألست رجلي؟
- أنت خائفة، يا ماما.
بقيت تعتصر: تلك الأمومة التي في أعماقها كانت على وشك أن تدكها وتفجرها.
- وهل سيأخذون منَّا الدار؟
تركت يدي الطفل تسقطان، وراحت غيمة الدموع تكفهر في عينيها. وفي الأخير، تمالكت، وقالت:
- لن نخرج من دارنا، يا ولدي.
أخذ ميشيل يعقد رباط حذائه، بينما هو يقول:
- ربما طردونا، يا ماما.
سقطت دموعها، انقلبت تعدو في الطرف المخالف.
وصلها صوت تعب ناحل وعجوز، في نفس الوقت، من خلف الباب الموصد للحجرة الواقعة في الصدر:
- حورية... حورية...
تعثرت قدم الأم، ومسحت خدها بالمنديل.
- تعالي، يا حورية...
اقتربت حورية من الباب ببطء، وضعت يدها على المقبض التركي، وفتحته:
- ادخلي، يا حورية.
ألقت عليه نظرة قانطة، على زوجها الشيخ الذي شلت ذراعه منذ عشر سنين. كان قد صعد على كتف شجرة زيتون ليقطفها، فانزلق، وسقط على حجر كسر له ذراعه. لاحظت أن لحيته المغبرة بالمشيب طالعة، فهو لم يحلقها منذ ستة أيام، وكانت تحت عينيه جيوب ماء منتفخة، وتحت شفتيه المرتويتن بسحر الكؤوس بقع صهباء اللون، فزجاجات الخمر التي صنع عتيقها بنفسه قد تراكمت فارغة أو نصف فارغة فوق طاولته. بدا منكوش الشعر، محدودب الظهر، مشقق الأظافر.
- اجلسي، يا حورية.
مد إصبعًا رخوة إلى الترانزستور الملقى بين الكؤوس، وأطفأه. رفع كأسًا مهزوزة حتى شفتيه، ثم أعادها إلى موضعها بأصابع مرتعشة دون أن يجرع منها جرعة واحدة، فتحركت الكأس على قاعدتها، وسقطت، سال الخمر على الطاولة، وانسكبت قطرات على ركبتيه. خفت المرأة إلى الكأس، ورفعتها، بينما راح الرجل يقهقه:
- هذا حسن، يا حورية، هذا حسن، فالسيل الأحمر يصل اليوم إلى كل مكان!
تساقط برأسه إلى الوراء، فأسندته بذراعيها، وهو لم يزل يقهقه.
- أنت سكران يا جوزيف!
وكأنها أعادته إلى يقظته، قوَّس حاجبيه، واعتدل:
- أنا لا أسكر أبدًا، وأنت تعرفين ذلك جيدًا، لم أسكر مرة واحدة في حياتي! هل تذكرين كيف شربت كالخنزير ليلة زفافنا؟ لقد شربت يومها برميلاً كاملاً، ولم أسكر. أنا لا أسكر، يا حورية، حتى ولو شربت البحر.
لفته بذراعها، وهي تمنع دموع من الرثاء لأحزانه، وقالت بنبرة متألمة:
- أنت سكران، يا جوزيف، وأنا أعرف لماذا.
عاد الشيخ جوزيف يقهقه:
- هذه آخر نكتة سمعتها عن الحرب.
- كفى! كفى!
قطع قهقهته، وعتم وجهه، وراح يحدق في زندها الأبيض الذي ذهبت عنه ميعته: كانت في شبابها جميلة! أخذ يفكر كيف كان يقبلها بقوة مائة عاشق، وكيف كان يلوك هذا البياض، طوال الليل، دون كلل.
- كفى، يا جوزيف، أنت تحدق فيّ بطريقة تشل أعصابي!
أشاح عنها بوجهه، وقال لها بنبرة متماسكة:
- إنهم آتون.
- أعرف ذلك.
رمق ذراعه المشلولة، وطلب إليها:
- ارفعي لي ذراعي.
فرفعتها.
- ضعيها على الطاولة.
أزاحت الكؤوس، والزجاجات الفارغة التي سقط بعضها، وأراحتها على الطاولة، فهمهم:
- هذا حسن!
راحت تحدق في يده المشلولة، وبعد قليل، وصلتها بعض الطلقات، فانتفضت، وهي تستدير برأسها صوب النافذة، بينما فج وميض أسود في عينيها الفزعتين:
- لقد وصلوا!
لكن جوزيف بقي بَمعْزِلٍ عنها.
هزته من كتفيه:
- لقد وصلوا، لقد وصلوا!
دفعها عنه بكوعه السليمة، وراح ينبر:
- يا لك من امرأة مجنونة!
- قلت لك لقد وصلوا، ألم تسمع طلقاتهم؟
انتهرها، وهو يرفع حاجبيه، صائحًا:
- إنهم الرجال في الخارج، وهم يصطادون كعادتهم.
ثم خفض صوته وحاجبيه:
- فنحن في موسم الصيد.
نظر في عينيها، كان هناك لهب أسود يئن لهبوب الريح، قال: إنه لمن العبث إفهامها. نهض، وذراعه المشلولة تتدلى على جانبه كحبل الصواري، اتجه نحو خزانته، وفتحها. رأته يخرج من بين أهرامات الثياب المصففة بندقية خرطوش، فقامت إليه، وهي تنفق اللهثات مع الكلمات:
- لن أدعك تفعل، لا... لن أدعك تفعل!
وجذبت أظافرها في ذراعه الميتة، فدفعها في صدرها دفعة هائلة، وراح يصرخ:
- أي شيطان أوقعك بين يديّ!
لكنها عادت تجذب أظافرها في ذراعه الميتة.
- جوزيف... أنت مجنون، يا جوزيف! لأنك تنساني، وتنسى الأولاد، سوف ينسفون بنا البيت! أعطني إياه، أعطني السلاح حالاً!
امتدت أصابعها إلى البندقية، فأبعدها خلفه، وبقي كلاهما يحدق في الآخر، يسرف أحدهما في الآخر نظرات ما بعد المعركة الخاسرة. لم تفكر أنه يذهب ليأتي بالدواء، فيده الأخرى لم تزل سليمة.
انسحبت أمام عناده، واتجهت نحو السرير، جلست على حافته، والسرير التعب يزفر من العبء، وراحت تجهش بالبكاء.
اقترب الشيخ جوزيف منها رويدًا، رويدًا، وفي عينيه دموع حبيسة، كان يحاول بقدر الإمكان ألا يخل توازنه، وبعد أن حط البندقية على الطاولة، مد يده السليمة إلى دموعها، فتباعدت، وهي تضرب قبضتها في حضنها:
- لا تلمسني! إياك أن تلمسني!
انطرح قربها، أحاطها بذراعه السليمة، وقال لها دون سابق تفكير:
- قبليني، يا حورية.
وكأنه طلب إليها أن تعاقبه، راحت تهوي بقبضتها على صدره، وهي تهمهم بين زفراتها، وتقول كلمات غير مفهومه، وقد ارتعشت شفتاها بكهولة فج الشباب في عروقها، فألهبها. وفي الأخير، راحت تردد:
- أنا لن أدعك تلمسني، أنا لن أدعك تلمسني!
ثم جمعت نفسها على صدره، واستهلكت آخر زفراتها.
بعد قليل، أبعدها عنه، وقال معاتبًا:
- لم تقبليني، يا حورية.
وثبت حيث النافذة، وهي تقول:
- ليس هذا وقته الآن، ليس هذا وقته الآن!
لكنه راح يهدر متوترًا:
- قبليني، يا حورية، قبليني!
تركته ينازع رغبته، آخر رغبة، تركته يعاني شقاء رغبته وحده. وعلى حين غرة، انهمك الرجل مع شيخوخته، زحفت على وجهه السنون بسرعة غريبة حتى بقعته، فانقصف كعرق زيتون قديم، وراح يهمهم:
- عما قليل، ستصلنا مدافعهم، عما قليل!
وصلتها بعض الانفجارات، فالتفتت إليه مرتعدة، وخفت صوبه، اغتصبته قبلة، وهي تئن، وتقول:
- إنني أحبك! إنني أحبك!
اقتلع شفتيه من بين أسنانها اقتلاعًا، ونهض، علق بندقية الصيد على ذراعه المشلولة، فأينعت الذراع، وراح يجر نفسه جرًّا، وعلى الباب، التفت إليها. رآها تنظر إليه شبه غائبة، وقد بدت بشعة بكبرها، وبأفكارها. قال لها برجاء خفي كيلا تمنعه مما عزم عليه:
- أنا نازل إلى الحقل.
وأعطاها ظهره، لكنها نادته متلهفة:
- جوزيف!
توقف، وانتظر ما عساها تود قوله، لكنها أطبقت فمها. لم يحتمل جوزيف أكثر، عاد إلى زجاجة خمر أفرغ كل ما بقي فيها في جوفه، وهمهم:
- سأذهب لإحضار حزامي، فأنا أخفي الخرطوش في الحظيرة.
صدحت الموسيقى من جديد، فاقشعر بدن الأم، قوست نظرة فزعة، وقالت لزوجها:
- إن ولدنا لا يتوقف لحظة واحدة عن سماع اللحن!
لكن الموسيقى انقطعت، فاستدار جوزيف، وهو ينظر من حوله، وكأنه يبحث عن شيء، ثم ابتسم، وقال كمن يحدث نفسه:
- سوف يستمر اللحن بعد قليل!
وعاد يتجه نحو الباب.
- وهل ستعود في الحين؟
- سأعود في الحين، سأحضر الخرطوش ثم آتى، يجب أن ندافع عن البيت.
خيَّب أملها فيه:
- عن البيت أم عن الأولاد، قل، عن البيت أم عن الأولاد؟
سارع إلى القول:
- عن كله، عن كله.
- إذن إياك أن تتأخر.
ابتسم:
- مسافة الطريق.
جذبتها البندقية، فلمستها، ثم شدتها إليها:
- لا داعي لتأخذها معك، أتركها هنا، طالما ستعود.
لكنه خلصها إياها:
- قلت لك سأعود على التو، وهذه، لربما احتجت إليها، فما يدربنا أنهم في ساحة القرية الآن.
دكت انفجارات أقوى سماء القرية، فانتفخت أوداج المرأة بينما قال الرجل:
- أنا ذاهب.
وهو يشعر بسكره يذهب عنه بعيدًا، وبيده المشلولة تنفض عروقها.
قالت الأم لولدها:
- ذهب أبوك ليحضر خرطوش الصيد.
انفرجت شفتا اسكندر، وانحنى مرتبكًا في جلسته. مذ خرجت، وهو يجلس مصلوبًا على الأريكة، كان اليهود يشغلون له باله.
- وأنا؟
- وأنت ماذا؟
- أقول لك وأنا؟ ماذا عني؟
منعت الأم شهقة، وراحت تنظر إليه بعين خاضعة يثقب سماءها المصقولة انفجار مكتوم، فتتهدم على نفسها، وتحاول القيام، لكنها تعجز. كانت أمًّا تعني مثاليتها، وفي ذات الوقت، لا ترفض انجرار عن مثل هذه المثالية وصمات.
- سننزل أنا وأنت وميشيل إلى القبو، ريثما يتبعنا أبوك.
تطلع اسكندر من خلالها إلى تلك الرأفة اللامهضومة، رأفة أم تبتهل في صدرها من أجله، وقال: يا لها من أم تعسة تصارع قدرنا كلنا!
- فهو الحل الوحيد.
عادت الموسيقى تصدح بنوع هازئ متخاذل، فصاحت الأم بحنق أقصى:
- يا ميشيل!
- نعم، يا ماما.
- أتريدني أن أحطمه لك؟
- لا، يا ماما.
- إذن أطفئه، أطفئه، وإياك أن تعود إلى إشعاله ثانية.
تهامس الطفلان، نقلا على أيديهما البك آب والأسطوانات، نزلا الدرج إلى القبو، وأوصدا على نفسيهما الباب بالمفتاح.
- أفت! كم هذا مفتت للأعصاب! كم هو طفل أحمق!
كان اسكندر لم يزل ينظر إليها، وفي عينيه تنحت سكين مجنون. سمعها تضيف:
- بإمكاننا الاختباء لبعض الوقت، ريثما...
وصمتت.
- ريثما ماذا؟
أهاجت قسماتها زوبعة عمياء، فراحت تردد:
- لست أدري، لست أدري... (ثم أضافت كمن تبحث لنفسها عن عذر): كلنا حمقى اليوم، لا يمكننا التفكير كما يجب!
رفع اسكندر ساقًا، وحطها على ساق، وعلى حين غرة، هبَّ ناهضًا، كأنما جاءته فكرة مفاجئة، فسألته:
- إلى أين؟
لكنه عاد... يتراخى.
قالت الأم:
- كان من اللازم أن نرحل منذ ثلاثة أيام على الأقل كي ننفذ بجلدنا، وما يزيد بالى انشغالاً أن أختك إيفون في القدس عند خالتها منذ ما قبل الحرب، وانقطعت ما بيننا كل صلة. يا ليتها لم تذهب، هكذا نكون، على الأقل، كلنا معًا.
- على الأقل.
- نعم، على الأقل، لكن... (وترددت): لكن القبو ليس بالحل المعقول، ولربما تركونا على حالنا.
أعطته ظهرها، وخفت ذاهبة، فصاح من ورائها:
- يما!
لم تلتفت إليه، أطرق مفكرًا إلى أن سمع طرقًا على الباب الخارجي، فانطرق باب قلبه، ثم انفتح، وراح يصر على الرزات. حصل انفجار هائل دك صداه جدران الحجرة، فالتفت اسكندر إلى نفسه، وهمس: إلى متى أنزوي وحدي هنا، بينما هم في الخارج هناك؟! أكد أنه هو أيضًا يرقب قدومهم. وبأية طريقة؟ وبأية فكرة ممكنة؟ وبأي فعل معاكس؟ وبأية عيون؟ نعم، بأية عيون؟ جرفته حمى الانتظار، كان ينتظر من الحركة أمرًا. لكن أباه الشيخ ذهب ليبحث عن حزام أو حزامين من خرطوشه: كل ذخيرته! حفنة من طلقات الصيد! وهو يجلس في ركنه منتظرًا أمرًا. فكر بغضب: كيف يمكن البقاء بين الجدران؟ التفت إلى ساعته، وقال: لم يحن موعدي بعد. كان بين جدرانه بانتظار موعده، وما أن مضت دقيقة، أو بعض دقيقة، إذا بحجر يسقط في فراغ الحجرة، تبعه حجر آخر، فاتجه اسكندر نحو النافذة، ورأى أحدهم يشير إليه من وراء سور قصير. خف اسكندر نازلاً درجات بيتهم الداخلية، وهو يقفز ثلاثًا ثلاثًا، وفتح الباب القديم، بينما جاء الرجل إليه:
- الجميع في المقهى.
- حسبت أن موعدنا في المساء.
- انقلبت الأمور رأسًا على عقب بعد أن احتل اليهود القدس. هل ستأتي؟
- طبعًا سآتي.
- إذن هيا بنا.
حث اسكندر خطاه، ثم تعثرت قدمه، وهبت نسمة ناعمة حركت شعره على جبينه، فالتفت ينظر إلى دارهم، وتطلع طويلاً إلى الشرفات.
- هيا، يا اسكندر، ليس لدينا وقت، سيحتلون القرية بين لحظة وأخرى.
كان قد ترك أخاه الصغير هناك، والموسيقى، وارتماءه الذي لم يحصل عليه في حضني أمه وأبيه. وكان قد ترك هناك بصماته على الجدران، وأنفاسه في الوسائد، وأطياف الشموع التي أذابها عند قدمي العذراء. لقد ترك كل شيء، وها هو الآن يعدو بعد أن انتزع نفسه من عينيه. كان في انتظار فقط طوال الوقت، وقد حانت لحظة اللقاء الشاددة إياه إلى صميمه. إن موعده كان قائمًا منذ زمان، منذ ما قبل حرب الستة أيام، ما قبل حرب 48، ما قبل الحرب العالمية الأولى، ما قبل أن يأتي جداه إلى العالم. إن موعده كان في جهة ما، وكان لا يمكنه أن ينتظر أكثر، وقد حان موعده.

* * *

(( أنا أحتسي قدري مع آخر مجد! ))
كان في مقهى القرية جمع غفير من أناس هرعوا إليه كي يحتسوا قدرهم مع آخر مجد! لم يكن باستطاعتهم البقاء في بيوتهم، فقد اعتبروها نذالة، ومن الجبن. وكانوا يجلسون في مجموعات متلاصقة، تغلفها قشرة هشة من رماد لا يمس، وقد ازدحم بهم المكان بحيث احتل بعضهم الطاولات المفروشة تحت العريشة. كانت تجمعهم فكرة عن الحرب التي خسروها، عن الهزيمة، والاحتلال الذي يأخذ طريقه إليهم. وكانت، في الحقيقة، فكرتهم تلك تاريخية، وهم أيضًا تاريخيون، وكذلك كؤوسهم، وشوارب بعضهم المشوكة، ورائحة أحذيتهم المصمغة، وحتى تنهداتهم المشومة، والتي يتنازعها توتر الأعصاب. كانت تلك كلها جزءًا من التاريخ، وكان حول طاولة قصيرة في الزاوية يجلس حنا ومحمد، وهما يعبان الخمر، وهناك عجوز أسمر، له بشرة من البرنز وعينان صغيرتان مستديرتان كعيني فرخ، اقترب منهما بكرسيه، وراح يلوك ضحكه بين أسنانه، ثم فرقع بلسانه، وقال بخشونة:
- أيها الفأران! كأنكما وزيرا حرب، أيها الفأران!
استدار محمد برأسه الصغير المدور إليه، بينما تكوم شعره الخشن الأسود على جبينه، فأضفى عليه سحنة خاصة. قال محمد للرجل، وهو يشعر بالإهانة:
- هذا يضحكك، يا شيخ المهزومين!
انتفض الرجل، نقل كأسه بيده، ونهض: كان رنين اللقب لا يتوقف صداه في إذنيه، فراح يقذف ملوثًا بكلماته العالم :
- شيخ المهزومين! شيخ المهزومين! ستقول لي هذا متى حضروا!
وانحنى على نفسه، بعد أن تقوس كتفاه النحيلان، إلا أن محمدًا نبر:
- أنا أقول لك هذا أمام الناس جميعًا.
تعثر الرجل، جاء بوجهه الكهل من فوق رأسه، وأخذ يردد بآهة آسية:
- في الأخير، نعم، في الأخير!
بدأ الرجل يهتز على وقع الكلمات كمن يرقص، وحنا يفكر: هذه آخر مهزلة! فهو لم يعد يطيق أن يرى أحدهم يرقص، وعلى الخصوص، عندما تصاحب كلماته نغمة. كانت الأصوات في المقهى كلها رخيمة، وكانت هناك ما وراء الكروم انفجارات متقطعة يتبعها دوي هائل.
- ماذا، يا بابا؟ قل، ماذا في الأخير؟
جاء من خلفهم صوتٌ صاحٍ، متماسكُ النبرات:
- أمسكوا أعصابكم، يا جماعة... هذه تعني كل شيء، أصوات القنابل.
التفت العجوز إليه كمن أصابه مسٌّ في دماغه، بينما تئن كأسه المعصورة بين أصابع منحوتة بإزميل مستسلم، وبعناد طفل يظل خاضعًا لمتطلباته، وهموم كاتمة لمأساتها، مأساتها هي، ذاتها، دون غيرها، والصوت الصاحي لم يزل يقول:
- فلا داعي للتنابز! إذ أنها لحظتنا الحرجة، كما ترون!
لم يتمالك العجوز:
- ليست لحظتنا! ليست لحظتنا! ليست لحظتنا بقدر ما هي سخامنا! هكذا من الواجب عليك أن تقول، سخامنا!
رأوه يتمايل، لكنه كان يبدو عليه، في ذات الوقت، أنه يحتفظ بكامل وعيه:
- إن لحظتنا يمكنها أن تكون هناك، على الجبهة، وقبل الهزيمة لا بعدها، بينما بين يدي كل منا مدفع أو بازوكا (تمالك الرجل، جرع كأسه حتى الثمالة، ثم أنهى): إذا كانت هذه لحظتي، فأنا ممحون لحظات!
طلب حنا، ووجهه العريض تميع قسماته:
- هدئ رُوعك، يا شيخ عبد التواب!
التفت إليه، وهو يرفع يدًا متوترة حتى مستوى الكتف، وندت عنه صيحات مختنقة:
- ستقول لي هذا أيضًا متى حضروا.
هتف صاحب المقهى من وراء منصته المرتفعة:
- اقبضوا على بيضات بعضكم، هيا! انهضوا، وتعاركوا، كي نرى لمن الغلبة (عتمت ملامحه وراح مجمجمًا): قلة حياء!
انكفأ العجوز، واتجه نحو طاولته محني العنق، مرخي الحنك، وهو يهمهم لنفسه:
- عدوها مزحة، كما شاء لكم، كهذه الحرب التي خاضوها على حسابكم، مزحة سمجة، نكتة بائخة!
اقترب شاب منه، ووقف مواجهًا إياه، ثم مال عليه، وقال له شبه هامس:
- من الأفضل أن تعود إلى دارك، يا عبد التواب.
سأل عبد التواب متفاجئًا:
- من؟ أنا؟
- نعم، أنت! من الأفضل أن تترك المقهى، وتتوقف قليلاً عن الشرب، فهذا مؤذٍ للصحة!
ضرب العجوز كفًا بكف، ثم طرقهما على قفاه، وقال جاهرًا بصوته:
- تسلمون القرية، وتريدني أن أعود إلى داري، هاه! يا معين، يا الله المعين!
صاح الشاب، والدم يلهب صُدغيه:
- أنت مجنون، يا عبد التواب، أنت تخرف!
ثم تمالك:
- أقول لك عد إلى دارك، ولتترك المقهى على التو.
لكن العجوز عاد يأخذ مجلسًا وراء طاولته، ونادى بتحدٍ على الساقي:
- يا ساقي... احضر لي كأسًا أخرى من خمرك المستطابة!
انحنى الشاب، قبض عليه من خناقه، وأنهضه، ثم أدناه منه، وأخذ ينفخ في وجهه، وعيناه تصرخان في عينيه:
- ستغادر المقهى! ستغادر المقهى!
بينما أخذ العجوز يخبط بقدميه ويديه:
- اتركني! اتركني! يلعن دين! اتركني!
- سوف تعد إلى دارك.
نزل صاحب المقهى عن منصته المرتفعة، وجاء في محاولة للفصل بينهما:
- دعه على راحته، إنما من اللازم عليك أن تدعه على راحته، دعه، يا رجل!
- لن أدعه! قم!
ونفضه بين يديه، فارتفع كالصوص.
- دعني! دعني! يا عرص! دعني!
لكنه سحب العجوز، والعجوز يصرخ، ويشتم:
- يا عرص! دعني! دعني! أكاد أختنق!
نهض عدد من الرواد، التفوا بهما، وراح كل منهم يدافع عن العجوز من طرف، بعد أن مدوا أذرعهم لإنقاذه، وهم يصيحون:
- دعه! أما قوانين جديدة! أهذا ما تفعله الحرب فينا؟ امسكوا أعصابكم، يا جماعة! هذه حماقة كبيرة! تكاد تخنق الكهل! دعه وشأنه!
خلصوه من قبضته، فزفر العجوز، وأطلق شتيمة أخيرة:
- يا للعرص المعتوه!
- طيب! لقد خلصوك من بين يديّ، وسنرى بعد قليل من سيخلصك من بين ((أيديهم )).
قال صاحب المقهى:
- وماذا تقترح عليهم أن يفعلوا في المسكين؟
- طيب! سنرى!
راح العجوز يقهقه:
- هيا، هيا، انفذ بجلدك ! (ثم نبر): أما أنا، فسأبقى هنا!
وضرب الأرض بقدمه معيدًا:
- هنا!
انحنى الشاب بذل، وظهر كمن يعزي نفسه:
- لقد قمت بواجبي، هذا هو المهم، لقد قمت بواجبي، وأنت هو من رفض.
سأله أحدهم من طرف:
- ومن أوكلك بأمره؟ ليس لأحد اليوم أمر على أحد!
تطلع الشاب إليه مليًّا، ثم تجاهل كلماته. راح الشاب يقول لنفسه: بالطبع، ليس لأحد اليوم أمر على أحد! بالطبع، بالطبع، فهذه هزيمتكم، وهذه فوضاكم، وعما قليل، سيأتونكم بعصيهم، كي يعيدوا تنظيمكم من جديد، ولن يتأخروا لحظة واحدة عن طرق من يعصي أوامرهم على قفاه! وتوجه بكلامه إلى العجوز:
- لقد قمت بواجبي، وما سأفعله، سأخبر زوجتك برفضك، ولن تراها أبدًا بعد اليوم، سأذهب بها عند ولدك توفيق في عمان.
لكن العجوز عاد إلى طاولته غير مبالٍ بما سمع، فحنى الشاب هامته، وبان عليه التردد، وفي الأخير، انتزع نفسه، وغادر المقهى.
قال العجوز للساقي، وهو يخبط بكفه على الطاولة:
- خمري، أين خمري؟
هرع الساقي إلى رفوف من الزجاجات مصفوفة، بينما صارت الانفجارات تتتالى كخيط لا ينقطع. جمع حنا على صدره العريض ذراعيه القصيرتين، وقال لمحمد:
- اسمع!
أصغيا إلى خيط الانفجارات في الخارج، وحنا يضيف بنبرة محذرة:
- يقصفون مخيم اللاجئين على المرتفعات قبل أن يجيء دورنا!
لملم محمد نفسه بخشونة، ونهض إلى النافذة، راح يتطلع من أعلى أعناق أشجار الدراق والمشمش، ولكنه قال:
- لا فائدة هناك، الأشجار تحجب الرؤية، ثم، المرتفعات في ناحية الشمال.
التفت إلى حنا، وهو يبدو مطحونًا، في عينيه انفجار، وعلى شفتيه بقية لحريق. فجأة، جاءهم صوت ربيع من طرف:
- تقبعون هنا، بينما لا تفعلون أكثر من أن تسمموا أنفسكم! (أشار إلى زجاجات الخمر المغلفة بغلاف من الغبار الواهن): هذه سموم! سمومنا جميعًا!
كان الأبرص يعب خمره، وعيناه تنفجران من شدة الاحمرار، ولونه القاني يغدو عنابيًا. لم يطق صبرًا، رمى على الطاولة كأسه، وراح ينبر في اتجاه ربيع:
- اخرس!
- لأن هذا جزائي!
- اخرس وإلا حطمت الزجاجة على رأسك!
جاءه ربيع، وذهب في تحد يقول:
- اضربني، هيا، اضربني، فهذا يوم الشجعان! لكني أعرف أن في أقمطتنا أجساد الحرادين!
حمل الأبرص الزجاجة بأصابع راجفة، وراح يهزها في وجه ربيع مهددًا، وهو يرميه بنظراته الحادة، فارتد ربيع عائدًا إلى مكانه. ترك الأبرص الزجاجة على الطاولة، وفي خياله يموج بحر الخمر الأصيلي. قال ربيع بعد أن لاحظ هدوءه:
- أنا أعرف لماذا تسكر، لماذا يسكرون كلهم!
عاد الأبرص يرميه بنظراته الحادة، وربيع لم يزل يقول:
- ولكني أتساءل، ممَ تحاولون الهرب، يا ترى؟
قبض الأبرص على الزجاجة من بطنها، وحطم عنقها على حافة الطاولة، فاندلق الخمر، وراح يصيح كمن فقد التحكم بنفسه:
- أنت تثيرني، أنت تثير لي أعصابي!
خف الساقي يمسح الخمر، وتقدم محمد منهما بعد أن آذاه أن يرى أصابع الساقي، وقد تلوثت بلون الجريمة.
- أعطني هذه.
جذب الأبرص الزجاجة على صدره، لكن محمد أخذها منه، والأبرص، يقول بصوت منخفض:
- نحن في غنى الآن عن كل سؤال، نحن نحتسي خمرنا، وكفى!
أخذ العجوز يدندن أغنية قديمة لعبد الوهاب: (( رأيت خياله في المنام، ما احلاه، يا وعدي! )) وبدأ يوقع بأصابعه على الطاولة تبعًا للنغم. فجأة، توقف، وأخذ يقهقه كالأبله. ثم التفت إليهم، وسأل:
- لماذا لا تصفقون، يا جماعة؟ صفقوا، صفقوا!
أعاد مقطع الأغنية من جديد، لكن أحدًا لم يصفق. رأوا دمعه تسيل مهلاً على وجنتيه المحفورتين، استدار بكرسيه، وبدأ يخاطبهم كأنما هو يستجديهم:
- الكرمات، يا جماعة، الكرمات!
جاءه صاحب المقهى، وراح يطبطب بيده على ظهره:
- لا تبكِ، يا عبد التواب! لا تبكِ!
انتزع تلك اليد المهزومة كمن ينتزع عن أصابع الساقي لطخات الخمر، ونبر:
- لا تهدهدني كالطفل، أنا لست طفلاً! فاهم؟
- لا تبكِ، يا عبد التواب!
راودت عبد التواب صيحة فرح، لكنه خلالها في صدره كي يستهلكها وحده بأناة، بروية، وبحكمة، وصاحب المقهى لم يزل يردد:
- لا تبكِ، يا عبد التواب!
توقف العجوز عن البكاء، وقال لحنا الذي لاح عليه التأثر والتوجع والتفكير معًا في فوات الفرصة:
- لا تبتئس، يا حنا، يا ولدي حنا، خليها علينا! أما عن الكرمات، فلسوف يحرقونها عما قريب. وهذه النعمة (أشار إلى كأس الخمر) من أين سنأتي بها بعد ذلك؟ هذه نعمة، يا حنا؟ بيعها يساعد بعض الجيوب، ولها على الأقل، فعلها النفسي. كانت الأحزان، يا حنا، دومًا جزءًا من كبدنا، فكيف تريدنا أن نقهر الأحزان، وأن ننساها، إذا ما أحرقوا الكرمات، وأشعلوا خمرها؟ هذا خمرنا، يا حنا، ومع ذلك، فما بقي منه لا يعدو أكثر من بضع كؤوس معدودة.
قهقه عبد التواب قهقهة ناحلة فيها من الألم ما جعلها تتصادى في آذانهم المثقلة بنشوة الخمر، بنشوة أخرى ليست منشودة، وفي ذات الوقت، ليست مستساغة، ليست مستساغة على الإطلاق، ولكنهم أخذوا يجولون معها بكراهية تعني ودهم.
دخل اسكندر المقهى لاهثًا بصحبة صديقه، وقد تقدمه غصنٌ لينةٌ أطرافُه، لم يجف بعد نسغُه. تقدم حتى منتصفهم، وراح يحثهم بكلمات متتالية الوقع والحروف:
- هيا، اذهبوا جميعًا، وخذوا أسلحتكم!
نظروا إليه بعين بلهاء متخاذلة، مما جعله يهز في قبضته الغصن، ويصيح:
- يا للحمقى الملاعين! أحدهم لم يتحرك!
وبطرف الغصن نكس كأس عبد التواب، فانقلبت محطمة. التفت إليه العجوز راضيًا تمام الرضاء، وأخذ يصفق، ثم قال له كمشجع غيور لفريق لعبة كرة القدم:
- أحسنت الهدف! أحسنت الهدف!
وانفجر يقهقه وسط صمتهم، فدق اسكندر قدميه القصيرتين في الأرض كأنه داخل في حلبة صراعه الأخير، وخصلة شعر على جبينه العريض تهتز بتواصل. أحس عبد التواب بدبق قهقهته، قهقهة ليست في محلها، فزحفت على محياه ديدان بطيئة الحركة، وراح يفكر بأسى: آه، يا لضلالي، يا لضلالي! جذبته من خناقه خصلة شعر الشاب المهتزة، والعنفوان البطولي المتجاذبها، المتعارك معها، حتى غمرته ثورة غريبة، أخذ يصعد في صدره شعور وطني، أحس بتقواه، بشموخه، وبكل معاني الشرف المجبولة فيه. نهض العجوز إليه بقدم مترنحة، ووقف من أمامه كمن يبتهل:
- من أين جئت به، يا ولدي؟ قل لي من أين؟
فضاعف السؤال من هيجانه:
- يا لك من عجوز أحمق، يا عبد التواب!
- أعرف يا ولدي.
- ما عليك سوى أن تتسلق جدار أول حقل، وتهبط لتمنعك أغصان الأشجار، وكل ما تفعله أن تقصفها.
- أهذا كل ما هنالك؟ بسيطة! وسأختار أعظمها ضخامة!
أعطاه ظهره إلى باب الخروج، فقفز صاحب المقهى موقفًا إياه:
- وماذا سيجدينا ذلك؟ هذه حماقة، لن يجدينا ذلك شيئًا!
نفرت عروق اسكندر، وتوترت أصابع ربيع، وصاح الأبرص من طرف:
- نعم، نعم، لن يجدينا ذلك شيئًا!
كان في صوته تراخٍ وتخاذل، ورائحة الخمر النافذة تفوح من فمه. قال اسكندر للأبرص بنبرة متماسكة:
- أحد لن يطلب إليك المجيء إذا أردت البقاء جالسًا في مكانك حتى تهلك!
نبر الأبرص، وهو يبسط كفه على الطاولة:
- أنا أسالك أنت بالذات، ما الذي سيجديه غصنك هذا، ما الذي سيفعله هذا الغصن القميء إذا ما تصدت له بنادقهم؟ إنه لمن الجنون أن تدافع عن قرية بغصن، ومن الغباوة، وهأنذا أقولها بكل صراحة على مسمع الجميع!
لم يتردد اسكندر عن التقدم باتجاهه، كان يرتعش، وكانت التفاحتان في خديه تتفجران احمرارًا، وقد انجرحت شفتاه إثر القصف الذي أحدثته الكلمات بعد أن راح ينتزعها:
- أن نستسلم لهم، أهذا ما تريده؟ أن نقدم أعناقنا هدية لمذبحة قريبة، بدافعٍ من القناعة بالكأس وحسن النية! (وراح ينبر بكل القوة التي يستطيع عليها): إنك مقتول يا الأبرص، إن بقيت هنا، أو إن جريت صوبهم بغصنك على أساس أنه سلاحك الوحيد، ولكنك به ستدقهم على الأقل، تنغز قلب أحدهم، توجعه، وتجعله يصرخ حاقدًا عليك.
تضاحك الأبرص، وقال هازئًا:
- اسمعوا، اسمعوا، لقد روى الطفل حكايته!
لكن العجوز عَيّره:
- مهزوم، مهزوم!
دوت كلماته في رؤوسهم المسكورة، وسمعوا الأبرص يقول ببساطة مفزعة:
- هذا لا يعني شيئًا.
صاح محمد:
- بلى! إنه يعني نذالتك وكرهك لنفسك ولنا ولأرضك ولكرمات عبد التواب.
- كفى، كفى، كفى.
- إذن، ابقَ في مكانك، واكشف لهم عن بيضاتك كي يقطعوها لك بسكاكينهم.
قال حنا بشيء من التعقل:
- وعد ضابط المخفر بأسلحة يعطينا إياها، فما رأيكم لو ذهبنا إليه، وطلبناها منه.
أجاب اسكندر:
- لقد هرب ضابط المخفر.
- هرب!
- لقد هرب منذ مساء البارحة.
مما جعل الأبرص يقهقه، تراخى على كرسيه، مدد ساقيه، وراح ينشد:
- هاربون ... هاربون ... إننا هاربون!
انقض محمد عليه، ونتعه من خناقه:
- أيها الانهزامي! سأحطم عنقك إذا ما عدت إلى قول هذا ثانية!
صفقت أوداج الأبرص، وماعت نظرته حتى انغمرت بالعار.
- هيا، اخرج من هنا، إننا لا نجالس انهزاميين في (( مقهانا )).
رفعه بين قبضتيه حتى أوقفه، فتلفت الأبرص حواليه، رآهم يحدقون فيه بعيون تحديهم وصبرهم، وكم وجدهم لحظتذاك جميلين. لكنه جمع نفسه، وحث الخطى، تاركهم.
وقف محمد إلى جانب اسكندر، وتجمع من حولهما حنا وربيع وعبد التواب والساقي وأربعة آخرون، بينما انتصبت رؤوس سائر من كانوا يحيطون بالطاولات صوبهم. غدا الدوي في الخارج يصلهم بطريقة مستفزة، وبين انفجار وآخر يغدو صداه أكثر عنفًا وأكثر قربًا.
قال اسكندر:
- المطلوب أن تنظموا أنفسكم، يا جماعة، وأن تحضروا بعض الأدوات التي يمكن أن تكون أشد مقاومة ومفعولاً من الأغصان. مثلاً من عنده مسدس أو بندقية صيد، فليذهب لإحضارها (كان معظم الذين في المقهى قد نهضوا، وجعلوا حلقة من حوله) والسكاكين الطويلة ستكون نافعة، وأيادي الهاون، والعصي، والمناجل، وسائر أدوات الحقل.
دوي انفجار قريب منهم، فتوجه اسكندر إلى حنا:
- لديك دراجتك، اركبها في الحال، واذهب في جولة استطلاعية، اكشف لنا عن آخر نقطة يقف فيها العدو ناحية المرتفعات، وقل لنا إذا ما كانوا قد أخذوا الطريق العام لاحتلال القرية (كان دَقُّ مدافع الهاون قد بات يأتي متواترًا) إن أخوتنا يقاومون في المخيم، وأشك في أن اليهود يتحركون صوبنا الآن، وفي حال ما أن يتوقف القصف، سنفهم أنهم بدأوا النزول إلينا. وعلى كل حال، اذهب، يا حنا، لتنفيذ مهمتك على عجلة. (فتح حنا طريقًا بين أجسادهم المتلاحمة، وبعد أن أبعدها قليلاً، عادت تلتصق بوثاق أشد من الأول) سيذهب كل من لديه أداة من الأدوات التي ذكرتها لإحضارها، ومن سيحضرون معاولهم وفؤوسهم عليهم أن يتجمعوا بأقصى سرعة في ساحة القرية كي نقطع الطريق الرئيسي الصابب هناك بخندق يؤخر زحف مشاة العدو، وسنفاجئهم. صحيح أن قريتنا في ظنهم عاجزة والطاهرة ومجردة من السلاح المادي والمعنوي، ولكننا سندحض هذا الظن بصمودنا، وبهذا نكون قد عملنا على تأجيل احتلالهم للقرية بضع ساعات تلزمهم ليبعثوا في طلب مصفحاتهم. ستكون للعدو ردود فعل عنيفة، لكننا لن نستسلم له بالهين.
توقف اسكندر عن الكلام قليلاً، ثم قال لهم بصوت دافئ، على الرغم مما صاحبه من دوي هائل:
- لقد حانت ساعتكم، أيها الرجال!
انقسموا إلى مجموعتين، ثم خرجوا يتدافعون، بعد أن استعادوا أنفاسهم اللامسكورة، في الطرقات الضيقة.












18
كانت الشاحنات الملأى بالمنتصرين تتقدم واحدة تلو الأخرى في الطريق العام، وكان جنود العدو في كل زاوية، والمصحفات المدرعة قرب كل باب. وفي اللحظة التي توقفت فيها الشاحنات، أخذ المنتصرون يتدافعون عند نزولهم منها، ويتقاذفون، وهم يطلقون الصيحات المسكورة، كأنهم الديدان الثملة، واتجه معظمهم نحو السوق التجاري.
صاح السمسار بيعقوب، ويعقوب يرتدي لباسه المدني:
- ادفعهم، ادفعهم!
دفع إحداهن، لكنها أمسكت بذراعه، وعضتها، ويعقوب يصرخ من الوجع:
- يا ابنة الكلب!
والمرأة تضربه بعد أن عضته:
- خذ، خذ، خذ!
إلى أن تمكنت من التخلص منه.
رأى السمسار يعقوب، وهو يندفع عاديًا، فاندفع يعدو من ورائه. وجد نفسه يعدو بقدم خفيفة، كأنما لم يكن هو ذاته. شاهدهم يحطمون ستارات الدكاكين، وأبصر عجوزًا يحمل على ظهره محتويات إحداها، ويعمل منها هرمًا على الرصيف، والسمسار لا يني يردد:
- اجرِ، يا يعقوب، اجرِ، يا قدم الغزال!
وسبقه.
كان المنتصرون في عيد حشرهم، في يوم قيامتهم، وهم لا يلحقون أنفسهم في التصرف بأمر تلك البركات المجانية التي منَّها الله عليهم. توقف السمسار قرب إحدى الدكاكين، وأهال بقبضته على ستارها، حاول أن يرفعه إلى أعلى، لكنه أبى أن يستجيب له. بدأ السمسار يقذف الستار بقدمه قذفات لا شعورية، مبعثها نصره الساحر وطمعه المثالي، لكنه في الأخير، عرق، وزفر، وراح يشتم، ويدمدم:
- آه! يا لحظي التعس! يا لحظي التعس!
جاء يعقوب، وأخذ يضرب الستار الحديدي بكتفه، ويقذف عليه قبضاته، وعندما عجز، نادى السمسار:
- تعال، يا سمسار، تعال نتساعد، وإلا أخذوا الدكان منا.
أخذ الاثنان يضربان كتفيهما في الحديد، والحديد صلب وعنيد. نفخ السمسار:
- أفت! لقد تعمدوا ذلك، أقسم لك!
- هل هم، يا ترى، يجذبونه من الداخل!
- إن العرب القذرين يفعلون كل شيء في سبيل أن يمنعونا.
- تعال إذن، يا سمسار، وجرب مرة أخرى.
قذفا الستار بقبضاتهما الرصاصية، ولكنه كان الأقوى. جذب السمسار أحدهم يمر بهم، وبيده ينقل فأسًا.
- ساعدنا، يا أخ، ساعدنا، أعطني الفأس لحظة واحدة.
جحظت عينا الرجل، وحدجه بحقد، ثم انتزع نفسه من تلك القبضة الراجية، وهتف:
- ابعد عني!
لكنه سحبه من ذراعه، فهدر الرجل:
- ابعد عني، ابعد عن طريقي!
عاد ينتزع نفسه من القبضة الراجية، وراح يجري:
- يا لليهود الملاعين! لا يمدون يد العون لإخوانهم!
ويعقوب لم يزل يسدد ضرباته إلى الستار الحديدي، ويقول:
- تعال، يا سمسار، لقد تحرك قليلاً.
إلا أن السمسار قد وقع بعينه على مخازن (( عصفوركو )) في الطرف المقابل: ثلاثة أبواب كبيرة تشرئب بأعناقها إليه هاتفة: نحن مخازن شكيم العظيمة التي يحلم بها يهودي مثلك. نقل قدمه بسرعة، وذهب يقطع الطريق إليها، إلى حلمه، ذاك الحلم الملعون الذي بعثته فكرة مجنونة بثها هارون في دمه.
صاح يعقوب لهفًا:
- يا سمسار، يا سمسار، إلى أين أنت ذاهب، يا سمسار؟ قل لي، بحق الشيطان!
لم يلتفت إليه، أخذ يصرخ، وهو يضرب بقبضته الستار، وانفجر فجأة يقهقه. قفز يعقوب لاحقًا به، فاصطدم بقائد الدرك، وهو في لباسه المدني:
- انتبه، يا يعقوب!
لاحظ يعقوب أنه يرفع بين يديه بندقية تنتهي بحربة فضية تنعكس عليها أشعة الشمس.
- إذن، هذا أنت!
- مثلما هذا أنت! والسمسار ذاك هو!
حط قائد الدرك قدمه في الأرض، واندفع يجري، فصاح يعقوب من ورائه:
- حظ طيب!
لكن قائد الدرك قد ضاع بين الجموع.
انحنى السمسار أمام أحد الجنود الذين يقومون بالحراسة، وطلب متوسلاً:
- ساعدنا، يا أخ، ساعدنا، بعض العون!
وسحبه من كتفه، فتحرك الجندي تلقائيًا تحت تأثير أصابعه.
- إن اليهود لليهود، أليس كذلك؟
لم يجبه الجندي، فراح يعقوب يردد:
- هذا، فقط هذا!
مشيرًا إلى القفل.
- إذا كان بإمكانك تحطيمه.
دوت طلقات من الطرف الآخر، فالتفت الجندي، وهو يكشر، وعندما لم يجد ما هو (( مسيء ))، حرك قامته الميكانيكية، وحط فوهة بندقيته في القفل. كان أحدهم يمر على مقربة، وهو يصيح:
- تحيا إسرائيل! يحيا (( تساهال! ))
التفت يعقوب إلى الرجل، وجده يجمع ذراعيه حول كيس ضخم شده إلى صدره مليء حتى فوهته بثياب من الحجم الصغير. فكر: للأطفال! ثياب للأطفال! كم هو أبله!
أطلق الجندي رصاصة، والسمسار يشد أذنيه بكفيه، ويرجع خطوة إلى الوراء. ورصاصة أخرى، ثم انقض ثلاثتهم على الباب، وبدفعة قوية، انجر متقهقرًا. صاح السمسار بأعلى صوته، إشارة للفرح، وضم يعقوب إلى صدره، ثم تحرك يريد الدخول، فأمسكه الجندي من ذراعه:
- إلى أين؟
- إلى دكاني، هذه دكاني، أيها الجندي!
- إذن هكذا!
دبت في أوصال السمسار قشعريرة، وأخذ ينبر في وجه الجندي:
- اتركني، أيها القذر، اتركني!
لكنه جذبه إليه، ووضع فوهة بندقيته تحت ذقنه. حط يعقوب يده على كتفه، ورجاه، وابتسامة دبقة تسيل من فمه:
- ليست هذه طريقة للتفاهم.
لفت الجندي رأسه إليه، وهدده:
- الحصص على ثلاثة، وإلا أقفلت الباب، وطردتكما.
والسمسار لم ينفك يردد:
- اتركني، اترك ذراعي، أنت تؤذيني بنذالة!
سحبه يعقوب من كتفه، فترك السمسار، وهو لا يكف عن إرسال الشتائم.
- كما قلت لك، الحصص على ثلاثة، قسمة تعادل.
قال يعقوب:
- سيكون لك ما شئت.
أخذ السمسار ينبش بقدمه الأرض، وهو يصيح:
- إنها دكاني! إنها دكاني!
تقدم منه يعقوب، وانتهره غامزًا:
- اقفل فمك، وإلا حطمته لك! لقد قدم الرجل لنا عونًا!
استكان السمسار، ودخل الدكان، بينما توجه يعقوب إلى الجندي:
- اذهب، وقم بالحراسة، وامنع كل من يريد الدخول، وسيكون لك ما أردت.
استدار الجندي، سار خطوتين، ثم توقف:
- عندما تتدبران أمركما، سأحضر شاحنة كبيرة.
ابتسم له يعقوب بمودة.

* * *

تمدد الطاهر وعدنان من وراء سلاح رشاش على سطح إحدى بنايات السوق التجاري بينما قبض شريف على بندقية أوتوماتيكية.
قال الطاهر:
- لقد حان الوقت.
أوقفه شريف:
- لا، انتظر، ما زالوا يتواردون.
التفت إلى عدنان بوجه محمر، وعدنان يقول بعينين مغيظتين:
- إن عيونهم تصرخ باغتباط لم أر له مثيلاً في حياتي!
همهم الطاهر:
- لنسملها، نعم، لنسملها لهم تلك العيون!
وفي نفس الوقت، كان شريف يردد:
- ديدان، ديدان!
هتف الطاهر:
- لنهاجمهم!
أوقفه شريف مرة أخرى:
- انتظر قليلاً.
كان عدنان ينقل على يده الشريط الرصاصي الذي سيدور بالمدفع الرشاش بعد دقائق، فيحصد القمح، ويقطف الزهور. بدأ الطاهر يداعب الزناد بإصبع قلقة، وشريف يفكر: ديدان، ديدان زاحفة إلى قلبه، فالموسم يبشر بالخير! تخيلها، وهي تهجم عليه من كل ناحية، كانت لها أفواه البشر، وكانت تصرخ متهللة.

* * *

شد السمسار إلى شفتيه مجموعة من الأحذية الجديدة، وراح يشمها، ويقبلها، وهو يردد شبه غائب:
- يا يعقوب... يا يعقوب!
وكان يعقوب قد جمع عددًا من الصناديق فوق بعضها البعض، وصنع بدروه هرمه الخاص به: أحذية، وأدوات نسائية، وألعاب للأطفال، وألبسة رياضية. تناول كرة كبيرة من البلاستيك، وقذفها بقدمه، وهو يقول:
- هوب ... لا!
والسمسار يردد مسحورًا.
- يا يعقوب... يا يعقوب!
جرى إليه دافعًا في أنفه مقدمات الأحذية:
- شم، يا يعقوب، شم، لها رائحة مسكرة، يا يعقوب، شم!
فراح يعقوب يشم الأحذية بشرود ونشوة.

* * *

لم يعد الطاهر يطيق صبرًا:
- لقد حان الوقت، لقد حان الوقت!
فلم يوقفه شريف هذه المرة، تركه يردد "لقد حان الوقت، لقد حان الوقت..." بينما أخذ عدنان يحدق في أذن شريف، فيرى أنها بيضاء صغيرة، صغيرة ومستعصية. تضاعف الخفق في قلب عدنان، ظل يحدق في أذن شريف البيضاء الصغيرة المستعصية، وبدأت تراوده رغبة، أن يقضمها بأسنانه.

* * *

- شم يا يعقوب، شم!
تناول يعقوب الأحذية، وأخذ يرقص، ويغني الأغنية الشعبية التي تقول: حبيباتي يذهبن كل صباح إلى الكيبوتس كي يغنين...
أخذ السمسار يرقص هو الآخر، ويفتح ذراعيه الواهنتين على الجانبين.

* * *

صوب شريف بندقيته إلى صدر الجندي الذي يقوم بحراسة محلات عصفوركو، وتحرك عدنان في جلسته، فلامس خصر الطاهر المنبطح جانبه. نظر إليه، فخيل إليه أنه جذع شجرة مكسور. طلب الطاهر بشفة متوترة:
- هيا، يا إخوان، فلتقرروا!
أعطاه شريف جوابًا بطلقة مدوية، تقوس إثرها الجندي، وخبط في الأرض. عندما اشرأبت الأعناق المذعورة إلى سطح البناية التي كانوا فوقها، هدر سيل النار في صدورهم، فتبعثروا، وتساقطوا، وصاحوا، وضرب بعضهم ببعض هارعين إلى الزوايا والطرق المجاورة.
لم يتوقف السلاح الرشاش لحظة واحدة عن الالتحام بالموت والضوء، تحركت المصفحات إلى حيث كانوا، وركض بعض الجنود إلى البناية المقابلة، وهم يتساقطون، وينطرح على الأرض اغتباطهم، لينفذ أو يشقى وحده بعيدًا عن تلك العيون المكتسحة بسحر النصر. كان السمسار ويعقوب قد سقطا في قرنة معتمة، وهما يضمان بعضهما، كل إلى صدر الآ خر، بعد أن هوى هرم الأحذية عليهما، ولبسهما. وصلهم من السطح المقابل رصاص العدو، لكن طلقاتهم بقيت طيعة طائعة، وكانت المصفحات قد رفعت فوهات مدافعها صوب البناية، وقذفت سعيرها، فهدمت طابقًا آهلاً بالسكان. نشب الحريق، وانطلقت صرخات إنسانية (( باردة )) لكنها كانت تتساقط كجبال الثلج العظيمة، فتندك هادرة، بعد أن تنهار في الدمار، ولم تزل طلقاتهم تنطلق طيعة وماهرة، والطاهر يهمهم بين أسنانه: كل هذا من أجل روحك، يا اللاجئ! كل هذا من أجل روحك! وعدنان يفكر: نجندلهم! نجندلهم! وقدم شريف الممدودة تعلو مع كل طلقة، ثم تنزل، تعلو مع كل طلقة، ثم تنزل. انحنى عدنان قليلاً على حافة السطح، وقذف أقرب المصفحات منهم بقنبلة يدوية، وبأخرى، فتحطمت جدران محلات عصفوركو، وشب فيها حريق هائل.
صاح يعقوب:
- يا سمسار، يا سمسار، الحريق، يا سمسار!
وقفزا إلى الضوء المهلك.
انهار الطابق الذي هم على سطحه، فصاح شريف:
- لحظة التراجع.
زحف شريف إلى الخلف، لكن الطاهر ظل يواصل تسديد طلقاته، فخفق عدنان بأصابع عصبية على كتفه:
- لحظة التراجع، علينا أن نتدبر أمر النجاة!
زحف عدنان من وراء شريف، كان شريف قد تدلى من الناحية الأخرى للسطح، وقذف بنفسه إلى سطح البناية الآخر، انحنى عدنان، ونزل حتى منتصفه. صاح بالطاهر:
- هذا يكفي، تدبر أمر انسحابك بسرعة!
وهو لم يزل يصليهم، يصليهم، وهو لم يزل يصليهم بناره.
- هيه!
عندما أراد الطاهر النهوض، قذفوه بمدفع هاون، فرآه عدنان يطير في الهواء، ويغيب في الركام.

* * *

وقفت حورية تحت النافذة الموصدة، فجاء الكلب، وصعد على سلسلة الحجارة المصفقة، وراح ينبح في وجهها، لكنها حطت يديها حول فمها، ونادت:
- يا أم حنا، يا أم حنا!
تقدمت خطوة، بعد أن أَنَس الكلب إليها، وخفف قليلاً من نباحه، وعادت تنادي:
- يا أهل الدار!
انفتحت درفتا النافذة فجأة، وأطل وجه امرأة عجوز.
ثغت العجوز:
- ليس في الدار أحد، رحلوا هذا الصباح.
- أنا أبحث عن جوزيف، هل رأيت جوزيف؟
لكن المرأة العجوز حدجتها بعينين مذعورتين، وعادت تغلق درفتي النافذة. كان الكلب قد توقف عن النباح، فاقتربت أم اسكندر منه، وراحت تحادثه:
- أنا أبحث عن جوزيف، فقد غادر الدار بحثًا عن خرطوشه، لكنه اختفى.
غامت عينا الكلب، وراح يطلق أنينًا مديدًا، ويلعق أصابعها بلسانه، وكأنه يبثها مشاعره القلبية. انقلبت حورية على عقبيها، وبدأت تجري في طريق الرجوع، وهي تصعد مع الطريق اللامعبدة، وتهبط مع هبوطها. أمسكت حورية بأحدهم جاء يعدو، فانتهرها:
- اتركيني... اتركيني...
- أنا أبحث عن جوزيف، هل رأيت جوزيف؟
لم يعطها الرجل جوابًا.
كان طفل يقطع الحقل جاء حال سماعه لصوتها، ووقف أمام السياج الخشبي المحطم، ثم سألها:
- أنت تبحثين عن جوزيف؟
جاءته لاهفة:
- وهل رأيته؟
- لم أره، ولكن، لربما كان في المقهى مع الجميع.
تركته، وراحت تعدو، فصاح الطفل من ورائها:
- إذا لم يكن هناك، فسيكون على التأكيد في ساحة القرية، إذ هم يستعدون للمعركة.
تعثر قدمها، ثم عادت تعدو، وأخذت زقاقًا جانبيًّا.

* * *

دلق السمسار الماء في الحريق، وراح يطوي عنقه، وهو يسعل بشدة بعد أن ملأ الدخان وجهه، وزحف الدغام في شعره. طلب إليه يعقوب:
- هيا، يا سمسار، لا وقت للسعال، أطفئ!
أخذ السمسار يقول بين سعاله:
- لا أستطيع، لا أستطيع، الدخان يكاد يقتلني!
- بلا دلع، يا سمسار، أطفئ!
قذف يعقوب دلو الماء، وجذبه من ذراعه. كان آخرون قد قدموا أنبوبًا مطاطيًا، وهم يطلقون الماء على الحريق، ولكن دون جدوى، إذ أن صولة النار كانت عظيمة. صاح السمسار بمن وقف مكتوف الأيدي:
- مدوا يد العون، الذي له أم يهودية، فليمد يد العون!
صفر أحدهم:
- كم الحريق هائل!
فقذفه السمسار بدلو الماء، وراح يشتم.
كان الجنود يحملون جثث القتلى، ويضعونهم في شاحنة. وفجأة، دب صوت سيارات الإطفاء.

* * *
قذفت حورية نفسها داخل المقهى، ليصدمها الفراغ، ولم تتمالك نفسها عن البكاء، جلست على أقرب كرسي، ووضعت وجهها بين كفيها، وراحت تجهش بالبكاء.

* * *

قال ميشيل لسليم:
- هذه زجاجات خمر.
كانت في القبو موسيقى حالمة، وكانت هناك جذوة شمعة تتراقص على النغم. رفع ميشيل زجاجة حتى أنفه، وشمها. قال سليم:
- إن أبي يصنعها كل سنة مباشرة ما بعد القطاف (ثم سأل): كم مرة شربت الخمر في حياتك؟
- مرة واحدة.
- مرة واحدة فقط!
- ولكني لم أسكر كأبي، إن أبي عندما يسكر يصبح كالعربيد، ولا يتوانى عن ضرب أقربهم إليه، وفي مرة، صفعني صفعة شديدة.
قال ميشيل، وهو يقدم منه الزجاجة:
- ما رأيك لو نأخذ جرعة؟
تردد الطفل، ولكن ميشيل دفع الزجاجة إلى يده:
- خذ، خذ، لنأخذ جرعة واحدة.

* * *

صاح يعقوب بالجنود المحيطين بشاحنة القتلى:
- لقد أثبتم أنكم على قدر كبير من الشجاعة، أيها الفئران الأشاوس! وهذا عار أن تتركوهم يقتلوننا ويفرون، ونحن في حراسة أسحلتكم الفتاكة!
تقدم منه أحد الجنود، وقال بسحنة مشمئزة من فعل الحرائق المنطفئة:
- أعد، أعد القول، هيا أعد، أنا لم أسمع جيدًا ما تقول!
والتهكم بادٍ عليه.
- سأعيد مليون مرة، وإذا لزم الأمر، بصقت في شاربيك!
- ماذا!
ناداه أحدهم، فأعطاه ظهره، وذهب، بينما أخذ يعقوب يقهقه:
- يا فئراننا الأشاوس! يا مغاويرنا الجبناء!

* * *

اندفعت حورية صوب الساحة، فرأتهم يقفون في دائرة، وحالما أحسوا بقدومها، التفتوا إليها، فصلبتهم تلك النظرة الطافحة بالرعب والعذاب. كانت تشق نِحْرَهم، وتجذب قلقهم، وصبرًا عتيقًا سقوا به أكفهم وشفتي الأرض. راحت حورية تدور بهم واحدًا واحدًا باحثة عن جوزيف، فلا تلتقي إلا برؤوس الفؤوس، وبأعناق السكاكين، وبالتنهدات المكتومة. رأت في أيدي بعضهم ذات البندقية، بندقية زوجها، وذات الخراطيش المغلفة بالورق الأحمر. كانت في صدرها قطة تبحث عن السلام، وفي ذات الوقت، عن رد العار بعار آخر دون أن تصل إلى نتيجة. جمدت قدمها أمام قامة اسكندر المتدفقة بقرارهم، وبإرادتهم، وقالت لنفسها: حتى هو! قبضت على قلبها، وفكرت: يراودهم حلم النصر، ولربما جملة أحلام عن رد العار والحرية! توقف خافقها لحظة عن الضرب العنيف، وتساءلت: أي نصر سيكون؟ ستستمر معركتهم لا أكثر من بضع دقائق، الوقت الذي يكسرون لهم هذه العصي، وبنيرانهم يذيبون هذه الفؤوس. ولم يكن عارها آنذاك يسمى وقوفها ما بينهم، ولكن ألا تجد زوجها في ولدها، ولأن زوجها قد قرر أن يدافع عن البيت والأولاد. ومع ذلك، فقد فكرت (( أنهم )) لربما تركوها على حالهم، يعيشون باقي بؤسهم، يستنفدونه قطرة قطرة دون أن يشاركهم به أحد آخر غيرهم، هم أنفسهم، ما بينهم!
قالت لاسكندر، وهي تجذبه من صدره:
- هل رأيت أباك، يا اسكندر؟
لكن اسكندر انتهرها:
- اذهبي من هنا!
وأعطاها ظهره، فتبعه باقي الرجال متجهين إلى الطريق الرئيسي. وبعد قليل، سمعوها تصيح:
- ولكنكم مجانين، سيقتلون الصغير والكبير فينا!
لم يلتفت إليها أحد، جرت إلى اسكندر، وجذبته من ظهره:
- أنا أبحث عن أبيك، يا اسكندر، قل لي أين هو، ولتذهبوا كلكم إلى الجحيم!
استدار، وهو يتوقد كالجمر، ولم يتوان عن دقها في صدرها:
- موتي في جحرك! احفري لك قبرًا!
وعادوا يحثون الخطى، بينما أخذت مجلسًا على الأرض، وراحت تندب، والقذائف المتواترة تدوي:
- قبر لنا جميعًا، قبر يسعنا جميعًا! يا ويلنا، يا ويلنا!

* * *

أحاط المنتصرون بالموكب العاري، كان الأطفال في المقدمة، والرجال في الوسط، والنساء على الطرفين. همست لإحدى المنتصرات رغبة خافتة، وقالت لنفسها: النساء هذه ليست مثلنا، إن لها نهودًا منتصبة، ونظرات تبقى عميقة رغم رائحة البارود! ودت لو تجس بيدها نهدًا، نهدًا واحدًا فقط، وأن تعصره بأصابعها حتى تنزف له الحليب. كان يخيم على الجميع صمت عادل، فهو يجذب من بين ثيابهم خشوعهم اللامصدق ذاك، كانوا في صدد الصلاة، في صدد القيام بفريضة واجبة. ثم ما لبث الجنود أن صفوا بعضهم على الحائط، وأصبح أكثر ما يشد تلك المرأة النهد المنتصب لهذه الصغيرة. نهد منتصب ومدور على نفسه كحبة الأجاص الناهية! وكانت بطبيعتها تحب الأجاص من كل قلبها، وتفضله على البرتقال اليافاوي، أو التفاح الأمريكاني.
صاح الضابط بجمهور المنتصرين:
- قفوا على الطرف الآخر، أو خذوا أول الطريق.
راحوا يتدافعون متراجعين، متقاربين، بينما وقف صف الجنود أمام المحكوم عليهم بالموت. لقد انطلق الرصاص من بنايتهم، فهؤلاء إذن هم (( المجرمون! )) اليهود الطيبون ماتوا، وهؤلاء هم الأبالسة الذين وقعت مسؤولية الإجرام على عاتقهم، سيعاقبون أسهل عقاب وأعظمه، وسيحملون وحدهم أكبر عبء.
صاح الضابط بجنوده:
- استعداد!
ولكن سلسلة من الانفجارات المفاجئة طغت على صيحة الضابط، كانوا قد نسوا بيوت الطرف الآخر من السوق التجاري، والتي ساعد أصحابُها الإرهابيين. ومن بين اختلاط النار بالصراخ، كانت المرأة تتابع انتصاب النهد من وراء القميص الأبيض، وتراخي الشعر الجميل. تساءلت إذا كان لا بد من إحراقه، فجاءها جواب الأخرى التي فيها بالإيجاب، لأنه مذنب، ولأنه مجرم، ولأنه قاتل، ولأنه سفاح، ولأنه يبقى يتمتع طوال الوقت بجماله، لأنه يثير في الأعماق دغدغة تبعث على الحسد والغضب والتفكير في الحماقات التي ربما كان بعضها ساديًّا، ولأن أكثر ما يهزمها أن ترى نهدًا منتصبًا يظل متفتحتًا كوردة.
- ابعد، انفذ بجلدك!
أخذ السمسار يتقهقر، أراد أن يمعن النظر فيهم أكبر مدة، أن يفحص عرب الضفة عن مقربة، ويرى كيف هم، وهل هم بشر كغيرهم، فأصيب بخيبة كبيرة، لأنهم ليسوا حسب ما وصفهم لابنته ذات مرة، ليسوا حسب ما قرأ عنهم في الصحف عشية الحرب، وحلم بهم في الليلة الماضية.
عد الضابط:
- واحد، اثنان، ثلاثة...
ثم هتف:
- أطلق!
دوى الرصاص مرة، ومرة، وتمزقت الأجساد السمر، والأجساد البيض، راحت نهود النساء تقفز على الأرض، وزنود الرجال تحفر في الأرض، وامتدت في الصخر مئات الأخاديد. هرعت المرأة، ونقلت في حضنها إحداهن، مزقت القميص عن صدرها، وتناولت على يدها نهدها، وراحت تعصره بأصابعها غائبةً عن كل ما يدور حولها، إلى أن دفعها جندي بظاهر البندقية.

* * *

كانت في الحقل صيحات تنادي بصوت عالٍ وحزين: جوزيف... يا جوزيف...! والشمس تصعد بقرصها المحرق، ولا تفعل سوى أن تسحق تلك الصيحات الزوجية التعبة، وذاك النداء المفعم باللهفة والألم كالسعير متى يدق، دون أن يفرق بين شوك ورود. عادت تصيح من جديد: جوزيف... يا جوزيف...! توقفت تحت إحدى شجرات الزيتون، وهي تلهث. قبضت على جذع الشجرة، وأخذت في هزها. وأخذ الطفلان في الغناء، بعد أن سكر كل منهما حتى ثقل جفناه. انحرف صدى الغناء الحار بأنغام تزخر بالفوضى، وبلا عناء، نهض ميشيل، وراح يرقص. أطفأ سليم البك أب، وراح يصفق. وفي الأخير، وضعت الأم كفها فوق عينيها، وراحت تنظر من بين سيقان الشجر، علها تقع على جوزيف.

* * *

امتد غسان بنظره إلى ما فوق الرؤوس، كانت الرؤوس تصعد، وتهبط، وتصنع مع زحفها المنحدرات، إذ كانت هناك قامات قصيرة للأطفال، وقامات معتدلة الطول وأخرى فارعة للرجال والنساء. رفع غسان رأسه صوب الشمس الدموية، فرآها تقهقه ساخرة. أحس حلقه بصلابة الحجارة، وتطلع حواليه، وحواليه كان جنود إسرائيل يحرسون القطيع المرحل. أغمض عينيه، وفي حلقه غُصة، وعاد يفتحهما. رمق الشمس الدموية من جديد، كانت قد كفت عن قهقهتها الساخرة، وفجأة، راحت ترقص بحماقة، وتقذف ألسنتها الجمرية في عينيه. أحنى رأسه، فدقت ألسنة الجمر في عنقه، لكنه قاومها. رفع رأسه، وراح يفكر: طردونا! وفي ذات الوقت، تسللت إلى أذنيه أصوات مكتومة، أخذت تتحول رويدًا رويدًا إلى لهثات قريبة. أراد أن يلتفت إلى أمه، وأن يشد بأصابعه على ساعدها، لكنه عاد يحني رأسه، وقد جعل الغبار على حذائه طبقة سميكة. تحولت اللهثات إلى نداءات مبهمة وعميقة، وظل يركز نظره في الأرض، وهو يفكر: أنا أعبر من فوق خطواتهم! ولم يكن ذلك للتخفيف عنه. كانوا يزيدون عن عشرة آلاف، مجموعة من البشر تضم كتلاً تزفر من شدة الحرارة، تشكل خطًّا منحرفًا على الطريق الهابطة إلى وادي الباذان. تضاعفت اللهثات، وأحس بها على وشك أن تقذف بنفسها صارخة، فقرصته عقرب الشمس الجمرية من أذنيه، كانت أمه قد أنشبت مخالبها في ذراعه، فالتفت إليها مأخوذًا:
- هذا شاق! وأنا لا أستطيع التقدم خطوة واحدة أكثر!
نظر إلى بياض شعرها، وعلى خديها المغزوزين بالإبر حط عينيه. قال لنفسه: ما زلنا في البداية! رأى رمشيها المغبرين، وقامتها الدقيقة، وسمع أنفاسها المتلاحقة، الموقعة على طبلٍ في صدره.
- غسان! أنا لا أستطيع التقدم خطوة واحدة أكثر!
رفع ذراعه، ولفها حول كتفيها، ثم شدها بقوة إليه، وهمس في أذنها:
- لم يبق إلا القليل، عليك أن تقاومي.
أحست بأصابعه تغوص في لحمها، فأدارت رأسها ناحيته، وهي تمنع دمعة قهر تحاول أن تفلت من عينها:
- غسان!
- نعم؟
لكنها لم تنطق بكلمة واحدة، راحت تفكر: أنا أزعجه، فلو كان وحده لتدبر أمره بسهولة! كان أكثر ما يفت في عَضُدِها أصابعه التي تغوص في لحمها، أحست أنها بحاجة إليها، وفي ذات الوقت، تمنت لو تنتزعها، وتلقيها عنها بعيدًا، فتخلص من تلك الحماية التي تضغط نفسها لتبرز في ضميرها، في ضميرها هي بالذات، كي تثقبه، وتبسط نفوذها، عند ذلك تنتهي كل علاقة لها بالهزيمة، فتتساقط حتى يركلها الآخرون، بينما يعتقد ولدها أنه قام بواجبه على أكمل وجه. أخذت تلوك الكلام قربه، وعلى حدة. رأت يده الأخرى كيف اندست في جيبه، وكيف خرجت بنظارتيه، وفي اللحظة التي وضعهما فيها على عينيه، ضربها شعاع أحمق راح ينعكس عن العدسة، وهو يقهقه في منخريها: أم عالة! أم عالة! أم مهزومة! أم مهزومة! نفضت عنها أصابعه، ونصبت قامتها باستقامة، وأطلقت نفسًا مرتاحًا. كانت قد تحررت من حمايته، من ذاك التطوع الذي فقد معناه، بعد أن فقد زمانه، من أصابعه الخشبية التي غاصت لمدة في لحم كتفها. راحت تطعن صفحة الطريق بقدميها الواهنتين، ولم يعد غسان يسمع لهثاتها، لم يعد يقدر على اللحاق بها، كانت قد تدافعت بين الجموع بعد أن سبقته، وعندما لمعت في خيالها خوذة الجندي الإسرائيلي، تسرب إلى قلبها الخوف والتعاسة، فرمت برأسها إلى الوراء، ثم رفعت أصابعها باتجاهه، وهي تقف بين أقدامهم، تمنع طريقهم، وراحت تصيح:
- تعال، لماذا ابتعدت عني؟
فجرى غسان، وهو يقذف بنفسه بين كتلهم المتمزقة، وجاءها. عادت إلى أذنيه لهثاتها، وسمعها تهمهم دون أن يفهم شيئًا. بعد ذلك، أخذها التفكير: الحماية. الهزيمة. الرحيل تحت الشمس بالإكراه. خوذة الجندي الإسرائيلي المدورة المفكرة في شيء آخر غير مصيرهم. الأقدام الزاحفة، والرؤوس المكسورة، والشفاه المقروضة. ألسنة الجمر الحاقدة أو الساخرة... كلها، لم تكن تعني شيئًا أكثر من كونها تقطع قدرها إلى حيث تمضي حتى آخر الطريق. أما قربها من ولدها، فذلك يعني كل شيء، كل شيء.
دفعوها بالأكتاف بعد أن تلقى غسان ضربة قوية على ظهره، وانفجرت صيحة:
- لماذا تتوقفون؟
كانا قد أعاقا سيرهم.
- لماذا تتوقفون؟
- هل وصلنا؟
هتف أحدهم من طرف:
- سيروا، واصلوا!
- ولكن من هم في الأمام لم يزالوا يواصلون سيرهم، أحقًّا وصلنا؟
- نعم، وصلنا.
أخذ طفل يبكي، فسأل الرجل:
- أين وصلنا؟
- ليس أبعد من الصدمة في القفا!
كان الجمع قد زلق على بعضه البعض، وراح الواحد يدق الآخر. وكان هناك آخرون يتصايحون:
- سيروا، هيا، سيروا! إذا بقيتم هكذا سيأتونكم بالبنادق!
تعثرت قدم غسان، والطفل لم يزل يبكي، وأمه الفلاحة تكيله اللطمات بعد أن سقط بين الأقدام:
- اخرس، اخرس، اخرس!
صاح الرجل من جديد:
- سيأتونكم بالبنادق.
نبر صوت خشن:
- وماذا يعني أن يأتونا بالبنادق؟ دعوا المرأة تحمل ولدها.
لعلعت المرأة:
- أي طفل شيطان؟ اسكت! أوقف نباحك!
- رويدك على الطفل.
- أي طفل كلب!
- رويدك على الطفل.
- أي طفل أبوه الأحمق له قرنان!
- رويدك ... رويدك على الطفل!
- إذا لم تسكت عضضتك!
كشرت عن أنيابها، فقطع الطفل بكاءه، وراح يزفر، ويصب الدمع بصمت. قال الرجل للمرة الأخيرة:
- رويدك على الطفل!
ومشى في طريقه.
عاد الجمع يأخذ طريقه الهابط إلى وادي الباذان، والطفل يبكي، والمرأة تجلجل:
- يا صبر أيوب، يا آدم أبو البشر!
انفجر أحدهم مقهقهًا، فالتفت إليه جاره، وعلامات الدهشة تملأ محياه. استمر الرجل يقهقه، وهو يقول:
- أصابع الشمس تدغدغني! أصابع الشمس تدغدغني!
ثم توقف عن الضحك، وعتمت ملامحه، وكأنه سقط في ليل دامس. راح يردد:
- مما لا ريب فيه، مما لا ريب فيه!
لم يتمالك جاره عن البكاء، راح الدمع يكر على وجنتيه، والآخر يطبطب على كتفه مهونًا:
- مما لا ريب فيه!
همس الرجل، وهو يصعّد زفرات طويلة:
- إنها أصابع الشمس، هذا من فعل الشمس!
حط قدمًا أمام أخرى، وراح يدفعهم، وهو يلتفت برأسه بين فينة وأخرى إلى الوراء، حتى ضاع بين أجسادهم.
قال غسان لأمه:
- تشجعي، تشجعي!
أخذ قفصها الصدري يعلو، ويهبط، وعيناها تحدقان في ذيل الدابة التي أمامهم، وذيل الدابة يعلو، ويهبط. فكر غسان: يا لها من بائسة! أراد أن يحرك رأسه، أن يحك أنفه، أن يعض شفته، لكنه بقي يفكر: يا لها من بائسة! ذاهبًا مع السيل الذي يشق مجراه. لم يعد يشعر نحوها بالحنين، كانت ذراعه التي تلف كتفيها قد أخذت يؤلمه، وقد انتاب أصابعه خدر مشل. عاد يقول لنفسه: يا لها من بائسة! كانت الدابة التي أمامهم مثقلة بالأحمال، دلاء وأكياس وطفل وآنية، وكانت طنجرة من الألمنيوم تعكس أشعة الشمس المحرقة، فتصنع أخرى ترتعش، وتهتز، وتوزع احتراماتها على القبات المتسخة. فكر: أم تنشد على ذراع ولدها! وبالأمس، كان يفكر، وأمه في حجرتها، تقفل عليها الباب: تقوم بآخر صلاة! كان قد سمع آهاتها وتنهداتها وابتهالاتها، وقال لنفسه: أنا لا أصدق أن يكون كل هذا من أجلي! كانت تحبه أكثر من أخته المتزوجة في السعودية، وأكثر من أخيه الجندي الاحتياطي، ومع ذلك، فقد امتلكه شعور بالنقمة. لم يغضب وقتذاك، لأن أمه تبكي من وراء باب موصد، لكن شعوره بالنقمة كان يعني لا قناعته. قال لنفسه: الدموع ليست نتيجة سيئة دومًا، ولكنها تظل جزءًا من الهزيمة. فكر: مسكينة! وحاول أن يزيل عن أصابعه الخدر المشل، أن يشدها إليه بقوة، وأن يرفعها قليلاً عن الأرض، لكنه فشل في تحقيق ذلك. تراخى كله، وأحس إنما هي التي تدفعه إلى مواصلة السير. تساءل: أي جدوى تأتي بها الدموع؟ ووقف تفكيره على ذلك. راح ينقل خطواته بدفعة من قدميها، وهو لا يدري بعد لماذا يسير. تذكر كيف جاؤوا إليهم مع الصباح، بعد أن كسروا عليهم الباب، وطردوهم. إنه يسير لأنهم يسيرون، إلى آخر نقطة على جسر دامية أو اللنبي أو الأمير محمد. استطاع غسان، في الأخير، أن يحك أنفه، وتذكر أنه لم يجتمع بالأصدقاء، لم يودعهم، ولكن... ولكن ليس الوقت وقت وداع. كانوا قد اعتقلوا مجدي من بين من اعتقلوا، ليلة الحرب. ولولا اختفاء عدنان وشريف للحقهما نفس المصير. كان لا يعرف أخبار الآخرين، وها هو الآن يرحل بحراسة بنادقهم، مشى على رؤوس أصابعه، وهو يرفع رأسه، ليرى الجندي الإسرائيلي، لكنه لم ينل بغيته، بدأت الخطى تثقل، وهي تنتزع معها الأقدام انتزاعًا، ولم يعد في أذنيه صوت آخر عدا لهثات أمه، عدا هذا الجر، وذاك السحب، هذا الجر، وذاك السحب، تلك الخضخضة: خض... خض... خض... خض... هذا الجر، وذاك السحب. والقطيع يتجاذب، دون أن تنتهي المسافة. تأمل غسان الطفل الجالس على ظهر الدابة، ورأى شعره الأسود، شعره الأهوج، وثوبه الممزق، وقدميه الحافيتين. كان يغمض عينيه نصف إغماض، ومخاطه يسيل من منخريه. قال لنفسه: جزء من القطيع! تطلع إلى قوائم الدابة الخائرة، كان الحمل ثقيلاً. التفتت الدابة إليه، فرأى عينيها اللتين تفيضان بالألم والحزن.
فجأة، صاح أحدهم من ورائه:
- صخرة الموت!
التفت غسان برأسه مع باقي الرؤوس باتجاه الإصبع التي نفضت عنها تربة القبر، ونهضت. تعلقت أشباحهم على الصخرة، بعضها خافت، وبعضها تدلت، وبعضها سقطت، وتحطمت دون أن تصرخ، وبعضها أخذت تقهقه بفرح ليس له أي معنى. شاهد غسان بدوره صخرة الموت، توقفت لهثات أمه، وتعثرت أقدام القطيع. كانت صخرة الموت تنتصب على هضبة تقف في الهواء، بينما حافتها السكينية تحاول انتزاع نفسها من نفسها. نظر جميعهم إلى الوادي العميق، وفكروا: وادٍ من يوم القيامة! لأن لا نهاية لهوته. كان يصب في جوف الأرض، وكأنه صدع يصل الوجه الآخر لها. لاحظ غسان أن الشمس تقف في وسطه، وفي الهوة العميقة عتمة مزرقة، وخيل إليه أنه استمع إلى بعض الصيحات بعد أن عادت تدوي من الأحشاء الممزقة للضحايا. توقف بعضهم على حافة الوادي، وراح يسرف في إرسال نظراته:
- صخرة الموت!
- من هنا كان الإنكليز يقذفون الثوار.
- الوادي عميق!
- ليس له نهاية!
- وهل كانوا يطلقون عليهم الرصاص أم يكتفون بدفعهم من فوقها؟
- لست أدري، لم أشاهدهم، ولا أعرف أحدًا شاهد ذلك.
قال الطفل لأمه، وهو يشير إلى الصخرة العملاقة، مفتر الثغر:
- صخرة الموت، يا ماما.
أقفلت الأم عينيه بأصابعها، وهو يصيح:
- دعيني، دعيني!
لكنها جذبته معنفة:
- إذا بقينا، قذفونا من فوقها، هيا، امشِ!
اهتزت خصلات الطفل، وراح يصفع بقدميه الصغيرتين خد الطريق المستلقي، وهو يغمغم معبرًا عن لا رضائه.
صاح أحدهم:
- هيا، امشوا!
بدأ الواحد يدفع الآخر، وعندما جاء الجندي الإسرائيلي يجري نحوهم، وهو يشد في قبضته سلاحه، عاد الركب إلى السير طيعًا من جديد.
همهم أحدهم:
- ابن الكلب يهمر!
انتهره جاره:
- اسكت لئلا يسمعك.
- انظر إلى وجهه، كأنه وجه الخنزير!
- قلت لك اسكت، اسكت!
مرا بالجندي الإسرائيلي، فابتسما له، وهو يحدجهم بكبرياء. قال الرجل لجاره:
- بالأمس عندما أودعوني في السجن قلت لنفسي لا مفر، المقصلة أو الرصاص، واليوم، ها هم يرسلون بنا لنعبر النهر.
- هذا من رضاء الوالدين.
- طز في الوالدين!
شُدَّ بتقاطيعه إليه:، والرجل يقول:
- يمكن أن تحصل مفاجآت أخرى.
لاحت على جاره أمارات السذاجة:
- لم يخطر على بالي ذلك.
قال الرجل:
- لم تزل المسافة طويلة.
- هذا إذا ما لم يقتلونا قبل وصولنا إلى النهر.
حدق في ضفيرة إحدى العجائز، فوجدها تتسخ بالمشيب، مما جعله يضيف:
- الأمر أصعب مما تتصور.
أعاد الرجل:
- يمكن أن تحصل مفاجآت أخرى.
نبر جاره:
- مفاجآت من القفا! ألا تراهم يواصلون سيرهم كالأغنام؟ لاحظ أنهم لا يتعثرون!
- قلت لك يمكن أن تحصل مفاجآت، مفاجآت أخرى. لقد كانت تتكدس بنا ردهات السجن بالأمس، ولم أتوقع أبدًا أن تحصل أدنى مفاجآت، فإذا بها مفاجأة كبرى! لقد قتلوا ما يزيد عن المئة رميًا بالرصاص، وعندما جاء دوري، أطلقوا سراحي.
- وحدك؟
- أنا وثمانية، إنهم موزعون هنا وهناك، وقد صرنا أصدقاء تمامًا (ابتسم): إحدى معجزات المتعقل! (سكت قليلاً ثم أضاف): قالوا لم يمسكوا عليّ تهمة! (احتدت نبرته): أقسم لك أن آخرين، لا يجرؤون على قطع شعرة، قد نالوا عقابهم! قتلوهم (همس): إنها التهمة ذاتها: فدائيون! (سكت قليلاً مرة أخرى ثم أضاف): هناك من هو فدائي حقًّا، ولكنهم وجدوها حجة، تمامًا كما فعل النظام بعد الاعتداءات على السموع، كان يعرف أن الحرب واقعة، ولهذا، عمل على أن يخسرها قبل ذلك بكثير، وكما يجب، فلا تتجاوز أيامًا ستة.
- ولماذا لا تجتمعون؟
- من؟
- أنت وأصدقاؤك.
- وما الفائدة؟
- لقد حدثتني منذ قليل عن المفاجآت.
- نعم، ولكنها ستبقى (( مفاجآتهم )) طالما نحن نسعى في الطريق.
أشار إلى ثلاثة من الجنود الإسرائيليين: كان أحدهم يعتصر خوذته بين أصابعه، والثاني يقبض على سلاحه، بينما الثالث يشد شفتيه فاتحًا عن أسنانه. فكر: يا لهذه التماثيل الوحشية التي نصبوها في كل مكان!
- اليهود في كل مكان (سكت متفقدًا برأسه في كل النواحي، ثم أردف): لا تنتظر فعلاً معاكسًا، ثم إن تجميع أصدقائي ليس من السهولة، فأنت ترى هذا العدد الهائل: أما منهم، من هذا القطيع المطيع، فليس هناك أية فائدة ترجى، لقد تركوا من ورائهم كل شيء، وإذا ما رأيتهم يسيرون، فلسبب واحد، لأنهم بدلوا أقدامهم. هذه أقدام الموتى!
كان يحادثه بكل بساطة، كان لا يعرفه، ومع ذلك، فهو مطمئن إلى حديثه معه. كانت تربط أفكارهم وأحاديثهم ثقة المهزومين فيما بينهم، فلا خوف يخشى معها. فكر الرجل الذي أطلقوا سراحه: ثقة المهزومين! وتغضنت ملامحه.
- ما يمكن توقعه أن يقوم المرء بعمل فردي.
أخذت جاره خفقة قريبة، دفعه أحدهم في كتفه، ولم يحس بألم الدفعة، رغم أنها كانت قوية.
- عمل فردي؟
- فبين الموتى يصدف أن تلتقي بأحياء مشلولة، وإذ تنطلق، فهي تسعى للقضاء على نفسها، وبالتالي، لتحقق أمنيتها الرهيبة.
بقي ينظر إليه دون أن يفهم، مما جعله يوضح:
- إن الحكم بعالم الحياة على أناس أموات أو نصف أموات مؤداه أن يطلبوا الموت لأجل الموت، ولهذا قلت لك ستحصل أعمال فردية.
- أنت متشائم!
لم يسأله: وماذا لو اتفق الموتى على أن يقوموا بعمل جماعي؟ لكنه سؤال فات أوانه.
- إذن ما عليك سوى أن تنتظر مسافة أخرى لا تتعدى عشرة كيلومترات.
كان وقع لحوافر قد انطلق فجأة مثيرًا من ورائهم ضجة غير متوقعة، بعثرهم، وانبثقت عنهم صيحات:
- ظهرك! حذار! أمسكه من اللجام! حذار! حذار!
كان الفلاح يقذف خُفيه ما بينهم، وقد فتحوا للبغل الهائج طريقًا.
- حذار! إنه هائج! حذار! حذار!
انقسموا إلى مجموعتين، بينما راحت النساء تصرخ، وجندي يعدو، والفلاح لم يزل ينبههم:
- حذار! حذار! لقد صار شريرًا!
ركض جندي آخر بسلاحه لاحقًا بالآخر، وثالث، ورابع، وراح أطفال يولولون مذعورين، وواحد من القطيع لم يمد يد العون للفلاح الهاجم، فيقف في وجه البغل، مانعًا عليه الطريق. فجأة، راحوا كلهم يصرخون، فصلوا غسان عن أمه بعد أن جذبوها إلى طرف، وضاع غسان في طرف آخر. صرخت أمة منادية: غسان! لكن الضجة الجماهيرية المفاجئة تلك كانت الأقوى. كانوا قد تراموا على الطرفين، لأنهم أحسوا بأرواحهم تعود إليهم، وكانت أرواحًا تتصف بالطيبة وبالبراءة، ففزعهم من الحيوان الأليف يعني ذلك. لم يكونوا بحاجة إلى مثل تلك الأرواح الأقرب إلى السذاجة وحب الذات، لكنهم تشبثوا بها، إذ أنهم وجدوها، وبعد أن وقعوا عليها فجأة في عالم موتهم، إثر وقع الحوافر المهووسة، فربما تأخذ الحوافر بعضها في حالة الهياج الحيواني ذاك. انطلقت الصفارات، وفي الحقول، كانت تحترق بعض الأعشاب، وكان غسان لا يفكر في أمه التي تصرخ منادية عليه، دون أن يسمعها، كان يفكر في روحه، لقد ردتها إليه الحوافر الهائجة. ثم تواترت في أذنيه جملة متواصلة من الطلقات، فانقبض قلبه، وتحطبت روحه، وحاول ألا يدعها تفلت إلى قلب الحريق. دبت بعد الطلقات صرخات قوية، ورأى غسان قرص الشمس الهائل، فجمع ذاته، وتحرك على الطرفين ليرى، لكنهم كانوا يحيطون به من كل جانب. قبض على ذراع أحدهم كان يقف على حجر، وراح يسأله بأنفاس متتابعة:
- ماذا جرى؟ ماذا جرى؟
دفعه الرجل في صدغه مبعدًا، لكنه عاد يتشبث بذراعه.
- ماذا جرى؟ ماذا جرى؟
نزل الرجل عن الحجر، وحطت سكينة الموت ما بينهم.
- لقد قتلوه!
- البغل؟
هز الرجل رأسه هزات ثلاث، ورأى غسان في عينيه ثلاث جثث هامدة:
- والناس؟
- سقطوا بالعشرات!
انسل الرجل بين الجمع الذي أذهلته قوة الرصاصة بعد أن أطلقها قمر الغابة الفاتك، وكان الفلاح قد سقط على البغل، وغاص في دمه منتحبًا، فدفعه جندي بقدم البندقية، لكنه وثب عليه قابضًا من خناقه، وهو يهدر:
- يا قادر! يا قادر!
انهال عليه الجنود بأعقاب بنادقهم ضربًا حتى نضدوه، ورصصوه، ورصعوه، وأنزفوا له دمه الأسود، ثم فجروا في رأسه رصاصهم، وأحالوه إلى جثة هامدة.
أخذ الجنود يقذفونهم:
- امشوا، هيا امشوا! عودوا إلى السير، وإلا لقيتم ذات المصير! أيها القذرون! وإلا قطعناكم إربًا، وذبحناكم كقطعان الضأن! وإلا شويناكم! امشوا! امشوا! هيا، امشوا!
انحرف مجرى النهر من حول الجزيرة، وراحوا يلقون بالنظرات، أثناء عبورهم، على تلك الأعناق الدموية التي خلفوها مزروعة في الأرض من ورائهم، لتنمو وتكبر، وتصبح لها أعناق شجر الجوز والنخيل. مروا بوادي الباذان، ومن حولهم قامات القصب الخضراء المنتصبة في الشمس والموت. فكر غسان: هذا جزء من الجزيرة! والسيل الرقراق، وطاولات المقهى القصيرة، وكراسي القش التي بلا ظهور! في الماضي، كانت تتوقف هناك سيارات السفر الآتية من عمان إلى نابلس أو الذاهبة من نابلس إلى عمان، وكان الركاب ينزلون ليغسلوا وجوههم، ويشربوا العصير المثلج، أو ليشتروا العنب والعناب. أما اليوم، فالمحطة على ازدحامها، إلا أنها تبدو كالمهجورة، لأن الماضي قد غادرها، ولأن الحاضر يعني تلك الجثث الدموية التي زرعوها، ولأن المستقبل الأعمى يطل عليهم من نافذة التاريخ، وفي حجرة التاريخ المعتمة قد نصبوا لهم أعمدة المشانق. كان مصيرهم مصير سيل يسري ببطء، ولكنه يسري، حيث مصبه، في بحيرة غير محصورة الأبعاد، هوة غائرة، كتلك التي تقف عند حافتها صخرة الموت، دون قرار.
همس غسان لنفسه: لسوف يستمر العبور! ولم يقل: حتى ضفاف نهر الأردن، فالجسور تتعدى حوافها. ونبت هذا الأمل الصغير: لسوف يستمر العبور! وقال غسان لنفسه: هذا حسن! من اللازم أن يستمر العبور، وطالما نحن على الطريق، فهذا حسن! كان غسان يسير بلا قدم، رغم أن روحه التي مهما كان شكلها قد ردت إليه.

* * *

ارتفعت الأعناق باتجاه الدراجة، وقدما حنا تديرانها بأقصى ما تستطيعانه من سرعة. وعلى مقربة من خندق لم يزالوا يحفرونه، فَرْمَلَ حنا، وقفز. قال لهم، وهو يلهث:
- أخذوا الطريق الهابط من رام الله إلينا!
حمل الدراجة من فوق الرمل، ورماها بين الأشجار، بينما ضاعف الرجال من ضرب معاولهم وفؤوسهم. طلب إليهم اسكندر:
- هذا يكفي، فليأخذ كل واحد مكانه.
أشار اسكندر برأسه إلى محمد، وراحا يخفان بمجرفتين إلى إحدى القنوات، بينما أخذ سائر الرجال أماكنهم: بعضهم تسلق أشجار الكستناء المنتشرة على جانبي الطريق، وبعضهم الآخر اختفى من وراء السلاسل. كان القصف قد نقص، وبالتدريج توقف. لم تلزم محمد واسكندر لهدم حافة القناة سوى دقيقة واحدة، فتدفق الماء صابًا في الخندق. تأمل اسكندر كثافة الماء، وهي تتضاعف، والأمواج الصغيرة المرتدة عن الحواف الترابية، المنجرفة معها. خفق محمد على ذراعه، فجرى معه إلى شجرة كستناء، تسلقاها، واختبآ بين أغصانها.
بدا الخندق واسعًا وعميقًا يقطع الطريق إلى نصفين، كان طرفه المقابل للقناة مسدودًا، فطفا الماء بعد أن ملأ الخندق، وراح يسيل إلى قلب الطريق. لم تكن تسمع سوى أنفاسهم، وكل واحد منهم قد نذر حياته من أجل ذلك، من أجل صمت مؤقت، ومن أجل ما يكمن ما وراء الصمت. كان باستطاعة الذين يقبعون خلف السلاسل أن يشاهدوا دخان الحرائق في مخيم اللاجئين الواقع على الهضاب من ورائهم، وأن يشموا رائحة الموت، وأن يسمعوا جيدا النداءات المستنجدة. كانوا تواقين إلى شيء من هذا، وهم يجرعون خمرهم، وها هم يعرفون قبل النهاية، أن الخندق إنما هو الحل الوحيد، وأن تلك الاستكانة المؤقتة ما هي إلا خطوة أولى للدخول فيما تاقوا إليه. ستكون الخطوة التالية هي الحاسمة، انطلاقتهم من مكمنهم إلى حيث يقوم عالمهم الذي قرروه. وصلتهم أصداء خافتة للمحركات العسكرية، وسمعوا فجأة تغريد العصافير من حولهم، وداعبت نسمة هواء منعشة وجناتهم، رغم تسلل أشعة الشمس المحرقة، ورغم تجاذبهم لصمتهم، وترقبهم الكبير. فكر اسكندر في اللحظة التي سينقضون فيها على جنود العدو، وتحسس بأصابعه حافة المجرفة، فانتكت حفنة من الرمال على صدره لم يمسحها، تركها تكسوه بحلة جديدة. كان الماء يترقرق من الخندق باستمرار، فغمر الطريق إلى حافة بعيدة، ففكر اسكندر: سيتحقق حلمي! كان في يوم مضى قد حلم بأن يصبح قائدًا في الجيش، وها هي ذي بداية الدروس، ولم يقل بداية الدروس ونهايتها. تطلع إلى مجرفته، وضمها إلى قلبه. أخذه التفكير في التراب، في انسياب الماء، وفي النياشين التي سيعلقها على صدره، وفي أصداح العصافير، وفي سماء القرية الرحبة. فكر أنه يربض في قلبها جميعًا، أنه يربض في قلب حلمه. إذن، فليأتوا، ما عليهم سوى أن يأتوا. وفكر حنا: نعم، فليأتوا. وقد قبض على بندقية صيد، وانحنى متعبدًا من وراء السلسلة، كان يؤدي لها الطاعة بهذه الانحناءة، لا لجفنا وحدها، بل للأرض، لأمه، لأخته نعيمة، وقد شحن بندقيته بقدر آخر من الشحنات: بحبه. ظل يتجاذب اللحظات، والآلات الشريرة تنحدر على الطريق. وفكر محمد: تنحدر على الطريق! وعرق حتى اكتسى قميصه تحت إبطيه ببقعة كبيرة. راح العرق يقطر من جبين اسكندر العريض، وصارت وجنتاه المشدودتان تهتزان على إيقاع أنفاسه. همس: إن هذا لا يكفي! من أجل الشمس، من أجل شجرات الزيتون، ومن أجل عناده! لا، إن هذا لا يكفي! وكان في أقصى جفنا، قرب أعناق الكروم، وأعناق اللوز، والمشمش، والأسكى دنيا، نداء شقي: جوزيف... يا جوزيف! ولم تكن تلك الآذان التقية تسمع غير تقدم عجلات عربات الحرب الإسرائيلية، فكر بعضهم: ربما كانت اللاندرفر! وبعد لم يتبينوها. كانوا يتابعون من مكانهم زحف الهياكل المدمرة، وهم لن يفعلوا أكثر من الدفاع عن حقول الكروم، فهي هياكل مفعمة بالديدان، والموسم يبشر بالقطاف الوفير! جوزيف... يا جوزيف... كان يغيظها ألا يسمع، ويحط في أوصالها هم ساحق، واسكندر يفكر: كالديدان التي ستنفث النار عما قليل! قعدت أمه على حجر، وراحت تحني رأسها في كل صوب، ثم تناولت حفنة من التراب، رفعتها من أمام عينيها، وجعلتها تنتثر في كل مكان. أين جوزيف؟ ذاك الشيخ الأحمق! لقد هرب وتركني وحدي! يا للجبان! هرب، وتركني وحدي! نهضت، وهي تتدافع، وتصيح مقعرة صوتها: جوزيف... يا جوزيف! فانتفض جوزيف من جوف خندقه الصغير لما سمع نداءها. تكورت ذقنه غضبًا، وراح يهصر أسنانه: حمقاء! حمقاء! حمقاء! والريح الغائبة أيضًا، وألسنة الشمس الجمرية، وخندقه، وأفكاره، وخرطوشه، ووقفته، والعمق الذي في عينيه، كل ذلك كانت له صفة الحماقة، فقال لنفسه: أكبر الحماقات، في الأخير، هي الحرب! لكنه بينه وبين نفسه، بقي عازمًا على التصدي لهم. سمعها تصيح من جديد، ففكر: تحتاج إلى بعض العواطف، عواطف بقي لديه شيء منها، لكنه كان يدخرها لليوم العصيب، ليوم كهذا، ولأجل ألا تتصرف زوجته بحماقة. حط يده الصحيحة على حافة الخندق بعد أن أسند في عمقه سلاحه، وقفز مرتكزًا على كتفه. فكر في يده المشلولة، وفي نداءات زوجه اللامجدية، واندفع بقامة منحنيه بين الأشجار. وعلى مقربة من أنفاسها المتلاحقة، أخفى نفسه، وما أن مرت به، طوقها، وكفه على فمها، ودفعها من أمامه.

* * *

أخذت أم غسان تتقاذف، وهي تلطم بذراعيها صارخة: غسان... أين أنت، يا غسان! دفعتهم، واصطدمت بأكتافهم، دون أن يؤثر رعبها فيهم. كانت تسير في عكس اتجاههم، وهي تحاول أن تجده، تفرك عينيها بحواجبهم علها تقع على نظارتيه. وفي الأخير، فغرت فمها على سعته، وراحت تردد بهلع: أم ضالة! أم ضالة! أم ضالة! لقد فقدت ولدها الحبيب! وها هم قد بدأوا يرمونها بنظرات فاحصة، وفي ذات الوقت، مستنكرة، نظرات تستنكر مثل هذا التصرف البشري الأحمق، المتأخر عن إدراك كنهه في الوقت المناسب .
أصدر أحدهم أمرًا:
- تراجعي!
دفعها آخر بقبضة قوية:
- تراجعي!
لكنها قذفت نفسها في خاصرته، فراح يولول، وهو يصعد، ويهبط لوجعه، وتلك الصيحات المتوسلة:
- غسان... أين أنت، يا غسان؟
التقطت أحدهم، وسألته كالمجنونة:
- هل رأيت غسان... ولدي؟!
ولم تنتظر أن يعطيها جوابًا، كانت قد أمسكت بآخر:
- هل رأيت غسان؟ هل رأيت ولدي؟
جاءتها ضربة قوية في صدرها، فأنشبت مخالبها في كتف أول امرأة صدف وقابلتها:
- ولدي... دليني على ولدي!
راحت المرأة بأسف تهمهم:
- لا حول ولا قوة إلا بالله!
صاحت بهم، لكنهم قذفوها إلى الوراء، وهي تنادي:
- ولدي!
دون أن تثير في صدورهم إلا نقمتهم البيضاء من أنفسهم.
قال أحدهم:
- لقد فقدت المرأة رشدها!
وأم غسان لم تزل تنادي:
- ولدي!
راح شيخ بأسف هو الآخر يهمهم:
- لا حول ولا قوة إلا بالله!
- ولدي!
- لا حول ولا قوة إلا بالله!
تشعث شعرها، وانحفر خداها، وصارت في عينيها حقول قاتمة زحفت في صلبها الديدان:
- يا غسان! يا ولدي!
غاب الصدى المجنون، كانوا قد راحوا يدفعونها جماعات، وحاصروها مجبرينها على التراجع، وهي تصرخ:
- اتركوني، اتركوني، افتحوا لي الطريق!
أخذ كل واحد منهم يستأسد عليها بدوره، كانوا يفكرون: لسوف نتركك مهذبة، منضدة، مقطعة كقطع اللحم المفرومة بأناقة!
أنشبت مخالبها في وجه عريض، فسقط لسان صاحبه، وراح ينبح نباح الكلب المسعور. زرع أصابعه في صدرها، وجذب، فإذا بثوبها مزقًا.
- كلبة! كلبة! كلبة!
تقهقرت أم غسان أمام تقدمهم الطاغي، وصاحت امرأة ترفع ولدها على كتفيها:
- دعوها تبحث عن ولدها!
خلعت أم غسان حذاءها، وأخذت تصفع نعليها مقهقهة:
- هيا! هيا! امنعوني! امنعوني!
كان غسان يلهث، وهو يركض شاقًّا طريقًا ما بين تلك الصدفات المتحركة، أحس، وهو يلامسهم، ويحتك بصدورهم، أنهم يزحفون في حصارهم، وأفكارهم تبقى في حصارهم، في بداهاتهم، ومصيرهم الآخر يبقى في حصارهم، وهو، لذلك، أراد أن ينفذ إلى حيث هناك أمه، فلربما تجاذب معها عكس ما يفكر فيه الآخرون، وينقذ نفسه من ذلك الترصد المتواصل لمصير قدري لا يدريه. كان يشق دربًا إلى الأمام، بينما أمه تشق دربًا إلى الوراء. وكانت أمه قد كفت عن القهقهة، وراحت تقرع بقبضتها صدورهم، فتحسها فارغة، وتكتشف بعد أن اكتشفت عالم الجنون أن أولئك لم يعودوا أحياء، رغم أنهم يتنفسون. كان غسان قد ظن مرة أن الحوافر الغاضبة والطلقات القاتلة قد ردت إليهم أرواحهم، لكن ذلك لم يكن إلا ظنًّا باردًا وحماسيًّا. أحس بحياته تتكوم في قبضته، فها هو ذاهب ليبحث عن أمه، وإذا لم يجدها، فسيبقى متشبثًا بحياته، كي يقتفي عبرها آثارها. لكنهم جعلوا من حولها حلقة، وكانت قد نسيت أنها تريد أن تجد ولدها، راحت تنجذب إلى لون عيونهم المعتمة، أرادت أن تفكر في لحظة بين الوعي والغيبوبة: لأي سبب أنا هنا، يا ترى؟ لكنهم ضيقوا الخناق من حولها، وغدت تلك الكتلة من اللحم والعظم التي لم تزل تستطيع الوقوف، أما عن عقلها، فقد ارتفع إلى السماء. لم يعد قلبها يخفق كالماضي، لقد تركت الماضي في الوراء. كشروا عن أنيابهم، وهمهموا، وهمروا، وغدوا يشتعلون بشاعة. أفعمت الأنوف رائحة قذرة لأنفاسهم، وهم معها ما زالوا يعتقدون أنهم يلهون. ضيقوا من حولها الدائرة، ضاعفوا الحصار، وازداد الزحف عمقًا. تحول القطيع إلى كتلة ضخمة متماسكة ضدها، انحشروا جنب بعضهم بعضًا، وقهقه أحدهم، بينما سدد الآخر إلى وجهها قبضته، فأدماه، صرخت، ولم تستصرخ ولدها، خالوا أنها نعقت لأن الغربان راحت تحوم ما فوق الرؤوس. قذفوها بأحذيتهم على ساقيها، فكسروا ساقيها، وذهب عنها توازنها، وكل ما فعلته أنها أخذت تنعق. كان جندي إسرائيلي قد جاء يعدو، وكانت الأم قد سقطت مع صرختها الأخيرة تحت الأقدام، وكان غسان لم يزل بعيدًا عن أمه، يشق دربًا إلى الأمام، وأعياه أن يظل يركض طوال الوقت دون أية فائدة. ضرب في رأسه وتر: لقد فقد أمه! فقال أحدهم للجندي:
- لا شيء، كانت امرأة تزعق لأن أحدهم جاع، فعضها، لكنها أقفلت فمها.
- فلتقفل فمها إلى الأبد!
أجابه والإثلاج ينزف له صدغيه:
- اطمئن... إلى الأبد!
بينما نضدت الأقدام الجسد، هذبته، وطوته بأناقة، ثم سار الجميع متابعين الطريق. لم يعد أحدهم يسمع أنينًا، وصار يبدو عليهم مظهر القناعة والرضى. همهم الجندي الإسرائيلي، وفكروا في أم غسان للحظة، وقالوا: ضحية! لكنهم لم يطلقوا عنان التفكير في الأمر أكثر. انتحى غسان إلى جانب، نزع نظارتيه، وراح يمسح عنهما سيل العرق، وهو يلهث. كان قد قطع الأمل في الوقوع عليها، ناداها: أمي! لكنه لم يحصل على ما أراده من جواب. خفض بصره نحو طفل وسطه الأسفل عار، بعد أن تسلل إلى أذنيه بكاؤه المتوجع. كان في الرابعة أو الخامسة من عمره، أسمر وجميل الوجه، يقف وحيدًا. هبط إليه، وتحسس خصلات شعره، والطفل يحس بالاطمئنان في لمساته. توقف الطفل عن البكاء، وضم غسان من عنقه، ظل للحظات يزفر دون دموع، ويتأوه دون أن يرسل شكوى. قال غسان: هذا الآخر أضاع أمه! أراد أن يهمس في إذن الصغير: تعال، كلانا يريد البحث عن أمه! فأتته ركلة في ظهره، وعندما التفت، سقط بعينيه على الجندي القوي. ولأول مرة، راح يتمعن في ذاك الجندي الميتاتاريخي، رآه يقف، وبين ذراعيه يشد انتصاره، وعلى صدره يلقي مدفعًا رشاشًا ونياشين ملونة يهوى جميعها الأطفال.
نبر الجندي:
- انهض!
وفي لحظة واحدة، رفع غسان الطفل بين ذراعيه، وفكر: لقيط! كلانا لقيط! ضغط الطفل على صدره، ثم رفع وجهه، وهو يدفع خنصره تحت ذقنه، وابتسم له، بينما ظل الطفل يحدق بإبهام، دون أن يفهم شيئًا.

* * *

ازداد صخب المحركات العسكرية المتقدمة نحو القرية، تدفق الشعاع الذهبيّ كالأنامل الحريرية من بين الأوراق الخضراء، وومضت على جباههم هذه الفكرة التي تعمل في الرؤوس: لسوف يأتون! بين لحظة وأخرى لسوف يأتون! كانت الطريق تنحني مع المنحدر، وعيونهم تذوب عشقًا على المنحدر، كانت عيونهم تقول: لسوف يأتون! وكان جوزيف قد ركن زوجه في زاوية الخندق، ووضع إصبعه على فمها، وقال لها: هُسْ! تناول بندقيته، وانبطح خلفها، وعيناه تسعيان إلى ما بعد الحافة الترابية. راح جوزيف يفكر: لسوف يأتون! بين لحظة وأخرى لسوف يأتون! طار عصفور على مقربة ليست بعيدة، وأخذ يفرش جناحيه تحت سماء زرقاء تتدفق كالبحر، وهو يغرد لهم وللطبيعة، لكنهم لم يكونوا في حالة إصغاء لشيء آخر غير ذلك الصخب، صخب محركات العدو العسكرية: شاحنات العدو، لاندروفرات العدو، أهداف العدو، أسلحة العدو. ابتلع اسكندر في حلقه، وانتبه إلى معزوفة من الألحان، ثم ظهر أول (( الموكب )) المنتظر، فرمش جفنا محمد، ورفع حنا حاجبيه، وشد عبد التواب قبضته على السكين: لاندروفر! ثم تبعتها شاحنة، ولاندروفر ثانية. أطل جندي مدجج من نافذة اللاندروفر. حدق طويلاً في الخندق الطافح بالماء، وطلب من السائق التوقف. قفز، وأشار بيد ممدودة جدفت لمرات إلى أعلى وإلى أسفل نحو المجموعة، فوقفت سائر العربات. جاء أربعة جنود مع ضابط يجرون، وتحادثوا ما بينهم بالعبرية. كان يبدو عليهم أنهم يتهاوشون، ويتبادلون الشتائم. نفرت عروق الضابط، وتغضنت عقد وجهه. صاح بهم، وهو يهز إصبعه على مقربة من أنوفهم، فعادوا إلى عرباتهم يجرون كما جاؤوا، ثم ما لبث الضابط أن عاد إلى مكانه، وتابعت العربات طريقها. صارت العربات تمر أسفل الرجال المختبئين بين أغصان شجر الكستناء، وأمواج في صدورهم تصعد وتهبط. لم تحن بعد اللحظة التي تعنيهم، بعد لم تتفجر اللحظة بالقرار، بعد لم تندق رؤوس الفؤوس التي بقبضاتهم في قلوب الانتصار، ولم يأت بعد حكمهم ببراءة الأذرع المذنبة. راحوا يتجاذبون لحظتهم تلك، لحظة المصير الواحد، لتنطلق منها معركتهم، نعم، معركتهم التي سيصنعونها هم بأنفسهم. توقفت العربة الأولى عند حافة الخندق، وقد أغرقت عجلاتها المياه الطافية. انفتح بابها على المصراعين، وقذف الضابط بنفسه إلى الخارج، وراح يصرخ بعصبية، فهبط جنود الموت من حوله يجرون، وإذا بالرجال يتساقطون على رؤوسهم كمطر النار، وهم يصرخون من الأعماق، وكل قد ذبح عنقًا، وكل قد اقتلع قلبًا، وكل قد نحر كبشًا سمينًا. انقض رجال السلاسل بدورهم، ومن على يديه سلاح راح يطلق دون توقف، فقد حانت لحظة دخولهم التاريخ، بإيقاع الدم والألحان. غدا الرصاص يزخ في كل الاتجاهات، من العدو على العدو، ومن العدو على الفهود. كان هناك من يصرخ، وهناك من يزأر، وهناك من يعوي، تطايرت الأشلاء، وتفجرت الينابيع، وتفجر الدمع من عيون الشمس، وبكت بانشراح وتوتر.
قال لها جوزيف:
- أنصتي، الطلقات تأتي من القرية.
أصاخت السمع، وقد انتثر شعرها، وتعفر وجهها. كانت الطلقات والصرخات واضحة وضوح الشمس في أحضان القمح، فاتسعت عيناها إلى أقصاهما. انبجست منهما دمعة، وراحت تسيل على مهل.
في الأخير، احتل الجنود الإسرائيليون قرية جفنا، وراحوا يركضون بأسلحتهم في طرقاتها الضيقة، ويدقون بأقدامهم الأبواب، مجبرين الجميع على التجمع في ساحة القرية. كانوا قد بعثوا من وراء المصفحات، فجاءت قوة كبيرة. نفثت إحدى المصفحات نيرانها على بيت انطلقت منه رصاصة، وأحالته إلى دخان وأنقاض. قبض ميشيل على ذراع سليم، ثم ما لبث أن أطفأ البك أب، وهمس:
- اليهود!
انحنى على الشمعة، ونفخ بقوة، فانطفأت. وقع كلاهما في جوف الحلكة الرهيب، وظهرت لميشيل أسنان صديقه، وهي تبرق كأنها قدح الزَّنْد. فجأة، أطلق سليم ضحكة شرسة، فأخذ قلب ميشيل يخفق على غير العادة، ارتمى عليه، وهو يدفع بأصابعه على فمه، وينبر:
- اسكت! اسكت!
أطبقا فمهما، وانساب ذاك الإيقاع الهائل لموسيقى الحرب: خفق قلبيهما، وكل واحد يشد صدره إلى صدر الآخر. راحا يرقبان، دون أن يخطر على بال أي منهما، أن ما يرقبانه هو مصير الآخرين.
لم يكن المصير في مفهوم الطفلين قائمًا على أساس أنه نهاية، لربما كان منطلقًا. وحتى ذلك لم يكن يعني في تفكير الطفلين المصير كما يفهمه الكبار، كان ما يخلب لبهما فقط: (( اليهود في ساحة القرية ))! ولم يتساءل أحدهما: وماذا بعد ذلك؟ لكنهما قعدا في عتمة القبو ينتظران. انتظار ثمة يهودي، وثمة فوهة مفعمة برائحة البارود، وثمة طلعة ضبابية غير واضحة المعالم. همس ميشيل من جديد: (( اليهود! )) أحسا بالنعاس وسط ذلك الانتظار المارد، وقد أغفيا لبعض الوقت، لا من تأثير الخمر، فأحاسيسهما قد تيقظت إثر الانفجارات، ولكنهما لم يتمالكا أن يظلا على استمرار ما بينهما وبين نفسيهما، وما بينهما وبين الطلعة الضبابية القادمة للجندي المجهول! وثب جوزيف من خندقه، ونقل على يده الصحيحة سلاحه، نصبه بحيث امتدت فوهته إلى الأمام، ووقف بطوله في قلب الحقل، فصاحت بلهفتها المعتادة:
- إلى أين؟ هكذا لن يحتاجهم الكثير لكي يروك!
لكن شيخوخته انطوت على نفسها بتحدي شبابها المندحر، وظلت عيناه المتجعدتان تحدقان في سيقان الشجر.
عادت تنادي عليه:
- تعال، إلى أين؟
التفت إليها جاحظ العينين، ثم انطلقت الكلمات من بين شفتيه المقوستين تباعًا:
- انتظرتهم طويلاً كي يأتوا ليأخذوا مني الحقل، وقد أسأمني أن أنتظر أكثر، لهذا، سأذهب كي آتي بهم، فأقتلهم، ونرتاح.
لم يحدق أكثر من لحظة واحدة في تقاطيع تلك المرأة الهالكة، أشاح بوجهه عنها، وراح يهرول، بينما أخذت تنبش التراب بأظافرها دون توانٍ.
سمع الطفلان خطواتٍ تهبط الدرج، وسمعا سقوط رفوف الآنية والصحون، فغاص أحدهما في صدر الآخر، بلا موسيقى، بلا رقصة، بلا تصفيق أو نبيذ، وتضاعف انجذابهما إلى تلك الطلعة الضبابية التي راحت تؤرق في رأسيهما الصغيرين فكرة جسورة عن الحرب. أحسا أنهما في العتمة وحيدان، وأحسا أن العتمة تغطيهما، وتغطي الحجرات، ويمكن أن تكون العتمة في الطرقات، ولربما تندف بثلجها الأسود على أغصان الكروم، وتخصبها بعنب الظلام. راحت العتمة في عينيهما تصنع الأعشاش، وهناك في كل مكان من عينيهما أدغمة وألوان ليلية. كانا يسقطان في جوفها: المهلكة التي لا يحسانها، مثلما يسقط العالم في تلك اللحظة. ولم يتساءل أي منهما: المهلكة، ما هي؟ كان من الطبيعي ألا يخطر على بال الطفلين سؤال مثل ذلك، حتى بعدما دقت القدم الكاسرة باب القبو، وطلعت عليهما الطلعة الضبابية لجندي الموت، حتى بعدما انتصب الوحش الجميل بين الذراعين القويتين، وهمرت الطلقات.












19
نقطة سوداء في أعماق السماء!
رفع غسان رأسه بعناء، وتابع الطائر مفكرًا: طائر أسود! شامة مهملة على بطن أبيض! راح الطائر يخفق جناحيه، وفي عيونهم تخفق الحلكة. كان الطائر لا يثير دهشة أحد، فقد كان سيان لديهم، أن يهبط فوق رؤوسهم رويدًا رويدًا، أو أن يخترق في عيونهم أشرعة الحلكة. والطائر يفرش جناحيه، كان غسان يفكر فيه، ويقول: طائرة! كأنه الطائرة! ولم يتمنَ غسان أن يغدو في يوم من الأيام طائرًا كما تمنى ذلك خلال الرحيل. كان يراقبه كي يتسلى، وقد نسى الطفل الذي بين ذراعيه مدة من الزمن، لولا أنه تحرك قليلاً، فعاد إليه، وعاد يعرق جسده عليه. رفع له وجهه، وابتسم، ومع ذلك، فقد ظلت تقاطيع الطفل تأسن في الصمت. كان الطفل ينظر إليه، وكأنه يقف من بعيد، يتابع، بعين متجهمة، وجهًا لغريب جوال، ليست له من إقامة، مهنته السفر، قطاره قدماه، ووجهته ليست محددة. قال غسان لنفسه: لا بد أن لي هيئة غريبة! وارتعشت زوايا فمه. نعق الطائر بحدة، فتوترت جبهات بعضهم، وتجعدت وجنات بعضهم الآخر، ثم ما لبث الطائر أن انقض على أحد الأعشاش، ففزعت منه أسراب العصافير هاربة بين أشجار الصنوبر. رآها الطفل، وهي تتمزق صارخة في الأجواء، فانشق فمه عن ابتسامة واسعة، وبدا كالمسحور، وهو يتابعها بناظره. لم يرق لغسان ذلك الافتتان النادر المائج بالغبطة في الصدغين اللينين، فنصب أصابعه قرب فم الطفل، وسحق بسمته، ثم نقل ناظره من حوله: كانت من حوله كتل ممزقة من بشرٍ يدبون بقدميهم في مسعى إلى نهاية، أية نهاية، فسيان لديهم أن تكون نهاية طيبة أم غيره، حتى ذلك لم يكن بالوارد لديهم على الإطلاق، فهم لم يعودوا ينتظرون أكثر مما هم فيه، وربما كلمة (( الانتظار )) هذه شاذة تمامًا، طالما هم يسيرون لأنهم يسيرون. لقد انتزعهم فقط من أماكنهم طائر أسود، وألقى بمزقهم على الطريق، وكانت للطريق نهاية، فقالوا نقطع الطريق لنصل إلى النهاية، وبعد ذلك سنرى. حتى ولو غادرهم جنود الموت، وتوقفوا عن حراسة قطعانهم، حتى ولو قالوا لهم عودوا إلى دياركم، لكم مطلق الحرية كي تعودوا، حتى ولو أعطوهم سلاحًا، وقالوا لهم: اقتلونا، فهم لن يفعلوا، إذ سيتذكرون الأسلحة الفاسدة للملك فاروق، حتى ولو توسلوا إليهم، وشدوهم من أذرعهم، ومنعوا عنهم الطريق، فهم لن (( يتقهقروا )) إلى الوراء، ولسوف يجدون الوسيلة ليتجاوزوا كل (( عائق )). أخذ غسان يفكر: كالديدان! كالديدان الزاحفة صوب حقول القمح! شم الطفل من عنقه، واشتهى أن يقضمه منه. همس: لا بد أن يكون لذيذًا لحم (( هذا )) الطفل! لكن منظر الجنود الإسرائيليين، وهم يهرعون بأسلحتهم إلى بداية الصفوف، قد رد عنه شهوته. كانت أصابعهم دومًا على الزناد! وهم على أهبة، دومًا على أهبة! وباغتته رغبة في أن يضحك بقوة، وهو يفكر: (( كاللعب! )) راح يتابع الجنود بعينه، وهو يقول لنفسه: (( كاللعب! كهدايا الأطفال في الأعياد! ))، إذا زلق أحدهم أو تعثر، فلن تكون النتيجة وخيمة، فقط عشر ضحايا، وربما خمس عشرة، فسواء أسلحتهم أو أصابعهم الأسطورية التي دومًا على الزناد، فإن كلتيهما شديدة الحساسية، وهم بطبيعتهم سريعو الانفعال. كانوا قد وصلوا إلى نقطة التفتيش في (( الجفتلك ))، ثم ما لبثت قافلة البشر المحروسين أن انحرفت قليلاً ناحية الشمال، وانتشروا كالحشرات في حقل واسع. فكر غسان: المحطة الأولى! أول محطة منذ الفجر! وضع الطفل في ظل شجرة، وترامى قربه بإعياء، ثم نقل نظارتيه، وأخذ يمسح عنهما الغبار والعرق بطرف قميصه، والناس من حوله في قيام وقعود، ونار الشمس المسترقة للون الذهب الدموي تنثر اللهب سبائك سبائك. كان الحر قاتلاً، لكنه لا يفعل بأجسادهم أكثر من أن يدغدغها، فتعرق.
استلقى غسان على بطنه، مدد ساقيه بارتخاء لذيذ، وتمنى لو ينام: يا ليته ينام، رغم قسوة الأرض من تحته، يا ليته يغفو! كانت تلك رغبة من رغبات السلم، وكانت أصابعه تضغط بأناة في قلب التربة، فتتدفق رائحة شاذة، فاتنة وغريبة! تذكر غسان ما جرى في الصباح: كانت أمه قد طرقت عليه الباب لتوقظه قائلة: لقد حان موعد تناول قهوة الصباح، يا عزيزي! وكان قد راح يتنهد طويلاً، ويرفس طويلاً، ويلوك بين ذراعيه الوسادة طويلاً، حتى أتاه الصوت الملائكي من جديد، وهو يبثه بعض التأنيب: القهوة بردت، يا عزيزي الكسول، آه، إلى متى سيبقى طفلي الغالي مدللاً؟! كانت قد سكتت، ثم أضافت: أقلع عن عادة الأطفال، يا عزيزي، لقد أشرقت الشمس منذ وقت طويل! همس غسان: نعم، نعم، لقد أشرقت الشمس منذ وقت طويل، منذ أول فجر صعد على العالم! وضحك لنفسه بألم: ما زال (( الإشراق )) مستمرًّا! فتح عينه نصف فتحة، فشاهد أعضاء الطفل المدلاة من أعلى فخذيه، ثم عاد فأغمضهما: نعم، نعم، أشرقت الشمس منذ وقت طويل، إنها تشرق من فرجه! لذلك، بقي الطفل صامتًا طوال الوقت، عاريًا طوال الوقت، (( مشرقًا )) طوال الوقت، وبقيت الحرارة الحارقة لصدره على مستوى واحد من الارتفاع! عاد إليه صوت أمه: آه يا عزيزي... يا عزيزي... اغسل وجهك أولاً، يا عزيزي، ثم تناول قهوتك، أليس من الأصول أن... نعم، (( من الأصول أن... ))، من الأصول أن أتكلف حياتي، هكذا تريدين القول، أن أتكلف حياتي، وأن أهذبها حسب قواعد. كانت قد جرته من يده إلى الحمام، وغسلت له وجهه بالماء والصابون، ثم نشفته، وقبلته من خده. فكر: الذي كان يبقى أن تمضغ لي طعامي! لقد تم ذلك بالأمس القريب، أما اليوم، فقد أصبح كل شيء ذكرى، وهو إذ يعود إلى الماضي يجد نفسه كالغريب.
ألصق غسان خده بصفحة التراب، وفي أذنيه شلال لا ينتهي: ضجيج تلك المدينة الجديدة! كان يصل عددهم إلى عشرة آلاف مرحّل، وقد بنوا من حوله مدينتهم تلك التي بلا جذور في دقائق! لكنه فكر: إنهم بشر على أي حال! بينما شنج مفاصله خدر ساحق، ولم يعد باستطاعته بعد أن يبذل أدنى حركة مهما كانت صغيرة. بقي فمه المتورم مفتوحًا على سعته، بينما تراكمت على شفتيه قشور من الجلد الجاف. كانت تحفر شفتيه أنصال الظمأ، وجبهته البيضاء الرملية ملساء كالرخام، وتحت إبطيه بركة من العرق، وقد تهدل قميصه خارج سرواله. عزم على ألا يتحرك من مكانه حتى الصباح، لن ينهض حتى ولو أتوه بالبنادق، لن يتزحزح من استلقاءته حتى ولو أطلقوا عليه الرصاص. راح يتردد في رأسه ذلك الصدى المقهور: (( إنهم بشر على أي حال! )) كان يموت رغبة في النوم، وقد اقترب الطفل منه، وراح يرفع له قميصه، وهو يجذبه إلى أعلى، فحسبه ذبابة تداعبه على ظهره، ولم يعط لذلك أية أهمية، ثم ما لبث أن غفا، وحلم، ونهض، وتنهد، ثم عاد، فغفا، وحلم من جديد: كان قد امتطى جناحي ذبابة، وطار، وطار، وحوم، وحوم، مر بمدن كبيرة، وبأخرى صغيرة، وبأناس يفلحون الأرض، وبيهود يحبون الأطفال، وبأناس يأكلون الأطفال، بأناس متحضرين يعيشون في القرن العشرين، يرتدون ثياب السهرات، ويذهبون إلى الحفلات لكنما كان (( ذنبهم )) الوحيد أنهم يأكلون الأطفال على العشاء، يقلونهم كالسمك، ويحشونهم أحيانًا كالدجاج، وقد دعاه بعضهم إلى حفلة يقيمونها على شرفه، فاستجاب للدعوة، على شرط أن يصطحب معه (( ذبابته ))، فوافقوا، وعندما مد يده ليقطع طرفًا من فخذ مشوي، يفوح بالرائحة البشرية الزكية، امتقع لونه، وانتابت أصابعه رجفة هائلة، وقد توتر خافقه بشدة، لكنه، في النهاية، تشجع عندما رأى ذبابته، وهى تنهش وحدها لحم طفل كامل، فوضع طرف اللحم بين أسنانه، وراح يلوكه متقزز النفس دون أن (( يتماسك على طريقتهم ))، إلى أن قذف طرف اللحم ناهضًا، وهو يكسر أصابعه في بطنه، فاغرًا فمه، دون أن يستطيع القيء.
قبض عليه رجل من كتفه، وضغطه رويدًا، رويدًا، حتى عاد يجلسه على الأرض، ثم قدم له قربة ماء. تناولها بلهفة، وقلبها في فمه، فتدفق الماء كالبحر، وغسان يتخبط لاهثًا كأنه غارقٌ نجا من الموت بأعجوبة.
قال له الرجل بصوت أحس فيه بالوصاية:
- رويدك، رويدك، ستضيع الماء سدى!
بينما أمسك قربة الماء، وسدد فوهتها إلى فمه.
بعد ذلك، سقى غسان الطفل حتى ارتوى، ثم غسله بما تبقى من ماء.
قال الرجل:
- هناك نبع على مقربة ليست بعيدة.
أشار بيده إلى ناحية فيها زحامٌ شديد، وعندما التفت غسان، رأى أناسًا يخرجون بثيابهم من جوف حوض مستدير، وهم يتدافعون، ويقطرون من قمة الرأس إلى أخمص القدم. وكان آخرون يحملون أواني من الألمنيوم يريدون ملأها، وقد تعجب من أين أتى بعضهم بجرار الفخار. كان كل منهم يدفع الآخر بكتفه، يريد (( ماءه )) من فوهة النبع، وكانوا يتصايحون، وبعضهم لا يتأخر عن إرسال سلسلة من الشتائم، وفي عيونهم ذاك البريق الباهر لحقد مقهور فاتن: كانوا يكرهون بعضهم! وكان أحدهم يصيح:
- النظام! النظام!
لكنهم كسروا جرة على رأسه، وراح بعضهم يتساءل: أي نظام يريده هذا المتأدب الأحمق! فهم لم يكونوا، طوال حياتهم، على علاقة بشيء من هذا، من النظام، وكأن حالهم أراد أن يقول عنهم: (( لما كنا في المدن قلنا عن النظام كذبة كبيرة، لذلك، لم نؤمن به، ولكننا أردنا، على أي حال، أن نعلمه لأبنائنا في المدارس! )) واليوم... ليس هناك مدارس اليوم! لقد فتحوا لهم أبواب الغابات منذ الفجر ليدخلوها، ويعودوا شيئًا، فشيئًا، إلى أصلهم، فيعيشون في العراء بلا عورات، وبلا قواعد. راح غسان يتابع بعينيه ثلاثة أو أربعة منهم، وهم يخلعون ملابسهم، حتى أتوا عليها كلها، وقد انتصبوا عراة، لمدة دقيقة واحدة، كالتماثيل العاجية، وسط تلك الحفنة من (( البشر المختارين ))، قبل أن يلقوا بأجسادهم في ماء الحوض. همس: نعم، (( البشر المختارون ))، ألم يخترهم الجنود الإسرائيليون بدقة متناهية؟! ثم ما لبث أن أحس بظله قربه، وقد أزعجه كل ذلك الاهتمام. راح غسان يفكر: من أين خرج لي؟ متأملاً قامته الديناميكية القصيرة، ووجهه الممتلئ المدور. قال لنفسه: لقد قدم لي عونًا! كان يموت من العطش، وها هو بعدما شرب، استرد بعضًا من قواه.
أخرج الرجل من جيبه صندوقًا من السجائر، وأشعل سيجارة، ألقى في حضن غسان واحدة، فتناولها، ووضعها في فمه، رغم أنه لا يدخن إلا بالمناسبات السعيدة. وهو يمد له بين أصابعه جذوة اللهب، رمقه ممتعضًا بعض الشيء، وتساءل مرة أخرى: من أين خرج لي؟ أشعل له السيجارة، فسحب منها نفسين، وانتفخت أوداجه لسعلة قوية كادت تفجر الدم من عروق وجهه، والآخر ينظر إليه مثلوجًا. كان يسعل، وهو يتلوى كالعذراء التي لم يسبق لها أن دخلت بعد في تجارب! قال غسان في شبه اعتذار:
- أنا لا أدخن إلا بالمناسبات.
لم يقل: المناسبات السعيدة.
جلس الرجل إلى جانبه، وبسط كفه على الأرض، وقال في روية:
- ستتعلم.
ثم سلط عليه عينيه الفاحمتين، فسحب غسان نفسًا آخر من سيجارته، وقذف الدخان بسرعة قبل أن يصل إلى حلقه، وابتسم لذاته. كان عليه أن يقول شيئًا، فأوسع من ابتسامه، وأشار إلى قربة الماء:
- أشكرك من أجل الماء.
أرفق بأصابعه على عنق الطفل:
- كان هو أيضًا بحاجة إليه.
قال الرجل:
- كنا بحاجة إليه جميعًا.
وتربع كأنه يجلس على حصيرة.
قال غسان:
- نعم، هذا صحيح، لكنهم لم يتركوا لنا الوقت الكافي (سكت قليلاً ثم أضاف) :كان بالإمكان أن نأتي بقربة من البلاستيك، وقد بدأت البحث في بيت الخزين، لكنهم لم يتركوا لنا الوقت الكافي (اكتفى بثني حاجبيه إلى أعلى مشيرًا إلى الشمس): إن الحرارة شديدة، وعدا عن ذلك، لقد مشينا مسافة كبيرة.
سأل الرجل:
- من أين أنت؟
- من نابلس.
- من نابلس؟
- من جبل النار.
- وماذا كنت تعمل؟
- موظف
- موظف؟
- نعم، موظف.
لم يسأله موظف ماذا؟ لو سأله لقال له موظف قرود، فهي أية وظيفة يعطونها ليقبلها هو أو غيره على حد سواء. أخذ الطفل يجمع من حوله الحجارة محاولاً ترتيبها فوق بعضها البعض، لكنها لا تلبث أن تسقط :
- وأنا من طولكرم (سكت قليلاً ثم أضاف بتمهل): من خط النار! اسمي عبد النور، وأنت، ما هو اسمك؟
- غسان.
- بإمكانك أن تدعوني (( نور ))، فالجميع يدعونني كذلك (ابتسم ثم أردف بشبه اعتذار): إنه اسم طويل كما ترى!
فكر غسان: (( بداية تعارف! ))، وأحس بالضيق، وهو، لذلك، كاد يختنق. كان لا يبحث عن صداقات! بعد أن فقد أمه خاف أن يظل وحيدًا، لكنه ما لبث أن التقط طفلاً، فاكتفى به. ربما لم يعوضه وجود الطفل معه كل شيء، لكنهما كانا، على الأقل، من عينة واحدة، وخاصة أنهما كانا في جهة، وفي الجهة المقابلة كل أولئك، أولئك كلهم كانوا ضده، لأنهم انتزعوا منه أوثق رباط، فوقفوا في الجهة القابلة، تمامًا كما كانوا، هم في طرف، وجنود الاحتلال في الطرف الآخر، بعد أن انتزعوهم من ديارهم هذا الصباح. لكنه، مع كل ذلك، لن يتنصل من المسؤولية، لن ينهض من مكانه ليقلع عيونهم، فهم مهما كانوا سيظلون القطيع الذي هو جزء لا يتجزأ منه، سيظلون الصدور التي بالإمكان تعريتها في أية لحظة، وجعلها أهدافًا للبنادق، سيظلون (( البشر المختارين )) الذين حطم جنود الموت أبواب بيوتهم فجر اليوم، وبدأوا بانتقائهم. كانوا الخلاصة، الروح، الزبدة، كانوا الزبدة التي شن العدو حربه من أجل أن يستخلصها، ويطبخها، ويستهلك كل خواصها. انعطف غسان على نفسه، وألقى نحو عبد النور نظرة مرتابة، كان لا يبحث عن صداقات: (( لقد فات الوقت، ليس الوقت وقت صداقات! )) وجد نفسه يقول، وكأنه يعاتب نفسه:
- لم أزر طولكرم سوى مرة واحدة (ابتسم كالسائح الضائع): لم يكن السبب ضيق الوقت، ولا كثرة الأشغال، وإنما... الحقيقة لست أدري. الذي حصل أنني لم أزر طولكرم سوى مرة واحدة، وقد كان ذلك منذ فترة طويلة.
قال عبد النور بتمهل:
- ومع ذلك، فبيننا وبينكم مسافة نصف ساعة تقريبًا بالسيارة.
- إنها المناسبات، نعم، لم تحصل هناك مناسبات.
قهقه عبد النور قهقهة أثارت دهشته، فخفقت وجنتا غسان باحمرار مفاجئ، بينما تقوس حاجباه تساؤلاً، وسمعه يقول بين قهقهاته:
- لتقلها، لماذا لا تقلها بصراحة؟
ثم قطع عبد النور قهقهاته، وظلت له تلك الهيئة الساخرة التي يتخذها (( مهرج الملك الضليل )) دون مناسبة. قال، وهو يحاول أن يعطي لكلماته وزنًا:
- أنت تحتقرنا لأننا قرويون، لهذا، لم تزرنا!
لم تحتد نبرة غسان كما توقع، وفي ذات الوقت، أحس غسان بكرهٍ شديدٍ له:
- أنا لا أحتقركم لأنكم قرويون (بحث قبل أن يضيف بخجل معللاً ذلك): لقد كان جدي فلاحًا!
ابتسم عبد النور بسمة محايدة، وقال بنبرة مصالحة:
- على أي حال، إذا ما زرتنا، فلن تجد في بلدتنا ما هو مغرٍ.
كان عبد النور يفكر: إن بلدتنا قرية كبيرة كل شيء فيها ممنوع، إنها بلدة الخبز الممنوع والحديث الممنوع والبنات الممنوعات والصبيان الممنوعين والأحلام الكثيرة الممنوعة، إن بلدتنا في الأخيرة بلدة ممنوعة! وسأله:
- هل أنت وحدك؟
تردد غسان قليلاً، وقد طغى عليه التعب فجأة حتى ازرقت شفتاه. أضاف عبد النور:
- أنا أرغب في مساعدتك.
قال غسان بفتور:
- كانت هناك أمي.
بقى عبد النور ينظر إليه، وهو يفكر: (( بلدتنا بلدة ممنوعة! )) أضاف غسان بلا رغبة في القول:
- لقد أضعتها.
فانعطف عبد النور باتجاهه، وقال مهتمًّا:
- سيكلف البحث عنها الكثير من المشقة، وهذه الجموع الهائلة!
عزم غسان على ألا يجيبه، لكنه قال:
- لقد بحثت، ولكن دون فائدة.
تراخى جفناه، وتشنجت عضلات قلبه، لقد (( كانت )) أمه معه، أما الآن، فأحدهم يستنطقه، وها هو يدلي باعترافاته! لاحظ اهتمام الرجل بالطفل الذي توقف عن اللعب، فأوضح:
- لقد أضاع أمه هو الآخر.
وجمعه في حضنه مردفًا:
- كان يبكي وحيدًا، وكان الناس يعبرون دون أن يبالوا بدموعه، وحينما رفعته بين ذراعيّ، أحسست أننا لازمان: أحدنا للآخر.
قال عبد النور:
- لا تغتم، ستجدها: أمك، سنبحث عنها سويًّا.
فضحك غسان نصف ضحكة، وهو يفكر: (( يواسيني! )) كانت جروح تشقق شفتيه، وتسبب له الألم. أعاد عبد النور، وهو يقصد التخفيف عنه:
- نعم، سنبحث عنها سويًّا.
بينما أكمل غسان النصف الآخر لضحكته، ولم يقل له: (( إن العثور أو عدم العثور على أمه قد أصبح بالنسبة له واحدًا! )) راح يعتصر الطفل بين ذراعيه بقوة آلمته، فصاح الطفل، وغسان قد راح يؤكد:
- لن نجدها!
ثم راح يكرر باستسلام:
- لن نجدها! لن نجدها!
وللوهلة الأولى، فكر عبد النور: إنه لا يطيقني! مال على جنبه الأيمن، واستند برأسه فوق كفه، بعد أن غرز مرفقه في الأرض، وما لبث أن اعتدل برمًا، وراح يتابع فلاحة شابة تنقل على رأسها جرة ماء وبيديها دلوان مملوءان حتى الحافة، لا تنساب منهما قطرة واحدة. كانت تبتسم لنفسها، وكأنها في رحلة للراحة والاستجمام. لقد استفزته ابتسامتها مثلما استفزه عدم اهتمامه به، وفجأة، قال عبد النور بصوت أراده أن يكون رنانًا:
- إذن هكذا!
انتبهت حواس غسان كلها، وتساءل بعفوية:
- ماذا؟
- لقد انتزعوكم هذا الصباح من عقر دياركم، وصفوكم كالسلاحف في الطرقات، ليأتوا بكم إلى هنا، كي تشاركوا في المخيمات الصيفية.
بقى غسان صامتًا، انتظر عبد النور أن يقول كلمة، لكنه لم يفتح فمه على كلمة. لم يتمالك الرجل أعصابه، راح يصيح، وقد انفجرت عيناه، ورغت نواجذه:
- انظر من حولك، بالله عليك، انظر، ماذا يا ترى أنت واجد؟ كأن الجميع في رحلة للراحة والاستجمام، وها هم بعد أن شربوا قد كسروا الصفرة، وتمددوا في الظل، وراحوا يناغون ملائكتهم.
على مقربة منهم، كانت امرأة عجوز قد نصبت غطاء من الصوف الأسود على أربعة عيدان، ودلت من الطرف المواجه للشمس غطاء آخر، بعد أن شبكته بالملاقط، وهكذا بنت المرأة (( مأواها )). وبعد أن اطمأن بالها، جلست على بساط عجمي تطهو طعامها في طنجرة فوق بابور نفطي.
- بعد هذا كله، ليس عجيبًا أن يتزوج بعضهم هذا المساء، إنه الخميس، وما عليك سوى أن تنتظر، بين لحظة وأخرى، من يأتي ليدعوك، كي تشارك في أكثر من عرس! (أخذ نفسًا عميقًا، ثم أضاف بخدين محتقنين): لو كانوا في ديارهم لتزوجوا اليوم، فهو الموسم، ومع ذلك، فإن وجودهم هنا لن يبدل من الأمر شيئًا، إن الأمر سيان لديهم.
أراد غسان أن يقول له: وماذا في هذا من (( عار ))؟ فهم (( بشر على أي حال! )) لكنه تذكر اللحظة التي (( اعترف )) فيها راديو عمان بسقوط القدس، فتوهج توهجًا رهيبًا من أثر (( الصدمة ))، واحترق يأسًا وغضبًا! كان المنتصرون قد زحفوا بأسلحتهم حتى قلبه، وداسوا عليه بأحذيتهم، سحقوه بأحذيتهم، نضدوه بأحذيتهم، بينما ظل يتوهج توهجًا رهيبًا، وفي نفس الوقت، لم يكن يستطيع أن يرفع في وجوههم حتى خنصره! كانت أصابع يديه وقدميه معقودة منذ زمان، ولأنهم قالوا له اقعد في دارك، واطمئن، فسننتصر! اقعد في دارك، واسمع الموسيقى، وضاجع امرأتك طوال الليل، ضاجعها بعنف، كي تصنع لنا رجالاً أشداء يخوضون المعارك (( معنا )) واطمئن، فستنتصر! الله معنا، والعالم، وفوق هذا ماذا تريدنا بربك أن نضيف كي ننتصر؟ العالم كله أيها الأحمق الجاهل الذي صدقنا يقف معنا، من ورائنا، في ظهرنا، في قفانا، أيها الخنزير الأبله المتواكل الذي لم ير طوال حياته قطعة سلاح إلا بالمناسبات! تمامًا مثل غسان متى اقترب من السجائر! تأوه غسان، وهمس لنفسه: نعم، نعم، لقد صنعوا لعبتهم، وكنا جميعًا طرفًا منها، الطرف الأشد حمقًا، والأشد أملاً بأوهامه، ويأتي هذا الصعلوك الأجرب ليقول لي: انتظر أن يدعوك أحدهم للمشاركة في أكثر من عرس! ربما كان عرسك أنت بالذات أيها المفتون المدعي!
قال غسان:
- إن تلك المرأة العجوز قد أصابت، فالشمس حارة بما فيه الكفاية، وقد فعلت خيرًا بهذه العريشة.
بدا على عبد النور الاضطراب، وأصابت صوته لهثه:
- ستقول لي إن الآخرين، كذلك، قد فعلوا خيرًا!
كان غسان يستمع إليه أو ينظر، وفي أعماقه كان لديه شعور بأنه ليس واضحًا، وقد شاهد في عينيه حقدًا أسود ليس مهضومًا، ولم يكن غسان يريد تحديه أو الدخول معه في نقاش، لكنه سأل:
- أنا... لو تعرف... أريد أن أسألك، نعم، أريد أن أسألك: ماذا بإمكانهم أن يفعلوا بالله عليك؟
تنهد الرجل طويلاً، وراح يهز رأسه هزات متوالية بغير رضاء:
- هذا سؤال مناسب، إنه يوافق المناسبة تمامًا!
قال غسان بصوت نابر:
- إن حربهم انتهت!
صاح عبد النور صيحة جاءت من عهد ما قبل الهزيمة:
- عن أي حرب أنت تتكلم، يا ترى؟
لكن غسان هز رأسه بلا مبالاة:
- أنت تتجاهل كلامي! لماذا تتجاهل كلامي؟ ألست من طولكرم؟ ألم تقل إنك من خط النار؟
- نعم، من خط النار، لكني لم أسمع عنها (( حربكم )) هذه هناك!
نهض غسان، حمل الطفل إلى حزمة الظلال، واستدار إليه، وهو يردد منفعلاً:
- كانت هناك حرب... كانت هناك حرب...
كمن يريد إقناع نفسه بأن حربًا كانت هناك! وأضاف:
- وإلا، فلماذا نحن هنا؟ وإذا لم تسمع عن الحرب، أنت، فلماذا أنت هنا؟
- أنا هنا... (تردد، ثم قال باختصار): لأن لا حظ لي!
- أكل هذا مسألة حظ إذن؟
- كل هذا بالنسبة لي.
- دعني أقول لك إذن، طالما أنكرت الحرب لست واحدًا منا.
جهر عبد النور بصوته مهتزًا:
- نعم، نعم، نعم، أقولها نعم لمرات ثلاث: لست واحدًا منكم، لست من عصبة هزازي الخصور، لست من أصحاب من خاضوا الحرب في المذياع، كلنا نعرف أي حرب خضتم على (( حسابنا ))، على حسابنا نحن، نحن الذين ذقنا مرارة السجون وقت السلم، سلمكم! (راح يحاول أن يغضب بأقصى ما يستطيع): قل لي بالله عليك، ماذا فعلتم من أجلنا لما كنا نتعذب في السجون؟
زفر عبد النور، طفحت على وجهه بقع مشربة بالحمرة، بينما انتفخت شفته السفلى قبل أن يضيف:
- أما نحن، فقد فعلنا من أجلكم كل ما استطعناه.
بقي غسان يحدق بطريقة مبهمة، وراح يفكر مرة أخرى في مجدي، لقد اعتقلوه، من بين من اعتقلوا، ليلة الحرب، ولولا اختفاء شريف وعدنان لأصابهم نفس المصير. سمع عبد النور يضيف بنبرة ((متواضعة)):
- لم يكن ذلك أكثر من واجبنا، فنحن أناس (( ملتزمون! ))
فكر عبد النور: ما باله؟ إنه لا يحتج! انحنى نحوه مكررًا:
- نحن أناس ملتزمون، أتسمع؟ ملتزمون! لقد عرفنا كيف نعمل.
تحرك غسان في جلسته باردًا كالتمثال، وسأل من وراء شفتيه:
- ما الذي عملتموه؟
توالت أنفاس عبد النور في وجهه كأنها ريح عاجزة تزفر على دفعات:
- لا شيء، لم نعمل شيئًا، لم نواجه السلطة بالقوة من أجل الحريات.
- أية حريات؟
أصبح لونه الأحمر مشربًا بالحماس، وكان قد راح يفكر: إن أسئلته لا تنتهي، لا تنتهي! إنه يرتجل أسئلته بسحر خاص، وأنا أهتز لأقلها كلمة! من اللازم أن أرخي الحبل رويدًا، رويدًا، أن أرخيه وأشده معًا. قال بهدوء:
- أذكر الآن تمامًا، أذكرها أعوام 55 و56 و57، بقدر ما كانت معتمة ورهيبة، بقدر ما كانت تنبض بالإشراق الثوري (سكت قليلاً ثم ما لبث أن اندفع يقول بحماس): لقد سقطنا (( نحن )) بدمائنا، لكننا انتصرنا في النهاية. قهرنا السلطة، ولكي تنفذ السلطة بجلدها، اضطرت للاستجابة إلى بعض المطلب.
وبعد فترة من التأمل، قال عبد النور كأنه يعاتب الماضي:
- كنا في الخمسينات أكثر جرأة وأكثر حرارة وأكثر إرادة، وقد كان باستطاعتنا أن نقيم دولة وطنية قوية لكنما أوقعتنا الخديعة.
لم يقل كنَّا (( أكثر غرورًا ))، ومع ذلك، فقد أصر على الابتسام، وبدا عليه كمن يخرج من حلم فاجع:
- من 56 إلى ما قبل بضعة أيام، لم يفرجوا عني سوى مرتين، في كل مرة لم أكمل أسبوعًا بعيدًا عن القضبان، أما الآن...
سكت، وأطبق فمه.
قال غسان كي يحثه على المتابعة:
- أما الآن...
- لقد أفرجوا عني منذ أيام، بالطبع، سلطة الاحتلال من قرر الإفراج عني، وفجر اليوم طلبوا إليّ ترك الضفة والنزوح فورًا، وهأنذا! مع البشر المختارين، في هذا الطريق الأسطوري إلى شرق الأردن!
شدت غسان كلماته:
- سيعيدون القبض عليك هناك، ألم تفكر في أنهم سيعيدون القبض عليك هناك؟
أطلق عبد النور ضحكاتة المقتضبة:
- ليس على هذه السرعة، فالسلطة تبحث عن تثبيت مواقعها بعدما خسرت الحرب، وستحتاج إلى بعض الوقت، خلال ذلك، أكون قد تدبرت أمري.
راح عبد النور يفكر: بدأت أكسب ثقته، أعرف هذا الصنف من الشبيبة، في البداية يحدثك بمكر، فلا يقول لك الحقيقة كاملة، لكنه يستمع إليك بطهارة، إنه على استعداد أن يفهمك، ولكن من الصعب أن يبتلع كل ما تقوله! كان عبد النور يبدو بالنسبة لغسان في عمر أخيه الأكبر، وهمس عبد النور لنفسه: استطعت أن أجذبه، إنه عينة طيبة، عينة نقية، سيكون صالحًا- بدرجة جيدة- (( للتجارب! )) ثم راح يعاتب نفسه: كان من الأفضل ألا أطيل، في المرة القادمة، سأختصر، ستكون كلماتي أكثر حسمًا، لكني كنت مضطرًا، من الواجب التروي، وفي ذات الوقت، ملاحقته، ومحاصرته، نعم، محاصرته، ولكن، بالتدريج، سأشن عليه أول هجوم (( حقيقي )) بعد قليل، لأعاين مدى تجاوبه، لا... لم يزل الوقت مبكرًا! عليّ أن أطمئن إلى وثوقه بي تمامًا، يجب أن يتعلق بي أكثر من نفسه بنفسه أيام السلم، إنه عينة جيدة! وراح يقلب فيه النظر خلسة، بينما غسان يصيخ السمع إلى حديث بين جندي وشاب يدخن سيجارة على صخرة.
قال الجندي:
- الحرارة قوية!
أكد الشاب:
- نعم، لكن الحرارة لا تزعجني، فأنا فلاح!
ونفخ سيجارته، وابتسم، وقال للجندي:
- وأنت، يا خواجة؟
- وأنا ماذا؟
- هل تزعجك الحرارة؟
تردد الجندي، كان في مثل عمره، لكن التجاعيد تملأ وجهه، وقد زم عينيه لقوة الشمس، فبان كالنائم بالقوة، قال الجندي:
- الحرارة تزعجني، تزعجني كثيرًا!
ضحك الشاب، وسأل:
- قل لي، يا خواجة، هل أنت يهودي مغربي؟
ذهب عن الجندي تردده، حنى قامته قليلاً، بينما رفع قدمه فوق حجر:
- أنا يهودي مغربي (سكت قليلاً قبل أن يضيف): وأنا من فاس.
راح الشاب يبالغ من تبسمه، وقد بدت عليه بلاهة مزعجة، قال للجندي:
- إذن، نحن أقرباء، يا خواجة.
ابتسم الجندي هو أيضًا ببلاهة مزعجة، فالتفت غسان إلى عبد النور، وهو يطلب مشيرًا إلى الجندي الإسرائيلي:
- انظر!
وأضاف بدهشة:
- الجندي الإسرائيلي يبتسم!
قال عبد النور:
- آه!
وسكت، ثم فتح فمه، وجعل لسانه يتدلى. أراد أن يرفعه من قامته كوحيد والديه، ليبثه أكبر قدر من السعادة أثناء مشاهدته لجندي الورق الذي يتناقله الأطفال على أيديهم، وهو يبتسم لهم، وهم بدورهم يناغونه، ويبتسمون، لكن غسان انتصب واقفًا، ولم يجرؤ عبد النور على اللحاق به، بقي يفكر في الجولة التالية، في جولته هو، جولة حرب ليست كسائر الجولات، ولكنها حاسمة، ومدمرة، وإذا ما دخلها، فهو كاسبها، لأنه الجندي والقائد، ولأنه قدر نفسه.
قفز الشاب عن الصخرة، وانتصب واقفًا أمام الجندي دون أن تبارحه بسمته. حدق فيه، كان يحدق فيه عن قرب، وهو يهتز مثلجًا من قمة رأسه حتى أخمص قدمه، تمامًا مثل كل مرة كان يلتقي فيها بجندي مخفر القرية. كانت البذلة العسكرية تسحره، وكان قد ضغط نفسه، وهو يدس أصابعه في جيبه، ثم أخرج صندوق سجائره، وقدمه للجندي:
- خذ سيجارة، إنها من نوع رديء، لكن من اللازم أن تدخن، يا خواجة.
تراجع الجندي خطوة، وقال:
- أنا لا أدخن.
تعلق الشاب بذراعه، وراح يدفع قرب وجهه صندوق السجائر:
- خذ، خذ، دخن سيجارة واحدة، لماذا لا تأخذ؟
نفض الجندي نفسه، ووقف منتصبًا، وقد امحت ابتسامته، وازدادت تجاعيد وجهه. رأى غسان خيطًا من العرق على جبينه، ففكر: (( إنه يعرق مثلنا جندي العذاب! )) كشر الجندي منزعجًا، وبدت له هيئة رهيبة. لاحظ الشاب ذلك، إلا أنه لم يعط لذلك أية أهمية، لم يحس الجندي بهيئته تلك، فبعد لم يقطعوا جسور النهر! إنهم، هم والجنود، ذاك القطيع الراحل، وهم سينفصلون في نقطة عند الجسور، أما الآن...
قال الشاب باحتفاء:
- أنت محظوظ، يا خواجة، لأنك لا تدخن، إن هذا مضر للصحة!
حذره الجندي:
- لا تدخن، عليك ألا تدخن!
مد يدًا عصبية، واختطف صندوق السجائر. دفعه في صدره، وأعطاه ظهره. أخذ الشاب يحك بانزعاج شعر رأسه، ثم ما لبث أن ناداه:
- هيه! خواجة!
التفت الجندي، تردد الشاب، وهو مقطب الوجه، وفجأة، ابتسم بسمته البلهاء المعتادة، وقال:
- هل هناك شاحنات؟ أقصد، هل ستأتي شاحنات لنقلنا؟
راح الجندي يقهقه، وذقنه تندفع إلى الأمام، فتشجع الشاب، وجرى حتى وصل إليه، وهو يفغر فاه:
- هناك من يقول إنكم ستنقلوننا بالشاحنات.
توقف بعضهم على مقربة منهما ليسمع، ففكر غسان: (( لقد تعبوا، فهم لم يعتادوا على المشي الطويل! ))
- ماذا قلت، يا خواجة؟
- أتعبتم إلى هذه الدرجة؟
أصبح الناس من حوله كثيرين، وها هم يبتسمون لجندي الورق كأن تلك نجواهم، كانوا غير مبالين بالسلاح الرشاش المرتمي على صدره، ولكنهم تعلقوا بشفتيه، ليصطادوا من شفتيه كلمة واحدة تقول: ستأتي شاحنات، ولن نجبركم على المشي أكثر، فأنتم لم تعتادوا على ذلك.
أجاب أحدهم:
- نعم، تعبنا!
تأمل الجندي تلك الوجوه التي تحترق طيبة، وقال:
- ليس الذنب ذنبكم، أيها المساكين! فأنتم مسالمون كالعذارى، وغدًا، ربما عدنا بكم إلى دياركم.
هتف أحدهم:
- أسمعتم ما قاله الجندي؟!
ردد آخر بقوة من شدة الحماس:
- أسمعتم؟ هل سمعتم؟ أسمعتم ما قاله الجندي؟!
تركهم الجندي مبتعدًا، والناس يقولون لبعضهم:
- نعم، سمعنا، لكنها أحلام! هل هي أحلام؟ لا، ليست أحلامًا، فالجندي هو الذي قال!
حاولوا اللحاق به، وأحدهم يقول للآخر:
- أوقفه، قل له، طالما (( ربما عادوا بنا إلى ديارنا ))، فلماذا إذن طردونا؟
دفعه الآخر في كتفه:
- أما سؤال سخيف؟
- قل له، فقط قل له.
- لن أقول له، يبدو عليه الانزعاج لكثرة ما سألناه.
- قل له، وإذا ما هربنا؟
اصطبغ وجهه بالدم، وعض شفته السفلى قصد تأنيبه، ثم قال بصوت مطاطي مليء بالسخرية:
- لا بد أتك تمزح، يا هذا!
- أقصد، إذا ما هربنا دون أن يكتشفوا أمرنا.
- لا، يا حبيبي، لا، أنا لن أقول شيئًا من هذا، ولنفرض أنه قال لك اهرب، يا سيدي، على راحتك، فهل ستجرؤ سيادتك على تنفيذ ذلك؟
أخذ الرجل بقرض أظافره دون أن يفوه بكلمة، ثم صاح أحدهم بالجندي:
- والشاحنات؟ هل هناك شاحنات؟
التفت الجندي بغضب، وقد بدأوا يلهثون، دفع يده فوق عضوه، قبض عليه بعنف، وتقدم نحوهم مهددًا، بينما أخذوا في التراجع:
- خذوا لكم هذه الشاحنة، خذوا، لا تخشوا شيئًا، هناك متسع للجميع! تعالوا، اصعدوا، سأنقلكم جميعًا، والذي سأفعله أنني سأضرط ضرطة واحدة، فإذا بكل واحد منكم في داره.
قبض على سلاحه، ثم بصق مكشرًا، وهو يتمتم: (( قذرون! )) فانقلبوا على أعقابهم، والجندي يتابع قاماتهم المتخاذلة، وبسمة مائعة تسيل من بين شفتيه.
عاد غسان إلى مكانه، وتداعى في الظل مستندًا على جذع شجرة، رأى بيد عبد النور صحنًا من الرز، وها هو ذا يلقم الطفل بعد أن يجمع كمية من الرز بين أصابعه. فكر غسان: طعام! كان جائعًا، ولكن لم تكن لديه شهية. تطلع عبد النور إلى وجهه، وقال باغتباط:
- إنه يوم العيد!
مسح غسان شفتيه، وهو يتابع حركة فم الطفل الذي يمضغ:
- أرى ذلك جيدًا.
التفت إلى ناحية العجوز التي عملت من الأغطية السوداء عريشة: الطنجرة والبابور اختفيا وكذلك العجوز، ففكر: تتناول طعامها (( وحدها )) في الداخل.
- ومع ذلك، فليس هناك طعام للجميع !
أعاد غسان القول:
- أرى ذلك جيدًا.
كانت أصابعه الغارفة للرز تتحرك بشكل أوتوماتيكي، وكذلك فم الطفل، وكان يحتاج، في كل مرة، إلى أن يلحس له سبابته كي ينقذ حبة رز أو حبتين من السقوط.
- هل أنت جائع؟
أخذت تفعم أنفاسه رائحة الطهو: هناك من قلى لحمًا! وها هو ذا يكاد يدوخ جوعًا.
أعاد عبد النور السؤال:
- هل أنت جائع؟
قال غسان:
- ليس هناك طعام للجميع.
- الغريب، طالما هناك طعام، أن يكفي الجميع!
رمى غسان ساقيه إلى الأمام، وحنى رأسه إلى جانب:
- لقد ساروا مسافة طويلة، فاستهلكوا كل قواهم، إنهم بحاجة إلى وجبة مضاعفة، وأحدهم لم يعمل حسابه على ذلك.
كان القتار اللذيذ للحم المقلي يصل إلى أنفاسه باستمرار، فقال عبد النور:
- هل عرفت؟ لقد ذبحوا خرافًا.
- ألم تقل إنه يوم العيد؟!
- نعم، ولكن...
- ولكن ماذا؟
- لا شيء، أردت أن أقول إنهم ذبحوا خرافًا.
وقرص الطفل من ذقنه:
- كل يا لعبة! املأ معدتك يا لعبة! املأ معدتك... (ضحك قليلاً ثم التفت إلى غسان، وقال ممتنا): لقد أنقَذَتْ الطفل.
أومأ رأسه إلى ناحيه اليمين: كانت على مقربة من السياج امرأة شابة تلقم ابنها الرز على طريقة عبد النور، امرأة شابة، أم جميلة! وحينما التقت عيناها بعيني غسان، حاولت الابتسام، وأشاحت عنه وجهها بسرعة. قال عبد النور:
- لقد أعطت للطفل حصتها.
تطلعت المرأة، هذه المرة، بجرأة إلى غسان، وابتسمت له ابتسامة عريضة، بينما غسان يردد كالغائب:
- امرأة شابة! أم جميلة!
رفع عبد النور عليه حاجبيه، وتأمله:
- وماذا يزعجك في ذلك؟
اعتدل غسان في جلسته، وقال كمن يفاجئه ذلك:
- لا شيء على الإطلاق!
قال عبد النور، وهو يبتسم عن قصد:
- إذن، أنت لن تمانع إذن...
وغمزه بقوة، فلم يتمالك غسان عن القول:
- أنت مجنون! أنت لست بعقلك!
انحنى عبد النور، وقال بطريقة احتفالية:
- امتطها، لماذا لا تمطيها؟ لاحظت في عينيها شهوة غريبة لك، لن يحتاجك ذلك إلى جهد كبير كي تمتطيها، وإذا أردت امتطيناها معًا. سنأخذها، إذا ما سقط الليل، إلى جهة معزولة، سنخلع عنها ملابسها كلها، وسنهدمها على الأرض، وسنمتطيها كالمهرة، واحد تلو الآخر. وإذا أردت، إنني، أنا، إنني أعتقد بالحياة الجماعية لو تعلم، إذا أردت امتطيناها معًا في آن واحد! ماذا قلت؟ سنقضي ليلة رائعة، هاه! ستكون ليلة رائعة! ثم ... ثم إنني، أنا، إنني، كما قلت لك، أعتقد بالحياة الجماعية.
- الحياة الجماعية!
- نعم، الحياة الجماعية، أتدري ما هي الحياة الجماعية؟
- تقريبًا.
- هل يعني هذا أننا اتفقنا؟
راح غسان يلقي بنظره عليه وعليها، كان في قلبه يقول: ما شاء الله، ما شاء الله... لم نتعارف إلا منذ قليل، وإلى هذه الدرجة تصل به الوقاحة! امتلأ أنفه برائحة عفنة لأنفاسه، ففكر: هذا لأنه لم يأكل منذ وقت طويل، وكذلك بسبب الدخان! ظن أنه شم له نفس الرائحة، فقال:
- لقد بعثر الطفل الرز.
قال عبد النور للطفل، وهو يفتعل نبرة مؤنبة:
- آه، يا لعبة! يا لعبة، يا لعبة شقية! لماذا تبعثر الطعام هكذا؟ هل شبعت، يا لعبة؟
أبعد الوعاء إلى جانب، ورفع الطفل إلى أعلى، وراح يرميه، ويلقفه، والطفل يكاد يغمى عليه من شدة الضحك، ثم وضعه على الأرض، وأخذ يقرصه من ذقنه:
- هل شبعت، يا لعبة؟ هل امتلأت معدتك؟ لعبة شقية... لعبة شقية!
والطفل لم يزل يضحك، بعد ذلك، ركنه إلى جانب، والتفت إلى غسان:
- لقد شبع.
- سيجوع بعد قليل.
- إذن؟
- كان من الأفضل لو بقي جائعًا.
ركز عبد النور حافة الصحن على فمه، وجعل الرز يزلق بين أسنانه.
سأله، وهو يمضغ:
- هل كنت حزبيًّا؟
- لا
- ألم تفكر يومًا أن تتبع لحزب؟
- فكرت، لكني... لا، لم أفكر، لنقل، لم أفكر جديًّا.
- هذا واضح.
- ماذا؟
- أنك لم تفكر جديًّا.
وصمت، كان عبد النور قد أتى على كل ما تبقى من الرز، وراح غسان يختلس النظر إلى المرأة. فكر عبد النور: لم يفكر (( جديًّا )) أن يتبع لحزب، وها هو يرتمي في الشمس، ويزلق بجسده رويدًا، رويدًا، بعيدًا عن الظلال، ويتمرغ على التربة الظامئة. مر الجنود الإسرائيليون من أمامه لمرات، فلم يعطهم أية أهمية.
خرجت العجوز من تحت العريشة، وهي تلحوس شفتيها، بينما نقلت بعض الأوعية إلى الحوض. فكر غسان: أنا أمقت حديثه، لكن هذا لا يعني أني لا أرغب في الحديث معه. فجأة، راح غسان يضرب كعب حذائه في الأرض، ويردد، وهو يكز على أسنانه:
- كان من اللازم أن ننتصر... كان من اللازم أن ننتصر...
شق مسامعهما ذلك الجرس المتوتر الذي كانته ضحكة حادة، زحف صاحبها الشيخ على يديه وقدميه حتى وصل غسان، رفع رأسه إلى عبد النور الذي يخفي بقامته الشمس، ثم التفت إلى غسان، وقال، وهو يهز رأسه بشيء من العصبية:
- نعم، كان من اللازم أن ننتصر، كان من اللازم أن ننتصر!
عاد الشيخ يضحك متوترًا، وهو يضرب عمامته في الأرض. تأمله غسان: كان في الستين من عمره، ذا لحية قصيرة يغزوها وشعر رأسه بياض شديد، وكان له أنف معقوف ذكره بأنف الجنرال ديغول.
قال الشيخ:
- بعد سنة 48 توقف الناس عن استعمال (( كان ))، أما هذه الأيام، فأنا أسمعها تتردد على أفواه الجميع.
وفي هذه المرة، راح يمز ضحكاته مزًّا دون أن يفتح فمه، كان مطبق الشفتين، وقد استطاع غسان أن يشاهد في عينيه حربًا قديمة خاسرة.
- كيف؟ ولماذا؟ لإلقاء التبعة على عاتق الآخرين، ولكي ينفضوا أيديهم من ذلك، كالجريمة... تمامًا كالجريمة!
زحف عليه بعض من سحاب نظراته، فغام وجهه. تدخل عبد النور محتجًّا، بينما المقصود أصلاً، بينه وبين ذاته، أن يستنكر عليه تدخله:
- ليست جريمة بمقدار ما هي خراء!
اهتز الشيخ، وقد جحظت عيناه:
- إنها جريمة، ونحن القاتل، لكننا نصر على عدم الاعتراف.
تمطت على شفتي عبد النور بسمة بلاستيكية دون حياة، وخاطب الشيخ:
- ولماذا لا تعترف؟ طالما قلتها، فلتعترف إذن أمام الجميع!
قال الشيخ بصوت حزين:
- لم يعد ذلك بمجد بعد!
- أرأيت
- أنا لا أبيع كلامًا كالآخرين، أنا (توقف فجأة ثم قال بألم مكبوت): أنا أعرف الحقيقة.
حدق الرجل بطريقة انقبض لها قلب غسان، أدنى عبد النور حجرًا مسطحًا، وجلس عليه، بينما راح الرجل يردد كأنه يبشر بدين من الأديان:
- نعم، أنا أعرف الحقيقة.
- كلنا نعرف الحقيقة.
نبر مهتزّاً:
- لا، ليس هناك من يعرف الحقيقة غيري.
كان يبحث عن متنفس ينفذ منه إلى حيث يعلن الحقيقة لكل الناس، لكنه لم يلق واحدًا (( جادًّا )) يصغي إليه! التفت عبد النور إلى غسان في ضيق، والرجل يقول بانشداه:
- النصر كلمة مُرة، ومع ذلك، فقد انتصرنا لمرات، بين عام 36و39، انتصرنا لمرات في الوقت الذي لم تكن فيه أنت مولودًا.
قال عبد النور:
- أثناء إضراب 36 كان عمري سبع سنين، فلم أشارك.
ابتسم الشيخ بفخر:
- أما أنا، فقد شاركت.
تأفف عبد النور:
- لو كنت وقتها في سن المشاركة لشاركت، لقد شارك وقتها الجميع.
احتد الشيخ كمن كان بحاجة ليؤكد:
- نعم، نعم، لقد شارك وقتها الجميع.
- أهذا ما كنت تسعى إليه؟ أهذا ما كنت تصبو إلى قوله عن ((الحقيقة))؟ أهذا كل شيء؟
تراخى صوت الشيخ، صار له شكل يستأهل العطف، سمعاه يقول:
- لا، ليس هذا كل شيء! (أخذ نفسًا ضائقًا ثم أضاف بشفتين قاسيتين): إن الحقيقة اليوم هي عدم الحقيقة!
كان عبد النور قد أزاح الحجر من تحته، وتربع على الأرض، لقد فكر فيما لو سحق رأس ذاك الشيخ، وأنهى ثرثرته بنصف دقيقة. كان يشمئز، يشمئز من شكله، سمعه يقول:
- لقد دعاني بعضهم بالأحمق، لقد كان جزائي أن دعاني بعضهم بالأحمق، أنا أعلم... (راحت شفة الشيخ السفلى ترتجف وأنفه الديغولي يأخذ شكل المدفع) أنا أعلم أنهم خانونا، ولكننا نحن رضينا بذلك.
لم ينفجر عبد النور في وجهه، هذه المرة، صائحًا، إذ قال بعد أن صمم على أن يوقفه عند حده دون (( غضب )):
- من رضي بذلك هم أنتم، جماعتك المتنزهون هؤلاء، أما نحن، فكان على بالنا أنهم خانوا الجميع، إنكم أنتم وحدكم من رضي بذلك.
أطلق الشيخ نفسًا ضائقًا، وتوجه بكلامه إلى غسان:
- أرأيت؟ لن نتفاهم؟ إننا (( نحن )) سبعون أو ثمانون مرة، لهذا، لن نتفاهم، لهذا بعصونا!
قال غسان:
- يا أبت، ما كان عليك الرحيل، إن المسافة طويلة، وستعجز عن السير!
حدجه الشيخ دون أن يستسيغ تلك الرحمة المتطفلة، وهتف:
- أحدهم لم يجبرني على الرحيل، لكني رحلت.
تمعن في قراره من خلال بقع الكبر على وجهه، وسكت. قال الشيخ بصوت مهدم، وقد حط في كاهله ألم كهل:
- أيام النكبة رفضت الرحيل، واليوم أسعى إلى الرحيل بنفسي.
أعاد غسان بعناد:
- كان عليك ألا ترحل، كان عليك ألا ترحل!
ثار الشيخ:
- في سنة 48 بقيت كي يبقى الناس، واليوم أرحل كي أمنع رحيل الآخرين.
ابتسم بيأس، وذابت بسمته في بحر تأوهاته:
- أنا عاجز كما ترى.
ابتهل غسان:
- يا أبت، لقد أتعبت نفسك، يا أبت!
استدار الشيخ إلى عبد النور، وهو يهز رأسه بتثاقل:
- لو كنت في سن المشاركة لشاركت في هذه الحرب اللعينة، لكني... عجوز!
نبر عبد النور:
- أية حرب؟ هل كانت هناك حرب؟
ثم أوضح:
- كانت هناك (( خطة )) حرب.
- إذا شئت، لكن هذا لا ينفي أن هناك حربًا- مهما كانت خطتها- قد وقعت، وكان علينا نحن، نحن من نتمنى النصر، أن نخوضها ولو بالسكاكين، وأن ننتصر!
ضحك عبد النور بقوة بعد أن فاجأه هذا التحليل الحماسي، فقال غسان، وهو يفرك عينه:
- وما رأيكم في هذا: لقد استدعوا أخي الاحتياطي.
قال عبد النور:
- كان عليه ألا يذهب، لأنه سوف يزعجهم حضوره، وهم لهذا سيبعثون به إلى الموت عن طيب خاطر، بعد أن اتفقوا على أن يرمي كل طرف عددًا من جنود الآخر بالرصاص، وبعدها يتم التسليم! (فكر قليلاً ثم أضاف بيقين): شكليات حرب! هذه هي (( حربنا )) التي وقعت: شكليات حرب، لا أكثر ولا أقل!
بدا على الشيخ الحزن الشديد، بينما راح يدمدم دون أن يسمعا ما يقوله، استعاد غسان جملته: (( في سنة 48 بقيت كي يبقى الناس، واليوم أرحل كي أمنع رحيل الآخرين! )) وفي تلك اللحظة، تقدم منهم اثنان، وراحا يبادلانهم النظر، ثم قال الطويل الأسمر:
- قولوا، يا جماعة، هل الحدود مع سوريا مفتوحة؟
كز الشيخ على أسنانه، وسأله دون مودة:
- أتفكر في الذهاب إلى سوريا؟
أومأ الشاب رأسه إيجابيًّا، ثم لمس ذراع صاحبه، وأضاف:
- نحن الاثنين.
- وهل تأملان في عبور النهر؟
امتعض الشابان، وبدا عليهما عدم الفهم.
أعاد الشيخ:
- من اللازم عبور النهر أولاً.
قال الثاني بلهجة (( أكيدة وواثقة )):
- سنعبر النهر.
قال الأول:
- هناك من يتحدث عن شاحنات؟
تساءل الشيخ:
- شاحنات؟ أية شاحنات؟
- شاحنات لنقل الجميع حتى الجسور، ألم يصلكم الخبر؟
تعكر مزاج الشيخ، وقال متهكمًا:
- لا، لم يصلنا الخبر!
- ها هو يصلكم الخبر إذن. هناك شاحنات ستأتي.
سمعوا الشيخ يردد وأسنانه تصطك، كأنما اكتسحته عاصفة برد جامحة:
- يا للعار! يا للعار!
لاحت على محيا الشاب الطويل الأسمر (( دهشة )) و(( براءة ))، فاستفسر:
- ماذا به؟
قطع عبد النور عليه استفساره:
- وكيف عرفتم أن الحدود مع سوريا مغلقة؟
- قال لنا بعضهم إنهم أغلقوها منذ صباح الحرب.
أضاف صاحبه الأبيض القصير:
- الدخول والخروج فقط للعسكريين، أما بالنسبة للمدنين فقد صدر أمر بمنعهم.
سأل عبد النور:
- ولماذا تذهبون إلى سوريا؟
تقدم القصير الأبيض خطوة، ثم قرفص، فصار يقابله وجهًا لوجه:
- أنا حداد، وأنا ذاهب كي أبحث عن عمل، أما هو (أشار إلى صاحبه): فصائغ (تردد): إن كلينا يريد الاستقرار في دمشق. (سكت قليلاً ثم تابع دون تردد): هناك أمان أكثر، ومال أكثر.
قبض الشيخ المغلول القلب على ذراع الشاب، وكأنه يقبض على الهزيمة، وراح يصيح من نقطة غائرة في أعماقه:
- يا للعار! يا للعار!
أمسك الشاب تلك القبضة من الأصابع العظيمة التعبة، وألقاها عنه بعيدًا، ثم قال مشمئزًا:
- ما باله؟ يبدو علينا أننا نبعصه؟
قال عبد النور:
- ليس أنتم وحدكم، فالجميع هنا يبعصونه!
احتدت نبرة الشيخ، قال مخاطبًا الشابين:
- لا تهربوا كالأرانب الرضيعة! قاوموا!
وكأنه أنهى للشابين نكتة، راح كلاهما يضحك بانبساط تام، وقال الطويل الأسمر:
- إننا لا نهرب كالأرانب الرضيعة، إننا نذهب بحثًا عن عمل.
كانت نبرة الشيخ حادة كالنصل:
- عودوا إلى دياركم، لماذا لا تعودوا إلى دياركم وأعمالكم؟
همس الحداد في إذن عبد النور:
- هل هو مجنون؟
- إنه عجوز مسن!
- أليست فيه مسحة من جنون؟
أخذ الشيخ يضرب عمامته في الأرض:
- اسحقوا رؤوسهم، قبل أن يسحقوا رؤوسكم، أثبتوا أنكم رجال!
والحداد السمين القصير لم يزل يهمس في أذن عبد النور:
- يبدو لي أنه مجنون تمامًا، إنه يصدق أننا تركنا ديارنا وأعمالنا عن طيب خاطر، وها هو يتجاهل أو ربما لا يدري أنهم طردونا.
سأله عبد النور:
- هل استعملوا معكم التهديد؟
- ليس مع الجميع.
- ولماذا أنتم على الخصوص؟
- لا أعلم (سكت قليلاً ثم أضاف): سيطردون الناس جميعًا ليفرغوا الديار ويسكنوها.
صاح الشيخ:
- ليس هذا هو السبب الحقيقي!
انحنى الحداد عليه بعفوية، وسأله مفتر الثغر:
- وما هو السبب الحقيقي، يا عمي؟
كشر الشيخ:
- لست عمك، لا أنت تعرفني، ولا أنا أعرفك، إياك أن تدعوني بعمي.
- طيب، يا عمي، لن أدعوك بعمي، أهذا ما تريده، يا عمي؟
أخذ الشيخ يصرخ هائجًا:
- قلت لك لا تدعني بعمي، لا تدعني بعمي.
غامت تقاطيع الشاب، وراح يهمهم:
- إنه هو من يبعص الجميع!
قال الشيخ:
- عد إلى مهنتك، أيها الشاب، فالحديد ما زال متوافرًا.
راح الشاب يلتفت إليهم غير مقتنع ولا مصدق أن الشيخ يتحدث بكامل قواه العقلية، أخذ يتبادل مع عبد النور النظر الطويل طامعًا في مؤازرته. قال الشاب:
- أنا أريد أن أفهمه: إنهم طردونا من ديارنا كي يسكنوها، ومن أعمالنا كي يعطوها لعمالهم.
قال الشيخ، وهو يمسح عرقه بطرف قنبازه:
- ما أفهمه أنكم تركتم الوطن، هذا ما أفهمه، لقد خنتم الوطن، وخنتم الجميع، أنتم يا من قلنا عنكم ستحمون الوطن، وستحمون الجميع! لقد جربناكم، فإذا بكم أكثر جبنًا من الأرانب!
اندفع الشاب صوبه، وراح يهدر وخصلات شعره تهتز بانفعال:
- ستقول لي أكثر جبنًا من الأرانب، وهم يدفعون فوهات بنادقهم في مؤخرتك، ستقول لي جربناكم وخنتم الجميع، بينما الجميع هم الذين خانونا، قل لي، بالله عليك، ماذا بإمكاننا أن نفعل وقد خسرنا الحرب؟
قال الشيخ بلسان صلب:
- كان عليكم ألا تخسروها.
- ولكننا لم نشارك فيها.
نفخ الحداد، وهو يرمي يده إلى الوراء مستسلمًا:
- إنه لمن الصعب أن تجعله يفهم!
أراد غسان أن يذكرهم بالسموع عندما ضرب النظام الفلاحين بالسلاح لما طالبوا به ضد الإسرائيليين لحماية أنفسهم، وأراد أن يذكرهم بحالة الطوارئ، وبأشرعة الدماء، وبالسجون، حتى النساء عاملهن النظام بوحشية. وجد نفسه يقول كالخارج من حلم مزعج:
- لم يكن ذنبنا كل الذنب!
قهقه عبد النور، وغدت له هيئة وحشية:
- إنه ذنبك أنت، أنت دون الناس، وسيضم الشيخ صوته إليّ ضدك... ضدكم أنتم، أيها المثقفون الجبناء.
- أأنت من يقول هذا؟
- نعم، أنا من يقول هذا!
قال غسان، وهو يحس رأسه ثقيلاً كالرصاص:
- وأنت، كيف وماذا كان دورك؟
- لقد سبق وقلت لك، أنا... (سكت قليلاً ثم قال بصيغة قطع): لقد انتهى دوري.
ندت عن غسان ضحكات صبيانية متهكمة، أعاد عبد النور:
- نعم، لقد انتهى دوري.
أضاف مركزًا على كلماته:
- أما أنتم، فأدواركم لم تبدأ بعد.
صاح الشيخ مهتاجًا:
- من اللازم إدانتهم كلهم.
قبض على غسان من جذعه، وأدناه منه:
- انظر إليهم، انظر إليهم.
قال غسان كالناسك:
- لقد نظرت إليهم طويلاً.
- وماذا رأيت؟
- ليس ذنبهم كل الذنب.
راح الشيخ يشتم:
- يلعن دين! ذنب من إذن؟ من هذا الملعون الذي هو ذنبه؟
ابتسم عبد النور ابتسامة لها مغزى، ثم قال بلهجة القاضي:
- إنه ذنب المثقفين أولاً، فالضباط، فالعمال، ثم الجندي، فرجل الشارع، أنا والفلاحون فقط لم يكن ذنبنا!
قال غسان:
- أنت، يا نور، تدهشني!
نبر عبد النور:
- هل ذقت مرارة الانتظار في السجون؟
- لا.
- إذن أطبق فمك.
تدخل الصائغ حائرًا، وهو يحرك كتفه، وقال:
- ولكن، يا جماعة، لم تقولوا لنا إذا كانت الحدود مع سوريا مفتوحة أم غير مفتوحة!
لم ينه عبد النور فكرته، وفي ذات الوقت، لم يجد كلماته، فقال غسان مؤكدًا بينما يلوي كبده شعور كره حقيقي نحوه:
- أنت، يا نور، تدهشني! تدهشني!
وانسحقت تقاطيعه، كان قد التحق بهم فتى شعره أحمر، ووجهه مليء بالنمش، فتوجه إليه الحداد:
- لم يقولوا لنا إذا كانت الحدود مع سوريا مفتوحة أم غير مفتوحة.
- لماذا؟
- لنجد عملاً؟
- العمل في سوريا ليس سهلاً كما تتصور.
ابتلع الشاب ريقه:
- وكيف عرفت؟
- كنت هناك قبل الحرب.
- سنحاول، علينا أن نحاول (سكت مفكرًا بعض الشيء، ثم أضاف وكأنه يشجع نفسه): إذا وجدناه تحسنت معنا الأحوال، وربما فاقت أحوال ما قبل الحرب.
سأل عبد النور:
- هل كان مدخولكم رديئاً؟
- ليس بالرديء ولا بالجيد، لكنه لم يكن كافيًا. أنا أدخن كما ترى (أخرج من جيبه سيجارة وضعها في فمه): كان مدخولي بالنسبة للآخرين من أبناء مهنتي حسنًا، ومع ذلك، فقد كنت أستدين في العشرين من كل شهر. أما هو (أمسك يد صاحبه، وجذبه، فانصاع مقرفصًا مثله): أما هو، فمدخوله أحسن من مدخولي بكثير، ولكن في رقبته عائلة، لهذا، قررنا أن نذهب إلى سوريا. وهو (لف ذراعه حول رقبته): صائغ، وقد سبق أن قام بعدة زيارات إلى دمشق، إنه يعرف الناس هناك، وهو يقول إننا سنوفق بإيجاد العمل المناسب والسريع. أليس كذلك، يا ياسر؟
أكد الرجل، وهو يهز رأسه عدة مرات إلى الأمام:
- هذا صحيح، وأنا أضمن ذلك ليس مئة بالمئة، ولكني أضمن ذلك.
توجه الحداد إلى الشاب ذي الشعر الأحمر بلهجة مطمئنة:
- أسمعت؟ إنه يضمن ذلك.
قال الشاب ذو الشعر الأحمر:
- كانت لديكم نقابة، ألم تكن لديكم نقابة؟
ندت عن الصائغ ضحكات كالفقعات، وكان من الحداد أن جلس على الأرض، ومد ساقيه، بحيث لامس قدمي غسان، قال بينما بطنه يرتفع ويهبط:
- كانت لدينا نقابة.
- من عمل النقابة أن ترد عليكم حقوقكم، وأن تحسن دخلكم.
راح العاملان يتبادلان النظرات والضحكات التهكمية، ثم قال الصائغ:
- كانت لدينا نقابة (( أرباب عمل )).
انفجر يقهقه وكأن أحدهم قد راح يدغدغه من خاصرتيه:
- نقابة أرباب عمل!
- أقصد نقابة (( معلمين ))، وليس نقابة عمال.
قال غسان، وقد غضب قليلاً:
- لم تكن نقابات بقدر ما هي مؤسسات خصوصية.
انحنى الشيخ على الطفل الصامت، وراح يلاعبه بإصبعه ملامسًا شفتيه، وهو يقول على طريقة من يناغي أحدهم:
- أسمعت، يا طفلي؟ أسمعت ماذا يقولون لظلالهم؟ إنهم يتحدثون وكأنهم في بيوتهم عن الرواتب والأجور؟ أسمعت، يا ملاكي؟ هذا من سبب الهزيمة، يا ملاكي! اضحك، يا ملاكي... قهقه، يا ملاكي... لهذا كسروا مؤخرتنا، يا ملاكي، لهذا نهكوا عرضنا، يا ملاكي!
قال الحداد:
- عشر سنوات في المهنة، وأنا أقبض معاشًا ثابتًا، ثم، هناك من يأخذ أجرته حسب القطعة.
استفسر عبد النور:
- حسب القطعة؟
- أقصد بالمقاولة، فإذا أرادوا أن تصنع لهم بابًا حديديًّا أو صندوقًا أو نافذة - حسب القطعة- قالوا لك دفعنا كذا مبلغ أو كذا مبلغ، أصحاب الورشات بالطبع، حتى ولو أخذ منك ذلك جهد شهر كامل، وهم، في العادة، لا يدفعون الشيء الكثير، إنهم يمتصون الجميع، ستقول لي إن حال صديقي أفضل بكثير، ولكنك ستكون مخطئًا، فهي على الرغم من كونها مهنة أقل تعبًا وقذارة لكنها أكثر مهارة، ورغم أن الذهب كثير، فإنهم يعطون الأجر بالقطارة، أليس كذلك، يا ياسر؟
هز الصائغ رأسه إلى الأمام عدة هزات تتلو بعضها دون أن يصيب عنقه التعب.
قال الشاب ذو الشعر الأحمر دون أن تستقر عيناه:
- إذا قررتما الذهاب إلى دمشق، فاذهبا، ولكن احترسا جيدًا، قلت لكم إنَّ الحال هناك إنْ لم يكن أكثر سوءًا، فهو ذاته الذي عرفتماه هنا.
ونهض تاركهم، والحداد يقول بطريقة بلهاء:
- سنذهب على أي حال، وسنجرب حظنا.
ماعت البسمة على شفتيه حتى سالت في كل اتجاه:
- فلم تعد لنا دار بعدما طردونا!
صاح الشيخ، وهو يدفع بأصابعه المفتوحة إلى أعلى محدقًا في السماء:
- يا ستار! يا ستار!
التفت عبد النور إلى غسان، وسأله:
- أتريد أن نبدأ البحث؟
- عمن؟
- هل نسيت؟ عن أمك.
- أحس بارتخاء شديد.
- لا تريد؟
- دع هذا إلى وقت آخر.
سار عبد النور في الاتجاه الذي شقه الشاب ذو الشعر الأحمر حتى اختفى، أشعل الحداد سيجارته، التفت صاحبه الصائغ إليه، وقال له:
- إنهم كالجميع، عندما تريد أن تستفسرهم عن شيء، يطرحون عليك أسئلتهم دون أن تصل معهم إلى أية نتيجة (أراد أن يحاسبهم، لكنه لم يستطع): لم يقولوا لنا إذا ما كانت الحدود مع سوريا مفتوحة!
نظر الحداد من حوله، والضيق باد عليه، ثم قال، وهو ينفخ الدخان في وجه صاحبه:
- ستكون مفتوحة، ستكون مفتوحة، وإذا لم تكن مفتوحة، انتظرنا ريثما يفتحونها، هل أنت مبسوط الآن؟ لا تزعج نفسك بالتفكير في الأمر كثيرًا!
كانت صيحة (( نابرة )) و(( صافية )) تطرب لها الأذن قد جعلتهم يديرون رؤوسهم إلى الناحية التي انطلقت منها: إنها العجوز، صاحبة العريشة ذات الأغطية السوداء، كانت تجلس على الأرض، بثوبها الأسود، من وراء منصة خشبية قصيرة، مغطاة بمنديل مطرز الحواشي، وكان الناس من حولها يتربعون في دائرة.
راحت العجوز تقول لفتى يجلس أمامها:
- سأخاطب شيطانك أولاً ثم ملاكك، وإن ليس بإمكانك أن تدفع لهما الأمانة، فلك أن تختار ما بين شيطانك أو ملاكك.
غدا الفتى أصفر الوجنتين، وأخذ العرق يسيل من وجهه، انحنى من فوق المنصة الخشبية برهبة، وهو يلهث بشكل غير منتظم، كانت هيئته تبعث على الضحك، لكن الجميع كانوا في حالة إصغاء شديد، وقد تحجرت عيونهم بانتظار قراره.
نبرت العجوز بسلطة شيطانية:
- ماذا قلت؟ الملاك أم الشيطان؟ أم أنك تريد الاثنين؟
قال الفتى بعد أن أطلق نفسًا خائرًا:
- لقد أحضرت بيضاتٍ ثلاثًا.
نقل بيضتين من يد ليد، بحيث جمع البيضات الثلاث في يد واحدة، وقدمها إليها، بأصابع مرتعشة.
- بمعنى أنك تريد الاثنين.
خفض الفتى رأسه بسرعة، ثم رفعه، تناولت العجوز من يده البيضات الثلاث، ووضعتها داخل المنصة، حملت يديه الاثنين، وأطبقتهما، جذبته إليها، فأطلق صوتًا خفيفًا وادعًا.
- هل أنت خائف؟
- نعم.
- هذا حسن، من اللازم أن تكون خائفًا.
دفعت يديه تحت المنديل، ثم أخرجت من صدرها سلسالاً ذهبيًّا ينتهي بسن عاجية على شكل ناب الفيل، جعلتها تتدلى من عنقها، ومن جيب ثوبها، أخرجت حجري زهر، فركتهما بين كفيها، وهي تقول بنبرة (( مفهومة )) لدى الجميع:
- يا شيطان الرحمة، كن صادقًا ولا تكن كاذبًا، كن عادلاً ولا تكن ظالمًا، يا ملاك الغضب، كن كريمًا ولا تكن لئيمًا، كن صبورًا ولا تكن ضائق الصدر!
استمرت تفرك حجري الزهر بين كفيها، فانحنوا برؤوسهم الثقيلة، وقالوا لأنفسهم هذا سحر، وهم لذلك راحوا يلتفون من حولها، لأن ذلك سحر، ولأنهم يريدون أن تكشف لهم عما كان مكتوبًا في الغيب.
ضمت العجوز قبضتيها قرب صدرها متوترة الجسد، وراحت تهتز كالوتر، وقد أغمضت عينيها بقوة بينما استمر حاجباها يتلويان، وقبل أن ترمي حجري الزهر فوق اليدين اللتين يغطيهما المنديل، انفجرت من فمها صرخة ناسكة، فانتفض الفتى في جلسته، وأخذ العرق يتصبب من وجهه. قالت بصوت منهك، كأنما ركبها عفريت:
- لقد حضر... لقد حضر...
ندت عن الجميع همهمة شقية، وخارت قواهم. حدقت في حجري الزهر، بينما نصبت عنقًا من حجر، ونبرت:
- إنه ملاكك! ظننته شيطانك، ولكن خاب ظني، إنه ملاكك! أسأله، ماذا تريد أن تسأله؟
بدأ الفتى يتأتئ غير قادر على جمع كلماته، انهارت أنفاسه، فدفعته العجوز في كتفه، وقالت بغلاظة:
- إنه ملاكك! إنه لا يؤذي! قل، ماذا تريد أن تعرف؟
فتح الفتى فمه، وقال بحروف متقطعة:
- أريد... أريد أن أعرف إذا ما كان ملاكي راضياً عني أم غير راضٍ.
استيقظ الجميع، وندت عنهم كلمات ساخطة:
- يا له من فتى يتصف بالغباء إلى درجة كبيرة!
- أهذا سؤال يسأل؟
- فتى ساذج! فتى أهوج!
- فتى غبي!
- نعم، غبي!
- اسأله إذا كنا سنعود إلى ديارنا!
- على الأقل، ليسأله على الأقل إذا كانت هناك شاحنات!
- نعم، على الأقل.
قال أحدهم هازئًا:
- نعم، يا صغيري، أنا راضِ عنك، وسيزداد عنك رضائي إذا ما كففت عن اللعب بفرجك قبل أن تنام!
انفجروا ضاحكين، فعلق آخر:
- إنها عادة كريهة أن تلعب بفرجك قبل أن تنام، لذلك، لن أرضى عنك تمام الرضاء، إلا إذا أقلعت عن تلك العادة الكريهة، يا صغيري! أقلع عن عادتك الكريهة هذه، فأرضى عنك! امتطني، فأرضى عنك! يلعن دين!
تدخل ثالث:
- كفى، يا جماعة، كفى، لقد سأل الولد سؤاله.
- ولكن، يلعن دين! لماذا قدمتموه على الآخرين؟ دعوني آخذ مكانه.
رفعت العجوز يدها في وجوههم كالساحرات في الأفلام الأمريكية، وراحت تهزها، وأصابعها مفتوحة، على دفعات، مما جعلهم يصمتون، وأشكالهم تتآلف وأفكارهم، ثم انعطفت على السن العاجية تستفسرها، وتضغطها في أذنها، وبعد ذلك، قالت منشرحة الصدر:
- إنه راضِ عليك تمام الرضاء، كن سعيدًا!
فغرت فمها عن ابتسامة سيئة، لكنها كانت كالخدر الحقيقي تسري في عروقهم، بدوا مسحورين، رغم عدم رضائهم عن الفتى، كانت طريقة السحر تسحرهم، وها هو كل واحد بانتظار أن يأتي دوره، وها هو كل واحد بدوره يصوغ سؤاله لشيطانه، ولملاكه، كل على حد سواء، يصوغه بمهارة وذكاء شديدين كي يستغل الفرصة أكبر قدر ممكن، كي يستغلها لصالحه، لصالحه هو دون الجميع، ولكي يشعر بقليل من التفوق. لقد أصبح: أن يتساوى الجميع في المحنة أمرًا ليس بمحتمل بعد، فها هم يبحثون عن التفوق بأية طريقة. أخرجت العجوز من تحت المنصة بيضة، وشجت رأسها بسكين كان على مقربة منها، ثم قدمتها للفتى.
- اشرب رضاء ملاكك، هذا لعابه.
تردد الفتى قبل أن يدفع ما في البيضة في جوفه، ثم فغر فمه، وهو يعتصر نفسه اشمئزازًا يريد القيء، لكنها حاصرته بكفيها، وهي تضغطه من أعلى رأسه وأسفل فكه، وقالت له بفظاظة:
- هل ستستمر أم ماذا؟
وهي لم تزل تضغط فكيه والمائع يسيل من زواياهما، دون أن تتيح له الفرصة على الكلام.
- إنه لا يجيب، بمعنى أنه لا يريد الاستمرار.
دفعته إلى الوراء، فتلقفه بعضهم، وقذفوه خارج حلقتهم. تقوس الفتى على الأرض، ومن فمه انفجر مائع أصفر على دفعات، وتخلل ذلك حشرجات ود لو يقذف معها أمعاءه. وفي النهاية، سقط في القيء بعد أن فقد توازنه، وراح يتلوى تفهًا كالدودة.
قال الشيخ لغسان، وبحر من الملح في عينيه:
- إنهم يتسلون، أنا أعرف أن ذلك يسليهم، ولكن، ماذا ينفعهم ذلك؟
لم يجبه غسان، سمعه يقول بنبرة حزينة:
- آه! يا إلهي! ماذا فعلوا بالفتى المسكين؟
واتجه نحو الفتى، كي يقدم له يد العون.
صاحت العجوز بالرجل السمين ذي الشارب الذي أخذ مكان الفتى بصيغة آمرة:
- إنه شيطانك، ماذا تريد أن تسأل شيطانك؟
تراخت المسافة ما بين حاجبيه حتى وصلت حواجبهم، وهمهم:
- لقد نسيت!
صاحوا بغضب، وراح أحدهم يشتم، وهو يضرب قدمه في الأرض:
- أي فرج!
طلب إليه آخر:
- أسأله عن الشاحنات.
اعترضه بعضهم:
- لا، لسنا بحاجة إلى شاحنات!
- لم تعد تهمنا الشاحنات!
- وما الذي يهمك إذن؟ أن ينصبوا لنا خيامًا؟
انطلق صوت حماسي:
- نعم، اسأله إذا ما كانوا سينصبون لنا خيامًا، فرغم طراوة الليل، إلا أن الندى أمر مزعج! قليل من الندى يجعلني طريح الفراش لأيام!
دفع أحدهم رأسه ما بينهم، وراح يحركه حركات موزونة مع كلماته، وقد فاض وجهه لومًا:
- أضيعوا الفرصة كما شاء لكم، أضيعوها!
- ماذا تريد أن يسأله؟
- إذا كان السؤال عن الخيام هو ما يهمكم، فاستفسروا عن الفراش.
ضحك الجميع، ولم يتمالك الرجل عن حركة رأسه، أرخى له العنان، فصار ينزاح، كالبالون الأصفر المملوء بالماء، من جانب إلى جانب.
قال واحد يلبس بذلة، بعد أن مسح طويلاً بأصابعه على شعره الرطب:
- المهم في نظري، أن يسأل الأخ... (أشار إلى (( الأخ )) الذي يضع كفيه تحت المنديل، بينما العجوز تحدق في كل واحد على حدة، دون أن يعجبها ذلك) أن يسأل الأخ إذا ما كانوا سيطلقون سراحنا في النهاية.
فقع أحدهم ضرطة، وراح يقهقه:
- أتظنهم سيحتفظون بنا إلى ما لا نهاية؟
- أقصد...
- دعك من الفلسفة، يا أستاذ، هناك أمور أهم، اسأله إذا ما كانت جيوشنا ستستمر في القتال؟
كأنه نغز ذقونهم بالدبابيس:
- هذا يسمى بالمزاح!
- أنا لا أمزح.
- قل لي بالله عليك كيف تستمر (( جيوشنا )) في القتال، وقد توقف القتال منذ زمان؟!
- أقصد، هل ستعود إلى القتال ثانية؟
- اسكت، أجل هذا السؤال لتطرحه على شيطانك (( أنت )) وليس على شيطان غيرك.
صاح أحدهم:
- يا جماعة، دعوا الرجل يفكر.
هتف الرجل وشاربه يهتز:
- وجدتها! وجدتها!
زفرت العجوز، وهي تفكر: يا لهم من مجانين يصدقون كل شيء!
- أريد أن أسأله، بل بالأحرى، أريد أن أعترف له ببعض الحماقات التي ارتكبتها في حياتي، لأسمع فيها رأيه، أليس يسمى (( شيطاني )) ؟
قالت العجوز بلا صبر:
- نعم، يسمى شيطانك، ولكن لا تذكر كل حماقاتك!
مضى وقت، وهم صامتون، ولم تكن فكرة الحديث عن الحماقات هذه تبعث في نفوسهم السرور، لكنهم سكتوا، أطبقوا شفاههم، وانتظروا. انتظروا أن يفرغ من الحديث عن حماقاته ليتيح لهم الفرصة للحديث عن شيء (( آخر )) كانوا يموتون رغبة فيه: أن يتحدثوا عن شيء آخر، شيء آخر غير عادي، وإلى شخص آخر غير عادي.
لكنه انحنى حتى تلاقى أنفه بأنفها، وهمس:
- سأقوله في أذنك، إنه لمن العيب أن يسمع الجميع.
أعطته أذنها، وراح يهمس بشفتيه الغليظتين مدة طويلة، حتى ضاقوا، وما أثار تعجبهم أن المرأة الساحرة قد ظلت تصغي إليه دون أن تزجره كما هي عادتها! قالوا لا بد أنه يفضي إليها بما هو (( هام ))، فها هي تصغي إليه باهتمام!
ضجروا، وهمسوا لبعضهم، وتحركوا في جلساتهم، وبان على وجوههم اليأس، وقالوا لأنفسهم إنه لن ينتهي حتى آخر الدهر! ومع ذلك، فلم ينهضوا، ولم يذهبوا، ولم يروحوا.
قذف طفل بنفسه هاربًا من طفل آخر يجري في أعقابه، فشق دائرتهم، ووقع في خاصرة العجوز، فنهضت تعوي:
- كلب، كلب، الله يكسر عظمك، يا كلب!
حاولت أن تلتقطه بأصابعها، لكنه استطاع أن يفلت منها. أما عنهم، فقد كانوا سعيدين، لأن الولد استطاع أن ينزع شفتي (( المعترف )) من أذنها، كي تتفرغ لهم. كان بعضهم قد منعها من الإمساك به، فهرب، بينما الطفل الآخر قد وقع بين يدي أمه، وها هي ذي قد أخذت تشتمه، وتدعو عليه بالهلاك، ثم تقلبه على بطنه، وتأخذ في ضربه على إليتيه:
- الله يبعث لك بناقة! الله يبعث لك بخف يفتح بطنك!
تحول غسان بناظره عن الدائرة إليها، وهو مسرور: لأن الطفل يعاقب. قال لنفسه: هذا ما ينقص الجميع، العقاب! وعندما التفت إلى العجوز من جديد، وجدها قد عادت إلى مكانها، و(( المعترف )) قد عاد يلصق شفتيه بأذنها، فارتفعت صيحات الاحتجاج:
- وبعدين؟
- ألم يأت دورنا؟
- هذا يفلق الحجر!
- نعم، هذا يفلق الحجر!
عند ذلك، اعتدل الرجل، فأطلقت العجوز تنهدة (( حرى )). تناولت بيضة، شجت رأسها بالسكين، وقدمتها للرجل، فرفض أن يأخذها. قال معترضًا، وقد غدت له سيماء الطفل المعاند:
- الإجابة أولاً، أريد إجابة.
فتحت العجوز كفه، ووضعت فيه البيضة، وقالت بنبرة حاسمة:
- إن حماقاتك طويلة، وهي تحتاج إلى وقت كبير للإجابة عليها.
أخذ الرجل يصيح:
- الإجابة... متى سأحصل على الإجابة؟
- اشرب البركة من لعاب شيطانك، وانتظر الإجابة غدًا، أو بعد غد.
همهم حائرًا:
- إلى ما بعد غد!
- ليس هذا بكثير.
- نكون قد افترقنا.
- لن نفترق، إن شيطانك يقول: لن نفترق.
حنى الرجل رأسه إلى الوراء، وأفرغ البيضة في جوفه، ثم راح يزم عينيه، وشفتيه، والآخرون يشدونه إلى الوراء:
- ابعد من هنا!
لكنه تشبث بالمنديل:
- وملاكي؟
- دع ملاكك إلى وقت آخر.
- لا، لن أدعه إلى وقت آخر، أريد أن أسأل ملاكي، لدي أسئلة كثيرة لاستفساره.
- أما إذا كان الآمر كذلك، فأجله إلى وقت آخر.
- لا، أنا مصمم على سؤاله الآن!
وفرك المنديل شادًّا إياه بين أصابعه.
إذا باثنين عملاقين اقتربا منه، وضغط كل منهما على ذراعه:
- ألا تريد أن تنهض، وتدع الدور لغيرك؟
واعتصراه بقوة حديدية.
- هيا انهض، لقد انتهى دورك.
أطاعهما الرجل، وهو يكاد يتلاشى تحت القوة الجبارة التي تضغط ذراعيه دون توقف. وبينما أخذت امرأة مكانها أمام المنصة، سمعوا الرجل يصيح:
- أعيدوا لي بيضة.
- ماذا؟ ألم تبتلعها منذ قليل؟
- قدمت ثلاث بيضات من أجل ملاكي وشيطاني، ولم تستحضر العجوز سوى شيطاني. بيضة لها، وبيضتان لي، وأنا لم أبتلع سوى بيضة واحدة!
نبر أحدهم:
- دعنا في حالنا، وإلا فقأت لك بيضاتك!
- بيضتي.
- يا للعرص الملعون! ابعد من هنا، ابعد من هنا!
انسحق صوت الرجل تمامًا، وبعد قليل، عاد العملاقان اللذان أجبراه على النهوض يجريان بشعر أشعث، وهما يلهثان.
قالت المرأة للعجوز:
- لقد أحضرت لك بيضة واحدة فقط.
- هذا لا يكفي، الأمانة ليست كافية.
التفتت المرأة إلى الوراء، كانت في الأربعين من عمرها، وكان لها وجه ممتلئ بالنمش، وقد وشمت ذقنها ابتداء من الشفة. أشارت المرأة بيدها إلى ولدها، فتقدم، وأعطاها دجاجة.
- ليس لدي سوى بيضة واحدة فقط، وأنا أنتظرها حتى تبيض، فإذا أردت، تركتها عندك، وسأسترجعها منك فيما بعد.
- ومتى في العادة تبيض؟
- بيضة عند المغرب، وبيضة عند الفجر (تركتها تفكر قليلاً ثم أضافت): إذا أردت تركتها في عهدتك حتى غدًا صباحًا، ولك أن تحتفظي بالبيضتين.
- وإذا لم تبض؟
- كيف هذا إذا لم تبض؟ أليست دجاجتي؟ أنا أعرف دجاجتي أكثر من أي واحد في العالم! إنها تبيض مرتين، مرة عند المغرب، ومرة عند الفجر.
- وإذا لم يحصل؟ يحصل أحيانًا ألا تبيض؟
كانت تلتفت إلى لابس البذلة.
قال لابس البذلة، وقد مسح شعره الرطب بيده:
- إذا كانت المرأة واثقة من دجاجتها، فستبيض على الأقل مرة واحدة، وهي يبدو عليها أنها دجاجة شابة!
حاول أن يمسكها من منقارها، ولكنها دفعت عنقها إلى الوراء، وقاقت دون أن يستقيم عنقها.
قالت العجوز في الأخير:
- طيب، وماذا اخترت؟ شيطانك أم ملاكك؟
ندت عن المرأة الفاقدة لشبابها نصف ضحكة، وقالت بغنج فقد أوانه:
- ليس لي حظ مع ملاكي منذ كنت طفلة صغيرة.
- إذن، هو شيطانك.
- لا، لقد اخترت ملاكي!
وفي تلك اللحظة، اندفعت يد غاضبة ما بينهم إلى منصة الخشب، وقلبتها، فإذا بأكثر من خمس عشرة بيضة سقطت على الأرض، وتحطمت.
- يا رب الشياطين الأعظم!
انفجرت العجوز صارخة:
- أمسكوا المجرم!
بينما انطلق صاحب اليد الغاضبة كالسهم رغم عرج في ساقه، لحق به بعضهم، وصوت العجوز يلعلع:
- أمسكوا المجرم، لا تدعوه يفلت من أيديكم! سألوك له كبده!
وبدأ السباق.
كان ثلاثة منهم قد تراجعوا، لكن اثنين استمرا يجريان في أعقابه، والرجل الأعرج يقفز بخفة طائر من طرف إلى آخر، ومن شجرة إلى أخرى، دون أن يتمكنا من إلقاء القبض عليه. راح الناس يتفرجون، وهم سعداء. كانت تلك فرجة مجانية، وقد تنحنح بعضهم بعفوية، والبعض الآخر قد ضرب كوعًا في الأرض، وهو يتابع السباق بعين تنقط حبورًا، وهناك من جلس على الكراسي تمامًا كما لو كانوا على مدرجات الملاعب. كان الرجل الأعرج، بعد أن تعب الرجلان الآخران دون الإمساك به، قد راح يتراقص بين أيديهم، وما أن يقترب أحدهما منه، حتى يقفز، وكأنه الغزال البري، وعندما ظن أحد الرجلين أنه قد باغته من الوراء، انزاح صاحب اليد الغاضبة بخفة إلى اليسار، فإذا بالرجل يسقط كالبغل على وجهه، وقد ضج جسده الضخم، وقد ضجت ضحكاتهم المفتونة، حتى أن بعضهم قد صفق، وهناك من صفر بإصبعين.
ثم تخلى الغريمان عن المطاردة، وانتهى السباق، فعادوا إلى شؤونهم المنزلية الصغيرة، وبقي بعضهم يتحدث طويلاً عن الأعرج صاحب اليد الغاضبة:
- لقد تغلب (( المجنون )) عليهم!
- لكنه ليس بمجنون.
- ألم تلاحظ قدمه العرجاء الخفيفة، وعينيه الفأريتين اللامعتين، وأنفه النسري المعقوف، وفوق كل هذا، ألم تلاحظ تقاطيع وجهه، إنها تقاطيع مجنون كامل!
- إنه ليس بمجنون، لا، ليس بمجنون، وأنا أعرفه.
- الآن أصبحت تعرفه!
- أنا أعرفه منذ أول الترحيل، وقد رافقني طوال الوقت، ورغم قدمه العرجاء ساعدني على حمل بعض المتاع.
- إذن، لماذا له تقاطيع المجنون؟
- هذا لأنه لا يريد أن يكون مجنونًا!
سار غسان عائدًا إلى مكانه، مثقل الجفنين، وما لبث أن سرى في جفنيه تيار كهربائي مفاجئ، انطلق من خلف رأسه، وانتهى تحت بطنه: كان قد اكتشف أن الطفل ليس هناك، ولا الشيخ، ولا العاملين، ولا حتى عبد النور، لا أحد. كانت البقعة ملأى بالشمس، ومع ذلك، فهي كانت مهجورة. تقدم خطوة، ثم خطوتين، وتوقف، وراح ينظر حواليه، كانوا لا يبالون به، وقد ساءه ذلك: ألا يبالوا به! ألهب غياب الطفل عقله، فمشى خطوة أخرى، ثم خطوتين، وتوقف عندما (( وجدها )) تقف وجهًا لوجه معه:
- إن كلاً منهما يحب الآخر كثيرًا.
أشارت إلى الطفلين، طفلها وطفل غسان، قرب السياج، وهما يلعبان، وفي يد كل منهما لعبة من المطاط.
فكر غسان في الحال: في يد كل منهما لعبة من المطاط! لكل ((لعبته))، لهذا، لم يكشف أحدهما عن كرهه للآخر. أوضحت المرأة:
- لم يعد هناك ظل، وقد بقي الطفل في الشمس مدة ليست قصيرة.
تذكرها غسان، تذكرها هي بعد أن نسيها، وقد عجز في البداية أن يذكر أين رآها. فكر: صارت لي ذاكرة ضعيفة، وعليّ ألا أعرّض رأسي للشمس كثيرًا. نزع نظارتيه، وقال:
- قدمت إلى الطفل الكثير من الخدمات!
وحاول أن يبتسم: امرأة في الخامسة والعشرين، سمراء وشابة، سمراء وشابة! امرأة وحيدة! سارت خطوة من أمامه، ثم التفتت إليه:
- هناك متسع من المكان للجميع، قرب السياج، إذا أردت.
نسي غسان كل عبارات المجاملة التي كان يقولها بكل تأدب لجارتيه الجميلتين، فهو خجول بطبيعته، حتى أن خجله ذاك لم يكن واردًا في تلك اللحظة على مثل تلك الطريقة، كان قد نسي أن يبتسم لها كما يجب، وفي الأخير، قال:
- إذا كان الأمر لا يزعجك.
- لا يزعجني ما دام الطفلان سعيدين.
أخذت طريقها صوب السياج، وهو يتبع من ورائها، توقفت قرب الطفلين، نزلت على الأرض، وراحت تضمهما الواحد تلو الآخر، وتشمهما من وراء أذنيهما، ثم رفعت وجهًا ضاجًّا بالغبطة إليه:
- إنهما يشبهان بعضهما إلى حد كبير!
جمعت وجهي الطفلين بين كفيها، وهي تبتسم بجذل، فقال غسان:
- أنت على حق!
وأحس بميل إلى المرأة، فشعر بالضيق، وسمعها تسأل:
- هل هو ابنك؟
فتح غسان فمه، ولم يقل شيئًا، ووقتذاك لم يكن مقتنعًا بذاته.
- إذن، هو أخوك؟
قال غسان:
- إن ابنك عاقل! جميل وعاقل!
ضحكت المرأة بصوت مرتفع، وراحت تزرع وجه طفلها قبلاً، وغسان يسمع بوضوح صوت التصاق الشفتين وانفراجهما. همست المرأة:
- أنا أعبد الأطفال!
علق غسان:
- يا لهم من محظوظين!
- وأنت... هل تعبد الأطفال؟
- وأنا.
أضاءت ابتسامة وادعة في شفتيها، وفي عينيها السوداوين الواسعتين راحت جذوات القناديل ترتعش.
سأل غسان:
- هل أنت وحدك؟
- أنا وحدي.
ثم أضافت، وقد اكتهلت فجأة:
- لقد قتلوا زوجي في الحرب.
وصلهم وقع حوافر خيل مجنونة امتطاها الجنود الإسرائيليون، كانت الخيل تعدو بين شتاتهم، وقد قفزت من فوق بعضهم، فصاحوا، وتبعثروا، وتعلقوا بسيقان الشجر، وهناك من هرع عاديًا، والخيل تعدو في أعقابه. فكر غسان برعب: مهرجان! حفلة لسباق الخيل! وقد قبض الرعب قلوب الجميع: رعب عادل! تسلقهم الرعب، ثم تساقط في أعماقهم، فظلت تسري في أوصالهم رعدة واحدة. وما لبث أن أتى دور المشاة من الجنود، جنود كالدمى تقفز من صوب إلى صوب، وعلى أياديهم سلاح جميل كالقمر، راحوا يجمعون في سلال كل ما هو داجن، كل الطيور، وكل ما هو للأكل، كل المؤونة، أخذوا يسحبون كل ما هو داب، كل الحيوانات، وأخذوا يرفسون بأقدامهم القدور، ويحطمون الأواني، وقد هدموا العرائش. همس غسان: (( المسرحية تقول هكذا: أن يحطموا كل شيء! )) إذن، ليحشوا بنادقهم في مؤخراتكم! ليقتلعوكم من جذوركم! ليرفسوكم بحوافرهم! ليرموكم إلى الجراد كي يمتص دم العار من عروقكم! تواترت الطلقات، ودبت صيحات تقية، ثم حط السكون العميق، كانت سرقة الجنود قد تمت، وهم قد بدأوا يفكرون، ولكن... ما الفائدة بعد أن تسلق اليأس كل حلق؟ ما الفائدة... ما الفائدة؟
قال عبد النور من ورائه:
- يغضبك كل هذا!
انهار غسان على الأرض، وراح يهز رأسه يمنة ويسرة:
- إنني يائس! إنني يائس!
هبط عبد النور، وضع يده على كتفه، وراح يضغطه بلين:
- لا تخش شيئًا! لا تخش شيئًا!
بقي غسان يهز رأسه يمنة ويسرة كالطفل الذي أحرق حقل أبيه دون أن يشاء، أضاف عبد النور بصوت نابر:
- اعتمد علي!
ثم عاد يردد، والانشراح يفت صدغيه:
- لا تخش شيئًا... لا تخش شيئًا...!
كانت المرأة قد جمعت الطفلين في حضنها، ودموعها تتساقط على وجنتيها الضامرتين.

* * *

وفرح تسير إلى جانبه، كان حاتم يختلس النظر إليها، وهو يفكر: لقد انتهت! لقد انتهت! فخطواتها المثقلة المبطئة تعني أنه لم يعد بمقدورها أن تحتمل السير أكثر، لربما كان باستطاعتها أن تسير مسافة كيلومترين أو ثلاثة كيلومترات فقط، لذلك، كان يدعو في صدره، أن تكون (( عين الفارعة )) من وراء الهضبة التي هما في الطريق إليها، كي يحصلا على الطعام والماء، ويظفرا ببعض الراحة.
وهو أيضًا كان يكاد يموت من التعب، لكن ما كان يخفف عنه ذلك قليلاً، استماعه إلى أنفاسها المتلاحقة. تذكر كيف هربا فجر اليوم، بعد أن قررا ذلك معًا. وراح يفكر، وهو يدعس بقدميه الشفاه الظامئة الملقاة في كل مكان: حبيبتي إلى جانبي! كانت فكرة كهذه تجعله يغذ السير مئة متر أو يزيد مخدرًا. وبعد قليل، وجد نفسه يسير دونها، فتوقف كالدائخ، وراح يلتفت حواليه علَّه يقع عليها. وصلت إليه أناتها، وهي تحتضن جذع شجرة في قلب الحقل، فعاد أدراجه مسرعًا، رغم أنه كان ينقل قدمه بصعوبة بسبب دخولها في شقوق الأرض، وترامى لافًا إياها بذراعيه، وهو يردد بلهفة:
- يا لعبتي! يا لعبتي!
رفعت إليه وجهًا أبيض مرشوقًا بالرمل، وهو لم يزل يلفها، ويقول:
- هذا يشقيك، يا لعبتي، أنا أعرف، ولكن ما العمل والذي بقي نصف المسافة على التقريب؟
نظر في عينيها، فرأى مروجًا ساكنة، وغابات لا نهاية لها، أغصانها من ثلج أخضر.
- ماذا، يا لعبتي؟ قولي! تعرفين جيدًا أني أحبك، قولي، يا لعبتي!
قالت فرح:
- أنا تعبة!
- آه، يا لعبتي! أعرف أنك تعبة، وأنا أيضًا تعب مثلك، لقد قطعنا كل هذه المسافة معًا، أليس كذلك؟ لهذا أطلب إليك أن تتحاملي على نفسك قليلاً من أجل خاطري!
نفضت نفسها من بين ذراعيه، فترامى قربها، وراح يطلق أنفاسًا متلاحقة. كانت فرح قد رفعت خصلات الذهب بين أصابعها إلى أعلى، وهي تنظر حواليها بشرود، ثم نثرتها:
- هناك هضبة مرتفعة!
قال حاتم بلهفة:
- ليست مرتفعة كثيرًا، يا لعبتي، لن نصعد إلا بعد أن ترتاحي تمامًا.
قالت، وشفتاها جزء من الشمس:
- الشمس قوية!
- نعم، إنها شمس قوية! (ثم قطفها من خدها): أتدرين ماذا هناك؟ ما وراء الهضبة؟
لم يثر سؤاله في رأسها استفسارًا كان يتوقعه، ظلت ملامحها جافة ورملية، لكنها قالت:
- النهر؟
انعطف حاتم بابتهال، وراح يحثها على أن تقول شيئًا آخر:
- يا لعبتي! يا لعبتي! قولي شيئًا آخر، يا لعبتي!
- ماذا أقول؟
- شيئًا آخر.
- قل أنت.
- (( عين الفارعة ))، يا لعبتي.
تناولت كتلة من التربة الحمراء، وقذفتها غاضبة، وهو، لذلك، نهض، رمى ذراعه حول كتفيها، وسأل بعجلة:
- ما لك، يا لعبتي؟ ما الذي يزعجك، يا حياتي؟
فتحت فرح فمها، لكن حلقها الجاف لم يساعدها على الكلام.
قال حاتم:
- أنا أعرف أن هذا شاق عليك، ولقد قلت لك، أتذكرين؟ لقد أخبرتك بكل شيء. ثم، الطريق بطبيعتها طويلة، وليس من المعقول أن نكون قد قطعنا ما قطعنا بقدر المسافة ما بين نابلس والنهر، ولا تنسي أننا لم نمشِ سوى بضع ساعات، حتى ولو كنا في سيارة، فلن نصل إلى النهر في مدة كهذه، وعلى الخصوص، ونحن في حالة حرب. أنت تعرفين كم هم اليهود منتشرون، يا عزيزتي، هذه الأيام، نقط تفتيش كل عشرة أمتار، وفي كل الأحوال، الطريق إلى جسر دامية ممنوع، بل ومحرم على الجميع.
كانت تلاحق حركات شفتيه دون أن تتمكن من عدها كاملة، قالت لنفسها: رغم الحرارة والرمل، بقيت له شفتان جميلتان مكتنزتان! نظرت إلى حاجبيه المقوسين، وأرادت أن تمسح حبيبات العرق بأصابعها المتدفقة حرارة، ازداد تأثير أشعة الشمس على كتفيها، فلم تعد تحتمل ذراعه أكثر، دفعته عنها قليلاً، قليلاً، وهي تفكر: إنه يحبني! إنه مجنون فيّ! قال حاتم دون أن تتوقع ذلك:
- هل أنت نادمة، يا حبيبتي؟
تساءلت منها لنفسها: هل أنا نادمة حقاً؟ لقد تركت أهلها، وهم نيام، وهربت معه. كان بمقدورها أن تقول للجميع حبها، لكنه حذرها من ذلك، فالفضيحة، وإن كانت فضيحة، إلا أنها ستكون أخف وقعًا على الطرفين، على والديها ومعارفها من جهة، وعليهما من جهة أخرى، بعد أن يكون كل شيء قد تم.
- قولي، يا حبيبتي، هل أنت نادمة بعد أن وصل بنا الوضع إلى ما نحن عليه؟
ماذا تقول له؟ أحقًا تحبه مثلما يحبها؟ وما دخل هذا في الموضوع؟ في موضوع الندم؟ أوضح، وهو يقصد أن يوقظ في صدرها ما ظن أنها نسيته:
- لا تنسي أنني أنقذتك.
فكرت فرح بمرارة: ها هو يقولها كمن يتباهى في الحديث عن أوسمة كسبها أبوه أيام شبابه في الحرب العالمية الثانية! برقت عيناه اختيالاً، وجرفت طلعته ملامح غريبة راحت تتكاثر بعجرفة ليست معقولة. مسح جبينه، قرص شفتيه، وانتظر ما يمكنها قوله، ثم ما لبث أن فتح فمه، انحني كالولد القاصر، وأصبحت لصوته نغمة فيها ابتهال:
- لم تقل لي عزيزتي بعد!
- ما الذي لم تقله لك عزيزتك بعد؟
- نادمة أم غير نادمة؟
- أأنت جاد في سؤالك؟
- أريد أن أعرف (سكت قليلاً قبل أن يضيف بنفس الطريقة التي كان يستعملها معها أول ما أحبها): لقد أشقيتك معي!
- أتريد أن تعرف حقاً؟
- نعم، أريد أن أعرف.
وألح:
- أريحيني!
قالت فرح مفكرة:
- وإذا ما كنت نادمة، ماذا سيكون موقفك؟
تردد، أخذ يقرص ذقنه، وفرح ما زالت تسأل:
- هل ستعيدني إلى البيت؟
لكنه بقي صامتًا.
- هل ستكف عن حبي؟
احتضن أصابعها في كفيه، وهتف:
- أنت مجنونة!؟
ثم راح يقبل أصابعها إصبعًا إصبعًا.
- أتدري يا حاتم؟
- ماذا؟
- أنا أفكر في أهلي، أنت تعلم أن أبي لن يسكت، ولسوف يطعمونه نصيبه.
- من هم هؤلاء؟
- جنود الاحتلال، ولسوف يطعمونه نصيبه.
وقف على قدميه، وانتهرها:
- لا تفكري في هذا، إياك أن تفكري في هذا!
ولكنها ما زالت تتجاذب الفكرة التي تقلقها:
- ثم، هناك إخواني وأخواتي، ثم، هناك أمي.
أعطاها ظهره، وسار عدة خطوات، التفت إليها بوجه اربدت تقاطيعه، وهمهم:
- إذا أردت أن تعودي، فأنا لا أمنعك.
ذهبت إليه، وهي تبتسم لملاكها، كمن في الحلم، وسألته:
- أتقولها الآن، يا حاتم؟
- ولم لا؟
وصلت محاذاته، وشبكت أصابعها بأصابعه، وبعد قليل، قالت، وهي تثني رأسها في الفراغ:
- يجب أن نصعد الهضبة.
وهما يصعدان الهضبة، سمعها تقول فجأة:
- اسمع، يا حاتم، لا أكتمك أنني بعد أن تركت أهلي ندمت قليلاً، لكني الآن أشعر بحاجتي إليك أكثر من أي وقت مضى.
توقف حاتم، وراح ينظر إليها دون أن تنتهي نظراته. شاهد الشمس (( مدفونة )) هناك... في بياض جبينها. قال، وهو يحس بالخوف، لأول مرة:
- سنبقى معًا، أنا وأنت.
ثم همس بشفتين ظامئتين:
- أنا أحبك، أنت تعرفين كم أنا أحبك!
معتصرًا أصابعها في قبضته. وجد نفسه يقول، وكتل التربة المحترقة تتدحرج تحت خطواته:
- وأنت قربي أشعر أني في بيتي.
تطلعت إليه بعينين ثملتين من التعب، ومضت فترة، وهما يصعدان الهضبة، دون أن ينبسا بكلمة. بعد ذلك، سمعته يقول، وهو يرسل نظرات زائغة نحو الأرض:
- بعدما نتزوج سنعود إلى نابلس.
جذبها عندما زلقت قدمها، فقالت بأسى:
- اليهود في كل مكان!
لكنه قال مأخوذًا بفكرته، وكأنه قرر ذلك منذ زمان بعيد:
- بعدما نتزوج سنعود إلى نابلس.
تأملها كالمسحور، ابتسم لها من كل قلبه، فروت الأجواء ضحكة كالماء العذب جعلت تقاطيعه تتراكم على بعضها في سكون، ومن جديد، عاد يرسل نظراته الزائغة نحو الأرض. سألته، وقد أقلقها أن يسقط في الصمت:
- ماذا تخفي عني؟
أجاب دون تردد:
- لقد نسيت أن أحضر خاتمينا.
تناول كتلة من التراب الأحمر، وضعها بين كفيهما، وأطبقا عليها بأقصى قوة، وهما يحاولان عصرها.
تراءت لهما من بعيد بعض بيوت الطين، لم تكن (( عين الفارعة ))، فهما أضاعا الطريق، ولما طالت الطريق نشبت في أعماقه نار، كنار الشوق، وها هو قد راح يعدو صوب بيوت الطين ليطفئ نار الشوق.
أحاطته بيوت الطين والسروات وقنوات الأسمنت ورائحة العشب المحروق، وصارت جزءًا من أعماق عينيه. أراد أن يصيح بكل جوارحه: (( يا جماعة... لقد وجدتكم! في الأخير، لقد وجدتكم! )) وحبيبته كانت تفكر بأمل بعد أن سبقها: إنه يعدو من أجلي! وقد شُلت الحركة في قدميها، سقطت على التراب، وغدا لها لون التراب، ورائحة التراب، وطعم التراب، راحت تتنفس التراب، وفي صدرها ذاك الخفق الترابي.
رمى حاتم بجسده في القناة، وراح يعب الماء عبًّا، وهموم السفر كلها قد انتهت. وعندما شده تفكيره (( إليها ))، وصله صوت محرك سيارة، فنفض الماء عن عينيه، ورأى هناك، عند آخر القناة الصامتة، ما بين جذوع الشجر الصامت، أحذية الجنود الإسرائيليين: كانت هناك سيارات (( جيب ))، وكانت هناك بنادق بعدد الجنود، وكانت هناك (( الجماعة التي وجدها ، جماعته التي وجدها في الأخير))، كانت هناك، وكان هناك وجه الله الدامي والأعشاش المهدومة والآثار المبعثرة هنا وهناك.
اعتدل حاتم في جلسته كالمذهول، ثم زحف حتى شجرة، وأخفى نفسه بساقها. تركوا الرجال واقفين فوق كراسي القش، ومن أمامهم صفوا النساء: كل النساء، ومن أمام النساء، أمروا الأطفال بالوقوف، بنات وصبيان مدوا أذرعهم إلى الشمس، إلى فوهات البنادق، وابتسموا للشمس، ولفوهات البنادق، وكان الجنود يركضون كالمجانين في حفلة، حتى أتموا (( الوقفة ))، وعادوا، فانهمكوا من وراء بنادقهم، كي يلتقطوا لهم صورة للذكرى! همس حاتم، والحقد يركل قلبه: صورة للذكرى!
ارتفعت إصبع، ثم سقطت، فزخ الرصاص، كانت الصورة قد تم أخذها.

* * *

تعثرت فرح وحاتم وهما يدفعان خطواتهما الأخيرة قبل أن يصلا إلى الراعي الصغير الذي كان يعطي لهما ظهره، فنهض بقنبازه المرقع عن الصخرة التي كان يجلس عليها، وتطلع إليهما حذرًا، والخراف لاهية في قضم العشب.
سأله حاتم:
- أين نحن؟
تردد الراعي، وراح يجيل النظر بينهما بريبة، وهو يتحسس طاقية على رأسه، ثم ما لبث أن فتح فمه، وقال دون أن يرفع عينيه عن الفتاة:
- لسنا بعيدين عن (( طوباس )).
استدار، وأشار لهما بإصبعه:
- اتبعاني.
وبعد أن سار قليلاً، عاد إلى الصخرة، وتناول شبابته.
كانت خطواته قصيرة خفيفة، وقد عجزت فرح عن اللحاق به، ثنى رأسه إلى جانب كي يتمكن من مشاهدتها، وظل لعدة أمتار ينظر إليها، ثم أشاح بوجهه عنها، وراح يخبئ ضحكته بطرف ردائه. بعد قليل، عاد ينظر إليها بالطريقة ذاتها، وبين آونة وأخرى يشيح عنها بوجهه، ويخبئ ضحكته بطرف ردائه. تلاقت عينا فرح وحاتم، وابتسما: كانا قد نسيا بعض أوجاعهما.
ناداه حاتم:
- اسمع.
فتوقف.
- إلى أين أنت آخذنا؟
لكنه عاد يسير دون أن يعطيه جوابًا، ثنى رأسه متفقدًا الخراف، فسأله حاتم كي يحثه على الكلام:
- هل كل شيء على ما يرام؟
ابتسم الصبي، وحك أنفه. عاد حاتم إلى سؤاله:
- وهل الحليب كثير؟ (وسمح لنفسه بالإجابة): طالما النعجات كثار، فالحليب كثير طبعًا!
ضحك الصبي بصوت مرتفع، وقال:
- عندي نعجة واحدة فقط.
انطلقت فرح تضحك تمامًا كما كان عهدها أيام المدرسة، بينما أخذ حاتم يحك حاجبيه، وقد سكّنت تقاطيع وجهه ضحكتها.
- والباقي؟
- خرفان.
- خرفان سمينة!
حدجه الصبي، ثم توقف، وراح ينظر باستقامة، وهما يتبعان من ورائه، حتى حاذياه، فإذا هناك في السهل: قرية طوباس تحترق! يبست ذراع الصبي في الفضاء:
- هذه طوباس.
تهدج صوت فرح:
- يا إلهي! لقد أحرقوا طوباس!
رأوا الدخان، وهو يهجم على وجه السماء، ويجعل من لونها الأزرق بحرًا من الظلام.
قال الصبي:
- اذهبا إلى (( عقابة )).
- عقابة؟
فكر حاتم، في عقابِهِ هو، فقفز قلبه.
- نعم، عقابة، اذهبا إلى عقابة، لا تهبطا الربوة، وإنما خذا الطريق الشمالي، (تراجع الصبي بضع خطوات، أشار إلى الشمال، ثم تطلع إلى الفتاة بحب، وقال): هناك بعض المراكز على الطريق.
- بعض المراكز؟
- يمكنكما أن تشتريا بعض الأكل (وسأل): هل لديكما نقود؟
هز حاتم رأسه.
- من العادة، في هذا الفصل، أن تكون المراكز مفتوحة حتى ما بعد هبوط الليل (سكت قليلاً ثم أضاف بصوت نقي): إنها ليالي الصيف! (كانا ينصتان إليه كأنما هو المرشد والدليل) من العادة أن تكون المراكز مفتوحة، أما هذه الأيام، فأنا لا أخدعكما، وعلى كل حال، كان نصيب عقابة أقل من نصيب طوباس، لقد تركها اليهود بعد أن دمروها، بينما في طوباس نصبوا معسكراتهم.
تبادلا النظر كغريبين عندما رجع مرشدهما ودليلهما خطوة إلى الوراء تاركهما! أرادا أن يقولا له كلمة، وحاول حاتم أن يرفع يده باتجاهه، لكن يده أبت إلا أن تتساقط على جنبه، ترددت خطوات الصبي قليلاً، ثم ما لبث أن ضرب قدميه في الأرض، وسار بعجلة. أحسا أنهما وحيدان، فجرفهما القلق والضيق، وفجأة، توقف الصبي ملتفتًا إليهما، وصاح بأعلى صوته:
- اسمعا!
انتشلهما من هموم كثيرة أخرى غير الشعور بالوحدة ودورة الساعة ومشقة السفر، أشار بإصبعه الصغير إليهما كي يتقدما منه، وهما قربه، رفع باتجاه فرح شبابته، وقال لها:
- سأحضر لك شيئًا.
(( لأول مرة ))، رأت فرح شبابته متذكرة كيف نسيها فوق الصخرة ثم عاد فأخذها، قالت لنفسها: لكنه لا يغني! وعندما راحت تنقب بناظرها عن الطيور، لم تقع على جناحٍ واحد. تاقت إلى أغنية وصداح: فانفجرت في البعيد، ما وراء الروابي، قنبلة، وسلسلة من الطلقات، وقتذاك، عاودها التفكير في أهلها. قالت لنفسها: إن أبي لن يسكت لهم! واعتبرت أن الرصاصات التي انطلقت منذ قليل كانت غناء البنادق، رغم قلقها وهواجسها.
حاصر الراعي الصغير النعجة، وأخذ يحلبها بمهارة، بينما انطلق خيطان دسمان في جوف علبة من الألمنيوم. صارت هناك رغوة بيضاء، وعندما امتلأت العلبة بالحليب، أطلق النعجة، ثم قدم العلبة لفرح، وهو يحكم إغلاقها:
- هذا لك.
عجزت فرح عن الكلام، وخصلات شعرها ترسل الذهب والضوء أمواجًا. أخذت العلبة وأصابعه من حول العلبة بين يديها، فرفع الصبي قدمًا، وأنزل أخرى، من شدة النشوة، وقال، وهو يلوّح بشبابته:
- أنا لا أشبب هذه الأيام وإلا عزفت لكما لحنًا.
انسحقت تقاطيع الصبي، ثم تراجع خطوتين، وقال بشفة كالوتر:
- لقد هدموا طوباس بالجرافات، إن لديهم جرافات ضخمة!
أمسكته فرح من ذراعه، وقد هدمت لها جرافة بعض الآمال، كانت تفكر في الطفل، في أبيها، في طوباس، وتردد لنفسها: إنها الحرب، إنها الحرب! رفعت علبة الحليب حتى مستوى كتفها، ولهجت بالثناء:
- أشكرك، لن أنسى ذلك!
قفز الصبي، وهو يقول لهما:
- خذا حذركما، واجتنبا قدر المستطاع دوريات الجيش، خاصة في الليل!
وتركهما.
ذهبا في الطريق الشمالي، إلى نهاية الطريق الشمالي، وعند نهاية الطريق الشمالي، سيشقان طريقًا آخر، ثم يبدآن من جديد. لفها من حول كتفيها، وراح يفكر: ما زالت هناك مسافة طويلة حتى النهر! لكنه حثها على المسير. مر بهما بعض المطرودين من بيوتهم أو أراضيهم، وشاهدا طفلاً محترقًا ذابت أطرافه كالشمعة، وهو يرفعه أبوه بين ذراعيه، والتعس ينحني عليه بحسرة! كانت في كل مكان خطوات كثيرة مبعثرة، وكانت في كل مكان نجمات كثيرة مبعثرة.

* * *

جاء سيل آخر من البشر، وهم يترنحون كالسكارى، وهم يهتزون كالأجراس الصامتة. ومن نهاية الطريق الطويل، بانت سيقانهم كالعيدان المحترقة. كانت على جانبي الطريق تربة حمراء بلون النار، ومن وهج الشمس، غدت صفحة الزفت مرايا... مرايا، تمارت الدنيا، وتصاعد بخار كالقطن على ارتفاع قليل كان لا يلبث أن ينسحق في الشعاع القاتل. امتدت الطريق كخط المسطرة، طريق طويل، طويل، يبدأ في (( الجفتلك))، وينتهي في (( أريحا ))، وها هم، دون سائر الناس، يخالفون القاعدة: يجيئون من النهاية إلى البداية، يزحفون في الخط المعاكس، ككل المهزومين، من النهاية إلى البداية!
راح الطائر الأسود يصفق بجناحيه، وراح ينعق نعيقًا حادًّا، فارتفعت أعناق، ثم تساقطت، وارتفعت أعناق أخرى، ثم تساقطت، وارتفعت أعناق أخرى وأخرى، ثم تساقطت، وارتفعت أعناق أخرى وأخرى وأخرى نحو السلطة والقوة والمجد، ثم تساقطت. استطاع بعضهم أن يوقف عنقه، وقد جرى ذلك بعناء، ولأن نعيق الطائر ينبئ بِشَرٍّ واقع، وتابعته بعض العيون لتقف عليه قبل أن تأتي به الأجنحة السود، فهم (( فضوليون )) منذ الصغر إلى درجة الحسد. كان بعضهم قد نهض بساق نخرة متابعًا الطائر الذي ابتعد في الآفاق حتى غدا نقطة، ومع ذلك، فقد ظلت هناك كف تعمل ظلاً فوق العينين، وظلت هناك نظرة هالكة تذوب في المرايا، وظلت على صفحة الطريق ظلال تزحف دون أن تكتشف بعد ما ذهب الطائر من أجله. لم يكونوا قلقين، ولكن تواقين إلى المعرفة، وعندما لاحظوا الحركة غير العادية لجنود الأسر والموت، حدثوا أنفسهم بأشياء سرية، رغم أنها نفس الأشياء التي يتحدث بها الجميع: وشيئًا، فشيئًا، بدأت تصل آذانهم (( موسيقى )) الخطوات المقهورة، وشيئًا، فشيئًا، بدأت تظهر لهم قامات (( الأبطال )) المقهورين. نهض معظمهم نهضة المقهور الذي هو في شوق إلى المقهور، وعندما صب سيل البشر القادم من (( أريحا )) في مدينتهم الجديدة، فوجئوا بهم بادئ ذي بدء، كمن يفاجئ أحدهم والديه بحضوره بعد غياب طويل، ثم ما لبثت الغبطة أن حفرت أصداغهم، وبعد قليل، اعتادوا على بعضهم البعض، ولم يفكروا في الجنود الذين يمرون بهم بين حين وآخر، ولا في الأبراج التي أحضروها، أبراج تركب فوق شاحنات، ارتفعت بشكل أوتوماتيكي هنا وهناك. كانوا منهكين، وقد ارتاحوا. وكانوا عطشين، وقد شربوا، وارتووا، وراحوا يبحثون عن شيء يسد المعدة. وكانوا غريبين، فالتقوا، وتعارفوا، وأخذوا يتنهدون لبعضهم، وغسان يقول لنفسه، وهو ليس راضيًا ولا غير راضٍ: لقد ازداد عددنا، هذا الذي تغير، لقد ازداد عددنا!
جلس إلى جانب الطفل، والطفل ساكن، والأم الصغيرة ترتكز على السياج الذي رمت عليه غطاء من الصوف طلبًا للظل، وفي حضنها ولدها، وولدها ساكن. ووقف عبد النور في الأمام، وهو يرتكز بيده على جذع شجرة قميئة، بينما يده الأخرى تسكن في جيبه. اتجه إليهم اثنان: أحدهما يتأبط ذراع الآخر حتى وصلا السياج، ارتكز الأول بيده عليه تاركًا المجال للآخر كي يجلس في الظل، فتساقط الرجل على بعضه، وهو يطلق زفرة حادة، وجلس صاحبه دفعة واحدة.
التفت عبد النور إلى (( الضيفين )) اللذين يحدقان إلى لا صوب، وفي جوف العين لون قاتم، وفكر: آخر الركب! هذان من المؤخرة! فقد وصلا آخر الناس. أغمض أحدهما عينيه، بينما بسط كفه على التراب، ومات كفه، ثم ما لبث أن راح يردد كأنما هو يهذي:
- بعض الماء! بعض الماء!
ألقت المرأة ولدها أرضًا، ونهضت إلى صحارة هناك في ظل الشجرة، وأخرجت من جوفها نصف تنكة ماء قدمتها منه:
- خذ، اشرب!
لكن الرجل بقي يردد دون حراك:
- بعض الماء! بعض الماء!
نزلت على ركبتيها، بينما قام غسان إليه، ورفع له وجهه. أدنت المرأة نصف التنكة من شفتيه، فتفجر الماء دون أن يكبح الرجل لهاثه. دفعها في صدرها لما ارتوى، وجاء دور الآخر، فتناول نصف التنكة منها، وصبها على رأسه. سقطت نصف التنكة من بين أصابعه، وراح يطلق زفرة ألم طويلة، ولكن دون طعم، ثم ترك نصفه العلوي يسقط على السياج، وكل جزء منه أخذ يتحرك منفصلاً عن الآخر. غدا رخوًا، وبعد فترة قصيرة، عادت له طبيعته المحطمة، فتح الرجل فمه، وتجشأ.
انتظروا أن يقولا شيئًا، فلم ينطقا بكلمة. راحت المرأة تفرك أصابع يديها حائرة، وفي الأخير، عادت إلى جلستها، واحتضنت ولدها.
سأل غسان:
- من أين أتيتما؟
استدارت عينا الرجل الذي صب الماء على رأسه ناحية غسان دون أن يحرك رأسه، ولم ينطق بكلمة. بعد قليل، سأل الرجل:
- ألديكم طعام؟
تطلع غسان إلى المرأة التي هزت رأسها هزات بطيئة نافية على الجانبين، وقد جف الدم في وجهها. عاد الرجل يسأل بنبرة ملحة:
- ألديكم طعام؟
وقفت المرأة باضطراب، وقالت، وهي تجيل النظر بين غسان والرجل:
- سأذهب في طلب بعض الطعام.
خشنت لهجة الرجل، وهو يضرب كفًّا في الأرض:
- ليس لديكم طعام؟
قال له غسان:
- رويدك، رويدك!
وقد ذهبت المرأة في طلب الطعام على عجلة.
تدخل عبد النور بلهجة صلفة:
- إنهم، لو تعلم، ليسوا مستودعًا للتموين.
رفع الرجل صوبه وجهًا متشققًا بعد أن جف الماء عليه، واستاء غسان تمامًا من لهجة عبد النور، واغتص، لكنه طوى غصته. أضاف عبد النور، وهو يحاول أن (( يبتسم )) للوجه المتشقق:
- فالكل هنا، لو تعلم، الكل هنا في الهم سواء!
تحامل الرجل على نفسه، واعتدل، ثم التفت إلى صاحبه: كان يغط في نوم عميق. لاحظ عبد النور في ملامحه طمأنينة ليست مهضومة، ومع ذلك، فقد كانت طمأنينة رجل رغب في النوم على الأرض، بعد أن أنهى رحلة صيد.
قال الرجل مشيرًا إلى صاحبه:
- أنا أطلبه من أجله، فهو لم يأكل منذ أيام.
قال غسان يريد الاطمئنان:
- جئتما من أريحا؟
مسح الرجل لحيته النابتة بخشونة، وقال:
- أنا من أريحا، أما هو، فمن بيت لحم (وتكلم بتأتأة): مشينا أولاً إلى (( النقب )) بعد أن طردونا من مزارعنا، ثم عدنا إلى أريحا كي نعبر جسر اللنبي، لكن (( إخواننا )) أقفلوا الجسر في وجوهنا، فأتوا بنا إلى هنا.
قال غسان، وكأنه يرمي إلى التخفيف عن نفسه:
- لقد مشيتما كثيرًا!
نهض الرجل فجأة، وتقدم خطوتين، وقد نصب ذراعيه في اتجاه أحدهم صائحًا: يا لطفي! يا لطفي!
دون أن يعيره المقصود أدنى التفاتة، فحث الرجل خطاه الخائرة، بينما ترك ذراعًا تسقط، والأخرى تمتد نحو الرجل، وعاد يصيح:
- يا لطفي! هنا، لطفي!
وأمسكه من كتفه، فاستدار، لكنما خابت أمائر الرجل الذي قال معتذرًا:
- لقد حسبتك لطفي!
والآخر يحدجه بنظرة ليست فيها أدنى طيبة.
عاد إليهم، وهو يقول كاسف الوجه:
- لقد حسبته لطفي، إنه تمامًا مثله من الوراء.
ووجه حديثه إلى عبد النور، وسيماؤه باقية كالورق المدعوكة:
- كان لطفي لحامنا، وقد قالوا لي إنه مات مقتولاً، بعد أن أهوى بساطوره على رأس أحد الجنود. ظننته هو (ابتسم، فسقطت شفته السفلى، وبانت له سنان أماميتان مدفوعتان قليلاً، ثم راح يعاتب نفسه): ظننته هو، فهو يشبهه من الوراء، مع أنه لم يحصل لي أن أخطأت مرة واحدة.
قال عبد النور:
- ومع ذلك، فقد كنت متأكدًا من أنهم قتلوه.
احتدت نبرة الرجل دون أن يعطيها القوة التي أراد:
- لكنه يشبهه تمامًا، يشبهه تمامًا من الوراء.
زحف في محياه التعب، فتحامل على نفسه، وأخذ مكانًا على الأرض. ولو لم يكن مجهدًا، ولو كان حليقًا، لحافظ وجهه على استدارته. لقد بدأ التعب يحفر واديين في خديه، وكان عبد النور يفكر: لم يكن متأكدًا من أنهم قتلوه، لم يكن مؤمنًا بالعملية!
افتر ثغر الرجل، بدا كالأبله الضائع، وراح يقول كمن يحادث شخصًا مجهولاً:
- الملعون! كانت له تصرفات غريبة، ومع ذلك، فقد استطاع أن يفعلها!
- وأنت؟
- وأنا ماذا؟
- لماذا لم تفعلها أنت؟
- لقد حاولت، وفشلت.
- أما هو، فقد استطاع.
احتد الرجل:
- قلت لك، قلت لك، كانت له طوال حياته تصرفات غريبة، أما أنا...
- أما أنت ماذا؟
- كان قويًّا كالثور الحرون، أما أنا...
راح عبد النور يهدر:
- أما أنت، فقد كنت كالحمل الوديع عاجزًا طوال حياتك!
تدخل غسان مغتمًّا:
- إنه... إنه لم يستعمل الساطور مرة واحدة طوال حياته.
وافق الرجل برأسه، معيدًا:
- إنني لم أستعمل الساطور مرة واحدة طوال حياتي.
قال عبد النور بنبرة مركزة، وهو يهتز احتقارًا:
- هذا لا يعني شيئًا، هذا لا يعني شيئًا!
انتصب غسان، قبض عليه من كتفيه، وراح يهزه هزًا متواصلاً:
- أنت هو الذي لا يعني شيئًا، وقفتك الآن ما بيننا هي التي لا تعني شيئًا، (( صلابتك )) هذه هي التي لا تعني شيئًا!
أجهده العرق، وأخذه الضيق، أبهره الشعاع الأسود القوي الذي انبثق من عينيه. تراجع متضعضعًا، وهو يقول، محاولاً أن يسمعه:
- لقد أدنتنا بما فيه الكفاية، جميعًا، ونحن لهذا نكرهك!
لهثات... لهثات... وخطوات عرجاء! التفتوا جميعًا إلى الرجل الأعرج الذي راح يهز قبضته الغاضبة في الفضاء، وهو يقول منذرًا:
- اخفوا الأطفال، اخفوا الأطفال!
جذب الغطاء عن السياج، وألقاه على الطفلين، فانفجر أحدهما باكيًا، بينما أخذ الثاني يحاول نزع الغطاء عنه دون فائدة. قال الأعرج كمن يفشي لهم سرًّا:
- إنهم الجنود، فهم سيذبحون الأطفال!
انتهره عبد النور:
- ابتعد من هنا.
رفع الأعرج سبابته، وهو يهزها قرب أنفه:
- صدقني، صدقني، سيذبحون الأطفال!
- أنت مجنون؟
- نعم، أنا مجنون لأني أحذركم، سيذبحون أطفالكم!
تقدم منه عبد النور مهتاجًا، ودفعه دفعة قوية في قلبه:
- ابتعد من هنا، أيها الأحمق!
أصابت الأعرج رعدة راحت تهزه من أخمص قدميه حتى قمة رأسه، وراح فكاه يصطكان، بينما انتفخت أوداجه، وسالت من طرفي فمه رغوة كثيفة، ثم ما لبث أن قفز للوراء، وهو يفكز بقدمه، وأخذ يصيح بأعلى صوته:
- انتظروا، انتظروا، سيذبحونكم، أنتم وأطفالكم، سيذبحونكم!
عادت الأم، واحتضنت ولدها الذي استمر يبكي. وعندما التفت عبد النور إلى غسان، وجده يحدجه بغل وضغينة. قال غسان:
- أرأيت؟ ها هو ذا (( كرهنا )) جميعًا!
نبر عبد النور:
- إنه مجنون! إنه يخرف!
- إنه يحذر الناس، أما أنت، فأنت تحتقر الناس!
نزع نظارتيه، وبدأ ينفخ عنهما الغبار، وكان عبد النور قد راح يقول لنفسه، وسهام تنطلق من عينيه، ود لو تفتك به: لسوف أذلك! لسوف أذلك!
همهمت المرأة:
- لم أجد طعامًا.
تطلع الرجل إليها بلا مبالاة، وأشار إلى صاحبه الذي انطوى حتى انسحق صدره على ركبتيه:
- لم يعد بحاجة إلى طعام.
دفعه بطرف الخنصر، فمال إلى الناحية الثانية، ثم ضرب رأسه في الأرض، ونجم عن ذلك صوت كالمطرقة:
- لقد مات منذ ثوان.

* * *

إنه يعرف قامة الزرافة تلك! كان أول ما رأى: ظله الطويل، أطول الظلال! ولما كانت الشمس قد مالت قليلاً نحو الغرب، فقد ازداد ظله طولاً عن وضعه الطبيعي. إنه سابو، صديقه سابو هنا. عندما وقف أمامه، وأمعن النظر في وجهه، رأى وجهًا قديمًا طالما أحبه: وجه طفولته إلى ما قبل أيام! لكن ذلك لم يؤثر في قلبه كما كان بالإمكان أن يؤثر لو التقى كلاهما في مكان آخر، أي مكان غير ذلك المكان. اهتز كلاهما للصدفة، فقط، التي جمعتهما. رفع سابو حاجبيه إلى أعلى، إلى أعلى ما يكون، وقال، وهو يضغط أسنانه:
- إذن، فقد انتهت!
هز غسان رأسه محدقًا في وجه طفولة انتهت، وهي تهتز فرقًا دون أن تستغيث.
- وماذا ستفعل؟
لم تعد طفولته تهمه على الإطلاق، وفي نفس الوقت، لم يستسغ سؤال صاحبه:
- ماذا؟
- أقول، ماذا ستفعل؟
قال غسان، وهو يطرف بعينه إلى امرأة هناك ترضع صغيرها:
- لا شيء (سكت قليلاً ثم أضاف): وأنت؟
لم يجبه، فقال غسان:
- لقد أضعت أمي.
وراح يضحك مفتونًا بنهد المرضعة، ثم أضاف أيضًا مفتونًا بكل ما هم فيه:
- ها أنت ترى، إذن، أننا خسرنا كل شيء.
التفت حوله، وأعاد مؤكدًا:
- لقد خسرنا كل شيء، كل شيء!
قال سابو، بينما انتصب- كما هي عادته دوماً- شعر رأسه الحليق الذي له ملمس فرشاة النايلون:
- لم أعد أفكر في هذا.
ندت عن غسان ضحكة جذلة:
- في ماذا تفكر إذن؟
قال سابو:
- اعلم، لقد مات أبي.
لم تتغير ملامح غسان، لكنه أوقف ضحكته، وسمع صديقه يوضح:
- عندما سقطت القدس، أصيب بجلطة، ومات.
لم يعتذر غسان لأجله، بل كان خدر ساحق ينمنم أطرافه.
قال سابو بلهجة أليفة:
- لم أعد أفكر في هذا.
ران الصمت، وراح كل منهما يرنو إلى الآخر دون أن يقول كلمة، كان لدى كليهما الشيء الكثير ليقوله، وها هما لا ينبسان بكلمة واحدة. فجأة، إذا بسابو يقول:
- اسمع، يا غسان، حقًا كانت ما بيننا صداقة، لكن ذلك لا يعني أني ما زلت أحتفظ بمشاعري الماضية نحوك.
سكت قليلاً ثم أردف دون كره:
- لن أنفعك كثيرًا، ثم، هأنذا أقول لك: أنا أفكر في الهرب، إذا أردت أن تأتي، فلن أمنعك، ولكن حاذر أن يراك الصهاينة، فيعلقوا جثتك.
لم يفاجئه ذلك (( الاعتراف )) البريء، كان يسحره أنفه الدقيق المندفع قليلاً إلى أعلى.
سأل غسان:
- وهل ستنجح؟
- إن هذا لا يهمني.
- ماذا؟
- أن أنجح أو لا أنجح، أنا أفكر في الهرب، وكفى.
أراد أن ينقض عليه، ويقضم له أنفه، فيثأر من أشياء كثيرة لم يستطع الثأر منها.
قال غسان:
- هل فكرت في الطريقة؟
- لا، لم أفكر بعد.
- وماذا تنتظر؟
- أنا لا أنتظر شيئًا.
- إذن، كيف ستتدبر أمر الهرب؟
- قلت لك لم أفكر في هذا بعد.
سكت قليلاً ثم أضاف بثقة:
- ليس الأمر صعبًا كما تتوهم.
(( بثقة! )) للوهلة الأولى منذ زمن طويل، منذ سبع وعشرين سنة، يقع عليها تلك الثقة. لقد قرأها في عينيه، وشمها في عرقه، ولمسها في نبرته، ولقد خفق قلبه خفقة تلو خفقة (( ضمن )) الكلمة، بثقة، فاهتز، واهتز، وسما، سما، ورفع رأسه بشموخ وعظمة.
- ماذا قلت؟
ولم يترك له الإجابة:
- ليكن في علمك، لقد قررت ألا أجتاز النهر، أنا أحسن السباحة كما تعلم، لكني لن أجتاز النهر.

* * *

كانت صيحاته الغاضبة كزامور الإنذار المنطلق على دفعات، لكن معظمهم كانوا لاهين بما هم فيه، فلم يبالوا بصيحاته التي تقول:
- انتبهوا على أطفالكم! ردوا بالكم على أطفالكم!
وحنجرته الحادة كانت تتمتع بنقائها دومًا، وكان يدفع بقدمه العرجاء خطواته النصفية، ويعود إلى القول:
- سيذبحون أطفالكم! سيذبحونكم!
كان هناك من يضحك عليه من كل قلبه، وكان هناك من يموت جزلاً إذا ما لحقه أحدهم بعصا.
سألت المرأة غسان:
- هل هو مجنون؟
- من؟
- الأعرج.
رنا إليها، وقال لها بود:
- لا.
- قالوا إنه مجنون!
ابتسم لها، وقال لها بود:
- المجانين في أيامنا هذه هم العقلاء الوحيدون!
سكت قليلاً ثم أضاف لها بود:
- لا تشغلي بالك كثيرًا بأمره.
والأعرج يزل يصيح:
- سيذبحون أطفالكم! سيذبحون بيضاتكم!
ضحكت، وهى تخبئ وجهها في ظهر ابنها، وفجأة، وصلتهم ضجة الحوافر، والعدو الرهيب، وجاءهم فرسان مدججون: خيالة! خيالة ميدان! فكر غسان مأخوذًا: (( إنهم يتقون كل شيء هؤلاء التماثيل الآدمية! كل شيء! )) قذف أحد الفرسان حبلاً معقودًا كحبال رعاة البقر، فإذا به يصطاد الأعرج الذي راح يكسر خطواته النصفية في الأرض، وهو يعدو، دون أن يستطيع اللحاق بالفارس. اصطاده فارس آخر بحبله، وجذبه، فإذا بالأعرج يسقط كجبل الثلج في الأمواج. سحباه مسافة طويلة، وفي لحم الأرض صارت آثار مخلب، وفي لحم الضحية صارت جروح شرسة، وعندما ابتعدا به إلى حيث لا يدري أحد، لم ينهضوا، ولم يهيلوا التراب فوق بقع الدم، ولم يبالوا.
قالت المرأة لغسان:
- المجانين في أيامنا هذه هم المجانين الوحيدون!
جمعت الطفلين بين ذراعيها، وراحت تغوص بأصابعها في شعرهما كي تزيل عنها تشنج الأصابع.
قال غسان:
- أريد أن أسألك، كيف قتلوه؟ زوجك؟
رفعت صوبه وجهًا غدا بشعًا فجأة، فأضاف مسرعًا:
- لا تقولي إذا كان الأمر يزعجك.
لكنها فتحت فمها، وأخذت تتكلم، وهو يحصد الثمر عن وجهها: ثمر الغضب! من شفتيها، من عينيها، من ثنيات مسحوبة في سمارها. كانت قد تكلمت عن زوجها، وكانت قد قالت له:
- إنه جندي بشرطتين، وأنا من نابلس، لكن زوجي من عنبتا، له والد فلاح، وقطعة أرض. كنا نقضي نهاية كل أسبوع في القرية، فنشارك في قلب الأرض، وإذا كان موعد جني المحصول جنيناه معًا. لقد وعدوا زوجي بترقية قبل أن نتزوج بسنوات، وقبل الحرب، قالوا له بعد الحرب سنعطيك إياها. بدأت الحرب، وانتهت، لكن زوجي لم يعد لا بترقية ولا بدون ترقية!
سكتت قليلاً ثم أردفت بغضب:
- لقد قتلوا زوجي، ضباطه المجرمون!
وهي تشتمُّ رأس الطفل ورقبته اللينة.
أنهت بعتاب:
- كان من واجبه أن يحافظ على حياته، لقد وعدني أن يحافظ على حياته!
همس غسان بشفتين متيبستين:
- لقد حصل زوجك على ترقية، اطمئني!
تدخل عبد النور من طرف:
- في عمان إياك أن تغضي الطرف عن مطالبتهم بالتعويض، تدبري أمرك بأية طريقة، وطالما هم يدعون أن هناك حربًا قد وقعت، فهو (( فقيد حرب ))، والقانون يفرض ذلك، أن يعوضوك.
كان الشيخ قد زحف على مقربة منهم منذ فترة دون أن يحسوا بوجوده، أخذ يضرب عمامته في الأرض، ويردد كعادته دون رضاء:
- هذا حسن! هذا حسن!
شدهم الصوت.
- ماذا يا أبتِ؟ ما الذي هو حسن؟
- المطالبة بالتعويض (سكت قليلاً ثم قال بنبرته العجوزة الساخرة): إذا كانوا قد أقروا ذلك، فهو ليس في صالحهم على الإطلاق، لأن فقيد الحرب ليس فردًا أو اثنين، إنه نحن كلنا، الأحياء والأموات، إنه الأرض! (وخفق وجه الشيخ لون أحمر): أسمعتم؟ إنه الأرض! لن يكون في مقدورهم أن يعطوا بدلاً عن الأرض.
قالت المرأة ونبرة ألم قد عركت صوتها:
- لقد باعوا دم زوجي، أما أنا، فلن أبيع منه قطرة واحدة.
انحنى غسان صوبها دون أن يبدو عليه التأثر بما قالت، لكنه كان يشعر بعاطفة ما نحوها، وطلب:
- انسي قصة زوجك.
- ماذا؟
قال عبد النور مستدركًا:
- لم أقصد أن... (توقف عن الكلام، ثم أوضح كي يقنعهم): كان همي الطفل، هذا كل ما هنالك (نهض، وتوجه إلى غسان قائلاً): عندي ما أقوله لك.
- الآن؟
- لا، ليس الآن.
وذهب حيث يجلس سابو وحيدًا.
تساءلت المرأة:
- ماذا يريد منا هذا الرجل؟
مشيرة إلى عبد النور، فلم يجبها غسان، وبعد قليل، قال:
- هذا الصباح كنت أحس بألم في معدتي.
- والآن؟
- لا، ليس الآن.
جلس الشيخ قربهما، وهو يلف من حوله قنبازه، وقال بتمهل:
- المهم أن ينتهي الكابوس.
فقالت المرأة مشتتة:
- لقد حرثنا أنا وزوجي الأرض، وزرعناها.
سألها الشيخ مهتمًّا:
- ولماذا تركت الأرض، يا ابنتي؟
- بعد أن احتلوا (( العمارة )) أين تريدني أن أذهب؟
- إلى القرية، إلى الأرض.
- لم تعد هناك قرية ولا أرض.
كانت تشد بين أسنانها على الكلمات، تريد أن تفتك بالكلمات.
- لم تعد هناك قرية ولا أرض! هذا عار، يا ابنتي!
- نعم، هذا عار!
شد غسان ذراع الشيخ، ثم أطبق عليهما الصمت. بعد قليل، عاد ذلك الصدى في الرؤوس: (( لم تعد هناك قرية ولا أرض )). قالت المرأة عاجزة:
- إنهم جنود الاحتلال، لقد دخل القرية جنود الاحتلال، ونحن كنا خارجها.
أحدهم توقف قربهم: شاب طويل أسمر في الثلاثين من عمره، ومع ذلك، فالشيب يفتك بشعر رأسه. رفع إصبعا مثقلة مشيرًا إلى الناحية المجاورة، وقال:
- هلا مددتم يد العون؟
التفت الجميع إلى حيث أشار، ورأوا امرأة حاملاً ارتمت على جانبها، بينما انتصبت ذراعها العلوية في الفضاء، وراحت تتحرك على دفعات. نهض غسان صوب المرأة، ومن ورائه جاء الشيخ وأم الطفل. وهم يعودون بالمرأة الحامل، قطع سابو وعبد النور حديثهما، وجاءا بقدم مترددة. مددوا المرأة تحت السياج، وما وراء السياج ارتفعت شمس آخر النهار الدموية.
قال الزوج بصوت واهن:
- أنا أعرف، إنه موعدها.
غطتها أم الطفل، والمرأة الحامل تغمض عينيها طوال الوقت. سأل غسان:
- هل هي فاقدة الوعي؟
انحنت الأم حتى لامست خصلاتها الوجه المتيبس، وراقبت حركة أنفاسها على خدها، ثم لمست جبينها.
- أنفاسها منتظمة، لكنها تشعر بالبرد.
قال الشيخ بطفولة:
- غطيها.
فلفت غسان انتباهه:
- ليس هناك سوى غطاء واحد.
- إذن، لنبحث عن أغطية.
ذهب الشيخ إلى جماعة على مقربة منهم، وراح يتكلم معهم، وهو يشير إلى المرأة الحامل بيديه الاثنتين.
قال غسان للزوج:
- إذا كان موعدها حقًا، فعلينا أن نتدبر الأمر.
قال سابو:
- هل نساعدكم، يا جماعة؟
عندما رفع وجهه إليه، تنافرت نظرته مع نظرة عبد النور.
قال غسان:
- من اللازم أن نقيم عريشة.
- إذا كانت هناك أغطية وعيدان أقيمت العريشة.
- ستكون هناك أغطية وعيدان، لقد ذهب الشيخ في طلب الأغطية، وسأذهب أنا في طلب العيدان.
تدخل عبد النور:
- هذا لا يجدي نفعًا! طالما المرأة ستلد، ابحثوا أولاً عمن يفهم في ذلك.
حدجته الأم شزرًا، وقالت:
- هناك من يفهم في ذلك.
قال سابو:
- إذن، لا تريدون عوناً؟
- حتى هذه الساعة على الأقل.
- طيب، نحن هناك، إذا ما احتجتم إلى شيء، ناديتم علينا.
عاد عبد النور وسابو إلى مكانهما قرب الشجرة، وهما يتمتمان.
سأل الزوج غسان:
- ما هو عملي؟
- ابحث معي عن العيدان، اخترها قوية وطويلة بعض الشيء، وسأحاول، في نفس الوقت، إحضار بعض الأغطية.
وبعد أن سار الرجل خطوتين، لم يدر غسان كيف قال له:
- سيكون طفلاً.
التفت الرجل دون أن يستطيع الابتسام، وأراد غسان أن يذهب، لكن نظرات الرجل المبهمة بقيت تشده، قال الرجل:
- لم أحلم في هذا يومًا!
كانت نظرات الرجل المبهمة لم تزل تطارده، فتمتم غسان:
- إنه كالكابوس: وضعنا!
- لكنني لم أنتظر هذا، لم أنتظره في يوم من الأيام!
بقي غسان ينظر إلى الرجل، وهو يفكر: ستلد زوجه عما قليل، ستلد لنا (( كبشًا )) كبيرًا! سمع الرجل يقول مكدرًا مهمومًا:
- فهي لحظات مناسبة كما ترى!
أعطاه ظهره، وغسان لم يزل يفكر: ستلد زوجه عما قليل، ستلد لنا (( كبشاً )) كبيرًا! نهضت الأم تبحث هي الأخرى عن بعض الأدوات، فلاحظت أنه معقود في مكانه:
- ما لك؟ ما بال قدمك؟
أراد أن يقول لها: اجعليها تلد لنا (( كبشاً ))، على أن يكون كبيرًا، كي نحتفل به، فهي لحظات مناسبة كما ترين! لكنه أجاب:
- لا شيء!

* * *

(( ستسقط شمس دموية عما قليل! ))
لم يهتم أحد منهم بذلك، وقد راحت نسمة رخاء تهب بين آن وآن. كان ذلك ما يرضيهم، نسمة الرخاء فقط، وهم لا يحركون ساكنًا. سقطت الشمس الدموية، فسقطوا في لطخات حمراء، مجنونة الحمرة، أخذت تسيح، ويصبح لها شكل الورد الوحشي، حتى تحولت المعمورة إلى لطخة دموية هائلة لا تلبث أن تتمزق، فيتسلل من طياتها وحش أسود، وشيئًا، فشيئًا، برزت مخالب الليل في كل مكان.
سأله سابو، وهو يتقدم منه:
- لماذا تقف وحدك؟
كان غسان يعطي وجهه لليل:
- أعطي ظهري للمرأة الحامل.
اختلس سابو النظر إليها، لم تكن هناك عريشة، ولم تكن هناك سوى أم الطفل التي تنحني، وفي قبضتها يد نصف ميتة. كانت المرأة الحامل تستلقي كالتل، بينما تحرك فخذيها بأناة، تارة هكذا، وتارة هكذا، وكان هناك مصباح واهن، والطفلان ينامان كجثتين هامدتين.
قال غسان:
- لقد رفضوا أن يتبرعوا بغطاء، كانت لديهم أغطية، وقد أخفوها. بذلت كل ما في وسعي، ولكن دون جدوى.
- ستكون في وضع سيء.
- ربما تدبر زوجها الأمر، فهو لم يعد حتى الآن.
ظلا صامتين، كأشباح الليل المسحورة، والتي تبقى في وقفتها ملايين السنين هكذا دون إرادة! من حولهما كان الناس يسعون إلى النوم، استلقى بعضهم، ورمى فوقه غطاء.
- إذا لم يتدبر زوجها أمر الأغطية، بقيت لنا طريقة واحدة.
- أن نسرقها، أليس هذا ما أردت قوله؟
- إنها الطريقة الوحيدة، وإلا لحق الوليد بعض السوء.
همس غسان لنفسه: وماذا يهمني أنا، أن يلحق الوليد بعض السوء أم لا؟ لكنه منذ قبل أن يلتقي صديقه بقليل، وهو يلاحظ على نفسه ما لم يلاحظه منذ أن ترك بيته، خشي أن يصبح (( إنسان الماضي )) في حاضره، ومع ذلك، فلم يستنكر ذلك حتى ولا على نفسه، ومع ذلك، فهو لا يدري تمامًا إذا ما كان يريد أن يكون أو لا يكون شيئًا آخر غير ما كان عليه في الماضي، وفي الأخير، تساءل: ما هي علاقتي بماضيّ؟ ما شكلها؟ وكيف كانت؟ فلم يقع على جواب كامل، بقي حاضره علامة استفهام كبيرة، علامة استفهام مفزعة، فزاعة هائلة، وفي ذات الوقت، فيها التافه، وفيها الحار الذي لا طعم له، وفيها العار الذي يبقى لديه دومًا دون تفسير، وفيها المودات القاسية، والهموم السعيدة الشقية الورعة كانت فيها، أما عن المستقبل، فلم يكن مطروحًا لديه على الإطلاق بتلك الحدة التي تمناها.
جمجم غسان:
- أحب الليل!
أصغى سابو إليه بانتباه، وقد ارتفع صوت غسان:
- لقد أحببت الليل كثيرًا!
عقد سابو بين حاجبيه، وقال زاجرًا إياه:
- ليس هذا وقت الحديث عن الليل.
هتف غسان:
- لقد نهض الليل!
فصححه صديقه:
- إن الليل لا ينهض، إنه يسقط.
احتج غسان:
- لقد نهض! لقد نهض!
راح سابو يفكر في نبرة غسان المحتجة، وما لبث أن سمعه يقول كالعاشق:
- إنه ليل آخر.
فرك سابو أنفه ناشقًا على دفعات، وقال:
- اسمع، أردت أن أقول لك.
سكت قليلاً، ثم أضاف، وهو يوطئ صوته:
- احترس من رجلك (كان يقصد عبد النور) إذا لم يكن شرطة عسكرية، فهو مخابرات.
فكر غسان: حل وقت الصحو!... ساخرًا.
- أنا حذرتك، وكفى.
أحس غسان، فجأة، بساقيه تنموان في أعماقه، وبعضلاته القوية تنفتل في كبده، ساقا وعضلات رجل الشرطة ومركز المخابرات، رجل السلطة! وراح يردد:
- حتى ولو كان الأمر صحيحًا... حتى ولو كان الأمر صحيحًا...
قال سابو:
- وبالمناسبة، لقد حدثني عن جزء كبير من حياته.
فكر غسان: أبهذه السرعة؟ وسابو يضيف:
- بين دقيقتين استطعت أن (( أستبين )) و(( أستكشف )) تناقضاته، رغم أنه يتمتع بذكاء خارق، إنه أعجوبة في الكلام، لكن كلامه لم ينطل عليّ، وطوال حديثه، كان يخيل لي أني أعرفه أو ربما التقيت به في مكان ما. المهم قال لي إنه كان محبوسًا، وقد عذبوه دون أن يبوح بكلمة، وتكلم عن أمور كثيرة، عن القومية العربية، والوحدة، وعبد الناصر، والملك حسين، وأمور أخرى كثيرة، وقال لي إنه يكنّ لك ودًّا كبيرًا، وهو لوقت طويل بقي يطوف بين الناس بحثًا عن أمك. ولكن، حذار من أن يوقعك في الشرك، حذار!
كان غسان في الليل ينزع نظارتيه، هكذا كان معتادًا، وهو بعد أن نزعهما طوال حديث سابو، أعاد وضعهما من جديد، وقال مفكرًا في شيء آخر:
- لم يعد زوج المرأة.
انفجرت صرخة كالرعد قفز على إثرها بعض المحيطين بهم، وصاح البعض الآخر بعد أن فقد النوم، دون أن يسأل عن السبب، منزعجًا كارهًا.
قال سابو:
- أتاها المخاض.
- وهل يدوم ذلك طويلاً؟
- لا تستطيع أن تحزر.
سكت قليلاً ثم أضاف:
- سأقوم بجولة صغيرة.
وهو يلقي على الطريحة بنظراته.
بعد قليل، دب في الليل صوت بكاء، فاستدار غسان نحو الطفل، وعبد النور يتقدم منه.
صاح غسان بأم الطفل:
- ماذا به؟
- إنه جائع.
بقي الطفل يبكي، وهي تهدهده في حضنها، وما لبثت المرأة الحامل أن انفجرت تصيح مرة أخرى (( بوجع )) و(( بألم ))، فقال عبد النور:
- يبدو أن الأمور تسير من سيء إلى أسوأ.
وهو يشير إلى الطريحة، وغسان يفكر: كأنما هناك معركة، معركة حقيقية اسمها الحياة والموت! رفع غسان صوته مخاطبًا أم الطفل:
- أنت بحاجة إلى عون.
لكن المرأة استمرت تهدهد طفلها حتى عاد إلى نومه، قلبت صحارة على ظهرها بحيث صارت فوهتها للسماء، ووضعت الطفل في جوفها. اقتربت من الطفل الآخر، وهي تنزع عنها كنزة من صوف خفيف، ألقتها عليه، ثم تقدمت حيث هناك (( مهمتها )) بقميص نصف كم أبيض، وراحت تمسح بكفها العرق عن جبين المرأة الملقاة على الأرض.
سأل عبد النور:
- هل نام الشيخ؟ أنا لا أراه!
أشار غسان إلى جهة مرتفعة قليلاً، جلس الشيخ عليها، وهو يضرب عمامته في الأرض، معطيًا ظهره للعالم.
- لا يأتيه النوم.
سأل غسان:
- كم الساعة؟
- العاشرة والربع.
وسكت.
طلب إليه عبد النور:
- تعال، لماذا لا نجلس هناك؟
جلس عبد النور، وجذبه من ذراعه. وهو يرتكز بظهره إلى شجرة، وطلب مرة أخرى إلى غسان:
- اجلس.
- ليست لي رغبة في الجلوس.
قال عبد النور:
- كما شئت.
تناول حصاة، وراح ينقلها من يد ليد، ثم رفع رأسه إليه، وقال:
- أتدري؟ لقد بحثت عن أمك.
- قال لي سابو.
- لكني لم أعثر لها على أثر.
-.........
- ربما تساءلت كيف أبحث عن شخص لا أعرفه، بل لنقل، أجهل كل تفصيل عنه، لكني بحثت... دون نتيجة.
-.........
- أنا أسف! إن الأم أم على أي حال، وأنا قد كانت لي أم، رغم أنها لم تكن تزورني في السجن إلا لمامًا، لكنها تسمى أمي. بينما أنا أتحدث عنها إليك الآن، أتذكر كيف تعبت من أجلي (قطع حديثه بضحكة قصيرة سريعة لها موقعها بين كلماته): أنا ابنها على أي حال، ومن واجبها أن تتعب من أجلي، لكنها أمي قبل كل شيء.
كان الليل ما بينهما، وكان الليل يطل عليه من عينيه، وفي عينيه أمور كثيرة يود الاستفسار عنها ولا يجرؤ. كان الليل يتلهب سوادًا في عينيه، وغسان لا يدري أي عالم غريب ينتظره على أعتابهما هناك. إنه لا يستمع إليه، وفي ذات الوقت، يستمع. لا يهمه ما يقول، وفي ذات الوقت، يتابع رعشات فمه أثناء الكلام: ضابط استخبارات! ضابط شرطة عسكرية!
- أنا لو تعرف لا أساوي شيئًا بلا (( أمي )) (ضحك ذات الضحكة القصيرة السريعة): ولو كانت (( أمي )) معي في السجن، لاستطعت أن أحطم القضبان، ولكن أسفًا!
ذهب غسان في البعيد: (( امتطى صهوة فرس، ثم ساطها بعنف، فراحت تعدو به، دخل في عينيه، ثم استل سلاحه، وأطلق، ثم أطلق، إلى أن سقط، وتحطم! )) غدا غسان ضجرًا، ضائقًا، فلم يذهب، بل جلس قربه، وقال:
- كنت تريد أن تقول لي شيئًا آخر.
أخذ عبد النور نفسًا عميقًا، وترك الحصاة تسقط من بين أصابعه:
- حقًا، كدت أنسى.
وراح يبحث في تفاصيل وجهه عن هدف:
- أردت أن أطلعك على سر (لبست معالمه شخصية أخرى، هو، ولكن بشكل آخر): أنا لا أثق بأحد منهم، هأنذا أقولها لك بصراحة، أما أنت، فالأمر يظل معك يختلف، حتى ولو قلت لي: وماذا يعني أنا، وأنا واحد منهم؟ فالأمر، بالنسبة لي، يظل معك يختلف، ولهذا، وقع اختياري عليك.
نظر غسان إلى عروق يديه: كانت عروق يديه على الأرض، زحفت عروق يديه من لحم الأرض إلى لحمه، وخفق دمه في عروقه كما تخفق الأشرعة في قلب البحر! غدا غسان كئيبًا، الكآبة في جوفه غمامة، فتح فمه، وأراد أن يقيء دون حشرجة، بألم، ولكن دون حشرجة.
اهتزت يد عبد النور لمرات، فك سرواله، ومن بطانة في جانبه أخرج مسدسًا، وألقاه بين يديه.
- ما هذا؟
- لا ترفع صوتك.
دنا منه، وأخذ يهمس:
- إنه لك.
- لي!
- نعم، لك
- من أين أحضرته؟
- سرقته.
- سرقته؟
- نعم، سرقته.
- وهل فيه رصاصات؟
- ثمانية.
- فقط.
- إنه مسدس متوسط الحجم.
- أرى ذلك.
- ثمانية رصاصات تكفي، فيها الكفاية.
- .........
- أتسمع؟
- هاه؟
- ثمانية رصاصات تكفي.
-..........
- أتعرف استعماله؟
- لا.
- ليس الأمر صعبًا على أي حال، اضغط على الزناد، فقط (ثم هتف): اخفه! (وهتف من جديد): اخفه! اخفه!
دفعه غسان في صدره، ومن جوف الحلكة، انبثق وجهُ عجوزٍ قديم، بيدها عصا، وثوبها أسود يجر على الأرض، كانت تردد:
- يا جماعة! يا جماعة!
حدقت عينا غسان إليها، فحسب أنه يقع على المجهول.
- يا جماعة! يا جماعة!
ابتعد الصوت رويدًا، رويدًا، بينما سحقت المرأة حلكة الليل.
سأل غسان، ويده على صدره:
- وماذا سأفعل به؟
- الذي تريده.
وهو يحدق، ويحدق.
- هل أنت خائف؟
- قليلاً.
دوت صرخة المرأة الحامل، فجاء سابو من فوقها لاهثًا، وقال:
- خذي.
مقدمًا لأم الطفل غطاء صوفيًا.
- آه! من أين أتيت به؟
- لقد سرقته.
انطلق لحن في الليل، لحن هارمونيكا، وأخذت تنساب في مخيلة غسان ذكرى قديمة تمامًا كوجه العجوز القديم، ولكن بطريقة أخرى. كان قد شده اللحن، فوقف متسمرًا. فحص الليل، كل الاتجاهات، وقد أخذ اللحن يتناغم ويتماوج كالحور الصعبة اللمس. فكر غسان بعفوية أنه يتقن العزف على تلك الآلة تمامًا، كانت له هارمونيكا تكسوها طبقة رقيقة من الفضة، نقشوا عليها ثلاثًا من الحور، وكثيرًا ما كان يجلس في حديقة دارهم ليعزف، فتأتي جارتاه تطلان عليه من الشرفة التي في الطابق الأول، وتبسمان له طوال الوقت. وفي مرة، كلمتاه، طلبتا إليه أن يعزف لهما أغنية (( الليالي ))، فعزفها بمهارة. بعد ذلك، وقعت الصغيرة في غرامه، أولاً، ثم الكبيرة، فأحب الاثنتين، صار يصعد عند غياب والديهما إلى الدار، ليعزف لهما وحدهما، وصار يغني لهما، وقد علمتاه بعض الأشياء التي تعلق بها، فيما بعد، قليلاً، ثم نسيها، اعترفت له الصغيرة بأن أختها عذراء، أما هي... وكان منه أن نام مع أختها.
سار غسان من وراء النغم، وكأنه النغم، أحس بكل عضلة من عضلاته تخفق بنشوة، وأحس أنه جميل، وأنه قوي، فأخذ يضغط المسدس على صدره، وعقده غرور فريد، راح يثب من كل مكان، ومن جبهات كل أولئك، وفجأة، اشتعلت نقطة سوداء في حياته، وهو الذي ظن أنه استطاع نسيانها، نقطة سوداء حاول أن ينزعها من ماضيه، فإذا بها تشتعل من جديد في صلبه. كلا، كان لا يستطيع، كلا، كلا. انتهت القوة، وانتهى الجمال، وانتهى ذلك الغرور الفريد، لكنما اللحن الأعذب بقي مستمرًا.

* * *

- أشعل الراديو.
أشعله، فإذا بها هارمونيكا، كان غسان يعبدها.
أشار سائق التاكسي إليه، وهو يجلس في المقعد الخلفي، وقال لجاره:
- ربما يزعجه هذا.
وضع الرجل كلتا يديه على جانبي رأسه، وضغط الشاشية البيضاء، التفت إليه بوجه يتراخى بابتسامة مائعة:
- هل تزعجك الموسيقى؟
- لا.
وبقي الوجه الرخو يتفحصه كأنما يريد استفزازه، حتى ذابت البسمة المائعة، أعطاه الرجل قفاه، وعجلات السيارة تدور دومًا، ورائحة الصحراء تهب في أنفاسه، الرائحة الساخنة للصحراء، وأنغام الهارمونيكا، وعجلات السيارة. كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، فبعد أن خرج من سينما الحمراء، ركب الباص حتى ساحة الصفاء، ليأخذ من هناك تاكسي إلى (( الحَوَلّي )) همهم: كل شيء عجيب في هذا البلد! على المرء، كي يأخذ تاكسي، أن يهبط إلى وسط المدينة، أينما كان، ومن هناك، يركب ليذهب حيثما يشاء! في كل الكويت محطة تاكسي واحدة! والحقيقة، كانت الكويت كلها عبارة عن محطة تاكسي واحدة، ولكن من نوع خاص، فالسيارات الأمريكية الفخمة التي كانت لكل الناس، عدا الطلاب الفقراء والعمال الفقراء، هي سيارات تلك المحطة الكبيرة التي اسمها كويت!
رفع السائق الراديو إلى أعلاه، والتفت بوجهه الرخو، مرة أخرى، إليه:
- أتعجبك الموسيقى؟
لم يجبه تلك المرة، فأوطأ السائق الراديو، وراح يقهقه، وهو يضرب جاره على فخذه ضربات خفيفة سريعة، مرددًا بصوت مضطرب غلب عليه الاختناق:
- يا عبد السالم! يا عبد السالم!
وانطلقت السيارة: 120، 130، 150، 180، 220، استمر مؤشر السيارة يهتز على رقم 220، كانت أضواء الأعمدة الأمريكية تفرش الطريق ببساط من الذهب الأحمر، ولم يعد يسمع اللحن، فالنافذتان الأماميتان كانتا مفتوحتين، ولهجمة السيارة كانت الريح تلطم شعره، وتقتحم أذنيه، وفجأة، سقطت الطريق في ثوب دامس. عندما أشعل السائق مصباح النور، انتبه غسان إلى أن تلك ليست طريقه، فضرب بإصبعه ظهر السائق:
- (( الحولي! )) قلت لك (( الحولي! ))
انحرفت السيارة مولولة، وعجلاتها تحك صفحة الزفت حكًّا، وقذفت غسان في قعر المقعد. عندما رفع رأسه، كانت السيارة واقفة في قلب الصحراء، فقفز منها خارجًا، وأخذ يعدو كالفرس بكل قواه.
- اقبض عليه، يا عبد السالم!
نزل الرجل من ورائه عاديًا، وهو يسحب عباءته في الرمل، كان غسان قد صار بعيدًا هناك، فانطلق السائق بسيارته صوبه، وضوء المصباح يعمل نافورة في الليل، والعجلات تعمل نافورة في الرمل، حاصره الضوء من كل جانب، ففقد بصره، كان سائق السيارة قد أوقفها، ونزل إليه عاديًا، بينما تسلق غسان إحدى التلال، وقدمه تغوص في الرمل، ثم سقط مع الرمل حتى وقف وإياه كالغريمين وجهًا لوجه. جرفت خياله الصحراء: صحراء، صحراء... صحراء في عروقه، في صلبه، في ثنيات قلبه، في مسام شفتيه! كان غسان قد تفتت، وانسحق، وفي لحظة واحدة، تحول في صلبها، في صلب الصحراء إلى حفنة رمل، قبضة رمل، عند ذلك، قال لنفسه: لا محالة، لا محالة!
- يا عبد السالم، يا عبد السالم!
انبثق الوجه الرخو، والبسمة المائعة، تقدم منه، وبطحه.

* * *

نهض غسان عن الأرض عاريًا ومرارة حشيشية الطعم تحت لسانه، اهتز لما رأى عبد النور يتحرك على الأرض كالأفعى عاريًا هو الآخر. قفز صوب المسدس، ونصبه بيد ممدودة إلى أقصاها، نحو الهدف: أخيرًا، نعم، أخيرًا! عندما أراد عبد النور النهوض، أرجعه المسدس المنتصب، واليد الممدودة إلى أقصاها، فعاد يتقوس نصف منبطح على الأرض.
أطلق غسان عدة طلقات، حتى اطمأن إلى أنه قتله، وعلى إثر سماعه لخطوات (( فزعة )) (( قادمة ))، اخترق أشجار الصنوبر إلى حقل واسع، منبسط، وراح يعدو عاريًا بكل قواه: المسدس بيده، والقوة بيده، والسلطة بيده، والنهاية بيده، والبداية بيده، والماضي والحاضر والمستقبل كانت جميعًا بيده! فجأة، سقطت عليه الأضواء الكشافة المنبعثة من أبراج الحراسة، وحاصرته من كل جانب.

* * *

وصلهم وقع الحوافر، والنباح الشرس، والهول المروع، وجاءهم جنود الموت بالموت، ورموهم في السلاسل. أخذت الشاحنات تهدر، والطلقات تضاعف من رعاف الليل. وفي اللحظة التي وَطِئَ فيها الحافر بطن المرأة الحامل، سقط (( جرو )) من بين فخذيها، ثم انطلق عويل طويل.




20
تدفق الموج، على غير عادته، بين أقدام جسر دامية، الراسخة في أعماق النهر. قبل الخامس من حزيران، كان من الممكن مشاهدة بطن النهر الأحمر، أما اليوم، فالموج يتدفق، على غير عادته، ضحلاً بلون الطين، وهناك على الضفاف حشيش، وأعواد قصب هنا وهناك، أوراق قصب خضراء طويلة مسحوبة مع الموجات، وأوراق جرائد ممزقة قديمة مسحوبة أيضًا مع الموجات، إلى جانب بعض الأشياء. كانت الاستحكامات العسكرية تبين على الضفتين، بحيث برزت فوهات الموت أنيقة من بين أكياس الرمل، وكان بإمكان الجنود أن يروا بعضهم من بعيد، وأن تغمز النجمة للتاج دون رقيب. أخذ صوت مبهم يتراخى في الأجواء، نفثت الشمس حرارتها المحرقة، وغدا الإسفلت يغلي كما لو كان يغلي فوق مجمرة. عندما أراد أحدهم أن يقطع الطريق قطعها ركضًا، ولما وصل إلى الباعة الثلاثة الجالسين في ظل بناية المخفر، ترامى على الأرض قالبًا قدمًا، فأخرى، وهو ينش عليهما بقطعة كرتون تناولها عن مقربة منه، وقد انفجر الباعة الثلاثة مطلقين ضحكة واحدة... نهض الرجل، وهو يميل على الجانبين، وقال لصاحب العربة الذي لم يتوقف عن الضحك:
- ها أنا أضحك لأني أردت أن أنفعك!
توقف صاحب العربة عن الضحك، وقال، وهو يكش الذباب المتراكم على أقراص الفلافل والجبن:
- لقد تأخر الوقت كثيرًا!
راح يرمق الجسر الذي يموت، وفي الوقت ذاته، دخل في الطرف القابل جندي إسرائيلي علبة الحراسة، بعد أن ترك على بعد خمسين مترًا، شاحنة عسكرية مغطاة بالشباك والأغصان. أشار الرجل إلى باب المخفر، وقال:
- ادخل إليه، فلربما أفادك الشاويش بشيء.
نفخ صاحب العربة، وتجاعيد وجهه تنحرف هائلة في خطها العاجز:
- سألته أكثر من مرة.
وسكت قليلاً ليضيف:
- لا فائدة!
تناول الرجل قرصًا من الجبن الأبيض، وقال يريد طمأنته:
- ما زلنا في أول النهار.
رمى له قطعة نقدية، فاهتز صاحب العربة غضبًا، وراح ينبر:
- منذ مطلع الفجر لم تمر سيارة واحدة، وها نحن على وشك أن نقيم صلاة الظهر.
- توكل على الله.
- توكلت! ولكن، من اللازم أن يفتحوا الجسر!
تقدم الرجل خطوة، وقال لبائع العصير المسترخي في الظل دون حراك:
- أعطني كأسًا على الحساب حتى الغد.
قذف بائع العصير يده في وجهه بمعنى الرفض، مما جعل الرجل يتوجه بحديثه إلى صاحب العربة من جديد:
- أرأيت؟ يظنني سأنصب عليه!
قال البائع الثالث بنبرة وخيمة العاقبة:
- لقد تبدل كل شيء اليوم!
صاح الرجل ساخرًا:
- أبين يوم وليلة يتبدل كل شيء؟! أبين يوم وليلة؟! أنا لن أنصب عليه، وهو، على أي حال، سيجد نفسه مضطرًا في النهاية إلى إفراغه في ماء النهر الضحل، فأنت ترى ما هناك... (مشيرًا إلى بوابة الأسلاك الشائكة السادة لفم الجسر).
لكن بائع العصير راح يردد بحرد:
- لن أدينك! لن أدينك!
- لهذا (مشيرًا إلى عضوه)!
ثم دنا من بسطة البائع الثالث المرتفع عليها تل من الترمس:
- وأنت؟ ألا تريد؟ إنني أعدك. حتى الغد.
هز بائع الترمس رأسه علامة النفي، فحمل الرجل عضوه، وقال:
- لهذا!
رجع خطوتين، ثم خاطب صاحب العربة:
- لا تأمل كثيرًا، فاليوم الجمعة، ومن هي عادتهم أن يذهبوا في مثل هذا اليوم إلى عمان (( للسياحة )) قد أطلقوا سيقانهم للريح منذ انطلقت أول رصاصة، ثم... لا تنس أن (( أصحابنا )) هم الذين بدأوا بإقفال الجسر.
راح وجه البائع يهترئ خيبة، وكاد الهم يفتق صدغيه:
- وماذا في رأيك إذن؟ هل نصفق مؤخراتنا، ونذهب، أم ماذا؟
قضم الرجل طرفًا من قرص الجبن، وسكت مفكرًا لبعض الوقت دون أن يستقر له مستقر، ثم فتح فمه، وقال بكسل:
- انتظر قليلاً، ربما أتى آخرون (( مهمون ))، انتظر أن يقرع جرس التليفون.
وقبل أن يعبر الإسفلت، توجه إلى بائع العصير، وقال بنبرة مهددة:
- طيب، يا قفا، احفظها!
قذف بقدمه حجرًا تدحرج حتى جس إبهام البائع، ثم رفع قنبازه إلى ركبتيه، فبانت ساقاه العصويتان الغزيرتا الشعر، وراح يركض، وهو يقفز من حين إلى حين لحرارة الإسفلت الهائلة، حتى وصل ربعًا من القصب يجلس على عتبته أربعة جنود، وفي الوقت ذاته، وصلت سيارة
(( بويك )) زرقاء إلى الحاجز الخشبي في الطرف الآخر. هبط جندي إسرائيلي من الشاحنة الرابضة هناك، وسار في اتجاهها، فضرب صاحب العربة الأرض بقدمه، واندفع إلى داخل المخفر.
- سيارة، يا سيدي، سيارة قادمة، يا سيدي!
تطلع الشاويش إليه، وكأنه لم يسمعه، لم يره، لم يحس باقتحامه المفاجئ. وضع المجلة الملونة من يده جانبًا، نهض عن سريره القصير بلا مبالاة، وتقدم إلى الخارج ثلاث خطوات، حتى حافة الظل، رفع يده فوق عينيه، وهو يحرك رأسه يمنة ويسرة حتى أقنع نفسه من أن هناك بالفعل سيارة قادمة. كان الباعة الثلاثة من ورائه، وكذلك الجنود الأربعة هناك، بعد أن نهضوا، يتابعون باهتمام حركاته، لكنه استدار إليهم بكرشه المندفعة، وشاربيه الشوكيين، دون أن يتحرك جفناه المصلوبان على جبينه، ثم عاد يأخذ طريقه حيث (( مقره )) و(( راحته )) و(( سلواه ))، وطرق الباب من ورائه.
- لقد بعصته!
ضغط صاحب العربة أسنانه، وقال بائع العصير، وهو يحك شعره المتلبد:
- لا بد أولاً من تلفون.
صب كأسًا من تمر الهندي، وشربها على دفعتين. قال بائع الترمس بشيء من الخيبة القدرية:
- لا محالة! طالما هناك أمر بإغلاق الجسر، فلا محالة!
عاد الجنود الأربعة يرتمون على عتبة بيت القصب، وراح أحدهم ينهي التهام قرص الجبن مع رغيف، والشاري يتابع بحسد حركة فمه. بدأ صاحب العربة يغلي:
- هذا يعني أن نعود إلى قصر البول والخراء في مخيم الكرامة صفر اليدين!
قهقه بائع العصير، وقال:
- هذا يعني أن يد الهاون بانتظارك! ولكن بالمقارنة مع الملعون سماه العبد الحقير الذي بين يديك، أنت تسمى رجلاً محظوظًا!
- رجل محظوظ أنا! رجل محظوظ من قفاي! (واستحوذ عليه الغضب) إن من هم مثلي، الزعماء الذين هم مثلي، والذين في أعناقهم فئران بالدزينة، يخرؤون تحتهم من أجل رغيف الخبز! وفي النهاية، تأتي، وتقولي لي: أنا أُسَمَّى بالمحظوظ، أي محظوظ هو أنا، يا رجل؟
- على أي حال... أنت خير مني ألف مرة!
- أنا خير منك ألف مرة! أتجرؤ على قولها؟ ربما كنت خيرًا منك ألف مرة لأني أرتدي دشداشًا أقل من بنطالك ترقيعًا!
- أنت خير مني ألف مرة، فإذا لم يحصل معك بيع، بل لنقل... إذا حصل معك بعض البيع، أكلتم، على أي حال، ما تبقى، وخير عربتك كثير، أما أنا... فتمر الهندي لا يسمن ولا يغني من جوع!
رن جرس التلفون بحدة، فقفز ثلاثتهم، وأنصتوا حتى أنهى الشاويش حديثه، وفي اللحظة ذاتها، نزل الشاويش الإسرائيلي من الشاحنة في طرف الجسر المقابل، واتجه نحو السيارة.
علق صاحب العربة بأمل يائس:
- يبدو أن الأمر هام.
قال بائع الترمس:
- انتظر جواب عمان.
راح بائع العصير يردد، وهو يتابع حركة الأمل اليائس على جبين صاحب العربة المتغضن:
- ستكسب رزقك! ستكسب رزقك!
بصق الرجل، وقد طال انتظاره لجواب عمان:
- أكسب رزقي؟ فليكسب هذا رزقه (مشيرًا إلى عضوه)!
لكن بائع الترمس قال:
- كما قلت، يبدو أن الأمر هام.
فصحح الآخر قوله:
- يبدو أنهم مهمون، هكذا من الواجب القول، لذلك، لا تأمل في بيعهم إذا ما اجتازوا الجسر.
رن جرس التلفون مرة أخرى بأكثر حدة، وسمعوا خبطة السماع، ثم خطوات الشاويش، رأوه يقف في فتحة الباب، كالتمثال متطلعًا إلى الطرف الآخر من الجسر، وقد راح يلف سيجارة غائبًا بعض الشيء، وبعد أن لحسها، وأشعلها، سار حتى حافة الظل، ونادى على الجنود الأربعة الذين وقفوا أهبين على الرصيف الآخر:
- أنت! صويلح!
فسأل صويلح بحماس:
- ماذا، يا سيدي؟
أشار الشاويش إليه بيده ليقترب، فاقترب بخطوات ثابتة، وكأنه يسير في الظل، إلى أن وصل إليه، بينما كان البائعون الثلاثة يتابعونه، وهم يفكرون بانزعاج: (( الحرارة الهائلة لا تزعجه! )) قالوا، ربما كان ذلك بسبب البسطار. وبحركة آلية، قدم الشاويش له مرآة أخرجها من جيبه، دون أن يحيد النظر عن عينيه. فهم الجندي ما أراد، تقدم حتى وسط الطريق، ثم بدأت المرآة تتحرك بمهارة بين أصابعه، وشعاع يتدفق منها على دفعات صابًّا في علبة الحارس العربي عند طرف الجسر. خرج الحارس العربي من علبته، وأخرج من جيبه مرآة هو الآخر، راح يحركها في الشمس باتجاه الحارس الإسرائيلي في الطرف الآخر من الجسر، فتدفق شعاع كالموج جعل الحارس الإسرائيلي يخرج من علبته، لتتكرر العملية ما بين الحارس الإسرائيلي وشاويشه الرابض في الشاحنة بعد أن جعل منها (( مخفرًا ))، ثم عاد الجواب بالأشعة من طرف إلى آخر، وفي آن واحد، تقدم الحارسان، العربي والإسرائيلي، وفتح كل منهما الجسر من جهته، لتتهادى السيارة الزرقاء مجتازة إلى الضفة الشرقية. لقد تم كل شيء ببضع دقائق، ومع ذلك، فقد نفخ صاحب العربة قائلاً لجاره:
- عملية طويلة!
التفت الشاويش إليه بوجه خشبي، والسيارة الفخمة لم تزل تتهادى، جذبه من أذنه، وهمس له في جوفها:
- أنت غبي!
لم يستطع البائع التراجع إلى الوراء، والشاويش يتابع دومًا في أذنيه:
- إذا تكلم معنا العدو أجبناه عن طواعية، أما إذا تكلمنا معه... (وسكت ملتفتًا في اللحظة التي اجتازت فيها السيارة الجسر إلى الضفة الشرقية)... إذا كنا (( مضطرين )) إلى الكلام معه، كلمناه بالأشعة، أفهمت أيها الغبي؟! هكذا لا يمكن لأحد أن يقول هناك اتصالات ما بيننا وبين عدونا (أضاف، والسيارة على وشك الوقوف قربه): إن الأشعة لا تعني شيئًا، مجرد أشعة! إشارات ضوء! مجرد إشارات ضوء!
وقفت السيارة قربه، فحصلت زوبعة:
- فلافل... خبز، وبيض، وجبن، وفلافل! فلافل... خبز، وبيض، وجبن، وفلافل!
- تمر هندي، تمر هندي، اروِ ظمأك، يا تمر هندي! تمر هندي!
- ترمس تسالي، يا ترمس تسالي! اشتر ترمس تسالي!
نفخ الغضب أوداج الشاويش، فهب بهم صائحًا:
- يا أبناء العرص! ابعدوا من هنا، يا أبناء العرص!
ضرب الأرض بقدمه مهددًا، فجرى ثلاثتهم مبتعدين من الخوف، استهلك الشاويش بقية غضبه بخطوة عصبية إلى الأمام، وانحنى مدخلاً رأسه من نافذة السائق كي يستطلع وجوه القادمين: كان أحمد يجلس على المقعد الأمامي، وأمه مع أختيه الصغيرتين وأخيه الصغير يجلسون على المقعد الخلفي، فكر الشاويش: (( وجوههم ليست عادية! )) وفي نفس اللحظة، دفع السائق في وجهه ورقة رسمية، فانتفض للحركة المفاجئة، وسأل:
- ألم يصحبكم سيدي القائد؟
لا جواب.
لم يقل له أحمد إن (( سيدك القائد )) قد هرب سرًّا في اليوم الثاني من بداية القتال إلى عمان، ولولا السرعة التي فاجأتهم بها الحرب، للحقوا به منذ أيام. وبعد أن أتم الشاويش قراءة قرار الحاكم العسكري الإسرائيلي بالسماح لأسرة القائد بمغادرة الضفة الغربية فورًا، استدار بخطوات عسكرية منهمكة إلى الناحية التي تجلس فيها أم أحمد، وفتح لها الباب، وهو ينحني باحترام شديد:
- تفضلي، يا سيدتي! تفضلي! (انتقل بعينيه على وجوه الجميع حاثًا إياهم على مغادرة السيارة): تفضلوا، تفضلوا جميعًا!
هبطوا جميعًا، أخرج السائق الحقائب، وما لبث أن استدار بالسيارة معطيًا وجههًا إلى الغرب، توقف قليلاً، والجميع يتابعونه بالنظرات الدائخة، فهز السائق رأسه عدة مرات، وقبل أن ينطلق عائدًا من حيث جاء، صاح بهم: مع السلامة! وهو يرفع لهم يده، دون أن تبدر عنهم أدنى إشارة.
أحكم الحارسان سداد الجسر، ورأى الجميع كيف راحت السيارة الزرقاء تشق الطريق الملتف بالمرتفع، حتى اختفت عن الأنظار.
قال الشاويش محتفيًا بقدومهم، وهو يبسط ذراعيه سعتهما:
- تفضلوا، تفضلوا!
سأله أحمد:
- أليست لديكم سيارة؟
- إنها آتية، يا سيدي، ذهب السائق في مهمة صغيرة، وهذا موعد إيابه (وهو يستشير ساعته): تفضلوا، واستريحوا قليلاً، ريثما يأتي (وقد حمل الجنود الحقائب، واتجهوا جميعًا صوب المخفر) فأنتم تعبون، وقد تسببوا في إزعاجكم ما في شك (وتظاهر بالحزن): إنها حالة لن تدوم طويلاً!
في داخل المخفر، بدت آثار السفر على وجوه الأطفال الذين انعطفوا على بعضهم فوق مقعد خشبي، وعلى مقعد آخر يصنع زاوية قائمة مع الأول جلس أحمد وأمه صامتين. أخذ الشاويش يستشير ساعته كل دقيقة، وفي النهاية، تركهم وحدهم، وخرج، ففتحت الأم فمها، وتوجهت إلى أحمد بصوت متهدج:
- اعلم أنك ستسبب لي الألم الشديد، أما والدك، فأنا لا أدري كيف سأشرح له، لن يفهم تفسيراتك، ولا تبريراتك، ولسوف يسوؤه ذلك سوءًا شديدًا. سيقول لي، قلت لك، فلنلحقه كأخيه الأكبر بفرقة المدرعات، قسم الميكانيك، وبهذا نكسبه مهنة، ونجنبه مخاطر القتال، لكنك رفضت!
أخذت تنظر إليه، وكأنها تقع عليه لأول مرة منذ ولدته، قبضت عليه من ذراعه، وراحت تلح:
- ابق معنا! لا تذهب!
بقي أحمد صامتًا دون حركة، ثم مال ناحيتها تحت تأثير أصابعها المتوترة، تأملها بعينين باردتين، وما لبث أن أعطاها جانب وجهه. جعلت الأم أصابعها تتساقط على ذراعه رويدًا، رويدًا، حتى أخذت مكانًا في حضنها، فأشعل أحمد سيجارة، ونفخها، ثم قال يائسًا من إقناعها:
- لقد أفهمتك وضعي .
مما جعلها تطلق زفرة طويلة، حنت ظهرها باستسلام، وبعد عدة لحظات، التفت أحمد إليها، ورفعها من ذقنها، عاد يتأمل الوجه الكهل بحزنه اللامهضوم ذلك، وهو يفكر: زوجها قائد هارب! أراد أن يرميها بصفعة شديدة، لكنه سمعها تقول:
- لهذا، نعم، لهذا كنت أرفض أن يقرأ أخوك الأكبر الكتب الممنوعة، أما أنت... فأنت ولد شقي طوال حياتك!
ارتمت على صدره، وراحت تنشج، ثم رفعت عليه عينين مبتلتين، وقالت بينما شفتها السفلى تشرئب إلى أعلى:
- لهذا ملكت قلبي، بسبب من يبوسة رأسك وعنادك، وكلما فكرت أني سأفقدك، أحسست في حلقي شيئًا يحترق كبصات النار (ثم أردفت متوسلة:( ابق، يا ولدي، ابق معنا، ولا تذهب!
تخلص منها، نفخ سيجارته، ثم سحقها.
قال أحمد بهدوء، وقد حزن من أجل أفكارها:
- أنت لا تفهمين شيئًا!
تكومت على نفسها كالذبابة التي فقدت رأسها، وأحمد يردد بشفتين كازّتين:
- أنت لا تفهمين شيئًا، لا تحاولين أن تفهمي شيئًا!
دخل عليهم الشاويش بحماس، وهتف:
- السيارة وصلت!
وحمل الحقيبة الكبيرة.
وهم في طريقهم إلى السيارة العسكرية، جاء الباعة الثلاثة يركضون، وهم يهتفون:
- تمر هندي! ترمس تسالي! فلافل... خبز، وبيض، وجبن، وفلافل!
لكن الشاويش أخرسهم بصوت ارتعد له الأطفال.
قالت إحدى البنتين الصغيرتين لأمها:
- أريد تمر هندي، يا ماما.
فأمسكتها من يدها، وجذبتها:
- ليس هذا وقته الآن.
أطبقت الصغيرة فمها، وهي ترمق إبريق العصير الزجاجي. ركبوا، وأُقفلت الأبواب.
قال الشاويش بوجه مهتز:
- رحلة سعيدة!
انطلقت السيارة العسكرية.
على بعد عشرة كيلومترات، طلب أحمد من السائق الوقوف، فهبط، وقد حفر الدمع خدي أمه المحززين، ومن وراء الزجاج، حرك أصابعه لأخواته، وهو يفكر في عيني أمه، ويقول: كأنهما كهفان معتمان! ابتعد أحمد خطوة، ولم يزل يحرك أصابعه، وعندما انطلقت السيارة دونه، أحس بدورة الدم في أصابعه، فطواها، وهو يفكر في طريقة لعبور النهر.

* * *

انطلقت السيارة به صوب الغرب، وفي صدره خفق كخفق الأجنحة. في الصباح الباكر، ترك قاهر مطار القاهرة، وها هو آت من عمان. وفي عمان، كانت المفاجأة: فهو لم يقع على سائق واحد يرضى الذهاب به إلى نابلس، قالوا له: (( نعم، الجسور مفتوحة، لكن ليس للجميع، ألديك تصريح؟ )) (( لا! )) (( الله يبعت! )) (( سأدفع... )) (( الله يبعت! وليكن في علمك، جسر دامية مغلق اليوم من الطرفين، عادت السيارات بركابها ))، لكنه، في النهاية، تدبر أمره بعد أن استعد لمضاعفة الأجرة.
والسيارة كانت تهبط طلعة (( العارضة ))، استدار السائق بوجهه إلى قاهر، الجالس إلى جانبه، فرأى وجهًا شاردًا ينظر إليه. تأوه السائق، وجمجم:
- سيكون الأمر صعبًا!
ركز قاهر ذراعه على حافة النافذة، وقال:
- أعرف ذلك.
- وماذا ستفعل؟
- سأعبر النهر، يجب أن أدخل الضفة.
هز السائق رأسه، وعاد يقول:
- سيكون الأمر صعبًا!
بعد قليل، قال بتأنٍ:
- انتظر الليل، ولا تقترب من الجسر، فهناك المراكز العسكرية منتشرة على الضفتين، وكذلك دوريات الحدود.
كانت السيارة تدور، وتدور، وفي كل دقيقة كانت تعمل دورة كاملة، وكانت، وهي تهبط، تترك من ورائها القمة، وتبقى في هبوط مستمر، والقمة في علو مستمر، حتى ترك قاهر في ظهره الجبل الشامخ.
فجأة، سمع السائق يقول:
- طائرة، طائرة هيلوكبتر.
خفف السائق سرعته، ثم لبث أن انطلق من جديد في طريق منبسط كالكف، والطائرة تحلق فوقه. أشار السائق إليها من وراء الزجاج الأمامي، وقاهر يكاد يقتلع عينيه على الزجاج الأمامي. قال السائق دون أن يبدو عليه الانزعاج:
- إنها من عصافيرهم!
- ماذا؟
- إنها من عصافيرهم.
أمام علامات الاستنكار التي جرفت محيا قاهر، أردف السائق موضحًا:
- طائرة استطلاع.
وراح يجرد بأظافره لحيته، وهو يفكر في شيء آخر. وما لبث صوت الطائرة أن ابتعد، ولم يعد خيالها ينطبع على الطريق.
سأل السائق:
- أنت من نابلس؟
- نعم.
- طالب؟
- نعم.
- أين؟
- أخبرتك أني آتٍ من القاهرة.
- أقصد ماذا تدرس؟
- هندسة.
- هندسة طيران؟
- لا.
- خسارة.
- لماذا؟
- خسارة! خسارة! (سكت قليلاً ثم أضاف): هل أنهيتم الدراسة؟
- لا.
لم يقل له إنها سنتي الأخيرة، لقد نسي أنها سنته الأخيرة، ولم يعد يذكر الجهد العظيم الذي بذله، بعد أن فشل في بداية دراسته سنتين، ليصبح اليوم مهندسًا. ليبني الوطن، نعم، ليبني الوطن المهدم. سمع السائق يقول بضحكة:
- عرفت، أنت شاب متحمس، تركت دراستك، وأتيت، أليس كذلك؟
-.......... (كان يفكر في أسرته).
- هل صحيح أن الجيش المصري قد أسر عشرين ألف جندي إسرائيلي في سيناء؟
-.......... (لم ينقطع عن التفكير في أسرته).
وبعد خمس دقائق من السكوت المتواصل قال السائق كأنه في حلم:
- صبيحة 5 حزيران سمعنا زوامير السيارات من إذاعة القاهرة احتفاءً بالحرب.
اسودت سحنة الرجل بشكل باعث على الفزع، وإذا به يصيح بصوت مشحون بالتحدي اليائس:
- لقد أطلقت زاموري أنا الآخر.
-.......... (وبقي يفكر في أسرته).
ثم راح يردد مهتزًا:
- لقد أطلقت زاموري! لقد أطلقت زاموري!
صاح به قاهر، وهو ينعطف نحوه:
- احترس!
لعلعت عجلات السيارة، وهي تحترق على الإسفلت، بينما انزاحت إلى الجانب الآخر انزياحًا رهيبًا. خفف السائق من السرعة، وراح ينظر في المرآة، وهو يلعن:
- بنت الشرموطة! كادت تموت بشربة ماء!
وقاهر يلتفت برأسه إلى الوراء ملاحقًا بعينيه من الزجاج الخلفي طفلة صغيرة أخذت تجري في الناحية المعاكسة، وهي تحمل سلة في كل يد.
قال قاهر:
- هذه بائعة صغيرة.
والسائق يشتم دون أن ينتهي انفعاله. ثم قال، وقد جرفت تقاطيعه سذاجة ريفية:
- إنهم لا يبدلون عاداتهم، هؤلاء اللقطاء الملاعين!
وبسرعة، هتف قاهر:
- انظر!
إذا بسيارة عسكرية تمضي كالبرق، حاذتهم، ثم تجاوزتهم، وقاهر يلوي عنقه إلى أقصاه. استطاع أن يشاهد بعض الأطفال الغافين، ولم يعرف أن هؤلاء هم أخوة أحمد صديقه.
ثنى السائق شفتيه دون اهتمام، وقال:
- لم يعد مزعجًا وجود السيارات العسكرية هذه الأيام.
وبعد عشرين دقيقة، أوقف السائق سيارته في الطرف غير المعبد، وقال، وهو يجذب فرملة اليد:
- إنني أتركك.
تحرك قاهر مضطربًا، وراح يلتفت من حوله، لكن السائق طلب إليه بإصبع مستقيمة:
- انظر أمامك.
أشار السائق إلى الجسر، وبينه وبين الجسر تسعة كيلومترات أو عشرة. بدا الجسر من بعيد جسرًا من الورق، أو لوحًا من ألواح الشوكولاطة. لم ينتظر السائق أكثر، فتح الصندوق الخلفي، وأخرج حقيبتي قاهر، وقاهر يرنو دومًا إلى الجسر، وهو غائب، يفكر في وطن من الورق أو من ألواح الشوكولاطة يعجز عن بنائه. انتبه إلى دقات خفيفة تضرب زجاج نافذة السيارة، فالتفت، ليطل عليه وجه صبي مبتسم. فتح قاهر النافذة، ورأى السنين النابتين حديثًا، ولم يستطع إلا أن يرد البسمة بالمثل. رفع الصبي كفه مدخلاً إياه من النافذة، وفتحه، فرأى قاهر ثلاث بيضات كبيرة فيه، قال الصبي:
- بيضات أوز طازجة، هلا اشتريتها؟
كان السائق لما سمع الصبي قد هب به صائحًا:
- انتظر ريثما أكسر رأسك!
سحب الطفل كفه بسرعة، وراح يجري هاربًا، بينما لحق به السائق عدة خطوات، وهو يردد:
- انتظر... انتظر ريثما آتي إليك!
دون أن يتقدم خطوة واحدة.
كان قاهر قد خرج من السيارة ملاحقًا الصبي بعينيه، فالتفت السائق إليه معتذرًا:
- طوال حياتي في المهنة، وهم هكذا، هؤلاء الشياطين الصغار! هذا من شأنه أن يسبب الضيق للركاب، والأهم أن ليس هناك من يشتري هذه الأيام، ومع ذلك، لم يتركوها عاداتهم الرديئة تلك، لقد أزعجك ذلك، أنا أعرف، فهم يسببون الدوار للمسافر! (كان قاهر قد أخرج من جيبه النقود، والسائق يقول): عشرة دنانير كما اتفقنا (دفع له، واتجه السائق إلى مقعده دون أن يتوقف عن الكلام): كما قلت لك، انتظر هبوط الظلام، وابتعد قدر إمكانك عن مراكزهم، تستطيع أن تبدأ بشق الحقول، ولكن، مع حمل كهذا...(ألقى نظرة يائسة على الحقيبتين) إياك أن تأمن إلى بائعي الطريق الصغار هؤلاء! ولا إلى حراس المزارع وكلابهم (وهو يستدير بالسيارة، أحنى له رأسه دون أن يبتسم، وأشار له بيده إشارة خفيفة، وما لبث أن عاد بسيارته في اتجاه عمان).
حمل قاهر الحقيبتين، وحاول أن يعادل وزنهما في قبضتيه. وبعد أن سار عدة أمتار، إذا بضحك خافت كأنما هو هديل فرخ حمام يأتي من وراء سلسلة، عندما التفت، إذا به يقع على الوجه المبتسم من جديد. صاح به الصبي:
- إلى أين أنت ذاهب هكذا؟
وضع قاهر الحمل من يديه، وتقدم من الصبي هاشًّا باشًّا دون أن يفوه بكلمة. توقف أمامه، فعاد الصبي يسأل:
- إلى أين أنت ذاهب؟ إلى دارك؟
امحت بسمة قاهر:
- إلى داري.
قفز الصبي من فوق السلسلة، وفتح له كفه كالمرة الأولى:
- اشتر بيضًا لأولادك
ضرب مرأى أسرته وترًا شديدًا في خياله، وفي اللحظة التي هبط فيها الصبي، بانت بنت صغيرة من وراء السلسلة، راحت ترنو إلى قاهر، وبسمة كالزهرة تتفتح على شفتيها. أشار قاهر إليها، وسأل:
- هذه أختك؟
- هذه أختي، ونحن نسكن قريبًا من هنا. أبي الآن في الناحية المقابلة، ينزه بقرات سيد المزرعة، ستشتري أم لا؟ البيضة بقرش واحد فقط.
انحنت البنت قليلاً من وراء السلسلة، وعندما عادت إلى وقفتها، كانت تنقل بين يديها باقات حمراء من الورد الجبلي. قفزت بخفة، وتقدمت من قاهر هامسة كأنها في صدد المناغاة:
- اشتر وردًا جبليًّا، يا سيدي.
أراد قاهر أن يرتمي عليها، فيعبطها كما يعبط أخته الصغيرة، ثم يرميها في الفضاء متلقفًا إياها كمن يتلقف وردة.
- اشتر وردًا جبليًّا، يا سيدي.
دفع يده في جيبه، وأخرج حفنة من القطع الفضية.
- سأشتري.
تناول باقتين من يدها، ووضع مقابلها حفنة النقود، فقالت الصغيرة جذلى:
- شكرًا، يا سيدي.
سألها:
- هل تبيعين الورد كثيرًا؟
دون أن يضيف: (( هذه الأيام ))، لكنها انطلقت تعدو صوب السلسلة:
- هيه!
توقفت، لكنه جمجم:
- لا شيء!
رآها كيف تسلقت السلسلة، واختفت.
جاءه صوت الصبي محتجًّا:
- وأنا؟
أخذ قاهر يجيل النظر بين خديه المونعين وأكباس الورد، وقال:
- إنني أقدم لك باقة.
فتح يده الحرة، ووضع باقة بين أصابعه، بينما احتفظ لنفسه بالأخرى، والصبي صامت لا يفوه بكلمة. حمل قاهر حقيبتيه، وسار، وقبل أن يبتعد كثيرًا، ناداه الصبي، فالتفت إليه، وقد أطربه لحن في صوته، وجده يشير إليه بباقة الورد مودعًا. بعد ذلك، استدار الطفل، وراح يعدو حتى اختفى في الطريق التي لا تبدو نهايتها.

* * *

كان هدير الخطوات التي تسحب بعضها سحبًا قد أخذ ينمو شيئًا فشيئًا، ويزداد ارتفاعًا، حتى أصبح تمييز التنافر ما بينها صعبًا. دبت حركة مفاجئة بين أفراد الجنود على الضفتين، وضرب طائر أسود جناحيه بعنف دون أن ينعق، ضربهما، ثم عاد يضربهما، فتوقف صاحب العربة عن كش الذباب بالمنشة، بينما تقدم البائعان الآخران بضع خطوات بحركة موميائية. وبسرعة البرق، قذف الرجل شاري قرص الجبن الأبيض نفسه خارجًا من بيت القصب المقابل، وتبعه الجنود الأربعة. وفي النهاية، خرج الشاويش، وهو يرفع سرواله. والخطوات قد أخذت تقترب، وتقترب، حتى انبثقت بدايات القافلة الزاحفة في قمة الطريق المنحرفة مع الهضبة المقابلة للجسر. حملق الباعة دون أن يصدقوا أعينهم، وردد أحدهم مذهولاً:
- يا إلهي! يا إلهي!
والقافلة قد راحت تتقدم، وتتقدم، وتتقدم.
استطاع الباعة أن يميزوا طوقًا من الجنود الإسرائيليين يتقدم القافلة، بينما تحركت الشاحنة العسكرية، ووقفت في عرض الجسر، خلف بوابة الأسلاك الشائكة، وصاحب العربة يجمجم معجونًا:
- كالديدان! آه، يا إلهي! كالديدان!
أخذت الطريق المنحرفة مع الهضبة المقابلة للجسر تتلوى تحت أقدامهم، وقطيعهم الهائل يتراص تراصًا مهولاً، فتذوب المسافات بين أكتافهم. خلع الشاويش قدميه المتسمرتين، وألقى بنفسه في حضن الهاتف:
- آلو، عمان! آلو، عمان!
صاح بالقطيع أحد الجنود الإسرائيليين بأعلى صوته:
- توقفوا!
لكنهم لما رأوا بوابة الأسلاك الشائكة في فم الجسر أخذتهم حركة غضب عفوية، فتزعزع طوق جنود الموت. ولما ضاقت بهم الطريق، انزرعوا فوق الهضبة، كالشجر على أكف الريح، فتشكلت عنهم غابات تلو غابات، ومن أمامهم كان النهر المتدفق، وجنود المعسكرين، ومن أمامهم كان مغطس المسيح، وحمائم المزارع البيض، والثلج في شعاعٍ لا يستكين إلى الهون.
فكر سابو: (( نعم، لقد سرنا ردحًا من الزمن ضمن حصارنا، والآن، الجسر من أمامنا ينتصب، والموج في مسامعنا يهدر، والطاعون في أحشائنا يزحف دون هوادة! )) تواجعوا، لأول مرة، وجعهم الحقيقي، وأحسوا فجأة آلام عشرين أمة طوال عشرين قرنًا! أحسوا فجأة أن في جلدهم مسيحًا يقول: (( آه، يا أخوتي الأشقياء، كفى! كفاني عذابًا في جلدكم! كفاني عذابًا، يا أخوتي الأشقياء! )) عند ذلك، عرفوا معنى الذنب، وتبينوا حجم الهزيمة. عند ذلك، قالوا لأنفسهم لقد تخاذلنا، فالحمائم البيض التي لا تؤذي قد عرضناها للرصاص، وقد كنا سببًا في قتلها، وما زلنا سببًا في قتلها! حتى في تلك اللحظة، حتى ونحن واقفون على الهضبة، وصدورنا مفتوحة للنار، وللريح، ولكل زوابع التاريخ، ما زلنا سببًا في قتلها. آه لو كان بإمكاننا أن نهدر، لو كان بإمكاننا، فيتزعزع قاتلنا وقاتل الحمام، ويتراجع قاتلنا وقاتل الحمام، ويتساقط قاتلنا وقاتل الحمام في جوف الحوت الطيب... لنغني بدل أن نبكي، ولنبكي إذا توجع طفل (( زنجي ))، ولنبني بيوتًا كثيرة، كثيرة، بقدر بيوت النمل في مواسم القمح الوفيرة!
أحس سابو بنفسه مجروفًا بأجسادهم المائجة، وكأنه غصن زيتون يخفق بين الأرض والسماء. كانوا قد مزقوا طوق الجنود، وعندما سحقوهم، دقت في أقدامهم الطبول، وهرعوا إلى ما لم يسبق له مثيل، مع الوقت والريح وآلهة الألم. وعلى صورتهم، وهم يتدفقون كغضب النهر، ولى الباعة الأدبار. سقطت منهم بضاعتهم، وداسوها بأقدامهم هم أنفسهم. كان جنود الشاحنة القاطعة في وجوههم الجسر قد نصبوا من ثقوب في غطائها بنادقهم، وأطلقوا، فسقطوا بالعشرات. وأطلقوا، فسقطوا بالعشرات. وأطلقوا، لكنهم حملوهم والشاحنة، وألقوا بهم في أعماق النهر، فزمجر النهر. نعم، لقد (( زحفوا ))، وزحفهم الطويل كان قد بدأ منذ زمن طويل، ليس فجر أن طردوهم بعد حرب الستة أيام، ولكن.... منذ زمن طويل. عرفوا أن زحفهم لن ينتهي مع الطرف الآخر للجسر، وعرفوا أنه لن ينتهي، لن ينتهي. انصب الرصاص من المعسكرين، فتساقطوا، وموجهم لا ينقطع عن المد، والرصاص لا ينقطع عن الغوص في صدورهم، وفي ظهورهم. هدر دمهم في النهر، فغدا أحمر جديدًا. ابتسم المسيح، وابتسم طفل جريح، وجمجم الشيخ قبل أن يموت:
- تقدموا يا جماعة، تقدموا!
وفي كل لحظة، كانت تسقط حمامة، وتموت طفلة سمراء، وفي كل لحظة، كان يتدفق نهر الضحية، وتنطلق أشرعة حمراء، وفي الأخير، انتزعوا بوابات الأسلاك الشائكة عن فم الجسر المكين. تسلق بعضهم أقدام الجسر إلى عمق النهر، ليعوم حتى الضفاف. والذين قطعوا الضفة في الشرق، وكذلك من عبروا الجسر، التقوا في مراكز ثاني معسكر، وهدموها.

* * *

مع الغروب، أخذ النهر يترقرق مخضبًا بلونه الأحمر الجديد، وعلى ضفافه ضحايا بالآلاف منشورة كالأشرعة... ثم غابت الشمس الدموية من وراء الجبل، وبقي الجسر مفتوحًا.
21
وشريف يقف خلف النافذة، كان يرفع الستارة، ويقول:
- الغروب! هذا موعده، لكنه لم يظهر بعد!
كانت أنوار دموية ترشق الزجاج، وفي الحديقة يدب حريق الأقحوان. خفض شريف الستارة، والتفت إلى عدنان:
- لماذا تأخر(( الفلاح ))؟
كان عدنان يجلس فوق بساط مفروش على الأرض، وهو يرتكز بظهره على كرسي مدفوع في الحائط، بينما راح يعالج بين يديه هيكلاً من الورق المقوى. بقي شريف يتابعه دون أن يغادر مكانه، ثم تقدم منه مبتسمًا، وسأل:
- ماذا تفعل، أيها الأستاذ القدير؟
دون أن يلتفت عدنان إليه، أجاب:
- صاروخ، أيها المحامي البارع!
- صاروخ!
ضحك عدنان مفتتنًا بما يصنع، وقال:
- لما كنت طفلاً كنت أتقن عمل الكثير من الهياكل، صواريخ، وطائرات، وسفن حربية.
ترك عدنان على الصاروخ آخر لمساته، ثم عاينه، وهو يمسك به من تحت جناحيه، ورفعه بإصبعين، فتناوله شريف، وراح يقلب فيه النظر قبل أن يعلق:
- يا لك من حاذق!
استعاد عدنان صاروخ الورق، رفعه بيده إلى أقصاها، وقذفه هاتفًا:
- هب!
عمل الصاروخ نصف دورة في سماء الحجرة، وحين سقوطه على السرير، صاح عدنان كأنما حصل انفجار:
- بم!
كزت تقاطيع شريف، بينما أتى عدنان بحركة من يده، وهتف:
- انتهت العملية، لحظة التراجع!
انفجرا ضاحكين.
ردَّد شريف، وهو ينزل إلى جانبه:
- هذا هو العمل! هذا هو العمل!
ومحيا عدنان الوادع ينطق بألفة شديدة.
أفضى شريف إليه بما يفكر بخصوصه:
- أنا أحسدك!
- أنت تحسدني!
- لأن بإمكانك أن تصنع صاروخًا.
ابتسم عدنان، وقال:
- أنا أتسلى بانتظار أن يأتي (( فلاحك )).
ألقى شريف نظرة إلى ساعته، وإلى النافذة التي غمقت عليها لطخات الغروب، وقال ضائقًا:
- لقد تأخر عن موعده.
وصلتهم من خارج الحجرة حركة مفاجئة، فطوى شريف نفسه بعجلة ناهضًا، وإذا به وجهًا لوجه مع مصطفى في كامل أناقته: بذلة سوداء مكوية، وربطة عنق حريرية، وحذاء أسود مصقول كأنه حذاء زجاجي.
- أين أنتم؟ لقد قرعت الجرس عدة مرات، ولولا أن سمعتني أمك في اللحظة الأخيرة، لقفلت راجعًا.
سلما عليه بامتعاض، فسأل:
- ماذا جرى لكما، أيها الفأران؟ أتخشيان أن يلقي اليهود عليكما القبض أم ماذا؟ اطمئنا، اليهود يتعاملون مع الجنتلمان كجنتلمان. هربتما، وعدتما، ككل الذين عادوا، إلى عهد الحضارة والمتحضرين. يا لمجدي المسكين! هو وحده من وقع في أيديهم من الشلة (قلده): أهلاً، يا رفيق! مع السلامة، يا رفيق! (ثم أطلق ضحكة حادة): أتعرفان أين قضيت يومي هذا؟ على شواطئ حيفا! بين أناس شكلهم نظيف، شوارعهم نظيفة، بيوتهم نظيفة، وكل شيء يخصهم نظيف، قضيت يومي مع الحضارة! وأنتما قابعان هنا، أيها الفأران! أنا أرثي لوضعك يا محامي الفقراء، وأنت أيضًا يا أستاذ أبناء الأميين! أخرجا، لماذا لا تخرجان ككل الناس الذين خرجوا ليروا الأمم كيف تعيش؟ أخرجا إلى التقدم والتكنولوجيا والنظافة! أنا، بالطبع، أقول هذا، وكلي حقد على اليهودي الذي سيبقى في نظري عدوي الأول والأخير، لكني لا أحقد على حضارته، بل بالعكس، أتمثل بها (داعب رباط عنقه بأصابع مقلمة الأظافر) ومن ثم أسعى لمضاهاتها، وهكذا يكون انتصاري عليه. انتصارنا على اليهودي، عدوي وعدو آبائي وأجدادي، وربما عدو أبنائي، هو انتصار حضاري. أسمعتما، أيها الفأران؟ (توجه إلى شريف): لماذا لا تعمل لي فنجان شاي؟ أو أقول لك، أفضل كأسًا من عصير الليمون بلا سكر، أنت تعرف مدى قيمة الوصفة العدنانية عندي منذ سنوات وسنوات، رغم أنها ليست حضارية، فهي لا تؤثر في شحمي الشيء الكثير، أو، أقول لك، لا داعي لذلك، سأمكث قليلاً، ثم سأذهب عند خطيبتي، إنها تسلم عليكما، وقد اعتقلوا أخاها الصغير لأنه مشاغب، أما هي، فهي غير مهتمة، إنها مثلي، صورة طبق الأصل عني، تكره اليهود، وتحب الحضارة، وقد وعدتها، في المرة القادمة، أن آخذها في جولة شاملة، يافا وحيفا وعكا، لنرى الناس كيف تعمل ليل نهار. ما لكما، أيها الفأران؟ لماذا ترمقانني هكذا، ألأني صادق معكما إلى حد البراءة؟ أما إذا أردتما أن أدجل كالذين يدجلون، ويتكلمون عن القتل والفتك والسفك والفداء والانتصار، فهذا سهل، لكني أنا لا أدجل، لأنني صادق مع نفسي. هكذا كنت دومًا، وهكذا سأبقى أبدًا، في البلدية حيث أعمل، أنا هكذا، وفي البيت حيث أنام، أنا هكذا، وفي الشارع، وفي كل مكان وزمان أنا هكذا، صادق مع نفسي، ومع صديقي، لأني أحب صديقي، وأتمنى له كل الخير، كل التقدم والحضارة. أعتقد أنها الطريقة الوحيدة لإفحام العدو، ومن ثم التغلب عليه وقهره، أولاً عن طريق الصدق، وثانيًا عن طريق التقدم والحضارة. إنني أترككما، أيها الفأران!
وخرج.
نفخ عدنان:
- لم يتغير مصطفى كثيرًا!
هز شريف رأسه:
- لكنك تغيرت أنت كثيرًا!
ابتسم عدنان، واقترح:
- ما رأيك لو نبعث له بصاروخ، ونفهمه (( جيدًا )) معنى الحضارة؟
وهو يرفع صاروخ الورق بين أصابعه.
قال شريف:
- سيأتي يوم يفهم فيه، سيأتي يوم يفهمون فيه كلهم. ولكن ما يقلقني الآن هو أمر (( الفلاح ))، لم يحضر بعد!
نهض إلى النافذة، وراح يحدق في اللطخات السود المنتشرة بين سيقان الشجر. كانت الحديقة صامتة، مما ضاعف من قلقه، فأشعل سيجارة.

* * *

- أنا أعتذر، يا سيدتي، أنا أعتذر، لقد كان ذلك رهانًا ما بيننا!
صمت يوسف، وراح يتأمل وجه المرأة الصاخب في صمته. قال لنفسه: آه! ما أبشعها، ما أبشعها! رفع قدمًا يريد الذهاب، لكنها أوقفته:
- هل أنت صديقه؟
ابتسم يوسف بقوة، وقال:
- لقد كنا أصدقاء تمامًا، كان يجلس إلى جانبي في الكلية، وكثيرًا ما كنا نقتسم الساندويتشات معًا بينما الأستاذ يشرح درسًا في التشريح النظري. لقد كان دمعة!
- آه!
- الوداع، يا سيدتي، الوداع!
ولى يوسف على عقبيه، وهو يفكر: (( كل شيء ممكن هذه الأيام! )) لكنه كان يبغض أن يرى جنود العدوان في الطريق، ليس لأنهم كانوا يوقفونه، ولكن... عاد يقول: (( كل شيء ممكن هذه الأيام! )) أن تراهن صديقك حول الهزيمة أو النصر، وتأتي لتقوله له: هاه، لقد هزمتك! فتجده مقتولاً... إن هذا أمر لا يصدق، لكنه ممكن هذه الأيام. غضب يوسف قليلاً، ثم ما لبث أن شاهد جنديًّا إسرائيليًّا يتقدم منه، فغضب أكثر، اعتصره الغضب، لكنه ثنى رأسه بين قدميه، وسار باستقامة. أي حظ! لم يوقفه جندي الألم. وهو بعد أن سار قليلاً، أخذه غضب آخر، فهمس: لماذا لم يوقفني الجندي؟ لماذا لم يطرح علي أسئلته كالعادة؟ إن الأمور
لا تشبه بعضها حقًا، ولكن لهؤلاء الجنود صفة واحدة: الألم! صفة فريدة: الألم، والألم، والألم! وراح يحث الخطى. كان شارع المستشفى الإنجيلي خاليًا على التقريب، وهناك اثنان أو ثلاثة يسيرون بسرعة. وكانت في زاوية الشارع مصفحة حربية، وجنود بطاسات. وقبل أن يصل قربهم، قطع الشارع إلى الرصيف الآخر، فانطلق صوت حاد النبرة من خلفه. توقف، والتفت، ولكنه لم يكن هو المقصود، فتلك المرأة المسكينة،
ها هي ذي تقترب في اتجاه الجندي. نظر إلى ملاءتها السوداء، ومنديلها الأسود، وتابع كيف تلقفها الجندي بين يديه، وراح يتحسسها من قمة رأسها حتى أخمص قدمها، والمرأة لا تنبس بكلمة. هكذا كانوا يفتشون الجميع، وهو نفسه قد فتشوه ثلاث أو أربع مرات على التوالي منذ الوقت الذي غادر فيه داره. كانوا يبحثون عما هو محرم: قنبلة أو فرد أو سكين. وأخذ الليل يسقط بالتدريج، في العادة، كان يوسف لا يعود إلى داره إلا بعد أن يسقط الليل تمامًا. ونسمة منعشة تسرق نفسها على خده، فكر في أن يتابع جولته. ماذا يعني أن موعد منع التجول سيحين بعد قليل؟ لكنه حث خطاه في اتجاه داره. كانت قوة مجهولة تقرر عنه ما يريد وما لا يريد. ابتسم لنفسه، وجسّ فخذيه السمينين، وهو يتابع بروز وارتخاء عضلاته. رمى أصابعه على بطنه المندفع، وتأوه قليلاً. راح يفكر: ما الفائدة؟ ما الفائدة؟ وعاد كثيرًا إلى الوراء: (( اعتنِ به، يا أبت! إنه طفل ليس له مثيل! )) باركه الخوري، وهو يمسح بكفه رأسه، وقال لأمه: ((سيكون طفلاً بارًّا! سيكون طفلاً بارًّا! )) كانت أمه قد سجلته في مدرسة الدير خوفًا عليه من الأولاد الأشقياء، وكان يقول له الخوري: (( احمل هذا، يا ولدي )) مشيرًا إلى إناء البخور. كان يأخذه دون الآخرين إلى حجرة التعميد، يضعه على ركبتيه، وينطلق لسانه مهمهمًا: (( مبارك يباركه الرب! مبارك يباركه الرب! )) يلعب له الخوري قليلاً بفرجه الصغير، والطفل صامت متهيب، ويلعب له الخوري قليلاً بإبطيه اللوزيين، ثم يطلقه. ماعت على ثغر يوسف بسمة رخوة، وعاد يتذكر قول أمه له: (( إياك ومخالطة الأولاد الأشرار! أولاد الحارة الأشرار! )) وهو صغير، كان قد لحق بحمامة، التقطها، ولوداعتها، مزق جناحيها. بعد ذلك، شكا نفسه لأمه، فألهبته أمه ضربًا، وقضى طوال الليل، وهو يبكي. ولكي تراضيه أمه، قبلته في فمه، وهي تمضغ شفتيه، فكف عن البكاء، لكنه لم ينس الفم اللين الذي لاك شفتيه، ولا الرائحة الغريبة الشاذة التي سحقت أنفاسه. تذكر يوسف ابنة عمه الصغيرة، ولكن المكتنزة الصدر، عندما صاح بها في الحديقة: (( تعالي امسكيني، تعالي امسكيني، هيا هيا، تعالي امسكيني! ))، وبعد أن أعياها الجري من ورائه، استدار فجأة، ورماها في الخم. انبطح عليها، وراح يعصر نهديها، وهو يحتك بها، حتى تراخى، فدفعته عنها، وراحت تجري. وفي مرة، راح يحلف الأيمان المغلظة لصديقه عدنان: (( أقسم لك أني صادق! )) (( أيها الكاذب اللعين! )) (( لماذا لا تصدقني؟ لقد قلت الصدق! )) التفت عدنان إليه بوجه ساذج، وسأل: (( كيف استطعت أن تفعله؟ )) تراخى لحم حنكه، وقال شبه ضائع: (( شيء ما، شيء أقوى مني كان يدفعني على الدوام إلى فعله! )) وفي الليالي التي يكون فيها وحيدًا، كان يوسف يفكر، ويفكر، ولا يهتدي إلى أية نتيجة. كان يقول لعدنان: (( عندما أفكر في المسيح كيف تعذب، يهلكني ذلك، وأحس بثقل هائل على صدري! )) ثم يضيف: (( أتدري؟ عندما أضرب أختي الصغيرة، تخفقني لذة مجنونة! )) (( أنت مجنون! )) ((ربما، لكني لا أعلم كيف يجري ذلك! )) ويسكت ليعترف: (( أنا أفكر في ذبح القطط والأرانب والفئران، أفكر في ذبحهم دون أن أميتهم، أتسمع؟ ربما كان ذلك خياليًّا أو غريبًا، لكني أفكر فيه على الدوام، وأتألم كثيرًا لصورة المصلوب، أتألم كثيرًا! )) وفي عيد الفطر، أو عيد الأضحى، كان يوسف يرتدي ثيابًا جديدة كباقي أصدقائه (( المسلمين ))، فيقضي أيامًا ثلاثة معهم في احتفال مستمر. وفي عيد الفصح، كان يعيد ارتداء ثيابه الجديدة، فتصحبه أمه إلى الكنيسة، ويذهب إلى السينما في المساء. ومرة أخرى، همس في إذن عدنان: (( أنا أشعر شعورًا حقيقيًّا بأني لست مسيحيًّا ولا مسلمًا، ربما كنت بوذيًّا! )) ضحك يوسف وقتذاك كثيرًا، ولم تكف عن مطاردته الصورة الدموية للمسيح على الصليب.
كان يحتفظ بمجموعة كبيرة من قصص أغاثا كريستي، وكان يحب بيتهوفن وفيروز وأفلام ألفريد هتشكوك ولحم الخنزير. وقبل أن يسافر إلى القاهرة، هجم على صديقة أخته الصغيرة، وقبلها من خدها، لأنها كانت جميلة. قال لها: (( عندما تكبرين يا لعينة لا تفزعي مني، تذكري أنني قبلتك! )) راح يوسف يهمهم: (( آه، ما أغباني! )). تذكر قاهر، وهمس: كيف وثقت بكلامه؟ قال لي سندرس معًا في القاهرة،
لا يهم أن نختار مادتين مختلفتين، فمن الضروري أن نفترق عن بعضنا بعض الوقت، وإلا اتهمونا، وقالوا ما بيننا علاقة جنسية، لهذا، سيختار كل منا كليته، أدرس أنت ما تهواه، كن طبيبًا، أما أنا فسأصبح مهندسًا لأبني الوطن. أقول له، المهم عندي أن نسكن معًا، أكثر ألف مرة من أن تبني الوطن، هذا هو المهم عندي، سنرتب أمورنا جيدًا، وسنعمل برنامجًا يوميًّا: تحديد وقت النهوض من الفراش، وقت الدخول في الفراش، وقت تناول الفطور والغداء والعشاء، سنوفق ذلك، على التأكيد، مع برنامج الدراسة، وإذا ما جلست على مائدة الطعام انتظرت حضورك. واحسب حسابك على أن تكون لدينا خادمة، بشرط أن تكون جميلة، جميلة ومشتركة! انفجر ضاحكًا، وقال: لقد خدعني! لقد خدعني! وهكذا قضيا عامين في القاهرة، دون نتيجة، ثم عاد ليبقى فاشلاً (( إلى الأبد ))، ولم يحقق أمنية الطفولة: أن يصبح طبيبًا! راح يجمجم: (( آه! يا إلهي! ماذا جنيت؟ آه! يا إلهي! )) ويوم أن عاد نهائيًّا من القاهرة هزت أمه قبضتها في وجهه، وصاحت: (( هل عدت لي خائبًا كما هي عادتك؟ )) لكنه ألقى الحقائب، ولم يسلم على أحد. علقت أمه بأسى: (( لقد عاد كما ذهب، الذي تبدل فيه أنه ازداد سمنة! يا رب، لم ولدته؟ ))

* * *

كان عدنان يراه، وهو يزيح الستارة، بينما ظلال معتمة مختلفة الحجم تتلاعب في الحجرة المطفأة الضوء. تقدم منه، وذهب بعينيه في رحلة قصيرة عبر أشجار الحديقة، ثم سأله بصوت خافت:
- ألم يأت (( الفلاح )) بعد؟
التفت شريف إليه، وتحرك شيء في عينيه. كانت من وراء حديقتهم أرض مرتفعة، فهضبة، فالجبل.
همس شريف:
- لقد تأخر عن موعده كثيرًا.
غرز عدنان أظافره في باطن كفه، وهمهم:
- يجب أن يظهر بين لحظة وأخرى.
- وإذا ما حصلت صعوبات؟
وفي نفس الوقت، كانت عيناه تذوبان في الزجاج، تصيران كالزجاج.
- يجب أن يأتي.
قال عدنان:
- المهم أن يأتي قبل منتصف الليل، فالعتمة تأخذ في التلاشي، ويصبح لون السماء أبيض.
وهو يواصل غرز أظافره في باطن كفه.
- ما زلنا بعيدين عن منتصف الليل.
أعطاه عدنان ظهره، فندت عن شريف صيحة مكتومة:
- لقد وصل.
واتجه ليفتح له باب دارهم (( السري ))، فقبض عليه عدنان من ذراعه:
- انتظر قليلاً ريثما يحاذي الباب.
وقد أحس شريف بطعم أظافره في لحمه. تحرك شريف، وهو يجمع نفسه، وقال:
- دعني.
فأطلقه.
اتجه شريف إلى باب دارهم (( السري )) المجاور للمطبخ، والمطل على الحديقة. وهو يخطو أول خطوة في المعبر، إذا بأخيه مازن يُدخل شخصًا هبت معه رائحة الريف. جمع من حوله قنبازه، وترك المجال لشخص آخر يرافقه بالدخول، رآه شريف لأول مرة. تقدم (( الفلاح )) من شريف، وبين يديه سلة ثقيلة، فابتدره شريف قائلاً:
- تأخرت عن موعدك كثيرًا.
وهو يرمي مرافقه بنظرة حذرة. قال (( الفلاح )):
- يحاولون محاصرة بيتكم، وقد اضطررنا إلى أن نعمل دورة كبيرة.
- ماذا؟
دون أن يكف عن النظر بحذر إلى مرافقه، فقدمه له:
- أقدم لك (( المسلم )) من حيفا، لديّ تعليمات بشأنه.
اتجه ثلاثتهم إلى الحجرة، ومازن يغلق الباب (( السري )). وقبل أن يدخل شريف الحجرة، توقف قليلاً، وراح يتابع أخاه، وهو يقطع المعبر صوبه بينما تعرك وجهه أسئلة كثيرة. تساءل شريف: (( هل يتلصص علينا، يا ترى؟ وإلا كيف عرف بمقدم الفلاح؟ )) وقبل أن يصله مازن، انفتح باب، وتناهى إلى مسامعهما صوت نسوي يهلكه النعاس:
- أهذا أنت، يا مازن؟
تبادل الأخوان نظرة (( حاقدة )) على صاحبة الصوت، ولما يفوها بكلمة.
- يا مازن... أهذا أنت؟
قال مازن:
- هذا أنا، يا أمي.
وفي نفس اللحظة، أوصد شريف باب حجرته.
- ألم تنم بعد؟
ثم خرجت من الحجرة، فبرز له وجهها من جوف العتمة:
- أنا لا أراك جيدًا، لماذا العتمة شديدة هكذا؟!
أرادت أن تشعل الضوء، فسارع إلى القول:
- لا تشعلي الضوء.
توقفت، وأطلقت نفسًا ضائقًا:
- حسنًا، يجب أن نعتاد على ذلك، ألا نشعل الضوء (قبضت على صدرها ثم أضافت): اذهب إلى فراشك، يا ولدي، إن الليل طويل! اذهب، ونم، لتريح قليلاً أعصابك!
وهو على باب حجرته، سمعها تقول:
- على المرء أن ينام كي يريح أعصابه، أرح أعصابك، ولا تشق نفسك كثيرًا.
ثم راحت تدمدم قبل أن تدخل حجرتها:
- أيها الولد المسكين! أيها الولد المسكين!
حتى تلاشى صوتها.

* * *

قال يوسف لأمه:
- إذا أردت أكلتك فوق كل هذا.
صاحت أمه باستنكار، وهي تضرب بيدها على صدرها:
- أتقول هذا لأمك!؟
تصاعدت في المطبخ ضحكته الرنانة على دفعات، وقال:
- أنا أحب البيض كثيرًا!
كانت الدهشة لم تزل تفتح عينيها، فقالت بلهجة تطفح بالعتاب:
- قل هذا لأمك، قل لها أكثر من ذلك، قل لها كل ما يقع على لسانك!
أطفأ يوسف تحت المقلاة، وحملها، وهو يلف ذراعها بالملاءة البيضاء التي يربطها على خصره.
كانت هناك سبع عيون صفراء مغروسة وسط مستنقع أبيض من زلال البيض المقلي، بينما رائحة سمن زكية تنتشر عنها.
قال يوسف:
- لن تتصوري كم أنا جائع!
وهو يستدير باحثًا في الخزانة عن الخبز، كانت ترمق قامته عن كثب، وتقول لنفسها: (( يا رب، ماذا فعلت!؟ لقد أنجبته سمينًا، ليأكل كثيرًا!))
وضع رغيفين أمامه، وبدأ عملية الالتهام. رماها بنظرة، فوجدها تنظر إليه عابسة:
- ماذا دهاك؟
- لا شيء.
- لا تعجبني نظراتك.
أطلقت تنهدة، وركزت كتفها على الباب:
- في الماضي، كانت تكفيك بيضات ثلاث، أما الآن...
توقف عن المضغ، وفي فمه ربع رغيف:
- أما الآن....
- لا شيء، ولكن، من اللازم القول إن سبع بيضات كافية لعشاء عائلة بأكملها.
مط يوسف شفتيه:
- أنت تعرفين أني لا آكل كثيرًا إلا وقت أن يتعكر مزاجي.
- أعرف.
- إذن لا تزيديني غمًّا! ابتعدي عن وجهي!
- سأبتعد، لكني سأغضب عليك.
- فلتغضبي.
- وسأفضحك.
- لمن؟
- لكل الناس، سأقول لأصدقائك أنك طماع، وجشع، وأنك لا تحترم أمك.
التقط ملعقة قريبة منه، ورماها بها، وهو يشتم، ولولا أنها انحنت بسرعة متداركة إياها، لفتحت رأسها. انصب من فمها نهر من الدعاء عليه، ويوسف يقهقه. وعندما سكتت، ناداها:
- احضري لي بضع حبات زيتون، وقليلاً من المربى.
وهي تضع الصحنين الصغيرين من أمامه، كانت تقول بشفة مهتزة:
- هذا آخر ما بقي عندنا من المربى.
مال عليها، وجذبها، وهو يطوق خصرها، محاولاً إجلاسها على ركبتيه. دفعته عنها بدلال (( زوجي ))، ويوسف يقهقه، وفي الأخير، أطلقها بعد أن سدد إلى إليتيها صفعة شديدة. قال لها ضاجًّا، وفمه يمتلئ طعامًا:
- تعالى، تعالى اجلسي هنا، على فخذي!
جاءت أختاه الصغيرتان، فنهض، وطردهما. جرت إحداهما إلى حضن أبيها الجالس في الصالون قرب الراديو، فقال يوسف لأمه:
- أحضري لي كأس ماء.
وقد أخذ يمسح المقلاة.
أحضرت له كأس ماء وضعته على مقربة من يده، وجلست ساهمة العينين، وهي تركز رأسها في كفها. خفق رمشاها على تجشؤة هائلة من فمه:
- هل شبعت؟
لكنه دفع المقلاة إلى جانب، وترامى بذراعيه على المائدة:
- اشكري ربك لأني أرضى بأكل البيض على العشاء!
قامت أمه، رفعت المقلاة والصحنين إلى المجلى، ثم مسحت الطاولة، وهي ترميه بين الفترة والفترة بنظرة خالية من الرضاء.
- في القاهرة كان عشائي نصف كيلو كباب ما عدا السلطات والفواكه.
نبرت:
- هذه أخبار بائتة عمرها عدة سنوات!
وهي لا تنقطع عن رميه بالنظرات الخالية من الرضاء. ظلت تمسح الطاولة بتواصل إلى أن جذبها من ذراعها، فتهدمت، وهمس لها بطريقة مهددة:
- كفي عن عمل هذا، وإلا انشل ذراعك!
استقامت، وراحت تعصر الممسحة على صدرها بقلق هائل، وأصابعها تتراكم على بعضها بعضًا، فهب بها صارخًا:
- ماذا دهاك؟
قالت، وهي تميل برأسها إلى جانب كالثاكل:
- أنا أندب حظي!
انحنت عليه بسرعة، وقد انفجرت عيناها، دست فمها في أذنه، وراحت تقول تباعًا:
- لقد ولدتك كي تنقذني وترفع من شأني لا كي تذلني وتحط من قدري!
التفت يوسف إليها بوجه مهتاج، وجاءت عيناه في عينيها. رفعت رأسها على دفعات كتمثال كهربائي، وهي ما زالت تحملق فيه بكره في صدام دائم مع أمل عاجز، ثم قالت:
- اعلم، لم أيأس تمامًا، وإذا ما حصل قتلتك.
رفعت قبضتيها إلى أعلى ما يكون، وبقوة هائلة أهوتهما على صدره، وانفجرت تبكي، ثم ما لبثت أن انسحبت رويدًا، رويدًا، وهي تمسح دموعها بطرف ردائها الأسود، بينما هو متجمد النظرة والعروق.
وبين دموعها وحركة شفتيها المتنافرين، راحت تكلم العذراء:
- يا سيدتي الرضية! حرري روحه، يا سيدتي الرضية!
نهض يوسف معجلاً صوب الباب، لكنها هبت به صائحة:
- انتظر.
فتوقف.
جرت، وجرت، وجذبته من كتفه، فاستدار، وأهوت بكفها على وجهه:
- عندما أخاطب العذراء من أجلك، فلتنتظر حتى أفرغ.
وكان هو يقبض على صدغيه، وبدنه كله يهتز. وبكل قواه، دقها في صدرها مزمجرًا، فانطرحت على الأرض، وراحت تُعْوِلُ. وهو في طريقه إلى حجرته، التقاه أبوه، فسأله بعصب بارد:
- ماذا جرى؟
كانت أمه قد مدت ذراعًا، بينما اعتمدت بجسدها كله على درفة الباب، وبأعلى صوتها أخذت تصرخ:
- سأقتلك، أيها الشيطان! سأقتلك!
خرج أخوه الصغير عليه بأعوام ثلاثة من حجرته بصحبة الخادمة، بينما أخذت أختاه الصغيرتان تبكيان.
نبر يوسف:
- هذه مجنونة!
فلم يحتج أبوه. قعدت أمه على أقرب كرسي، وانفجرت تنتحب، بينما دارت بها البنتان الصغيرتان، وبعد فترة، احتضنتاها. عاد أخوه يدخل حجرته دون أن يبالي بما يجري، وطرق الباب من ورائه، بينما خفت الخادمة صوب المطبخ، والأم تشكو مرددة:
- هذا جزائي! هذا جزائي!
اقترب منها يوسف متمايلاً بعض الشيء، وسأل بلسان متهكم:
- ما هو جزاؤك؟ قولي لنا، ما هو جزاؤك؟
وأبوه يقف معقود اليدين.
توقفت أمه عن البكاء، أبعدت البنتين عنها، وقالت:
- بعد اليوم لن أطالبك بشيء، لكني لن ألوم أحدًا سواه.
مشيرة إلى أبيه. تحرك الأب للمفاجأة، وسأل:
- أنا؟
- نعم، أنت، لن ألوم أحدًا غيرك.
- ما هذا الكلام؟
- ولن أكره أحدًا غيرك، ولن أحقد على أحد غيرك.
اصفرَّ وجه الأب، فرنا إلى يوسف، وكأنه يطلب منه عونه ومؤازرته، ثم قال مخاطبًا إياها:
- هدئي أعصابك، هدئي أعصابك!
نشقت بشدة، ثم تمخطت، وانتهت زفراتها تمامًا:
- أردت أن تجعله طبيبًا ليعوضك شيئًا من مالك وأتعابك، لكنه فشل، وفشلنا كلنا. لو لم تبع حصتك في الفندق الذي فوق (أشارت إلى أعلى حيث يقوم الفندق فوق سكناهم) لو لم تبعها حصتك لبقي لنا شيء نقي به حياتنا، شيء متين من حجر لا من فشل وهموم وبطالة أبدية! (وهتفت بزوجها): كان من اللازم ألا تبيعها حصتك، لقد أضعناها وكفى. انظر إليه (مشيرة إلى يوسف) انظر (رمى الأب عليه نظرة سريعة) إنه لا يبالي بنا على الإطلاق! لقد أصبحت خادمًا بعد أن كنت سيدًا! أما هو، فهو لا يفكر أبدًا في هذا. ما زال طائشًا رغم عمره المديد! (وراحت تشدد على كلمة "طائش") طائش! طائش! طائش! نعم، طائش! رغم أنه تجاوز سن الطيش منذ زمن بعيد!
ابتلع الأب ريقه، وقال يوسف، وهو ينحني متصنعًا في لهجته:
- أشكرك على محاضرتك، يا سيدتي! أتسمح لي سيدتي بالانصراف الآن؟
نبرت:
- أيها الولد اللعين! كم تهزأ بأمك، أيها الولد اللعين!
جرى، وجرى، انعطف بقامته الضخمة حتى لامس أنفها، وراح يلهث:
- أشكرك، يا ماما الصغيرة! قولي بالله عليك، أتسمحين لي بالانصراف، يا ماما الصغيرة؟
سارع أبوه بجمع الطفلتين بين ذراعيه، أدخلهما في حجرة، وأقفل عليهما الباب.
سمع يوسف صوت أبيه يأتي من ورائه:
- كفى هزلاً!
استدار إلى الناحية التي فيها أبوه، وخفَّ إليه، وأوداجه تهتز بطريقة ليست طبيعية:
- انصت، فلتنصت.
قبض عليه من ذراعه، وجره حتى وسط الحجرة، وهو يشير إلى السقف:
- أتسمع (( خطواتهم ))؟
كان الإسرائيليون قد استولوا على الفندق، وجعلوه مأوى لجنودهم.
- اسمع جيدًا، خطوات من، يا ترى، هذه؟ هذا هو الهزل، هذا ما يسمى بالهزل! إن أقدامهم فوق رأسك تمامًا، وإذا ما بذلوا بعض القوة، أهالوا السقف عليك، وحطموك.
نهضت الأم، وهي ترفع رأسها إلى السقف:
- إن خطواتهم لا تهمنا... لقد باع أبوك حصته.
هتف يوسف، وهو يفتح ذراعيه على الجانبين:
- يا لبراءة المسيح العظيم! لقد أبرأتك محبة ابن الرب!
رجاه أبوه:
- يا ولدي، اسمع، يا ولدي!
فهز يدًا متوترة في وجهه:
- منذ قليل كان ذنبي، ثم صار ذنبك، والآن لم يعد ذنبك، وقد بقيت المذنب وحدي!
التفت بقوة إلى أمه، وهو يفغر فمه، ويدفع صدره إلى أقصاه، ثم هدأ، واستكان، وهمس:
- عندما كنتم ترسلون لي نقودًا كنت أرميها في النيل، أو أسكر بها، أو أزني! لقد بذّرت ثروة أبي، وقد ذبحت أعصاب أمي، فقد كان ذنبي!
نبرت أمه:
- أنت أحمق!
مما جعله يلتفت إلى الناحية التي فيها أبوه:
- أرأيت؟ إنه دومًا ذنبي!
وصلتهم خطوات، وبقايا ضحكات، فاقترب منها ضاجًا لاهثًا، وهو يقول بينما هي تتراجع:
- سأصعد، سأصعد إليهم، وسأنحني، سأنحني، وسأصب لهم أقداحًا، وسأهبط على الأرض، وسألحس نعل كل منهم، وسأقف من جديد، ولكن دون قواي، والعرق يتصبب من جبيني، ثم سأنحني من جديد، وسأصب لهم أقداحًا وأقداحًا، وسأهبط على الأرض مرة أخرى، وسألحس... سألحس نعالهم.
هب بأبيه هادرًا من شدة الغضب:
- أليس هذا هو عملك أيها السيد الذي أصبحت خادمًا!
ووصلتهم خطوات أخرى، وخطوات، وبقايا ضحكات، وقد تشنج يوسف على صليبه كمسيح آخر.

* * *

كانت في الحجرة شمعة، وفي عيونهم مليون لهب. وكان المسلم يتابع كلامه:
- حقًا إنه الاتصال الأول بحزبنا، ولكن ستكون هناك اتصالات أخرى، وسيكون التنسيق على مستوى الوطن المحتل كله قديمًا وحديثًا، وبكل العناصر الوطنية بغض النظر عن انتمائها الطبقي أو الديني، المرحلة الحاضرة تعني التضامن والصمود، نعم، التضامن والصمود، فالعدو ليس سهلاً، وفي نفس الوقت، لا يتعدى الزمان والمكان كما يشاع. الطريق أمامنا طويل، وهذا رأي المناضلين اليهود أيضًا في حزبنا، على أن نحقق خطوات موحدة أكثر جذرية وأكثر فاعلية في المستقبل. هذه الخطوات التي ستبقى سياسة من ناحيتنا، لأنها لا يمكن، في ظروفنا الحالية، إلا أن تكون كذلك. ومن ناحيتكم سياسة وعسكرية لأن ظروفكم الحالية تساعد، بل وتتطلب عملاً عسكريًا مناضلاً، فنحن نؤيد كل رصاصة ثورية تطلقها بنادقكم.
نهض المسلم، وقال:
- عليّ العودة حالاً، طالما هم في صدد محاصرة البيت، إذ لا داعي ليقف الإسرائيليون على هويتي في الوقت الحاضر. ولتعملوا، بدوركم، على النفاذ من بين أيديهم.
وهو على الباب، التفت إلى (( الفلاح )):
- سآخذ نفس الطريق التي أتينا منها.
ثم توجه إلى شريف وعدنان:
- سيكون لقاؤنا القادم في حيفا، وبشكل أوسع وأوضح.
رافقه شريف حتى الباب (( السري ))، وعندما عاد، دفع (( الفلاح )) السلة الثقيلة أمامه، وكشف عن وجهها:
- المتفجرات هنا.
أخرج شريف ورقة من جيبه:
- والخطة هنا. سنقوم بعملية نسف مركز تجمع الجنود الإسرائيليين في مخفر رفيديا.
ثنى (( الفلاح )) شفتيه، وقال متفاجئًا:
- ظننت أننا سنحرر الرفيق أسعد من المعتقل.
قال شريف:
- ليست لدينا معلومات كافية حول هذا، أما مركز تجمع الجنود الإسرائيليين في رفيديا، فنعم.
قال عدنان:
- وما هي الخطة؟ عجل قبل أن يباغتونا طالما هم في صدد حصار البيت.
بدأ شريف يوضح خطوط العملية، ويوزع الأدوار.

* * *

- تعالَ، يا سعيد!
قال سعيد لنفسه: هذه القطة العجوز هي جدتي!
ثم انقطع مواؤها.
كان يجلس في سريره، وسريره في زاوية من حجرة الاستقبال، وحجرة الاستقبال معلقة في الطابق الثالث. أما في الطابق الثاني، فقد كانت حجرة أخته وجدته، كانت تصلها بسطة من الأسمنت ليست مسقوفة، محاطة بسور قصير يطل على قبة إحدى الحجرات المجاورة للمنزل المجاور. وفي الطابق الأول كانت حجرة أبيه وأمه وأخويه، كذلك كانت هناك قرنة اسمها الحمام، وقرنة أخرى اسمها بيت الماء، تحيط جميعها ببسطة من الأسمنت أيضًا، ليست مسقوفة، يعانقها درج ضيق من الحجر، طويل، ومعتم، ينتهي بباب الدار. وباب الدار ذاك كان واقفًا على درجات خمس، حيث شارع جامع الخضر المبلط، المنحرف دومًا إلى ناحية اليمين، لينتهي في وسط المدينة القديمة.
كان هذا الشكل الكاريكاتوري هو بيتهم كمعظم بيوت نابلس القديمة، وكان سعيد، وهو يجلس في السرير، يعمل إبرته في ثوب، ثوب قاض أو مختار، كان يدخن، والشباك المستطيل، المرتفع قليلاً عن الأرض ليصل السقف، كان مفتوحًا. لاحظ سعيد الدخان، وهو يخرج، والليل، وهو يدخل. فكر في أنه ينهي حياكةَ ثوبٍ بدأه أبوه ما قبل الحرب، وتساءل : كم من الوقت سيلزمني؟ غرزت الإبرة لحمة مرات، وانبثق الدم من أبهامه، فهو لم يعتد وضع (( الكشتبان )) في إصبعه، وإذا ما وضعه، أحس كأنه يختنق. سحق سيجارته في منفضة نحاسية يحتفظ بها أبوه منذ العهد التركي، نفخ الدخان، وانتشر قليلاً مع الغيمة. فكر أن ما بعد الاحتلال لم يعد هناك مجال للسهر في الدكان، وعدا عن ذلك، فإن أباه يفضل إغلاقها طوال النهار، بعد أن أحرقوا الصيدلية المجاورة لهم الحائط بالحائط. وللنهب الذي كان يحصل يوميًّا، أصبح أبوه لا يطمئن إلى إرسال أخيه ذي العشر السنوات كي يفتح الدكان من أجل تهويتها، فيذهب هو بنفسه، ولا يلبث أن يعود حانقًا، وهو يجمجم دون أن يفهمه أحد، ثم يقول لسعيد: (( لقد كسد الموسم! )) (( ماذا! )) (( لقد كسد الموسم! )) وقبل الحرب، كان يقول لسعيد: (( الخياطة مهنة شريفة، ولكنّ أحدًا لا يقدرها حق قدرها! )) يسكت قليلاً ثم يضيف، وهو يلامس طويلاً قبة جاكيته العريضة: (( لقد انتهت ثقتهم! )) (( ماذا؟ )) (( لقد انتهت ثقتهم بالمهنة! تركوا الجودة والأصالة، وركضوا وراء الموضة والجاهز! )) يسحب يده على جاكيته، ويقلب عن بطانته بأصابع راجفة، فهو بطبعه عصبي، ويصيح: (( هذه هي الجودة! هذه بطانة عمرها أربعون عامًا! عدا عن التفصيل! اليوم يشتهون القبات الصغيرة على شكل آذان الفئران، والبناطيل الضيقة المحزقة! أما ما نصنعه نحن بأيدينا، فقد أصبح مبتذلاً وناقص الذوق، وتجاهلوا أن ما نصنعه نحن هو الأصالة؛ نحن الأصالة، نحن الماضي العريق! ))
وعندما علمه أبوه المهنة، رفض أن يعلمه كل ما هو جديد. قال له: (( قلدني! أكمل عملي! إنني أبوك، فاسمع كلامي! )) و... أطاعه. على مضض أو غير مضض، هذا لا يهم، المهم أنه أطاعه. قلده، وها هو لم يزل يكمل عمله. همهم لنفسه: أيها الولد الأحمق!
- يا سعيد، تعالَ، يا سعيد!
قال سعيد لنفسه: ها هي ذي جدتي من جديد!
سأل:
- ماذا؟
- تعال تأكل لقمة.
فكر: (( عدس أسود! )) فألحت:
- تعال تأكل لقمة.
انتهى المواء، بعد أن ثقبت الكاف طبلة أذنه لحدتها. لم يجبها ليس لأنه عدس أسود، ولأنه يأكله ثلاث مرات في الأسبوع منذ قبل الخامس من حزيران، ولكن بسبب عدم شهيته. منذ مدة، وهو ينام دون عشاء معظم الأيام، فكانت أمه تهمهم: (( إن ابني ووحيدي يحلم بطعام الأكابر! )) كانت أمه لا تعترف بابن لها غيره، تدعوه دومًا بـ (( وحيدي ))، وتقول: ((عندما يفتح أبوك مخيطة جديدة، وتتحسن الأحوال، سنستأجر منزلاً في الجبل الشمالي، وسنشتري طاولة سفرة فورمايكا من الحجم الكبير ذات 12 كرسيًّا، وعند ذلك، سأطبخ لك ما اشتهيت، الدجاج والكماج! )) فكر سعيد: مخيطة جديدة! أراد أن يقول لها: والأصالة، يا أمي؟ وأيهم يحلم، يا أمي... أنا أم أنت؟ وتتابع أمه: (( ثم... إذا لم يكن في دارنا الجديدة حمام صيني، فلن أقبل بها! )) تموء جدته بضحكة تقطر جذلاً، ثم تعزف هي الأخرى على نفس الوتر (( أما أنا، فأريد أرجوحة نضعها في الحديقة، كي يدفعني عليها (( سوسو)) عندما يكون الطقس جميلاً! )) تحدجها أمه: ((أرجوحة! أنت طفلة كي تركبي أرجوحة! )) (( أنا أعرف، ما يزعجك ليس الأرجوحة، وإنما ثمنها، لهذا، سأكتفي بكرسي هزاز مثل كراسي البحر أيام زمان )). وتبدأ بسرد حكايات لا تنتهي عن البحر والكراسي الهزازة وبوظة اليهود أيام كانت تذهب مع جده الله يرحمه إلى شواطئ يافا وحيفا. يسألها أخوه الصغير: (( يا جدتي، يا جدتي، وهل كنت تسبحين يا جدتي؟ )) فتموء ضاحكة، وتقرص أخاه الصغير من خده: (( لقد علمني جدك السباحة، فهو سباح ماهر، وقد اشترك في عدة مسابقات، لكن الحظ لم يكن يحالفه، فلم يفز مرة واحدة، رغم أن المسافة ما بينه وبين الفائز لم تكن لتزيد عن بضعة أشبار. لقد علمني السباحة جيدًا، دون أن ألبس الثوب الخاص كاليهوديات، كان من أشد العيب أن ترتدي واحدة منا الثوب الخاص، لهذا، كنت أسبح بكامل ثيابي )). يقلب أخوه على ظهره لشدة ما يضحك، فتقبض عليه من خاصرتيه، وترميه في أحضانها، وتأخذ في عضه بلثتيها، إذ لم يكن لها أسنان، فتزيده دغدغة، ويزداد ضحكًا.
أشعل سعيد سيجارة أخرى، وجذب نفسًا طويلاً من الدخان والليل، جذب كلامهم وحركاتهم وأفكارهم الصغيرة كلها، وتلوى الثوب بين أصابعه، وهو يغرز فيه إبرته، وراح يفكر: لقد عادت أيام زمان! ستذهب جدتي لتعوم بثيابها في بحر يافا! ستأكل بوظة اليهود، وستتكلم معهم، وستضحك لهم، وربما صادفت بعض من تعرف! وتنهد: أيام زمان! أما (( أيام زمان )) أبيه، فستبقى تتساقط باستمرار في هوة معتمة، ولن يتعرف أحد عليه ولا على أصالته ولا على مهنته الشريفة، وستبقى أحلام أمه أحلامًا، إن لم تفرخ هذه الأحلام أحلامًا أخرى وأحلامًا. وهو؟ ماذا عنه هو؟ ما الذي جاء من أجله هو؟ ويجذب الليل، يشم الليل فقط، ليل مدينته القديمة، ليل مدينته هو، ويذوب... كحفنة سكر. ولكن هيهات تنتهي المرارة في ليله! كان الجنود الإسرائيليون هناك، في كل الطرقات، في كل الأزقة، وكانت أشباحهم هناك، في قلبه، في قلب مدينته الهادئة، الصامتة، التقية، الذائبة في الليل، مثله تمامًا، كحفنه سكر. أخذ سعيد يردد لنفسه: لقد علمني أبي مهنته! لقد علمني أبي مهنته! زحف في نقط الدم التي أحدثتها الإبرة في إبهامه، نقل إبهامه إلى فمه، وراح يمص عنه البقع، ثم غرز فيه أسنانه، وجعل دمه يسيل أحمر قرمزيًّا، رمته لذة الدم إلى الوراء، وانتصب الفخذان البيضاوان في خياله، فقبض على عضوه، وأحسهم في عظمه: الجنود الإسرائيليون! همهم: لقد علمني أبي مهنته! غاص عضوه في الدم منتصبًا كأنه الزهرة الغريقة، وغاص سعيد بين الفخذين البيضاوين، وراح يجترف الزبدة والنار. انهمر الدم مشتعلاً كأنه يتدفق من شريان مفتوح، وجرف في خياله كل شيء، تدحرج، وهو يطلق أنفاسًا متلاحقة، وهمد كأنه جثة غريبة عنه، ثم قام يطل من الشباك المستطيل، فرأى ضوءًا واهنًا يقاوم البهيم، همس لنفسه: لست وحدي من يسهر وحيدًا! لست وحدي من يهلك وحيدًا! لا، لست وحدي من يفكر ماذا أنا بفاعل، دون أن يصل إلى جواب حاسم!

* * *

لقد انطلقوا منذ قليل، وقد رآهم مازن كالطيور التي ذهبت تبحث عن القمح من أجل أفراخها. كان يقف من وراء النافذة، وقد زحف معهم بعينيه، حتى اجتازوا الحديقة، وعبروا من تحت خيط الأسلاك، إلى الحديقة المجاورة. فكر مازن: بعد ربع ساعة من الآن سيكونون قرب الثكنات المحيطة بالمخفر.
كان حزينًا... كعاشق حزين. كان بإمكانه أن يؤدي، هو الآخر، دورًا في المهمة... ولكن! كان بإمكانه أن يتقن، هو الآخر، الزحف على اليدين والقدمين... ولكن! كان بإمكانه أن يتعلم، هو الآخر، ربط أصابع الديناميت وصناعة بعضها... ولكن! مثلما كان بإمكانه أن يطرب لعصافير الفجر، وأن يحب الناس، وأن يأخذ بيد أعمى، وأن يعود إلى طفولته كلما لقي حبيبته. قال لنفسه: زحفوا دوني! تركوني، وذهبوا! ضاقت أنفاسه، ففتح النافذة، وتذكر أنه في تلك الليلة البعيدة، أول مرة، ولليالِ أخرى، قد هبط من النافذة. وبعد ذلك، بحث، وبحث، وبحث، ولم يجد شيئًا. كان قرب حبيبته، وكانت حبيبته قربه، كان هو كالطفل بين يديها، وكانت هي كالطفلة بين يديه، كانا كطفلين لهما أم وأب، وتلك حديقتهما، كان سعيدًا، والعلم كله ملكًا له، وبعدما مضت لحظة اللقاء، بحث، وبحث، وبحث، ولم يجد شيئًا. حقًا لقد تركت حبيبته قرب قلبه لمساتها، وزينت شفتيه بزهرة، وقالت له أحبك كالله! ومع ذلك، فقد بحث، وبحث، وبحث، ولم يجد شيئًا.
في تلك اللحظة، وهو لم يزل يبحث، ويبحث، ويبحث، في تلك اللحظة على الخصوص، قال مازن لنفسه: لم أبحث بعد جيدًا، وكما يجب. وفي تلك اللحظة، بينما تشقه تلك اللحظة نصفين، وتجعل منه فلقتين، كان مازن يقول لنفسه: عليّ أن أمضي حتى النهاية، حتى النهاية! خشي، في ذات الوقت، أن يتسلل إلى أوصاله التعب، مع أنه قد تأوه، وجعل ذلك صدى في الليل. وعزم على أن ينطلق على التو، أن يعدو، وهو لا يتوقف عن تردد: لربما... لربما... لربما...
لم يهبط مازن من النافذة، لكنه توجه إلى الباب (( السري )) الذي وجده مفتوحًا، اصطدم بالليل، فلم يتراجع، بل قال: هناك ما هو بانتظارك، هناك من هو بانتظارك، فلتقتحم الليل، نعم، فلتقتحم الليل! كان (( الفلاح )) قد انحنى فجأة من وراء أحد الأسوار، وأشار لعدنان وشريف بالاختفاء، فمكث كل منهما من وراء شجرة. جمع مازن أصابعه حول عنقه كعاشق مقدم على مغامرة جديدة، حب جديد، غرام فريد، أسطورة ليست بأسطورة، وفي ذات الوقت، أسطورة. وأخذ (( الفلاح )) يتقدم محاذيًا السور الدائر نصف دائرة بقامة منحنية، ثم توقف، ورفع رأسه بحذر، فإذا بجندي إسرائيلي يقف بسلاحه على مقربة يسيرة من المكان الذي كانوا فيه. وبحذر دومًا، قفز إلى الناحية الثانية، وتقدم مازن رويدًا، رويدًا، ورفع يوسف اللحاف عنها رويدًا، رويدًا، فنهضت الخادم من نومها بعينين منفجرتين، وفغرت فمها تريد أن تصيح بكل ما أوتيت من قوة، لكنه كتم أنفاسها بكفه، إلى أن تبينته، فأزاح كفه بكسل، وهي تسأل: ما الذي جاء بك؟ ماذا تريد مني؟ فهمهم يوسف، وعلى فمه بسمة لزجة راحت تلصق كالصمغ في كل مكان. قال لها: لا شيء، لا أريد منك شيئًا، ومزق الثوب عن نهديها، ومزقت سكين (( الفلاح )) دجنة الليل وقلب الجندي، تناول بخفة سلاحه، وغرد لعدنان وشريف، فخرجا من مكمنهما، وهما يقفزان. وعندما أطلوا من الجهة التي كان يقف فيها الجندي الإسرائيلي، رأوا على بعد مئتي متر، في حقل مفتوح كالكف، الثكنات العسكرية التي تحيط ببناية المخفر من ثلاث جهات، بينما طريق طويلة فيها أعمدة ضوء واهنة تنتهي في (( رفيديا )).
أقدامهم ارتفعت، ثم هبطت، ومازن كان يفتح عينيه على آخرهما، ويوسف راح يلعق حلمة نهدها. قالت له: أنت تميتني، تميتني...آه!
لا تحفر قلبي! لكنه ظل يلعق حلمة نهدها كأنما كان مزروعًا هناك عرق حياته! وظل يلعق الحلمة السوداء التي بات لها لون اللهب. أخذ يمص الحلمة السوداء، ويمضغ ميعة نهدها بين أسنانه. وظل يمص الحلمة السوداء حتى غدت جذوة. أخذ يمص، ويمص الحلمة السوداء حتى انبثقت من الحلمة نار كاوية. حاول أن يقضم بأسنانه ثمرة الشر، ويعلك فيها الياقوت، ويعلك فيها العار، والشهوة، والحرام، وحب النفس، ويعلك فيها الموت والرذيلة. وحاول أن يكسر أسنانه على نقطة معصية ضائعة هناك بين التجعدات الزنجية التي يبست بالتحدي. وظل مازن يبحث، والتراب ينهار تحت قدميه. فركز مازن ظهره على جذع الشجرة، وترك النمل يزحف بين أصابع قدميه. وفجأة، سقط يوسف على بطنها، وراح يتمرغ كالطفل الشقي. همست له، وهي تفتح بين فخذيها بأناة، ثم ترتخي: افتك بي! افتك بي! راحت تجذب خصلات شعره خصلة خصلة، وأصابعها تنشل إصبعًا إصبعًا. قال مازن لنفسه: كأنني جزء من الشجرة. جسّ جذعها، فحكته خشونة غريبة. وجمع سعيد نفسه، ألقى بالثوب دون أن يتم حياكته، ونهض. لسوف ينطلق هو الآخر، ولكن إلى أين؟ لسوف ينطلق، لسوف ينطلق. وكانت لليل رائحة الدم والنار والكافور وأشياء أخرى. وسعيد يقفل باب الحجرة، سمع حركة من ورائه. عندما التفت، خرج له وجه جدته من بين أكداس العتمة والموت والهزيمة، وراحت تموء، وهي تضحك كالساحرات، فارتعدت فرائصه.
- لقد عرفت أنك ستهبط.
- ما زلت ساهرة؟
- لم ينته الليل.
كان سعيد يفكر: يا لها من شمطاء! يا لها من شمطاء! دفع في قلبه بعض الشجاعة، تجاوزها، لكن أظافرها غُرزت في كتفه. توقف دون أن يلتفت، ففي الوراء وجهها الكهل، وجديلتاها الملوثتان، وفمها الدميم، والتجعدات.
- إلى أين؟
- دعيني.
هبط الدرج بسرعة، وهو يكاد يقع، فسمع ضحكاتها المبحوحة، ضحكاتها اللاسعة، الساخرة، ضحكاتها المجنونة، الملعونة، وفي الأخير، قالت:
- سأبقى بانتظارك.
لم تتلاش ضحكات جدته المبحوحة من أذنيه، ولم يتلاش الدبيب الخافت في أذنيها، فكرت في يوسف: إنه لا يضاجع! إنه ينتقم! تأوهت، وقالت: آه! تأوهت مرة أخرى، وقالت: آه،! شمت رائحة دسمة يفرزها بدنه، وقد بدأ يعضها كتفاحة ناهية، وقد غاص في عمق فخذيها، وصعد، فماءت، وخبطت، وقالت له: إنني هنا، هنا! ففتح مازن عينيه على سعتهما كي يتأكد من أنها حقًّا هنا، عندما رآها، نفض قدميه، فتساقطت أسراب النمل، دعس بعضها، وجرى ليرتمي بين ذراعيها، قائلاً لها:
- لم أكن أنتظر قدومك! كيف عرفت أني هنا؟
همست له على شفتيه:
- يا صغيري! يا صغيري!
وارتميا في حضن الورد، فراح يقبلها بقوة، ويشكّلها بوردة، وما لبث أن ضمها إلى صدره بخوف.
- ما لك؟
أبعدها عنه:
- دعيني، دعيني.
- أنت ترتعد!
عاد يضمها إلى صدره بخوف:
- ضميني! قبليني!
ضمته، وقبلته، وعادت تردد:
- يا صغيري! يا صغيري!
أبعدته عنها لتكتشف السبب، دون أن تكف عن معانقته بعينيها: كانت تعبده!
- حبيبي، أنت ترتعد!
فضمها، وضمها:
- أحس بالبرد، أحس بالبرد!
ولجأ طويلاً إلى صدرها، وهو لم يزل يردد:
- أحس بالبرد، أحس بالبرد!
دون أن يجد الدفء الكافي بين ذراعيها.
وصلتهما خطوات الجنود الذين يحاصرون البيت، فأبعدته عنها، وطلبت إليه أن ينصت:
- انصت.
توقفت الخطوات، وصارت هناك ضربات سيف، أو موسى، أو مبضع يغوص في اللحم، فجمعها، واختفى بها في الظلال، فرأيا جنديًّا يفتك بالورد. كان قد قبض على سلاحه، وبالحربة كان يجرح أكباس الورد، وبقدميه يدعس قامات الورد، ويسحق أعناق الورد، يمزق عنها ألوانها، وفي عينيها يذبح شهوة الراحة والنوم. لقد قتل ما يزيد عن ألف وردة، كان أبوه قد تسلى بزرعها بعد أن تقاعد عن العمل. وفجأة، صارت تئن، ودموعها تسيل على خديها، لقد استهلكها يوسف كأنها حذاء، كأنها نعل، لقد استهلكها كأنها نعل. نهض منتشيًا، وراح يهتز، ويهتز. وضع الجندي سلاحه جانبًا، استل سكينًا يدويًا، تقدم من شجرة البرقوق، وجعل يسدد بالبصل الثمار، فانتزع مازن نفسه من بين يديها، وجرى، قبض على السلاح، وأهوى حربته بعنف: كان قد غرس النصل في خاصرة الجندي.
عاد مازن إليها لاهثًا، وقد اكتسحته موجة هائلة من العرق. ترامى قربها، وهي معقودة للقوة الجبارة التي رفعته، وللمشهد الأروع الذي لم تصدق كيف كان. راح مازن يردد:
- سيتمون المهمة، سيتمون المهمة.
في تلك اللحظة، اقترب سعيد من مصباح ضعيف الإنارة، وما لبث أن أحس بشيء رخو يتحرك قرب قدميه: قطة بيضاء صغيرة مطاردة من طرف قطتين سوداوين كبيرتين. دارت به القطط، وذيولها تضرب في ساقه، حتى تمكن من طردها. وقفت القطتان السوداوان الكبيرتان قرب صندوق القمامة، وأخذتا تنبشانه. وبعد قليل، اقتربت القطة البيضاء الصغيرة من سعيد، وراحت تمسح ظهرها بساقه، وهي تموء ببراءة طفل في مهده، فنقلها بين ذراعيه بحنان، وراح يمسح كفه على ظهرها. وشوشها، حكى لها، قال لها إياك أن تصبحي شريرة، وطلب منها ألا تهتم من أجله، لأنه سيعود، في النهاية، إلى الدار. وفجأة، دبت خطوات عادية، فاختطف نفسه، والقطة البيضاء الصغيرة ملفوفة بين ذراعيه، واختفى في أول زقاق. مضى شبح أبيض كالبرق، خاله ينفصل عنه، وحل سكون خرج إثره من مخبئه، وراح يحدق في الجهة المعتمة التي ابتلعت الشبح الأبيض، فإذا بخطوات أخرى تدب من ورائه، تبعتها بضع طلقات متواترة.
فانخبط سعيد.
كانت قوة مهولة قد جذبته في الأرض، وكانت القطة البيضاء الصغيرة تتخبط قرب رأسه المنشق، بطنها مفغور، وهي بعناء تموء. أحاطت بهما أقدام أربع قوية لشبحين أسودين، سدد أحدهما فوهة الرشاش في رأس القطة، وأطلق، والقطة تتخبط في الدم والعتمة، ثم انفرجت ساقاها حتى المنتهى، لتسكن تمامًا، بعد أن مزقت الأرجاء صيحتها. ورغم ذلك، أخذ الجنديان يطلقان الرصاص على جسد الضحية، وهما يشتمان، ويلعنان، ويتوتران حنقًا. وعلى حين غرة، سقطت من العلو الشاهق لنابلس القديمة ثلاثة من أصص الزرع أو أربعة على التوالي، حولت الجنديان القويين إلى جثتين هامدتين. وبعد ذلك بقليل، دك الليل انفجار هائل آتٍ من رفيديا.

* * *

أخذت الخادم تدندن لحنًا، وهي تقوم بعملها الصباحي. كانت تكنس الأرض بهدوء، وتمسح المزهريات بهدوء، وتنفض أغطية مقاعد الجلوس بهدوء، وهي تدندن لحنها دومًا. وعندما صارت على مقربة من باب حجرة يوسف، ترددت قليلاً، وعلى شفتيها بسمة متهالكة. رفعت يدها في الهواء، وتأملت مليًا أصابعها المنحرفة، ثم ملكت قبضة الباب بكل أصابعها، وضغطتها، فانفتح الباب رويدًا، رويدًا، وراح يسيل إلى أن ضرب في الحائط، وإذا بالخادم تطلق الصرخات تلو الصرخات، ثم تسقط مغشيًا عليها. كانت قد رأت يوسف مشنوقًا، وجسده السمين يتدلى كالتمساح من سقف الحجرة المتين.
















22
قرعت أجراس الكنيسة!
سارت جمهرة صغيرة مع نعش يوسف المحمول على الأكتاف، وأم يوسف في ثوبها الأسود تبذل خطوات متعثرة. كان زوجها يحيط كتفيها بذراعه، بينما رمت رأسها على كتفه، وهي تسرف الدمع، وتجفف الدمع، وبين آن وآن كان زوجها يأخذ من يدها المنديل، ويجفف بدوره دمعه. وكانت بين الجمهرة الصغيرة نساء في ثياب الحداد يتفرقن هنا وهناك، بعضهن يبكين، وبعضهن الآخر لا يبكين، وبين هذا البعض الآخر كانت الخادمة التي اكتشفت موت يوسف، لكن في تقاطيعها ينبت بغض شديد. كانت ترتدي أحسن ما لديها من ثياب، وكأنها في صدد الذهاب إلى عقد قران، وقد أمسكت بكل يد أختًا من أختي يوسف، إحداهما كانت تبكي، والأخرى لم تكن تبكي. وعندما تلاقت عينا الطفلتين، أخذت من تبكي ترسل الضحكات الجزاف دون أن تكف عن البكاء.
كان بين الجمهرة الصغيرة أيضًا شريف وعدنان، لم يكونا حزينين، لكنهما كانا يتهامسان بحذر.
همس شريف من طرف شفتيه:
- اعتقلوا مازن ليلة أمس.
تفاجأ عدنان:
- ماذا؟
- ينشطون في البحث عن الجميع.
- كيف جرى ذلك؟
- لا ترفع صوتك، وكن طبيعيًّا.
- كيف جرى ذلك؟
- بعد الحصار وجدوه، فأخذوه.
- انتبه جيدًا.
- ماذا؟
- لا تنس أننا مطاردون، وسيغفر لنا يوسف احتماءنا بنعشه... حذار!
وفي نفس اللحظة، تقدم، في خط متوازِ معهما، شخصان غريبان في اللباس المدني.
- سنستغل الجنازة لتغطية انسحابنا.
- هناك خوف على (( الفلاح )) وباقي الرفاق.
- ماذا؟
- أقول هناك خوف على...
- احترس!
وقبل أن يصبح الرجلان على مقربة منهما، قال عدنان بسرعة، ورأسه في استقامة:
- جاءني أمر بدخول شرق الأردن الليلة.
انتهره شريف:
- اسكت! اسكت!
سار الرجلان بمحاذاتهما، بينما آخران، أحدهما يرتكز على الحائط، وثانٍ يضع على عينيه نظارة سوداء، قد تحركا في اتجاههما.
نقل شريف وعدنان القدم بخفة حيث النعش، وأخذا مكان من يحملانه في المقدمة.
- سيلقون القبض علينا لا محالة.
- ليس في قلب الجنازة.
انعطفا بالنعش في اتجاه الكنيسة القائمة على بعد خطوات، وفي نفس الوقت، توقفت سيارة عسكرية عند زاوية الطريق، وهبط ثلاثة من الجنود المدججين، وهم يركضون في اتجاه الجنازة. لحظتذاك، فتح الخوري ذراعيه استقبالاً للجثمان، بينما عجل عدنان وشريف الدخول إلى الكنيسة، فتعثر قدما من ينقلان النعش في الوراء، وانتفخت أوداجهما للحمل الثقيل، وللحركة السريعة.
أقامت الجمهرة الصغيرة حاجزًا ما بينهما وبين الجنود الإسرائيليين، حاول الرجال الغرباء أن يدفعوا الأكتاف المتراصة ليصلوا إليهما، فأثار ذلك بعض التساؤل والقلق على وجوه بعض الموجودين، ولم تكف أم يوسف عن ذرف الدموع. بدأت المراسيم، وهناك ثلاثة صفوف ما بين شريف وعدنان، والرجال ذوي السحن الغريبة. أشعل صاحب النظارات السوداء في المكان المقدس سيجارة، فحدجته امرأة حدجًا متواصلاً، لكنه تجاهلها تمامًا.
كان هناك باب إلى جانب، اختطف عدنان وشريف القدم إليه، فسحق صاحب النظارات السوداء سيجارته، وخف إلى اللحاق بهما، تبعه ثان، وثالث، لكنهما أوصدا الباب بالمفتاح. خلال ذلك، حصلت ضجة في القاعة المقدسة، وارتفعت همهمات مستنكرة. توقف الخوري عن إتمام المراسيم، وعقد ذراعيه على صدره. تدافع الرجال الأربعة في طلب باب الخروج، وبعض الكراسي تسقط. استدارت الرؤوس دَهِشَةً، وما لبثت أن استقرت على الخوري من جديد، ففك الخوري ذراعيه، وعاد إلى مراسيمه.
في الأخير، حملوا النعش، بينما يتقدمه الخوري، ونهض الجميع، والخوري يلتفت إلى الباب الجانبي. وقبل أن يخرجوا بالنعش، انفتح الباب الجانبي، وظهر عدنان وشريف في ثياب الرهبان، وهما يحثان الخطى، وبيد كل منهما قنديل يفوح بالبخور.
بدا الخوري في المقدمة، ثم كلاهما، فالنعش، وبعد ذلك كانت الجمهرة الصغيرة التي ازدادت عددًا والتصاقًا، وارتفع صوت الخوري بالترتيل. مر شريف وعدنان في ثياب الرهبان برجال المباحث، وهم ينقبون عنهما بين الناس، ومرا بالجنود دون أن يكتشفوهما. ركض قسم منهم إلى الكنيسة، من جديد، وقسم آخر إلى السيارة العسكرية، وتوقفت النساء تمامًا عن ذرف الدمع بمن فيهن أم يوسف، حتى وصلوا المقبرة.
أثناء عملية الدفن، تسلل شريف وعدنان بين القبور، ومن فوق السور هبطا، وراحا يجريان في طرف من خلاء. وفيما هما يخلعان ثياب الرحمة، أحاطت بهما أسلحة العدو من كل جانب.

* * *

أعطى الجنود الإسرائيليون لأبي شريف ومازن وأمهما مهلة نصف ساعة لإخلاء مسكنهم، فأخذا يلقيان بالأمتعة من النافذة، والجنود يزرعون الديناميت لنسف المسكن. تجمع بعض الناس بغضب، ولكن بعجز أيضًا، ولم تستطع الأم أن تحتمل أكثر، انهارت دفعة واحدة، وراحت تصرخ، وتبكي. وما أن مضت نصف الساعة، حتى سمعت نابلس كلها الانفجار الهائل الذي جعل من بيت شريف وأخيه وأمه وأبيه ركامًا من الجحارة تزفر بالغبار والدخان، وكانت في بحيرة السماء بعض المراكب الذهبية التي تستعد للإيجار.

23
- اضربه على قفاه!
انفجرت قهقهاتٌ ثلاثٌ أو أربعُ من أفواه الجنود الإسرائيليين الواقفين قرب باب الزنزانة. كان أحدهم يقبض على عصا طويلة من النخيل، ويدفعها بقوة، دفعات متتالية، محاولاً إصابة عبد القادر، وعبد القادر كالسعدان، يقفز فزعًا، من جهة إلى أخرى، كي يتفاداها.
- اضربه، اضربه على قفاه، اضربه!
اختطف جندي العصا من زميله، ودفع كتفه بين القضبان، ولحمه المضغوط يتوتر بين أصابع الحديد. وبمد الذراع، أخذ يلوح بالعصا كالمسعور في وجهه، حتى جمده على الجدار. فغر عبد القادر فمه، وأصاب الحول عينيه. أعطاه في بطنه، فتقوس مطلقًا الأنات تلو الأنات. وأعطاه في وجهه، فحفر ذقنه، ولم يتوقف عن إطلاق الأنات. وهم، كانت خواصرهم تكاد تتمزق، من كثرة الضحك.
- هكذا، هكذا!
وهو يدفع العصا في قلبه على التوالي، إلى أن قفز عبد القادر مهمهمًا، مهمرًا، قاصدًا الفتك به، لكنه تقهقر في اللحظة المناسبة، وضحكهم لا ينتهي. أنشب عبد القادر مخالبه في القضبان، والقضبان الصلدة لا تهتز، بينما أصابت الجندي لمسة من الجنون، فاهتاج هو الآخر، وراح يهوي بالعصا على أصابع عبد القادر، فيهمهم عبد القادر من جديد، ويهمر، وبتحدٍ يائس أكثر، يحاول القبض على العصا.
- إياك والعصا!
- هل أنا مجنون كي أعطيه العصا!
- إياك والعصا! إياك والعصا!
ضربت صدر الجندي لهثة قوية، بينما انسكبت دماء عبد القادر، وصبغت أرض القفص. كان وقت راحتهم! تعرى بعضهم، فلبسوا سراويل قصيرة، وناموا في الشمس. كان في ساحة السجن حبل نشروا عليها بعض الألبسة العسكرية، وعندما تمزقت حنجرة عبد القادر من شدة الصراخ، أزاح أحد الجنود المستلقين قبعته عن وجهه، وثنى رأسه إلى الجهة التي كانوا فيها، فلم يتبينهم تمامًا لانهمار الأشعة، بدوا كخيالات ضخام على الأرض.
صاح بهم:
- كفوا عن الضجيج!
لكنهم شتموه:
- اذهب إلى حضن أمك لتهزك أحسن لك!
قذف قبعته مهتاجًا، ونهض صوبهم.
- تعال... تعال، تعال نتسلى قليلاً.
وعلى مرأى الدم الصابغ للأرض والقضبان بالعنفوان، قضم شفته السفلى، وأخذ يردد:
- أيها المماحين الكبار! أيها المماحين الكبار!
قفز أحد الجنود في الهواء، وركل عبد القادر، فانفجروا جميعًا بضحكة واحدة، بينما سقط السجين على ركبتيه، وهو يطلق الزفرات تلو الزفرات. قبض جندي آخر على العصا، وانقض على عبد القادر، يريد شج رأسه، إلا أنه استطاع أن يظفر بها هذه المرة، تشبث عبد القادر بالعصا بكلتا يديه، وانتزعها منه، وهو يرفعها إلى أعلى.
- حذار! حذار!
أخذت عبد القادر لذة ماردة، وهو يكسرها، محيلاً إياها إلى قطع صغيرة، وهمهمة مشحونة بسعادة شقية، أخذ ينزف معها صدغيه.
- هذا يسمى بلعب الأولاد!
- لقد فاجأني!
- هذا يسمى بلعب الأولاد!
- لقد فاجأني! لقد فاجأني!
- هذا يسمى بلعب الأولاد!
- لقد فاجأني! لقد فاجأني! لقد فاجأني!
انقض أحدهم على عبد القادر، وبظاهر البندقية، شج رأسه، فدوت في أروقة السجن صيحة عذاب هائل، ضج الجنود لها، وهم يقهقهون بطرب حيواني أثقل أصداغهم، ثم راحوا يصيحون ببعضهم:
- انتبهوا! انتبهوا! ضابط السجن يتقدم!
ضابط السجن... أو: شابان ديفيد!
أدى أحد الحراس التحية للضابط الذي كان يتقدم من بداية الرواق، بعكازين، وذلك بسبب ساقه اليسرى المبتورة. وإلى جانبه، كان شاويش السجن يخب بقامة ليست طويلة ولا قصيرة، وبوجه حجري، وأنف غير عادي، وشعر محلوق على الطريقة الإنكليزية، كما هو واضح من رقبته وسالفيه ما دون الكاسكيت، وعصا عاجية تنتهي بقطعة جلد سوداء يضغطها تحت إبطه. وكانت خطواته عسكرية سريعة كي يتمكن من اللحاق بضابطه الذي ما أن يضع قدمه السليمة على الأرض حتى ينقل عكازيه في حركة دائرة وخفيفة كدولاب مطاحن الهواء.
سأله شابان ديفيد، وتقاطيع وجهه المحترق تقترب وتبتعد بصدام مستمر:
- وهل هم كثيرون؟
- مجموعة لا بأس بها، يا سيدي الضابط.
- عددهم؟
- حوالي العشرة، يا سيدي الضابط.
لكز الشاويش بقدمه السطل المعترض لطريقه، فسال ماء قذر مغطيًا مساحة كبيرة من الرواق. رفع (( الممحون ))، الراكع على أطرافه الأربعة، وجهًا يطفح همًّا، وعاد يمسح الأقذار، فقد كان ذلك أمرًا:
- عشرة؟
- نعم، يا سيدي الضابط.
برقت عيناه السوداوان، ماج بحر الفحم فيهما، وتوترت ثنية قاسية تحيط فمه من زاويتيه. رأى بعض جنوده، وهم ينسحبون من أمام زنزانة عبد القادر، لينضموا إلى آخرين في أقصى الساحة. توقف ليشاهد بدوره حيوان الحديقة، فرفع عبد القادر إليه وجهًا عفنًا بجروحه، بينما سالت رغوة بيضاء من فمه لتنسحق مع الدم المتفجر وسط ذقنه. تحامل عبد القادر على يديه وقدميه، ونهض ليبدأ في عزف سيمفونيته من جديد: مهمرًا، مهمهمًا، نابحًا، وقد أنشب مخالبه المقتلعة في القضبان دون أية فائدة.
قال شابان ديفيد بشأن عبد القادر جملة واحدة مقتضبة:
- يجب إرساله إلى المصحة!
انزمت عينا الشاويش، وانفردتا بطريقة آلية، وبقي له وجه الصنم النحاسي، دون أن يفوه بكلمة. أعاد شابان ديفيد:
- يجب إرساله إلى المصحة!
اضطر الشاويش إلى القول أمام إلحاحه:
- هناك كثيرون مثله، يا سيدي الضابط.
لكنه بذل خطوة عرجاء، وأعاد للمرة الثالثة:
- يجب إرساله إلى المصحة!
هتف الشاويش منبهًا:
- إنه يتظاهر بالجنون، يا سيدي!
تحرك شابان ديفيد دون أن يزن ذاته، فتناوله عبد القادر من ذراعه، وحاول أن ينهشه، لكن الشاويش انهال على رأسه بعصاه العاجية، وهو يزمجر، حتى خلصه من أنيابه:
- يا لهذا الكلب المجنون!
سوّى شابان ديفيد بذلته العسكرية، وبذل خطوة نحو الشاويش قائلاً بسخط:
- يجب إرسال هذا (( الكلب المجنون )) إلى المصحة.
وتابع طريقه تاركًا الشاويش معجونًا من ورائه، وهو ينسق بين حركة قدمه وعكازيه بقدر يبعده عن عبد القادر بأقصى سرعة. اضطر الشاويش إلى أن يعجل خطوه من ورائه حتى لحق به، وسار جنبًا إلى جنب معه. ومن خلال الأعمدة الموازية للرواق، شاهد الجنود ضابطهم وشاويشهم عندما صعدا الدرج الضيق إلى المعبر القصير المنتهي بحجرة التعذيب.
جلس شابان ديفيد من وراء الطاولة القصيرة بعد أن وضع العكازين فوقها، وراح يجسّ بأصابع متوترة ساقه المبتورة، وهو يشنك، فتضوي أسنانه، دون قصد، في ذاك الوجه المشوي، وجهه، والذي ظل جافًّا كقشور البلوط اليابسة. انتبه إلى باب الحجرة ينفتح، ليدخل أحد الحراس، وهو يدفع أمامه عدنان وشريف ومازن، وأيديهم في القيود. التفت الشاويش، المتفقد لطاولة التعذيب، إليهم، وهو يدور على كعبه، ثم تقدم بخطوات سريعة، وهو يضرب كعبه في الأرض مع كل خطوة، بينما دغدغت ذقنه نشوة عارمة. كانوا يأتون بقاماتهم الفارعة حتى عقر داره، ليعطيهم، (( هو ))، عقابهم! راح شابان ديفيد يتابع بعينيه السوداوين قاماتهم الفارعة تلك، ويرى من بين الظلال والأضواء أنه (( يستطيع )) أن يرى- من بين الظلال والأضواء- في عيونهم حكايا كثيرة عن الشباب والتحدي وتمرد الشباب والآمال وكبرياء النفس وعنفوان النفس والحقد القوي والحقد على القوي. جذب بقوة شعر رأسه، وإذا بصفعة هائلة ترن في الأجواء، وبهذا الصوت الجهوري:
- رقمك، مهنتك، عنوانك؟
راح شابان ديفيد يرمق الشاويش، وهو ينقل على يده بعض الأوراق مقلبًا إياها. كان لا يبدو عليه أنه بذل جهدًا إثر الصفعة التي سدد بها وجه شريف. كان لا يبدو عليه أنه يتنفس (( كالآخرين! )) كان فمه مطبقًا، وفتحة منخريه ليست بائنة. لا، إنه لا يتنفس (( كالآخرين ))، ولا بد أنه (( يحيا )) دون دورة دموية! اشرأب شريف بعنقه إلى أعلى، بينما اهتزت بكرامة خصلات شعره الأسود، وبدا أنفه الشامخ معتزًّا.
صفعه مرة أخرى:
- رقمك، مهنتك، عنوانك؟
قال شريف رقمه ومهنته وعنوانه، وصار له وجه من لهب. كان عدنان قد سما بعنقه هو الآخر إلى أعلى، إلى أعلى، فانحرف وجهه المورد قليلاً، وكأنه يقول للشاويش، هأنذا أعرض لك خدي كله، لأسحق صفعتك.
وصفعه:
- رقمك، مهتنك، عنوانك؟
فلم يقل له رقمه ومهنته وعنوانه.
سقط عليه بصفعة أخرى، وسدد بحذائه ساقه، وقد ضربت صدره لهثة. بصق عدنان في شاربيه، لينقض عليه الشاويش ممسكًا إياه من خناقه، وهو يصيح مهتاجًا:
- أيها العربي الخنزير!
أدناه من طاولة التعذيب، وفي نفس الوقت، هرع اثنان ضخمان من الجلادين إليه ليحملاه، طرحاه على الطاولة، وعدنان يصيح بأعلى صوته:
- فاشست! فاشست!
لكنهم قيدوه.
في الزاوية، رأى فرنًا فيه نار، ومن جوف الحائط المواجه، انبثقت خزانة حديدية مفتوحة، لكنه لم يستطع تبيان، حتى تلك اللحظة، فحواها. كان كل ذلك يبعث على السحر، حلّق شعبان كالعصفور، وذهب في غيبة قصيرة، ثم انطلقت في رأسه زقزقة الأفراخ: (( حجرة تعذيب! حجرة تعذيب!)) كان ذلك يُسمى لهوها، فهي لا تدرك ما تعنيه حجرة التعذيب، رغم وقوعها في نفس الحجرة، وتهديدها بنفس الخطر. وكان ذلك يُسمى سَهْوُهُ، رغم قابلية اللمس لكل شيء فيها، ويقينه الأكيد.
هوى الضابط بكفه على شعبان، وبصفعة هائلة لطمه، فدك صُدْغَهُ دكًا، وراح يهدر:
- سأؤدبك أيها الولد الأحمق! سأؤدبك!
رفع الضابط يده كمايسترو، وأنزلها، فذهب الموسيقيون في عزف غريب. بدأت نغمة الكرة الجنزيرية منسابة إلى أن دخلت في ذلك النشاز المتواصل، بمهارة فائقة أبداها العازفون. أخذت البكرة تدور، وتدور، والذراعان الحديديتان تتلولبان، تتلولبان، بينما رفع شعبان الكُلابان قليلاً إلى أعلى، وحدث صرير جاف، وأزيز صدئ لجر وسحب. راحت الذراعان الحديديتان تسيران في اتجاهين متعاكسين، بينما انفرجت ساقا شعبان، وانفسخت فخذاه حتى أحس في عضوه توترًا تبعه تقلص إبري: كانوا على وشك أن يمزقوه.
- فاشست! فاشست!
ارتفعت العصا العاجية، وهبطت، ارتفعت، وهبطت، ارتفعت، وهبطت، حتى دقدق فمه. تفجر ينبوع الدم، ولم تتوقف صيحات عدنان أيضًا عن التفجر:
- فاشست! قتلة!
كانت قطعة كبيرة من الإسفنج على مقربة من الشاويش، التقطها، وحشا بها فمه، و صرخ بأعلى صوته:
- عذبوه!
فسخوا لحمه، فصاح شعبان صياحًا مجنونًا مع الضغط الرهيب للملقط الباعج لصدغيه، الداكك لأذنيه. رفسته قوة مهولة من أعماقه، فتقوس ظهره المعاكس لضغطٍ استطاع مقاومته، وتشنجت أصابع يديه المكبلتين، أصابع يديه النحاسيتين تشنجت، وشعبان يبدو كالوردة اليانعة.
صار اللهب في صدغيه، اللهب في عينيه، اللهب في أعماقه، في حشاشته، في قلبه، في عروقه، في حاضره، في تلك اللحظة من حاضره، في اختصار حاضره كله بلحظة واحدة فقط من عمره. هب شابان ديفيد واقفًا، وهو يقبض على عكازيه، حتى طاولة التعذيب، ونبر:
- كفى!
لكن الشاويش بقي ينقض على الضحية، وعيناه المتفجرتان تسيلان دمعًا، وشاربه الرطب يتناثر عرقًا، وشفتاه تنزمّان عن ابتسامة ليست مقصودة، وقد أطبق كفه بكل قواه على الفم المحشو بالإسفنج، وشابان ديفيد ينبر مهتزًا:
- كفى! كفى!
كفوا عن تعذيبه بعد أن راح يسيل من بين فخذيه، فسقوا طاولة الغاب...
لف الشاويش على كعبه، وفتح فمه ليحتج، لكن بحر الفحم المائج في عينيه قد أغرقه، فظل فمه مفغورًا. قفز شابان ديفيد، وسحب قطعة الإسفنج من جوف عدنان، وهو يقع على أنفاسه في اللحظة الأخيرة، ثم سكنت حركاته تمامًا. جفف شابان ديفيد عرق جبينه أثناء عودته إلى كرسيه، بينما رفع الجلادون عدنان، وألقوه في إحدى الزوايا. عند ذلك، عادت (( الحياة )) تسري في عروق الشاويش، فانتفض، وهو يفرك يدًا بيد، متوجهًا صوب شريف ومازن:
- لقد شاهدتما كيف كان عقابه، وسيكون نصيبكما أسوأ بكثير إذا لم تجيبا جوابًا وافيًا على أسئلتي التالية.
بين كلمة وأخرى، كان الشاويش يرمي شابان ديفيد بنظرة هيابة، فهو ضابطه المسؤول على أي حال. لقد ظن أنه لم يحسن التصرف، فسبب لضابطه بعض الحنق.
قهقه هارون، وقال ساخرًا:
- أخرج منها!
فكرر شعبان، وقد مات شيء في رأسه:
- إنها لا تهمني على الإطلاق، إنها ستبقى حربكم.
تضاعفت التجعدات حول فم هارون، فقال، وهو يجمع جرأته:
- ولكنك بحاجة إلى نصير، أنت، إن في رأسك من الأفكار ما يمكنه تغيير وجه العالم.
- وماذا يمكنني أن أفعل وهذا هو أنا؟
- آه! يمكنك أن تفعل العجب العجاب لو كنت يهوديًّا!
ابتسم ابتسامة طفيفة:
- أعرف هذا... لو كنت يهوديًّا!
سارع هارون إلى القول، وهو يحاول أن يقطع آخر دورة من سباقه معه بخطوة واحدة:
- أو لو كان لك نصير يهودي.
دفع يدًا نافرة العروق في وجهه:
- إنني لن أقدر على شيء، لن أقدر على فعل أي شيء، إذا ما وقعت، حتى ولو كنت يهوديًّا.
راح الشاويش يدق الأرض بكعبه، وهو يصيح، ويكشر عن أسنانه:
- فدائي أم غير فدائي؟
بعد قليل، سمع هارون يصيح بلهجة صافية تمامًا من ورائه:
- إنني أطلب الزواج من أمك.
- فدائي أم غير فدائي؟
قال شريف بنبرة متماسكة:
- فدائي.
أطلق الشاويش نفسًا قنفذيًّا، وسأله بلهجة استنطاق بوليسية سريعة:
- الحركة التي تنتمي إليها؟
لكنه بقي يطبق فمه، فدقه بعصاه العاجية في كتفه:
- الحركة التي تنتمي إليها؟
قال شريف:
- الوطن.
ودقه بعصاه العاجية في كتفه:
- الوطن؟
- الوطن! الوطن!
ودقه بعصاه العاجية في كتفه:
- أنا لا أمازحك، يا هذا!
ابتسم شريف بمرارة، وقال بهدوء وألم:
- وأنا أيضًا، أنا لا أمازحك بتاتًا.
تلوح الشاويش غضبًا، وعاد يدق الأرض بكعبه:
- سأجبرك على الاعتراف، وستعترف!
استدار إلى الناحية التي فيها مازن، وهمهم كالكلب الأرق:
- أفراد الحركة التي تنتمي إليها؟
أجاب مازن، وهو يركز النظر في عيني أخيه:
- الشعب!
لم يتمالك الشاويش نفسه عن قذفه بعصاه العاجية، ففلق له جبينه. بعد قليل، سمع هارون يصيح بلهجة صافية تمامًا من ورائه:
- إنني أطلب الزواج من أمك.
- وذاك الصدى:
- الشعب! الشعب!
وعلى التو، أحس شعبان كمن أهوى أحدهم بعصا من نحاس، وبكل قواه، على أذنه، فدارت به الأرض.
ولم يزل الصدى:
- الشعب! الشعب!
فكر شعبان في الحقل الذي لأمه، فلم يتمالك عن غيظه، انحنى على الأرض، تناول حجرًا ضخمًا، رفعه بيده إلى أقصى ما يكون، وصاح من فوق رأسه:
- إذا بقيت حطمت عظمك، اذهب، هيا، اذهب!
راح الشاويش بهستيريا يردد:
- انتظروا! انتظروا!
اتجه بخفة صوب الباب، وفتحه، فإذا بشريف وجهًا لوجه مع أسعد الذي غدا هزيل القامة، وله وجه بلون الحليب. جذبه من يديه المكبلتين، وبعد أن أمر الحارس المصاحب له بالمغادرة بهزة من رأسه، دفعه تحت قدميهما، فاعترك حاجبا شريف استنكارًا، بينما قست عنق مازن بالدهشة.
توجه الشاويش إلى شريف:
- أتعرفه؟
وقد دفع عنق أسعد إلى أعلى، شادًّا إياه من شعره:
- لا أعرفه.
- أعرف أنك تعرفه.
أضاف، وأسعد يئن:
- لقد اعترف بكل شيء! قل إنك تعرفه؟
- إنه ليس منا.
- ليس منكم؟ كيف؟
- إنه ليس منا.
- من أنتم إذن؟
-.........
- من أنتم؟
رشف شعبان قهوته، وجميعهم ينظرون إليه بعيون يبست، وقد زحف على وجوههم قلق رهيب. كانوا ينتظرون جوابه، وهم على أحر من جمر الغضى، يريدون أن يعرفوا من هو. وبعد أن تركهم يفكرون فيمن عساه يكون، قال، والرؤية في عينيه تطوف، والرؤية في عينيه تميد:
- أنا يهودي، مثلك تمامًا، يا هارون!
مزق الشاويش عن ظهر أسعد، وبعصبية، علك الرداء بين أصابعه، وقذفه، ثم ثناه عاريًا حتى الحزام، وأخذ بغضب يهمهم:
- سنعرف من أنتم بعد قليل، سنعرف من أنتم.
بينما تقدم من أقصى الحجرة أحد الجلادين، وهو ينقل في قبضته ملقطًا يعض سيخًا من جمر.
ثارت ثائرة شريف ومازن:
- فاشست! جلادون! برابرة!
دون أن ينجحا في الإفلات من القبضات الحديدية.
كان شابان ديفيد يتفصد عرقًا، وبحر الفحم في عينيه يتموج نارًا. لم يحتمل أكثر، دفع عكازيه، تحت إبطيه، وبحركة ليست صبورة، غادر حجرة التعذيب. وهو يهبط الدرجات، وصلت إلى أذنه صرخات أسعد التي هزت جدران السجن إثر الكي في ظهره.

* * *

كان الممحون يمسح الغبار عن البرواز الزجاجي بواسطة فرشاة من الأرياش، وهو يقف على كرسي. وفي الأخير، أَمَرَّ ساعده على الزجاج، وتأكد من نظافته. وضع الممحون قدمًا على الأرض، بينما أبقى الأخرى على الكرسي، وراح يتأمل الصورة: بطل العالم لحمل الأثقال! تساءل في أي عام حصل على البطولة، وما لبث أن استدار برأسه في أنحاء الحجرة، وهو يرمي بقدمه، التي ظلت معلقة على الكرسي، على الأرض، ليشاهد من فوق السرير ذي الأقدام القصيرة، على الجدار، مجموعة من الصور الملونة لشبان يقومون بعرض كمال الأجسام، وكلمات بالعبرية على مربعات بيضاء ألصقت تحت كل صورة. أزاح الممحون سطل الماء إلى جانب، وجر السرير، بحيث سمح له ذلك بأن يتقدم، ويقف ما دون الصور. أخذ يعمل بفرشاته عليها، وتكات دقيقة من الغبار تتحول إلى هوام مجنون في سطور الشمس المتشكلة عبر قضبان النافذة المفتوحة. ألقى الفرشاة على الطاولة القصيرة، وانحنى ليدفع السرير إلى مكانه، وفي تلك اللحظة، انفتح الباب، ودخل الشاويش:
- أنت هنا!
اعتدل الممحون، والشاويش ينفخ بوجه منتفخ يتصبب عرقًا:
- اليوم خميس.
أخذ الشاويش يفك أزرار سترته:
- تقصد موعد تنظيف الحجرة؟
- نعم.
نزع الشاويش سترته، جفف بها عرقه، وألقاها في سلة المهملات، وهو يقول:
- للغسيل.
دفع السرير بقدمه إلى أن ضرب الحائط، والممحون يحاول مساعدته، ثم ارتمى عاريًا حتى وسطه، وهو يطلق عن عمد زفرات متتالية ذات إيقاع مميز. التفت إلى الممحون الذي وقف ساكنًا دون حراك، وقال:
- تستطيع أن تكمل عملك.
قال الممحون دون ارتباك:
- أردت أن أكلمك.
- ليس الآن، واصل عملك!
طوى الممحون بنطاله الكالح الزرقة إلى ما فوق الركبتين، ثم أكمام قميصه حتى زنديه، وغطس بكلتا يديه في السطل، رفع ممسحة مثقلة بالماء، وألقاها على الأرض، جثم فوقها، وأخذ يدعك البلاط.
قال الشاويش متهكمًا:
- هذه مهنة لا بأس بها!
امتطت عنق الممحون القصيرة، وهو يداوم على دعك البلاط، بينما بقعت شفتيه نصف ابتسامة.
قهقه الشاويش، رفع ساقيه، ورماهما بطولهما على السرير، فقال الممحون:
- لقد تعلمت هذا في السجن.
فجأة، دفع الشاويش إبهامه بين فكيه، وراح يقرض إظفاره، ودون أن يتوقف عن ذلك، أخذ يقول:
- لم تضع وقتك سدى! هناك من يضيعون وقتهم سدى أثناء حبسهم، حتى ولو طال الأمر بهم سنوات، ولا يكتفون بذلك فقط بل ويضيعون وقتنا نحن أيضًا.
قذف إبهامه ملصقًا إياه على فخذه، وفجأة، عاد يدفعه بين فكيه قارضًا إظفاره من جديد، وهو يحرك رأسه حسب دائرة الإظفار، ويقول:
- أما أنت، فلم تضع لا وقتك ولا وقتنا، أنا مسرور منك، أنا مسرور منك كثيرًا.
أخذ الممحون يزحف رجوعًا إلى الوراء، وهو يدعك البلاطات واحدة واحدة. قذف الشاويش إبهامه ملصقًا إياه على فخذه، وقد راح العرق يسيل من وجنته، فذقنه، فصدره، في شعب كثيرة:
- نعم، قليلون من هم أمثالك. وخلال خدمتي الطويلة كحارس وأنباشي وشاويش منذ قيام دولة إسرائيل حتى حرب الست ساعات لم أصادف سوى اثنين مثلك في سجن عكا، ومنذ حرب الست ساعات إلى اليوم وجدتك أنت، فهمتني، فأعجبت بك.
قال الممحون، وهو يقف على ركبتيه:
- تريد القول حرب الستة أيام.
قهقه الشاويش، كأن سيول العرق كانت تدغدغه:
- إذا شئت! (سكت قليلاً ثم أضاف): بالقياس، أقول بالقياس... هي حرب الستة أعوام، أو لنقل...
جمد رأس الممحون مفكرًا ككرة الشمع، وغاب الشاويش قليلاً، ثم راح يقول بصوت واطئ:
- نعم، قليلون من هم أمثالك!
رفع أصابعه أمام عينيه، وراح يتأمل قممها ذات الحزوز المشربة حمرة. فكر: (( حرب الستة أعوام! )) منذ قليل، كانت الحرب ناشبة في حجرة التعذيب، وقد كان القائد! تساءل: أحقًا ربحنا (( حربنا )) في ساعات؟ وانتهت حربنا؟
قال الممحون:
- لم أعد أهتم بالحرب.
جلس الشاويش على حافة السرير، وأكد:
- بالطبع.
ثم توجه إلى سلة المهملات، تناول منها سترته، وراح يجفف بها عرقه، وهو يدور في الحجرة:
- من الطبيعي ألا تهتم بعد بالحرب.
قذف الشاويش سترته في جوف السلة، وقصده أن يسدد هدفًا، لكنها سقطت على الأرض، وظلت ذراع السترة تتعلق على حافتها.
- ليس لأني جبان.
- من قال عنك جبانًا؟
- أردت أن أوضح لك.
تقدم الشاويش من الممحون خطوتين، وهو يميل، وذقنه تومئ بتواصل:
- أنت لست جبانًا، أيها الجرذ الصغير! أنت بطل معارك!
لم يستطع الممحون أن يديم النظر في عينيه المستفزتين، فانهمك يدعك البلاطات بلاطة بلاطة، في رجوع متواصل.
همهم الشاويش:
- استطعت أن تتدبر أمرك، أيها الجرذ الصغير!
نهض الممحون، وفي جوف السطل رمى الممسحة، وقبل أن ينحني لتناولها من جديد، تلقف الشاويش ذراعه، فصفقت أوداج الممحون، وخرج صوته مطنبًا:
- أيها الشاويش!
خبط الشاويش كعبه في الأرض، ودار، فإذا بذراع الممحون ملوية من ورائه، وكتفه مشدود إلى صدر الشاويش الذي راح يلهث للقوة التي بذلها:
- كيف استطعت أن تتدبر أمرك، أيها الجرذ الصغير؟
والممحون يطنب دومًا:
- أيها الشاويش!
- أهم الضباط الأردنيون أم عساكرهم؟
لواه بكل قواه، فنفرت عروق كليهما، وغدا خفق الدم في عروق الممحون جزءًا من خفق الدم في عروق الشاويش. وبضغطة بسيطة على ذراعه المعصورة، تقوس الممحون إلى الأمام حتى صارت مؤخرته جميعها في حضنه. وفي الأخير، لحس إصبعين، أَمَرَّهُمَا على ساعده، وهو يقول: (( بوظة! )) ثم أطلقه:
- هأنذا أطلقك.
رفع الممحون رأسه، فالتقى بفخذين جميلتين لفتى يعرض جسمه في الصورة المواجهة. لم يمسك نفسه عن القول:
- أيها الشاويش، لقد أردت أن أقول لك...
نبر الشاويش قالبًا السطل بقدمه:
- واصل عملك!
اندلق الماء، وصارت أرض الحجرة بركة. عندما وصلت موجة الماء إلى قدميه، أحس الممحون بفقدانه لتوازنه، فجثا، وأخذ يجمع الماء بالممسحة، ويعصره في السطل. فجأة، أخذت الشاويش هزة ليست متوقعة:
- لقد كنت عضوًا في عصابة شتيرن!
كان الممحون يعرف، فقد قالها له أكثر من مرة.
- أعرف.
لكنه تابع:
- وماذا أيضاً؟ في الوقت الذي وافقت فيه بعض قيادات الأرغون على الهدنة مع حكومة الانتداب، أثناء الحرب العالمية الثانية، عارض صديقي أفراهام شتيرن تلك الهدنة، وأعلن عن تشكيل منظمة المقاتلين من أجل حرية إسرائيل.
- قلت لي ذلك.
- إنها عصابة شتيرن، وقد كنت عضوًا فيها!
- ولقد شاهدت مقتل شتيرن عام 1942.
تقوس الشاويش من فوقه منفجر العينين، ونبر:
- لم يمت شتيرن! لا، لم يمت!
عندما رأى علامات الاستياء في عيني الممحون، راح بصخب يكرر:
- لم يمت! لم يمت!
قال الممحون كأنما هو ينفي تهمة:
- وما دخلي أنا في الموضوع؟
اعتدل الشاويش، وراح يبرم شاربه:
- كان شتيرن مصيبًا حينما رفض الهدنة مع حكومة الانتداب، ولماذا؟ لأنه يعرف أن في الهدنة تعويقًا لقيام دولة إسرائيل بحدودها الصغيرة. واليوم، دايان يرفض الهدنة مع حكوماتكم، لأنه يعرف أن ذلك يتنافى على الإطلاق مع قيام دولة إسرائيل، ولكن، بحدودها الكبيرة.
ثم أضاف، وبسمة ساحرة تهجم على شفتيه:
- إن شتيرن هو دايان بشكل أو بآخر، وإن كان الثاني يتسم مؤقتًا بسمة المعتدل!
عصر الممحون آخر قطرة لمَّها عن الأرض، فقذف الشاويش السطل مغرقًا الأرض من جديد، وراح ينقل خطواته في الحجرة متجاهلاً شكل الممحون المتلخبط همّا، همًّا (( مهنيًّا ))، وهو يقول:
- لذلك سميتها بحرب الست ساعات بعد أن حطمنا مطاراتكم... (لكزه بقدمه، فرفع نحوه الممحون وجهه المعصور، وأوطأ الشاويش صوته بعد أن شحنه بآهة): أشتهي عذابك! (فأشاح الممحون بوجهه عنه، أخذ ينقل الماء، ويعصره في السطل، وقد عاد الشاويش يقول بنبرته الأولى مكملاً ما بدأه): وبعد أن تأكدت لنا حدودنا الجديدة. ولكن... ما دمنا نقف على حدودنا الجديدة، فالحرب ما زالت قائمة.
طرف إليه الممحون بعينه، فوجده يهتز طربًا.
- إذن، بالقياس، أقول بالقياس، الحرب ما زالت قائمة طالما حدودنا الجديدة ما زالت قائمة، هذا هو الوضع، وربما سيستمر ذلك ستة أعوام، ستين عامًا، ستمئة عامٍ... (سكت قليلاً ثم قال بحماس مفاجئ): احذف
(( ربما ))، احذفها... وسنضع في إستكم خازوقًا!
قفز الشاويش على السرير، نصب ذراعيه إلى الأمام، وأخذ يطويهما، ثم يفلتهما. عصر الممحون آخر قطرة من ممسحته، وقف أمامه بقامة قميئة، وجمجم:
- لقد أردت أن أكلمك في موضوع...
أخذ الشاويش يقفز تباعًا كأنه في سباق ثابت، أعاد ما قاله الممحون بصيغة سؤال:
-.... في موضوع؟
- أنت تعرف دون حاجة بي إلى قوله.
- لا، أنا لا أعرف! ... في موضوع؟
تردد الممحون، مسح أنفه، وهو ينشق، ثم قال:
- في موضوع إطلاق سراحي.
أوقف الشاويش سباقه، وقال:
- آه!
وما لبث أن بدأ عملية الشهيق والزفير: شهيق، زفير، شهيق، زفير، شهيق، زفير، لمدة دقيقة كاملة، ثم انكب على بعضه، وهو يلهث بطريقة متنافرة.
- منذ متى وأنت هنا؟
- منذ ما يقرب من عامين.
ركز الشاويش في عينيه النظر، ثم انفجر ضاحكًا:
- ولماذا لا تتم حياتك هنا؟ إنها حياة تناسب أمثالك أصحاب العضلات اللوزية والأفخاذ اللبنية الفتانة!
جلس الممحون على كرسي، وركن ذراعه على الطاولة:
- هذا شاقٌّ!
- أن تمسح البلاط مرتين في الأسبوع؟ كما يخيل لي ليس هذا بالشاق كثيرًا.
انحنت رقبة الممحون القصيرة بذل يومي، وقال:
- إنني...
ثم سكت، وراح يفرك جبهته. قال الشاويش:
- وماذا ستفعل إذا ما أصبحت (( حرًّا ))، هل ستعود إلى ممحناتك ونزواتك الصغيرة أم ماذا؟
هتف الممحون:
- سأبحث عن مهنة شريفة.
قهقه الشاويش قالبًا على ظهره:
- أيها الجرذ الأملس الفخذين!
- أقسم لك!
- ستعود إلى مهنتك الشريفة كسياسي خطير!
- إنني...
لكنه أخرسه:
- إنني أمنعك.
- لن أعود إلى السياسة، كما أقول لك! (سكت قليلاً ثم أضاف بلهجة مفكرة): بعدما دخلتم نابلس تبدل كل شيء.
- إنني أمنعك، ولا تنس أنني مقاتل قديم من أجل حرية إسرائيل! إن الحرية تعني الشيء الكثير، إن الحرية تعني الحرب!
- أعرف.
- إنني أمنعك، فالسياسة والاغتصاب واحد.
- أعرف، أعرف.
نهض، أقفل الباب بالمفتاح، واتجه نحو الممحون مرتخي الحنك، تحسس كرشه بأصابع مائعة، ثم جر كرسيًا، وجلس مقابلاً إياه، مدد ساعده اليمنى على الطاولة، وقال بلهجة آمرة:
- مد ساعدك.
مد الممحون ساعده، فالتصقت إحداهما بالأخرى، بحيث لامست قبضة كل منهما مرفق الثاني.
رفع الممحون على الشاويش وجهًا شيديًا، وقال برجاء:
- هل ستكلم الضابط بأمر إطلاق سراحي؟ قل لي بصراحة.
جعل الشاويش ساعده تقف مائلة على مرفقه، وحرك أصابعه على دفعات، ثم باعد بينها، وقال:
- سنلعب أولاً، وبعدها سأقول لك.
انزلقت أصابع كل منهما في أصابع الآخر حتى غدا من الصعب التمييز بينها.
قال الشاويش:
- حاول أن تضغطني إلى يسارك، وسأفعل بدوري مثلك، فإذا ثنيت ذراعي يعني أنك هزمتني، وعندئذ سأكلم الضابط بشأنك، وإذا ثنيت ذراعك يعني أنني هزمتك، وأنت تعرف ما الذي أريده منك إذا ما هزمتك.
سكت قليلاً ثم هتف بسرعة:
- واحد، اثنان، ثلاثة...
وبدأت معركة أخرى من معارك عضو عصابة شتيرن المقاتل من أجل حرية إسرائيل.

* * *

توقفت أمام بوابة السجن المركزي ثلاث شاحنات عسكرية، تسبقها كما تتبعها سيارتا (( جيب )) مليئة بالجنود. دبت حركة غير عادية لتماثيل الألم، ووقفوا في صفين مسلحين، من الرصيف حتى البوابة، ثم فتحوا الشاحنات، وأنزلوهم بقيودهم، ما يقارب المئة سجين. تبودلت صيحات متفاهم عليها في ساحة السجن بين الحراس، وقفوا وقفة استعداد، وكذلك جنود البرج الموجود في الزاوية. عندما قطع شابان ديفيد المسافة القائمة بين مكتبه الفخم والنافذة، كان السجناء الجدد قد بدأوا يتواردون حتى اجتمعوا في وسط الساحة. تقدم الشاويش وحارسان، وارتقوا مصطبة حجرية. أمر الشاويش السجناء الجدد بالجلوس على الأرض، وراح يخطب بهم. أنزل شابان ديفيد الستارة، وبعد أن تردد قليلاً، تقدم من مكتبة، تناول رزمة مفاتيحه، وغادر الحجرة بعكازيه المعهودين.
وهو يسير في الرواق، كان يتناهى إلى مسامعه صوت الشاويش الثاقب دون أن يتوقف بعد عن مخاطبة السجناء الجدد، التفت شابان ديفيد إليهم، فرآهم من بين الأعمدة، وهم يصغون بانتباه إلى تعاليم الشاويش:
- سنعمل على تقسيمكم حسب أعماركم لا حسب جرائمكم بسبب قلة الأمكنة الشاغرة لدينا، ولن نبدأ في التحقيق أو إعادة التحقيق معكم إلا بعد أن يدرس السيد الضابط ملفاتكم. وسنضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه القيام ببعض الحماقات التي تعرفونها جيدًا، إن الامتثال للأوامر الصارمة (رأى ضابطه، وهو يكسر خطواته على مقربة يسيرة منه) إن الامتثال للأوامر الصارمة لهو الطريق الأوحد للحصول على رضاء السيد الضابط الذي يمثل السلطة وينوب عنها في تمتين دعائم دار(( نا )) (وقف شابان ديفيد إلى يسار الشاويش، وراح يلقي النظر إلى وجوههم الشديدة السمرة واحدًا واحدًا) وليكن في علم الجميع أن الزيارات ممنوعة، وكذلك إذا كانت هناك مجموعة تشترك في حجرة واحدة، فالنوم في سرير لأكثر من واحد ممنوع (تحرك أحد جنود البرج، فتوقف شابان ديفيد عن النظر في وجوههم الشديدة السمرة، رفع رأسه إليه، وراح يرنو إلى القمر الوحشي بين ذراعيه، وهو يفكر: ماذا لو حصدنا جميعًا؟ وتجاوب في رأسه صدى فكرته: ماذا لو حصدنا جميعًا؟ ماذا لو حصدنا جميعًا؟ احتد صياح الشاويش): والآن، سنعطي كلاً منكم رقمًا آخر غير رقمه في سجن حيفا، ومن واجبكم حفظه عن ظهر قلب، فلن نتهاون أبدًا مع كل من ينسى رقمه. وبعد ذلك، سيُجري السيد الضابط توزيعكم في حجراتكم.
لم يزل الصدى يتجاوب في رأسه: (( ماذا لو حصدنا جميعًا؟ ماذا لو حصدنا جميعًا؟ )) وانتبه إلى الشاويش مخاطبًا إياه:
- سيدي الضابط، هل أقوم بعملية توزيع الأرقام أم أنك تريد القيام بها بنفسـ....
- أترك عملية التوزيع لك.
أخذته الحمية، فصاح بأعلى صوته:
- من يسمع اسمه، فليقف.
فتح ملفًا، وقلب ورقتين، ثم تنحنح، وعاد يصيح بأعلى صوته:
- سليمان سليمان محمد.
وقف صاحب الاسم: طويل، شديد السمرة، ناتئ عظام الوجه، يرفع كتفًا بينما ينزل الأخرى من تأثير ثقل القيد.
- الرقم 2715.
- أحمد محمد عبد اللطيف مصطفى.
وقف صاحب الاسم: طويل، شديد السمرة، ناتئ عظام الوجه، يحني رأسًا إلى جانب بلا مبالاة، وقد دفع يديه المقيدتين قليلاً إلى الأمام.
- الرقم 2716.
- طه القاسمي.
وقف صاحب الاسم: قصير، شديد السمرة... وشابان ديفيد يفكر دون توقف: (( ماذا لو حصدنا جميعًا؟ ماذا لو حصدنا جميعًا؟ ماذا لو حصدنا جميعًا؟ )) كان الشاويش لم يزل يعطيهم أرقامًا أخرى غير التي أعطوهم إياها في سجن حيفا، وها هو يصيح بأعلى صوته مناديًا عليهم واحدًا واحدًا أولئك المساجين القدامى. كانوا يقفون لمدة لحظة، ثم يعودون إلى الجلوس من جديد، وحتمًا كانت لهم أفكارهم، ولربما قال أحدهم لنفسه: طز، طز، طز! بالأمس قالوا لي سنفرج عنك، واليوم... هأنذا! تلفت آخر من حوله متفقدًا المكان الجديد، ولاحظ برج الحراسة، والجندي القوي، وسلاحه القوي، ولربما راح يفكر: ماذا لو حصدنا جميعًا؟ ماذا لو حصدنا جميعًا؟ وثالث لربما بصق، وهتف في سره: أولاد الكلب! رغم أن وجوههم قذرة إلا أنهم دقيقو الحساب! ولأنهم دقيقو الحساب تمنى لو يرشقهم بدقة! ورابع ربما ابتسم بمرارة، وفكر: كنت أنوي مغادرة الضفة، لكنما... لكنما هذه تسمى رحلة على أي حال! وسيتراءى لخيال رابع وخامس وسادس القفص الحقير الذي يدعوه الشاويش- وبكل وقاحة- حجرة، والسرير الخشبي أو الحجري الذي يحسدهم عليه، هذا إذا كان حقًا موجودًا، وحبل التحقيق الذي لا ينتهي حتى ولو طال الحبس سنوات وسنوات، والكابوس...و...و... فيتنهدون، بينما يثقل حواجبهم عبء صبرهم. فكر شابان ديفيد مرة أخرى في الجندي الرابض فوق البرج: ماذا لو حصدنا جميعًا؟ صار يريد ذلك، وراح ينتظر حادثًا غير متوقع، بعض الطلقات المتوترة مثلاً، كي يموت نشوة على سماعه لأزيزها العنيد. بقيت أسماؤهم لا تنتهي، وكذلك أرقامهم الجديدة التي تتدفق من فم الشاويش دون أن تنتهي. وبقيت قاماتهم تنتصب فجأة، ثم تنسحق، تنتصب فجأة، ثم تنسحق، تنتصب فجأة، ثم تنسحق، تنتصب فجأة، ثم تنسحق، تنتصب فجأة، ثم تنسحق، والأرقام تتدفق، والشاويش يرتفع على رؤوس أصابع قدميه بعد كل رقم، ويصيح بأعلى صوته:
- جليل عبد النور.
- 2736.
- عاصي المحفوظ.
- 2737.
- 2738.
- 2739.
- 2740.
- 2741.
استمرت تتدفق من فمه كالذبذبات المحسوبة: أرقامهم، وصار شابان ديفيد بيأس يفكر: ماذا لو حصدنا جميعًا؟ ماذا لو حصدنا جميعًا؟ ماذا لو حصدنا جميعًا؟ لذلك، أراد أن يثب وسطهم، فيهز قبضته في السماء، ويصيح بالجندي قائلاً: أيها الأحمق، أنت يا من يقبض على مدفعه، وينكس رأسه في الأرض كالذليل، ماذا تنتظر ونحن هنا؟ ولماذا نحن هنا؟ فلتحصد رؤوس الجميع! لكنه صار بيأس يفكر: ماذا لو حصدنا جميعًا؟ ماذا لو حصدنا جميعًا؟ ماذا لو حصدنا جميعًا؟ تنحنح الشاويش، ونادى بأعلى صوته:
- محمود عبد النبي حسين.
نهض محمود، فسقط قلب شابان، وخبط بجدار صدره.
- والأرض؟
رأى احمرارًا دمويًّا يذبح عينيه، وسمعه يهمس كالضائع:
- سنعود إلى الأرض بعدها، أليس كذلك؟
دقق النظر في وجه محمود: لقد فقأوا عينيه!
دارت به الأرض، لكنه استطاع أن يتماسك، وسمع صوت محمود يأتيه من عالم الغيب: سنعود إلى الأرض بعدها، أليس كذلك؟ اجتاحه غضب ساحق، فأحس أنه عنيف، وأنه بشع، وأنه فظيع. انسحقت قامة محمود بين قامات المنسحقين في الصفين الأخيرين، ومع ضربة الباب، أحس محمود أنه أخذ قطعة من كبده، فنهض مندفعًا صوبه، وصاح مناديًا، فلم يجبه سوى الصدى.
قال له شعبان بأسى:
- تعال! لقد ذهب!
دخل محمود، وشعره يتساقط على وجهه...
أعطاهم شابان ظهره، وراح يقطع بعكازيه الرواق على عجل، وهو يكسر خطواته كسرًا.

* * *

تساقط الظلام في ساحة السجن، فناءت أضواء واهنة بعبء الليل عند بداية الرواق ونهايته. كان السكون عميقًا، عكرته بعض خطوات متكسرة جاءت تهبط الدرج المعتم. جاء حارس يرفع قنديلاً من ذراعه في اتجاه الخطوات المتكسرة، وأدى التحية العسكرية لضابطه، ثم رافقه حتى إحدى الزنزانات، وبواسطة مفتاح في طوق حديدي، فتح له بابها نصف فتحة، فدنا شابان خطوة، وهو يؤثر بأصابعه عليه إلى أن انفتح تمامًا. أخذ من الحارس القنديل، وأمره بالذهاب، وراحت الزنزانة تغوص في ضوء القنديل الأصفر. كان كل شيء يموت في صدره، وهو لذلك كان كئيبًا وحزينًا، وهو لذلك كان يود لو يبكي، وضع يده على كتف محمود المتكوم على نفسه، مثل كتلة شبه ممزقة، في قلب السرير، وانتفضت أصابعه مع ملامسته له، نهض واقفًا، وهو يدفع ظهره على الجدار، بينما نصب محمود أصابعه كي يحمي وجهه بعد أن انقبضت عضلاته. سمعه يجمجم:
- ماذا تريدون مني بعد أن فقأتم عينيّ؟
رآه يريد أن يحمي عينيه الميتتين، فركن القنديل، جمع أصابعه بين يديه، وعرك صوته لوع شديد:
- إنني صديق!
ومات صوته، حاول محمود أن ينتزع أصابعه من بين يديه، ولكنه ما لبث أن أرخاها، وترك أصابعه بين يديه، قال كأنما تلك هي صلاته:
- يداك دافئتان!
وتنهد بمرارة. كان هو، ينظر إليه، إلى محمود، صديقه القديم، إلى عينيه المقتلعتين، وحاجبيه اللذين انحفرا. وكان محمود لم يزل يتنهد بمرارة، وقد نبتت المرارة في مسام شفتيه، وفي مسام عينيه، وفي مسام حلقه. راح يربت على أصابعه، وأصابعه ساكنة كالأفراخ النائمة، وعاد يقول، وقد انخفق صوته:
- يداك دافئتان!
ثم لبث أن سحب أصابعه بهدوء، وألقاها على ركبتيه. لم يعد ينتظر أن يقول له: من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟ لم يفه بكلمة واحدة. كان قد جعل رأسه يستند إلى الجدار، وأطلق تنهدة أخيرة:
- أهو آخر الليل؟
لكنه آثر الصمت. أشاح بوجهه عنه، وتطلع إلى ضوء القنديل الأصفر: كانت في لهب شمعته المتآكلة القصة كلها، وهي تذبل رويدًا، رويدًا! سمع صوت محمود يأتيه من عالم الغيب: سنعود إلى الأرض بعدها، أليس كذلك؟ كان يريد أن يقول له: لم لا وعبد الناصر يهدد بالمجيء إلينا، هو الذي حدثه عن ذلك منذ قليل، وجعل الحلم ينبت فجأة في جبينه. لكنه لم يكن يحمل اليقين الكافي، تمنى لو يستطيع البكاء، بكاء صغير بقدر بضع دمعات فقط تسيل على الخد. شُد إلى محمود لما سمعه يقول:
- عندما شممت رائحة الضفة سكرت! كانت الشاحنة تجري، وكان هواء عليل يهب علينا، وأنا استنشق بقوة، فتعوضت عن كل آلامي!
- لقد عذبوك!
- لقد عذبوني.
- أرى ذلك.
انجرحت بسمة على شفتيه:
- لم أعد أرى ذلك.
- سينتهي عذابك عما قريب.
- لن ينتهي عذابي.
ثم أضاف بسكينة:
- منذ وقت قريب بدأ عذابي... يوم سقطت الضفة.
قال: (( أريد بضع دمعات، بضع دمعات فقط من أجل محمود، صديقي المسكين! )) وكان محمود يجلس وحيدًا بين الظلال، لا يفكر في الأرض، ولا في نفسه، ولا في أبيه الذي أورثه الأرض، وأورثه نفسه، وسمع صوت محمود يأتيه من عالم الغيب:
- سنعود إلى الأرض بعدها، أليس كذلك؟
-.........
راح محمود يردد كأنه ينتزع أنصالاً من قلبه:
- لم يكن ذنبنا، لم يكن ذنبنا!
ثم سأله:
- هل كان ذنبنا؟
-..........
وأمام سكوته قال:
- منذ كنت صغيرًا والحقيقة أعرفها.
-..........
- نعم، أعرف الحقيقة وجميع الطيبين.
-..........
- إن ذنبنا الوحيد أننا كنا طيبين.
وهتف مهتزًا:
- لم يكن بإمكاني أن أكون غيري.
ثم أضاف هادئًا:
- على المرء أن يكون شريرًا إذا اقتضى الأمر.
حل سكوت طويل، وكل منهما يتابع أنفاس الآخر، ثم قال محمود، وهو يلمس بأصابعه الفجوة في عينيه:
- أردنا أن نكون كما كنا، لكننا لم نستطع، بسببهم. وأردنا أن نهرب منهم إلينا، لكننا لم نستطع، بسببهم.
توترت شفتاه:
- لكننا باقون.
-..........
- رغمهم!
انحنى بين يديه، والجدران تنصت، وهو ينصت. تسلقت أنفاسه لحم حلقه، فتشبث بها لئلا تسرق له عمره الآتي، ولا يصل إلى ما أراد أن يكونه. سمعه يردد:
- نحن باقون! نحن باقون!
فأصغى له بكل جوارحه:
- عندما احتلوا الضفة وغزة امتد حصاري، لكن أجنحتي امتدت أيضًا بقدر مساحة كل فلسطين. لا يهم داخل الطوق، لا يهم! لا يهم أن أكون في السجن، ويقتلوني، لا يهم! لا يهم أن ينزعوا عروقي، ويذبحوا كبدي، أنا، لا يهم! فاليوم، نحن جميعًا في الحصار، ومهما قتلونا، وذبحونا، سنبقى كثيرين في الحصار.
سكت قليلاً ثم أضاف كأنه يناجي حبيبته التي لم يرها منذ زمان:
- كانت الحرية حلمنا، واليوم، الحرية دومًا حلمنا، إنه حلم الماضي، وفي نفس الوقت، حلم اليوم. إنني أحلم بالحرية ليل نهار، لهذا بقيت رغمًا عنهم! لهذا قاومت، وانتصرت... فهم لم يقتلوني!
سأله:
- هل أنت معي؟
نظر إليه بعينين متحطبتين، ومن جوفه يتصاعد الأسى مثلما يهبط الليل على المرتفعات. عاد يسأل:
- هل أنت هنا؟
وهو يتلمس بيديه من حوله كي يجده، ووجده:
- هذه هي ذراعك! لا تذهب دون أن تقول لي!
بقي محمود يحيط بأصابعه ذراعه كالطفل الذي وقع على أبيه بعد أن فقده:
- أنا آنس وجودك.
تخيل أنه يناديه، ويقول: (( شعبان! )) وشعبان ذاك المركب المبحر في قلب البحر. أحقًا مات شعبان، أم هو مبحر دومًا في قلب البحر؟ أحقًا مات شعبان في اللحظة ارتدى فيها الرداء العسكري، أم أن ما جرى ذلك إلا من أجل البحث عنه؟ أين هو شعبان؟ من هو شعبان؟ متى يلقاه؟ وكيف يلقاه؟
دوى صوت محمود في الحجرة):
- سنبدأ خطتنا غدًا بعد غروب الشمس.
ومع ذلك، فقد بقي مطبق الشفتين، وبقي يتشبث كالطفل بذراعه. كان (( شعبان )) يذوب شوقًا إلى لمساته، وفي نفس الوقت، يموت ألمًا لأقلها لمسة. تأوه، وقال: آه! يا إلهي! أهذه بقية القصة؟ وهل بدأت القصة حقًا أم ماذا؟ تخلص منه، ونهض، فانتفض محمود، وهتف:
- لا تذهب!
كان (( شعبان )) يريد أن يقرأ ذلك على صفحات الغيب، من بين قضبان النافذة التي قرب السقف. عندما رفع عينيه إلى صفحة السماء، واجهته الحلكة الدموية. أشعل الشاويش مصباحًا يدويًا، فأسقط مازن في هالة الضوء. فتح مازن عينيه، ثم تحجرت عيناه للمفاجأة. أخذ الشاويش يزيح بعصاه العاجية قميصه المفتوح حتى كشف عن صدره الأبيض، ونظر إلى بطنه الأملس. قال محمود من ورائه:
- إنني أنتظر، إنني في كل لحظة أنتظر شيئًا جديدًا.
أتى إليه، وقف من أمامه، وهو يفكر: لست وحدك من ينتظر، إنني أنتظر أيضًا في كل لحظة، مثلك تمامًا، شيئًا جديدًا.
وعلى حين غرة، سأله محمود:
- هل في السماء نجوم؟
لم يكن في السماء نجوم، ومع ذلك، قال له:
- في السماء نجوم.
ابتسم محمود حتى ملأت بسمته الفراغ بين الجدران.
أملس بعصاه العاجية عنقه، وهبط. كتفه، وهبط. رماها على نهده، ثم سحبها حتى بطنه. وإذا بقبضة حديدية يسدد بها مازن مركز الحياة والموت، بين الفخذين العسكريين، صرخ إثرها الشاويش كمن جندلته رصاصة. جمع نفسه، وتقدم من مازن المتكور في أقصى السرير، ولم يعد باستطاعته أن يحتمل أكثر بسمة محمود تلك، أراد أن يذهب، لكنه بقي مشدودًا إلى بسمته، وفي عينيه دموع كالزجاج لا تسيل. إذا به يرفع رأسه، ويرنو إليه طويلاً بعينيه المفقوءتين، ثم يفتح فمه، ويأخذ بالإنشاد:
- (( أكواخ أحبابي على صدر الرمال
وأنا مع النجمات ساهر
أصوات أحبابي تشق الريح... تقتحم الحصون
يا أمنا انتظري أمام الباب
إنا عائدون
..........
..........
ماذا طبخت لنا
فإنا عائدون
نهبوا خوابي الزيت، يا أمي
وأكياس الطحين
هاتي بقول الحقل... هاتي العشب
إنا جائعون ))
..........
..........
تراجع (( شعبان ))، وهو يكسر خطواته كسرًا في الرواق، كان يفكر أن صوت محمود يأتيه من عالم الغيب.

* * *

في الصباح، وجدوا مازن مقتولاً في زنزانته، وجروح كالزرع تجتاح جسده.
وبينما كان (( شعبان )) يحقق مع الشاويش، كانوا يحملون النعش في الساحة إلى خارج السجن.
صدر قرار بإيقاف الشاويش عن ممارسة صلاحياته، ريثما يتم نقله: أقصى عقاب ممكن في الحالات المشابهة.

* * *

وبعد يومين، انفتحت بوابة السجن الحديدية، ودخل سبعة حراس جدد قاطعين الساحة بخطواتهم التنظيمية، إلى أن وصلوا مكتب الاستقبال، من بينهم كان قاسم.






24
أخيرًا، قال الوزير:
- يسرني أيها السادة الضباط أن أنقل إليكم تحية الحكومة، واعترافها بالجميل، للقسط الأكبر الذي تساهم به مؤسساتكم في ضمان وحماية أمن إسرائيل. وقبل أن أنهي كلمتي، أود أن ألفت انتباهكم من جديد إلى الخطر الذي يزداد، يومًا عن يوم، كلما ازدادت بؤر الإرهاب العربية سواء داخل حدودنا أو خارجها. فاضربوا بيد من حديد، وإياكم والتهاون. واعلموا أنه فيما لو غض أحدكم الطرف، ولو قليلاً، عن أمر مهما كان طفيفًا، اعلموا أن عمليات الإرهاب ستزداد خطورة، وبذلك تكونون أنتم قد شاركتم بأنفسكم، دون شعور منكم، في جرائم الإرهابيين.
وختامًا، أزف إليكم ما أقرته وزارتي، وما وقعته أنا بنفسي منذ عدة أيام، وذلك بعد دراسة مستفيضة لمؤسساتكم، قررنا تطوير وسائل وطرق التأديب، وذلك بتزويدكم بأجهزة حديثة وبأخصائيين، وهكذا نكون قد قدمنا خدمة هامة على المستوى الوطني، وهكذا أيضًا يمكننا أن نهنئ أنفسنا باقتراب موعد القضاء التام على البؤر السوداء، فبالقمع العادل يسود السلام العادل.
شالوم! شالوم عليخم! شالوم!
دوى تصفيق حادٍ، ثم غادر الوزير القاعة، وانفض اجتماع ضباط السجون.
ركب (( شعبان )) إلى جانب السائق، وسالت عجلات السيارة العسكرية في شوارع تل أبيب. نظر إلى الناس، وهم يسيرون بارتباك، ولم تمنعهم امرأة عجوز عن العبور. تطلع إلى أفخاذ جميلة لسائحة أمريكية مستسلمة للحرارة الشديدة، وتوقفت السيارة لازدحام الطريق، وبسبب ضوء أحمر آخر، ففتح شباك السيارة، وراح يجفف عرقه. أبصر أحد القرويين العرب، وهو يقطع الشارع إلى الرصيف الآخر، ساحبًا بيده قنبازه من بين دعائم السيارات، وكأنه يقوم بنزهته اليومية، وقد لبس هيئة عدم اهتمام منقطع النظير. اشتعل الضوء الأخضر، ومع ذلك، فالسيارات بقيت واقفة. فكر (( شعبان )): ربما شخصية هامة ستمر بعد قليل. انطلقت الزوامير محتجة بعد أن فقدت صبرها، والقروي يستعرض واجهة إحدى المحلات الجميلة، ثم رفع رأسه إلى أعلى، لا ليقرأ اسم المحل (( عند كوهين الصغير! )) بل لأن شلالاً من الضوء يتساقط
على طول العمارة. سار القروي منجذبًا مع حركة الضوء تلك: كوداك... كوداك... وهي تنطفئ، وتشتعل، بلونين أحمر وأزرق، ولاحظ (( شعبان )) أن على شفتيه ابتسامة لسذاجتها تثير الحزن في القلب. وأخيرًا، انفك عقد السيارات الواقفة، فتحركت به السيارة العسكرية، وهو يثني رأسه للخلف، متابعًا القروي الذي ضغط نفسه كالطفل الخائف، وهو على وشك أن يترك الرصيف إلى ساحة محطة الباصات. وما أن تركت السيارة العسكرية الساحة، إذا بانفجار هائل ذهبت ضحيته حافلتان. وفي الحال، انطلقت سيارة شرطة مجنونة، وحصل عدو مجنون. نزل (( شعبان )) من السيارة العسكرية، وهو يقفز بقدمه السليمة في اتجاه الساحة. وجدها، وقد خلت من البشر، إلا من دخان مجنون. ارتكز بيده على سور قصير، ولاحظ أن الانفجار قد حطم زجاج نوافذ أقرب عمارة منه، وفي الشوارع المتفرعة عن الساحة، كان الكل يعدو، ما عداه، ذلك القروي الساذج. كانت قد عقدته المفاجأة، بقي متجمدًا لبعض الوقت، ثم ما لبث أن حط قدمه في الأرض بعد أن لف قنبازه من حوله، وقفز يعدو. وإذا من ورائه مئة من اليهود يعدون، مئة (( روزا )) تعدو، فهمس (( شعبان )) مبهورًا: مطاردة! تمامًا كالسينما! مطاردة!
- هو! القوا القبض عليه! المجرم!
امتدت إليه مئتا يد، كي تلتقطه. وعندما انعطف (( الممثلون )) مع الطريق، لم يعد بإمكان (( شعبان )) أن يتابع المشهد، فعاد يركب سيارته التي تحركت على مهل، وهو يفكر: سيسحقون رأسه على التأكيد أول ما يلقون القبض عليه! سيسحقون رأسه! ازدادت السيارة سرعة، وما لبثت أن انطلقت في شارع الملك داود العريض المزدهي بظلاله الخضراء، ونسمته الطريه. وهو؟ كان لا يحس بشيء، كان يفكر في القروي، ويقول: إذا ما قبضوا عليه، فسيسحقون رأسه على التأكيد! سيسحقون رأسه! وبعد ذلك، كف عن التفكير فيه.
سمع السائق يخاطبه دون أن يلتفت إليه:
- أين نذهب، يا سيدي؟
لكنه تراخى في جلسته قليلاً، واستند برأسه على ظهر المقعد، أغمض عينيه، فعرف السائق أنه قد حان وقت التجوال. بقيت السيارة تسير من طريق إلى طريق، و(( شعبان )) يغمض عينيه طوال الوقت، وطوال الوقت، كان (( شعبان )) يفكر في طريقة لإنقاذ محمود وقاسم في آن واحد.

* * *

كازينو!
انطفأت الأضواء الملونة، ثم اشتعلت، انطفأت من جديد، ثم اشتعلت. وصلت موسيقى، وغناء، ثم ضحكات ليلية، ومضى بعض المارة هنا وهناك. كان الغناء يقول: (( علمني، يا حبيبي، كل رقصاتك! )) في زاوية من زوايا الكازينو ذات عتمة حمراء، كان (( شعبان )) يجلس في لباسه المدني. على الطاولة، من أمامه، كأس ويسكي طويلة مترعة، وعلى الكرسي المجاور أسند عكازيه. أخذت المغنية تقول: (( أنا الرقاصة الأكثر مهارة... أنا التي جسدها ملهى! )) ومن حوله كانت معظم الطاولات فارغة. على البار، هناك بعض الجنود وعاهرتان تجلس كل منهما وجهًا لوجه على كرسي طويل، وفي يد كل منهما كأس دون أن تتبادلا كلمة واحدة. بدأ ثلاثة من الضباط على طاولة يشربون بصخب دون أن يهتموا بالمغنية، والمغنية تردد: (( علمني، يا حبيبي، كل رقصاتك... علمني، علمني، علمني! )) أخذ البارمان السمين ذو القامة الضخمة يلمع بطرف سترته كأسًا بعد أن غسلها، وهو يتابع الأغنية بفكين تراخيا من أثر عدم الطرب.
بقي (( شعبان )) يجلس وحيدًا في العتمة الحمراء، الكأس رفيقته، وجهًا لوجه معها، لكنه لا يبادلها كلمة واحدة، تمامًا كالعاهرتين هناك. وحتمًا كان وجهه الطافح بالحروق يذوب في حريق العتمة، فأحدهم لا يحس بوجوده. انطلق صوت المغنية بإلحاح يقول: (( علمني، علمني، علمني... علمني، يا حبيبي، كل رقصاتك! )) تساءل (( شعبان )) لأول مرة: (( لماذا هو هناك؟ )) كان لم يطرح على نفسه السؤال عندما دفع بكتفه باب الملهى. ومع ذلك، فلم يغادر المكان، ولم تغادر صورة محمود عينيه.
انتهت الأغنية بخاتمة موسيقية طويلة كأنها عملية خنق، بدأت بضجة، وانتهت بقطع الأنفاس. سُمعت صفقة أو اثنتان هنا وهناك، والمغنية تنحني بذل، وتبتسم بإفراط، مع إحساس واضح بالرثاء الذاتي، ثم اختفت عن المنصة، لتبدأ الفرقة الموسيقية بعزف مقطوعة راقصة، فنهض زوج واحد فقط للرقص، وبعد دقيقة تبعه زوج آخر. و(( شعبان )) لا يحرك ساكنًا في العتمة الحمراء، يقبض على الكأس، والكأس تتلوى بين أصابعه، وكأن أصابعه قد ثملت عبر الزجاج، فلم يعد يحس بأصابعه، وهجم عليه الحلم القديم: أمينة، وريتا، وأمينة! أمينة، وأمه، وابنته الصغيرة! تفاقمت على وجهه كثافة الضوء الأحمر حتى جعلت منه لطخة، فهمس في صدره: (( لقد أحببت في يوم مضى، نعم، لقد أحببت! )) لقد أحب أمنية، وأمه، وريتا، والبحر. وتمنى طوال حياته أن يأخذ مركبًا، وأن يمتطي صهوة الموج، أن يعمل على مواكبة الأشرعة للريح، وبقيت الأمنية أمينة. أراد أن يهتف: أحب البحر! لكنها كانت قد وقفت على مقربة من طاولته، منذ لحظات:
- أيها المغرور! يا مغروري! هل تدعوني إلى كأس آخذه معك، يا مغروري؟
إحدى العاهرتين.
ولكي يتحقق من أنها هي، ألقى بنظرة خاطفة على المكان الذي كانتا فيه، فلم يجد سوى واحدة.
- تدعوني أم لا تدعوني؟
لكنها دعت نفسها بنفسها بعد أن جلست دون أن يعطيها إذنًا، وهو، على أي حال، لم يكن مستعدًا إلى فتح فمه. هبطت العاهرة بثدييها الرخوين من فوق الطاولة، وراحت تقول له شبه هامسة:
- إن العزلة هنا غير مسموح بها إلا للعذارى، وأنا، كما ترى، عذراء، وصغيرة أمي المدللة، أشذ عن القاعدة لأجالس مغروري!
أطلقت ضحكة ثاقبة مشيرة إلى الجرسون الذي خفَّ آتيًا، وهو ينحني بأدب مهني:
- سيدتي، سيدي، مساء الخير!
توجهت إلى (( شعبان )) بلهجة مدللة:
- ماذا سيسقيني مغروري الصغير؟ (ولم تنتظر منه إجابة إذ أضافت للجرسون): أعطني كأسًا كهذه (وهي تشير إلى الكأس التي تتلوى بين أصابع شعبان).
عند ذلك، فطن (( شعبان )) إلى الكأس، فوضعها على الطاولة.
وقبل أن ينفتل الجرسون لإحضار الطلب، سأل:
- دوبل؟
- إذا شاء عزيزي.
لم تبدر عن (( شعبان )) أية حركة، فهتف الجرسون:
- سمعًا وطاعة، يا سيدي!
عندما تركهما الجرسون، نهضت بوجه مستعار، وهي تمد إليه ذراعيها، فأعاقها العكازين. نقلهما (( شعبان )) بخفة، وزرعهما بين قدميه، وارتكز عليهما بذراعه. تعامد رأسه مع ظله، وهو يكز على أسنانه، فتصنعت العاهر تأوهة ألم لأجله:
- آه!
وعادت ترمي بنفسها في مقعدها، وعقدة بين حاجبيها، دامت لحظة، ثم ابتسمت، وراحت بحماس تقول:
- أكثر ما أعشق الأيدي المشلولة والأقدام المقطوعة، إنها ترمز إلى الشجاعة. يبدو أن مغروري قد شارك في المعارك. هل شارك مغروري في المعارك؟
رمت ذراعيها، والطاولة ما بينهما، على كتفيه، وطوقته، وهي تغنج، وتئن قصد إثارته. أزاحها (( شعبان )) دون غضب، فندت عنها صيحة صغيرة:
- آي! ذراعي، أيها القاسي!
وفي هذه المرة، بان على وجهها الغيظ. كان الجرسون قد أحضر طلبها، وولى على عقبيه مسرعًا باتجاه مجموعة من الأمريكيين تريد أن تختار طاولة. وفي نفس الوقت، قدم أحدهم، من المنصة، المشهد القادم من برنامج الملهى بالكلمات التالية:
- سيداتي، آنساتي، سادتي، نقدم لكم الآن المطربة الباريسية الشهيرة، راشيل الصغيرة، في أحدث أغانيها: (( مدفعيٌّ في سيناء )).
ظهرت المطربة راشيل الصغيرة دون أن يصفق لها أحد، وكانت المفاجأة أنها عجوز مصبوغة الشعر في الخمسين من عمرها، وقد رافقت ظهورها مقدمة موسيقية صاحبها ضجيج الطبل. انحنت المطربة في كل الجهات، بلهفة وحرارة، وقالت: مدفعيٌّ في سيناء، مهداة إلى بطلي وحبيبي هاشومر حاييم. وعلى التو، عزفت الموسيقى، وبدأت راشيل الصغيرة تفغر فمها المترهل، المطلي برطل من الحمرة، في دائرة على شكل الفم الصناعي، وهي تغني، وتقول:

طلقة، طلقتان، ثلاث
أهديك من قلبي القبل
قبلة، قبلتان، ثلاث
يا مدفعيّ البطل!

كاللكمات... كان صوتها كاللكمات!
انفجرت العاهرة المرافقة لـ (( شعبان )) ضاحكة:
- هل سمعت؟ هناك رواية اسمها راشيل الصغيرة وحبيبها هاشومر!
خفضت صوتها، وهي تقترب بفمها من أذنه، قائلة بطريقة سردية:
- ذهب هاشومر إلى الحرب في سيناء كي يتدرب جيدًا على القتال، فإذا ما عاد كان بكفاءة تؤهله للتغلب على هذه العجوز البغلة!
عادت تضحك بصخب، وهي ترفع كأسها نخب هاشومر، مما أحوج المغنية إلى التلكؤ باحثة بعينيها في العتمة الحمراء، عن مصدر الضحكات التي استفزتها، وقطعت عليها اندماجها الفني (( المخلص )) في اللحن. ثم ما لبث الموسيقيون أن عادوا إلى العزف الطبيعي من جديد، وراشيل الصغيرة تقول: (( طلقة، طلقتان، ثلاث... )) لكن شعبان نهض مرتكزًا على عكازيه، ورمى ورقة نقدية على الطاولة، فأمسكته العاهرة من ذراعه:
- إلى أين؟
لم ينتظر أكثر، تركها إلى باب الخروج، وهي تشتم من ورائه:
- أيها القذر! أيها القذر!
استقبله الطريق المعتم، غاص في اللهب الأسود، وهو يكسر خطواته في الأرض كسرًا. وفي الوراء، تل أبيب كلها في الوراء. الوزير، والضباط، والجنود، وأصحاب الملاهي، والعاهرات المحظوظات ذوات المهن، والناس كلهم، كانوا يعدون من ورائه. فجأة، توقف، والتفت، وهو يلهث، حتى هدأت أنفاسه. لم يكن أحد يعدو من ورائه، لقد كان هو من يعدو من ورائهم، دون أن يراهم كيف يهربون. سمع أحدهم يقول: (( تعالي نصعد إلى حجرتي، لن نحتاج إلى أكثر من عشر دقائق! )) وانخطف شبحان من أمامه. فكر: كان عليّ ألا أتأخر حتى الغد. عزم على أن يطلب سيارته، ويعود إلى... وتوقف متسائلاً: يعود إلى أين؟ نهشت فمه بسمة شقية، وتسمرت كالحة بين شفتيه. أراد أن يعود إلى الملهى حيث كان منذ قليل، لكنه سار على هينته. صادفته طريقان متصالبتان، ومضت به سيارة مسرعة، فقطع الطريق بعجلة. وصلته قهقهة ماجنة، وسيارة أخرى، وقهقهة أخرى ماجنة، وأخذت الأصداء تردد في أذنيه: (( قبلني، يا حبيبي.... )) (( داود قال في كتابه... ))
(( قضيبي بطول السلاح الذي... )) (( تقدم، يا ملك البشرية، تقدم، تقدم، تقدم... )) كلمة من هنا وكلمة من هناك، والسيارات تنخطف بسرعة، والقهقهات تنخطف بسرعة، والأصداء تتواتر: (( بفكر في اللي ناسيني... ني... ني... ني... )) (( صرحت غولدا مائير بعدم القبول، بعدم القبول، بعدم القبول... )) وغناء فيروز المفاجئ: (( يا قدس! يا قدس! يا قدس! يا قدس! )) دخل في أول زقاق إلى يساره، وكل عشرة أمتار قام عامود قديم وفانوس قديم. استمع إلى صوت خطواته على بلاط الرصيف، فضاعف المسير، وانفتح الليل في عينيه انفتاحًا هائلاً كأنه فلقتا حبة لوبياء ضخمة، ولأول مرة، منذ عشرين قرنًا، فكر: ليس الليل خطرًا إلى هذه الدرجة! إنني مولود في الليل، ومع ذلك، فأنا أسير، رغم أني أكسر كسرًا خطواتي! انزاح عن عينيه برقع الليالي السود كلها، ليظهر له هذا الليل
(( الخاص )) الذي بإمكانه أن يتناوله بين إصبعيه، ويشمه كالوردة ورقة ورقة، عارفًا أبعاده بعدًا بعدًا.
فجأة، سقط عليه صوتها:
- مئة ليرة فقط.
أمسكت به قبضة عصبية سحبته من كتفه، وأعادت:
- مئة ليرة فقط.
لم يستطيع تمييز وجهها بسبب الظلام، قال: فتاة ليل. وأراد أن يتخلص منها، لكنها بقيت تتعلق على كتفه.
- الوقت ليس محددًا، أمكث ما أردت لقاء مئة ليرة فقط.
وفي الأخير، تخلص منها، اندفع بعكازيه مبتعدًا، ثم ما لبث أن التفت إليها، لكنها انسحقت في دم الحلكة. سحب نفسًا، وتابع طريقه. ظن أنه يرى أحدهم بان كالشبح أسفل عامود الكهرباء، وعلى مقربة منه قال: لا، ليس هناك من أحد. اغتم، ولم يعد ينصت إلى الأصداء التي كانت تند عن خطواته المتكسرة، ولم يعد ينتبه إلى حركة دولاب مطاحن الهواء التي تدور بوسطه السفلي. ترك الضوء الباكي من ورائه، وفي العتمة، إذا بيد ذات أظافر حادة تجذبه من كتفه، وصاحبتها تقول بصوت نابر:
- مئة ليرة وليلة بأكملها، يا هذا!
حصل انفجاران في عينيه أو ثلاثة، عندما وقع عليها، تمامًا كانفجار هذا الصباح في ساحة الباصات. أغمض عينيه بقوة، ثم فتحهما بقوة، كان الضوء يأتي من ورائها، وهو لذلك لم يكن متأكدًا، عاد يغمض عينيه بقوة، ويفتحهما بقوة:
- هنا، انظر هنا!
راحت تجذب ثوبها، لتزيد من فتحته الكاشفة عن نهديها.
- مئة ليرة لقاء ليلة بأكملها ليس كثيرًا!
غضبت، وهي تدقه في قلبه:
- انطق، أيها الأحمق! سأسرك، وستكون ليلة من الليالي المعدودات في عمرك!
لقد مات (( شعبان )) مليون مرة، وفي كل مرة، كان (( شعبان )) ينهض بإرادة أخرى، أراد أن ينفجر في وجهها صائحًا: لا! لا، يا أمينة! أيتها الزوجة التي تركتها هناك لأجدها هنا! لكنها بقيت تدقه في قلبه:
- أيها الأحمق! أكثر من هذا الجسد الشهي ماذا تريد، أيها الأحمق!
نقلت نهديها بين كفيها رافعة إلى أعلى، وراحت تجري حتى العامود باحثة عن حجرين رجمته بهما، وهي تشتم:
- جميعكم أبالسة! فلترمل نساؤكم!
تقدم شعبان منها رويدًا، رويدًا، وقد غدت له أقدام ثلاث من خشب، وقد غدت له عينان من خشب. كان صدرها الهائج الذي يعلو ويهبط قد كف عن الخفق السريع رويدًا، رويدًا، ما أن وقف من أمامها، ونظر في عينيها السوداوين. رآها هذه المرة بوضوح، في الضوء الهالك، ورأى شعرها الأسود المبعثر، إنها هي ذاتها: أمينة، زوجته أمينة، وهو لم يخطئ منذ اللحظة الأولى.
سحبته من ذراعه، فانقاد طائعًا بين أصابعها، وعلى مسافة بضعة أمتار، أدخلته من باب قصير، وصعدت به عدة درجات خشبية، ورائحة قذرة تهب من المكان. ثم دفعته أمامها، وقدمه غدت من رصاص! منذ قليل، كان يعدو بساقين سليمتين كالظبي، فإذا بأحدهم يقوسه برصاصة، فيفسد له ساقًا، ويذبح الأخرى، وفوق ذلك، يطلب إليه المشي حتى المسلخ بطوع يديه.
سمعها بحنق تجمجم:
- الضوء اللعين أين هو؟ يا ضوء التعاسة!
فتحت بابًا، وأخذت تجسّ على الحائط زر الكهرباء إلى أن وجدته، ووجد (( شعبان )) نفسه في حجرتها. انغلق الباب، ورأى، في كل مكان، صور نساء ورجال يمارسون الحب في أوضاع مختلفة، وفي كل مكان لطخات... لطخات... دفعت له كرسيًّا، فجلس عليه، وراح يحدق... إليها. قذفت حذاءيها، وبدأت تخلع أسمالها، ثم أسقطت سروالها القصير. ارتمت على السرير، وفتحت بين فخذيها. كان يحدق فيها معجونًا، وتمنى لو ينزع قناع الجمر والعذاب عن وجهه لتعرفه، فتهرع ببؤسها إلى أحضانه، ولكنه قناع من لحم ودم وجمر لا يمكن إزالته بسهولة. سمعها تناديه:
- تعال!
لكنه لم يحرك ساكنًا. فنبرت بعصبية:
- انزع ثيابك، وتعال!
أخذ ينزع عنه (( شابان )) كمن ينزع فروة أرنب، ومن قدميه لوحه، ولوحه، ثم قذفه في الفضاء. وأخذ دمع الزجاج في عينيه ينصهر، ويسيل رويدًا، رويدًا، مطفئًا الحريق على خديه، وإذا بها تهب به صائحة بأعلى صوتها:
- أيها الأحمق! لم أر طوال حياتي أجبن منك، أيها الأحمق! ألا تريد أن تركب، أيها الأحمق؟
تناولت علبة كحل عن مقربة منها، ورشقته بها في وجهه. جرت في اتجاهه هائجة، وهي تفتح بين أصابعها قرب نهديها كأنها تريد افتراسه، وعلى مرأى دموعه جمدت للحظة، تابعتها، وهي تنحرف دون توقف، فتصنع في الوجه المشوه قنوات لا تنتهي. أراد شعبان أن يسألها عن ابنته، أين، يا ترى، تركتها، ابنته التي كانت صغيرة؟ تذكر الراعي إسحق، وهو لذلك اطمأن قليلاً، إذ قال لربما تركتها في عهدته. وتذكر، مرة أخرى، وهو ينظر إلى زوجه القديمة، أنها كانت حاملاً، أراد أن يسألها هل هو صبي كما كان يتوقع؟ ود أن يبتسم لها من كل قلبه، لكنها راحت تقفز كالقردة بين يديه، بعد أن استفزتها دموعه:
- يا أمه أرضعيه! يا أمه كفكفي دموعه!
وبطرف أصابعه، مسح دموعه، فارتمت عليه، ورمت عكازيه، وأخذت تنزع عنه ثيابه. ألقت جسدها على السرير، وراحت تصعد، وتهبط، كلما صعد الرقاص، وهبط، ثم صاحت:
- ستأتي أم ماذا؟ (لكنها انطوت تجمجم بعذاب): إنه لا يأتي، آه، يا لتعاستي! إنه لا يأتي!
خيل له أنه يسمع للمرة الأولى صوتها القديم:
- تعال، ولا تخف، إنني هنا بانتظارك!
تناول ملابسه عن الأرض بسرعة، وراح يرتديها، وهي تفغر فمها على سعته. وفي اللحظة التي وضع فيها كل ما في جيبه من نقود على طاولتها القصيرة، كان قد أضاعها من جديد. راحت ترشقه، وهو في شق الباب، بكل ما تقع عليه يدها، وهي تشتم، وتنطنط، وتقهقه، وتبكي، وتدعوه بالخنزير:
- أيها الخنزير! لم أر طوال حياتي جبانًا مثلك، أيها الخنزير! كلكم خنازير! أيها الخنازير الكبار! يا ذيول البهيمة!
انخطفت السيارة العسكرية في الليل، وشعبان يحدق في آخر نقطة تسحقها الطريق الدامسة من ضوء المصابيح. فكر: كالحلم! كان نائمًا، فحلم حلمًا مزعجًا، أما الآن، فقد قام، وها هو في طريق العودة إلى مكان عمله كالمعتاد. لكنه نبر: هراء! كل ما حصل يسطع حقيقة! أبحر مع أضواء المصابيح المتوهجة كمركب يقاوم هجمة محيط العتمة، ووصله غناء من بعيد، من أبعد مكان هناك، في الحقل، غناء فلاح ساهر يقول:
- أوف، يا بلدي!
تناهى إلى مسامعه الأنين في النغم، وانسابت في الليل، من جديد، كلمات المغني:
- يا بلدي!
رنا شعبان، وأصغى، وبحث، وقال: إن المصدر المعتم لا يعني كآبة المغني، وحزن الكلمة لا يعني يأس اللحن. عبرت به السيارة بسرعة، واللحن لم يزل يأتيه:
- يا بلدي!
أغمض عينيه، وهو يعصرهما بقوة بين أصابعه. غاب اللحن، ثم عاد من جديد:
- يا بلدي الحزين!

25
كان شعبان، وهو في لباسه المدني، يقلّب بعض الأوراق، وكان قاسم يقطع الممر الطويل، في لباسه المدني هو أيضًا، إلى مكتب
(( ضابطه )). وقف قليلاً قبل أن يطرق عليه الباب، ويدخل، ثم ليقف من جديد، ريثما يأذن له بالاستراحة. تأمله شعبان مليًّا، وقال لنفسه: هذا هو... قاسم الجميل! ابتسم بقسوة في داخله، فماذا كان بإمكانه أن يفعل؟ أن يقول له مرحى؟ أن يأخذه بالأحضان؟ أن يقول له ربطتنا صداقة منذ كنا صغارًا، وهأنذا خارج اللباس العسكري، مثلك تمامًا، وها نحن نلتقي، فلا يعرف أحدنا الآخر! بقي شعبان ينظر إليه عبر أهدابه المحترقة، وفي الأخير، قال له:
- استرح، وخذ كرسيًّا!
فاستراح قاسم، وجلس صامتًا. كان ما بينهما المكتب والحاضر اللامعقول، أما الماضي الحقيقي، فقد ضاع، فجأة، عندما وجد نفسه يقول:
- كانت هناك صداقة بيني و...
قست شفتاه، وشمس قاسية تسقط في الحجرة. رمق شعبان الشمس، فبان لقاسم السواد الرهيب في عينيه.
-... بين أبيك. أنا أعرفه قبل أن يصبح غنيًّا ونائبًا، ولهذا دعوتك لأعرف شيئًا من أخباره.
تمنى لو ينتزع عن وجهه (( القناع )) الذي يخفيه، وأن يقول (( كانت هناك صداقة بيني وبينك ))، وهو، لذلك، نهض بغضب، راح يقفز على قدمه الوحيدة حتى النافذة، وأسدل الستارة، ليخفف قليلاً من لسع الأشعة. التفت إليه، وهو يقف دومًا كطائر اللقلق على قدمه الوحيدة، اعتمد بيده على الحائط، وقال:
- بسبب مكيف الهواء، إنه معطل، والطقس حار!
فكر قاسم: ومع ذلك، فهو لا يعرق! قال لنفسه: ربما سبب ذلك جلده المحترق! أخذ شعبان يقفز عائدًا إلى مكتبه، واستند بيديه عليه دون أن يجلس:
- كيف حاله؟
- أبي؟
- نعم، أبوك.
قال قاسم بلهجة رسمية:
- لقد فقد ثروته.
جلس شعبان، وهو يتظاهر بالاهتمام، فهو لا يود السؤال إلا عن أحواله، أحواله هو، أحوال قاسم وأخباره. أوضح قاسم، وكأن الحدث أمر عادي:
- كانت ثروة حرب!
ارتفع عنقه بآلية، وبعد قليل، جاء صوت شعبان مباشرًا:
- وماذا عنك؟
- عني؟
- كثيرًا ما حدثني أبوك عنك (وسكت، ليضيف بعد قليل): مضى على ذلك عهد طويل، وهأنذا الآن ألقاه في شخصك (سكت من جديد، ثم قال): اعتبرني صديقًا، وحدثني... ماذا عنك؟
نزع قاسم عن وجهه (( قناعه )) الرسمي، وقال بلسان مر:
- لقد فقدت أصدقائي!
دفع شعبان بنفسه على ظهر الكرسي، وأخذ يتأمل صديقه القديم عن كثب، وفي رأسه هذا الصدى المر: (( لقد فقدت أصدقائي! )) سأل متظاهرًا بعدم الأهمية:
- هذا كل ما هنالك؟
ضغط قاسم أسنانه، وقال، بعد أن امتقع لونه:
- هذا كل ما هنالك.
تأوه ثم أردف:
- إذا ما فقدت صديقًا اليوم، انتهى الأمر، أنت لن تجده.
شحب لون شعبان، وارتجفت عضلات وجنتيه:
- لقد فقدنا جميعًا أصدقاءنا.
هز قاسم رأسه هزات ثلاث، وامتقع. وبعد قليل، سأله شعبان:
- ورغم ذلك، فأنا أجدك هنا!
حنى قاسم رأسه بين قدميه، وظل ممتقعًا، صامتًا.
- يبدو لي أن الأمور لم تكن لتسير على ما يرام حتى النهاية.
لم يحرك قاسم ساكنًا، فحثه شعبان على الكلام:
- تكلم (مال ليصله من فوق المكتب) ربما وجدنا، (( كلانا ))، مخرجًا.
أخذ قاسم يهز رأسه على الجانبين، وقد تضاعف امتقاعه. وبعد ذلك، سلط على شعبان عينين حمراوين:
- بعدما فقدت أصدقائي، ذهبت إلى الكيبوتس، بحثًا عنهم، فكان، في النهاية، أن صرت أداة عسكرية.
- لم يكن لديك الخيار.
فهب مؤكدًا:
- كلا!
وهدأ، وهو يجمع نفسه، ويتمتم أسفه. ثم رفع إليه وجهًا طفلاً، وأفضى:
- لو لم تكن من أصدقاء أبي... (وتوقف والكلمة تتحجر في حلقه).
- انس أن (( هذا )) ضابطك! إن كلينا في لباسه المدني!
اتسعت عينا قاسم اتساعًا رهيبًا، ورأى شعبان طائرًا شرسًا يحاول أن يمزق فيهما جيلاً شقيًا:
- هذه أرض المنفى، يا سيدي، ومن يدعي غير ذلك، فهو ليس بيهودي حقيقي.
- كيف؟
قال قاسم بلهجة شقية:
- عندما فقدت أصدقائي لم يبق لي شيء.
سكت قليلاً، ثم أضاف بشيء من إمعان النظر:
- كنت معهم، فإذا بي أجد نفسي وحيدًا. بحثت عنهم، فلم أجدهم. بحثت عن غيرهم، فإذا بغيرهم يبحثون هم أيضًا عن أصدقائهم... لهذا، تجدني غريبًا.
- لقد ولدت هنا.
- وأبي أيضًا، وجدي... إنني... نعم، إنني درزي فلسطيني قبل كل شيء.
- إذن ما شأنك أنت في الموضوع؟
أتى بحركة انزعاج، ثم ابيض وجهه تمامًا، وبدا عليه الإرهاق:
- ما شأني أنا في الموضوع؟ (ماتت نبرته): أنت أول من يقول لي هذا!
انحنى قاسم كالكهل من فوق المكتب، حملق برعب، وأخذت شفتاه شكل البوق الأخرس:
- الدياسبورا!
- ماذا؟
- إنها الدياسبورا التي تتعدى الأبعاد، يا سيدي، حقًا قالوا عنها أرض الميعاد، ولكن مع سمة الحرب، وهذا الواقع الغريب، والبحث الذي لا ينتهي عن الصديق، نبقى نحن المنفيين، حتى ولو كنا نرى بعضنا بعضًا كل يوم.
راح يردد بصوت مختنق:
- إنه العقاب! انه العقاب!
وراح يحدق كالتائه دون أن يكف عن التحديق. قال شعبان لنفسه: ليس أقل سوءًا، لا، ما يعانيه قاسم ليس أقل سوءًا مما أعانيه. وفجأة، سمعه يعترف:
- طلبوا مني أن أقتل، وقد قتلت.
ابتلع بصعوبة، وجمجم:
- إنني ضحية!
قال شعبان مؤنبًا:
- كان عليك ألا تقتل.
كادت تنفر من عيني قاسم شرارة الدمع، بينما راح شعبان يعتصر بين أصابعه نجمة داود الفضية التي تزين طاولته دون توقف، وفي ذات الوقت، ود لو ينتزع أصابعه، فيخلص من أشياء كثيرة تثقل باعه. وجد نفسه يهمهم:
- هناك من يقتل ليقر قانون الغاب، وهناك من يقتل ليقر السلام والعدالة.
فهتف قاسم:
- لم أكن من أي الفئتين.
هدأ، وأضاف دون جهد:
- أصدقائي كانوا عربًا ويهود.
انتهى الحاضر اللامعقول، أراد شعبان أن ينهض ليعانقه بحرارة، ويقول له هأنذا، ألم تعرفني؟ ولكنه أخذ ينبر بقوة وغضب:
- أنت القاتل! أنت القاتل!
بدا قاسم كالضائع، وراح يحدق في بهيم عينيه، فلا يقع على ذاته. وشعبان لم يزل ينبر بقوة وغضب:
- أنت القاتل! أنت القاتل!
وقف على قدمه الوحيدة مهتزًّا، وهو يفغر فمه على سعته، فصاح قاسم فزعًا:
- لم يكن ذنبي!
لكنه رفع إصبعًا متهمةً في وجهه:
- ربما لم يكن (( أنت )) ذنبك، أما الآخرون، فهو ذنبهم.
حاول قاسم التملص جاهدًا:
- ليس لي شأن مع الآخرين!
هدأ شعبان، وتراخى، ثم استكان، وتمتم:
- إنه منطق الجميع!
جلس على كرسيه، ودفع ظهره عليه بكل ثقله، كان يبحث عن الاستكانة، بعد أن ثارت زوبعته. وكان قد عرق قليلاً، فمسح جبينه بظاهر يده، ووصله صوت قاسم غريبًا مجروحًا:
- لم يبق لي سوى طريق واحد.
أصغى لما عساه أن يقول، لكنه آثر الصمت، فحثه على المتابعة:
- ما هو هذا الطريق الواحد الذي لم يبق لك سواه؟
- أن أواجه عزلتي.
سأل شعبان ساخرًا:
- كيف؟ أن تقتل من جديد؟
- ربما.
قال قاسم مركزًا على كلماته:
- وإذا حصل، فهذه المرة بإرادتي.
تناول شعبان عكازيه بسرعة، وتوجه بخفة نحو خزانة حديدية، فتحها، وأخرج ملفًا قدمه إليه:
- وقع اختياري عليك لنقل بعض المساجين إلى سجن بيسان، وهذه معلومات حول كل منهم والأمر بالنقل، وكذلك موافقة ضابط سجن بيسان. ستكون سيارة نصف شحن تحت تصرفك، وسائق. يمكنك التحرك غدًا صباحًا.
وقف قاسم دون أن يتوقف عن ضغط أسنانه، دفع شعبان عكازه الأيمن تحت إبطه، وسلم عليه:
- أتمنى لك التوفيق.
صفق قاسم نعليه بانفعال، وخرج بعجلة. عندما تأكد لشعبان أنه يقف في الحجرة وحيدًا، أطلق نفسًا طويلاً.

* * *

انطلقت سيارة نصف الشحن العسكرية، وقاسم يجلس إلى جانب السائق، وهو يفكر: بداية الصباح! والهواء المثلج يهب من النافذة المفتوحة. كانت بداية الصباح، وكان قلبه يخفق على غير العادة، وفي قلبه صدى لهذه الكلمات: (( لم يبق لي سوى طريق واحد! )) بان هادئ التقاطيع، كأنه جذع شجرة ينساب في نهر. رفع غطاء النافذة الصغيرة التي خلفه، وألقى نظرة، فرأى شريف وأسعد ومجدي وعدنان، ورأى كذلك محمود وشخصًا سادسًا يشبه إلى حد بعيد مازن الذي اغتاله الشاويش. كانوا يجلسون في صفين متقابلين، وبدا له كل منهم، من خلال عتمة الصندوق الحديدي الذي يقبعون فيه، كمن يفكر: لم يبق لي سوى طريق واحد! جسَّ شريف قيده، ورفع عينيه نحو قاسم، فتبادل الاثنان نظرة طويلة.
صاح قاسم بالسائق:
- توقف!
لكنه لم يتوقف، فأخذ قاسم يرفع يده وينزلها أمام عينيه ليخفف من سرعته:
- توقف! توقف!
توقف السائق، فقال قاسم:
- سأتفقد المساجين، سمعت حركة.
لكن السائق سبقه إلى الخروج، رفع غطاء السيارة الأمامي، وراح يعالج شيئًا ما في المحرك. انتبه قاسم إلى الغطاء المرفوع في وجهه، فاختطف رزمة مفاتيح القيود، تناول سلاحه، وقفز خارجًا، ثم فتح صندوق الشاحنة الذي هم فيه. انهمرت أشعة ساطعة في عتمته، مما دعا بعضهم إلى أن يرفع أصابعه أمام عينيه. وبعد لحظات، رأوه واضحًا كضوء الشمس. راح قاسم يرنو إلى محمود بطريقة خاصة، وعندما سمع صوت سقوط غطاء السيارة الأمامي، قذف رزمة مفاتيح القيود في حضن مجدي، وضرب دفتي باب صندوق الشاحنة بقوة مغلقًا إياه. في اللحظة التي صعد فيها قاسم عائدًا إلى مكانه، أقفل السائق الباب على مقربة منه، وبيده قربة ماء سوداء، ألقاها تحت قدمي قاسم. انحنى قاسم، ورفعها سائلاً:
- فارغة؟
أشعل السائق المحرك، وقال:
- أفرغتها في السيارة.
- وإذا عطشنا؟
سارت السيارة:
- سنتدبر الأمر.
تضاعفت سرعة السيارة:
- هناك نبع في الطريق.
وانطلقت السيارة كالريح.
ألقى قاسم القربة تحت قدميه، التفت إلى النافذة الخلفية، وطرف بعينيه نحو السائق، ثم عدل عن رفع الغطاء. كانت الحرارة قد ارتفعت حتى غدت صعبة الاحتمال، وغدا قاسم بإلحاح يفكر: (( لم يبق لي سوى طريق واحد! )) قال لنفسه: لقد حرروا الآن أيديهم.
لاح مركز تفتيش من بعيد، فخفف السائق السرعة، لكن قاسم طلب إليه بحدة:
- لا تتوقف!
أشار السائق إلى المانعة في وسط الطريق، وكلمة (( قف! )) المخططة في وسطها، فعرق قاسم عرقًا غزيرًا. وقبل أن تقف السيارة تمامًا، رفع جندي قابع في الظل إصبعين دون مبالاة، وأشار بعياء إلى السيارة العسكرية كي تستمر في طريقها. رفع جندي آخر المانعة، وانطلقت السيارة من جديد، وقاسم يمسح عرقه دون أن يتوقف عن التدفق من جبهته. التفت السائق إليه، وقال:
- هناك نبع على بعد عشر دقائق.
- لا، استمر!
مضت نصف ساعة، عاد قاسم يفكر: (( لقد حرروا الآن أيديهم! )) أخذت الطريق تسير ونهر الأردن في استواء واحد، إذا ما ارتفعت الطريق قليلاً، اختفى النهر، وإذا ما هبطت، كانوا كأنهم ذاهبون إلى الارتماء في أحضانه. راح قاسم يرمق السائق دون أن يشعره بذلك، كان لم يبلغ التاسعة عشرة بعد، نحيفًا، أملس الوجه، طاهرًا كالعذراء. تساءل: هل ذنبه هو الآخر؟ وقال: (( إن لعنته كيهودي لن تنتهي! )) هبطت شفته السفلى، وهبطت الطريق، كانوا كأنهم ذاهبون إلى الارتماء في أحضان النهر من جديد، وما لبثت الطريق أن سارت معًا والنهر. التفت قاسم إلى أشجار الحور والصفصاف، وتأمل لون النهر الأخضر والحشيش على مد النظر، وراح يلقي النظر إلى الطرف الآخر. شده التفكير، فقال: نعم، في الطرف الآخر أقتل أنسانًا، أنا، في بدني! وهتف بالسائق:
- توقف!
لكنه لم يتوقف!
- توقف! توقف!
توقف السائق، فدفع قاسم القربة بين ذراعيه:
- احضر لنا ماء.
أبدى السائق استغرابه:
- ماء النهر!
- سنغسل وجوهنا! اجلب لنا بعض الماء بينما سأتفقد المساجين بدوري.
هبط الاثنان من السيارة معًا، رآه قاسم يعدو في اتجاه النهر حتى أخفته الأشجار. وبخفة، فتح عليهم صندوق الشاحنة، وقد خفقت روحه كأنما عصفت به ريح. قال لهم، وهو يلهث:
- لقد حان الوقت!
قفز قاسم في الشاحنة، وهو يلقي لشريف سلاحه، ومد نحو أسعد يديه، فقيده بسرعة، وقاسم يطلب إليه بعجلة:
- هناك منديل في جيبي، فلتعقد فمي.
قفز شريف خارج الشاحنة، ومن خلفه عدنان، واختبأ كل منهما من وراء جذع بانتظار السائق، بينما استعد مجدي وسادسهم للطوارئ.
رجا محمود قاسم: لماذا لا تأتي معنا، يا قاسم؟
كان قاسم يفغر فمه بسبب المنديل الغائص مسافة بعيدة بين فكيه، ويكاد عظم وجهه ينسحق تحت تأثير العقدة التي عقدها أسعد حول رأسه. أحس محمود بأصابع قاسم، وهي تضغط على أصابعه، فانتفض للحرارة الهائلة التي صبت في عروقه. فرك بدوره أصابعه، وراح يجس قيده جسَّا متواصلاً بحثًا عن النهاية.
اجتاز السائق المكان إلى حيث يكمن شريف، فتصدى له موقفًا بقوة السلاح. رفع السائق يديه إلى أعلى مسقطًا القربة بين قدميه، فتقدم منه عدنان، وانتزع سلاحه. وبعد أن قيداه وعقداه على فمه، غادر جميعهم السيارة العسكرية بسرعة ليعبروا النهر، وعلى ضفته الأخرى، التفتوا طويلاً إلى الغرب، ولم يزل محمود يحس بقيد قاسم على بشرته.
26
كأن القرية مهجورة!
لا، لم يتغير الطريق الرملي الذي ينحدر منحرفًا. وعندما رفع شعبان عكازيه من أجل السير في الطريق الرملي، تردد، وهو يفكر: إنني أعود إليهم! ولكي يمشي، بذل جهدًا عظيمًا. كان قلبه ثقيلاً، كأنه عضلة ميتة، وقد أخذ ينزع عكازيه نزعًا عن بطن الأرض، وفي عينيه ضوء خافت لا ينوس. قال: درب الأطفال الصغار! فهو لم يأخذ طريق القرية المعبد. وشيئًا، فشيئًا، صارت خطواته تزداد سرعة، وشيئًا، فشيئًا، صارت رائحة القرية تصل أنفاسه. لكنه لاحظ أن زرقة السماء غريبة، وكذلك الشمس، وأن الأشجار يابسة لا تتحرك! وشعبان في ساحة القرية، أخذ يتفقد بيوت الطين. رأى أن النوافذ موصدة، والأبواب موصدة، والحياة موصدة، وهمّ أن يعود أدراجه. فجأة، رأى امرأة من بعيد، في ثياب سود، من رأسها حتى أصابع قدميها، كانت تجلس على عتبة دارها، فظن أنها تنتظر أحدًا. تقدم منها بعكازيه وساقه الوحيدة، ووقف مقابلاً إياها، لكنها بقيت تميل بوجهها نحو الأرض. رأى أصابع قدميها المحناة، حرك يده ليقول لها كلمة، فرفعت وجهًا مغضنًا إليه، لتضاعف من غضون وجهه. بدت له عيناها الغائرتان، وقد جفت الحياة في محجريهما. أشاحت عنه بوجهها، وراحت تنظر، كأنها ترقب أحدًا، نحو الشرق.
أعطاها شعبان ظهره، سار بخطواته الثقيلة، وهامته تنوء بعبء النهار. همهم: أي نهار! أي نهار! سقطت في حلقه اليابس حبة حصى، راح يرغم عكازيه على الانتقال السريع، وبدأت مناجاته: أيتها الأغصان اليابسة، يا أغصان الشمع! حينما أحس بغياب الطيور، بحثت عيناه عن عش كان يعرفه فيما مضى، كان هناك، ولم تكن الطيور هناك. كانت الأعشاب الجافة معلقة في الهواء، بعد أن تحطمت الأعشاش. أيقن: كل شيء مهتوك عِرْضه هنا! أحس أنه منهك، وأنه بحاجة ماسة إلى الجلوس، لكنه أراد أن يرى أمه أولاً، فالحقل، فشجرة التوت. راح يلتفت من حوله باحثًا دون أن يجد أحدًا، ولم تعد رائحة القرية تصل أنفاسه: الرائحة التي تزود بها يوم غادر قريته قد جفت فجأة! أخذت تصله رائحة أخرى غريبة، رائحة أخرى لها طعم جلد العجوز التي كانت تجلس على العتبة. قال: لم تكن بانتظاري! وتعثرت قدمه الوحيدة للمرة الأولى منذ أتى: لقد صدمه منظر كوخهم المهدم، والباب المحطم، وشجرة التوت التي نشروها! وفي البعيد، في قلب الحقل، رأى محراثًا مدفونًا في التراب، والحقل يشكو الجوع والظمأ. اقترب من العتبة، وأطل، فلم ير أحدًا: لا أحد، لا حشرة، ولا إنسان! أثّر بإصبعين على لوح، فسقط بضجة، وثارت زوبعة غبار، ثم مات كل شيء.
همهم شعبان: لا أحد، لا حشرة، ولا إنسان! ولى على عقبيه مهمومًا، فإذا بعشرين قامة سوداء، عشرين امرأة، تزدحم بهن الطريق! رؤوسهن تميل نحو الأرض! همس لنفسه: شيء ما في الأرض، شيء ما! كن يبحثن عن شيء، شيء يجهله، فهو لم يقع على شيء في الأرض منذ عاد. وقع على سيارة أمريكية مغبرة ذات رقم أردني يقف نصفها الأمامي على الرصيف. قال: كل شيء يشكو الظمأ! وصارت في أعماقه صحراء وقامات سود لنساء يبحثن في الأرض عن شيء. عندما وقف وسطهن، رفعت كل منهن رأسًا كهلاً إليه، كانت كل امرأة صورة عن الأخرى، صورة دميمة، يود المرء لو يمزقها، ويغالي في تمزيقها. لكنه رنا إليهن، وفي عينيه ضوء خافت ينوس. عندما همّ بالكلام مع إحداهن، أشاحت عنه وجهها، وراحت تنظر، كأنها ترقب أحدًا، نحو الشرق.
طرق شعبان باب بيت المسلم دون أن يأتيه جواب، فنكس رأسه، وسار خطوتين، وإذا بالباب ينفتح، وامرأة عجوز تطل منه، وفي عينيها الغضب. راح يحدق في الوجه الدميم دون نفور، فتح فمه بصعوبة، وقال:
- إنني أبحث عن...
فانغلق الباب، وكأن أحدهم قد لطمه. تردد في رأسه هذا الصدى: إنني أبحث عن... إنني أبحث عن.... وتساءل: أين يكون المسلم الآن؟ تذكر قاسم عندما قال له: (( لقد فقدت أصدقائي! )) ومع ذلك، فقد أتى كي يتأكد بنفسه. كان غير واثق تمامًا، أما الآن، فلديه الحق اليقين.
همس: ريتا! لم يكن ينادي أحدًا، كان الماضي يهمس في صدره. صاح: لا! هراء! لقد انتهى الماضي، فليس هناك من أحد! كانت دار ريتا تأسن في الصمت، بابها موصد، ونوافذها موصدة. قال: كالآثار! كل شيء في القرية كالآثار! وهو سائح! لا، إنه عالم آثار، وهذه مهنته: أن يتفقدها من وقت إلى آخر، أو أن يكتشفها. كانت القيمة دومًا مشكلته، فهو لا يعطي للأثر قيمته المعقولة إلا بعد أن يفقد قيمته، وتلك آثار فقدت قيمتها كلها، إذن، ما الفائدة؟ سيعود أدراجه، وسيترك كل شيء للريح، سيترك كل شيء، هذا إذا استطاع أن يخلص من تأثيرها عليه، فهو مجذوب إليها منذ بدأ يعطيها جزءًا من وقته. لا، سيترك كل شيء، وسيخلص، ليعود خالي البال دون هموم، وسيرد إلى نفسه كل وقته، كما يرد الجيش المهزوم العار عنه.
همس مرة أخرى: ريتا!
أعطى للأثر ظهره، انحنى بين عكازيه المزروعين في التراب، وأحس للحظة أنه خارج الوقت، خارج البيت، خارج دائرة الآخرين، خارج ماء عيونهم، حتى محاجرهم التي جفت، لم تكن تبحث عنه، لم تكن تريده. دفع عكازيه تحت إبطيه، وراح يحس بلهفة عينيه، تسرب من بين أصابعه الضوء الخافت فيهما، واندفع صوب مقهى فلسطين، دفع الباب، وغاص في الفراغ، ضاقت أنفاسه، لكنه تدافع إلى إحدى الطاولات، وجلس لاهثًا. تلفت من حوله، فرأى في قلب المقهى شيخين، يجلس كل منهما مقابل الآخر، العين في العين، وكل منهما يحدق إلى العتمة. بقي طويلاً يرنو إليهما، حتى اكتسحه شعور هائل بالشيخوخة. جاءه صاحب المقهى العجوز، وقبل أن يفتح فمه، بادره قائلاً:
- ليس عندنا إلا القهوة المرة.
هز له شعبان رأسه موافقًا.
لم يتحرك الشيخان طوال الفترة التي شرب فيها قهوته، أراد أن يشرب فنجانًا آخر، لكنه نهض بسرعة إلى الطريق. ازدادت القامات السود المزروعة في الطريق، بوجوه متمزقة كبرًا. لحظتذاك، تذكر أنه لم يبحث فيها عن يأس الآخرين. اقترب منها، ورأى بين تقاطعيها الشيخة جروحًا تنبض احمرارًا، وشيئًا، فشيئًا، أخذت تخفق الجفنين. لقد أتى الهبوب بأوراق الشجر الصفراء... من الشرق! نهضت امرأة، وتقدمت، بينما هي تميل على الجانبين متفقدة الآتي. وضعت يدها فوق حاجبها لتجمع الرؤية، وترى جيدًا بداية الطريق. ازداد الهبوب، فنهضت ثلاث نساء أخريات، وفتحت إحداهن ذراعيها كي تستقبل الريح. وكان منه أن رمى عكازيه جانبًا، وجلس على حجر، وراح ينظر كالجميع، نحو الشرق.






27
ثلاثون نجمة سوداء، والليل أزرق!
كانت المدينة نائمة، وشعبان لا يعرف النوم، كان يسير في الطرقات وبعد أن مضى بضوء أحد القناديل، تقدم منه أحد الجنود، وأشعل مصباحه اليدوي في وجهه، ثم سأله بعصبية:
- إلى أين؟
قدم له شعبان بطاقته الرسمية، وعلى التو، أدى له الجندي التحية.
تساءل شعبان: إلى أين؟ كان يقطع (( طريقه ))، حتى نهاية الطريق، هذا إذا ما قدر على ذلك. ذو قدم واحدة من لحم، وقدمين من خشب! وأخذ الليل يخفق على بدنه كالجناح. كان يقترب، والنهاية البعيدة هناك، ولكن! كان يقترب، ويرنو إلى العالم، ولكن! كان يقترب، ويتنفس، ملء رئتيه، عذاب الليل، ولكن! رأى خيط ضوء من بعيد، كأنه أنتين طائرة آيبة. وعندما وصل الضوء، اعترضته حديقة تحيط بدار منعزلة. بدأ خيط الضوء يتحرك من حجرة إلى أخرى، حتى استقر في الطابق الثاني. دوت صرخات امرأة في الليل، تستغيث، ورغم صعوبة خطواته، فإنه هرع إليها. دخل الحديقة، والصرخات تدوي، والنداء ساحق ماحق. لاحظ بين الأشجار شبحًا أسود يعطيه ظهره، شبح جندي مسلح! فاتضح لشعبان كل شيء، وبأقصى قواه، أهوى على الشبح عكازه، فعجنه في الأرض. نقل سلاحه بسرعة، ودخل من الباب المفتوح. كان الليل دامسًا في الداخل، والصرخات بدأت تخفت، وتتباعد، إلى أن غدت أنينًا مديدًا. انفجرت من جديد، ثم عادت أنينًا مستسلمًا. كان الضوء في الطابق العلوي يهرب من تحت باب، وفي اللحظة التي صار فيها أمامه، انساب الباب المجاور، فظهر له رجل على كرسي دون حراك، ظهره إليه، وهو معقود اليدين إلى الوراء، له نصف صلعة تتكسر عليها الظلال، وقد سقط إلى جانبه سوط دموي بان ذليلاً مهانًا غير قادر على فعل شيء. تحول الأنين في الحجرة ذات الضوء الهارب إلى مواء مقهور، فدفع شعبان بابها، وفي اللحظة التي تقدم فيها هائجًا، والشرر الأسود يضاعف النور في عينيه، نهض عن امرأة جندي نصف عار صوب سلاحه، لكنه كان قد دفع نصل الحربة في قلبه قبل ذلك بكثير. وعندما خر الجندي على الأرض، نهضت الطريحة لتحيطه بذراعيها.
كانت (( المجنونة ))، أخت عبد القادر.
أخذت تضمه طويلاً، تشمه طويلاً، تشده طويلاً، وشعبان يقف على قدمه الوحيدة، بعد أن سقط عكازاه. انحنت، تناولت عكازيه، ووقفت وجهًا لوجه معه حتى انتهت لهثات الاثنين. ها هو يراها، سوداء العينين، ذات الثوب الأسود، والشعر الأسود المخضب! سارعت إلى مسح العرق عن جبينه، وهو صامت بين يديها، ثم ما لبثت أصابعه أن ارتفعت، وجَسّت شفتيها، كان هذا كل ما يريد: أن يجسّها. وفي نفس اللحظة، وصلته ضجة من الطابق الأرضي، فاتجه نحو النافذة المفتوحة بخفة، ألقى عكازيه، ثم التفت إليها، كانت تخصه (( وحده )) تلك القامة الناحلة، لكنه قفز من النافذة إلى قلب العتمة، وما هي سوى بضع لحظات، حتى سمع خطواتها تتبع من ورائه، ثم تحاذيه. أخذت يده، وراحت تساعده على النجاة بقدر ما أمكنها من سرعة وحرارة، وقد صعد القمر الدموي عميقًا في قلب السماء، مضيئًا لهما مسافة أخرى، نحو مملكة الإنجيل والقرآن والتوراة.




28
يعقوب وصل: شاويش السجن الجديد!
لم يتبدل فيه شيء، جسده المترهل المفعم شحمًا، كرشه المهتزة المبالغة في الاندفاع، ابتسامته الدبقة اللا تخلو من حذر، عيناه الفضوليتان المحيرتان اللتان لا يعرف الناظر إليهما حقيقة ما يعتمل في ذلك الرأس الضخم المجتث الشعر، وما تطبخ فيه من أمور! لقد وصل يعقوب، شاويش السجن الجديد، وراح يقطع الرواق بخطوات راقص! عندما مر بقفص عبد القادر توقف، تناول عن البلاط قشرة موز، وقذف بها جبينه. سقط مخاط عبد القادر مختلطًا بلعابه، لكنه تناول قشرة الموز بيد خفيفة، وأعادها إليه دون أن يصيبه، فسار يعقوب، وعلى شفتيه ابتسامته الدبقة، ثم ما لبث أن التفت إلى عبد القادر، فرآه، وقد تسلق القضبان مهمرًا بعجز، دافعًا منها قبضاته الواهنة دون جدوى.
صعد يعقوب الدرج إلى الطابق الثاني، ونقر الباب على شعبان، ثم دفع كرشه من أمامه بحماس، ودخل:
- سيدي الضابط!
لم يرفع شعبان عينيه عن ملف مفتوح بين يديه، مضت لحظات، فارتبك يعقوب، وهو ينتظر متربصًا أدنى حركة من ضابطه دون حراك. تنحنح، فرفع شعبان رأسه إليه، وطابة من شوك قد فركت في قلبه على التوالي. ربما بسبب حبة زيتون أكلها يعقوب عند محمود قبل أن يوقع فيه، ربما بسبب تلك الابتسامة الدبقة التي لا تمحي أبدًا عن ذلك الوجه العجيني.
- سيدي الضابط...
استقام رأس شعبان تمامًا، وبخفة، نقل بين أصابعه قلمًا، فعرّفه يعقوب بنفسه:
- شاويش السجن الجديد، يا سيدي الضابط.
توقع أن يأذن له بالجلوس، وقد دنا خطوة، ووضع يده على ظهر الكرسي المقابل، ثم ما لبث أن رماها إلى جانبه، وجعلها تتحرك حتى استقرت. أضاف يعقوب بلهجة مفخمة:
- ربما قال، سيدي الضابط، إنها مهمة صعبة أنوء بحملها، لكني أعلمك بأنني صاحب تجارب.
همس شعبان لنفسه: (( هذا هو يعقوب المداور، المداجي، يعقوب المداهن، والذي يتقن مهنته تمامًا! )) كان وحده من يعرفه، كان وحده من يعرف الحقيقة في عينيه. لم يفتح شعبان فمه، تركه دون إرادة منه يقول:
- لقد سبق أن كانت لي تجارب كثيرة، ولسنوات عديدة، لهذا...
كأنه عاد إلى نفسه، قاطعه بصوت ناشف:
- اطلعت على ملفك.
انحنى يعقوب قائلاً:
- لقد وقعت أخطاء! أخطاء ارتكبها الشاويش السابق!
تساءل شعبان: (( عم يتحدث يعقوب؟ ولماذا لا يبدل أسلوبه؟ وما الذي يسعى إليه بالضبط؟ إن يعقوب السيئ، هو هذا اليعقوب الذي يقف بين يديّ، دون أن يتبدل فيه شيء! )) حدق يعقوب في عيني ضابطه، فجرفه موج الفحم. خفض صوته، وكأنه يفشي سرًّا:
- لم يكن بالحاذق الشاويش السابق.
أضاف (( بتواضع ))، وهو ينوء برأسه الضخم المضغوط قليلاً جدًا إلى اليمين، ثم إلى اليسار:
- لقد درست ملفه جيدًا، إلى جانب بعض الملفات الأخرى، فالعمل يقتضي ذلك. منذ وصلت، وأنا عاكف على مراجعة بعض التقارير، وبإمكاني القول إن الأمور لم تكن تسير كما ينبغي. لقد حصلت أخطاء جسيمة، بل خطيرة، سيكون لها أثرها السيئ إذا ما شاعت (تراخى بابتهال، وأصبح صوته يجيء على موجات مشحونة بنبرات مختلفة): لكني أفهم جيدًا ما يعني ذلك بالنسبة لمكان وموقف سيدي الضابط، إنني... نعم، فلتعتبرني جنديًّا بسيطًا متواضعًا في خدمتكم، يا سيدي.
طلب شعبان إليه دون أن يرغب في ذلك:
- اجلس.
- سحب يعقوب الكرسي ليعمل فسحة لكرشه المندفعة، ثم جذبه من تحته، وهو لم يزل يقول:
- لا، لم يكن بالحاذق الشاويش السابق، بل لنقل إنه كان أهوج تمامًا. لهذا، حصل ما حصل. إنني... (سكت، وشكله كله يتذبذب، ثم قال، وهو يلوي عنقه إلى جانب): أنتظر الشروع بتنفيذ الأوامر.
قام شعبان معتمدًا على عكازيه، دفع الملف في الخزانة، أقفلها بالمفتاح، والتفت إلى يعقوب، ويعقوب، طوال الوقت، يلاحقه بنظراته دون أن يبدو عليه أي تساءل عنه، عن ذلك الأعرج المشوه. قال شعبان:
- تعرّف على أقسام السجن أولاً، وبعد ذلك، سيمدك قسم الاستعلامات ببرنامج العمل. نحن في نهاية الأسبوع، ولا بأس في أن تباشر مسؤولياتك ابتداء من الأسبوع القادم.
هتف يعقوب، وهو يفرك يدًا بيد:
- أوه، يا سيدي الضابط!
وضع يديه الضخمتين على فخذيه، فأثرتا مسافة في لحمه، ثم أضاف بتمهل:
- لقد أمدني قسم الاستعلامات ببرنامج العمل بناء على طلبي (شدد على (( بناء على طلبي ))) وبإمكاني أن أباشر مسؤولياتي حالاً.
قال شعبان في قلبه: (( يا له من يعقوب خبيث لا يتغير! )) وعند ذلك، راحت طابة الشوك في قلبه تنتقل بسرعة فائقة، فتحرث له عروقه، وينتج عن ذلك ألم حتى الآن يستطيع احتماله.
ضحك يعقوب (( بخجل )) محنط، وهو يميل كالدب القطبي، ثم قال بصوت مائع يرتد على نفسه:
- إنني، لنقل، يا سيدي، إنني عبد شاراتي.
وهو يشير إلى الشرائط الثلاث المدروزة على ذراعه.
- ما يجعلني أهلاً لها.
ونهض:
- سأترك سيدي الضابط لمهامه، فوقته ضيق، إن لم يكن وقتنا جميعًا، والردهات المكتظة تحتاج إلى غربلة دقيقة، وتكنيس شاق.
سكت قليلاً ثم أضاف، وهو يبالغ في الاحترام:
- إنني في خدمتك وقتما تشاء، يا سيدي الضابط.
انحنى، وتراجع خطوتين، ثم ما لبث أن قال، وهو يحاول منع ارتجاف كرشه:
- اطمئن، يا سيدي، اطمئن، سأقوّم الخطأ، ولن تكون هناك مشاكل أبدًا.
بسط كفه، وراح يلوح به كالحد:
- سأضرب بيد من جهنم!
وعلى الباب، انحنى للمرة الثانية، وفمه يتراخي عن بسمة مائعة تنافرت مع كل تلك التقاطيع التي تحاول أن تتصنع القسوة، لأول مرة، منذ أن التقى به. أخيرًا، قال بخاتمة مسرحية:
- اطمئن، يا سيدي، اطمئن.
وخرج.

* * *

عملية السقوط!
نزع الممحون الصور عن الحائط، وجعلها تتساقط تحت قدميه. رفع قدمًا، ودعس جسدًا، وهو يفكر: الشاويش الجديد لا يهوى الرياضة! ونحى جانبًا برواز بطل العالم لرفع الأثقال. كان بينه وبين نفسه يقول: تُرى؟ يا هل تُرى؟ وخشب النافذة مغلق، بينما ضوء الحجرة مشتعل. وكان السرير مبعثرًا، على الطاولة القصيرة أوراق مدعوكة، وفي سلة المهملات جرائد ممزقة، أما فردتا حذاء يعقوب الضخم، فكانت فردة في الغرب وأخرى في الشرق. أخذ الممحون يحك عنقه، وتقاطيعه تنفلت، وتنسحق، لكنه قال : سأقول له أول ما يأتي. وبعد نصف لحظة، همس لنفسه: لا، إن العجلة من الشيطان! انحنى حتى غدا زاوية قائمة، وراح ينقل الصور الملونة عن الأرض، ويصفها فوق بعضها. وعلى حين غرة، دفع يعقوب الباب، ودخل، فاعتدل الممحون، تراجع بين يديه، ثم قال بأدب:
- أسعد مساؤك، يا سيدي!
التقت عينا يعقوب بدلو الماء والممسحة، وتراخى وجهه الملطوع بتلك البسمة المائعة أكثر ما يكون في خديه. اتجه إلى درفتي النافذة، ودفعهما، فبانت الشمس الدموية الغاربة من بين القضبان.
بقي الممحون ينظر إلى يعقوب كي يلتقيه بعينيه، فيقول كلماته، لكنه اتجه نحو الطاولة القصيرة، ورفع عنها البرواز، حتى مستوى عينيه، وفي خدوده تلطم ضحكة مطاطة ليس لها صوت. استدار، فتلاقت عيناهما. قال الممحون بلهجة نشطة:
- في العادة ما أقوم بتنظيف الحجرة مرتين في الأسبوع، كانت آخر مرة يوم أمس، ومع هذا، فسأعيد التنظيف الآن حسب رغبتك.
لم يعلق يعقوب، وضع البرواز جانبًا، وعاد الممحون ينحني في زاوية قائمة لينقل عن الأرض صورة. لفت رأسه، ناحيته، وهو لم يزل منحنيًا:
- لقد طلبت نزعها.
مال رأس يعقوب قليلاً إلى الأمام، فبسم الممحون بسمة هزيلة، وهو يحس وجعًا في خاصرتيه. تقدم منه، وعلى يديه الصور، وسأل:
- هل أمزقها؟
فاختطفها يعقوب منه، وراح يقلّبها بسرعة، وهو يسأل:
- من أنت؟
- سجين؟
- منذ متى؟
- منذ حوالي عامين.
- جريمتك؟
- السياسة.
- من أمرك بالتنظيف؟
- شاويش السجن السابق.
- أنت مسؤول عن تنظيف حجرتي فقط؟
- وحجرة ضابط السجن، والممرات الفرعية للطابق الثاني.
توقف عند آخر صورة، ثم حاول تصفيفها فوق بعضها، لكنه مزقها بخشونة، ورماها في سلة المهملات آمرًا:
- أفرغ سلة المهملات!
حمل الممحون سلة المهملات، وسار خطوة باتجاه الباب، فأوقفه يعقوب:
- وهذا؟
مشيرًا إلى البرواز، ودفعه له. والممحون على الباب، طلب إليه يعقوب:
- أسرع في العودة لتنهي عملك بسرعة!
فكر يعقوب بسعادة: حظ يسقط عليّ من السماء! لم يكن يتوقع أن تسير الأمور في صالحه على مثل تلك السرعة! كان يفكر في الاتصال بحارس الضابط، ولكن طالما (( هذا )) يقضي وقتًا لا بأس به، ووحيدًا، في حجرة الضابط من أجل التنظيف، فالاتصال بالحارس ليس ضروريًّا. بالطبع، إلا في الحالات القصوى. وهمس: عملية رقابة! لا، فلنسمها عملية تجسس شريفة! قهقه في سره، وقال: سآتي بأجله! فبعد عملية الهرب التي قام بها قاسم، والأمور (( الغريبة )) الأخرى التي تجري في السجن، كلفوا يعقوب بأن يستعمل مكره ودهاءه للوصول إلى نقطة السر. وفوق ذلك، فقد أطلق ضابط السجن سراح بعضهم بأمر منه، وليس ذلك من صلاحياته. استعاد ما قاله لشعبان: (( اطمئن، يا سيدي، اطمئن! )) ومن زاوية فمه، أخذت تسيل همهمة متواصلة لقهقهة مكتومة راح يستهلكها بالتدريج. قال مرة أخرى: سآتي بأجله! وعقد العزم على الإيقاع به مهما كان الثمن. راح يتحسس بأصابع منمنمة الشرائط الثلاث التي على ذراعه، كان يسعى إلى ترقية منذ أن توقف عند رتبة شاويش، وعند رتبة مواطن يهودي عادي. هتف: الوسيلة تبرر الوسيلة! واللهب الدموي للشمس يرشق القضبان.

* * *

كان شعبان يحتاج إلى قوة، فلكي يجتاز عجين الليل، كان يبذل أقصى قواه، ويتنفس بصعوبة، وكانت لعكازيه أصداء ثقيلة كأنها لطمات على وجه لدن. جاءته (( المجنونة )) بثوب أحمر، وهو في وسط الممر المؤدي إلى بيته، جعلته يتعلق على كتفها، وسارت به إلى الداخل، وفي الداخل، رمته في أحضانها، وراحت تهمس على شفتيه:
- إنني لك، إنني لك!
ومن بين أشجار الحديقة الصامتة، كانت عيون أسود من الليل تراقب، حتى أن يعقوب واثنين آخرين من أعوانه لم يبارحوا أماكنهم لمدة طويلة بعد أن انطفأ الضوء.









29
لطمه، ثم لطمه، وعاد يلطمه من جديد. سقط الممحون على السرير، ويعقوب ينهال عليه لطمًا. أحس بجدار الزنزانة تميد، ففغر فمه إلى أقصاه، وسقطت دموعه. أخذ يعقوب ينبر:
- أيها الفرج القذر! سأقتلك!
قبض الممحون على ساعد يعقوب، وتشبث بها متوسلاً:
- سأحاول من جديد، إنني أعدك.
أكد يعقوب:
- غدًا
فتلخبط شكله:
- لا، ليس غدًا.
لكنه لطمه، هربت منه صيحة، ثم استردها:
- لن يكون هناك تنظيف غدًا، فهو ليس الموعد.
- سيكون هناك تنظيف غدًا، وستفتح خزانة الحديد بأي ثمن.
هز الممحون رأسه علامة الموافقة، ليتحاشى صفعة أخرى على صدغه، أو ركلة أخرى بين فخذيه.
أوضح:
- لم أعثر على المفاتيح، إنه لا يتركها في مكتبه.
انحنى يعقوب أكثر ما يكون عليه، وعاد ينبر:
- تدبر أمرك، اسرقها من عينيه، المهم أن تتدبر أمرك، هناك ملفات أريد تصويرها، هل الكاميرا معك؟
أومأ رأسه.
- إياك أن يكتشف أمرها أحد.
عاد يومئ رأسه.
- صور لي كل ما تلقاه من وثائق، مهما كانت، وغدًا مساء موعدنا هنا في الزنزانة.
وبظاهر يده سدد بطنه، فأطلق الممحون بعض اللهثات، وخارت قواه تمامًا. انزاح يعقوب عنه، وتراجع خطوتين، ثم أخذ يهز سبابته في وجهه:
- إنني أحذرك!
وظل يتراجع حتى ابتلعته العتمة.

* * *

قال له جندي:
- إنها ما زالت في عهدته، تلك الفتاة الغريبة!
راح يعقوب يزرع خطواته ذهابًا وإيابًا، ثم ما لبث أن توقف، وحدق في الجندي المنتظر أن يقول شيئًا، لكنه بقي يحدق فيه من خلال فكرة مجنونة سيطرت عليه. لم يجد الجندي ما يفعل، دفع ليعقوب سيجارة، وقال:
- دخن.
لكنه قبض على أصابعه، وضغطها بأقصى قواه، فانسحقت ما بينها السيجارة، بينما راح يردد:
- ما العلاقة؟ ما العلاقة؟ ما العلاقة؟
انحنى، وانهدم على الطاولة القصيرة تمامًا.
وضع الجندي سيجارة أخرى في فمه، وأشعل عود كبريت، لكن يعقوب، بنفخة من فمه، أطفأ اللهب، فأصابت الجندي الخيبة، وتطلع إليه دهشًا. ارتفع يعقوب كالناقة العجوز، وراحت كلماته تخرج من فمه مهموسة، وهو يمعن النظر فيها:
- العلاقة التي تربطه بالفتاة، يجب أن نكشف عن العلاقة التي تربطه بالفتاة بأي ثمن.
وصاح به آمرًا:
- هيا بنا!
- إلى أين؟
- إلى حديقة الليل.
* * *
انطفأ الضوء، وانفتح الباب. سحبها شعبان من ذراعها، وحركات تبدر عنها لا تعبر عن قبول. تبعته مرغمة، وشعر الليل مزروع بالنجوم. همست لنفسها: إنه لا يريدني! أهلك الشقاء محياها، فقط لمجرد أن تعود إلى أبيها، أن تعود إلى ذنبها القديم. لكنه وعد أن يعود إليها، عندما يخلص هو من ذنبه القديم! دفعها في سيارة عسكرية كانت بانتظارهما، وانطلق بهما السائق إلى دارها. تركها شعبان هناك، فلم تدخل الدار. فكر: هذا ما بدأ عندها، عنادها! وعندما ذهبت به السيارة في الطريق الطويل، هرعت إليه في الاتجاه ذاته، إلا أن قبضة يعقوب المترصدة ألجمتها. هجمت عليه بأسنانها، التقمت عضلة زنده، وأرغمته على تركها، وهو يقبض على زنده من شدة الألم، ويشتم فاقدًا الأنفاس. عندما استردّ يعقوب أنفاسه، لم يقع عليها. أخذ يبحث عنها في الحديقة، وفي الطرقات المجاورة، وتطلع في ظلال الأعمدة، وفي بقع الضوء القاتمة دون أن يجدها. راح يرجم كلبًا مسالمًا مرّ به صدفة، وتوقدت عيناه، وهو يفكر: أريد أن أمسك طرف الخيط. وعاد السؤال يلح عليه: ما العلاقة؟ ما العلاقة؟ ما العلاقة؟ من هي؟ من هو؟ من هما؟ من؟ من؟ من؟
* * *
عندما عاد شعبان في ساعة متأخرة إلى بيته، وجدها تنام على العتبة، ملفوفة في حضن الليل.
30
- خبر ليس بسار، يا سيدي!
كان شعبان يحاول فتح النافذة، فتشنجت أصابعه. التفت إلى يعقوب، فكوى يعقوب ذلك الوجه الخارج من النار. انسحق فمه المفتر، ووجد نفسه يقول:
- السجناء الثلاثة الذين أطلقت سراحهم يوم أمس ألقي عليهم القبض من جديد.
تأجج شعبان تأججًا هائلاً، وترك النافذة على حالها موصدة. تقدم منه بعكازيه، وهو على وشك أن يذوب لشدة ما تأجج، كالنحاس في مصهر. أراد أن يعرف مصدر الخبر:
- كيف عرفت؟
أطلق يعقوب ضحكة مستفزة، ثم ما لبث أن تخشب تحت نظرته، ولكي يطمئن من أنه لم يزل قادرًا على الكلام، قال:
- عاد السجناء إلى زنزانتهم هذا الصباح.
دنا شعبان منه خطوة، كبركان على وشك الانفجار، لكنه سأل متماسكًا:
- من أعادهم؟
أشاح يعقوب بوجهه عنه، لينجو من كبس النار عليه، وأجاب:
- جنودنا.
- لماذا؟
أجاب بسرعة:
- لأنهم إرهابيون!
وسكت.
راح شعبان يزحف بعكازيه دائرًا من وراء المكتب، وبينما هو يسحب قدمه على السجادة، كان ينتج عن ذلك صوت تمزيق طويل. سمعه يقول عن عمد:
- أمسك بهم جنودنا، وهم يحاولون قطع النهر (سكت قليلاً ثم أضاف): لقد تركوا من ورائهم عبوات ناسفة (وأنهى مشددًا على كلماته): إنهم إرهابيون ومجرمون!
ترك شعبان نفسه يسقط على الكرسي، بسط عكازيه على المكتب، ورمق يعقوب، كان يمتص بعينيه لمبة الضوء. حينما جاءت عيناه في عينيه، انطفأت لمبة الضوء فيهما، فاجتاحه قلق عارم. سقط في الظلام، رغم أن هناك مصباحًا يضيء، وأخذت شفتاه تنفرجان بتواتر، وشفته السفلى تنفر بآلية:
- سأعيد التحقيق، يا سيدي! فليطمئن سيدي! سأعيد التحقيق!
وفسّخت أذنيه كلماته التي تتصنع المرح:
- ليس خطأ سيدي الضابط ما في شك طالما أعدناهم، وسأعمل على...
لكنه قاطعه مهتزًا:
- لا تكلمني عن خطئي!
تململ يعقوب في جلسته، ولأول مرة، بان فكره واضحًا في تقاطيعه:
- قلت لك، يا سيدي...
وشعبان لم يزل يصيح:
- أجريت التحقيق بنفسي، وقد وجدت أنهم...
انقطعت حبل الكلمات، فطرح نفسًا، وقال بهدوء دون أن يغادره تجهمه:
- أترك قضية إعادة التحقيق لي.
حدجه يعقوب، وقال على مضض منه:
- سمعًا وطاعة، يا سيدي.
ونهض، فأوقفه:
- اسمع.
- نعم، يا سيدي.
- اترك قضية إعادة التحقيق لي.


* * *

في اليوم التالي، لم يعثر يعقوب على السجناء الثلاثة في زنزانتهم.

* * *

وفي اليوم التالي أيضًا، اكتشف يعقوب وجود (( المجنونة )) عند شعبان.
* * *

هتف السؤال، مرة أخرى، في رأسه:
- ما العلاقة؟ ما العلاقة؟ ما العلاقة؟
ظل يعقوب ليلاً نهارًا يتساءل: ما العلاقة؟ ما العلاقة؟ ما العلاقة؟ كان أحد تابعيه قد حكى له القصة الغريبة لمقتل الجندي في بيت
(( المجنونة ))، وها هو يطحن أفكاره، ويتساءل: ما العلاقة؟ ما العلاقة؟ ما العلاقة؟ ما هي العلاقة بين (( ضابطه )) و(( المجنونة )) ؟ كان بإمكانه أن يتصرف في الحال، فالهروب الذي تم، في عرف السلطة العسكرية، جريمة. حتى الأمر الفردي بإطلاق سراحهم، هو جريمة أيضًا، إذ ليس من صلاحيات ضابط السجن أن يتخذ أية مبادرة إفراج من طرفه دون أخذ موافقة الحاكم العسكري، إن لم يكن وزير الدفاع ذاته.
كتم كل ذلك، طلب من قسم التحقيقات العسكرية في جرائم الحرب ملف الجندي المقتول في بيت (( المجنونة ))، وقطع قرارًا: حتى ولو كان الأمر ليس صحيحًا، حتى ولو كان القاتل غيره، فسأذله!

* * *

وشعبان غائب عن بيته، اقتحمه الجنود، وألقوا القبض على
(( المجنونة )).
* * *

جاء شعبان من آخر الرواق، وهو يكسر خطواته كسرًا، ومع ذلك، فقد كانت في أعماقه نشوة ما، نشوة جرح قديم عاد ينزف. ولأول مرة، منذ زمن بعيد، أحس أنه يصبو إلى شيء، لم يقع عليه من قبل، كان حتمًا حريته. أزهرت حروقه إزهارًا عجيبًا، وتفجر العطاء في عروقه فجأة بعد سنوات القحط الطويلة. تهادت إليه نفسه، وهمست في أذنه حكاية له وحده، عنه كإنسان، قبل كل شيء. ذكرته بالماضي، وقالت له: أنت لست جزءًا من الماضي، وإنما الماضي جذرك، والحاضر ساقك، والمستقبل فروعك وأوراقك، وأنا أنت. وعند ذلك، انطلق الضوء في عينيه، رغم ليل الرواق، وعفونته، وراح يكسر خطواته كسرًا، كي يقطع آخر مسافة من الرواق. دفع باب غرفة الضابط الذي كانه، فالتقى يعقوب يجلس من وراء المكتب، وعلى بعد قريب منه نجمة داود، ودبوس مغروز في قلبه قد انتُزِعَ. تقدم منه خطوتين، واشتهى، وقتذاك، أن يعجن وجهه، ويمزق بأظافره ميعته، ودبق ضحكته. أن يفغر بعصاه عين اللؤم فيه، والدجل، و(( الشجاعة ))، و(( الأخوة ))، و(( الحضارة )) الدموية، و(( اليهودية )) المقتحمة للأجناس، و(( الاشتراكية )) الحمقاء، والوعد (( الإلهي ))، أن يمضغ حشيشة قلبه، وأن يلوك في قلبه (( حقيقة )) التاريخ الماورائي، وكل ما هو
(( خالد )) و(( متسامٍ )). لكنه بقي يصبو إلى شيء، شيء آخر غير هذا، شيء ما، لم يقع عليه من قبل، كان حتمًا حريته.
جاء صوته النابر يسأل عدوه اللدود:
- ما الذي تريده؟
- كل شيء!
- كل شيء؟
- نعم، كل شيء، حتى أنت!
عصفت بشعبان ريح اقتلعته من الأعماق، فرفع عكازيه حتى المنتهى، وقفز صوب يعقوب يريد الفتك به، وفي رَمْش عين، أحس أنه حار، وأنه طيب، وأنه أصيل، وأنه جديد، ونقي، وراسخ، وأنه عميق، لكنه توقف في اللحظة الأخيرة. لم تكن بينهما سوى خطوة واحدة، ومسدس على وشك الانطلاق.

31
- آه! يا عزيزتي أولغا، كلما أفكر أنني زوجة رجل عسكري يصيبني الصداع، لقد قضي الأمر، وعلى أي حال، سيبقى الأمر أمري، والمشكلة مشكلتي.
- الحكمة تقول: أن نمعن النظر جيدًا في العمل قبل الشروع به، أيًّا كان العمل.
- العمل! العمل! ومع هذا، فقد أمعنت النظر جيدًا، وحاولت إقناعه عندما كان (( حرًّا ))، ولكن، لا فائدة، وفي الأخير، قالوا لنا هذه أقدارنا.
كانت السيارة السوداء الرسمية تشق شارع 15 أيار في تل أبيب، وريتا تلقي نظرة من نافذتها المربعة على امرأة كهلة تطرق بعصاها الرصيف، وهي تجد طريقها بصعوبة.
صاحت ريتا:
- انظري! المرأة الكهلة هناك!
- آه! يا للمسكينة!
- أحقاً؟ يا للمسكينة؟ آه، كلما أفكر أن هذه أنا!
- هذه أنت!
- إن عيبك الوحيد كصحفية، أو بالأحرى، عيب مهنتك، أنها عبارة عن عناوين جذابة، وحروف أنيقة، الصعب فيها صفها فقط، وما أن تصبح كلمات حتى تفقد قيمتها، وتصبح ككل شيء هنا: بهرجًا مرعبًا!
ضحكت أولغا:
- هذه دعابة منك، يا ريتا.
- نعم، دعابة.
- لكن... أكاد لا أفهمك! من أول من ساعدني على التسجيل في كلية الصحافة؟ أنت. لقد دفعتني إلى مهنة أحببتها، وأنا صغيرة، وهأنذا أمارسها الآن لأنك كنت مشجعي الوحيد. لكني أسمعك، وليست هذه هي المرة الأولى، وأنت تحاولين التقليل من قيمة مهنتي. قولي لي بصراحة، هل تقصدين إهانتي أم ماذا؟
- اسمعي، يا أولغا، عندما كانت الصحافة هوايتك، بذكائك أنت وفطنتك، قلت لنفسي ستكونين قلمًا جديدًا يعي كل شيء، لينقله على حقيقته. لكن الذي حصل، أنك أصبحت قلمًا ليس بالجديد ولا بالقديم، حقًا إنه قلم ينقل كل شيء، لكنه ليس صادقًا.
- آه، يا عزيزتي ريتا!
- أنا أعرف، وأنت تعرفين، عندما يصبح المرء أداة في جهاز آلي كيف تكون النتيجة.
- هذا هو رأيك؟
- هل أنت راضية؟ قولي بصدق.
- آه، يا عزيزتي ريتا! كأنك في صدد معاقبتي!
- إذن، استمري!
- الغريب في الأمر، أنك لست على طبيعتك اليوم، هل أنت تعبة؟ ألم تنامي جيدًا ليلة أمس؟
- ماذا؟ لم أنم جيداً؟ يا للسؤال! إنني أنام، نعم، إنني أنام ككل الناس!
- يمكن تأجيله، التحقيق. وإذا أردت، عدت بك إلى المنزل، فترتاحين قليلاً.
جاءت أولغا بحركة من يدها مقتربة من ظهر السائق، فأوقفتها ريتا:
- لا، موشيه ينتظرنا، وقد أعد نفسه.
التفتت أولغا إليها بحزن، وقالت:
- يا عزيزتي! يا عزيزتي! ألهذه الدرجة تزعجين نفسك؟
قالت ريتا شبه حالمة:
- فستانك جميل!
ضحكت أولغا بافتتان:
- أتعجبك الألوان الزاهية؟
- إنه جميل!
- آه! حتى أنت! أنت جميلة وأنيقة!
- أنا؟
- إن ذوقك هادئ.
- لقد كبرت، يا أولغا، لقد كبرت، لم أعد ريتا الماضية.
- ستظلين ريتا الجميلة، وسيعجبني ذوقك دومًا.
- أحقًّا سيعجبك ذوقي دوماً؟ إن ألواني، كما ترين، قاتمة، ألوان امرأة تحس من أعماقها أنها كبرت، وأن كل شيء يمضي على حسابها.
- أنا فخورة بك دومًا، يا ريتا، وأنت تعرفين مشاعري نحوك.
- أعرف.
- أرجوك، تخلصي من بعض الأفكار التي ربما تسيء إلى شبابك.
- بعض الأفكار؟
- أقصد، لا تفكري في شيء، فكري في نفسك فقط وفي سعادتك.
- وفيم أفكر طوال الوقت، يا ترى؟
- إن المنطق يقول، يا عزيزتي، أن نفكر في نفسنا وسعادتنا دون انزعاج، أما أنت فتفكيرك في نفسك وسعادتك مقرون دومًا بهَمّ وانزعاج وفلسفة معقدة لكل شيء! آه، يا إلهي، كم أحب الركوب في سيارة مريحة كهذه! إنني أحسدك، يا ريتا، إنني أحسدك!
- آه!
- إنني أحسدك! لديك سيارتك الفخمة هذه، وبيتك كأنه قصر، وزوجك الضابط المؤتمر بأوامره الآخرون، والمال، وكل شيء، إنني أحسدك!
- أشكرك على حسدك لي!
- عليك أن تكوني سعيدة.
- أن أكون سعيدة؟
- لديك كل شيء.
- حتى سعادتي؟
- نعم، حتى سعادتك.
أطلقت ريتا ضحكة ذات صدى مختصر، مما جعل أولغا تطلب إليها منزعجة:
- لا تضحكي هكذا.
لكنها عادت تضحك، وقد ميزت أولغا رنين سخرية في ضحكتها.
قالت ريتا:
- أنا أضحك لأنني أردت الضحك، هذا كل ما هنالك.
احتدت نبرة أولغا:
- ماذا تريدين أكثر من هذا؟
قالت ريتا، وقد هجم على وجنتيها هزال مفاجئ:
- أنا أريد... لا، لا أريد شيئًا، أحتاج فقط إلى الذهاب إلى كنيس.
أطلقت أولغا نصف صيحة متعجبة كتمتها بإصبعين:
- ماذا؟ أهناك من يمنعك من الذهاب إلى كنيس؟
- نعم، كلكم.
- كلنا!؟
وريتا تقول بصحو وإطناب:
- أحتاج إلى الذهاب إلى كنيس يغتسل بالشمس.
قهقهت أولغا:
- غدًا السبت، إذا أردت، اصطحبتك إلى كنيس.
- لا، أشكرك، سأذهب وحدي، سأجده وحدي.
وأعادت ولا أحد يصغي إليها:
- كنيس يغتسل بالشمس.
زفرت أولغا:
- اسمعي.
ولم تسمع، إذ بقيت بإلحاح تردد:
- كنيس يغتسل بالشمس.
- نعم، ماذا أردت أن أقول؟ آه، تذكرت، أردت أن أسأل لماذا لم تنجبي لك طفلاً حتى الآن، يا ريتا؟ إن طفلاً في بيتك سيعني الشيء الكثير.
- طفل؟
- طفل وادع جميل كأمه، أم أنك تفضلين طفلة؟
- لقد تزوجت من أجل ذلك.
- وما المانع إذن؟
- عندما كان موشيه خارج بذلته العسكرية تمنيته أن يأتي من أول ليلة نمنا فيها معًا طفلنا الوادع الجميل.
- خارج بذلته العسكرية!
- كان موشيه شابًّا طموحًا.
- سيكون الطفل كأبيه.
- لهذا السبب.
- لم أفهم.
- لا بد أن يكون الطفل طموحًا كأبيه في مثل هذا العالم.
- آه يا عزيزتي، كم تعقدين الأمور!
- وما الفائدة؟
- أنا لا أفهمك.
- هذا ما عليك قوله.
- أنا لا أفهمك! لا أفهمك!
- حسنًا! إذن، اكتبي ما شئت!
- أنا لا أفهمك يا ريتا! أنا لا أفهمك!
انحنت ريتا باتجاهها، وقد اكتهلت فجأة:
- أتحسين بعجلات السيارة كيف تسير؟
- كيف لا؟! هذا طبيعي أن أحس بها كيف تسير!
- وكيف، يا ترى، هي تسير؟
- تسير باستقامة.
تنهدت ريتا من جديد، وقالت بأسى:
- لم تسر لحظة واحدة باستقامة، هي تدور دومًا.
- تدور إذا ما دارت الطريق.
- نعم، إذا ما دارت الطريق، أما السائق المسكين، فهو في الظاهر يقودها، بينما، في الحقيقة، هو المقاد. لقد اختطوا له طريقًا، عليه أن يعبرها. ليس بإمكانه السير باستقامة أو كما يشاء هو أن يسير. أرأيت؟ محسوب عليه أنه السائق والمساق، القائد والمقاد، وربما كان يدري أو
لا يدري أنه مخدوع أو لا مخدوع، لكنه يستمر، وغايته الوصول، مهما كان نوع الوصول، المهم لديه أن يصل إلى نهاية، أترين يا عزيزتي؟ أترين كم هي حالته مزرية المسكين! دون أن يفتح فمه!
أطلقت أولغا ضحكة ضربت مسامعها بحدة:
- هذه موهبة في التحليل أعجز عن الإتيان بها بنفسي!
- سمها موهبة، قولي ما شئت.
- ولكن، لماذا تقولين هذا لي (( أنا ))؟
- أقوله هذا لك (( أنت )) على الخصوص، أنت التي توقعين مقالاتك وتحقيقاتك باسم (( مواطنة ))، وتزعمين بموقف الحياد، رغم أنك مسيحية.
- ما تقولينه اليوم يبقى دومًا ناقصًا، لهذا أعجز عن فهمك.
- أردت أن أقول إن السائق لا يقرر انطلاقه، ولكنه يعمل إرادته في لحظة الوقوف المرسومة، بشكل من الأشكال، وهو، لهذا، لن يبقى مدفوعًا بالخنصر على الدوام.
صاحت أولغا:
- سأسحب خنصري! (هتفت بالسائق): انطلق كما شاء لك! وأينما شاء لك! (وانفجرت ضاحكة).
- يستحيل ذلك بعد فوات الأوان، لقد (( قلنا )) له أن يذهب إلى سجن المدينة.
- آه، ها أنت تناقضين نفسك! يعني ذلك - إذا كان ما تقولينه صحيحًا - أنه لا ولن يقرر وقوفه في النهاية. مثلما (( قلنا )) له انطلق، فقد ((حددنا )) له، قبل ذلك بكثير، أين سيقف.
- بصورة وقتية.
- يا عزيزتي، يا عزيزتي!
- إن النهاية الحقيقية ستكون بإرادته.
فتحت أولغا زجاج النافذة، فأطار الهواء شعرها. راحت ريتا تقول كمن تستعد أفكارها:
- لقد (( قلنا )) له انطلق...
ثم التفتت إليها، وأضافت بعينين منهكتين:
- إننا، يا عزيزتي أولغا، كلنا نشارك في سلب المسكين قواه، أنا وأنت والجميع، بعد أن فوتوا علينا كل شيء! لقد أصبحنا هذه الـ (( أنا )) الصورية التي تتجاذبها، وتنهشها، بالتدريج، قوة أخرى عظيمة، يظنها البعض قوة مستحيلة أو غيبية! (سكتت قليلاً ثم أضافت ممعنة النظر في عينيها، وأولغا تحاول التخلص من اتهام تلك النظرات التي تحاول ألا تبقى حكرًا عليها فقط، ولكنها تسقط في العجز): لقد فهمتني جيدًا،
يا أولغا، لقد فهمتني جيدًا!
ومن بين تساقط نظرات ريتا العاجزة، سحبت أولغا نفسها، وقد أصاب ريتا إعياء تخدرت له أطرافها.
راحت أولغا تلقي النظر كالمنتحرة من النافذة، وبعد قليل، هتفت بصوت مندهش:
- انظري، كم أحب هذا!
جمل في شاحنة!
- كم أحب التجوال وأنا راكبة فوقه!
- أتحبين الصحراء؟
- لعدة أيام فقط، أنا لا أحتمل حرارتها.
- هذا جمل صحراوي و... صبور!
قالت أولغا:
- مهما يكن من أمر، ستبقى لي رغباتي التي لم تكن تسعد أمي.
- لقد ماتت أمك!
- كأنك تبحثين الآن عن لومي.
- أنا لا أبحث عن لومك، نحن نتجاذب فقط الحديث. أتريدين أن أسكت؟
- لا أقصد، ولكن، منذ التقينا، وأنت لست عادية.
سحبت ريتا نفسًا طويلاً، ثم قالت بحدة:
- اسمعي، أنا أترك كل شيء في قلبي، وهذا عيبي! وأنا شوفينية إلى أبعد الحدود، وعنصرية، وعصبية، ولئيمة! أهذا ما تريدين قوله
بـ (( لست عادية ))؟
-..........
مسحت ريتا جبهتها بأصابع مرتعشة، وقالت محاولة الهدوء بعد أن جمعت أنفاسها:
- هذا الصباح خرج فأر من المستودع أراد موشيه قتله، فمنعته، لكنه صمم على قتله، لحق به كالمجنون، وفي اللحظة التي أهوى فيها بعصاه قصد سحقه، دخل الفأر في ثقب المدفأة، وكان موشيه قد فقد توازنه، فسقط، وحفر رخام المدفأة جبينه.
- آه!
- بعد ذلك بقليل، خرج الفأر من الثقب، وعاد إلى المستودع بأناة وهدوء أدهشاني، وكأنه يقوم بنزهة.
راحت أولغا تضحك، وهي تقول:
- هذا جزاؤك، يا موشيه، هذا جزاؤك! لماذا أخطأت الهدف؟
قالت ريتا بصوت مالح:
- لقد عدنا إلى الهدف، يا عزيزتي، ونتيجة الهدف، إلى النهاية التي يقررها السائق.
لكنها صرفت عنها وجهها، وكأنها تريد أن تقول لها هذا أمركم وحدكم، أما أنا، كمسيحية، فيكفيني أن أقوم بمهنتي! وبقيت ريتا تتساءل:
- ما هو الهدف؟ هل حقًا هذا هدفنا؟ وهل حقًا قتل الفأر، حتى الفأر، يعتبر هدفًا ونصرًا وشريعة؟
ثم أخذت تمضغ ضحكة مبهرة منخفضة، كأنما هي تضحك لنفسها:
- لم يكن موشيه المسكين لينعدم ذكاء، ومع ذلك، فقد فتح رأسه فأر لا يزيد عن نصف أوقية من اللحم! آه! يا إلهي! أرفق بالمسكين، يا إلهي!
أضافت، وهي تجذبها من ذراعها:
- سترينه بعد قليل، لقد عملت له الضماد بنفسي.
انشغلت كل منهما مع أفكارها لمدة من الزمن، وبعد ذلك، سألتها ريتا:
- هل أعددت أسئلتك؟
- ليس هناك من أسئلة، سآخذ بعض المعلومات من موشيه، الأرقام على الخصوص، وسأزور بعضهم. لقد سبق وقلت لك!
- ألم تحضري معك كاميرا؟ (وضعت يدها على فمها ثم أضافت بسرعة): آه! أنا مصابة بالنسيان هذه الأيام، فالتصوير ممنوع، سيعوضنا عن ذلك قلمك الجريء.
- أتمنى ذلك، ولكن بحيادية مطلقة.
- إذن، ستصفين لنا بطهارة مطلقة حجرة التأديب، وذراعًا مشويةً لإرهابي!
- آه، ريتا! لا تنسي أنني مسيحية، وربما كان من بين الإرهابيين مسيحيون مثلي.
- أنا لا أنسى أنك مسيحية، ولكني أنسى دومًا أنك حيادية، فاعذريني!
- وأنا أحتج! أقولها لك على اعتبار أنك صديقتي الحميمة، أنا احتج!
- حسنًا، لن أنطق ابتداء من هذه اللحظة بكلمة واحدة لئلا أسيء إليك. هل أنت سعيدة؟
لم تبتسم لها، وفجأة، جذبت أولغا السائق من كتفه، وهي تصيح:
- أنسيت؟ قف هنا! قف!
وكأنها تذكرت قول ريتا، شُدت إليها، فرأت وجهًا منهكًا يدينها بنظراته. تجاذبت نفسها، وبسرعة، هبطت من السيارة، فضاع ظلها بين ظلال عدد من الكهنة والمتعصبين الذين يحملون لافتات تطالب الحكومة بتهويد الضفة الغربية وغزة، وبانت النجمة السوداء صاعدة في الرماد والعتمة.
وهي على باب مكتب زوجها داخل السجن، سألت ريتا الحارس:
- موشيه هنا؟
وفتحت باب مكتبه قبل أن يجيبها:
- سيدي الضابط في حجرة التأديب.
بدا مكتبه دونه أكثر اتساعًا، وجَوّه أخف وطأة. توجهت لأولغا:
- هل نذهب إليه؟
- من الأفضل.
تراجع الحارس كالتمثال خطوتين فاتحًا لهما الطريق.
- هل تعرفين الطريق؟
- أتى بي موشيه إلى هنا عدة مرات.
- إذن تعرفين السجن جيداً؟
- أعرفه.
- لا بد أنها سحرتك حجرة الـتأديب.
- سحرتني! (تأملتها قليلاً ثم أضافت مصححة): حجرة التعذيب!
-...........
- أتعرفين؟ أنا أنتظر منذ الآن قراءة تحقيقك، بل لنقل أحلم بذلك. وهأنذا أستبق بخيالي الأدوار المعقدة التي تسبق عملية النشر، فأشاهد عنوانه الأسود العريض على أربعة عواميد يقول: (( تحقيق من قلب حجرة التأديب لسجن تل أبيب ))، وعنوان آخر بخط أقل تواضعًا يقول:
(( الإرهابيون يدلون بأقوالهم ))، هذا سبق صحفي حقًّا!
- إلا هذا، إلا هذا، يا عزيزتي! (( الإرهابيون يدلون بأقوالهم! )) إلا هذا، يا عزيزتي!
- ولم لا؟ فلنستمع إلى ما يقوله الإرهابيون.
- يغيب عن بالك أنني مسيحية، وأنني حيادية. فضلاً عن ذلك، فهذا يخالف خط سير المجلة والذوق الشعبي. إن القارئ البسيط، القارئ العادي، يبحث دومًا عما هو مختصر ومفيد ووافٍ. أقوال الضابط مثلاً التي تقول: (( انتهى عهد الإرهاب! الحياة منذ اليوم عادية! )).
- الحياة منذ اليوم عادية!
- (( عمليات نسف الباصات لن تتكرر )).
-..........
- (( اذهبوا إلى السينما واطمئنوا لقد وضعنا أجهزة الكترونية تحت مقاعدكم )).
-..........
- (( البؤر المتحركة الآتية من غزة ذاهبة إلى غزة )).
-..........
- (( الضفة الغربية بحيرة سلام )).
-..........
- (( لتحيَ أساطير الحب داخل حدودنا الجديدة )).
كانت ريتا إلى جانبها، تقطع الرواق الطويل، وهي تفكر: مسيحية وحيادية! عناوين كبيرة! كلام جرائد! صحفية ناجحة! قارئ بسيط وعادي! ولم يعد باستطاعتها أن تسمع لها أكثر، قالت:
- ما رأيك، يا أولغا، أقصد، هناك من يتكلم عن الغزو القادم من خارج حدودنا باستمرار... (توقفت فجأة): آه! عفوك! لقد تذكرت، أنت مسيحية وحيادية، وليس هذا من اختصاصك.
كانت لخطوات أولغا أصداء متنافرة في الرواق الطويل، وجدت ريتا نفسها تقول بلحن يحاول الوضوح:
- إنني أتطلع، مع هذا، إلى الخارج، إلى أبعد من حدودنا.
استرقت أولغا ضحكة:
- عزيزتي خائفة إلى هذه الدرجة؟
- ليس هذا دافعي.
- فلتطمئن عزيزتي، لا بد أن السلام آتٍ لا محالة.
- أي سلام؟ سلام الجميع؟
- السلام. كما تقول الجرائد.
- وبعد ذلك؟
- لا تخشي شيئًا.
توقفت ريتا في منتصف الدرج المؤدي إلى رواق الطابق الثاني، وقالت لاهثة:
- كم أنا تعبة!
نظرت إليها أولغا من فوق، وسألتها:
- لماذا لا تبدلي الهواء طلبًا للراحة؟
- هذا ما أنا بحاجة إليه.
- خذي سفينة، شقي البحر.
- أنا لا أتطلع إلى البحر.
- إذن اركبي طائرة، واذهبي أينما شئت.
- ولا هذا أيضًا.
- فلتذهبي إلى دارك في الريف.
- داري في الريف ميتة.
- آه، يا عزيزتي، أنا حائرة معك!
عادت ريتا تصعد الدرج بصعوبة، وفي بداية رواق الطابق الثاني، قالت أولغا فجأة:
- لو لم يكن الشرق ممنوعًا لقلت لك اذهبي إلى الشرق.
دفعت أولغا باب ذاك العالم الغريب، وأدخلتها معها في العتمة الدموية:
- موشيه ليس هنا؟
- عاد إلى مكتبه منذ برهة.
ندت عن أولغا تأوهة ليست راضية:
- سأسحب له تليفون في مكتبه.
- حسنًا.
تركتها ريتا، وراحت تسير بقدم بطيئة، شبة مذهولة، متفقدة
ذاك العالم الغريب، وكأنها تأتيه لأول مرة، فالأدوات ليست نفسها،
و(( الديكور )) جديد. ضرب مسامعها أنين عميق يرتد عن صخر الجدران، أنين كأغنية، ينفض القلب تباعًا، ويثير في النفس ألمًا محرقًا كالجمر، ألمًا مخلّصًا. فكرت أنها أحبت في يوم مضى، وعند ذلك بكت، بكت طويلاً، كانت تلك هي حاجتها، أن تبكي طويلاً، كالعصفور المهيض، وأن تئن طويلاً، كأنينه هو، وأن تتعذب طويلاً، كعذابه هو، وأن تتوجع طويلاً، كوجعه هو، وأن تصبحه، وتصبح مأساته. أن ترميه على صدرها، وأن تشمه كعرق القرنفل، وأن تسقيه من شفتيها ماء الورد، وأن تعبطه كعرق القرنفل، وأن تقول (( للخال )) المضيء على ذراعه: لقد أخطأت، نعم، إنني أخطأت في حقك،! وأن توقف له جسدها، له وحده، كي يتصرف به كما يشاء، فيبعثر في أرجائه كل أخطائها، ويمحو في لحمه جراح الماضي. أن تقول له: أحببتك، نعم، أحببتك، لكنما خدعني غيرك، فصار يصيبني الصداع في كل لحظة، وصرت أحلم -هل أستطيع؟- مثلك تمامًا، بملاك على وشك الرحيل، قادمًا من شرق الأرض! جمعت ذراعه المكسورة بين ذراعيها، ووجهه الناري، والعيون المفتوحة في جسده. حدقت، مرة أخرى، في الشامة التي لا تخطئها، وقالت: يا ما أحببت قمري! باسته، سقته من عينيها دمعها، ومن شفتيها ماء الورد، والقمر يتفتح على ذراعه... كعرق القرنفل. أدانته أقرب ما يكون من قلبها، وقالت له: آه، يا طفلي الشقي، يا مرارة قلبي! لقد عذبوك، وعذبوك، وعذبوك، لقد عذبوك كلهم، وأرادوا هلاكك، لكنك قاومت، وقاومت، وبقيت شهيًا كعرق القرنفل، وبقيت طيبًا كناسك أمين، وبقيت تخفق، فقلبك لا يتوقف عن الدق العنيف! يا ما عذبوك يا طفلي الشقي، آه، يا مرارة قلبي! فلتنهض! فلتنهض! رفعته بين ذراعيها، وراحت تنادي عليه:
- شعبان، يا شعبان!
فجاء إليه اسمه، لأول مرة، منذ عشرين قرنًا، فتح عينيه، فرآها تطل عليه من بين الأطياف والظلال، وأبحر عائدًا على مركب أنينه. وبقيت تعبطه على صدرها، وذراعه على صدرها... كلحم القرنفل، والقمر على ذراعه... كجرح القرنفل.












32
تكسرت على الأرض أعناق العشب الجاف، تهدلت أغصان الأشجار كشعر عاشقة مهجورة، وانهدم السياج المحيط بخصر الحقل. كانت الشمس في كل مكان، ومع ذلك، فالنهار لا ينطق، والقرية تمضغ الصمت دون أن تفوه بكلمة. كان ظل ثابت في الأرض ينحرف قليلاً عن قامته المديدة، وكأنه يصعد من عمق التراب، وكان شعبان يقف بعكازيه وذراعه المضمدة، وهو يرنو إلى المحراث والفأس الملقاة على مقربة منه.
وعندما نقل الفأس في قبضته، جاءته القوة، وأحس أنه يعيد إلى نفسه ساقه المبتورة. غدا سعيدًا، نهض شوقه، فجأة، كهبة النار في الزوبعة. ذاب جليد الغربة، والموت، والعذاب، ومضت رحلة الأيام الصعبة.
راح ينزع برأس الفأس العشب الجاف، فتبدو شفاه الأرض الظمأى، ويحس الظمأ في شفتيه، ويلتفت إلى القناة، فيرى جروحها الحمراء، وقد جفت على مد النظر، ويحس الجفاف في عينيه. أزاح رأسه لَهِفًا صوب السيل، وجاءه بفأسه وعكازيه، وإذا به يقف على الحقيقة: لقد حولوا للسيل مجراه! والجروح؟ يجب أن تسقى الجروح ليصبح لها معنى. رمى عكازيه، ورفع الفأس بيده السليمة إلى أقصاها، وأهوى، فتفجر السيل في القناة، وتفجر السيل في عروقه، اختلط الماء بالتراب، وغدا أحمر اللون، كأنه دم معطر أعطاه جسد الأرض.
كانت عليه أشغال كثيرة: كان عليه أن يقيم السياج من جديد، ويعيد بناء الكوخ، ويحرث الأرض، ويزرعها. وكان عليه أن يقلّم أشجار الزيتون، ويطعّم أشجار البرتقال والليمون. وكان عليه أيضًا أن يبني الأعشاش، ويبحث عن الطيور ليعيدها إليها.
وضع شعبان عكازيه جانبًا، وراح يقفز بقدمه الوحيدة حتى السياج. عالج أحد أطرافه المهدومة، وجعله يقف ريثما يحضر الأدوات من الحظيرة. مر بالكوخ، وبعد أن تردد على بابه قليلاً، اقتحم العتمة فيه، فجاءته أطياف أمه وزوجه وابنته من بين الغبار والظلال، راحت تتقدم منه كأنها على موعد معه، وأخذت أصواتها تنبثق من كل الزوايا كمن عادت جميعًا، ولم يعد شعبان وحيدًا.

* * *

لم يودعه الليل بعد تمامًا، كان يخلع ثوبه المدمى عن جسد الأرض رويدًا، رويدًا، فتبرز مفاتنها البضة، لم تصعد تلك الوردة الحمراء من فوق الجبل، ولم تصطخب ألوان الفجر المزدهية بعد في الأثلام. كان السياج الجديد يمتد طويلاً من حول خصر الحقل حتى يتلاشى في المرايا، وكانت الأرض تنهض على وقع طرقاته فوق سطح الكوخ، والسيل يترقرق هادئًا طالما يخفق قربه.
ضرب طائر جناحيه بقوة، وارتقى قمة إحدى الأشجار، فالتفت شعبان إليه مأخوذًا، ووقف يرنو إلى الشرق حيث يرنو. أخذت الوردة الحمراء تصعد من فوق الجبل، ونهر الفجر يتدفق كأنما تتدفق في صلبه أنهار العالم كلها، وقد اصطخب الكون بالأنغام وبالألوان كيوم النشور. وكمن ينتظر ذلك منذ يوم ميلاده، رأى شعبان شيئًا ينفصل عن ذاته ككرة النار، وهو ينثر اللهب عاديًا بعد أن أخذ طريقه إليه. هبط إلى قلب الحقل، وانزرع منتظرًا قدومه. انفجرت كرة النار، ثم ما لبثت أن راحت ترفرف كالراية، وهي تخفق كأنها تربض في أعماق الريح. وشيئًا، فشيئًا، وصله وقع حوافر تدق الأرض، وإذا بالفجر ينشق عن حصان أسود يجيء معه الوهج، بقي يعدو حتى اجتاز السياج، وانطلق باتجاهه، وهو ينفض الرأس تباعًا، ويطلق الصهيل.



الأحد 16 يوليو 1972/ باريس




أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004



[email protected]



هذه الرواية مع ثلاثية نجيب محفوظ إحدى أضخم روايتين باللغة العربية، تقرأ كرواية لبلزاك أو لاسكندر دوما، وتدعو إلى التفكير "كأفكار" باسكال أو "الأغذية الدنيوية" لجيد، كما أنها تحمل للقارئ رؤية تاريخية وسياسية وإنسانية لإحدى مناطق العالم الأكثر اضطرابًا، منذ بداية الستينات إلى حرب الستة أيام. لا شيء هنا من "مانوية" الخطاب السياسي ولا من "تشامخ" المثقفين أو المفاوضين الدوليين، الذين عبرهم تتشكل في الغالب فكرة أن الغرب هو صانع الشرق الأوسط. روح وجسد الكائنات الإنسانية يعطيان هنا لنراهما بكل هولهما ، بكل عنفهما، بكل آلامهما، ولكن أيضًا مع ظمأهما للحب والسلام وحاجتهما الماسة إلى الجذور.
كفيلم، تدور "المسار" تحت أعيننا في سلاسل من اللقطات السريعة التي تتراكب أحيانًا عندما تفرض الحدة الدرامية ذلك أو التوازي بين الحالات. هذا التقطيع في لقطات متلاحقة، وهذا التنوع في النبرة، وكذلك هذا الإيقاع المتصل، كل هذا يضفي على النص في مجموعه قوة لافتة للنظر على نحو بارز.
متنوعة اللغة أيضًا، لغة تذهب بيسر من الحوار الزقاقي إلى التأمل الفلسفي، غنية بالاستعارات والتناغمات، شعرية في استيحاءاتها واختياراتها للكلمات.
إذا كانت "المسار" تدافع عن أطروحة – الذود عن حرية شعب – فإن هذه الرواية تبدو لنا أولاً وقبل كل شيء رواية شريحة إنسانية، وهي بهذه الصفة تضفى عليها قيمة كونية.



* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثاني
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الأول
- أنفاس الديوان الثالث
- أنفاس الديوان الثاني
- أنفاس الديوان الأول
- أربعون يومًا بانتظار الرئيس
- أفنان القاسم يجيب على أسئلة -سيدتي-
- كتب وأسفار
- الذئاب والزيتون
- أم الجميع ابنة روما
- أم الجميع سقوط جوبتر
- أم الجميع مأساة الثريا
- الاغتراب
- الكناري
- الشوارع
- إسكندر الجفناوي
- مدام حرب
- النقيض
- شارع الغاردنز
- لؤلؤة الاسكندرية


المزيد.....




- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثالث