أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أفنان القاسم - أمين القاسم الأيام الفلسطينية















المزيد.....



أمين القاسم الأيام الفلسطينية


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3679 - 2012 / 3 / 26 - 13:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أمين القاسم


الأيام الفلسطينية


مذكرات فلسطيني عاش أكثر من تسعين عامًا



إلى الجيل المحرر حتمًا لفلسطين



تقديم


تقديمًا لهذه الذكريات، بنات العمر، كما يقول الوالد، أريد فقط التأكيد على الروح العملية التي كانت للوالد، فالفعل السياسي لديه كان يرتبط بالفعل الإعلامي، وكان الفعل السياسي يشمل كل حياته ليغدو فعل الحياة.

كما وسيلاحظ القارئ أن مراحل حياته هي مراحل حياة فلسطين، فطبعت إحداهما الأخرى، وأثرت إحداهما في الأخرى سواء أكان ذلك خلال حلو الأيام أو مرها.

لقد وهب الوالد كل حياته للحق والعدل من أجل المعدمين والملعونين دون أن يخاف على حياته من أحد، ولقد كان صاحب مشروع سياسي "الزحف المقدس" إنساني من نوع "المدينة الفاضلة".

كان الوالد أينما يذهب يؤثر في الأحداث، ويبدلها، في يافا، وفي نابلس، وفي القدس، وفي عمان، وفي الجزائر... في الجزائر تعلمت على يديه الأجيال، وتم بفضله تبديل قانون التقاعد للأجانب من مجحف في حقهم إلى قانون يساوي بينهم وبين غيرهم من الجزائريين. وكان ينظر إلى الأحداث من الزاوية التي لا يراها أحد، وينفذ إليها بوعي كبير، ويعرضها عرضًا مقنعًا أو ينقدها نقدًا هادئًا.

كلمة أخيرة لا بد منها عن أسلوبه في الكتابة أسلوب السهل الممتنع، وعن ذاكرته ذاكرة التاريخ، وعن رويه روي الناهل من ينابيع التراث وكنوز الإنسانية.


د. أفنان القاسم



في هذه الأيام، أيام الفخر والاعتزاز، أيام إعلان قيام دولة فلسطين المستقلة بعد نضال مرير وشاق دام أعوامًا طوالاً – يحق للمرء أن يحلم - عاودني الحنين إلى قِبلتي، إلى قريتي حيث درجت، وأنا في السابعة من عمري، وما فعلت، في تلك الأيام الخوالي، إذ خرجت ورفيق الطفولة أحمد عيس إلى مشارف قريتنا الجميلة "برقة"، الرابضة بين الجبال الشم، جبال المعارك والانتصارات ماضيًا وحاضرًا، نلهو ونلعب بين أشجار الزيتون المثقلة عروقها بحبوب مُلئت بسائل لذيذ طعمه ينير الظلمة، ويعطي ضعيف الجسم قوة ومَنْعَة، وبينما نحن نجري هنا وهناك فرحين سعداء شاهدنا سيارة تطل من فوق مرتفعات كانت قممها وسفوحها ملاجئ للثوار الأبطال من أبناء القرى المجاورة الذين خاضوا معارك الشرف ضد الجنود العثمانيين، عثمانيون اغتصبوا الخلافة الإسلامية، واستعمروا البلاد العربية مشرقًا ومغربًا باسم الخلافة الدينية، وكذلك كانت لمرتفعات برقة معارك قاسية مع الجنود الإنكليز حماة وعد بلفور، فالحديث عنها يطول ويطول، وقد كانت السيارة آتية من مدينة جنين المناضلة، وتتجه نحو مدينة نابلس عاصمة جبل النار التي كانت أيام الاستعمار المزدوج البريطاني الصهيوني مقر حاكم لواء السامرة. ولما عبرت السيارة بين الأشجار القائمة على جانبي الطريق منذ الأزمنة الغابرة، منذ أن عرف الإنسان زراعة الزيتون، إذ ورثت أمها وجدتها التي سبقتها في عمق التاريخ بل من ملايين السنين، وقد أحاطها الزراع بحجارة تحميها من الأشرار، وليستقر فوق جذورها التراب لتستمر حياتها دهورًا ودهورًا، ومن بين أشجار الزيتون أخذت وصاحبي نجمع الحجارة بأيدينا الصغيرة الشجاعة استعدادًا لقذفها على رؤوس من هم في السيارة القادمة من بعيد.

وعند وصولها على مقربة منا، وتأكدنا من أن ركابها أعداء، أمطرناهم بكل ما بأيدينا من حجارة دون تخاذل أو تردد، وقد شاهدنا بعضها يقع على قبعات من كان في السيارة من ركاب، وللعلم كان الفصل صيفًا والسيارة مكشوفة لا سقف لها ولا غطاء يحمي راكبيها. حينذاك أوقف السائق سيارته على جانب الطريق، ونزل منها رجلان وبيديهما مسدسان، ولما رأيت وأحمد الرجلين يقفزان من داخل السيارة ولينا الأدبار مسرعين نحو قريتنا طلبًا للنجاة، ومن حسن الحظ تواريت ورفيقي بين الأشجار الملتفة، والتي كانت لنا درعًا واقيًا وجدارًا ساترًا، فلم يستطع مطاردانا رؤيتنا أو اللحاق بنا، والقبض علينا، ومعاقبتنا. وخلال جرينا بين الأشجار سمعناهما يطلقان طلقات نارية في الهواء للإرهاب والتخويف، فلم نعبأ بهما ولا بطلقاتهما النارية بسبب بعدنا عن مصدرها. وقبل أن نفترق، ويذهب كل منا إلى منزله تواصينا أن يبقى ما حدث معنا سرًا مكتومًا، ولكن رغم التكتم الشديد فوجئنا في صباح اليوم التالي للحادث بوصول بعض الجنود العرب والإنكليز إلى القرية من راكبي الخيل ومعهم أمر مكتوب بالقبض عليّ وعلى أحمد وترحيلنا إلى نابلس فورًا وتحت الحراسة، وقد فهمنا من بعد أن الشخص الذي رميناه بالحجارة كان حاكم لواء السامرة ونائبه حاكم قضاء جنين، وقد عرفا اسمي واسم زميلي من أشخاص كانوا يعملون في حقول الزيتون عند وقوع الحادث المشرف. سرنا على أقدامنا الصغيرة العارية خلف الخيل وفرسانها من برقة إلى نابلس والمسافة بين القرية والمدينة بعيدة والطريق التي سلكناها غير معبدة وأشواكها كثيرة، ومع ذلك لم نشعر بالتعب، ولم نتوسل العطف من أحد، وأذكر أن والدتي طيب الله ثراها وأحسن إليها كانت ترافقنا وتشجعنا باثة في نفوسنا الطمأنينة والعزيمة وعدم الاهتمام بأي حكم يصدره الحاكم العدو الذي كنا سنقف أمامه لنسمع قراره فيما فعلنا.

وفور وصولنا، أُدخلنا إلى مكتب الحاكم، وما أن وقع نظره عليّ وعلى رفيقي أحمد حتى أمر وبسرعة بجلد كل واحد منا سبع جلدات على المؤخرة دون رحمة عقابًا لنا وتأديبًا –كما قال- وهددنا بالحبس والضرب معًا إذا عدنا وقمنا بأعمالٍ تخالف القانون، كما هدد والدتي بالعقاب إذا لم تحرص على سلوكي. وما كدنا نبتعد عن مقر الحاكم بضع خطوات حتى أخذنا نقهقه متحدين الحاكم وعصاه التي كانت معدة من قبل غير مبالين بجلدات الجلادين بالرغم من الآلام التي كنا نشعر بها وقتذاك، ولا أبالغ إذا قلت إن علامات الجلد بقيت بادية على أجسامنا قرابة ثلاثين يومًا، ومن ذلك التاريخ البعيد إلى يومنا هذا أُبغض الإنكليز، وأكره من والاهم، وأمقت من يتعاون معهم. وكانت المرحومة والدتي تقف في ساحات القرى التي نمر بها ونحن في طريق العودة إلى قريتنا برقة لتريهم عوراتنا التي يسيل منها الدم من شدة الضرب الذي تعرضنا له في مكتب حاكم لواء السامرة وبأمر منه، وبعد أن تُوَضِّحَ للمشاهدين الأسباب التي دعت الحاكم لارتكاب تلك الحماقة مع أطفال صغار. ولا أنسى اجتماع أهل قرية سبسطية والتفافهم حولنا والشتائم الكثيرة التي وجهوها لحاكم لواء السامرة الذي أمر بجلدنا، وتعاهدوا أن يبرقوا إلى المندوب السامي ممثل بريطانيا في فلسطين منددين بالحكم الجائر الذي تعرضت له أجسام ناعمة لا تتحمل الضرب الموجع. ولم تمض أيام قلائل على ما ارتكبه حاكم السامرة من حماقة جلد أطفال ضعاف حتى عرف سكان المدن والقرى ما فعلت وصاحبي بذلك الحاكم القاسي الذي كانت بلاده عامرة بجمعيات الرفق بالحيوان، فأثنوا عليّ وعلى صاحبي، ولقبونا بالأطفال الشجعان، وطالبوا أولادهم الذكور منهم والإناث أن أكون ورفيقي قدوة لهم، وأن يقاتلوا المستعمرين الإنكليز المحتلين في الصغر، ويحاربوهم بالكبر.

وساعة وصولي وصديقي بصحبة والدتي إلى مداخل القرية وجدنا في انتظارنا جمعًا من الأقارب والأصدقاء من بينهم والد أحمد ووالدته وكلهم شوق إلى معرفة ما فعله بنا حاكم السامرة صاحب القبعة الذي رميناه بحجارة ورثناها عن جدود سكنوا قرية برقة الفلسطينية قبل نزول التوراة بآلاف السنين، فكان جواب المرحومة أمي علامات السياط التي بدت على مؤخرتي ومؤخرة أحمد رفيق طفولتي وصديق الدراسة. وما أن مضت أيام قلائل على رجم الاستعمار البريطاني بالحجارة بشخص حاكم السامرة حتى قررت دائرة المعارف فتح مدرسة ابتدائية لأبناء القرية، وهي التي كانت من قبل تعارض فتح مدارس لتعليم أبناء القرى، وحال وصول مدير المدرسة الشيخ محمد عنبتاوي باشر في دعوة أهالي القرية إلى تسجيل أولادهم في سجلات المدرسة. أقبل الناس على التسجيل حتى تجاوز التلاميذ العدد المقرر، فأوقف المدير التسجيل، وأخذ يستعد لإقامة حفلة الافتتاح حيث وجه الدعوات إلى أهل القرية وإلى بعض وجهاء القرى المجاورة كما دعا مفتش مدارس القرى المقيم في نابلس شريف صبوح. وعند دخول الأولاد المسجلين ساحة المدرسة ومناداة كل تلميذ باسمه لم يسمع المفتش اسم أمين عبد الخالق القاسم، وبعد أن فرغ مدير المدرسة من قراءة الأسماء، دعاه المفتش، واستفسر عن سبب تخلفي عن دخول المدرسة إلى جانب أحمد الذي كان من بين التلاميذ المسجلين، ولما لم يجد المدير الجواب، وبسبب وفاة والدي، أرسل إلى والدتي التي حضرت إلى المدرسة، وطلب منها إحضاري لمقابلة المفتش الذي أمر بإدخالي المدرسة حتى لا أقضي نهاري في الطرقات، أرتكب أخطاء الطفولة كما ارتكبت مع حاكم اللواء، لبت والدتي طلب المفتش، ودخلت المدرسة مع الداخلين من أبناء القرية، واستمررت في الدراسة إلى أن تحصلت على الشهادة الابتدائية، وخلال سنوات الدراسة في مدرسة القرية كنت موضع حب المعلمين والتلاميذ عل السواء اعتقادًا منهم أن الحجر الذي أصاب قبعة الحاكم هو سبب فتح المدرسة الابتدائية في قرية بُرقة والمدارس الأخرى التي أخذت دائرة المعارف بفتحها في القرى الفلسطينية في طول البلاد وعرضها.

* * *

ولما كنت في خلاف دائم مع أخي محمد الذي يكبرني بعشر سنين قررت والدتي، التي كانت تعطف عليّ وتقف بجانبي كلما اشتد الخلاف بيني وبين أخي، إبعادي عن القرية، وتسجيلي في مدرسة داخلية حتى لا يراني أخي ولا أراه، فكان نصيبي دخول المدرسة العلمية الأحمدية في عكا التي كانت في تلك الحقبة تعد من المدارس المعتمدة عند الناس وعند الحكومة، وقد بقيت في الأحمدية أربع سنوات أنهل من ينابيع العلم والمعرفة على أيدي علماء أجلاء أذكر منهم رئيس المدرسة الشيخ عبد الله الجزار والشيخ محمود اللبابيدي والشيخ صبحي خزيران والشيخ موسى والشيخ رمزي والشيخ جمال السعدي مدير المدرسة رحم الله من مات منهم وأعز سبحانه وأسعد الباقين على قيد الحياة. أما جامع الجزار، فهو تحفة من تحف عكا التاريخ الخالدة بل تحفة أثرية من تحف فلسطين التي نعتز ونفخر بها على الدوام.

حال تخرجي من المدرسة وحضور احتفالات التخرج واستلام شهادة المدرسة العلمية الأحمدية المعترف بشهادتها من قبل حكومة الانتداب قصدت حيفا أبحث عن عمل، وما هي إلا أيام حتى وجدت عملاً في مدرسة خصوصية أسسها أستاذ هندي يعرف باسم جمال الدين الهندي لتعليم اللغة الإنكليزية. استمر عملي في مدرسة الهندي أكثر من عامين، وفي هذين العامين اتصلت ببعض الشباب الواعي والعاملين في الحركة الوطنية التي كانت نارها مشتعلة ومحرقة يصل لهيبها في كثير من الأحيان الصهاينة ومؤسساتهم والمستعمرين ودوائرهم. في ذلك الوقت كنا أسياد البلاد وسادة الموقف، كلمتنا واحدة وموقفنا من الاستعمار والصهيونية واضحًا، لم يفرق بين العربي المسلم والعربي المسيحي الدس الدنيء الذي كانت بريطانيا تستعمله بين الحين والآخر تمشيًا مع مقولة فرق تسد، ولكن ومع الأسف استطاعت حكومة الانتداب أن تشعل نار الحقد بين الأسر المعروفة مثل أسرة الحسيني بقيادة الحاج أمين الحسيني وأسرة النشاشيبي بزعامة راغب النشاشيبي، وبين الأسرتين تفرق سكان البلاد كل يسير في خط العائلة التي يجد فائدته بالانتساب إليها، وأعطيت رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى للحسينية ورئاسة البلدية للنشاشيبية وبين المجلس الإسلامي والبلدية انقسم المواطنون على اختلاف معتقداتهم المدنية والوطنية مع العلم أن الغالبية من المواطنين كانت تسير في الاتجاه الوطني الذي كانت تتزعمه العائلة الحسينية بقيادة المفتي الأكبر الحاج أمين الحسيني، وبهذه المناسبة أقول: إن موقفي لم يكن موقفًا مؤثرًا لصغر عمري وحجمي، فالعمر والحجم كان يقدرهما الناس بكبر العائلة وما تملك من ثروة وجاه، والرجل الذي لم يكن ثريًا وابن عائلة كبيرة مهيمنة مثلي لم يأخذ الناس برأيه، ولو كان الأخذ بهذا الرأي يؤدي إلى خروج الصهاينة وحماتهم الإنكليز من البلاد.

* * *

وفي حيفا عملت في الصحافة كصحفي مبتدئ ألتقط الأخبار وأدقق في صحتها مما جعلني أنال رضى من هم أكثر مني صلة بأصحاب الصحف وكبار محرريها، وكان الود قد ربط بيني وبين الأخوين الفاضلين الشاعر مطلق عبد الخالق وشقيقه صبحي اللذين كانا وكيلين لعدة صحف ولهما الباع الطويل في صياغة الأخبار العامة وتبويبها، وعندهما كذلك خبرة واسعة في تنظيم الإعلانات التجارية الخاصة والعامة على اختلاف أحجامها، مما جعلني أعرف الخبر ومدى تأثيره على القارئ وكيفية الحصول عليه. وفي غياب أحدهما أو كليهما كنت أقوم مقام الغائب في الاتصال بالصحف التي كانا يتعاملان معها، وأزودها بالأخبار التي كنت أحصل عليها من المؤسسات الأهلية أو الجمعيات الوطنية التي كانت منتشرة في حيفا والمدن والقرى المجاورة. وفي 36 وخلال الإضراب حدث اعتداء قذر وفي رابعة النهار من قبل متعاون مع دوائر الاستخبارات الإنكليزية على الأخ صبحي عبد الخالق، وكان لذلك الاعتداء البشع الأثر السيء بين جميع الأوساط لا سيما الأوساط الصحفية التي وصفت المدبرين المعتدين بالأشرار والأنذال واللاعبين بالنار. ولم تمض الأسابيع على ذلك الاعتداء حتى ألقت السلطات القبض على الأخ صبحي، ووجهت إليه تهمة نشر الأخبار المثيرة والمخلة بالأمن. وبعد ساعات من القبض على الأخ صبحي صدر أمر الحاكم بإبعاده إلى الناصرة لمدة عام، والحالة هذه استلمت بالنيابة عن صبحي وكالة جريدة الدفاع التي اعتمدتني بناء على طلبه. ولما كنت وفيا للأخ صبحي أخذت أتحرى وباستمرار عن مدبري الاعتداء والمعتدين، فعرفت كل شيء، وعرفت أيضًا الذين كانوا وراء إبعاد الأخ صبحي عن حيفا، ومع الأسف مدبرو الاعتداء والإبعاد هم الفئة التي كانت تدعي أنها فئة مجاهدة ولها شأن كبير بين رجال الحركة الوطنية. وبعد أن تبين لي كل شيء، وعرفت حقيقة أنذال الوطنية قاطعت مجالسهم ولم أعد أهتم بأخبار ملفقة هم صانعوها ومن نسيج خيالهم المريض أوجدوها، ولما رجعوا إلى أصحاب الصحف مستقصين عن أسباب عدم نشر أخبارهم لم يتوصلوا إلى معرفة الأسباب، فعادوا يحملون غصن الزيتون، ويطلبون الصفح والغفران، ودعاني كبيرهم مدبر الاعتداء على الأخ صبحي إلى مركز الجمعية التي كان يرأسها، وأخذ بلطف يعاتبني لعدم ترددي على الجمعية والتعرف على نشاطاتها في جميع المجالات الوطنية والاقتصادية والتنظيمية التي كانت في حاجة إليها البلاد. وبينما كنت أجلس أمام الرئيس والأعضاء والزوار يملأون صالة الجمعية الواسعة أخرج رئيس الجمعية محفظة نقوده، وغرف منها بعض الجنيهات، وقربها من يدي طالبًا مني أخذها، ولما رأيت ما رأيت أسرعت بالوقوف متجهًا نحو الباب.

لما عرف الحاضرون تبعني أحد رجال الجمعية الأثرياء السيد فرح سلطي، وأراد إعادتي إلى حيث كنت، فأبيت، وتبعني الأخ عادل جردانه، فأثنى عليّ، وشكر موقفي المشرّف مما أراد تمثيله معي رئيس الجمعية. وبعد الحادث بأيام جاءني إلى مكتبي سكرتير الجمعية السيد أحمد الإمام، ونقل إليّ اعتذار السيد رئيس الجمعية رغم أنه لا يقصد إهانتي، ومن هذه الحادثة كبر مقامي بين العاملين في الحركة الوطنية، وكنت أُستشار في أمور هامة كثيرة حيث كانت الأحداث في تلك الفترة كثيرة وهامة أبرزها الإضراب العام ستة شهور متوالية، وكان له دوي هائل في الأوساط العالمية لا سيما الأوساط الإمبريالية والصهيونية المعادية للأماني العربية التحررية مما جعل دوائر الاستعمار تلجأ إلى عملائها التقليديين من ملوك وأمراء وزعماء إقطاعيين. وأذكر جيدًا أن الحكام الملوك والأمراء قد اختاروا نوري السعيد رئيس وزراء العراق والمعروف بعمالته للإنكليز لزيارة فلسطين ومحاولة إنهاء الإضراب وإعادة الناس إلى ممارسة أعمالهم اليومية بعد أن وعدهم بحل قضية فلسطين حلاً يرضاه العرب ويحقق آمالهم في الوحدة والتحرر، وقد وصل نوري السعيد إلى حيفا عن طريق البحر، وهناك وجد في استقباله بناء على رغبة الهيئات الوطنية ورجالات حيفا العاملين في الحقل الوطني السادة: عزيز ميقاتي، إلياس صهيون، أمين القاسم، وبعد الترحيب بضيف البلاد مندوب الملوك والأمراء، والتمنيات له بالتوفيق في مسعاه الوطني النبيل، ركبنا السيارات المعدة للضيف التي اتجهت إلى السفارة العراقية، والتي كانت معدة لاستقبال الضيف. قمنا بصلاة العشاء ثم قام عدد من وجهاء المدينة بزيارة مجاملة لنوري السعيد، ومع الأسف أناب عنه السفير العراقي بحجة أنه مشغول بإجراء اتصالات هاتفية مع بعض زعماء البلاد في منازلهم.

قال السفير وصلتني الآن برقية من سماحة المفتي الحاج أمين الحسيني يرحب فيها بمندوب الملوك والأمراء، وعند نهاية حديث السفير تناولت القلم ودفتر المذكرات، فانتبه وخاطبني قائلاً المجالس أمانات والبرقية سرية لا يجوز نشرها في الصحف، تظاهرت بالاستجابة وأعدت قلمي إلى مكانه ودفتر مذكراتي إلى جيبي وعندما قدمت القهوة إلى رفاقي أهمل السفير العراقي قهوتي ومن دار السفارة تفرق جميع الوجهاء واتخذ كل طريقه إلى بيته أما أنا فقد اتخذت طريقي إلى وكالة جريدة الدفاع لأبعث الأخبار اليومية التي حصلت عليها، وقد تعمدت أن يكون خبر برقية المفتي إلى نوري السعيد بارزًا ومثيرًا، ولما اطلع السفير العراقي على خبر البرقية منشورًا في الصفحة الأولى ثار وعربد وشتم وطلب التحدث معي في الهاتف، فكنت أتهرب حيث أوعزت إلى الموظف في المكتب أن يدعي أنني غائب هذا اليوم. وفي اليوم الثاني لنشر الخبر اتصل بي فكان الجواب أنني في إجازة لمدة أسبوع، وقبل مضي أسبوع الإجازة المفتعل جاء إلى المكتب الملحق الصحفي في السفارة، فوجدني أجلس وراء مكتبي أمارس عملي الصحفي كما هي عادتي كل يوم، وهنا صارحت الصحفي العراقي بما قاله السفير عند حديثه عن برقية المفتي، وفنجان القهوة الذي تعمد عدم تقديمه إليّ بالرغم من قول أحد الحضور على مسمع السفير إن الأستاذ أمين لم يشرب القهوة ردًا على شخص آخر طلب إنهاء الزيارة، لم أقل له هدفي الصحفي الأساسي من وراء نشر الخبر والذي كان الكشف عن العلاقة القائمة بين المفتي وعميل الإنكليز للتحذير من مثل تلك العلاقة لأن الحاج أمين الحسيني كان شعبيًا في ذلك الوقت ويعتبر من الوطنيين. خرج الملحق الصحفي العراقي من دار وكالة جريدة الدفاع وهو يشتم الأغبياء والمتكبرين وأدان السفير والأخطاء التي ارتكبها مع ضيف السفارة وأحد مستقبلي نوري السعيد باسم حيفا وهيئاتها.

وبمناسبة عيد من أعياد العراق الوطنية دعاني السفير، فلم أذهب ولم أنشر خبرًا عن الاحتفال في الجرائد وتضامنًا معي لم تنشر جريدة الدفاع التي كانت أوسع الجرائد انتشارًا الخبر تضامنًا معي حيث كان شعارها "من لم يحترم العاملين في جريدة الدفاع أسرة الدفاع لا تحترمه". ولما كان مكتبي بجوار البحاثة الفلسطيني عبد الله مخلص وفي نفس الوقت بجوار السيد رشيد الحاج إبراهيم رئيس البنك العربي المعروف بوطنيته، والذي تتلمذت على يديه وأنا في السادسة عشرة من العمر دعيت يومًا إلى مقابلة السيد رشيد. لبيت الدعوة، وعند دخولي مكتبه وجدت هناك الأستاذ مخلص والسفير العراقي. سلمت بفمي وتعمدت ألا أسلم بيدي تحاشيًا لوضع يدي في يد سفير العراق، وبعد أن اعتذر أمام السيدين رشيد الحاج إبراهيم وعبد الله مخلص قلت له رد تثريب: عليك عفا الله عما مضى، وعدت إلى نشر أخبار السفارة كما أحب أنا لا كما يحب السفير.

* * *

لا أدري لماذا وكيف وصلتني والأخ مطلق وأنا أقيم في حيفا وصغير السن دعوات لحضور مؤتمر وطني تقرر عقده في مدينة نابلس، وما أن شاع بين الشباب نبأ الدعوة حتى سارع بعضهم إلى الاجتماع بي وبرفيقي مطلق وزودونا بما يجب أن نقوله لرجال المؤتمر الذي عقد في مدينة نابلس تحت رئاسة موسى كاظم الحسيني. كنا فرحين بالدعوات وسعداء بتوجيهات الأخوة الشباب، وأذكر جيدًا أن من بين الشباب الذين زودونا بتوجيهاتهم شاب يدعى مِزْيَد من أبناء طيرة حيفا يعمل في كراج سيارات وله صلة بالشيوعية والشيوعيين، ولما كنا نظرًا لعدم تجاربنا في الحياة نجهل المبادئ الشيوعية التي كانت حكومة الانتداب تقاومها، وتزج بمعتنقيها في السجون، طالب الأخ مطلق عندما أُعطي الكلمة بكل ما طلبه الشباب، ومن ضمن ذلك الطلبات الشيوعية، وقد انتبه إلى ما قاله مطلق عدد من المؤتمرين، فانزعجوا، ولكنهم عندما عرفوا حسن النوايا عادوا إليّ وإلى مطلق، ونبهونا إلى مقاصد الشيوعيين الذين اتصلوا بنا وأملوا علينا طلباتهم، وسُجِّلَتْ ضمن طلبات عرب حيفا، ومنذ ذلك التاريخ سُجِّلْتُ ومطلق في سجلات الشيوعيين الموضوعين تحت رقابة الشرطة الدائمة، ويعلم الله أنني لم أعتنق الشيوعية، وكذلك أخي مطلق، رغم أنني فيما بعد كنت أتفهم كل ما ترمي إليه من عدل بين الإنسان وأخيه الإنسان، وقد بلغ برجال المخابرات أن راحوا يراقبون كل شاب كانت له صداقة أو معرفة بنا. وأذكر أن رجال المخابرات قد اتهموا الأخ عاطف نور الله بالشيوعية نظرًا للصداقة التي تربطنا، وعاطف نور الله كان رئيس فرقة كشفية إسلامية وصاحب مجلة "كشاف الصحراء" التي ساهمتُ في تحريرها وانتشارها بين شباب أندية حيفا وسكانها. وفي مكاتب مجلة "كشاف الصحراء"، تعرف عليّ السيد عزت القاسم أحد قادة جيوش شريف مكة الملك حسين بن عون الذي انحاز إلى الحلفاء أثناء الحرب العالمية الأولى حرب وقعت بين العثمانيين والألمان من جانب وبين الحلفاء البريطانيين والفرنسيين وغيرهم من الجانب الآخر، وهذا التعارف كانت سببه برقية تعزية كنت قد وجهتها إلى الملك علي بمناسبة وفاة والده الملك حسين في الأردن بعد أن نُقل من جزيرة قبرص حيث كان يقيم إقامة جبرية من قبل بريطانيا حليفته خلال الحرب، وقد قلت في برقيتي لأبناء الحسين "أعزيكم بوفاة المغفور له الملك حسين المخدوع بالأجنبي"، وكلمة مخدوع لم تعجب الملك علي، فعاتب السيد عزت القاسم الموجود بينهم وقت الوفاة بصفته قائد من قادة الجيوش العربية التي حاربت العثمانيين إلى جانب الحلفاء. ولما وجه لي السيد عزت عبارات العتاب أجبته بأن الحسين بن عون والجيوش العربية وقادتها يستحقون العتاب وليس أمين القاسم قروي لا تربطه أية رابطة بعائلة القاسم التي تنتمي أنت إليها، وقد نزلت أقوالي هذه على محدثي نزول الصاعقة، فذهب، ولم يعد إلى لقائي في مكاتب مجلة كشاف الصحراء إرضاء للأسياد الذين أخذ يعاتبني من أجلهم.

قلت إن وكالة جريدة الدفاع أسندت إلي بعد أن قرر حاكم حيفا البريطاني إبعاد الأخ الصديق صبحي إلى الناصرة والإقامة فيها مع إثبات وجوده في دوائر الشرطة عدة مرات في اليوم واللجوء إلى البيت في ساعات الليل، وبينما كنت في ساحة الجرينة أُحدث بائع الجريدة عن سير البيع ومقداره جاءني مهرولاً وصائحًا ضابط مباحث يدعى منير أبو فاضل، وقال لي: لم يدر بخلدي أن يصل الحقد والكراهية إلى قتل رجال الشرطة غيلة وفي رابعة النهار. وعند الاستفسار تبين أن الوطنيين أطلقوا النار على الضابط المؤذي المدعو أحمد نايف، وهذا الضابط كان يحقد على المغفور له الشيخ عز الدين القسام قبل الاستشهاد وبعد الاستشهاد. ولكي تكون الرواية كاملة، فقد رفض المسلمون إدخال جثة أحمد نايف إلى المساجد كما رفض رجال الدين الصلاة عليه، وقد صلى عليه أحد رجال الشرطة، وهو مسجى داخل المقبرة. وبعد أيام من اغتيال هذا المخلوق المؤذي تبين أن الرجال الذين أدخلهم المعتقلات يزيد عددهم على الثمانين معتقلاً، والذين أدخلهم السجون بتهم ملفقة أكثر بكثير من المعتقلين باسم قانون منع الجرائم الذي جاءت به حكومة الانتداب والذي ذاق مرارته العرب فقط ولم يطبق في الأوساط الصهيونية، لأن المندوب السامي البريطاني جاء به لحماية الصهاينة وحماية وعد بلفور الغاشم.

هذا وقد استدعاني وزميليّ مراسليِ الصحف، يوسف سلوم ويحيى زكريا، مساعد مدير الشرطة حليم بسطة القبطي، وطلب تقييدنا في نشر خبر اغتيال أحمد نايف. رفضت الطلب، ونشرت الخبر مفصلاً، مما أثار حقد دوائر حيفا البوليسية، وتوعدوني بالاعتقال، وفعلاً بعد أقل من شهر دعيت إلى المثول أمام حاكم لواء حيفا الذي أمر باعتقالي ستة شهور. ولما كنت متوقعًا اتخاذ مثل هذا الإجراء التعسفي بحقي أخبرت قبل الاعتقال أسرة جريدة الدفاع، وما أن وصل خبر اعتقالي إلى إخواني الصحفيين حتى ثارت ثائرتهم، وفي اليوم التالي لوقوع الحكم صدرت الدفاع وعلى صفحتها الأولى مقال لاذع ضد حليم بسطة المصري الجنسية الحاقد عليّ والمتسبب في اعتقالي، ويبدو أن هذا الضابط الحاقد عاد إليه ضميره أو خاف أن يكون مصيره مصير الضابط أحمد نايف الذي اغتيل ظهرًا وهو يتجول في ميناء حيفا يبحث عن مواطن شريف يبعثه إلى السجن أو المعتقل... خطر لي أن أزور بعض الإخوة الشباب من قرى لمجيدل ويافة الناصرة وصفورية لعمل شيء لأبناء القرى، وبعد أن أمضيت ليلتين مع شباب لمجيدل ويافة الناصرة وفي اليوم الذي قررت فيه الذهاب إلى صفورية عرجت على مدينة الناصرة، وبينما أنا أسير في الشارع التقيت بشرطي يحمل على ذراعيه ثلاث قطع قماش تعني أن حاملها يسمونه "شاويش"، وبعد أن استوضح مني عن اسمي طلب إليّ مرافقته لمقابلة مدير الشرطة الإنكليزي الذي كانوا ينادونه إبراينت، وكان هذا الإبراينت لئيمًا جدًا يكره العرب، وينفذ بحقهم كل ما يطلبه منه الصهاينة، ولا أدري أمن حسن حظي أم من سوء حظي زارني السيد حمدي الحسيني المبعد من غزة إلى الناصرة والسيد عبد الغني الكريم المحكوم عليه بالإقامة الجبرية في الناصرة. وما أن عرف مدير الشرطة إبراينت بهذه الزيارة حتى ذهب إلى حاكم لواء الناصرة، وأخذ منه أمرًا باعتقالي لمدة ستة شهور أو الإقامة في مدينة الناصرة جميع أيام مدة الاعتقال. وبعد تفكير فضلت الاعتقال على الإقامة الجبرية التي تتطلب السكن ومصاريف العيش وغير ذلك من المتطلبات المعيشية. وبعد أيام من صدور الحكم الظالم نقلت إلى سجن عكا المركزي، أكبر السجون الفلسطينية، وقد كان عمري أقل من عشرين عامًا، وفي سجن عكا المركزي نمت ليلتين، ومكثت ثلاثة أيام. وفي يوم 17 حزيران عام 30 علق الإنكليز على المشانق الأبطال فؤاد حجازي – صفد وعطا الزير – الخليل ومحمد جمجوم – الخليل، وما أن وصل الخبر مسامع المساجين حتى علت أصواتهم إلى أن وصلت عنان السماء وهم يهللون ويكبرون ويلعنون الإنكليز والصهاينة الذين جاؤوا إلى فلسطين ومعهم الموت لسكان البلاد الأصليين، وصادف يوم نقلي من سجن عكا إلى معتقل المزرعة يوم إضراب وحزن على الشباب الثلاثة الذين أعدموا إرضاء لبني صهيون الآثمين. وما أن دخلت ومن معي من المعتقلين باب المعتقل حتى هرع إلينا الكثيرون من الشيوخ والشباب مستفسرين عما حدث في سجن عكا، وعندما تأكدوا من صحة إعدام الإخوة الأبطال تعالت أصواتهم مستنكرة ومنددة بالأعمال غير الإنسانية التي ارتكبتها حكومة الانتداب بحق شباب دافعوا عن شعبهم ووطنهم.

في معتقل المزرعة، استقبلني السجناء بالترحاب بعدما هدأوا، ولم يدعوني أحتاج إلى طلب ما أحتاجه في أسواق عكا التجارية من مأكل ومشرب، كل ذلك كان شعورًا منهم بأن وجودي في المعتقل رغم صغر سني بسبب وطنيتي، وقد كان مسؤول المطبخ السيد رشاد الثور من طولكرم يوصي جميع عمال المطبخ على معاونتي والأخذ بيدي مهما كانت الظروف. وحال خروجي من المعتقل، عدت إلى حيفا، واجتمعت ببعض الشباب الواعي، وعند بحث أمري ووقوف سلطات حيفا موقفًا معاديًا مني اتصلوا بإخوة لي ولهم في يافا، واقترحوا أن أكون بينهم. وقبل وصولي إلى يافا دبر لي الإخوة عملاً وسكنًا في مدرسة خصوصية كان يشرف على إدارتها الأخ شفيق الأنصاري الذي اهتم بأمري اهتمام الأخ بأخيه. وأيام استعدادي للسفر إلى يافا سرت شائعة بين الناس جاء فيها أن امرأة بدوية حبلى دخلت تل أبيب لغاية في نفسها، وقد كان العرب في ذلك الوقت يترددون على تل أبيب لشراء حاجاتهم من ألبسة وأغذية، وإذا بشاب يهودي متعصب يستل سكينًا كان يخفيها بين ملابسه، وفاجأ المرأة البدوية، وطعنها عدة طعنات قاتلة أودت بحياتها وحياة جنينها. وما كادت الشائعة تنتشر حتى أخذ المواطنون العرب في حيفا يتجمعون في الساحات العامة وبأيديهم سلاحهم الوحيد العصي والحجارة، ومن عدة طرق اندفعوا نحو الهدار اسم الحي الذي يسكنه اليهود، وكان هجومًا قويًا لم يستطع اليهود الصمود أمام الشعب الهائج، فأسرعوا إلى منازلهم مختفين عن الأنظار. وكان البعض وهو هارب، رغم أن اليهود كانوا يحملون المسدسات التي زودتهم بها حكومة الانتداب، يطلق الرصاص وهو في حالة فرار، وهؤلاء الجبناء الذين كانوا يفرون أمام الشباب مذعورين كالأرانب في أيام شبابي استطاعوا الاستيلاء على فلسطين.

* * *

في هذه الأثناء، أقام الوطنيون حفلة بمناسبة إزاحة الستار عن تمثال الملك فيصل الأول الذي أقامه رجالات حيفا بجانب جامع الاستقلال وعلى طرف الطريق الواصلة بين البوابة الشرقية ومحطة سكة الحديد الرئيسية، وقد بدأ الاحتفال بنشيد "موطني" بعد آيات بينات من الفرقان، وكان المحامي محمد علي التميمي أول الخطباء، وبعد ذلك تتابع الشعراء والأدباء الذين جاءوا من جميع أنحاء البلاد لتعداد مناقب الملك فيصل والدور الذي لعبه في المحافل الدولية من أجل فلسطين وكل البلاد العربية التي مزقتها المطامع الاستعمارية والصهيونية الدولية. وفي الساعة التي انتهى فيها الاحتفال بإزاحة الستار عن التمثال ودعت الإخوة الذين شاركتهم في كثيرٍ من مظاهرات وتجمعات كانوا يقومون بها احتجاجًا على تصرفات خبيثة كانت الحكومة الاستعمارية تقوم بافتعالها إرضاء للصهاينة، وقد رافقني بعضهم إلى المحطة حيث حملني القطار إلى يافا، وفي محطة يافا وجدت الأخ شفيق الأنصاري في انتظاري. صحبته إلى بيته، ونزلت ضيفًا عليه. وفي اليوم الثالث من وصولي إلى يافا استلمت العمل في مدرسة الأخ شفيق، وقد اقترح عليّ الإخوة الذين أتوا لزيارتي والتعرف عليّ أن أنشغل في المدرسة، وأن لا أغادرها إلا لقضاء حاجة خاصة أو لأمر يخص المدرسة، وأن أكون دائمًا في صحبة الأخ الأنصاري. طبقت تعليمات الإخوة مدة عام، تعرفت خلاله على مدير المدرسة العامرية الأستاذ علي شعث ثم على الأستاذ عبد الله الريماوي الأستاذ في العامرية، وبواسطة الأخوين شعث والريماوي تعرفت على الإخوان سعود جميل وهاشم السبع ومصطفى الطاهر وغيرهم من شباب الحركة الوطنية أمثال سعيد الخليل ومحمد عويضه وعلي الفار، وخلال هذه الفترة من الزمن دخلت نوادي يافا كصديق حيث كنت ما زلت تواقًا إلى حيفا وشبابها وكرملها وبحرها، وكانت رغبتي ملحة في العودة إلى تلك الربوع التي قضيت فيها أوقات نضال وكفاح مع شباب مناضلين مكافحين، وكم تحدينا القيادات التقليدية المهترئة التي كانت باسم الوطنية تنافق السلطات، وترتكب بحق الوطن الأخطاء المتعمدة حفاظًا على الوجاهة وحرصًا على الرواتب الضخمة التي كان أولئك القياديون يتناولونها سرًا وعلانية من جهات مختلفة، كانوا لا يتورعون عن تناول مخصصات مالية من الحكام الإنكليز أو من الدوائر الصهيونية المنتشرة في جميع أحياء المدينة.

* * *

هناك ذكريات كثيرة تذهب بي إلى مطاردة الصهاينة في أحيائهم، وفي وسط مساكنهم، كلما رأينا ضرورة إلى ما فيه خير الوطن وخير حيفا وسكانها. وبعد معاناة، تعودت العيش في يافا، وشيئًا فشيئًا دخلت مع إخوة أعزاء في عراك مع الصهاينة من سكان تل أبيب والمستوطنات المحيطة بيافا، والتي أقيمت خصيصًا للنيل من يافا وعرب يافا، والليالي الحبالى الماضيات تشهد على محاصرتنا لتلك القلاع الحربية، والتي أُسست من أجل العدوان، وكان الصهاينة فيها محكومًا عليهم بغلق منازلهم من غروب الشمس إلى شروقها. كنا نرتدي أزياءهم، ونخفي أنفسنا تحت برنيطة أو جلباب أسود، ونقوم بهجومنا، وكنا لا نتردد عن مهاجمة الإنكليز، فيطاردوننا، ولكننا كنا ننجو دومًا بفضل سكان يافا وأزقة يافا وبيارات يافا. لم يكن لنا ابن نخاف عليه ولا زوجة ولا أي رابط آخر غير رابطنا ببلدنا، وحبنا له، ولكننا لم نكن نعمل من خلال تنظيم أو حزب، فكانت جهودنا كلها فردية، وهم كانوا يعملون في تنظيمات، وكانت كل حكومة الإنكليز تحت أمرهم، ومع ذلك لم نتأخر يومًا عن الدفاع عن أهلنا ومدينتنا، وهكذا كنا أعزة كرامًا فوق أرضنا العزيزة الكريمة، وقد كان سلاحنا في أيام قوتنا الفردية الإيمان والتضامن والبندقية الموروثة عن الآباء الذين ثاروا على الدولة العثمانية بعد أن وثقوا بوعود بريطانيا على لسان مكماهون، واليوم عندما أنظر إلى الوراء أجد أن التنظيم الثوري هو ما كان ينقصنا، وقد عمل الإنكليز كل ما بوسعهم للحيلولة دون ذلك، اعتقلوا خيرة القادة وخيرة الشبان، وصادروا السلاح والإرادة .

* * *

قررت حكومة الانتداب إجراء انتخابات للبلديات، فوجد شباب يافا الفرصة سانحة للتخلص من عاصم السعيد رئيس البلدية. عقدوا اجتماعات متعددة لاختيار الأصلح من الطبقتين العاملة والمثقفة، وبعد نقاش قررت جهات مختلفة تأييد قائمة المرشحين التي يرأسها الدكتور يوسف هيكل. عند نهاية الانتخابات تبين أن قائمة يوسف هيكل هي الفائزة، وكنت قد أعلنت أنني سأقيم حفلة تكريمية للدكتور هيكل وصحبه في حال نجاحهم، فكان لزامًا عليّ أن أفي بوعدي. أقمت احتفالاً في قاعة المدرسة الفاطمية الواقعة على شاطئ البحر بالقرب من المستشفى البلدي، وبعد انتهاء الاحتفال، وأخذ الصور التذكارية التي ما زلت أحتفظ بها انفضت الدعوة إلا من بعض الشباب الذين استوقفتهم، واتجهنا إلى مستعمرة بيت يام المحاذية لمدينة يافا من الجنوب، وأمطرناها بوابل من رصاص المسدسات التي كنا نخفيها عن رجال الأمن ونظهرها عند اللزوم. في ذلك اليوم أصيب أحد رفاقنا بطلقة في كتفه، فقد رد علينا الصهاينة، ولم نكن نتوقع منهم ذلك. كانت تلك إشارة هامة إلى تطور الأحداث، فردهم يعني أنهم أصبحوا قادرين على مواجهتنا، وبعد ذلك على المبادرة بالهجوم علينا بدلاً من أن نهجم نحن عليهم ونبادر. سياسيًا كان الحادث خطيرًا جدًا، فمن جهة كان الإنكليز يعملون لنا انتخابات بلدية ديمقراطية ومن جهة ثانية يقوون الصهاينة ويعدونهم للقضاء علينا. حملنا صديقنا وذهبنا باتجاه البحر، وسرنا بعد ذلك على الشاطئ لخلوه من المارة في تلك الساعة المتأخرة من الليل، أذكر أن الشاب كان يتألم وهو محمول على أكتافنا، ولكنه لم يكن يصرخ من الألم على شدته حرصًا منه على ألا يلفت إلينا الأنظار من أجل سلامتنا. وصلنا إلى المدرسة الفاطمية من بابها الخلفي المطل على البحر، وأدخلناه، وأسعفناه، كان المكان الذي احتفلنا فيه بفوز هيكل في النهار هو ذاته الذي أنقذنا فيه أخانا وصديقنا الذي نسيت اسمه ولم أنس حادثة الشرف هذه، لكن لعبة الإنكليز لإلهائنا بالانتخابات كانت خطيرة رغم أنها بعد هذا الحادث لم تنطو علينا، وكما سبق لي وقلت، لم نكن نعمل من خلال تنظيم، ولا علاقة للسلطة البلدية بأمر الدفاع السياسي عن البلاد بشيء والسلطة السياسية كانت بائعة أو مباعة.

* * *

تعدد دخولي معتقل المزرعة القريب من عكا، وقد صادف أن التقيت في أحدها بالمرحوم هاشم السبع صاحب مجلة الصريح الأسبوعية المعروف بنقده اللاذع، وبعد أن عرف كل منا صاحبه توطدت بيننا صداقة، صداقة المبدأ "حب الوطن" وصداقة النضال ضد الظالمين البريطانيين، وضد المستوطنين المغتصبين الصهاينة، وقلما كنا نفترق، ليلاً في غرفة واحدة ننام مع أكثر من ثلاثين فردًا معتقلاً، ونهارًا نتجول بين غرف المعتقلين الذين يعدون بالآلاف. مررنا ذات مرة أثناء تجوالنا من أمام مكتب مدير السجن، فأوقفنا الحارس، وطلب منا عدم الاقتراب من الأسلاك الشائكة التي كانت تحيط بالمعتقل. اغتاظ الأخ هاشم من الحارس، وشتمه بعد أن قال له: ابتعد أنت عنا واذهب إلى بلادك! ولم يمض إلا وقت قليل على ما حدث بين هاشم والحارس إلا وصوت حارس عربي ينادي هاشم السبع. ذهب هاشم إلى الباب الذي فتح له وأخرج ليلتقي بمدير المعتقل والحارس الإنكليزي يقف إلى جانبه، وعند سؤاله عما حدث بينه وبين الحارس أنكر كل شيء واستشهد بي، عندئذ دعيت لأقول ما حدث بين الإنكليزي الشاكي وبين هاشم المشتكى عليه، وقد وجه لي المدير عدة أسئلة حول ما جرى بين الاثنين، فأنكرت كل شيء إلا شيء واحد وهو أن الحارس أمرنا بالابتعاد عن الأسلاك فابتعدنا. لم يصدق مدير السجن ما قلت، فأمر بنقل هاشم إلى زنزانة أعدت له في سجن عكا المركزي جراء ما قاله للحارس ولم يحدد المدة. ثم التفت إلي وقال: وأنت كذلك قد حكمت عليك بثلاثة أيام في الزنزانة لأنك لم تقل الحقيقة، وفي الحال نُقلنا إلى سجن عكا القريب من معتقل المزرعة. عند دخولنا السجن اصطحبنا جندي إنكليزي إلى الزنزانة، وأثناء الطريق الموصل للزنزانة ضُرب هاشم عشرات الضربات على ظهره وكتفيه ورأسه مما جعله يقع على الأرض مغشيًا عليه، مما جعل إدارة السجن تنقله إلى مستشفى السجن. أمرني مدير السجن أن أبقى إلى جانبه، وفعلا قضيت الأيام الثلاثة في المستشفى إلى جانب الأخ هاشم الذي تماثل إلى الشفاء من آلام أصابته من شدة الضرب. قبل خروجي من السجن المركزي طلبني مدير السجن، وأوصاني ألا أنقل ما حدث لهاشم إلى المعتقلين، وكذلك أوصى هاشم بأن يكتم ما حدث له، ووعده بأن يطلب من مدير بوليس اللواء الشمالي المقيم في حيفا بالإفراج عن هاشم ورفيقه أمين. وفعلاً كتمنا كل ما حدث لنا في سجن عكا من ضرب وإهانة عن المعتقلين ومقابل هذا الكتمان أوفى مدير السجن بوعده حيث طلب من حاكم اللواء الإفراج عني وعن هاشم، وخرجنا من المعتقل لنعود إليه عدة مرات بموجب قانون منع الجرائم الذي أوجده الإنكليز ليكون سيفًا مسلطًا على رقاب الوطنيين، والذي تستعمله السلطات الإسرائيلية ضد أطفال الحجارة وضد كل المواطنين الشرفاء.

* * *

كان هذا هو الحال مع الأفراد العاديين، فكيف كان مع القياديين؟ من بين قادة فصائل الثورة التي تزعمها القائد العام عبد الرحيم الحاج محمد "أبو كمال" كان الشهيد البطل حسن أبو درة، بينما كان البطل المحارب أبو درة في طريقه إلى سوريا والعراق بناء على أوامر الملوك العرب مارًا بالأردن تعرضت له كتيبة من كتائب أبي حنيك "غلوب باشا" قائد الجيش الأردني العام آنذاك، ودون مقاومة سلم الشهيد نفسه، وهو واثق بأنه لن يصاب بأذى نظرًا للبيان الذي صدر عن الحكام الكبار، ولكن ما حدث للمجاهد أبي درة كان عكس ما جاء في بيان وقعه ملوك وأمراء يتقربون زلفى إلى سفراء الدول الأجنبية التي تحمي عروشهم وليس إلى أسيادهم الملوك الأجانب فحسب. سيق أبو درة إلى المقصلة دون رحمة أو تقدير لنضاله وحبه لأمته ووطنه، بينما بارك الخونة العرب تصرفات أبي حنيك مع الشهيد حسن أبي درة رحمه الله. أبرقت والأصدقاء عاطف نور الله ومحمود حموده ويوسف نفاع وعبد الرحمن الحاج إبراهيم وحسني سبع العيش إلى ملوك وأمراء العرب الذين ناشدناهم التدخل لإنقاذ رقبة المناضل حسن أبو درة من حبل المشنقة، وقد استجابوا، وتدخلوا، ولكن تدخلهم لم يجد نفعًا. كان تدخلهم ظاهريًا لأننا ناشدناهم التدخل، وليقولوا للناس لقد فعلنا كل ما بوسعنا في سبيل إنقاذ الشهيد، فلا تلومن إلا الإنكليز. لمناهم لضعفهم ولأنهم ما كانوا سوى حجارة شطرنج في يد الإنكليز، ولكن شتان بين اللوم والغضب، فالناس في أغلبيتهم كانوا لا يغضبون، وهم إذا ما غضبوا وجد واحد مثل أبي حنيك يردعهم ويثنيهم عن فعل أي شيء، وكان هذا في معظم الوقت حالنا باستثناء الهبات الشعبية الكبرى التي كانت تقمع دومًا، والتي كان يزول أثرها السياسي بزوالها نتيجة للتآمر الفلسطيني قبل العربي، وسأعود إلى هبة إضراب عام 36.

* * *

زار وفد من البحارة العاملين في ميناء حيفا مكاتب جريدة الدفاع أيام إضراب عام 36، وأبدوا امتعاضهم من المحاولات التي يتعرض لها بحارة ميناء يافا كي يشاركوا في الإضراب، إضافة إلى أنهم بينوا بوضوح الأخطار التي ستنجم مستقبلاً إذا استجاب بحارة يافا إلى الدعوة المشبوهة إلى الإضراب التي يقوم بترويجها أحد أركان الأسرة النشاشيبية المعروفة بولائها للاستعمارين الإنكليزي والصهيوني. أخذت بوجهة نظرهم، ونشرت خبرًا موسعًا في جريدة الدفاع سفهت فيه فخري النشاشيبي الذي كان المتبني لتلك الدعوة، والذي كان يبث محاسنها بين رؤساء البحارة حتى بلغ بهذا المأجور أن ملأ أيدي وجيوب الرؤساء والأعوان بالمال بحجة أنهم لا يقلون وطنية عن باقي فئات الشعب التي شاركت في إضراب 36 العام. استجاب بحارة الميناء إلى دعوة هذا الفخري النشاشيبي، وأضربوا رغم تحذير إخوانهم بحارة ميناء حيفا. ولما لم تمض إلا أيام قلائل على إضراب بحارة ميناء يافا "الأشاوس" حتى طلب الصهاينة من المندوب السامي السماح لهم بفتح ميناء خاص بهم في تل أبيب التي لا تبعد عن ميناء يافا إلا دقائق إذا قيست بالزمن بحجة أن تجارتهم مكدسة على أرصفة ميناء يافا، وفي داخل البواخر التجارية الراسية في الميناء، ولم تجد من ينقلها إليهم بسبب إضراب البحارة العرب. استجاب المندوب السامي للطلب الصهيوني في الحال، وهو الذي كان يعارض من قبل فتح ميناء في تل أبيب إلى جانب ميناء يافا. وبعد فترة قصيرة من فك الإضراب وعودة الناس إلى أعمالهم، تبين أن فخري النشاشيبي كان أداة صهيونية والأموال التي قدمها لرؤساء بحرية الميناء كانت أموالاً صهيونية واللعبة كانت صهيونية القصد منها تحطيم ميناء يافا و"أشاوسها" وهو النعت الذي أطلقه فخري على رؤساء وعمال الميناء بعد أن أعلنوا المشاركة في الإضراب، ومنذ ذلك التاريخ ماتت الميناء ومات البحارة فيها حيث أصبحت ميناء تل أبيب الميناء الوحيدة التي تستقبل وتودع البواخر الحاملة للبضائع من جميع الأقطار المتعاملة مع تجار فلسطين. بعد فوات الأوان عرف العرب أن إضراب أشاوس فخري كان مكيدة صهيونية مدروسة نفذها الصهاينة في الوقت المناسب وبمساعدة الخائن فخري النشاشيبي الذي استلم الأجر المتفق عليه قبل وبعد قرار الإضراب، وأمثال فخري من العملاء كثرة قبحهم الله جميعًا، فقد كانوا حجر الزاوية في ضياع فلسطين.

* * *

وفي هذه المناسبة يطيب لي أن أذكر حادثة غريبة ولكنها بالنسبة لذوي النفوس الوضيعة عادية وهي أن عائلة معروفة في حيفا تملك أرضًا في أعالي جبل الكرمل قد باعت الأرض مرات، مرة لهيئة يهودية تابعة للوكالة اليهودية، ومرة للسماسرة اليهود، ومرة للعرب، وبعد الهجرة رأيت أحد أبنائها حاكمًا عسكريًا للواء نابلس بأمر من كلوب المدعو أبو حنيك، وهكذا يلاقي الخونة وأبناء الخونة التقدير والاحترام من أسيادهم حيث وجدوا. وتتعدد الطرق في تقديم الخونة وتقديرهم، فهناك الوطني المزيف وهناك الخائن المستتر وهناك الخائن الواضح للعِيان والأول هو أخطرهم لأنه يقدَّم للناس على أساس أنه قمة الوطنية وأنه صاحب رسالة وصاحب مشروع للتحرير ويعمل المستعمرون على تلميعه بالحبس وتلبيسه لباس الوطنية بالعزل والمطاردة التي يرد عليها بجسيم الأفعال "الوطنية"، وكل هذا تمثيلية لتمرير الحلول التصفوية، كان هذا ما يجري إلى اليوم، فكلما تنازل عرفات عن شبر من القضية خاض المعارك الجسيمة التي يدفع الشعب الفلسطيني دائمًا ثمنها باهظًا من أرضه ودمه وماله وبنيه ومن حريته وعزة نفسه وكرامته وطموحاته، وقبل عرفات كان الشقيري ذو الصوت "الجهوري" كما كنا ندعوه تهكما الذي التقيته أكثر من مرة والذي كان في كل مرة متأكدًا من تحرير فلسطين في الغد تحريرها بصوته الملعلع الفخم وبتصريحاته الأفخم التي كانت تبرر للصهاينة كل فعل وكل مجزرة وكل انتهاك وكل خنق لنا وكل حرب ولم تكن آخرها حرب 67، واليوم يلجأ الإسرائيليون إلى نفس اللعبة مع صغار العملاء وكبارهم يرمونهم في الحبس ليجعلوا منهم وطنيين، وعندما يخرجون يقودون أو يتبوأون أعلى المناصب لينفذوا ما يأمر به الصهاينة حكامهم الفعليون.

* * *

أشيع أن إسماعيل صدقي رئيس وزراء مصر الذي كان مكروهًا من الشعب المصري نظرًا لموالاته للمستعمرين الإنكليز أنه سيمر بحيفا بعد انتهاء زيارته إلى لبنان لحضور حفلة تكريمية سيقيمها له المعارضون الفلسطينيون الذين يدينون بالولاء للاستعمار والمستعمرين كصديقهم إسماعيل صدقي، وما كاد خبر مجيء هذا الصدقي إلى حيفا ينتشر حتى اجتمعت جماعتنا المؤلفة من الوطنيين الشباب ورسمت طريقًا مدروسة للإساءة إلى عميل الاستعمار في القطر المصري والمحتفلين به، وكان ترتيبنا أن نقف في الطرق التي كان من المفروض أن يمر بها، ونعمل ما يجب عمله ضد طاغية مصر. كان نصيبي أن أنتظر قدومه عن طريق البحر الرابط بين فلسطين ولبنان بداية رأس الناقورة مرورًا بعكا وتوابعها من القرى الكثيرة الممتدة على طول الطريق الرابط بين لبنان وفلسطين، وقد بقيت أرصد الطريق الساعات الطوال دون أن أشعر أثناءها بالتعب أو الجوع. ومن سوء حظه وصل مدخل حيفا عند خروج عمال السكك الحديدية مساء، وكان عددهم يزيد عن الألفي عامل، وزيادة في سوء طالعه كان الطريق مغلقًا بسبب مرور القطار مما جعل السيارات التي ترافقه تقف وتنتظر لبعض الوقت. استغليت وقوف السيارة التي هو قابع فيها وإلى جانبه مثيله في العمالة توفيق دوس باشا وصرخت بالعمال الذين ملأوا الشارع طالبًا منهم أن نهتف بحياة الباشا، فتجمعوا من حولي ورددوا من خلفي عبارة "يعيش النحاس باشا"، والنحاس كان زعيم الوفد المصري، والوفد المصري هو الشعب المصري. رددت الجماهير القريبة مني والبعيدة عبارة "يعيش النحاس باشا"، وعند سماعه العبارة احمر وجهه وامتقع لونه كما احمر لون توفيق دوس الجالس إلى جانب الباشا. ولما كنت قريبًا من سيارة دليل الموكب فخري النشاشيبي رأس الأفعى في المعارضة التي كان يقودها راغب النشاشيبي طلب من ضابط الحراسة أن يلقي القبض عليّ، وفعلاً جاءني الضابط بدوي أفندي أحد ضباط الأمن في حيفا، وهو مصري الجنسية، وأركبني إلى جانبه إلى أن وصلنا إلى مفترق الطريق. ذهب إسماعيل صدقي إلى مكان الاحتفال، وذهب الضابط بي إلى مركز البوليس.

وفي مركز البوليس جاءتني وفود كثيرة بعضها للتشجيع والبعض الآخر لمعرفة الشاب الذي رفع الرؤوس عاليًا، ومن بين الذين أرادوا معرفتي وفد مصري من كبار موظفي سكة الحديد ومعهم عددٌ من المحامين. وجه لي المحامون أسئلتهم حتى يجدوا نوع الجريمة التي قد أكون قد ارتكبتها، ولما سمعوا ما قمت به طمأنوني وقالوا لي قل دون خوف للمحققين إني هتفت أمام صدقي باشا بحياة النحاس لأني أحب النحاس ولكم أقول، أي للمحققين، يعيش النحاس باشا، وأني لم أقل يسقط إسماعيل صدقي. مكثت في دائرة الشرطة إلى أن احتفل المحتفلون بضيفهم وصحبه، وغادر المدينة. بعد ذلك جاءني مسؤول دائرة الشرطة وخاطبني قائلاً: يمكنك الذهاب إلى منزلك. خرجت من باب مركز الشرطة، فوجدت الناس على اختلاف أعمارهم ينتظرون خروجي، وما كاد أصدقائي يروني حتى سارعوا إلى ملاقاتي، وأخذ كل منهم يعانقني ويثني عليّ وبعضهم كان يردد محييًا الشاب الجريء الذي رفع رؤوس سكان حيفا ولوائها. ومن دائرة الشرطة ذهبت إلى مقر الجمعية الإسلامية، وهناك التقيت بمراسل جريدة الجهاد المصرية ومعه محمد توفيق دياب أحد رجالات الوفد المصري الذي يتزعمه النحاس باشا، وبعد أن استجوبني المراسل، الذي هو أكرم زعيتر الشاب الوطني المعروف. وفي الحال اتصل بمصر وأعطى خبر ما حدث معي إلى الجهاد، وفي صباح اليوم التالي صدرت الصحف الفلسطينية والمصرية وعلى صفحاتها الأولى "شاب فلسطيني يتحدى إسماعيل صدقي ويقول على مسمع منه يعيش النحاس باشا". ومنذ ذلك التاريخ تضاعف عدد الأصدقاء، ومع ذلك بقيت على مودة مع أصدقائي الأوائل الذين أحببتهم وأحبوني وعملنا معًا من أجل الوطن الحبيب.

* * *

دعيت إلى احتفال أقيم في قاعة المدرسة الإسلامية بحيفا لمديرها فضيلة الشيخ كامل القصاب الزعيم الوطني السوري الذي حكمت عليه فرنسا بالإعدام، وكانت المناسبة ذكرى انتصار صلاح الدين الأيوبي في موقعة حطين التي سجلها التاريخ بفخار واعتزاز. تبارى الخطباء على المنصة معتزين بالبطولات العربية الإسلامية وانتصارات العرب والمسلمين على الأوروبيين الصليبيين المغرورين، ومن بين أبرز الخطباء كان الأديب الفلسطيني المعروف إسعاف بك النشاشيبي الذي كان يردد بين كل مقطع ومقطع من قصيدة عصماء أعدها لهذه المناسبة الوطنية الغالية "صلاح الدين، نور الدين، حطين"، وكان بعض الشباب الواعي يطلق الرصاص من مسدس كان يخفيه في جيبه. لفت نظري شاب كان يبالغ بوطنيته ولكنه كلما سمع طلقة وقف مذعورًا، وكأنه يطلب النجاة. ولما كان مقعده قريبًا من مقعدي قلت له لو رآك الصهاينة تخاف من طلقة مسدس لحكموا علينا بالجبن ولأخرجونا من قاعة الاحتفالات مذعورين مضروبين، ورغم حديثي هذا، فقد بقي الرجل جبانًا رعديدًا، وما زلنا إلى يومنا هذا جبناء رعاديد أمام الصهاينة الذين نقول عنهم: وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله.

وبما أنني أحكي عن الجبن، هناك الجبن الذي جُبل به الإنسان كما رأينا، وهناك الجبن الذي صُنع به الإنسان كما سنرى، إذ بعد أن لجأت إلى نابلس رغم أني ابن برقة وابن نابلس، ويا لسخرية الأقدار! وبعد أيام من وصولي إلى دار صديق، جاءت عند الغروب طائرة مروحية صهيونية عادية أي غير حربية، وما أن سمع دويها الناس حتى هرعوا إلى منازلهم خوفًا وهلعًا. لاحظت وأنا داخلٌ حيث كانت الطائرة في الجهة المقابلة أن أحد ركابها أخذ قنبلة يدوية وألقاها فوق المستشفى الوطني، ولكنها لحسن الحظ وقعت بعيدة عن المستشفى، ولم تخلف أضرارًا. هذا الحادث حلقة من سلسلة الترهيب الذي مارسه علينا الصهاينة قبل دير ياسين وبعد دير ياسين وقد كانت مذبحة دير ياسين أقوى هذه الحلقات بربرية وشراسة، فدفعت إلى الرحيل، وأسست للمنفى، وطوحت بنا الطوائح، ولم يكن الجبن أبدًا من وراء المأساة الفلسطينية في تلك الظروف المشئومة التي لعبت فيها الوعود العربية دورًا آخر مهلكًا، دور التطمين بالعودة، فاتكل الفلسطينيون على غيرهم من الخونة العرب والمتواطئين من الفلسطينيين، وكان الوهم من وراء الجبن العام، وكما ذكرت كي يزن المرء هول هذا الوهم أن طائرة مروحية مدنية لا ترعب أرنبًا قد أرعبت مدينة، وكان مجرد سماع محركها كارثة من الكوارث! وعلى العكس عندما كانت معنويات الفدائي تفل الحديد كان الجبن لا يعرف الطريق إلى قلبه، وكان يواجه ببندقيته الصغيرة الدبابات الكبيرة الضارية، وينتصر في الغالب عليها.

* * *

وبما أنني في نابلس وبعد سنين من الحادث السابق وبناء على اتفاق حصل بيني وبين عائلتي المصري والشكعة، دخلت مع إخوة لي الانتخابات النيابية. كان تشجيع زعماء العائلتين لكتلتنا عظيمًا، ولكن يؤسفني أن أقول إن التشجيع الذي كان قبل يوم من الانتخابات لم أر له أثرًا يوم الانتخابات إذ أن زعامة العائلتين فتحت المكاتب وجندت الأتباع ليدعوا الناس إلى مناصرة غيري وغير رفاقي الذين وعدوا بإعطائهم أصوات الناخبين في المدينة والقرى، فهم لم يكونوا يتوقعون بعد أن أصغى الناس لنا وخاصة الفلاحين منهم أن يؤيدوا برنامجنا، كانوا واثقين من سقوطنا لهذا جاء دعمهم الظاهري لنا، لم نعتب ولم نعاتب فكيف نعتب على الثعالب وكيف نعاتب النفوس التي جبلت على النفاق والخداع؟ وكانت نتيجة الانتخابات بسبب تحالفهم ضدنا سقوط الجميع وليس سقوطي أنا وسقوطي أنا الذي جر معه الآخرين كان الهدف، والسبب في ذلك وقوفي من غش دقيق اللاجئين الأسود الذي كانت مطاحن الشكعة والمصري تبيعه للأنروا بالملايين خبزًا للاجئين وقوف المقاتل المستميت، فأجبرتهم على ما لا يريدون وحرمتهم من أموال كانوا يكسبونها على ظهور إخوتنا المشردين ومأساتهم أولئك الذئاب الذين كان القرش رب أربابهم والوطنية سلعة تباع وتشترى ككل السلع وفلسطين حلق الذهب الذي تعلقه نساؤهم، وقد ذكرني نقض هذا الحادث بالآية الكريمة القائلة لإخوة يوسف الصدّيق الذين كانوا يسكنون نابلس "أنتم أشر مكانًا والله أعلم بما تصنعون"، والمكان لا أدري هل هو البيت الذي كان أولاد يعقوب يعيشون فيه أم نابلس وما جاورها.

* * *

كان زعيم الوفد المصري المغفور له مصطفى النحاس يعطف على القضية الفلسطينية، ويشارك الشعب الفلسطيني أفراحه وأتراحه، وخلال توليه رئاسة الوزارة المصرية في عهد الملك فاروق قام بزيارة القدس تأكيدًا لتمسك مصر بعروبة فلسطين رغم تكاثر المهاجرين الصهاينة الذين كانوا يصلون إلى شواطئ فلسطين بطرق غير مشروعة أي رغمًا عن حكومة الانتداب التي حددت الهجرة في تلك الأيام بثلاثة آلاف مهاجر صهيوني في الشهر، وهو العدد الذي رفضته الصهيونية بتشجيع من أصدقائها البريطانيين والأمريكيين والفرنسيين. وما أن انتشر نبأ وصول النحاس في القطار الأبيض إلى القدس حتى انهالت على مقر إقامته برقيات الترحيب كما ذهبت وفود الوطنيين لدعوته إلى زيارة المدن والقرى المنتشرة على أرض فلسطين، وقد لبى ضيف البلاد دعوة رجالات يافا. قبل وصوله إلى مداخل المدينة تجمع الشباب على جوانب الطرقات الواقعة في مدخل المدينة وفي الشوارع إلى دار البلدية، ولما رأى ضيف يافا الكبير الأعداد الهائلة والتي يصعب تعدادها أوقف سيارته ونزل منها وسار على قدميه في شوارع المدينة. كانت الجماهير تتدافع لتحيته والسلام عليه، وكنت في المقدمة حيث وصلتُ إليه بصعوبة لا أستطيع وصفها، وما أن وضعت يدي بيده مهنئًا بسلامة الوصول إلا ويد خشنة تشدني من ياقة قميصي من الخلف محاولة إبعادي، فالتفت إلى الخلف وإذا باليد التي امتدت إليّ يد ضابط إنكليزي، فأومأ إليّ شاب صديق إيماءة فهمت منها اضربه وأنا بجانبك، تحمست واستجمعت كل قواي ولطمت الضابط الإنكليزي على وجهه، فأعاد إليّ اللطمة، وأطاح أحد قواطع أسناني، وفورًا هجم الشاب الذي أوعز لي بضربه وعدد من مرافقيه على الضابط الإنكليزي وألقوه أرضًا وشجوا رأسه ووجهه، وهناك أشخاص لا أعرفهم أخذوني بعيدًا وأخفوني بين الجماهير المنتشرة في ساحات المدينة، وأذكر أن الذين أخفوني عن أعين أفراد البوليس الإنكليزي الآتين لنجدة ضابطهم ذهبوا بي إلى طبيب الأسنان البرغوثي صاحب عيادة طب الأسنان الكائنة في أول طلعة العجمي القريبة من سوق البلابسة. أشار عليّ الطبيب أن أعض على خشبة طوال الليل، فاستجبت لنصيحته، وعادت السن إلى حالتها الطبيعية، ومكثت السن تعمل مع رفيقاتها خمسة عشر عامًا ثم ماتت.

* * *

وبينما كنت والصديقان موسى الكردي وعطا عبد الرسول نسير في شارع سوق اسكندر عوض المعروف في مدينة يافا سمعنا الراجمات التي كان يوجهها صهاينة تل أبيب إلى يافا، أصيب الصديق عطا بشظية لم يشعر بها إلا بعد أن وصلنا إلى دكان أحد المعارف حيث جلس الصديق عطا على أقرب كرسي داخل الدكان، وبعد ثوان وقع على الأرض، ولم ير النور حيث فارق الحياة. كانت الأمور قد وصلت إلى حد من التوتر شديد والمواجهات قد ازدادت إلى أن غدت يومية وفي أماكن حساسة من الأحياء العربية إذ وضع الصهاينة المواد المتفجرة في مكانين مكتظين بالآهلين الأول في سوق الخضار، وقد كان عدد الضحايا بالعشرات رجالاً ونساءً وأطفالاً، والثاني سيارة ملغومة وضعت بالقرب من السرايا التي كانت تُستعمل كمطعم لأبناء المدارس، وقد ذهب ضحية هذا الإجرام عشرات الموظفين. وعلى أثر حوادث الانفجارات جرت مظاهرة صاخبة جابت أكثر شوارع المدينة، وقد كان رفاقي يرفعونني على الأكتاف وأنا أردد الشتائم لبريطانيا المستعمرة وأندد بالصهيونية المجرمة. خلال تلك المظاهرة كان العساكر الإنكليز يسيرون إلى جانبي المتظاهرين، وبعد أن خفت حدة التظاهر تعرض لي أحد رجال البوليس باسمًا، وقال لي "أنت قبضاي!" ناولني علبة سجائر، وطلب أن أدخن، أخذت العلبة، وعندما فتحها وجدتها فارغة، عندئذ قلت له يا مستر العلبة فارغة، فأجاب مثل كلامك الفارغ الذي كنت تقوله وأنت محمول على أكتاف شباب يقولون ولا يفعلون، والإنكليز يقولون لك ولهم قولوا ما شئتم ولكن حسابكم عسير إذا فعلت أيديكم! والإنكليز قد فعلوا بأيديهم ما لم يفعله أحد عندما نسفت حكومة الانتداب حيًا بأكمله بحجة تجميل مدينة يافا، وهذا وجه آخر من وجوههم السوداء إلى أن بدأ هجوم اليهود من مستعمرة بيت فيغان، كان العرب يرفضون شراء أسلحة من الإنكليز الأفراد وعند رفضهم يشتريها الصهاينة.

* * *

على أثر اشتداد المعارك بين العرب والصهاينة ودعوة ملوك وأمراء العرب المواطنين الفلسطينيين إلى التوجه إلى بلدانهم ضيوفًا حرصًا من الملوك والأمراء على حياة كل مواطن عربي كبر شأنه أو صغر ودعوتهم كانت مقرونة بأقوال: سنعيدكم إلى دياركم بحد السيف وعلى أسنة الرماح! خُدعنا، وصدقنا، وحين طلب مني صديقي محمود يعيش الموظف في جريدة الدفاع إرسال زوجتي وأولادي أفنان وباسمة ومها مع زوجته وابنه علي وابنته زين إلى نابلس بواسطة سيارة الجريدة التي كانت تنقل أعدادها كل صباح إلى مدن قلقيلية وطولكرم ونابلس أجبت الأخ محمود بالموافقة، وفعلاً غادرت العائلتان يافا واتجهتا إلى نابلس وصادف أن الكثير من العائلات غادرت يافا حتى لا تكون عبئًا على الرجال الذين انخرطوا في التجمعات الشعبية بعد أن أخذت على عاتقها مقاومة الصهاينة المعتدين، ولما كانت بريطانيا الدولة المنتدبة قد أعدت الصهاينة إعدادًا عسكريًا وسلحتهم بالبنادق والمسدسات وعلمتهم كيف يعدون راجمات الألغام ووقفت إلى جانبهم كلما ساء حالهم القتالي استطاعوا التغلب على العرب المقيمين في حي المنشية القريب من مدينتهم الحصينة "تل أبيب"، وأثناء تلك الهزائم جاءني جاري الأخ مصباح الطاهر، وطلب إليّ مرافقته والخروج من يافا لألحق بعائلتي المقيمة في نابلس، وحال موافقتي أخذ ينقل بعض الأمتعة إلى شاحنة كان قد أعدها من قبل ودون معرفتي! سارت بنا الشاحنة وكل منا يقف إلى جانب الأثاث الذي ملأها به، وعند وصولنا إلى قرية يازور المجاورة لمدينة يافا شاهدنا على أسطحة منازل القرية بنات الصهاينة المحاربات المدربات وبأيديهن البنادق، وهن يشرن إلى قوافل الهاربين أن أسرعوا وإلا قتلناكم! ومع الأسف أسرعنا خوفًا على حياتنا، والجبان الرعديد يحب الحياة، وقد وقفت ومن معي من الرجال الفارين من بنات صهيون من يافا إلى نابلس دون أن نشعر بتعب، والخائف لا يتعب من الوقوف لأن أفكاره مشغولة بحب الحياة، وعند وصولي وصحبي إلى نابلس عاد إلى وجوهنا الدم الذي جمد في العروق من شدة القلق.

وما أن علم بوصولي الأصدقاء أمثال الدكتور سيف الدين الكيلاني مدير بنك الأمة في نابلس ومساعده الشاعر مصباح العابودي حتى أتوا إليّ وعرضوا عليّ أن أنزل ضيفًا عليهم، وفعلاً اخترت بيت الأخ مصباح، وفي بيت مصباح عشنا عدة أسابيع، وبعد ذلك، جاء أمر من مدير عام بنك الأمة أحمد حلمي باشا بنقل أموال البنك إلى عمان، ونزولاً عند أمر أحمد حلمي باشا ذهب مدير البنك ومساعده إلى عمان وطلبا مني مرافقتهما فأذعنت ولبيت الطلب. في عمان قررنا نقل أسرنا من نابلس إليها حتى نتمكن من التفرغ للعمل الوطني، وفي عمان لا يوجد من أعرف، ولكن زميليّ يعرفان الكثير من الناس، عندئذ جئنا بأسرنا ونزلنا ضيوفًا على بعض العائلات، وبعد أيام قررنا الذهاب إلى سوريا، وهناك قررنا اللجوء إلى مصر، واللجوء إلى مصر يحتاج إلى تأشيرة دخول، وقد حصلنا على تأشيرة دخول بواسطة رئيس وزراء سابق، ولكن كتب إلى جانب التأشيرة "لا يحق له العمل بأجر وبدون أجر"، ولما قرأت هذه العبارة قررت عدم الذهاب إلى مصر كما قرر الدكتور الكيلاني ذلك، بينما أصر الأخ مصباح على اللجوء إلى مصر واللحاق بأحمد حلمي باشا الذي كان يقيم في مصر والباشا كان يعطف على الشاعر مصباح العابودي، فالعابودي كان يردد أشعارًا في مديح الباشا مؤسس بنك الأمة. من دمشق ذهبنا جميعًا إلى بيروت، وفي بيروت التقينا بسماحة الحاج أمين الحسيني زعيم الحركة الوطنية الفلسطينية حيث كان عائدًا من ألمانيا التي لجأ إليها بعد أن قرر المندوب السامي البريطاني اعتقال سماحته بسبب الاضطرابات التي عمت جميع الأرض الفلسطينية. حدثنا الحاج أمين عن معاناته التي لقيها على الأرض الألمانية والأتعاب التي صادفته خلال تنقلاته في العواصم الأوروبية، لم يقل لنا السبب الأساسي الذي كان من جراء التقائه بهتلر قبل القضاء عليه، هذا اللقاء الذي لم يكن مدروسًا كما يجب، وقد لاحظت والرفاق على وجه سماحته ما لاقاه من آلام وأحزان أيام غربته عن وطنه فلسطين. من بيروت عدت إلى عمان، ومن عمان عدت وأسرتي إلى نابلس حتى أكون على مقربة من الأرض العربية التي أقام الصهاينة فوقها دولة إسرائيل، ومنذ عام 1948 إلى عام 1990 ونحن ننتظر عودتنا على أسنة رماح الملوك والأمراء الذين خدعونا حين دعونا إلى ضيافتهم، وهم يعلمون أنهم خدعوا شعب فلسطين إرضاء لأسيادهم المستعمرين، أسياد جعلوا منهم ملوكًا وأمراء لإذلال العرب ولعق دماء شيبهم وشبابهم وتشريد وتجويع من بقي حيًا ممن ينادون بحياة فلسطين وعروبة فلسطين.

* * *

عام 48 غادرت يافا، واتجهت إلى مدينة نابلس نازحًا عن تلك المدينة العربية الجميلة مع النازحين الذين خدعتهم وعود ملوك وأمراء العرب، ملوك وأمراء أعلنوا بعد غليظ الأيمان أن يعيدوا فلسطين عربية كما هي بريطانيا إنكليزية، وأن يعود إليها أهلها تحت أسنة الرماح، وخلال فترة سياحية يقضيها النازحون في ضيافة إخوانهم شعوب الأقطار المجاورة على أن لا يتجاوز غيابهم عن ديارهم أكثر من خمسة عشر يومًا. صدقت كما صدق غيري أكذوبة المهرجين، وتَرَكَ الجميع منازلهم بعد أن أغلقوا أبوابها، وحملوا مفاتيحها. وزيادة على ذلك، فقد ترك بعض الذين يسكنون المنازل العالية نوافذهم مفتوحة حتى تدخل إليها الشمس ولا يختنق فيها الهواء. وكما سبق لي وقلت زارني الأخ محمود يعيش (أبو علي) واقترح علي أن نرسل الأولاد وأمهاتهم إلى نابلس تحت إشراف سائق سيارة جريدة الدفاع التي تحمل الجريدة إلى نابلس صباح كل يوم، استحسنت الاقتراح، وفي صباح اليوم التالي حملت السيارة الأسرتين ميممة شطر عاصمة جبل النار. وما هي إلا بضعة أيام حتى جاءني الصديق مصباح الطاهر (أبو زاهي) وما أن هززت له رأسي بالموافقة على الرحيل ودون أن يستشيرني أخذ ينقل بعض أثاث المنزل، ويضعه في شاحنة كان قد أحضرها معه. أغلقت الدار والنوافذ، وزودت الحمام الذي كنت مولعًا بتربيته بكمية كبيرة من الحب والماء، وأغلقت باب الحديقة بالحجارة من الداخل، وتسلقت السور الذي يحيط الحديقة، ومن خارج السور وضع الأخ مصباح سلمًا، وعن طريقه وصلت إلى الشارع ثم إلى الباب الذي أحكمت إقفاله، ووضعت المفاتيح في جيبي على أمل العودة بعد أسبوعين كما قال المهرجون. مضت الأيام، وانتهى الأسبوعان، ولم نر بادرة تدل على صحة ما وعد به الملوك والأمراء. تنادَيْنَا، وعقدنا أول اجتماع لبعض النازحين المقيمين في نابلس، وبعد نقاش شكلنا لجنة لتكون همزة وصل بين النازحين والجامعة العربية ومطالبة الحكام بالوفاء بوعودهم التي قطعوها على أنفسهم وكانت المحفز على ترك المنازل والأرض بما فيها وما عليها. وقبل انفضاض الجلسة، طلب بعض الحضور من لجنتهم تقديم تقرير عما سيتوصلون إليه خلال شهر، وما أن سمع البعض الآخر عن بقائنا شهرًا بعيدين عن منازلنا حتى صاحوا مستنكرين ومحتجين، ولو عرفوا أن بعدنا عن ديارنا الذي كان سببه تآمر الحكام سيدوم عشرات الأعوام لانفجرت أدمغتهم قبل أن تنفجر حناجرهم.

بعد أن طال انتظار العودة، ونفذ ما في الجيوب من مال قليل، أخذت الشعوب العربية بجمع التبرعات الغذائية، وبعد وصول تبرعات سوريا والعراق شكل المقيمون من أهل نابلس لجنة سموها "لجنة شؤون النازحين"، كانت مؤلفة من السادة سليمان طوقان رئيس بلدية نابلس سابقًا رئيسًا وعضوية عادل الشكعة، وصفي المصري، قدري طوقان، نزيه كنعان، وجميل القدومي. باشرت اللجنة أعمالها حيث استأجرت مخازن لحفظ المواد المرسلة من الأقطار العربية، وعينت بعض العمال للتوزيع والحراسة، ومن بين العمال كان بعض اللاجئين، وهؤلاء لاحظوا أن المواد التي تدخل المخازن توزع على أعضاء اللجنة ومن يلوذ بهم من أهل المدينة. وصلني عن طريق بعض اللاجئين المتعاونين مع اللجنة تلاعب المسئولين عن التوزيع، فاتصلت ببعض أعضاء اللجنة، فأنكروا كل ما قيل لي، وطلبوا مني الانضمام إلى اللجنة، أجبتهم إلى ما طلبوا، وأصبحت عضوًا في لجنتهم، وهذه العضوية جعلت مني مراقبًا على كل ما يصل إلى المخازن، وعلى كل ما يوزع، ولمن يوزع، فلاحظت أن بعض أعضاء اللجنة يأخذون لمنازلهم ما يريدون، ويوزعون الكثير على الأقارب وعلى من يلوذ بهم من الأنصار والمؤيدين من أبناء نابلس والقرى المجاورة وما يتبقى يوزع على فئة قليلة من أسر النازحين. وفي الحال أثرت ما توصلت إليه من معلومات في إحدى جلسات اللجنة، فاستغرب البعض والبعض الآخر وجه إليّ عبارات النقد والتحامل على اللجنة وملخصها عدم الأمانة وعدم القيام بالواجب، فبقيت على موقفي، وكانت نتيجة إصراري على الاتهام أن عقدت اللجنة جلسة أثناء غيابي، وقررت طردي من عضويتها. فَرِحْتُ بهذا القرار الذي فتح أمامي آفاقًا واسعة، وأطلق لي المجال في تعرية اللجنة وفضح أعمالها، الأعمال التي كانت تستهدف بلع جميع المساعدات الغذائية وغير الغذائية من الأقطار العربية باسم النازحين القاطنين في المدينة والمخيمات والقرى المجاورة.

بدأت العمل في كتابة العرائض الموقعة من عشرات النازحين والتي تطالب بإغلاق مكاتب لجنة يدعي أعضاؤها أنهم من أحرص الناس على ما يصلهم من مساعدات سواء أكانت مالية أو غذائية أو أغطية أو ألبسة رجالية ونسائية، ومن خلال العرائض التي كنت أوجهها إلى الحكام، وأبعث بنسخ منها إلى الصحف اليومية، أخذ النازحون يتصلون بي، وينقلون إليّ كل ما يحصل معهم من مخالفات يرتكبها أعضاء اللجنة مجتمعين أو فرادى. وفي هذه المناسبة يطيب لي أن أذكر باعتزاز جرائدنا الموقرة التي وقفت إلى جانب اللاجئين، وأخص منها الدفاع – الجهاد – فلسطين – الصريح الأسبوعية – وقد بلغ باللجنة وأعضائها الحقد أن اتصل كبيرهم سليمان طوقان رئيس بلدية نابلس بحاكم المنطقة العراقي حيث كانت نابلس وما جاورها تحت الحكم العسكري العراقي الذي دخل البلاد باسم تحرير فلسطين وإعادة النازحين إلى ممتلكاتهم ومنازلهم. استجاب الحاكم العراقي لشكوى الشاكين، وأمر بإحضاري إلى مكتبه، وعند وصولي إلى دار الحكومة استقبلني بحفاوة، ووجه إليّ كلمات المتحيز، ولما وجدته على هذه الحال أخذت أشرح له قضية المواد والأموال التي وصلت إلى اللجنة باسم الشعب العراقي، تنبه الرجل، وأخذ يلقي عليّ الأسئلة الكثيرة حول اللجنة والخدمات التي يجب أن تقدمها للاجئين، وبروية أطلعته على كل الخفايا، مما جعله يقتنع، ويغير رأيه فيما أقوم به من نشاطات من أجل اللاجئين لا سيما المحتاجين منهم.

* * *

تمشيًا مع قول من قال: "الاعتراف بالخطأ فضيلة وشجاعة" أعترف أنا أمين عبد الخالق القاسم بأنني يوم جبنت وغادرت مكان إقامتي مدينة يافا عروس فلسطين وميناء فلسطين موطن الزهور والأزاهير فارًا مع الفارين، والله عيب، من الصهاينة المسلحين بأحدث أنواع الأسلحة البريطانية، واتخذت عاصمة جبل النار نابلس مكان لجوء وإقامة مؤقتة، طبعًا تمشيًا مع ما أشاعه قادة العرب الكبار جدًا في ذلك الزمان التعس، زمان النذالة، نذالة أمثالي ممن استجابوا لغباوة الأغبياء، وهم الذين يجلسون بالقوة، قوة المستعمر على عروش مزيفة، ويحملون فوق رؤوسهم تيجانًا مزيفة، تيجانًا لطخها عار الهزيمة يوم أن جابهت جيوشها الكثيرة العدد المتفرقة التخطيط المؤسسة العسكرية الصهيونية القليلة العدد التي أحسن قادتها التخطيط، فهزموا العرب، كل بني العرب من المحيط إلى الخليج، وتم لهم النصر، ورفعوا علم إسرائيل فوق مؤسسات المسلمين والنصارى الدينية والدنيوية، ومع ذلك كنا ننادي، ونحن نولي الأدبار: انتصرنا، انتصرنا... وأيدينا ممدودة إلى ما فوق الرؤوس تشير بالأصابع فقط إلى أننا خرجنا من ساحة المواجهة مع الصهاينة منتصرين لأن الاعتقاد السائد في ذلك الوقت وحتى اليوم أن من ولى دبره وسارع خطاه بعيدًا عن مواجهة أعدائه فهو منتصر، تبًا للعرب وألف...

* * *

استقر مقامي في نابلس، وفيها أسست مدرسة تحت اسم "الفاطمية الجديدة" أسندت إدارتها إلى زوجتي حُسْن هاشم الباتع التي جعلت منها ملجأ لأبناء المشردين، فهم لم يجدوا المدارس الحكومية لإيوائهم بسبب إغلاق تلك المدارس منذ تاريخ خروج البريطانيين من البلاد ودخول العرب وجيوشهم أرض فلسطين باسم تحرير البلاد من شذاذ الآفاق الصهاينة، هكذا كان شعار جيوشنا مع الأسف، وعن طريق الفاطمية الجديدة تعرفت على مكتب الصحافة لأصحابه ماجد القطب وأولاده مأمون ومعتصم وأمين وماهر ومها التي عملت مدرّسة في المدرسة بأجر رمزي، وقد توثقت صلتي بالصحافة اليومية التي كانت تباع بواسطة آل القطب حيث قمت بدور نشط في الدفاع عن اللاجئين وحقوقهم الضائعة بين المؤسسات الشعبية ووكالة الغوث الدولية التي ورثت الصليب الأحمر الدولي، هذا الصليب الذي ساهم إلى حد في إغاثة النازحين عن ديارهم الهاربين عام 1948. وأثناء تولي بهجت طبارة حكم لواء نابلس دعاني إلى مكتبه، وكان ذلك بعد أن ألغى وزير الداخلية بهجت التلهوني حكم الإبعاد الصادر ضدي من قبل طبارة. وما أن دخلت مكتبه، وجلست بعض الوقت حتى وجه إلي الحاكم غير المنصف كلمات المديح والثناء على ما أقوم به من نشاط إنساني في خدمة المحتاجين من لاجئين ومقيمين، فقلت "سبحان المغير". وخلال فترة مقامي في مكتبه طلب إليّ فتح مكتب صحافة على غرار مكتب آل القطب، وهو على استعداد أن يذهب إلى القدس ويأتيني بموافقة أصحاب الصحف على إعطائي وكالات صحفهم بدلاً من وكيل هذه الصحف ماجد القطب، وبعد أن استفسرت عن السبب قال جناب المتصرف إن آل القطب لا يتعاونون معه، فأجبته بالرفض قائلاً: إذا أردت أن تنتقم من ماجد القطب وأولاده فعليك أن تفتش عن شخص آخر غيري لأنني صديق لهؤلاء الناس، وقبل أن أغادر مكتبك لا بد أن أقول لك إنني سأقف إلى جانب القطب وأولاده إذا أصررت على معاداتهم.

حين خروجي من مكتب متصرف لواء نابلس التقيت بالأخ مأمون أكبر أولاد ماجد، وانتحيت به جانبًا بعيدًا عن أعين رجال طبارة، وحدثته بكل ما جرى بيني وبين المتصرف الذي أثنى عليّ اليوم وأبعدني بالأمس بسبب نشاطي المعادي لحكمه، واقترحت على مأمون أن نذهب فورًا إلى القدس لننقل إلى أصحاب الصحف الدفاع، فلسطين، الجهاد، الصريح، ما حدث بيني وبين متصرف نابلس، وفعلاً ذهبت ومأمون القطب إلى القدس. اجتمعنا بالإخوة: رجا العيسى صاحب جريدة فلسطين، وصادق الشنطي صاحب جريدة الدفاع، وهاشم السبع صاحب مجلة الصريح الأسبوعية، وأصحاب جريدة الجهاد محمود يعيش وسليم الشريف ومحمود أبو الزلف، وعندما أنهينا مهمتنا، وتأكدنا من فشل طبارة ومخططاته عدنا إلى نابلس. بعد عدة أيام اتصل أصحاب الصحف بالأخ ماجد، وأخبروه بأنهم قابلوا وزير الداخلية، وحدثوه بما رسمه المتصرف طبارة، فوعدهم بأن يدعوه إليه، وأن يوقف نشاطه، وأن يصلح بينه وبين آل القطب. وفعلاً توقف المتصرف عن معاداة أولاد القطب، وبقيت صديقًا لماجد وأولاده، وقد كانت لموقفي رنة استحسان بين المقيمين والنازحين في لواء نابلس.

* * *

عُرفت بين اللاجئين بحب المساعدة، فقصدني نازحون كانوا يسكنون الأغوار، وقد حملوا على أكتافهم ما استطاعوا حمله من السمن البلدي على اعتبار أن سمنهم هدية لي والنبي قبل الهدية كما قالوا، أدخلتهم الدار، وبعد واجب الضيافة لقنتهم درسًا في الأخلاقيات حيث استنكرت فعلتهم، وبعد أن أفهمتهم أن الرجل الذي يعمل الطيب ويساعد المحتاج لا يتدنى ويتناول الذهب وليس السمن. وفي الحال، حمل كل منهم سمنه، واتجهت بهم إلى مكتب مدير وكالة هيئة الأمم السيد اسحق الدزدار "أبو عمر". دخلت عليه، ومن خلفي أصحاب السمن، وما أن وقع نظره عليّ وعلى من معي حتى بادرني قائلاً: ما هذا يا أمين؟ أجبته على الفور: جاء إلى منزلي هؤلاء الإخوة يحملون إليّ ما ترى من السمن الذي هم أكثر مني حاجة إليه، وأردفت قائلاً: لو أنك قمت بواجبك نحوهم وأعطيتهم ما يحتاجون إليه كما فعلت مع غيرهم لما ارتكبوا هذا الخطأ، أنت لا ترتشى، وأنا لا أرتشى، ومع ذلك أنت الملام، اذهب إلى منازلهم أو أرسل أحد موظفيك واتخذ ما يلزم اتخاذه وساعدهم، وفعلاً ذهب إليهم حيث يقيمون في غور طوباس وسجل جميع الأسر النازحة في سجلات النازحين واعتبروا لاجئين يتناولون مساعدات الإغاثة من وكالة غوث اللاجئين، وقد عادوا إليّ شاكرين، ولكن من غير أن يحملوا على أكتافهم لا سمنًا ولا حليبًا.

* * *

وقفت من وكالة الغوث موقف الناقد، وقد وقفت الصحافة إلى جانبي، لأن انتقاداتي كانت في صالح جميع فئات اللاجئين سواء أكان ذلك مواد تموينية أو تعليمية أو صحية، مما جعل ذكر اسمي يخيف رجال الوكالة لا سيما المسئولين عن توزيع المواد التموينية الذين كنت ألاحقهم في كل مكان خوفًا من الغش في مواد يوزعونها على النازحين أو تنقيص مادة من المواد التي اعتادت الوكالة توزيعها شهريًا على جماهير اللاجئين. لما رأى مدير الوكالة العام مستر كلارك مقدار نفوذي بين إخواني اللاجئين دعاني إلى زيارته في مكتبه بعمان، وعرض عليّ وظيفة أختارها كما أريد في التعليم في الإدارة أو في أي جهاز من أجهزة الوكالة، فأعرضت عن كل ما عرضه عليّ مفضلاً الإشراف على مدرسة كنت قد أسستها في مدينة نابلس وبالقرب من كلية النجاح الوطنية تحت اسم "المدرسة الفاطمية الجديدة" كما سبق لي وذكرت، ورغم رفضي لوظائف الوكالة كبر شأنها أم صغر لم ييأس مدير الوكالة العام، ولكنه هذه المرة أراد رشوتي حيث طلب من مدير التعليم بالوكالة الأستاذ عبد الله صلاح أن يعرض عليّ تقديم مساعدة مالية للمدرسة الفاطمية الجديدة أقرر قيمتها بنفسي مقابل سكوتي عن ألاعيب الوكالة في جميع المجالات في البناء في التعليم في الصحة في المواد الغذائية، أي أن لا أرى ولا أسمع ولا أتكلم، وبعد سماعي لما عرضه عليّ الأخ عبد الله مدير التعليم قمت بزيارة صاحب جريدة الدفاع الأستاذ صادق الشنطي، وحدثته بما حصل، كما قمت بزيارة الإخوة أصحاب جريدة الجهاد الأساتذة سليم الشريف ومحمود أبو الزلف ومحمود يعيش، وقلت لهم ما جرى بيني وبين كلارك وعبد الله صلاح، فأجابوا جميعًا أكتب ما تريد وصدر الدفاع والجهاد مفتوح لما تكتب.

وفعلاً كتبت كل ما حدث بيني وبين كلارك مدير الوكالة العام وما نقله إليّ مدير التعليم العام على لسانه الذي فشل في إقناعي باستلام وظيفة من وظائف الوكالة بينما كانت مديرية التوظيف تتلقى يوميًا عشرات الطلبات من حملة الشهادات الراغبين في الحصول على وظيفة في إحدى دوائر وكالة الغوث. لما رأى كلارك، وقد كان يعرف العربية، ما نشرته الجرائد حقد عليّ وعلى المدرسة الفاطمية، فأمر بمحاربتي والمدرسة، وذلك بمنع مساعدة أي طفل لاجئ ينتسب إليها. عدت إلى الصحافة، فناصرتني، مما جعل وكيل وزارة الإنشاء والتعمير الدكتور سيف الدين الكيلاني يزور المدرسة وبرفقته مساعد مدير التعليم في وكالة الغوث الأستاذ سلامة خليل، وبعد تفتيش دقيق من قبل عدد من موظفي وموظفات الوكالة في عمان ونابلس أرغمت الوكالة على دفع عشرة قروش شهريًا عن كل تلميذ، وقد بلغ مقدار مساعدات التلاميذ في ذلك العام الدراسي من الدنانير الأردنية تسعمائة، تسعمائة بالنسبة إلى عملة اليوم شيء كثير جدًا. بعد ذلك استغنيت عن مساعدات الوكالة المالية، واستمررت في تعليم أبناء اللاجئين على نفقتي الخاصة، والنفقة الخاصة كانت تأتي من أبناء المواطنين الذين انتسبوا إلى المدرسة بأعداد كبيرة حرصًا على مؤسسة التعليم التي عمت فوائدها أبناء اللاجئين والمقيمين، وها هم أبناء الفاطمية اليوم –تاريخ كتابة المذكرات- يشغلون مراكز قيادية في منظمة التحرير الفلسطينية وفي أجهزة جميع الدول العربية دون استثناء.

* * *

كثيرًا ما كنت أطلب مقابلة الملك حسين لأذهب إليه بطلبات اللاجئين وشكاواهم، وما من مرة طلبت المقابلة إلا ولبى طلبي. كنت أصحب معي بعض اللاجئين من "النجوم"، وكنت ما أكاد أصل مقر الملك حتى أُدعى ومن معي إلى دخول قاعة العرش. وحين كان الباب يفتح كنت أجد الملك واقفًا على مدخل مكتبه لاستقبالي ومن معي من رجالات اللاجئين الذين يمثلون لاجئي المخيمات والمدينة. وبعد استراحة قصيرة، كنت أقف لأُسمع الملك طلبات النازحين من حكومته وشكاواهم من وكالة الغوث. في إحدى المرات، شعرت بضيق في التنفس إذ طال شرحي للأمور التي جئت من أجلها. وعند انتهاء المقابلة، طلب إليّ الملك حسين البقاء. وفي الحال، دخل المرافق الخاص ليأمره بإدخالي المستشفى العسكري المركزي للمعالجة. وبعد أن مكثت عدة أيام تحت إشراف العقيد الدكتور أبو غزالة، خرجت بصحة جيدة. عند عودتي إلى منزلي أتى الطبيب العسكري المقيم في منطقة نابلس للإشراف على مرض الحساسية الذي كان يلازمني في فصل الربيع، وكثيرًا ما التقى الدكتور أحمد سروري رئيس بلدية نابلس في منزلي، وقد تكرر لقاؤهما كلما نشرت الصحف أخبارًا عن مرضي: الطبيب العسكري كان يأتيني بأمر القصر، والطبيب سروري باسم الصداقة التي كانت قائمة بيني وبينه.

* * *

في بداية النزوح أقام اللاجئون مخيمًا لسكناهم بالقرب من قرية الفارعة سمي بمخيم الفارعة ادعى أحد مزارعي القرية أن اللاجئين أتلفوا مزروعاته لكثرة مرورهم من أرضه، وقد رفع للمتصرف قضية يشكو فيها لاجئي المخيم. استجاب المتصرف المدعو بهجت طبارة لشكوى المشتكي، ودعا مخاتير ووجهاء المخيم إلى مقابلته. بعد أن استمع إلى أقوال الشاكي والمشتكى عليهم قرر تعويض المشتكي، وطلب من سكان المخيم دفع ثمانين دينارًا أردنيًا له مقابل التلف الذي أصاب مزرعته، وقد كان مثل هذا المبلغ المطلوب دفعه لصاحب الأرض كبيرًا لا يستطيعون عليه نظرًا لفقرهم وسوء حالتهم المادية، فلم يذعنوا لقرار المتصرف. لما تأكد المتصرف من عدم تنفيذ قراره، اصطحب العسكر بقيادة قائد المنطقة حابس المجالي، وذهب إلى المخيم لتحصيل الثمانين دينارًا، وهو المبلغ الذي أمر المتصرف بدفعه للمزارع المتضرر. قبل وصول المتصرف وقائد المنطقة وجنودهما، تجمع شيوخ المخيم وشبابه على الطريق المؤدية إلى المخيم، وما أن وصل المتصرف على مسافة مرمى الحجر حتى رشقوه ومن معه بالحجارة وأعلنوا أنهم لا يستطيعون دفع التعويض الذي أمر به للمزارع بحجة عجزهم وعدم استطاعتهم على الدفع، وطالبوا المتصرف وقائد المنطقة أن يمدوا لسكان المخيم يد العون والمساعدة بدلاً من الحكم عليهم بدفع التعويض لشخص وجد من يساعده عليهم عند متصرف نابلس. لما رأى المتصرف وقائد المنطقة رفض اللاجئين دفع القيمة التي أمر بدفعها للمشتكي عادا ومن معهما إلى نابلس بعد أن أصيب بعض الجنود بالحجارة، وبعد عدة أيام وصلني خبر ما حدث في المخيم، فأحببت زيارته لأقف على الحقيقة، وقد صحبني إلى المخيم الأخ ماجد القطب الصحفي المعروف وصاحب مكتب الصحافة في نابلس. ثاني يوم الزيارة نشرت الصحف اليومية خبر زيارتي للمخيم، فجاءني ضابط المباحث المدعو مصطفى بدر، وطلب مني مرافقته لمقابلة المتصرف. لبيت الطلب، وذهبت إلى مكتب المتصرف، وما كدت أضع قدمي في مكتبه حتى اتهمني بتحريض سكان المخيم على عدم دفع الغرامة المفروضة عليهم. أجبته هذا ادعاء كاذب وملفق، وبعد نقاش عدت إلى منزلي. وفي اليوم التالي جاءني ضابط المباحث إياه، وطلب مني مرافقته، لبيت الطلب، وبدلاً من الذهاب إلى المتصرف نقلت إلى القدس للإقامة الجبرية فيها ستة شهور مبعدًا عن نابلس.

ما أن وصلت القدس وأنهيت الإجراءات المعتادة وخرجت من دائرة الشرطة حتى توجهت إلى الصحافة، بدأتها بمجلة الصريح ثم جريدة الجهاد فجريدتي الدفاع وفلسطين، وكنت أتحدث للإخوة أصحاب الصحف عن المهزلة التي أخرجها متصرف نابلس بهجت طبارة وقائد منطقتها حابس المجالي. في صباح اليوم التالي كتبت الصحافة كل ما قلته بالحرف الواحد، وبعد النشر أخذت وفود اللاجئين تتوجه إلى المتصرفية مستنكرة حكم الإبعاد كما انهالت على وزارة الداخلية برقيات الاحتجاج والاستنكار، وفي اليوم الثالث والأيام التي تلته أخذت برقيات الاحتجاج تصل بكثرة إلى القصر الملكي، وتوالت الاحتجاجات التي عمت جميع مخيمات ومدن وقرى مناطق الضفتين الغربية والشرقية، وكان كل هذا مناسبة لي ولروحي العملية من أجل أن أربط وضعي الشخصي بالوضع العام والمأساة الاجتماعية لشعبي بالمأساة السياسية. وعلى مرأى الصهاينة، وهم يتنقلون غير بعيد في القدس من وراء الأسلاك الشائكة، اقترحت فكرة "الزحف المقدس" من أجل الخلاص والعودة، نشرتها الصحف في عناوينها الأولى مع تفاصيل كتبتها عن هذا الزحف الذي هو سلمي، وكانت الغاية منه أن نذهب من القدس الشرقية إلى القدس الغربية ومنها إلى كل مدن وقرى فلسطين مئات الآلاف، ونقوم بتنفيذ حق العودة إلى بيوتنا الذي أقرته هيئة الأمم والشرائع الدولية. عندما بدأت الفكرة تتجسد بالتفاف الناس من حولي هددني راديو إسرائيل بلسان مذيعهم الشهير آنذاك "أبو نبيل"، وهو الذي كان لا يكف عن دعوة العرب إلى الصلح والسلام، فبان كذبه وخداعه، وراح يكشف عن وجهه الدميم، وينفث سم الكلام في حقي وحق مشروعي، وأن الجيش الإسرائيلي لن يتوانى عن فتح النار على الزاحفين وقتلهم. ومرة أخرى بسبب كون لا تجمع سياسي يجمعنا ولا حزب جماهيري ولا نظام يشجعنا، لم تأخذ فكرة الزحف المقدس مداها، ولم تذهب إلى حيز التحقيق، ولكن ما حصل كان شيئًا هامًا من عمر القضية وتاريخ فلسطين، فقد اجتمع الفلسطينيون من حول فكرة الصمود الداخلي لأجل تحقيق الصمود الخارجي المتمثل بالزحف السلمي، ودونهما لم يكن ليتم إنشاء منظمة التحرير من طرف الأنظمة العربية لاحتواء الفكرتين وأماني التحرير الناتجة عنهما وحولهما وليس لأجل التحرير والعودة.

* * *

كان لي من الأعداء أكثر عددًا من الأصدقاء، ومنهم الحاكم العراقي لنابلس الذي كان يرمي إلى القضاء عليّ، ولما كان الرجل قد وعد رئيس اللجنة التي سبق لي الحديث عنها ورئيس البلدية كتم أنفاسي والضغط عليّ والحد من نشاطي وتركي أمور اللاجئين إلى اللجنة دون معارضة قال لي: أنصحك أن تبتعد عن هؤلاء الناس وتتركهم يتصرفون كما يشتهون لا لأني مؤمن بما قالوه عنك ولكن خوفًا عليك منهم، فهم أقوى منك مالاً وجاهًا وأعز نفرًا! فكان جوابي للحاكم: ما قلته صحيح، ولكن باطلهم سيندحر أمام حق الفقراء الذي يغتصبونه، ويتمتعون به هم وأشياؤهم من السائرين في ركابهم من محتاجين وغير محتاجين من سكان المدينة الأصليين. وبعد جلسة طال وقتها خرجت من مكتب الحاكم وأنا أشد مضاء وأكثر قوة، وقد توجهت إلى القدس حيث قصصت ما جري بيني وبين الحاكم العراقي بناء على طلب سليمان طوقان –تعبيرًا عن عدم اهتمامه- على الأستاذ صادق الشنطي، وبعد تفكير ومشاورات جرت بينه وبين أصحاب الصحف الأخرى طلب مني أن أجلس وراء مكتبه وأكتب ما أشاء في هذا الموضوع. أخذت قلمي، وبدأت بسرد كل ما عرفته عن اللجنة وأعضائها مضيفًا شكوى القوم أعضاء اللجنة التي قدمت إلى الحاكم العراقي. كتبت الشيء الكثير، وبعد أن تلوت ما كتبت على الإخوة الصحفيين الذين اجتمعوا في دار الدفاع استلم كل منهم نسخة لجريدته، وفي اليوم التالي خرجت الصحف وعلى صدرها عناوين بالخط الأحمر الكبير: حاكم نابلس يستدعي ممثل اللاجئين بناء على شكوى مقدمة ضده من أعضاء لجنة شؤون اللاجئين، وسبب الشكوى معارضة أمين القاسم تصرفات اللجنة غير الصحيحة في الأموال والمواد الغذائية التي تصل نابلس من الأقطار العربية للتخفيف من احتياجات اللاجئين المُرة التي يلاقونها في محنتهم.

وما أن اطلع رئيس وأعضاء اللجنة على ما جاء في الصحف حتى أرسل رئيسهم رسولاً إليّ يدعوني إلى مقابلته في دار البلدية، ولما أُخبروا بأني قضيت ليلتي في القدس، ولم أكن في منزلي، زادت كراهتي عندهم جميعًا باستثناء قدري طوقان الذي طلب من زملائه أعضاء اللجنة أن يتركوا له الاتصال بي ومعالجة الأمر بهدوء وليونة والاكتفاء بهذا القدر من الفضائح. قبل رفاق الأستاذ قدري باقتراحه بشرط أن يسرع في إنهاء الخلاف الذي أخذ يتطور ويحط من مكانة نابلس ورجالات نابلس. بعد يومين، زارني الأستاذ قدري في بيتي بعد انتهاء الدراسة المسائية في كلية النجاح الوطنية التي كان يشرف على إدارتها والتي كانت لا تبعد عن مكان سكناي عدة أمتار، أي كانت دار النجاح وداري متلاصقتين لولا الشارع العام الذي كان يفصل بينهما. رحبت بالرجل الذي كنت أكن له ولأسرته الاحترام والتقدير، وأدخلته غرفة الضيافة، فبادرني قائلاً: "الذي لا يعرفك يجهلك، وأعضاء لجنة شؤون النازحين وفي المقدمة رئيسها سليمان طوقان يأسفون كل الأسف على ما ارتكبوه من أمور ضدك، وجميعنا نجهل ما تتحلى به من وطنية"، وأردف قائلاً: "أعدك بأن لا يتكرر ما اعترضت عليه، وسيصل كل لاجئ إلى حقه، وسوف لا تكون هناك فوضى في توزيع المواد الغذائية أو الأغطية التي تصل من الأقطار العربية والأجنبية باسم اللاجئين، ولتتأكد من حسن النوايا أقترح أن يشكل اللاجئون لجنة مراقبة يكون لها الحق في الإطلاع على كل صغيرة وكبيرة ترد إلى مخازن لجنة شؤون النازحين". رفضت هذا العرض، واقترحت أن يكون بين أعضاء اللجنة بعض اللاجئين، فاستجيب لطلبي. عين اللاجئون بعد أن عقدوا اجتماعًا مصغرًا في قاعة المدرسة الفاطمية الجديدة التي كنت أرأس إدارتها، واختاروا الإخوة حسن حليلة وتوفيق شهاب الدين وجميل القدومي، وفي هذا الحل الذي رضيت به وقفت في طريق المتلاعبين، وصنت حقوق لاجئي منطقة نابلس، وبعد أن اطمأننت وسارت الأمور كما أردت التفت إلى شكوى أخرى لا تقل أهمية عن مشكل السرقات التي كانت تحدث في مخصصات النازحين في السابق، أي قبل الاتفاق الذي جرى بيني وبين الأستاذ قدري طوقان.

* * *

الشكوى الثانية كانت بسبب رداءة الدقيق الذي كانت تستورده وكالة غوث اللاجئين من المطاحن المحلية، وقبل أن أقوم باعتراض علني على رداءة الدقيق المحلي قابلت الحاج نايف المصري أحد أصحاب شركات المطاحن في نابلس، أخذ الرجل يدافع عن إنتاج المطاحن وجودة طحين شركته، ولما لم أجد فائدة من الوصول إلى حل مع أصحاب المطاحن أخذت خبزًا ودقيقًا، وذهبت إلى عمان، وهناك قابلت وزير الاقتصاد، وسلمته الدقيق والخبز، وبعد الفحص في مختبرات الوزارة تبين أن الدقيق مغشوش ونسبة القمح من الحبوب التي يستخرج منها أقل من القليل حتى تكاد تكون معدومة، والدقيق يستخرج من الذرة الحمراء والبيضاء والزوان والشعير ومن جميع الحبوب التي تعافها الحيوانات. ومن عمان ذهبت إلى القدس حيث اتصلت بأصدقائي من أصحاب الصحف، وأوضحت لهم كل ما فهمته من مختبرات وزارة الاقتصاد، فكان جواب الإخوة أصحاب الصحف أنهم على استعداد لمؤازرتي والوقوف إلى جانبي. عندئذ جلست في جريدة الدفاع، وكتبت مقالي الأول الذي كان بداية هجوم على الدقيق المحلي المغشوش، وما أن قرأه أصحاب المطاحن حتى أخذوا يبحثون عن حلول توقف حملة تصيب منهم مقتلاً إذا استمرت، وقد علموا أن الصحف وأصحابها في خدمة قضايا اللاجئين لا سيما وأن جميع محرريها لاجئون: اهتدوا إلى حلين الأول الرشوة، وقد جاءني مندوب عن أصحاب المطاحن من عمان، والتقى بي في إحدى مقاهي نابلس، وبعد المجاملات طلب أن يختلي بي قائلاً جئت من عمان لأحدثك في أمر هام جدًا، فأجبته لا يوجد بيني وبينك أشياء سرية بإمكانك أن تقول ما تريد قوله وبحرية وأنا أستمع إليك، ثم أضفت لا يوجد أحد يسمعنا غير الجالس أمامي، وهو صديق قديم، واسمه أحمد علي عكاشة، وهذا الرجل مطلع على أسراري، ولا أخفي عنه شيئًا. اطمأن الرجل، وأخذ يحدثني عن المهمة التي جاء من عمان لمقابلتي مندوبًا عن أصحاب المطاحن، ابتسمت للرجل ابتسامة الرضى، عندئذ قال جئت أحمل إليك قرار أصحاب المطاحن الموجودة في عمان ونابلس وبيدي شيك مفتوح املأه بأية قيمة مالية تطلبها مقابل سكوتك عن مهاجمة الدقيق الذي تنتجه تلك المطاحن ويوزع على اللاجئين، وزيادة على الشيك أصحاب المطاحن على استعداد لإرسال إلى البيت ما تريده من الدقيق الممتاز الذي تطرحه للبيع في الأسواق. بعد أن انتهى الرجل من سرد قصته التي رسمها له الجشع والجشعون من الاستغلاليين أجبته ببرود وسذاجة: لماذا الإخوان يحملون أنفسهم خسارة هم في غنى عنها؟ وأتبعت عبارتي هذه، وقلت: أنا لا أعارض توزيع الدقيق المحلي على اللاجئين، إنما أعارض غش الدقيق، ثم قلت سلم على إخوتنا وقل لهم "حسنوا إنتاج الدقيق، وأنا أعدهم أن أكون معهم إذا أرادت وكالة الغوث استبداله بدقيق أجنبي، وكن أنت شاهدًا على ما أقول". وفي الحال اعتذرت له عن عدم تلبيتي لمهمته وافترقنا.

وما أن سرت إلا خطوات قليلة حتى أسرع إليّ الجالس معنا أحمد علي عكاشة، وأخذ يقبلني تارة من وجهي وتارة أخرى من رأسي ويدي، وكاد ينزل إلى قدمي، وعيناه تذرفان دمعًا ساخنًا، وهو يردد "الإسلام بخير وعهد الخلفاء الراشدين لم يمت وأنت يا قائدنا منهم وسننتصر بإذن الله". ومع ذلك، فقد أخطأ أحمد على عكاشة عندما نقل ما دار بيني وبين مندوب المطاحن إلى إخوته المتواجدين في المدينة والمخيمات المجاورة، أخذت الوفود تصل إلى البيت شاكرة موقفي من المطاحن وأصحابها، وكثر المؤيدون، حتى الذين كانوا يقفون موقف المتفرج أتوا إلى منزلي، وشجعوني على المضي في معالجة قضايا اللاجئين سواء أكانت مع الحكومة أو مع وكالة الغوث، وخلال الزيارات اقترح أحد زواري أن أكون حريصًا على حياتي، فانبرى اثنان من الزوار، وتعهدا بحراستي أثناء وجودي خارج المنزل، وفعلاً كان يرافقني خارج المنزل الأخَوَان أبو صدقي القدومي وأحمد عكاشة. انتظرت التوزيعة التي كانت تقوم بها وكالة الغوث مرة في الشهر، فوجدت ما وزع من الدقيق مغشوشًا كسابقه، فقلت في نفسي عليّ أن لا أكتب شيئًا في الصحف على أمل أن أمهل لعل لأصحاب المطاحن عذرهم، وفي الشهر الذي تلاه وزع الطحين الأسود كما هي العادة، عندئذ قلت القوم ما زالوا على ضلالهم. أرسلت برقية إلى وزير الإنشاء والتعمير الوزير المشرف على اللاجئين وقضاياهم أندد بالمطاحن ودقيقها، ولكن الوزير لم يقم بأي إجراء، وكذلك مدير الوكالة العام في الأردن لم يستطع أن يفعل شيئا، فوجدت نفسي مضطرًا إلى رفع عرائض إلى المدير العام المقيم في بيروت، وفعلاً كتبت عريضة قلت فيها كل شيء عن الدقيق، وملأتها بتواقيع العشرات من لاجئي المخيمات والقرى بالإضافة إلى لاجئي سكان المدينة، وعن العريضة أرسلت نسخًا إلى المسؤولين في الدولة والوكالة ونسخًا أخرى إلى جميع الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية التي كانت تصدر في القدس وعمان، وكانت ضجة قوية جدًا أذهلت المطاحن وأصحابها مما جعل الوكالة في الأردن ترجع إلى الجهات العليا في بيروت تطالبها بالسعي مع من هم أكثر مسؤولية في جهاز الوكالة. وفي تلك الأثناء، قمت بزيارة لبيروت من أجل معالجة أحد أولادي في مستشفى الجامعة الأمريكية، وبعد أن أدخلت ولدي المستشفى لإجراء عملية جراحية في الرأس واطمئناني على نجاح العملية وجدت أن الفرصة سانحة لمقابلة مدير عام وكالة غوث وتشغيل اللاجئين العرب المقيمين في البلاد العربية، وفعلاً قابلته، وشرحت له كل شيء عن الدقيق وعن البرقيات والعرائض التي كنت قد وجهتها إلى مدير الوكالة في الأردن وعدم قيامه بأي إجراء، فوعدني باتخاذ إجراءات يرضى بها اللاجئون حيث يقيمون، وفعلاً لم تمض إلا أشهر قليلة حتى بدأ الدقيق يأتي من أستراليا ومن النوع الجيد وكذلك المواد الأخرى صارت توزع جيدة كالزيت والزبدة والعدس والأرز وغيرها حتى الأغطية والألبسة القديمة كانت أنظف وأحسن مما كان يصل إلى مراكز التوزيع من قبل.

الضربة كانت قوية للعائلات المتحكمة، كانت هذه العائلات تدعي الوطنية (باستثناء بعضها بطبيعة الحال أو أبناء بعضها ويحضرني هنا اسم الزعيم الوطني فائق العنبتاوي رحمه الله الذي منعه السرطان عن مواصلة رحلة الفداء والنضال)، وفي الوقت نفسه تستغل النازحين الذين غالبًا ما كانت تتكلم باسمهم، وكان الكلام باسم المأساة الفلسطينية يتوقف على مدى ما تجنيه من ربح مادي يعود عليها، مع النظام الأردني كانت أكثر أردنية، ومع حزب البعث كانت أكثر بعثية، ومع التيار الناصري كانت أكثر ناصرية، ودائمًا من خلال مصالحها ومنافعها، أما نحن فلم نكن مع أحد، لم نكن مع الإخوان المسلمين، وكنا مسلمين، ولم نكن مع الناصريين أو البعثيين وكنا عروبيين، ولم نكن مع الشيوعيين وكنا مع الكادحين والمظلومين، ولو تشكل عنا تيار سياسي في الخمسينات لكنا المشروع الديمقراطي البديل اليوم لكل التجارب السياسية التي فشلت في الخمسينات وما بعدها وخاصة لحلنا دون الاستقطاب الثنائي المشؤوم بين ما كان يدعى بالتقدميين وما كان يدعى بالرجعيين، وكانت بسبب ذلك القلاقل في الخمسينيات والتي قمعها النظام الأردني مقابل الأحلام القومية في عهد عبد الناصر والتي انهارت وأثبتت فشلها مع هزيمة 67. بعد الضربة التي وجهتُها للعائلات التقليدية وشبه التقليدية حقد عليّ أصحاب المطاحن وشيعتهم، فأخذوا يتآمرون عليّ، وقرروا اغتيالي، وكان هذا الحل الثاني للتخلص مني بعد الحل الأول ألا وهو الرشوة. استأجروا نذلاً، دفعوا له، وزودوه بمسدس، وعينوا اليوم والساعة للقضاء عليّ، ولكن قدرة الله أقوى من قدرتهم حيث عرف مكيدتهم شاب اسمه نعيم السكسك، ذهب إلى النذل المأجور وأفهمه أنني زوج أخته وكل مكروه يصيبني تبعاته تقع عليه وعلى من سلمه المسدس ودفع أجره، وادعى أنه يعرف المؤامرة الدنيئة والمتآمرين، عندئذ بُهت المتآمر ووعد بإفشال مؤامرة المتآمرين، وفعلاً أعاد لهم النقود والمسدس، واعتذر عن التنفيذ، وهدد بكشف مؤامرتهم إذا هم نفذوها عن طريق مأجور آخر. هذا وأخبر نعيم شقيقه عبد الرحمن بالمؤامرة، وهو من أخبرني بدوره بعد ذلك، وإلى هنا انتهت المؤامرة خوفًا من الفضيحة. مضت الأيام وراحت الشهور لتجمعني الصدف بأحد أصحاب المطاحن الحاج معزوز المصري، وخلال الحديث قال: سأقول لك أمرًا تجهله، أصغيت، وإذا به يقول: الجميع يعتبرون أنك أخلصت للاجئين وخدمتهم بشرف ولم تدنس نفسك ولم يغرك المال الذي قدم إليك.

* * *

أثناء قيادتي للاجئي منطقة نابلس ودفاعي المستمر عن حقوقهم التي كانت وكالة الغوث الدولية تحاول هضمها أو التغاضي عن تنفيذها تعرضت لمشاكل كثيرة أذكر منها على سبيل المثال قصة مؤلمة رغم طرافتها: في عهد وزير الإنشاء والتعمير السيد عبد القادر الصالح أرادت وكالة الغوث أن تنقص من عدد اللاجئين بحجج مختلفة تارة بحجة غيابهم عن أمكنة تواجدهم وتارة بحجة أن فردًا من الأسرة يعمل في أحد الأقطار العربية المجاورة أو أن للأسرة دخلاً تستطيع العيش من غير التموين الذي توزعه الوكالة في كل شهر على أسر اللاجئين. ومن أجل الحفاظ على حقوق اللاجئين وقفت وقفة صلبة في وجه الوكالة وما أرادت تنفيذه بمساعدة الوزير عبد القادر الصالح الذي أعرفه ويعرفني وتربطني به شبه صداقة، والذي كان يسعى إلى إرضاء الوكالة على حساب اللاجئين المحتاجين بصفته الوزير المشرف على قضايا الفلسطينيين الذين أُرغموا عام 1948 على ترك ديارهم تحت الضغط الصهيوني المسنود بالاستعمار البريطاني المتحيز والمناصر للصهاينة منذ اللحظة الأولى التي أسندت عصبة الأمم للبريطانيين إدارة فلسطين، قلت تعرضت لمشاكل، ولكني هذه المرة تعرضت لنوع آخر ومستغرب حيث وشاني الوزير إلى دائرة الاستخبارات، فهمت ذلك من الأخ وكيل وزارة الإنشاء والتعمير الدكتور سيف الدين الكيلاني الذي كان يقدر مواقفي ويحترم إرادتي ويشد أزري وينقل إليّ ما تريد الوكالة عمله إذا كان في غير صالح اللاجئين، والوشاية كانت رسالة سرية بعث بها الوزير يطلب فيها من مدير دائرة الاستخبارات العامة السيد محمد رسول الكيلاني الحد من نشاطي ولو كان ذلك باعتقالي أو إبعادي إلى بلد لا أستطيع فيه أن أقوم بأي نشاط من أجل اللاجئين وقضاياهم، وقد عرف الدكتور الكيلاني بالرسالة من المسودة التي نسيها الوزير فوق مكتبه، وأخبرني بها عندما كنت في عمان. بعد ساعات من وصولي إلى نابلس خطر لي أن أكتب رسالة للوزير أقول فيها إن إنسانًا وشاني لمديرية الاستخبارات وأطالبه بصفته صديقًا أن يعمل على نفي الوشاية، فكتبت إليه أقول:

معالي الأستاذ وزير الإنشاء والتعمير،
بعد التحية،
وصلني أن شخصًا تافهًا وحقيرًا قد وشاني إلى دائرة الاستخبارات العامة، وهو يقصد من وراء ذلك تشويه سمعتي والحد من نشاطي الذي هو في المصلحة العامة، مصلحة فلسطين وأبناء فلسطين المشردين. أملي أن تقف في وجه هذا الإنسان الحاقد والمنتسب إلى أسرة منبتها وضيع ومتدنٍ، يقول كذبًا، وهو في نظري ونظر الناس جميعًا مفتر ودجال وآثم.
وأخيرًا أرجو أن تقبل تحياتي وتقديري.
المحب أمين القاسم

ومن الدكتور سيف الدين الكيلاني أنه دخل مكتب الوزير، فوجده يقرأ الرسالة والشرر يكاد يتطاير من عينيه، فسأل الدكتور الكيلاني الوزير: أراك مضطربًا؟ ما بك؟ فأجاب: خذ واقرأ ماذا يقول صاحبك! وبعد أن قرأ الدكتور الكيلاني الرسالة ابتسم وقال للوزير: لا يوجد في الرسالة ما يزعجك، وكل ما فيها أنه يطلب منك أن تنفي وشاية شخص مجهول بعث بها إلى دائرة الاستخبارات ليحد من نشاطه أو يؤذيه، وأنا بدوري أطلب منك الوقوف إلى جانبه، ودفع الأذى عنه، وإذا لم تساعده أنت فسأساعده أنا. وفي الحال، تناول الوزير سماعة الهاتف، وطلب من مدير الاستخبارات السيد محمد رسول الكيلاني تمزيق الرسالة التي أرسلها وعدم الاهتمام بها. عند حضوره إلى نابلس، اتصل بي، وأخبرني أنه استجاب لرغبتي، وأنهى أمر الوشاية، وطلب مني أن أطمئن غير أنه طلب أيضًا أن أخفف من نشاطي ولو لبعض الوقت، فلم أسمع له لأنني على حق وهو على باطل.

* * *

بعد أن وصل جمال عبد الناصر إلى رئاسة جمهورية مصر العربية أخذت الجماهير الفلسطينية تنادي بحياته على أمل أن يكون الرجل الذي يحطم دولة الصهاينة ويعيد الجزء المحتل من فلسطين إلى دنيا العرب ويعود عرب الأرض المحتلة إلى بيوتهم وأملاكهم التي نزحوا عنها بسبب قيام دولة الصهاينة بموجب قرار التقسيم الصادر عن هيئة الأمم المتحدة عام 1947، ولتعلق عرب فلسطين بجمال عبد الناصر أخذ البعض منهم يضع صوره في أعز مكان في البيت، ولما كنت من بين الذين أحبوا عبد الناصر وضعت صورته في مكان بارز من صالون منزلي المطل على بناء كلية النجاح، ومن النجاح كانت المظاهرات تنطلق. وصدفة نظم طلاب النجاح مع طلاب الثانويات والمدارس الأخرى مظاهرة تأييد لعبد الناصر على أثر خلاف وقع بين الحكومتين المصرية والأردنية، مما جعل الجيش الأردني يتدخل. وبينما كانت إحدى الدوريات تتجول في الشارع القريب من منزلي رأى أحد أفراد الدورية صورة عبد الناصر معلقة في صدر غرفة الاستقبال، فحضر لانتزاعها مع رفيق له، وقرع الباب. خرجت لاستطلاع الأمر، فوجدت الجنديين اللذين طلبا مني نزع الصورة عن الجدار ومرافقتهما إلى دائرة الشرطة، وقد لبيت الطلب. أنزلت الصورة عن الحائط، واعتذرت عن مرافقتهما بسبب الوقت حيث كان الناس ما زالوا نيامًا، ومركز الشرطة ما زال خاليًا. قبلا اعتذاري على أن يعودا ظهرًا، وطلبا مني الاحتفاظ بالصورة لحين عودتهما. أخذت الصورة، وأغلقت الباب. وظهرًا عادا إليّ، وطلبا الصورة والذهاب معهما إلى المركز كما وعدتهما، فكان جوابي أنني مزقت الصورة ولا حاجة بي للذهاب إلى البوليس، وأتبعت قولي هذا بدعوتهما إلى الدخول، فلبيا الدعوة، ودخلا. قدمت لهما شيئًا باردًا حيث كان الفصل صيفًا، وخلال وجودهما داخل المنزل طلبا مني ألا أقول إنهما وجدا عندي صورة جمال عبد الناصر لأن لديهما تعليمات تقضي بنزع صور جمال عبد الناصر، وإلقاء القبض على صاحب المنزل الذي يعلق في بيته صورًا لزعيم مصر. بعد هذه الحادثة بيوم واحد دعاني محافظ المنطقة، وطلب مني تشكيل وفد من اللاجئين الذين كنت أتكلم باسمهم، وأتوجه إلى عمان لتأييد الملك الحسين. وفعلاً شكلت وفدًا كبيرًا، وقابلنا الملك، وأيدناه، ولكن ما فعلته كان أعظم، وكان أعمق سياسيًا، وعروبيًا، ووطنيًا، فقد جعلت شخصًا بسيطًا يلقي كلمة التأييد التي كتبتها بيدي، وكانت خالية من الشتائم حيث كانت لغة الشتائم هي السائدة بين القاهرة وعمان، وكانت مليئة بعبارات الحض على التآخي بين الرئيس جمال عبد الناصر والملك الحسين، ونابضة بكلمات الالتحام والالتئام بين الأردن ومصر. ولم تمض إلا أسابيع قليلة حتى أرسل الملك الحسين رسالة أخاء إلى الرئيس عبد الناصر، فكان جواب عبد الناصر كما أذكر جيدًا فيه هذه العبارة "ما شككت يومًا في وطنية جلالتكم، وأنا وأنت نسير على درب واحد وأيدينا متشابكة وخطانا ثابتة والشعوب العربية من ورائنا تهتف: لا تنسوا فلسطين"...

* * *

عاد المعلمون من الجزائر في العطلة الصيفية، ونظرًا لسوء حالة الدولة الجزائرية المالية بسبب حرب التحرير والاستيلاء على أموال البلاد من قبل المستعمرين الفرنسيين لم تستطع وزارة التربية والتعليم صرف رواتب آلاف المعلمين الذين تعاقدوا مع الحكومة الجزائرية على أمل أن تصرف الرواتب عند الدخول المدرسي من تلك السنة الدراسية، ولما كان بعضهم لا يرغب في العودة إلى العمل طالبوا برواتبهم، فلم يجدوا من يستجيب لهم. عندما يئسوا من الوصول إلى حقوقهم جاء وفد منهم إلى المنزل ليعرضوا عليّ مشاكلهم مع الجزائر، وخلال وجودهم في بيتي اتصلت برئيس التشريفات الملكية السيد إكليل الساطي، وطلبت منه تحديد وقت للتشرف بمقابلة جلالة الملك، وقد حددت عدد الأشخاص الذين سيرافقونني ب 15 شخصًا، فوعدني بعرض الأمر على الملك الحسين. هذا ولم تمض إلا مدة قليلة حتى اتصل بي السيد إكليل، وأبلغني موافقة الملك على المقابلة، وأردف قائلاً الملك يريد أن يرى شعبيتك، وإذا أمكنك أن يكون عدد مرافقيك أكثر فلا مانع. لما سمعت ذلك دعوت المعلمين وغير المعلمين إلى مرافقتي لمقابلة الملك، كان عدد الذين رافقوني أكثر من مائة رجل وامرأة، وعندما وصلوا القصر ضاقت بهم حجراته رغم اتساعها. رأى السيد إكليل العدد الهائل ممن أرادوا التشرف بمقابلة الملك الحسين، وتقدم مني، وهو يبتسم، وقال "خدعتنا! من أين أتيت بهذا العدد الهائل؟" فأجبته، من شعبيتي. وهنا طلب مني أن أستقبل الملك وهو في طريقه إلى القاعة التي يمكث فيها الوفد الذي رافقني، وكانت تلك لفتة هامة لا يحظى بها إلا من هم سائرون إلى كرسي رئاسة الوزراء، خاصة وأن وقوف الحسين على شعبيتي وحسب مطلبه بالذات قد كان كاملاً. ولما دخل الملك وجدني على باب القاعة في استقباله، وقد كان بمعيته رئيس الوزراء المرحوم وصفي التل ومرافق جلالته العسكري وكذلك مرافق رئيس الوزراء العسكري، وقد أخذت الصور لي والملك ومرافقوه. بعد إلقائي كلمة الوفد بين يدي الملك أخذ المصورون يلتقطون الصور لكل معلم أو معلمة مع جلالة الملك حيث طلب مني أن أقف إلى جانبه لأعرفه على كل من يمر بيننا سواء أكان ذكرًا أو أنثى. وبعد ذلك، دعاني الملك إلى مكتبه كي أشرح له قضية المعلمين وطلباتهم، فشرحت له القضية وفصلت الطلبات لكني أردت الارتقاء بالأمر وأرد على الملك دون أن يسأل ما يرد عليه رئيس حكومة هو جدير بها، فقلت بدعم الجزائر في أزمتها المالية والاقتصادية عن طريق توسط جلالته لدى أشقائه السعوديين وأمراء الخليج. ابتسم جلالة الملك، ووعدني القيام باللازم، وابتسمت بدوري لأني كنت وفيًا لعروبيتي ومواقفي. عاد الملك إلى القاعة التي يحتلها أعضاء الوفد، وأنا برفقة رئيس الوزراء ورئيس التشريفات والمرافقون العسكريون، وخاطب الحاضرين بما يطمئنهم على حقوقهم ثم أوصاهم بأن يخلصوا في عملهم وأن لا يتدخلوا في الشؤون الداخلية للبلاد وأن يكون كل واحد منهم سفيرًا للأردن حتى يعطي الوجه الأبيض للأردن والأردنيين. بعد ذلك، خرجنا جميعًا من القاعة، ووقفنا على باب القصر للصورة التذكارية.

* * *

قبل أن أعود إلى قضايا النازحين خصوصًا والفلسطينيين عمومًا بودي أن يعلم القارئ أنني تركت الأردن وكل شيء في الأردن السياسة أول شيء في العام التالي الذي تم فيه هذا اللقاء الكبير مع الملك الحسين، العام 1966، لأسباب عدة أهمها ما طرأ على الساحة السياسية من تغيير كبير بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية تغيير جرف كل شيء وجرفني معه كمشروع سياسي متمثل بالزحف المقدس وكمشروع إنساني واجتماعي وقد غدت المخيمات أو أنها ستغدو بؤرًا للعمل الفدائي التي لولا صمودها على يديّ وأيدي كل الشرفاء من أبناء فلسطين في محنتها لما كان لها ما كان، وحاول النظام أن يستغل مشروعي السلمي في تلك الظروف لصالحه مثلما استغل كل تحركاتي الوطنية الداخلية والعروبية، لكن الأحداث كانت أقوى منه، وشخصيًا لم أشأ أن ألعب إلا الدور الذي يمثل قناعاتي السياسية والوطنية، رغم أني كنت على مرمى حجر من التربع على المنصب الثاني في البلاد. أضف إلى ذلك من الناحية التعليمية والعلمية، دخلت نابلس في العصر الجامعي، فتحولت بعض مدارس الروضة إلى جامعات بينما مدرستي الخاصة بقيت على حالها لعلاقتي السيئة مع أصحاب البنوك من العائلات وقد ذكرت الأسباب في صفحاتي السابقة، كل هذا دفعني إلى مغادرة نابلس للعمل قرب أبنائي الذين سبقوني في الجزائر، هذا ما أردت أن يعلمه القارئ. والآن أعود إلى تأريخ مرحلتي وأقول إن وكالة الغوث اتخذت قرارًا بإعطاء نفسها حق قطع المواد الغذائية عن الأسر التي يعمل أحد أفرادها سواء في جهاز إدارة الوكالة أو في أي دائرة من دوائر الدولة بحجة أن للأسر دخلاً يمكنها أن تعيش منه دون مساعدة الوكالة، وأعطت مدراء المناطق حق البحث والتحري عن الأفراد الذين يعملون حتى ولو كانوا خارج الأردن، في السعودية، في الكويت مثلاً. هذا الإجراء أثار بلبلة بين اللاجئين حيث أوقف مدراء المناطق الشيء الكثير من بطاقات التموين، عندئذ دعوت بعض الإخوة من نازحي المدينة والمخيمات القريبة، وعرضت عليهم الأحداث المستجدة، وبعد نقاش لم يدم طويلاً اقترح المجتمعون أن أذهب إلى عمان، وأعرض الأمر على رئيس الوزراء في ذلك الوقت السيد هزاع المجالي، ونزولاً على رغبة الإخوة المجتمعين سافرت إلى عمان في الوقت الذي حدده الرئيس هزاع. وحين وصولي إلى مكتب رئيس الوزراء وجدت جمعًا من شيوخ القبائل من حاملي السيوف ينتظرون خروج زائر أجنبي كان في مكتب هزاع المجالي، ولما خرج لتوديعه هذا الأخير ورآني أخذني من يدي وأدخلني إلى مكتبه من أمامه ولدهشة شيوخ القبائل وهم يرون استقبال الرئيس هزاع لي ذاك الاستقبال الحار تركوا الزائر الأجنبي وأحاطوا بي وكأني نبي سقط بينهم. خلال مكوثي أمام الأخ هزاع طلب من رئيس ديوانه دعوة رجال الصحافة والمصورين، وفي اليوم التالي نشرت الصحف صورنا والحديث الذي دار بيني وبينه، وكانت الإذاعة قد أذاعت بالتفصيل فحوى المقابلة والطلبات التي قدمتها باسم لاجئي منطقة نابلس إلى رئيس الوزراء. كانت نتيجة مقابلتي للسيد رئيس الوزراء أن طلبت الحكومة من مدير وكالة الغوث عدم ملاحقة الغائبين لسبب أن أعدادًا كثيرة منهم لم تجد العمل الذي سعوا إليه في مختلف البلاد العربية. كان هزاع ذكيًا، لأنه عرف كيف يحوّل كل شيء لصالحه، وأنا كنت أذكى، لأني عرفت كيف أحوّل كل شيء لصالح الفلسطينيين.

* * *

ولأني عرفت وفهمت كيف أعمل من أجل أبناء بلدي وقضيتهم لم أُدعَ أنا وأمثالي للمشاركة في تأسيس منظمة التحرير سنة 64، رغم صداقتي الشخصية والعائلية مع المحامي عبد الرحمن السكسك الرجل الثاني بعد الشقيري، فالشقيري قد جاء من السعودية وكل ما يعني هذا ليقيم بناءً أشبه بالجامعة العربية التي أقامها المستعمر لغايات ليست خافية اليوم على أحد، فعزلنا نحن "المشاغبين" كما كان يدعونا خصومنا، ونسق مع أبناء العائلات التي حاربتنا منذ اللحظة الأولى التي تركنا فيها ديارنا وأعمالنا ومدننا، لأننا لم نكن نهادن أبدًا الأنظمة العربية المؤسسة للمنظمة، ولأننا كنا نحن جنود التحرير بالفعل من أجل العودة لا الأدعياء أو المزورين، وسآتي هنا ببعض الأمثلة لكثير من النشاطات المصيرية التي قمنا بها نحن الوطنيين الساهرين على حقوق كل أبناء فلسطين، وأسوق هنا أول ما أسوق فكرة ترحيل العائلات الفلسطينية إلى أمريكا التي نبتت مقابل جلب مهاجرين جددٍ إلى إسرائيل. عارضت هذه الفكرة بشدة، وقد قابلت الملك حسين وكان يرافقني وفد من لاجئي المدينة والمخيمات، وعند وقوفي أمام الملك في مكتبه شرحت لجلالته المخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية إذا ما نجحت وكالة الغوث في تهجير اللاجئين سواء لأمريكا أو غير أمريكا، وخلال جلوسي والوفد مع الملك وإصغائه لما عرضته على مسامعه دعا رئيس الديوان، وقد كان في ذلك الوقت السيد بهجت التلهوني، وأمره أن يصحبني وحدي إلى مكتبه، ويستمع إلى ما أقول، ومن ثم يرسل مذكرة باسم الملك يطلب فيها من وكالة الغوث التوقف الفوري عن تهجير الفلسطينيين إلى أي بلد حتى ولو كان هذا البلد عربيًا، وكانت فكرة التهجير ترمي إلى جلب عائلات إسرائيلية إلى فلسطين كما قلت وتوقيف المواد الغذائية التي تصرف لأفراد العائلات القابلة بالهجرة إلى الخارج والإقامة الدائمة في أي بلد تقرره الوكالة. ومن ملف آخر أهم وأعم لبعده الدولي وليعرف القارئ أنني ما توقفت عن العمل على كل الجبهات وما توقف عملي على الناحية الاجتماعية فقط والداخلية فقط أقول: بلغني أن سكرتير الأمم المتحدة السيد همرشولد قرر زيارة مخيمات اللاجئين، وفي الحال دعوت عددًا من وجهاء ومخاتير وبسطاء اللاجئين إلى اجتماع في بيتي، وبعد بحث موضوع زيارة السيد همرشولد للضفة الغربية قرر المجتمعون إرسال وفد لمقابلته وفعلاً ذهبت مع وفد انتخب لهذه الغاية، وقابلنا سكرتير عام هيئة الأمم في مخيمات أريحا، وقدمنا له عريضة كنت قد أعددتها جاء فيها تمسكنا بالعودة إلى ديارنا وممتلكاتنا وإقامة دولة على جميع الأرض الفلسطينية، ورفضنا الاعتراف بالدولة الإسرائيلية، وطالبنا بوقف الهجرة اليهودية، وقد كان لطلباتنا الوقع الحسن في أوساط اللاجئين، ومنذ ذلك التاريخ أخذ اللاجئون في المناطق الأخرى يؤيدون الأعمال التي نقوم بها لاعتقادهم أنها مفيدة لجميع لاجئي المناطق سواء أكانوا يسكنون الضفة الغربية أو الشرقية. ورغم تأييدهم لطلبات اللاجئين المقيمين في منطقة نابلس كنت أذهب إليهم في أماكن إقامتهم وأستشيرهم في كثير من الأمور وأطلب إليهم مرافقتي إلى الجهات المختصة في عمان مثل مقابلة الملك أو مقابلة الوزراء أو النواب حتى مدير عام وكالة الغوث كنت أصطحب بعضهم كي تكون كلمتنا واحدة وتوجهنا واحدًا، وكل خطوة كنت أخطوها كانت الصحافة تسجلها وتناصرها لاعتقاد أصحاب الصحف بأنها مفيدة ونافعة للقضية الفلسطينية.

* * *

ملف آخر مليء بالمفارقات ولكنه جزء من مسرح اللامعقول الفلسطيني: كان لوجود اللاجئين الفلسطينيين داخل خيام ممزقة مصدر دعاية سيئة لأمريكا وحلفائها مما جعلهم يفكرون في استبدال الخيام بأبنية حجرية تعمر لعدة سنوات مقبلة الأمر الذي أثار معارضة شديدة في أوساط سكان المخيمات التي ذاقت رغم ذلك الأمرين من الوحل والخيام، وقد كنت أشاركهم تخوفهم من السكن داخل منازل ثابتة حيث كانت رغبة جميع اللاجئين أن تبقى الخيمة حتى يبقى العالم ينظر إلينا نظرة عطف، وعطف الأمم ممر بواسطته نصل إلى الطريق الموصل إلى ديارنا وأملاكنا. عقد اللاجئون اجتماعًا في قاعة المدرسة الفاطمية الجديدة التي أسستها في نابلس لأبناء النازحين، وقد تمخض الاجتماع الذي ضم ممثلين عن سكان المدينة والقرى المجاورة والمخيمات عن انتخاب هيئة تمثل الجميع وتنطق باسم الجميع، وقد انتخبت أمينًا للهيئة المنتخبة، ولم تمض إلا بضعة أيام حتى أخذت وصحبي نبرق ونراسل المسؤولين في وكالة الغوث مستنكرين ومفهمين إقامة مساكن ثابتة لسكان المخيمات بدلاً من بذل المساعي لإعادتهم إلى مدنهم وقراهم المحتلة من قبل الصهاينة، فكانت الأجوبة التي ترد إلينا تقول إن الإقامة في مساكن ثابتة لا تعني أن اللاجئين سوف يعيشون فيها الأعوام الطوال، ولما عجز اللاجئون عن إقناع الوكالة الدولية، وعزمت الوكالة على المضي في تنفيذ مخططاتها السكنية، قررت هيئة اللاجئين المنتخبة انتدابي لمقابلة الوزير المسؤول عن اللاجئين وقضاياهم، ونزولاً على رغبة الجميع ذهبت إلى عمان، وقابلت عاكف الفائز الذي كان الوزير المختص بكل ما له علاقة باللاجئين وقضاياهم. خلال حديثي مع السيد الفائز وإلحاحي على ضرورة عدم تنفيذ مشاريع الإسكان التي بدأتها وكالة الغوث، قال لي: هذا يعني أننا نرفض سبعة ملايين دولار وهي القيمة التي تقدمها الوكالة للدولة سنويًا، فأجبته دون تفكير: هذه الملايين من الدولارات تدفع سنويًا وعلى أقساط ثمنًا لضياع فلسطين، ثم خرجت ضاربًا الباب من ورائي، وإلى القدس توجهت، وقد نشرت الصحف المحلية المقابلة، ولكنها لم تتحدث عن الدولارات التي تقدمها الوكالة للدولة، وبعد النشر كان احتجاجي على ذلك، فكان جواب رجال الصحافة "منعنا من النشر" ومع ذلك نشرنا ما استطعنا نشره.

* * *

ملف آخر وآخر ولكنه أقرب إلى حكايات شهرزاد عندما يتعلق الأمر بالسلطان وأعوانه والسلطان هنا بريطانيا وكل بريطانيا مستعمرة والأعوان هم أبناء العائلات الفلسطينية النتنة حيث دعيت إلى اجتماع عقد في قاعة سينما غرناطة بنابلس لتزكية ترشيح بعض رجالات نابلس لمجلس النواب الأردني ممن كانوا موالين لبريطانيا أيام الانتداب، وأذكر أن من بين المتحدثين حكمت المصري الذي وجه كلامه إلى أمثالي من اللاجئين الحاضرين في الاجتماع حيث قال: "يهمنا أن يعود اللاجئون إلى بلادهم لأنهم شاركوا أبناء البلد لقمة الخبز، وأن برنامج كتلته إذا نجحت هو أن ندعو نواب البلاد إلى تبني هذه الأفكار، وسننجح إن شاء الله في إعادة ضيوفنا النازحين إلى أملاكهم". نجحت كتلة المصري ووليد الشكعة وكانت فاتحة أعمالهم حضور حفلة أقامها القنصل البريطاني بمناسبة عيد ميلاد الملك جورج ملك بريطانيا والتي استمرت حتى الصباح، شرب القوم ما شاء لهم من المشروبات المحرمة والمحللة وأكلوا من المأكولات التي جيء بها من لندن خصيصًا ليأكلها أعضاء في البرلمان الأردني. أتاني أحد غير المدعوين ونقل إليّ نبأ الحفلة الساهرة الحمراء، وكان ردي أن ذهبت إلى دائرة البريد وأخذت ورقة معدة للبرقيات وكتبت عليها الكلمات التالية: أقام القنصل البريطاني حفلة حمراء بمناسبة عيد ميلاد ملك بريطانيا حضرها حكمت المصري رئيس مجلس النواب وعضو المجلس وليد الشكعة. وصلت برقيتي إلى المجلس وكان دويها مزعجًا ومفرحًا، مزعجًا لمن كشفت سرهم، ومفرحًا للمتشدقين بالوطنية حيث لم يكن في المجلس النيابي الذي يرأسه حكمت المصري وطني واحد، ولو كان هناك رجال وطنيون لما رضوا أن يكون حكمت المصري المعروف بعمالته رئيسًا لمجلس نواب جاء في أعقاب نكبة فلسطين. مرت أربع سنوات على رئاسة حكمت للمجلس العتيد فلم يسمعنا هذا المجلس كلمة احتجاج واحدة على ما يحدث في فلسطين من سلب أراض وإقامة مستعمرات على أنقاض قرى كانت فخورة بسكانها الذين ورثوها عن آباء وأجداد ووُجدوا فوقها يوم استوى الله سبحانه على عرشه بعد أن فرغ من خلقها الذي دام ستة أيام. لكني أريد هنا ألا أتجاهل موقف وليد الشكعة الذي يشكر عليه والذي بقي على المستوى الفردي هذا صحيح وأعني غير المؤثر في الحدث الجلل الذي هو حدث المنكوبة فلسطين بعد أن أخذ برأيي، فقاطع التمثيل النيابي منذ ذلك الحين، وبقي يرفض كل عرض أردني يغريه بوزارة أو إمارة، وغالبًا ما كان يوقف سيارته عندما يراني في الطريق، ويأخذني بالأحضان، ويذهب معي في حديث طويل متشعب عن أحداث الساعة السياسية والاجتماعية، كانت المودة تزداد بيننا بسبب اتفاقنا على كل شيء تقريبًا، وهذا شيء نادر من ابن عائلة كبيرة لكنه إن دل على شيء، فهو يدل على وعي وليد وفهمه وذكائه، وصرت كلما وقع مشكل أعجز وحدي عن حله أذهب إليه في المصبنة التي كانت لهم قرب بيتي، فيقف دومًا إلى جانبي مؤازرًا تارة ومدافعًا تارة، ولم تقف علاقتي بوليد عند هذا الحد، فقد عهد إليّ بتربية وتعليم أولاده غسان وفائقة ونمر الذين كنت أعتبرهم كأولادي، وأولاد إخوته وأخته فلم تكن له سوى أخت واحدة، أذكر من بينهم رياض وعمر وسامر ولبيب وسامي ووضاح وريما الغالية على قلبي.

* * *

استطعت بأعمالي المفيدة لإخواني المنكوبين ونظافة يدي أن أنال ثقتهم، وكان بيتي يغص بأصحاب الحاجات سواء أكانت حاجاتهم مع وكالة الغوث أم دوائر الحكومة المحلية والمركزية في عمان، ومن المشاكل الهامة التي تعرض لها أبناء اللاجئين في المخيمات مشكلة التعليم الثانوي حيث لم يكن هناك مدارس ثانوية للوكالة، والحكومة امتنعت عن قبول أبناء اللاجئين في مدارسها الثانوية بحجة عدم وجود متسع، ولما عجزوا عن دخول المدارس الحكومية تجمعوا في ساحة من ساحات مخيم بلاطة، وساروا على أقدامهم في الشوارع المؤدية إلى منزلي حيث كنت أسكن بيتًا يملكه آل النابلسي في محلة الغرب، وكما ذكرت سابقًا قرب كلية النجاح الوطنية، وقد ضاقت بهم مداخل الدار والشوارع القريبة، وهم يهتفون بحياتي. ولما خرجت إليهم مستطلعًا طلبت منهم بعد أن هدأت هتافاتهم أن يأتيني من ينيبونه، وبعد أن وقفت على مشكلهم اتصلت بواسطة الهاتف بمدير عام التعليم في وكالة الغوث السيد عبد الله صلاح الذي اعترف بمشكل التعليم الثانوي، ووعد بحله خلال أيام. لم أكتف بوعد السيد عبد الله فاتصلت بمدير الوكالة العام المستر كلارك الذي كان يعرف اللغة العربية معرفة جيدة حيث كان موظفًا كبيرًا لعدة سنوات في السودان، والآخر وعدني بحل المشكل، وعليّ أن أنتظر مكالمة هاتفية منه غدًا قبل الساعة العاشرة صباحًا، وقبل أن ينقطع الاتصال التلفوني أخبرني بأن الحكومة طلبت مبلغًا من المال مقابل فتح أبواب مدارسها الثانوية لأبناء وبنات اللاجئين، وأنه قد وافق على دفع الأموال التي طلبتها وزارة التعليم الأردنية، ولكنه ينتظر موافقة مدير عام وكالة غوث وتشغيل اللاجئين المقيم في بيروت. وفعلاً اتصل بي السيد سلامة خليل نائب مدير التعليم العام، وأخبرني بانتهاء مشكل أولادنا الذين أنهوا الدراسة في المدارس الإعدادية. اتصلت بالسيد إكليل الساطي رئيس التشريفات الملكية، وطلبت منه أن ينقل إلى جلالة الملك حسين قصة أبناء اللاجئين ومدارس الثانوية الحكومية، وإذا تعذر عليه أن يقوم بهذه المهمة طلبت أن يحدد لي موعدًا لمقابلة جلالة الملك. وفي اليوم التالي، اتصل بي السيد إكليل، وأخبرني أن جلالته موافق على المقابلة. ذهبت إلى عمان، وشرحت لجلالته قضية المدارس الثانوية الحكومية وأبناء اللاجئين، وقبل خروجي من مكتب جلالته طلب من وزير البلاط الاتصال بوزير التربية وإنهاء مشكل تعليم أبناء اللاجئين في جميع المراحل التعليمية وليس الثانوية فقط طالما الوكالة مستعدة لدفع الأموال المطلوبة. كل هذه الجهود شاركت فيها الصحافة المحلية التي كانت تتابع خطواتي حيث أتوجه سواء في نابلس أو في عمان. وعند عودتي من عمان توقفت أولاً في مخيم عسكر وثانيًا في مخيم بلاطة وكلاهما يقعان على الطريق الواصل بين نابلس وعمان، وفي المخيمين التقيت ببعض الآباء، وحدثتهم بما حصل معي والحل الذي توصلت إليه، وكانت فرحتهم لا توصف. وقبل خروجي من المخيم الأول والثاني هتف الجميع بحياتي وأثنوا على الجهود التي بذلتها من أجل اللاجئين في أشخاص فلذات أكبادهم، ومن مخيم بلاطة توجهت إلى بيتي، ولم أكد أستقر في منزلي حتى أخذت وفود الطلاب تصل تباعًا، وهي تردد لي هتافات التقدير والمحبة، وقد بقيت وفود الطلاب تصل إلى المنزل من جميع المخيمات التابعة لمنطقة نابلس وتوابعها طولكرم-جنين. بعد أعوام قابلني أطباء ومهندسون ورجال علم وثقافة من أبناء المخيمات الذين دخلوا بواسطتي المدارس الثانوية، وذكّروني قائلين لو لم تكن أنت لما وصلنا إلى ما نحن عليه، وأعادوا على مسامعي ذكريات مضى عليها أكثر من خمسين سنة، فشكرت الله أن قدمت لفلسطين وأبناء فلسطين خدمات جليلة تبقى خالدة على مر الزمن بحيث يتوارث الأبناء عن الآباء حب فلسطين والعمل النافع من أجل فلسطين وشعب فلسطين كل واحد في الميدان الذي تخصص فيه.

* * *

أعود إلى الوراء، وأذكر جيدًا أن وكالة الغوث قد زودت النازحين بخيم كل عائلة بخيمة وقاية من برد الشتاء وحرارة الصيف بحجة الحماية من الأمراض التي سيتعرضون لها إذا استمر بقاؤهم في الكهوف وتحت الأشجار أو في المساجد والمدارس، وللتخفيف عن المعاناة التي كانوا جميعًا يتعرضون لها في تدبير معيشتهم اليومية بسبب قلة ما بأيديهم من أموال نقدية حتى بلغت بهم الحاجة إلى بيع ما يملكون من الحلي وغير الحلي من الأشياء التي كانوا يملكونها، وعندما وصل النازحون إلى نقطة يأس كبير فكرت برفع الأمر إلى السلطات الأردنية الحاكمة، والتي جاءت إلى حكم بقية فلسطين، وهو الجزء المخصص حسب التقسيم الأممي لإقامة الدولة الفلسطينية العربية إلى جانب الدولة الصهيونية. كان ملك البلاد في ذلك الوقت الملك الشاب الحسين بن طلال والذي كان في تلك الأيام صغيرًا وتحت الوصاية، فطلبت ورفيقاي أحمد دولة وأمين شحيبر مقابلة الملك، فجاءني الرد بأن الملك قد خصص لي ولصحبي وقتًا حددت ساعاته. ونحن في حضرته، بدأت أسرد المشكل قائلاً: إخوة لنا يعيشون في مخيمات رثة وفي كهوف رطبة وفي مساجد ومدارس المرأة إلى جانب الرجل والمرضعة مع الحامل إلى جانب خليط من الشباب والشابات وصغار البنين والبنات، وهذا لا يرضاه لهم ملك البلاد. وبعد أن انتهيت، دعا الملك رئيس ديوانه، وقد كان في ذلك الوقت بهجت التلهوني، وكان أحمد اللوزي كاتبًا له، وقمت وصحبي من مكتب الملك إلى مكتب رئيس الديوان. وما كاد يستقر بنا المقام حتى أخذ السيد التلهوني يسأل وأنا أجيب واللوزي يدون الأسئلة والأجوبة، وبعد أن طمأننا السيد التلهوني غادرنا القصر ونحن مطمأنين لنجاح مهمتنا، إذ رفع الأردن رسالة رسمية إلى هيئة الأمم شارحًا فيها الوضع الفلسطيني العام، وللدول العظمى مطالبًا بحل سريع لمشكل النازحين، وكان الجواب منها مضاعفة ميزانية وكالة الغوث، أما الحل السياسي فلم ير النور إلى اليوم.

* * *

كان يتردد على مكاتب وكالة الغوث بنابلس بعض النفعيين –لا مجال لذكر أسمائهم- كانوا يوهمون ذوي الحاجات من فقراء النازحين أن بإمكانهم التوسط لهم وقضاء حاجاتهم دون تأخير بشرط أن يدفعوا شيئًا من المال لأشخاص لهم صلة وثقى بهم، ومن غباوة المراجعين كانوا يدفعون للوسطاء ما يريدون من مال، وبعد الحصول على ما طلبه الوسيط من ذوي الحاجات يختفي فترة من الوقت ثم يعود إلى الظهور، وهكذا إلى أن وصلت أخبار أولئك المستغلين إلى مدير فرع الوكالة بنابلس، فدعاني وأخبرني بكل ما وصل إليه من دناءة الأدنياء، وقد نقل لي ذلك مضطرًا حرصًا على سمعة أشخاص عرفهم أيام كانوا ينتسبون إلى شريحة "وطنية" تسمى الجهاد المقدس، وهو مشروع إسلاموي جاءت به أجهزة المخابرات لإجهاض مشروعي السلمي، الزحف المقدس. خاطبني مدير المنطقة لوكالة الغوث قائلاً: أخفيت عنك ذلك حتى يبقى الأمر سرًا بيني وبينهم، وقص عليّ قصصًا كثيرة حدثت مع أولئك الأشخاص الذين يدعون مساعدة الناس المحتاجين والعطف عليهم. وزيادة على ما حدثني به قال هناك أرامل، وهناك أمهات أطفال أيتام، وهناك شيوخ ضعاف سُرقوا على أبواب الوكالة من قبل أناس يدعون أني أطلب منهم مالاً مقابل إعطائهم بطاقة تموين، وسرقات الأرامل وأمهات اليتامى كانت تجري ببيع أساور ذهبية أو حلقان ذهبية وتسليم أثمانها للوسطاء الذين كما يدعون كان كلامهم بمنزلة الأمر على مدير الوكالة، وهنا أقسم لي أنه لا يعرف شيئًا مما يفعلون. بعد هذا الحادث الذي عرفه موظفو الوكالة توجه أصحاب الحاجات إليّ بطلب من رجال الوكالة، وكانت لتوجههم إلى بيتي ومقابلتي فوائد لهم، حيث كنت أقضي مصالحهم بالهاتف، وأحيانًا أسير معهم إلى مقابلة المدير، وكان يشرح لي ولهم ما يمكنه تلبيته ضمن صلاحياته. والمدراء الذين كانت صلتي بهم طيبة إسحاق الدزدار، توفيق ناصر، إبراهيم طقطق، ويوسف رضا الصديق الذي ذهبت من أجله إلى عمان، وقابلت المدير العام المستر كلارك، وطالبته بتعيين يوسف رضا مديرًا للوكالة بعد أن شغل منصب المدير، وقد كان رئيس كتاب الوكالة من قبل. استجاب المستر كلارك، وعين الأخ يوسف مديرًا للوكالة بنابلس، وكان الأخ يوسف لا يذهب إلى مكتبه كل يوم قبل أن يمر عندي ونشرب قهوة الصباح معًا، وبقي على هذه الحالة زمنًا طويلاً، لكن التلاعب الذي أخذ ينتشر في أوساط موزعي المؤن جعلني أحاربه بشدة، تارة بنشر الفضائح في الصحف، وتارة بالعرائض والبرقيات التي كنت ومن معي نوجهها إلى الجهات المسئولة في الدولة ورئاسة الوكالة بعمان. حاول الأخ يوسف أن يضعني تحت إبطه، وأن أكتم تلاعب موظفيه غير أني رفضت الاستجابة إلى ما دعاني إليه، ومن أجل ذلك فترت علاقتي به وعلاقته بي.

* * *

آثرت على إرجاء ما سأقوله الآن قبل ذهابي وبنات العمر التي هي الذكريات إلى الجزائر لأهميته التاريخية لئلا يقال عني بعت فلسطين مع الملك عبد الله كما حاول خصومي نشر ذلك بين الناس، وأنا لم ألتق بالملك عبد الله سوى مرة واحدة، وكان لقاء عابرًا لا أهمية سياسية له. ما أرغب في قوله الآن ليس كشاهد على تاريخ فلسطين وإنما كفاعل في هذا التاريخ، وهذه المرة كفاعل بدافع من وطنيتي وما حدث من كوارث فيما بعد في حق الشعب الفلسطيني كان بغير إرادتي، وذلك عندما أرسل لي السفير الأمريكي مستشاره إلى نابلس ليدعوني إلى الالتقاء به، لا أذكر بالضبط متى حصل ذلك قبل انطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965 أم بعدها، لقد جرى الحديث في اللقاء الذي تم في السفارة الأمريكية بعمان عن العمليات الفدائية التي كانت تشن من سوريا، وكانت هناك عمليات فدائية عبر الحدود السورية قبل قيام الثورة، وعلى كل حال سيجد الموثق خبرًا عن اللقاء من سطرين في الجرائد المحلية الصادرة فلنقل مع نهاية 1964 وبداية 1965، خبرًا من سطرين هذا صحيح، ولكنه غيّر وجه المنطقة. كنا نجلس أنا والسفير الأمريكي ومستشاره في غرفة مغلقة ستائرها مسدلة ولم يكن المستشار يدون شيئًا مما نقول مما جعلني أفكر بوجود مسجل يقوم بتسجيل اللقاء لأهميته. دخل السفير الأمريكي في الموضوع مباشرة ودأبه دأب الدبلوماسيين والساسة الأمريكيين، قال لي نريد أن نحل مشكلة اللاجئين إلى الأبد، وذلك بإقامة كيان فلسطيني في الضفة أكون على رأسه وتعترف به أمريكا والغرب وكل العالم، وإذا كنت موافقًا فسيرتب مستشاره لي موعدًا خلال 48 ساعة مع أبا إيبان وزير خارجية الكيان الصهيوني آنذاك لبحث الموضوع معه وإحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. أول رد فعل لي كان لماذا أنا وليس أحد أبناء العائلات المعروفين بولائهم لأمريكا، لماذا لم يتوجه إلى الشقيري ومنظمة التحرير التي أقيمت بإيعاز من أمريكا. وكان جواب السفير محيرًا بخصوص منظمة التحرير عندما قال لي ليس هذا الأمر من مهام منظمة التحرير وليس هذا دورها، وبخصوص تكليف أحد أزلامهم قال لي إن الأمريكان يسعون إلى العمل مع رجل شعبي مثلي وتاريخه الشخصي والسياسي نظيف أضف إلى ذلك أنني صاحب مشروع سياسي سلمي مشروع الزحف المقدس. رفضت العرض مؤكدًا على عودة اللاجئين إلى ديارهم ومطالبًا بكل فلسطين، فاليهود كانوا معنا في فلسطين، وسيكونون معنا تحت العلم الفلسطيني المرفرف على أرض كل فلسطين، ومن ناحية أخرى ما هو هذا الكيان الفلسطيني الذي يقترحه السفير الأمريكي؟ قال دولة، قلت نحن اليوم دولة تحت العلم الأردني، لكنه قال إن الأمر مختلف، وهم لن يصلوا إلى حل لمشكلة النازحين في إطار الحكم الهاشمي. قلت الملك حسين يرفض إذن المشروع، فاعترف لي أنه لم يكلم الملك حسين بالمشروع بعد، والملك حسين ليس بالشيء الهام إذا رفض احتلت إسرائيل الضفة في حرب خاطفة لتسلمها لي. رفضت من جديد وقلت الفدائيين سيقاتلون وهم يقاتلون عبر الحدود السورية وأنا معهم. ابتسم السفير الأمريكي وقال إنه هو أيضًا معهم لأنهم ورقة ضغط سيستعملها ضد إسرائيل في مفاوضاتي مع أبا إيبان إلى جانبي، أما إذا ما أمعنتُ في الرفض، فسيكونون ذريعة لإسرائيل كي تحتل العالم العربي. خرجت من عند السفير الأمريكي مباشرة إلى سفارة الاتحاد السوفيتي، وسلمت رسالة لسفير الاتحاد السوفيتي أنقل فيها كل ما جرى معي في السفارة الأمريكية، وأطلب من السفير الروسي موعدًا لم أحصل عليه إلى اليوم.

* * *

من لقائي الهام مع السفير الأمريكي تبين لي أن استراتيجية أمريكية إسرائيلية كانت هناك لإنهاء مشكلة اللاجئين التي هي مشكلة المشاكل وقضية القضايا والتي بدون حلها لن يكون هناك سلام ولن تكون هناك إسرائيل وبحل مشكلة النازحين يمكن أن تحل باقي المشاكل كلها ومن يقول كل المشاكل والمسائل يقول مسألة الحدود مع جيران إسرائيل وإحلال السلام معهم، وكانت تلك الاستراتيجية تعتمد على إقامة كيان فلسطيني يكون المنطلق إلى حل يشمل كل الدول العربية، ولكن رفضي لهدا الكيان قد خلخل كل الحسابات الأمريكية والإسرائيلية وزعزعها، فراحوا يبحثون عن استراتيجية أخرى مفادها إحلال السلام مع العرب أولاً ليكونوا الطريق إلى حل مع الفلسطينيين وبأبخس الأثمان، وهذا يعني التوصل إلى لفلفة أي حل كان لمشكلة اللاجئين وباقي المشاكل والمسائل، وهي الاستراتيجية المعاكسة تمامًا للاقتراح الأمريكي الذي عرضه السفير الأمريكي بعمان عليّ وكان رفضي القاطع له فجررت بدافع من وطنيتي ودون وعي مني فلسطين والعالم العربي إلى ما نعانيه منذ العام 67 وحرب الخامس من حزيران إلى تاريخ كتابة هذه السطور، هذا ما سيعتقده القارئ للوهلة الأولى، ولكن للحق أقول وللتاريخ أقول إن هذه الاستراتيجية الأمريكية المشئومة الرامية إلى تركيع العالم العربي أولاً ففلسطين ثانيًا كانت ستتم برغم أنفي، ولكن عبد الناصر وزعامات العالم العربي في ذلك الوقت كانوا واهمين بالتوصل إلى حل فلسطيني أولاً الحل الذي رفضته ولم يشكّوا إطلاقًا في نوايا الصهاينة والأمريكان الذين خدعوهم، وكان عبد الناصر في أقصى لحظات التصعيد مع الإسرائيليين قبل حرب الخامس من حزيران يقول إن الصهاينة لن يضربوه وكان لا يعتقد أبدًا بهجومهم على مصر أو على سوريا ولكنه لم ينف ولم يؤكد الاحتلال الخاطف للضفة كما سبق وقال لي السفير الأمريكي، لهذا السبب كان عبد الحكيم عامر يحتفل بزفاف ابنته ليلة الهجوم الكاسح وهو مطمئن البال وليس إهمالاً منه أو تخاذلاً، فكانت المفاجأة وكانت الخدعة التي ساهم فيها الاتحاد السوفياتي أكبر مساهمة ولعب فيها الدور الأول عندما مهد للعدوان على سوريا وذلك بترويجه لتحركات الجيش السوري وحشوداته في الجولان، وعندما ذهب موشيه دايان وغولدا مائير ليتأكدا من الأمر لم يجدا أي أثر لجندي سوري واحد، ومع ذلك استغلا الكذبة كما هو عهدهما، فالسوريون كالمصريين لم يكونوا يعتقدون على الإطلاق بهجوم إسرائيل عليهم، ولكن غاية الاتحاد السوفياتي كانت أن يجر الجميع إلى حرب في الشرق الأوسط وأن يفتح جبهة ثانية ضد الأمريكان تخفف قليلاً من الضغط على السوفييت في الفيتنام، وكان الاتحاد السوفياتي يراهن على صمود الجيشين السوري والمصري المسلحين بأحدث الأسلحة السوفيتية وأعتاها رغم المفاجأة.

لكن الملك الحسين كان على علم بما سيحدث، ولم تكن معاهدة الدفاع المشترك التي وقعها مع مصر وسوريا غير لعبة صغرى ولثام للُّعبة الكبرى التي كانت ضرب مصر وضرب سوريا واحتلال الضفة الذي سيتم بعده التوقيع على معاهدات سلام مع مصر وسوريا ومعاهدة سلام معه تعيد له الضفة وقد أقيم فيها الكيان الفلسطيني المستقل كما سيقال للرأي العام وتحت تسمية أخرى غير المملكة الأردنية الهاشمية "الكونفدرالية الأردنية الفلسطينية"، ولم يصل ملك الأردن إلى هذه التسوية بسهولة كما يبدو للقارئ للوهلة الأولى، لأن الأمريكان كانوا وما زالوا أسياد كل لعبة، وهو لحنكته السياسية فرض نفسه على الجميع، فما كان الأمريكان يعتبرونه "بالشيء الهام" كما قال لي السفير الأمريكي إلا عندما يخدمهم ذلك ويخدم مصالحهم، وبعد رفضي للكيان الفلسطيني المصطنع حاول أن يلعب ورقة هذه الرفض لصالحه، وذلك بتقريبي منه، فكان اللقاء الكبير معه حسب طلبه هو شخصيًا، وبتنسيق مع رئيس تشريفاته، لكني كما سبق لي وقلت لم نصمد لا أنا ولا الملك الحسين أمام تصاعد العمل الفدائي الذي بدأت عملياته عبر الحدود الأردنية بعد الحدود السورية، وأخذ الجيش الأردني يطارد الفدائيين بالقدر ذاته الذي يطاردهم فيه الجيش الإسرائيلي، وكانت هذه هي الورقة الثانية من بعدي التي لعبها الملك الحسين ليدفع الأمريكان إلى قبوله كلاعب أساسي وكشريك وكطرف في الكونفدرالية التي لم يكلمني عنها السفير الأمريكي لأنها لم تكن واردة في ذلك الوقت، وكان الاتجاه بالأحرى أن يكون هناك تحالف أو شبه تحالف بين الكيان الإسرائيلي والكيان الفلسطيني يصل الجميع من خلاله إلى إنهاء مشكلة اللاجئين مشكلة المشاكل وقضية القضايا وضمان الحياة مدى الحياة لمغتصبي أرضنا، لهذا السبب، عند مغادرتي للأردن إلى الجزائر بعد شهرين أو ثلاثة من لقائي الهام بعاهل الأردن، لم يتصل الملك بي ولم يطلب مني العودة لأن ورقتي انتهت بالنسبة له ولأن التهييء لحرب الأيام الستة التي كانت ستقوم بعد عدة أشهر قد بدأ على قدم وساق، وكانت أهدافها التوقيع على معاهدات سلام مع جيران إسرائيل وأول أهدافها السلام مع الأردن ثم إقامة الكيان الفلسطيني ثم الكونفدرالية الأردنية الفلسطينية، وهذا ما لم يكن يعلمه عبد الناصر ولكن ما كان متأكدًا منه على خطأ هو قيام الكيان الصهيوني بحرب محدودة في الضفة هدفها حل القضية الفلسطينية وأهم قنواته كانت الملك الحسين الذي أخفى عنه كل شيء لهذا لم يكن يفكر على الإطلاق بشن حرب على إسرائيل أو بشن إسرائيل الحرب عليه وكل الخُطب الطنانة والاستعدادات لحرب التحرير التي أوهم الناس القيام بها كانت استعدادات على صفحات الجرائد وأمواج الأثير فقط لا غير.

* * *

كانت خلايا العمل الفدائي قد بدأت بالانتشار قبل انطلاقة الثورة الفلسطينية في الأول من كانون الثاني 1965 ولم تكن هذه الخلايا ذات صلة بمنظمة تحرير الشقيري التي شككني السفير الأمريكي في قدراتها وأهدافها ومهامها وأدوارها، وقد كشفت حرب الأيام الستة بعضًا من هذه الأدوار والمهام والقدرات والأهداف والتي هي بالأحرى ترويجية إعلامية تدّعي التحرير فقط بالكلام وبصوت الشقيري القوي قوة كتيبة من كتائب جيش التحرير الوهمي التابع له وترويجية إعلامية في صالح الصهاينة وكلنا لن ينسى مدافعه الكلامية التي أطلقها ضد اليهود واستغلها الكيان الصهيوني أحسن استغلال لدى الرأي العام الغربي والدولي، وكان عجز الشقيري عن احتواء العمل الفدائي هو ما دفع الأمريكان إلى اختراق هذا العمل من داخله عن طريق عرفات ورفاقه الثوريين والسيطرة عليه، وهذا الذي حصل فيما يخص ما نسميه انطلاقة الثورة، فكل شيء كان يعد لما بعد حرب حزيران فيما لو لم يتمكن الأمريكان من تحقيق استراتيجيتهم الرامية إلى معاهدات الصلح مع العرب فالكيان الفلسطيني المصطنع فالاتحاد مع الأردن وفي الأخير تصفية مسألة اللاجئين والتي ستتبعها تصفية القضية الفلسطينية. لهذا عندما برز عرفات وأعطيت له منظمة التحرير قلتُ الإستراتيجية الأمريكية تغيرت بتغير الظروف وها هم قد وجدوا رجلهم في عرفات الذي لم يجدوه فيّ والذي في ذات الوقت سيعوض الأنظمة العربية عن هزيمتها ويكون برشامة ثورية في نفوس الجماهير التي لن يتوقف عن الكذب عليها والتلاعب بأحلامها وخداعها، لهذا أرسل من وراء أصحابه كلهم والذين هم في خط واحد معه أو المخدوعين به مثل خليل الوزير الذي كان في الجزائر كما كنت في الجزائر ولم يرسل من ورائي لأني نقيضه في كل شيء، وهو الرجل الذي سيقبل بكل ما رفضت بل وأكثر مما رفضت، وهذا ما حصل بالفعل بعد أن كان إسحق رابين يعارض إقامة المستعمرات في الأراضي المحتلة لأن هدف احتلالها لم يكن البقاء فيها، كان هدف احتلالها إقامة الكيان الفلسطيني المصطنع وإعادتها إلى الملك الحسين، ولكن الطبق الشهي الذي قدمه الانتصار الخاطف للعسكريين الصهاينة كان شهيًا لحد الرغبة في ابتلاعه كله، ولم يكن ذلك ممكنًا لولا وجود رجل كعرفات يلقم الجنرالات الإسرائيليين ما يريدون ابتلاعه من مدننا وقرانا وجبالنا، رجل حامل لشعارات طنانة كالشقيري ولكن ثورية هذه المرة، وهدفها دائمًا وأبدًا التنازل والوصول بفلسطين والفلسطينيين إلى طريق مسدود، فتبقى الهيمنة للصهاينة ويبقى للفلسطينيين المصير المزري الذي سيتمكن العدو على أيدي عرفات وزمرته من جعله غير ممكن وغير معقول وكقدر سماوي.

* * *

ذهبت إلى الجزائر وفي ذهني الذهاب إلى مجتمع مسيس وهو من الوعي الشيء الكثير خاصة وأن البلد خارج من حرب تحرير من المفترض أنها حطمت الأسس القديمة التي كانت عماد المجتمع في كل نواحيه، وإذا بي أصطدم بعقلية القرون الوسطى فيما يخص المعربين وبقشور العقلية الغربية فيما يخص المفرنسين وكان من الواجب عليّ وعلى الطلائع من الأساتذة العرب أن يعلّموا العربية للتلاميذ وللمعلمين الذين كانوا في معظمهم يجهلون العربية وهم في معظمهم من حملة شهادات السادس الابتدائي الذين كنا ندعوهم "الممرنين"، كانت تلك أعظم مشاكل الجزائر وأخطرها في أبنائها في ذلك الزمن البعيد غداة الاستقلال، وكانت تلك أهم أسباب التأخر والتخلف في نهوض هذا البلد الذي كان أبناؤه من خيرة الأبناء وأطيبهم، ولكن الصفات الخلقية أمر يمكن أن يكون زائدًا أو ناقصًا تبعًا للظرف الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، ولولا عزم وتصميم أبناء هذا البلد لما استطاع الوقوف على قدميه في تلك الأيام العصيبة التي مرت بالجزائر وعاشها الجزائريون وعشناها معهم، فاتفاقات أيفيان كانت جائرة وفرنسا قد تركت الجزائر كالوليد عارية، والوليد العاري دون أمه التي كانت فرنسا هو ضائع لا يعرف من هو ولا من هم غيره. كنا بالنسبة للجزائري كلنا نحن المشارقة من المعلمين عراقيين لأن أول فوج منا جاء للتدريس كان من أبناء العراق، ثم صرنا كلنا مصريين بعد أن اجتاح المصريون حقل التعليم، ولو كان الذين جاءوا من الباكستان لغدونا كلنا باكستانيين، ليعلم القارئ المستوى الثقافي للفرد الجزائري آنذاك، ولما تحدثه عن فلسطين، يأخذ بالدعاء لها ولا يعرف موقعها بينما كان موقعها في قلبه عميقًا، ويقف الأمر عند هذا الحد. وكانت قد جمعتني الصدفة ببوتفليقة أيام كان وزيرًا للخارجية عند وداع السفير الأردني في أحد فنادق العاصمة الفخمة، فندق جورج الخامس، كان بشوشًا ودمثًا ولطيف المعشر، قلت له ثورتكم لم تحرر الجزائر طالما بقيت فلسطين محتلة، فقال نحن وسنعمل وأنا وربي يشهد، كما يردد الناس "ربي يشهد" آلاف المرات كل يوم، قلت له تساهمون في تحريرها أنت وبومدين إذا عرّفتم الشعب الجزائري بها ووعى أمرها... لكن الشعب الجزائري كان ينظر إلى فلسطين كجارية من الجواري التي اغتصبها سيدها دون إرادتها، ولم يزل إلى يومنا هذا.

* * *

أثناء الثورة الجزائرية كنا نتظاهر يوميًا من أجلها أما من أجل فلسطين وخلال أكثر من خمسين عامًا قضيتها على تراب الجزائر الحبيبة لم تخرج مظاهرة واحدة ولم أسمع بلقاء جماهيري واحد حولها أو حتى بمحاضرة، كان الشعب الجزائري الحبيب مقموعًا في وعيه وفي ذاته وفي وطنيته، وجهاز المخابرات الذي أسسه ابن الثورة العاق سعدي ياسيف الذي باع للجنرال ماسو حسيبة بنت بوعلي وعلي لابوانت هو من أقوى أجهزة المخابرات في العالم، أقوى من الموساد، وأقوى من السي آي إيه، وأقوى من الكي جي بي، لأنه قادر على كل شيء مهما عظم، ولأن أصابعه تصل إلى كل فرد، كل بيت، كل شجرة، كان كل جزائري مراقبًا، والحرية فقط لأبناء النظام الذين كانوا الجنرالات وموظفي وزارة الدفاع وأدعياء الجهاد في حزب جبهة التحرير الوطني وخاصة الجنرالات الأسياد الحقيقيين للبلد ومالكي ثرواته، لهذا كان الرئيس، منذ بومدين إلى بوتفليقة، رئيسًا ووزيرًا للدفاع، لأن كل شيء في البلد يتم في أروقة وزارة الدفاع وأروقة المخابرات التابعة لها وأروقة الحزب التابع لها، وهذا الأخير كان أفراده معظم أفراده ممن حاربوا الثورة قبل انتصارها ودخلوا في ثناياها بعد انتهائها وتأسيس الدولة، صاروا كلهم مجاهدين أو أبناء شهداء. في أيامي الأولى في الجزائر مع بطاقة قدماء المجاهدين كان للعساس أي البواب شأن أكثر بكثير من المدير، وكانت كل الدولة في جيبه، وكان رجل المخابرات سيدًا في كل الميادين وخاصة ميدان الكذب الذي هو الشائعات، فلسوء فهم بين بومدين وعبد الناصر أو للتنافس على زعامة العالم العربي وزعامة العالم الثالث طموح كبير من طموحات بومدين كان رجل المخابرات هذا من وراء كل الدعايات غير الصحيحة عن بخل المصريين وجشعهم وطمعهم في بترول الجزائر وبطاطا الجزائر التي أقر بومدين إنتاجها بعد أن أمر بخلع أشجار كل كروم العنب في حربه ضد النبيذ الذي رفضت فرنسا استيراده وكورقة سياسية من أوراق ثورته الزراعية الفاشلة، كيف ستنجح ثورته الزراعية وللفلاح راتب ينتظره عند آخر كل شهر سواء أنتجت الأرض أم لم تنتج؟ فكره الجزائريون من جاء يعلمهم من المصريين ونادوهم "فول... فول..." ساخرين لكن نظام بومدين حقق كل مآربه السياسية على الأقل في الجزائر ولف جماهيرها من حوله.

* * *

لم يكن أحد يتوقع أن ينقلب بومدين على بن بيلا ليس لوفائه ولكن لتقشفه العسكري وزهده السياسي لقد كان القائد العسكري العابس المتجهم النحيل الوجه والجسد والمعروف بحنكته العسكرية، فهو من بقي في تونس ينتظر الوقت المناسب للانقضاض على معاقل الفرنسيين ومعاقل الجزائريين معاقل أصحابه في جيش التحرير، فاحتل الجزائر من الحدود التونسية إلى الحدود المغربية في ساعات قلائل، وأصبح هو الرجل القوي وليس بن بيلا هذا الذي كان يستشيره في كل صغيرة وكبيرة ولا يفعل شيئًا إلا برضاه، ولكن جنون بن بيلا وهلوساته الثورية هي التي عجلت بإقصائه وبعد أن صفع بوتفليقة أثناء غياب بومدين، وحين عودته كان بوتفليقة في المطار لتحذيره بعد أن أخبره بما فعل بن بيلا به لئلا يكون الدور القادم دوره، ويقال إن بومدين من المطار ذهب إلى بن بيلا مع جنديين اثنين وألقى القبض عليه قبل أن يزجه في سجن بليدة. كان على بومدين أن يتبع سجنه لبن بيلا بتصفية كل رفقاء السلاح من معارضيه في فرنسا وإسبانيا وفي كل مكان في العالم ككل ديكتاتور وستالين كان واحدًا من الشخصيات التي كان بومدين معجبًا بها، وكان عليه أن يبرز كسياسي وليس كعسكري فقط فتحدى عبد الناصر صاحب الفكر الوحدوي باتحاد مغاربي لم يكتب له النجاح حقًا ولكنه كان هو صاحب الفكرة التي أداخت حكام كل المنطقة خلال حياته وبعد حياته، وكان هو أيضًا وراء تأسيس ودعم جبهة البوليساريو ليس لعدالة القضية التي تخبأت خلفها هذه الجبهة ولكن ليكون للجزائر منفذ على المحيط الأطلسي، وتكون للجزائر هيبة الدولة العظمى، وكل هذه الخطوات السياسية الكبيرة ما كانت إلا لتخفف قليلاً من العبء الاقتصادي والاجتماعي الداخلي، فالجمهورية الجزائرية الاشتراكية الديمقراطية الشعبية قد اتخذت من تجربة الاتحاد السوفياتي نموذجًا لها فعاشت الجزائر في وضع اقتصادي واجتماعي مهدد بالانهيار في كل يوم لولا عائدات البترول وضخ الأموال من جانب الدولة في كل رئات المجتمع من ثمن الباغيت أي الرغيف الذي كان ينقطع بيعه بعد ساعة معينة من النهار إلى ثمن كل كوابيس الليل التي هي الحياة في جزائر آنذاك والتعصب بين بربري قبائلي وعربي والصراع ما بينهما على الحكم الذي كان بومدين يقمع هذا وذاك لصالحه دومًا تارة كعروبي مع التعريب وتارة كمُغْرٍ مع المغريات الوظيفية لأبناء القبائل والميزانيات الكبرى لهذا وذاك التي كانت تسرق على الرغم من اليد الحديدية الديكتاتورية لبومدين.

* * *

ارتبطت حركة التعريب بالحركة السياسية في الجزائر منذ بداية الاستقلال وعهد بومدين إلى يومنا هذا وكانت المناورات بشأنها كثيرة وتبعًا للظرف والمرحلة وكلها من أجل الهيمنة والقبض على زمام الحكم، وفي بداية وجودي في الجزائر أقمت في مدينة صغيرة تقع في شرق البلاد اسمها برج بوعريريج سميت كذلك بالنسبة لحاكمها القديم التركي أبو عروج، فالحاكم دائمًا ما يطبع البلد الذي يحكمه بطابعه منذ الأزل ويترك بصماته عليه ويجعل من نفسه ماهيته لأن البلد ملكه والعباد ملكه، وبرج بوعريريج تمثل الجزائر والتعريب في برج بوعريريج يمثل التعريب في الجزائر، وأول شيء اصطدمنا به نحن الطليعيين في حركة التعريب هو البيروقراطية التي كانت العدو اللدود لكل أمر وصاحب أمر في الجزائر، فالآمر مهما تدنت رتبته هو السيد ولن يكون السيد إلا إذا جعلك تذوق الأمرين عند قضاء حاجتك إن لم يقتل روحك ويقتل كل مشروع فردي أو وطني، وأنا هنا لا أتحدث عن الأوراق الثبوتية التي هي بالعشرات والتي تشقى في الحصول عليها ولكن عن المماطلة والسادية والتعجيز وعدم تلبية ما تطلب وعدم الرغبة في العمل من الأصل وأصل الأصل فكيف العمل من أجل المصلحة الفردية والمصلحة العامة؟ فالبيروقراطي الجزائري ورث عن المستعمر الفرنسي كل المصائب الإدارية فيه وأضفى عليها لمساته المحلية فجعل منها بيروقراطية فريدة من نوعها لا يمكن وجودها إلا في الجزائر بيروقراطية جزائرية تهدم ولا تبني وتدمر ولا تحمي، وبخصوص التعريب الذي أتحدث عنه كان يواجَه من طرف المعربين في أجهزة الدولة بالمقاومة الشديدة نتيجة لهذه الديكتاتورية الفردية والتنافسية بين أصحاب الدرجات الوظيفية فما بالك بالمتفرنسين الذين هم منذ جاءوا إلى الدنيا ضده، وكانوا يتهمون اللغة العربية وضعفها والحقيقة المتهم هو نظام التعليم وبيروقراطية وزارة التربية الوطنية، وكان بومدين يستغل هذه المواقف بخصوص التعريب بين أطره ليتعداها إلى الرأي العام وإلى كل الجزائريين، والعجب العجاب في كل هذا أن الأمور كانت تُعرض على أساس الدفاع عن اللغة العربية والعرب والعروبة، ولكني أقول للقارئ إننا في برج بوعريريج وفي كل مدن الجزائر كنا نتفاجأ من قرار تعسفي مثل إلغاء نظام التعليم الفرنسي للتلاميذ من السنة الأولى إلى السنة السادسة وإحلال نظام التعليم العربي محله دون التمهيد له واللجوء إلى شتى السبل البيداغوجية، ثم إلغاء التعليم العربي في السنين نفسها والعودة إلى النظام الفرنسي بالشكل الشرس نفسه، مما يضيع الشبيبة في جيليها، ويجعل منها جاهلة في اللغتين، وكنا نتساءل عن السبب عندما تعتبر اللغة الفرنسية لغة ثانية يبدأ تعليمها منذ الصفوف الابتدائية الأولى ثم يصدر قرار بالتوقف عن تعليمها والاكتفاء بالعربية إلى غاية الدخول في السنوات التكميلية، ليكون جهل الشبيبة بها كبيرًا وهي اللغة الهامة التي يجدر تعلمها منذ الصغر كلغة والإنكليزية كلغة والإسبانية كلغة إلى آخره، وهذا ما يجري اليوم، ولكن الجهل باللغتين وإن شاء القارئ عدم إتقانهما إلا لدى قليل القلة هو السائد في الجزائر نتيجة لبيروقراطية التعريب واستغلاله السياسي، وكأني بالحاكم الجزائري منذ بومدين لا يريد أن ينافسه أحد من الشعب في علمه ليسود الجميع.

* * *

هذا وقد ارتبطت "المسايسة" في الجزائر "بالمثاقفة" بشكل محير يدفع إلى كثير من التأمل في ظاهرة لم يزل البلد منذ بومدين يعاني منها، فالحقيقة أن العامة ليست مسيسة ولا هي مثقفة والخاصة مسيسة ومثقفة بسياسة الدولة وثقافة الدولة، وعندما نتساءل عن سياسة الدولة ما هي يكون الجواب هو التجهيل بالثقافة الوطنية كما كان يجري في عهد المستعمر الفرنسي وذلك لأجل الولاء والتبعية، وللعلم الثقافة هنا هي ثقافة الزاوية فيما يخص اللغة العربية وثقافة الحانة فيما يخص اللغة الفرنسية، إنها ليست ثقافة المتنبي ولا ثقافة فولتير، إنها ثقافة متخلفة في كلتا الحالتين، ومنهما كان نوع من المثاقفة التي أدعوها مثاقفة "دَعِيّة" تنهل من نبعين متناقضين وفي نفس الوقت غريبين تمام الغرابة، وفي تلك الأجواء السياسية الثقافية كان من المستحيل لرواد حركة التعريب وطلائعها الذين كنا أن نلعب الدور الذي كان علينا أن نلعبه، فوقفت علاقتنا عند حد علاقتنا باللغة كحروف أبجدية وليس كلغة فاعلة في صرح الثقافة ومشاركة بالتالي في المشروع السياسي، إذ منذ البداية لم يكن هناك مشروع سياسي أو ثقافي يتناسب مع الشعارات التي كان يرفعها النظام والطموحات الوطنية التي كانت تتحول باستمرار إلى طموحات شخصية. وسآتي بهذا الخصوص بتجربتين عشتهما في مدينة برج بوعريريج، الأولى فيما يخص الثقافة والثانية فيما يخص السياسة: على أمل اللقاء الفكري وبالتالي العمل الميداني كنت قد دعوت عندي إلى الغداء رئيس أكاديمية المنطقة الذي كانت إقامته في مدينة سطيف عاصمة تلك المنطقة الغالية علينا الواقعة في شرق البلاد، ومعه عددًا كبيرًا من المدراء والأساتذة والمفتشين في المجالين الفرنسي والعربي، ولكن بعد طعام الغداء ذهب كل واحد من طريق ولم نعد إلى الالتقاء ثانية، طبعًا كان ذلك من أمر السياسة على الجميع التي هي مهمة حزبية مثلما هي الثقافة مهمة حزبية. ليس هذا ما أردت الوصول إليه، وإنما إلى شيء آخر ذي دلالة عميقة، ونحن نعود بمفتش الأكاديمية إلى مدينته، تحدثت وإياه في السياسة، فردد ما تردد الصحافة المحلية كل يوم، وتحدثت وإياه في الثقافة فحدثني عن العقد الفريد لابن عبد ربه وسقط الزند للمعري حديثًا مقتضبًا كان من أجل الإبهار كما تبين لي، كان يجهل كل الأسماء الحديثة، ولم أشأ التعمق في الحوار معه عما يعرف لئلا أحرجه، فهي إذن سطحيات أسميها مثاقفة حتى فيما يخصنا كما هي سطحيات التركة الفرنسية. أما المثال الثاني فهو مكمل ومذهل في ذات الوقت، يتعلق برئيس بلدية برج بوعريريج الذي عملت على قيام صداقة بينه وبين رئيس بلدية نابلس آنذاك حمدي كنعان، وذلك عندما تقدم ضده في الانتخابات مدير مصنع للأنسجة مع برنامج أسال لعاب الناخبين الذين فضلوه بسبب هذا البرنامج على غيره، وعند فرز الأصوات التي كانت في البداية لصالحه، تمت لعبة التزوير بعد أن تم تبديل صناديق الاقتراع في مكتب جبهة التحرير دون أن يكون باستطاعة هذا أن يفعل شيئًا غير الانتحار الذي فاجأ الجميع، وتبين بعد ذلك أنه كان يسعى لرئاسة البلدية لأجل أن يخفي سرقته لأموال المصنع الذي كان يديره.

* * *

محطتي الثانية بعد برج بوعريريج كانت عاصمة البربر تيزي وزو، مدينة جبلية جرداء، تحبل بأشجار الزيتون الكريمة المعمرة كأخواتها الفلسطينية منذ آلاف السنين، وهي رمز هذا الشعب المعمر الأصيل، وما يفاجئك أول ما تضع قدمك في هذه المدينة وفي كل مكان من مناطق القبائل الذين هم البربر، تجمعات الشيوخ هنا وهناك، كالجذوع التي أكل الدهر عليها وشرب، وحديثهم إليك الذي يبدأ ب " جئنا بها وأخذوها"، وهم يقصدون الثورة، وفي نفس الوقت يلخصون بثلاث كلمات علاقتهم بالنظام، وموقفهم منه موقف المعارض وما يخفي ذلك من أحلام وهواجس عميقة في التاريخ منذ جاءت أول موجة من موجات البربر مع هرقل وهو في طريقه إلى إسبانيا إذ كانوا خليطًا من فرس وأرمن وغيرهم مرورًا ببني كنعان الذين هم أجدادنا نحن الفلسطينيين أيضًا الموجة التي حصلت كما تقول الكتب عنها بعد الهزيمة التي ألحقها داود بجالوت، فجاءوا إلى شمال إفريقيا تحت قيادة ابنه إفريقوس حسب ابن خلدون، ومن هنا كان اسم قارة إفريقيا، وأخيرًا وقبل آخرًا الموجة التي ضمت الغوليين الفرنسيين الذين استقروا في الجزائر وشمال إفريقيا حتى ليبيا قبل أن يهاجموا المصريين، ويقال إن أنصابًا لهم عديدة وجدت هنا وهناك تثبت ذلك، إلى جانب زرعهم البشري المتميز بالشعر الأشقر والعيون الزرق والخضر، ميزات فيزيائية خاصة بالبربر. ما أود الوصول إليه هو أن البربر منذ بداية التاريخ هم من كانوا يخوضون المعارك وينتصرون فيها من أجل غيرهم، الثورة الجزائرية مثلاً، وقبل الثورة الجزائرية فتح إسبانيا بقيادة عقبة بن نافع ثم طارق بن زياد الذي كان بربريًا، مما جعلهم يولون اهتمامهم إلى الموروث الثقافي "للفاتح" ويبدعون فيه، يكفي أن نذكر بخصوص الاستعمار الفرنسي بعض الكتاب منهم الذين أبدعوا بالفرنسية وفاق إبداعهم الفرنسيين أنفسهم مثل كاتب ياسين ومولود فرعون ورشيد بوجدرة، وبالعربية هناك الطاهر وطار البربري الأصل الذي تضاهي رواياته العديد من الروايات المشرقية، ولهذا السبب الجوهري في تركيب الإنسان البربري كان الإقبال على تعلم العربية كبيرًا وحماس الآباء قبل الأبناء أكبر رغم أن بعض الآباء كانوا يمنعون أولادهم وبناتهم من التكلم بالعربية، حتى العربية الدارجة، داخل أسوار البيت، إنه موقف لا يجب إساءة فهمه، وإن كان النظام يستغله لزرع العنصرية بين عرب وقبائل، موقف لحفظ الهوية البربرية تمامًا كما يجري مع كل شعب وإن تعددت أصوله، وهو الموقف ذاته لدى البريتانيين في فرنسا أو الألزاسيين، وبصفة عامة من أجل التعددية الثقافية ولئلا يتحول الدمج الثقافي إلى دمج سياسي المستفيد الأول منه والأخير النظام الذي يهدف إلى إحكام القبضة على كل الجزائريين.

* * *

هناك من يحكي عن البربر لجهل إعلامي أو لمأرب سياسي ويقول عنهم المتحكمين في أجهزة الدولة وفي البلد من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى صحرائها والغاية من وراء ذلك إخفاء عورة النظام بهم وبث الفرقة بين جناحي الجزائر العربي والقبائلي، والحقيقة أن هناك نخبة بربرية تشارك في السلطة بعد أن تبنت مواقفها وحصلت بالتالي على كل الامتيازات التي لصاحب السلطة بغض النظر عن أصله وفصله، وهذه القلة من البربر لا تتوانى عن قمع إخوتها وأبنائها من بني جلدتها مثلما لا تتوانى عن قمع العرب من الجزائريين فالنظام لا يفرق بين عربي وبربري عندما يتعلق الأمر بمصالحه، وأسوق مثلاً على ذلك ما كان يجري بخصوص تعليم اللغة العربية في تيزي وزو، كل ما كنا نحتاجه كان متوفرًا لنا، وكل ما نطلبه، وكل ما نقترحه، وكان الوالي (المحافظ) يستقبلني أنا شخصيًا، ويسألني عن أنجع الطرق لنشر العربية، كان على استعداد أن يجلب لي القمر لو كان ذلك في صالح تعلمها، إلى جانب توفير كل أسباب العيش والراحة للمعلمين، وطبعًا لا يخفى الهدف السياسي الكامن من وراء كل هذه المغريات التي لم تكن حبًا بالعربية في بلاد البربر وإنما لمقارعة الأمازيغية لغة البربر التي لم يكن مسموحًا بها ولمناوأة كل من يسعى إلى التعددية الثقافية، أضف إلى ذلك، وهو في رأيي الأهم، لتكريس "الحقرة" كما يدعو البربر تصرف النظام نحوهم أي الاحتقار، فكل شيء يخصهم يرفض أو يماطل في شأنه، تعبيد الأرصفة شق الطرقات بناء المستشفيات المخصصات الاجتماعية المخصصات الجهادية الدعم الزراعي الدعم الاقتصادي الأسواق التي كانت تدعى أسواق الفلاح وبالتالي البضائع والمشتريات التي لم تكن حقًا موجودة بقدر طلبها والإقبال عليها في كل الجزائر وفي بلاد القبائل كانت أحيانًا منعدمة ولن أتكلم هنا عن الحقرة الإدارية التي تنزع الإنسان من إنسانيته وتصيره دابة من الدواب، كان القبائلي كالعربي يكفر بالنظام وبالاشتراكية لأن النظام الفاسد في الجزائر يقول عن نفسه اشتراكي وكأنني به يسعى إلى ذلك من أجل أن يقوم على رماد بعد أن يطفئ نار الغضب على طريقته ويبقى أطول أجل إن لم يكن مدى الحياة. لكن المحير في كل هذا أن البربري كأخيه العربي كان يصرخ دون صوت وإلى اليوم يصرخ دون صوت وقد اعتاد على ما هو فيه وقبل بما لا يرضيه وصار يسعى لأجل يومه وقوت يومه ولا يسعى لأجل غده ومستقبل أبنائه، وهو من هذه الناحية قد أورث الخنوع والخضوع لأبنائه وأورثهم زيت الزيتون الكريم أقصى ما تستطيع بلاد القبائل عليه كإنتاج زراعي وصناعي، والاستعمار الذي يروق له هو أيضًا ألا يحب البربري أخاه العربي وألا يحب العربي أخاه البربري ويدفع البربر إلى الانفصال عن الحكم المركزي لتقسيم الجزائر وتدميرها مثلما دمر غيرها لن يفلح في دفع البربر إلى الانتحار، فهم يعون أنهم بالزيت والزيتون لن يمكنهم إقامة دولة وأنهم بسواحلهم التي هي الجنة على الأرض لن يمكنهم صناعة سياحة تكفي طموحاتهم الوطنية فبالسياحة لا تقام الكيانات، وكيان البربر والعرب هو الجزائر الموحدة.

* * *

وكانت اللغة العربية للبربري لغة مقدسة لأنها لغة القرآن وكذلك كان المعلم للغة العربية شيئًا قريبًا من القداسة وكأني بالبربري يقول من علمني حرفًا كنت له عبدًا، وحكايتي مع مُحَنْد تجعلني أضيف ومن يعلمني حرفًا من معلمي اللغة العربية كنت له عبدًا، إذ جاءني ذات يوم رجل في الستين من عمره، كان الوقت صيفًا، وقد بقي في انتظاري قرب بوابة المدرسة ساعات تحت شمس تيزي وزو الحارقة إلى أن أكملت دروسي. جاءني كمن يجيء نبيًا، وهو يشدني إلى صدره ويقبلني على وجنتيّ، ويعود ويشدني إلى صدره، ويقبلني. اعتقدت في البداية أن له ابنًا من تلاميذي، وهو كان هنا ليوصيني عليه، لكنه قال إنه سمع عني، فقد كنت أكبر المعلمين المتعاقدين سنًا، وإنه أراد فقط التعرف علي، واكتساب العلم على يديّ، ولم يكن العلم في ظنه التاريخ والجغرافيا والفيزياء والكيمياء وإنما التجارب والأخبار والأسفار والعلاقات مع البشر، ولكن الوجه الآخر لمحند كان الأطرف، فقد أخبرني أنه في طفولته كان مسيحيًا –هم يقولون نصرانيًا- يحمل الصليب، ويذهب إلى الكنيسة، ويصلي للعذراء، هكذا كان هو وأبوه وأمه وإخوته وأخواته بعد أن كان المبشرون الفرنسيون أيام الاستعمار يصولون ويجولون في بلاد القبائل التي هي بلاد البربر بغية نصرنتهم وإبعادهم عن الإسلام وبالتالي إبعادهم السياسي عن إخوتهم العرب عملاً بالمثل القائل فرق تسد، وكانت وسيلتهم إلى ذلك وسيلة دينية كما كانت وسيلة عقبة بن نافع في الزمن القديم بغض النظر عن اختلاف الأهداف والمآرب التي كانت في وقت عقبة التقريب بين العرب والبربر والتآخي ما بينهم، وكان في ظنهم أن المقدس للبربري يمكن أن يكون وثنيًا أو إسلاميًا أو نصرانيًا أو غيره فهناك امتدادات ما بين الأديان ولمكانة المقدس في قلب البربري الذي هو من الطيبة والبراءة الشيء الكثير، ولكن مع مرور الأيام وافتضاح أمر المبشر الفرنسي المرتبط مباشرة بالحاكم الفرنسي، حصل ما لم يكن متوقعًا، وهو الارتداد عن النصرانية لدى محند مثلما كان ارتداد أبيه عن الإسلام، وارتباط الإسلام عنده وعند غيره من إخوته البربر بالنضال ضد الاستعمار، فالبربري مناضل شرس إذا ما تعلق الأمر بوطنه وبدينه، ومن أجل الإسلام كان محند يعشق العربية التي لم يكن يتقنها تمامًا ويتقن تلاوة القرآن كما لو كان دارسًا له وعالمًا فيه وفقيهًا من فقهائه، ومن أجل لغة القرآن سمى ابنه الأكبر "العربي".

* * *

تقديس العربية لدى البربري كما هو لدى العربي نابع من تقديس القرآن وكذلك تقديس معلم العربية تحت معاني عدة أولها تنزيهه عن كل ما هو منكر في ظن الجزائري والمنكرات الدينية كثيرة أهمها شرب الكحول، هذا الشرب الذي كان بعض الجزائريين يتعاطونه دون أن يمنعهم ذلك من الصلاة مثلاً ولكنهم كانوا يستنكرونه أشد الاستنكار إذا ما رأوا معلمًا للعربية أو سمعوا أن معلمًا للعربية يتعاطاه لأنه كان يعتبر بعيدًا عن التصور أمر كهذا، وغير معقول أن يقبلوا من واحد يجلونه ارتكاب مثل هذه "المعصية" التي هي مقبولة عند غير معلم العربية لأنه صغير في ظنهم وضعيف ويمكن أن يخضع لوسوسة الشيطان في ظنهم، أما معلم العربية الطاهر العالم، يسمونه الشيخ وأحيانًا الطالب لأنه طالب علم والعلم دين عندهم، فمن المستحيل أن يكون صغيرًا وضعيفًا. كل هذه المقدمة كي أعود إلى صديقي مُحَنْد عندما جاءني ذات يوم غاضبًا لأن زملاء عراقيين لنا كانوا يشربون البيرة في المقهى على مرأى الجميع، لم يكن باستطاعته فهم أن معلم العربية يمكن أن يكون شيوعيًا أو أن يكون مسلمًا دون أن يكون متزمتًا أو لا هذا ولا ذاك، حاولت أن أشرح له أن لا شأن هنا للعربية كلغة مقدسة في مفهومه، وحتى هندي مجوسي بإمكانه إذا ما أتقن العربية أن يكون معلمًا لها وحسب طرق بيداغوجية تتفوق ربما على طرق معلم مصري أو فلسطيني أو سوري مثلاً، أبى أن يفهم، فقلت له إن بعض الفدائيين في لبنان كانوا يشربون الخمر ثم يذهبون إلى الجنوب في عمليات ليموتوا شهداء، أبى من جديد أن يفهم، فالمثل الأعلى لديه المتمثل بلغة القرآن كان أقوى من المثل الأعلى المتمثل بقضية غالية كتحرير الوطن أو الذود عن حياضه، وهكذا أساء بعض المتعاقدين وخاصة بعض العراقيين الكثير للعربية ولنا مقابل كأس بيرة كان يمكنهم أن يأخذوها بعيدًا عن الأنظار احترامًا للعربية ولمشاعر الناس.

* * *

محطتي الثالثة في الجزائر كانت مدينة الِمْدِيَّة من مدن جبال الأطلس الجبال التي احتضنت الثورة والثوار والتي كان المستعمر الفرنسي يخشاها لأنه لم يكن يعرف مسالكها كأبنائها، فأحرق أحراجها، وسقى ترابها بدم المجاهدين كما كان يدعى الثوار آنذاك ليرى القارئ حتى مقارعة المستعمر تأخذ منحى ديني وليس اللغة العربية فقط ككل شيء يتعلق بهوية الإنسان في الجزائر. كان الصعود إليها بالسيارة طويل ومتعرج يذكرني بصعود جبل العارضة عند ذهابي من نابلس إلى عمان، وكان بائعو التين أو العنب ينصبون عرائشهم للمسافرين ويعرضون ماءهم المثلج المحفوظ في جرار الخزف كما هي العادة عندنا، وقد وجدت أن عادات أهل المدية في دينهم ودنياهم تشابه الكثير من عاداتنا نحن في نابلس، وأكلهم يشابه أكلنا، وكذلك لباسهم، وجمال بناتهم وأبنائهم، فقد تعاقب على المدينة من السكان والبشر الشيء الكثير مما جعلني أفكر في أنساب فلسطينيين لنا كانوا قد جاؤوا هذه المدينة الشماء. ولقد فاجأني الناس أول ما حططت الرحال في المدينة بأشهى الطعام وأطيبه، أحضروه لي في أوعية فخارية هي من الصناعات التقليدية للمدية، وقد أهداني مفتش التعليم مطرزات يدوية حريرية لم تزل زوجتي تحتفظ بها كانت أيضًا من صناعات هذه المدينة الجبلية المشرفة على البحر وعلى الصحراء في آن واحد، فمن ناحية هناك الجزائر العاصمة التي لا تبعد عنها كثيرًا ومن ناحية هناك مدينة المسيلة، أحد أبواب الصحراء، المشهورة برمالها الحمراء. وما شد انتباهي وأنا أتجول في أزقتها كثرة الحمامات فيها تمامًا كنابلس، ولكن ما تختلف عن نابلس فيه أن حماماتها أنشئت إلى جانب ينابيعها الطبيعية الوفيرة، وكانت في ذلك آية من آيات المدن السياحية إلى جانب هوائها النقي، ولكن مع الأسف لم يستغل النظام كل هذه النعم والخيرات لا محليًا ولا عالميًا وترك المدينة وأهلها لعنادهم وتمردهم يعانون من الفقر والحرمان، مما دفعهم إلى الانطواء على أنفسهم، واللجوء إلى الدين لجوء المتزمتين، وهذه حال سكان مدينة نابلس مرة أخرى.

أود الحديث عن ثلاث تجارب لي أثناء إقامتي في مدينة الِمْدِيَّة طُبعت في ذهني ولم تزل إلى اليوم، سأبدأ بالأولى لغرابتها الأكثر من أختيها فالثلاث تجارب كانت غريبة. بصفتي أكبر المتعاقدين سنًا، جاءني مفتش التعليم ذات يوم، وهو متردد خوفًا منه على مشاعري، وكشف لي بعد أن طالت جلسته عندي في الفندق إذ كنت أستأجر غرفة صغيرة فيه لأن زوجتي وأبنائي كانوا يعملون في الجزائر العاصمة ولم يكونوا معي، أن أحد المعلمين الفلسطينيين، وهو شاب خجول ودمث الأخلاق وحسن السيرة، قد هرب مع إحدى تلميذاته لا يدري أحد أين، فهو قد سبق له وطلب يدها من أبيها، لكن أباها لم يلب مطلبه لأنه مشرقي لن يبقى في الجزائر، وذات يوم سيعود إلى بلده مصطحبًا زوجته وأولاده معه بعيدًا عن أبيها وذويها والبلد الذي ولدت فيه، والأب لن يستطيع احتمال هذا الفراق، والأخطر من كل هذا أن الأب عندما علم أن ابنته تحب معلمها، أقسم أن يذبحها إذا وضعت قدمها في المدرسة ثانية، مما اضطرها إلى الهرب مع الشاب الفلسطيني. أخبرني المفتش أنه قام بدور الوساطة دون أن يطلب منه أحد أن يقوم بها وذلك من أجل شرف البنت وسمعة معلمي العربية واحترام الناس الذين هم في معظمهم قبائل بربر للعربية، وكان هدفه ألا يصل الأمر إلى أقوياء الوزارة في العاصمة، فيطردون كل المتعاقدين عقابًا على "جريمة" لم يرتكبوها، وقد كانوا بالفعل قادرين على ذلك لا الخيار العروبي الذي يتبجحون به ليل نهار يمنعهم ولا حدبهم على فلسطين والفلسطينيين، وعند الأب حاول أن يفهمه أن هذا المعلم الفلسطيني الشاب لن يعود إلى بلده، فلسطين محتلة، وهو لا بلد له، وبلده بعد زواجه سيكون الجزائر أضف إلى ذلك أن جهاز التعليم بحاجة إليه وإلى أمثاله لعشرات السنين وكل هذا الجهل بالعربية الذي كان يرزح تحت وطأته صغار الجزائريين وكبارهم، لكنه لم يفلح في إقناعه. طبعًا علمت بمكان الهاربين من صديق للشاب بسهولة، فقد كنت محسوبًا على الجميع، وكانت المفاجأة عندما ذهبت إلى الالتقاء بالهاربين وجود شاب فلسطيني معلم هو الآخر في قرية نائية وهارب هو الآخر مع تلميذته، أخبرني الأربعة أنهم تزوجوا، فالبنتان على الرغم من وجودهما في مدرسة ابتدائية كانتا بالغتين، القانون معهم، وهم مستعدون لكل شيء، ولم يستبعدوا التضحية بكل شيء حتى بأنفسهم في سبيل البقاء معًا. خرجت من عندهم إلى الوالي، فالأمر قد تعقد كثيرًا، ولن يحله إلا من هو بمكانة وثقل الوالي، فإذا أقنعته وقف إلى جانب الزوجين التعيسين وفرض الأمر الواقع على أهل البنتين ووالديهما، وكان الحظ حليفي، فما أن شرحت المسألة للوالي حتى سأل "أليس الشابان عربيين؟" قلت بلى، "أليس الشابان مسلمين؟" قلت بلى، وفي الحال قام معي، وذهب بي إلى المفتشية في سيارته لاصطحاب المفتش معنا لدى الأبوين اللذين رأيا في الوالي ينزل عليهما في عقر دارهما نزول النبي، ونزلا عند رغبته وإرادته.

* * *

التجربة الثانية سياسية، إذ أتاني ذات يوم عدد من معلمي المدن الصغيرة في دائرة الِمْدِيّة يشكون عدم وعي الناس بقضية القضايا التي هي القضية الفلسطينية ويلقون بالذنب على أكتافنا نحن الفلسطينيين الذين لم نعمل على تثقيفهم وقالوا الكل يحترمنا كرواد للعربية ويصغي إلينا وعلينا أن لا نكتفي بالنحو والصرف والحساب خاصة وأن الجو "الثوري" غداة الاستقلال كان في صالحنا، اقترحت أن نوجه دعوة مفتوحة لكل من يرغب الحضور إلى لقاء في قاعة الأفراح التابعة للبلدية يحكي فيها كل واحد منا طرفًا عن فلسطين والمأساة الفلسطينية، وعندما رفعنا الأمر إلى رئيس البلدية أجاب بالإيجاب واقترح بدوره أن نفتح صندوقًا للتبرع من أجل الفدائيين والعمل الفدائي كما كان الأمر مع الثورة عندنا، فاستحسنا الفكرة، وحددنا يومًا اتفقنا عليه، وتفاجأنا بجمهور واسع لم تكفه القاعة، حكيت له عن جذور المأساة الفلسطينية ونضالات الشعب الفلسطيني، بينما كنت أرى على الوجوه التأثر بما أقول، والانفعال إلى حد البكاء أحيانًا، وكأني بأهلنا في نابلس أو دمشق أو القاهرة، كانت القلوب واحدة، وبدا لي أن القضية الفلسطينية لمن يعرفها ولمن لا يعرفها غالية على قلوب الجميع... كل شيء جرى كما كنا نأمل من هذا اللقاء التثقيفي، وعندما طلب رئيس البلدية من الحضور التبرع لإخوانهم الفدائيين والفلسطينيين في مخيمات الذل والحرمان تسابق الكل إلى تقديم أكثر مما يمكنه تقديمه، وذهب الأمر ببعض النساء إلى التبرع بأسورة ذهبية أو خاتم فضي أو سلسلة عزيزة على نفس صاحبتها، كل هذا جميل، وتفارقنا على أن نلتقي من جديد، إلى أن وصلنا خبر مفاده أن أفراد مكتب منظمة التحرير في الجزائر قد توزعوا "الغنيمة" فيما بينهم بناء على طلب من أبي عمار.

* * *

تجربتي الثالثة في مدينة الِمْدِيَّة الحبيبة توأم مدينتي الحبيبة الأخرى نابلس تجربة شخصية، تجاربي الشخصية عديدة ومتنوعة وغريبة، ولكن هذه من أغربها وأهمها وأعمقها في نفسي، نفسي اليائسة التي رأت في القضية الفلسطينية قضية ميتافيزيقية لا يمكن حلها أبدًا وفي الفلسطيني عوليسَ جديدًا يشق البحار من رمل وماء في مغامرة أبدية دون أن يصل أبدًا إلى مبتغاه، ونفسي الآملة التي تجري لاهثة وراء الرجاء دون أن تلحق به أبدًا ولكنها واثقة من العودة يومًا ومن التحرير والعيش الحر في وطن حر، كانت الجزائر لي وطنًا، فأنا لم أشعر يومًا واحدًا برفض الجزائري لي، ولأنني كنت في وطني الجزائر تصرفت وكأنني في وطني فلسطين، فذهبت أخطب محروسة زمنها "كنزة"، إحدى تلميذاتي، من أبيها مفتش التربية والتعليم، لأحد أبنائي، الحكاية لم يعرف بها أحد لا أبنائي ولا حتى كنزة نفسها، فقد تم الأمر بيني وبين أبيها، والدوافع النفسية الأخرى كانت عديدة ومتنوعة وغريبة، أولها جمال كنزة صاحبة الشعر الأصفر والعينين الخضراوين مثل فتيات قريتي البعيدة النائية برقة، وكأنها كانت إحدى بناتي أو أخواتي اللواتي تركتهن ووجدتهن بعد سنوات طويلة من الغياب، وكأنها كانت أمي التي تشبهها شبهًا كبيرًا والتي أبعدتني عن أخي القاسي المتسلط كما سبق لي وقلت إلى حيفا خوفًا عليّ منه، ومنذ ذلك اليوم لم أرها، ماتت ولم أرها، وكنت قد وجدت في كنزة فلسطين ذاتها، بذكائها وحسن أخلاقها وكرمها وحنوها وعطفها وحدبها، فكم كانت تلك البنت تحدب عليّ وتحترمني أستاذًا ووالدًا ثانيًا بعد والدها، كانت كنزة العهد الذي قطعته على نفسي والوعد الذي أعطيته لغيري، كانت شيئًا من المعرفة أيضًا، معرفة النفس ومعرفة الكتاب ومعرفة العالم، ولكن ذات يوم، وكأن هذا قدر الفلسطيني في مأساته التي تطارده أينما حل حتى في حلمه الذي كانته كنزة بالنسبة لي، أتاني أبوها يبكي ويذرف مر الدمع، وأخبرني أن الغالية كنزة قد توفيت في حادث سيارة سقطت من هضاب الأطلس أودت بحياتها.

* * *

محطتي الرابعة في الجزائر مدينة أندلسية تبعد عن الجزائر العاصمة أربعين كيلومترًا وتقع في الغرب منها اسمها القليعة، وهي من اسمها الذي هو تصغير للقلعة توحي لك بجوها الموريسكي بناءً وجنانًا وتاريخًا قديمًا حمل في طياته كل تاريخ الأندلس، وهي منذ أسسها بربروس بقليعتها التي لم يعد موجودًا منها اليوم سوى أثر بعد عين كانت أشبه بمملكة من ممالك الطوائف، وكانت من التمدن بحيث نهضت فيها حرف مهنية عديدة كصناعة الجلد والنحاس وغيرهما لم تزل فيها إلى اليوم، أما انتقالي إلى القليعة فقد كان مؤقتًا قبل إقامتي النهائية في الجزائر العاصمة بسبب عدم وجود مناصب شاغرة في وزارة التربية والتعليم، أضف إلى ذلك أن كرسي المعلم الذي أعطي لي فيها كان في مدرسة عسكرية لأبناء وبنات عساكر المنطقة من جنود وضباط وجنرالات، لهذا كان لي من الامتيازات ما كان لهم، شقة مريحة وراتب مرتفع وجندي يقوم بشراء ما أحتاج إليه وحتى سيارة عسكرية أراد قائد المنطقة أن يضعها تحت تصرفي لكني رفضت، وكانت دعوتي إلى حفلاتهم بالمناسبات الوطنية وغير الوطنية كثيرة لكني كنت أفضل عدم الاختلاط بالعساكر، وعندما كان بومدين في أحد الأيام عابرًا لم أذهب للسلام عليه، كان الجو على الرغم من كل الرفاهية ثقيلاً ومغمًا فهو يبقى جو الجيش، وكان الجيش كل شيء في الجزائر، لم يكن هو للجزائر كانت الجزائر له، إنه شعور الفاتح الذي كانت الثورة تغذيه في نفوس أبنائها، والذين أصبحوا فيما بعد عساكر البلد، ومن هذه الناحية سلبوه كل ثرواته، الغنيمة التي كانت تعود للفاتح حسب العقلية العسكرية في جزائر ما بعد الاستقلال.

* * *

يقال إن كل العواصم تتشابه وإن كل البحار واحدة بينما الجزائر العاصمة درة من الدرر التي لا شبيه لها وبحرها غير ذينك البحار، فأنا خبير بالبحار، نشأت في حيفا وعملت في يافا ورأيت بحر بجاية وبحر وهران وبحر بيروت وبحر الإسكندرية وبحر العقبة وبحر أثينا وبحر الشاطئ الأزرق، بحرها حاضر أينما ذهبت في شارعها الرئيسي العربي بن مهيدي، تجده دومًا إلى جانبك عبر شوارعه الفرعية وكأنه رفيقك، وأينما طوفت بناظرك تجد أزرقه وذهب أزرقه يشيران إليك، ويدعوانك، فلا عجب أن يكون المستعمر الفرنسي قد قاتل بجيوشه الجرارة كيلا يترك عاصمة الجبل والبحر، فللجزائر جبل شامخ يحميها من العواصف والأساطيل، فيه بنيت أجمل الفلل وأجمل القصور، ولكن أجمل ما في الجزائر العاصمة هو شعب العاصمة، أناسه كلهم شرف ومروءة، من فئاته العليا إلى فئاته الدنيا، وقد كان من حظي أني خالطت فئاته الدنيا وصاحبتها ونعمت بهذه الصحبة، فقد علّمت في مدارس ومعاهد عدة كان أولها في حي شعبي شهير اسمه باب الواد، وكان بالتالي سكناي فيه، وبقي سكناي فيه لعشرات السنين، وكان لي بالتالي عشرات الأصدقاء والأحباب، وكانت لي بالتالي الكثير من الذكريات التي طبعت حياتي وصنعت روحي، وغدوت لهذا ذا روحين روح فلسطينية وروح جزائرية هما في نهاية المطاف روح واحدة، أصبحت معاناة الجزائريين معاناتي كفرحهم الذي أصبح فرحي، وقد كانت المعاناة الوطنية كبيرة والفرح الشخصي كبيرًا أيضًا بسبب عظمة هذا الشعب الذي لا يخضع للعذاب وبكل قوته وإرادته يسعى إلى تغيير حياته، حتى في قمة المحنة العشرية التي مرت بالبلاد كان أمل البسطاء هو الطاغي، وهو أمل جُبل عليه الجزائري في دمه، وقد حاول النظام في شتى مراحله أن يستغل في الجزائري حتى أمله وحلمه وكل أمانيه، وأنا هنا لن أتطرق إلى تفاصيل هذا الاستغلال التي يعرفها الجميع، ولكني سأتوقف في محطات حكامه محطة محطة، عند نهايات حكمهم، فالبدايات لا تهم بقدر النهايات، وسألقي الضوء على ما خفي منها.

* * *

بن بللا كان محطة عابرة من محطات تاريخ الجزائر ولكن أساسية في توازن القوى لصالح العساكر، لصالح بومدين، يكفي أن نقف على السهولة التي نقل فيها هذا الأخير كل السلطات التنفيذية إلى ما بين يديه ليصبح دكتاتور الجزائر بلا منازع، وفي اللحظة التي انتهى فيها الصراع في الداخل بدأ الصراع مع الخارج، فالاستقلال مقيد بجملة من الشروط المجحفة أهمها نهب ثروات البلاد والسيطرة على الاقتصاد بعد جعله وقفًا على فرنسا والغرب، فحاول بومدين الالتفاف على اتفاقات أيفيان وذلك بالقيام بثورة زراعية تحرر الجزائر من تبعية تصدير النبيذ الجزائري لفرنسا، لكن اقتلاع الكروم وزراعة البطاطا في مكانها لم يعطيا ما كان متوقعًا ما كان يرمي بومدين إليه من استقلال السوق والتقليل إن لم يكن عدم الاعتماد كاملاً على الاستيراد الزراعي وباقي الاستيرادات الفرنسية واحدًا واحدًا، لكن مشروع بومدين وبالأحرى ثورته اصطدمت بنظام الثورة نفسه الذي يدلل الفلاح ويفسد كل الآلة الإدارية التي تديره، ومقابل هذا الفشل الداخلي الذريع حاول بومدين التحرك عربيًا وإفريقيًا ليقود عربيًا وإفريقيًا وعن طريق ثورة في السياسة الخارجية أن يضغط على فرنسا والغرب ويخفف من وطأة شروط الاستقلال وعبء اتفاقياته، فكان مشروع الاتحاد المغاربي الكبير الذي نجح الغرب في إفشاله، وكان مشروع اتحاد الدول الإفريقية الذي بقي متوقفًا على الاستعمار رغم الدور القيادي والتأسيسي البارز لبومدين، لهذا من يعزو "مصرع" بومدين –مرضه المفاجئ الذي أدى إلى موته- إلى الدور السياسي الخارجي اللامع لبومدين لهو مخطئ لا ريب، لأن هذا ما كان إلا لذر الرماد في العيون أمام السبب الحقيقي الذي هو الغاز والبترول واللذان أرادت أمريكا أن تكون لها حصة فيهما، فكيف يقبل بومدين بأمريكا وهو لا يقبل أساسًا بفرنسا، فكان ما كان، وهو في قمة مجده وجبروته.

* * *

كان الشاذلي بن جديد شخصًا مجهولاً لا يعرفه أحد من غير العسكر وبعض الناس المتمكنين مثل صديق فلسطيني قديم لي كان معلمًا في مدينة وهران ثم تحول فغدا مقاولاً هامًا عندما كان يمر الشاذلي بن جديد به وهو في سيارته كان يحييه تحية الإجلال والإكبار، ومجيء هذا الجنرال المجهول الضعيف من وهران كقائد لها إلى العاصمة كرئيس للجزائر مضى بالسفارة البريطانية التي كانت تمثل المصالح الأمريكية لتأزم العلاقات وقتذاك بين بومدين والبيت الأبيض، فكتبوا له فيها خطاب الصعود على العرش، وهذا طبعًا بعد أن تم ترشيحه من قبل الجنرالات الآخرين نَزّار والعَمّاري ومحمد مِدْيَن وغيرهم من الذين كانوا يمثلون عصبة الأقوياء في الجيش وفي النظام والذين كانوا يريدون شخصًا لا شخصية له على رأس الدولة كي تسير أمورهم كما يريدون لها السير، وأمورهم هنا هي نهب أموال وثروات البلد من غاز ونفط وغيرهما واقتسامها مع الشركات الأجنبية وخاصة الشركات الأمريكية، وحسب هذه القاعدة قاعدة اقتسام الغاز والنفط تم التخلص من بومدين وتم اختيار كل رؤساء الجزائر اللاحقين لبومدين، وقد كانت مهمة الشاذلي بن جديد هنا أن يتخلى عن هاتين الثروتين أو ما تبقى منهما، وهو الكثير، بعد أن أخذت فرنسا حصتها منهما ثمنًا للاستقلال، وأن يكون التخلي لصالح الأمريكان، لهذا جيء بسِيد أحمد غُزالي رجل شركة سوناطراك القوي شركة النفط والغاز إلى رئاسة الوزراء ليبيع للأمريكان لعشرات السنين القادمة حقول النفط والغاز وحقوق التنقيب عنهما، لكن ما لم يكن يتوقعه العسكر التفاف الناس المغدورين والمقهورين حول جبهة "الفيس" الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقيادة عباسي مدني، فكان نجاح الجبهة في الانتخابات النيابية تهديدًا مباشرًا للجنرالات والأمريكان على حد سواء، والكل يعرف كيف ألغى العسكر هذه الانتخابات وكيف فجر العسكر الوضع لصالحهم على حساب عشرات آلاف الضحايا وكيف اختلق العسكر عصابات قال عنها إسلامية ارتكبت من الشناعات ما ارتكبت لينفك الناس عن "الفيس" ونجح العسكر في ذلك، وبينما كان البلد ينزف كان النفط والغاز يصلان إلى طِيَّتهما، بفضل سياسة التأزيم التي بلغت القمة باستقالة رجل الجزائر الضعيف الشاذلي بن جديد، هذه الاستقالة التي تمت صياغتها في السفارة البريطانية تمامًا كما تمت صياغة التولية، كل ذلك بفضل سياسة التأزيم، هذه السياسة التي لم تَخِفّ قيد أنملة بعد أن أتى العسكر بمحمد بوضياف من المغرب رئيسًا.

* * *

عندما تمسك طرف الحقيقة يمكنك تلخيص التاريخ بسطور!
السلطة في الجزائر لمن كانت له السلطة على النفط، هذه هي كل الحقيقة، وعندما أتى الجنرالات بالراحل محمد بوضياف رئيسًا كانوا يهدفون من وراء ذلك التغطي بشخصية تاريخية ولم يتوقعوا أبدًا أن تنقلب هذه الشخصية عليهم بعد أن فتحوا لها أبواب قلعة الحكم على مصاريعها، لأن بوضياف بدأ بتصفية الصغار من اللصوص ولم يكونوا من العسكر وكانت الخطوة الأولى التي قابلها الجنرالات بالفعل ذاته عندما صفوا بدورهم بعض المقربين من الرئيس، ولما أحسوا بوقوف الناس إلى جانب بوضياف وبرجحان كفة الميزان لصالحه صفوه وأتوا بواحد منهم بعسكري أضعف من الشاذلي بن جديد اسمه الأمين زروال وتهكما كنت أدعوه الأمين سروال، لكن أمر هذا الرئيس المُخاط حسب المقاس لم يكن يغطي اللصوص كما كانوا يأملون، فبحثوا عن لص مثلهم وشخص تاريخي مثل بوضياف وجدوه في عبد العزيز بوتفليقة، وتمت الصفقة بنجاح، لهذا تتجدد العهدة بعد العهدة لرجل العساكر لأنهم راضون عنه، وما يجري من خزعبلات تغيير القوانين وغيره ما هو سوى ضحك على الذقون. لكني قبل أن أغلق هذا الملف السياسي، أود التنديد بمواقف الغرب المتواطئ مع الجنرالات من كل ما جرى ويجري في الجزائر، إلغاء الانتخابات، الحرب العشرية، الفساد، الإفساد، القهر السياسي والدحر الاجتماعي، إلغاء الحريات، التفرد بالقرار... إلى آخره، وفي هذا المقام أود القول إن سلطة الجنرالات ما كانت لولا دعم الغرب لها، وهناك القليل ممن يعلم أن الجنرالات أثناء معركتهم الحاسمة مع جبهة الإنقاذ قد أرسلوا أسرهم وأموالهم إلى تونس وفرنسا وسويسرا وحتى إلى أمريكا، فلم يكونوا متأكدين من انتصارهم على الحركة الشعبية التي كانت تعارضهم إلا بعد أن قالت فرنسا كلمتها وأمريكا كلمتها وكل الغرب كلمته وكل العرب كلمتهم في ذبح هذه الحركة وحرق البلد مقابل أن يذهب النفط وأخوه الغاز إلى خَزّانات باريس وبرلين ولندن ونيويورك، أما الأنكى من كل هذا ما يقال عن عهد الجنرالات إنه انتهى بموتهم أو بتقاعدهم والمقصود هنا العجائز الذين توفاهم الله أو المتقاعدين منهم وكأن النظام نفسه هو الذي تقاعد أو مات، النظام باق إلى الأبد، وتحويل بوتفليقة إلى بطل بعد أن وضع حدًا لهيمنة العسكر كما يراد من الشعب الجزائري ابتلاعه ما هو سوى صورة وهمية من صور حكم عسكري دون قبعة أو دون حذاء.

* * *

على أثر إلغاء عقدي وعقود عدد من الزملاء المعلمين والمعلمات بسبب كبر السن وعدم إعطائنا حق التقاعد الذي تعطيه سائر الأمم لموظفيها اتجهت وصحبي إلى مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الجزائر نشكو وزارة التعليم الجزائرية التي ألغت العقود، وقد قوبلت ومن معي بجفاء وعدم اهتمام، ولما رأيت إعراض رجال مكتب المنظمة عن مشكلنا كتبت بواسطة المكتب رسالة إلى الأخ ياسر عرفات طلبت فيها مقابلته عند مجيئه إلى الجزائر، وقد جاء مرات ومرات، وكلما اتصلنا بالمسؤولين نسأل عن الرسائل التي توجه إلى الأخ أبي عمار نسمع جوابًا واحدًا "أبو عمار مشغول ولم نستطع تسليمه رسائلكم". سمعت هذا الجواب على مدى عام أو يزيد، بحثت عن السبب، فقيل لي لأنكم جميعًا من الضفة ولو كنتم من القطاع لوصلت رسائلكم إلى ياسر عرفات في أول يوم يحل فيه في الجزائر! كانت إذن سياسة فرق تسد التي يعرفها الجميع. راسلت رئيس المجلس الوطني الشيخ عبد الحميد السائح، وطالبته برفع مشكلي ومن معي إلى الأخ ياسر عرفات، ولم تمض إلا أيام قلائل حتى جاءني رد الشيخ السائح يطلب مني الذهاب إلى الأخ منذر الدجاني "أبو العز" مسؤول المكتب واستلام ألف دولار أمريكي أمر أبو عمار بصرفها لي كمساعدة عاجلة، وبناء على رسالة الشيخ السائح ذهبت وقابلت الأخ أبو العز وسلمته رسالة رئيس المجلس الوطني، ورغم اطلاعه على ما جاء في الرسالة حاول إنكار وصول الألف دولار، وقفت بعد أن قلت سأعود إلى الشيخ السائح، وإذا أحوج الأمر سأذهب إلى تونس لمقابلة ياسر عرفات أو فاروق القدومي، وعند سماعه ما قلت تراجع واعترف بوصول الدولارات الألف، وطلب مني الانتظار حتى يعود المحاسب الذي ذهب في مهمة خارج المكتب، انتظرت عودة المحاسب إلى مكتبه وعند وصوله طلبت منه الألف دولار، فأنكر هو الآخر وصول أي مبلغ مالي باسمي، وبينما أنا في جدال معه استلم ورقة صغيرة جاءته من مكتب منذر الدجاني، وما أن قرأها حتى تبدلت لهجته، وقال لي وقّع على هذا الإيصال واستلم المبلغ، وقعت واستلمت الألف دولار، وعندما عدت إلى مكتب أبي العز لأقول له استلمت الدولارات المرسلة إليّ عن طريق المجلس الوطني الفلسطيني بادرني قائلاً: ليس من رأيي إعطاءك ومن معك من المعلمين الشيوخ الذين ألغيت عقودهم هذا العام مساعدات مالية حيث أن شباب الانتفاضة أحق منكم بالمساعدة! وما كدت أسمع قوله حتى أجبته: ولماذا أنت طلبت من ياسر عرفات للأخ درويش الوزير الذي ألغي عقده يوم ألغيت عقودنا رواتب شهرية، يبدو أنك اعتبرت الأخ درويش من شباب الانتفاضة لأنه شقيق انتصار الوزير؟ أنت لا صلة لك بالانتفاضة، ولا تعرف عن الانتفاضة شيئًا، وحبك للانتفاضة لا يعني أن يعيش المنتفضون ونموت نحن لأننا خارج الانتفاضة، وإذا كنت مع الانتفاضة حقًا تبرع براتبك الشهري أو بشيء منه لشباب الانتفاضة، فإذا فعلت ذلك كنت مع الانتفاضة لا عليها وساهمت في إطالة عمرها! ومن ثَمّ مد يده إليّ مودعًا وداعيًا لي بطول العمر. وما أن تخطيت باب مكتبه حتى قالت لي نفسي"لعنة الله على هذا الزمن الرديء الذي جاد علينا بأناس يتصرفون بأمورنا وهم أكثر غباء من الدواب السائبة"، وتابعت سيري إلى الباب الخارجي فارًا من رؤية أبي العز ومن هم على شاكلته...

* * *

بعد عمل دام ربع قرن في حقل التعليم الجزائري ألغي عقدي وعقد زوجتي دون كلمة شكر واحدة من أي مسؤول جزائري، طبقوا علينا قانون التقاعد من ناحيتهم ناحية كبر السن ومن ناحيتنا لا شيء على الإطلاق لا حق التعويض ولا حق التقاعد الشهري ولا حق السكن ولا حق الإقامة ولا حق التحويل ولا ولا، رمونا كما يرمون العظم لكلابهم ونحن كفلسطينيين لو كانت لنا بلد لعدنا إليها في الحال ولما جئنا منذ الأساس نعلم ونربي الأجيال في بلد أخرى ليكون مصيرنا الجحود والنكران. ولكني كما هو دأبي لم أسكت ولم أستسلم ما دمت صاحب حق وصاحب الحق صامد دومًا أمام الصعاب لا تزعزعه العواصف ولا تفزعه الليالي الدامسات. كتبت وأبرقت وتلفنت لكل رجال الدولة من رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد مرورًا برئيس الوزراء عبد الحميد الإبراهيمي ووزير الخارجية أحمد طالب الإبراهيمي ووزير الشؤون الدينية باقي بوعلام ورئيس المجلس الوطني الشعبي رابح بيطاط ووزير العدل محمد الشريف خروبي و... و... وانتهاء بأهمهم الأمين العام للحزب بالوكالة إذ كان الشاذلي بن جديد رئيسًا للجمهورية وأمينًا عامًا للحزب، وأحمد بن عبد الغني الوكيل وبصريح العبارة الأمين العام الفعلي إذا عدنا إلى الحقيقة، ولم يجبني أحد اللهم سوى السيد رمضان أحد مستشاري رئيس الجمهورية الذي استدعاني لأقص عليه قصتي وليرفعها بدوره لرئيسه، وقرصنة بوليسية عندما داهم رجال المخابرات بيتي ليلاً وأنا نائم والجزائر كلها تنام واقتادوني للتحقيق في أقبية مبنى الأمن الوطني. لن أدخل في التفاصيل ولكن كل هذا زادني عزمًا وإصرارًا على مواصلة الجهد والتحرك من أجل تغيير هذا القانون الجائر بحق المتقاعدين الفلسطينيين خاصة والأجانب عامة، وليعلم القارئ أنني قنبلت ياسر عرفات وكل أعوانه والقيمين على مؤسساته برسائلي دون أدنى رد فعل أو جواب وأنني أغرت على قصور الرؤساء والملوك العرب دون أن أصيب الهدف وكان هدفي عدل الجيف الميتة التي تحكمنا وكم كنت مخطئًا، وقبل أن أنقل للقارئ نص إحدى رسائلي إلى الأمين العام للحزب بالوكالة والتي تلخص معركتي مع النظام الجزائري، أود أن أقول له إنني نجحت والحمد لله أخيرًا في مسعاي بعد أن لجأت إلى القضاء الجزائري واضطر النظام إلى تعديل قانونه بخصوص المتقاعدين الأجانب كلهم لا الفلسطينيين وحدهم، فكان لنا ما للجزائري من مرتب شهري هو صغير حقًا لكنه كاف للعيش بكرامة مع سكنى ندفع لها إيجارًا معتدلاً وحق الإقامة.

* * *

التاريخ: 30/8/1987
الاسم: أمين القاسم
العنوان: باب الواد – الجزائر العاصمة

سيادة الأستاذ أحمد بن عبد الغني الأكرم
سيدي،
بعد عمل شاق في حقل التعليم الجزائري دام اثنين وعشرين عامًا تلقيت من وزارة التعليم الموقرة إشعارًا فيه نبأ إلغاء عقدي وعقد زوجتي بحجة كبر السن – فشكرًا على الإلغاء – ولكن كبار السن في جهاز وزارة التعليم كثر غير أنهم لم يمسوا بسوء لأن من ورائهم رجال أقوياء يساندونهم ويحمونهم، وقد تمنيت أن أكون واحدًا منهم، وفي الحال تبادر إلى ذهني كيف أعيش وزوجتي على أرض العرب المملوءة بالغرائب والعجائب والمتناقضات، وقد بلغنا من العمر أرذله، لا وطن لنا نأوي إليه، ولا مورد روق يقينا شر الأيام بعد أن أغلقت جزائر الأحرار في وجهنا باب العمل الذي مارسناه أعوامًا طوالاً، ولم توفر لنا من الحقوق أقلها إلا وهو حق التقاعد. وهنا تخيلت أن طعامنا سيكون في المستقبل تصاريح وخطب القادة عند تبادل الزيارات، وأن لباسنا سيكون شعارات ومزايدات يرددها الملوك والرؤساء في المناسبات. وبينما أنا في صراع مع نفسي، فكرت في شرح مأساتي لبعض رجالات الدولة الجزائرية بصفتي فلسطينيًا ضائعًا في أرض الضياع، أرض العرب، فوجهت رسائلي إلى السادة الأفاضل، والذين هم أكثر ترديدًا لمقولة "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، لا من أجل إعادتي وزوجتي إلى العمل بل من أجل الحصول على حقوقنا المهضومة التي لم يعترف بها الحاكم الجزائري، وكانت رسالتي الأولى إلى:

1- عبد الحميد إبراهيمي:

السيد عبد الحميد إبراهيمي الوزير الأول والعضو الإضافي في المكتب السياسي، ولكنه مع الأسف الشديد لم يجب على الرسالة، والسبب واضح ومعروف وهو أن مرسلها لا يعرف أحدًا من معارف دولته، ولأن دولته رجل مناسب في المكان المناسب، وبعد أن يئست من طول الانتظار أدرت وجهي إلى:

2- رابح بيطاط:

السيد رابح بيطاط عضو المكتب السياسي ورئي المجلس الوطني الشعبي استكثر الإجابة، واكتفى بتحويل رسالتي إلى سلة المهملات أسوة بالرسائل الكثيرة التي تصله يوميًا من أفراد الشعب، ولو قال لي قائل: لماذا هذا الرابح يعامل الناس بهذه المعاملة غير الإنسانية لقلت على الفور وبدون تركك: لأنه ضامن الفوز برئاسة المجلس الوطني الشعبي. وعندما عرفت مصير رسالتي تحولت إلى:

3- أحمد طالب الإبراهيمي:
الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي عضو المكتب السياسي ووزير الشؤون الخارجية مضافًا إلى هذه الألقاب الضخمة لقب رئيس المساعي الحميدة المنبثقة عن وزراء جامعة الدول العربية، خاطبت معاليه برسائل متعددة، وأبرقت لمعاليه باللغتين العربية والفرنسية، ومع ذلك لا جواب ولا خطاب ولم يتنازل أن يأمر أحد أعوانه بالإجابة، عندئذ قلت معاليه رئيس لجنة المساعي الحميدة مشغول في لبنان... فتركته، وذهبت إلى الرجل الذي يوجه عباد الرحمن إلى أبواب الخير والإحسان:

4- بوعلام باقي:

السيد بوعلام باقي عضو المكتب السياسي ووزير الشؤون الدينية ورئيس بعثة الحج هذا العام الذي أجاب بعدم الجواب، أليس هذا الشعار مما تأمر به وزارة الدين في عهده، ولو سأله سائل عن وصول رسالتي إلى معاليه لأنكر معرفته بوصولها وبما احتوته من توسلات وتأوهات وتظلمات شيخ ظلمته الأيام حيث رماه الزمن رغم أنفه عند قوم أدعياء يقولون بأفواههم ويبطنون عكس ما يظهرون، ومن وزارة الدين انتقلت إلى:

5- زهور الونيسي:

السيدة زهور الونيسي عضوة اللجنة المركزية ووزيرة التعليم الأساسي أمطرت وزارتها بوابل من رسائل التودد والاستعطاف غير أن هذه المرأة التي تشبه القزم المتعالي لم تجب ولم تستجب، ولما تأكدت من حقدها عليّ وعلى كل فلسطيني يعمل في وزارتها، استعملت الهاتف عشرات المرات لعلي أعثر عليها في ديوان الوزارة، ومع ذلك فشلت في الوصول إليها، ولكن لكثرة اتصالاتي الهاتفية بالوزارة تكلمت صدفة مع كاتمة أسرار الوزيرة، والتي هي كما فهمت ابنة أخت صاخبة المعالي، ولما عرفت ذلك تبادر إلى ذهني أن عجرفة السكرتيرة من عجرفة الخالة الوزيرة، وزادني احد أعوانها علمًا بأن الوزيرة لا تعرف من شؤون وزارتها إلا استلام الراتب الشهري الضخم ومكافأة تنقلاتها بين الولايات وطبعًا إلغاء عقود الفلسطينيين كي يعودوا إلى فلسطين راكعين وساجدين لبني صهيون! لا غرابة أن تسيء زهور إلى المتعاونين المشارقة وهي التي أساءت من قبل إلى المعوقين أبناء وبنات الجزائر الذين كانوا يتلقون العلاج في مستشفيات أوروبا حيث أعادتهم وهم مرضى إلى الجزائر باسم تلقي العلاج في مستشفياتها، وعند عودتهم ألقت بهم في شوارع الجزائر، وأصبحوا منحرفين ومنحرفات، مما أساء إلى سمعة وزارة الحماية المدنية التي كانت تشرف على مقدراتها، وها هي السيدة زهور تسيء إلى وزارة التربية باتخاذها إجراءات صبيانية ضد المنخرطين العرب في سلك التعليم منذ الاستقلال عام 1962، ومن الونيسي إلى:

6- محمد الشريف خروبي:

السيد محمد الشريف خروبي عضو اللجنة المركزية ووزير العدل الذي توسمت فيه خيرًا حيث سبق أن عرفت معاليه أيام كان رجلاً عاديًا ومتواضعًا وموظفًا في مكتب حزب جبهة التحرير قسمة تيزي وزو، لا أنكر فضل الرجل في الماضي وحسن معاملته في الحاضر حيث أجاب على رسالتي، وطلب من أحد أعوانه السيد صالح نور سماع شكواي الذي سمع ما قلت بتأن وترو ومن ثم وعدني باسم السيد الوزير بحلها، وها هي الأشهر تمر على ذلك الوعد ولم نصل إلى الحل، ولا أبالغ إذا قلت إن السيد نور كان ينكر وجوده في الوزارة إذا حاولت الاتصال به على الهاتف، أما إذا ذهبت إلى رؤيته في مكتبه فيأتي الحاجب وبأمر منه معتذرًا عن مقابلتي لكثرة الشغل وعدم استطاعته مقابلة الزوار في أيام الزيارة مع أنه قابل الكثير من أصحاب الحاجات حتى إن السيد نور أخلف وعده حينما وعدني بقبول ولدي الحاصل على شهادة ليسانس حقوق جامعة الجزائر "بن عكنون" في دورة القضاة التي ستبدأ بعد ايام في الدار البيضاء، ومثله في ذلك صاحب المعالي الذي يكون مشغولاً كلما ذهبت إلى ديوانه في وزارة العدل، والعدل ضمير، والضمير عند العرب مفقود، ولما تأكدت من ذلك ذهبت إلى:

7- عبد العزيز خلاف:

السيد عبد العزيز خلاف عضو اللجنة المركزية ووزير المالية الذي أجاب على برقيتي وطلب من السيد بن سلامة دعوتي وسماع قصتي التي لخصتها للسيد بن سلامة حيث قلت: بما أن الجزائر لا تريدنا ولا تفي بحقوقنا، فقد قررنا الذهاب من منفى إلى منفى، وفرت وزوجتي من راتبي وراتبها الشهري لشيخوختنا خلال اثنين وعشرين عامًا القليل من العملة الجزائرية، وأريد من وزارة المالية تصريحًا بإخراج ما وفرت إلى المشرق العربي أو تحويل الأموال الورقية الجزائرية إلى أية عملة من العملات المشرقية، مثل العملة الأردنية أو السورية أو السعودية أو المصرية، وبهدوء وروية استمع الشاب بن سلامة إلى ما قلت واستوعبه، وفي النهاية قال: قضيتك لا أستطيع حلها، وسأنقل حديثك إلى رئيسي المباشر وعليك أن تنتظر الجواب. انتظرت وانتظرت وأخيرًا جاءني كتاب الوزارة مخيبًا لآمالي أي عدم السماح بإخراج النقد الجزائري ولا السماح بتحويله إلى العملات العربية المشرقية، وهما لا يسعني سوى أن أقول للسيد خلاف إن العامل الفرنسي في فرنسا وغير فرنسا من دول العالم يحمل ما سيجمع من أموال وينقلها بكل حرية وبدون تصاريح إلى بلده، وزيادة في الإيضاح أقول: إن فرنسا في عهد الرئيس جيسكار قد قررت إعطاء منحة مالية كبيرة لكل جزائري وغير جزائري يرغب في العودة إلى وطنه الأصلي، ففرنسا تريد التخلص من الأغراب بالترغيب لا بالترهيب كما هو حالي في الجزائر، ومن هنا سرت على قدمي حتى وصلت إلى:

8- العربي بلخير:

السيد العربي بلخير عضو اللجنة المركزية ومدير ديوان فخامة رئيس الجمهورية رجل معروف بين المواطنين بالرجل المتزن الهادئ، وقبل أن أوجه إلى سيادته رسائل وبرقيات الاستنجاد استبشرت بما سمعت من ثناء الناس على سيادته وثقة فخامة الرئيس بمدير ديوانه. وعلى الرغم من هذه الخصال والنعوت التي عرفها عنه المواطن الجزائري فإنه لم يتكرم بالإجابة على رسائلي وبرقياتي مما جعلني لا أصدق ما يقال بخصوصه، والتجربة محك الرجال، وعندما تأكدت من فشلي مع السيد العربي كتبت إلى:

9- الصادق زواتن:

السيد الصادق زواتن هو عضو الأمانة الدائمة للجنة المركزية والمكلف بمجلس الصداقة والتضامن مع الشعوب. في يوم من أيام الشتاء الباردة والماطرة، ذهبت إلى مقر الحزب للتشرف بمقابلة السيد الصادق زواتن، وبعد جلوس طويل في حجرة الانتظار علم السيد المسؤول عن الصداقة والتضامن بوجودي، ولما قرب دخولي إلى مكتبه دعا أمينة سره، وأمر بتحويلها إلى مساعده السيد مونسي. قلت لا بأس الرجل مشغول بمجلس الصداقة والتضامن مع الشعوب والزائر من صغار الناس، يسعده أن يلتقي بالسيد مونسي، ويرضى بمقابلة بواب مونسي، وعلى مسمع هذا المونسي الذي صار ينكر وجوده في المكتب كلما طلبته على الهاتف سردت قصتي من ألفها إلى يائها، فتظاهر أنه عرف كل شيء عني وعن حاجتي، وعلى طريقة أصحاب المقامات أمثال رئيسه السيد زواتن، وعدني خيرًا... وعند مغادرتي مكتب مونسي قلت: وصلت إلى ضالتي وقضيت حاجتي، واستعدت كل حقوقي التي في مقدمتها حق التقاعد وحق السكن وحق العيش بكرامة! وها هي الأيام تمر ولم أصل إلى الخير الذي وعدني به السيد مونسي، والأمر الذي أرغمني على العودة إلى زواتن لأسأله عن الخير الذي وعدني به مساعده مونسي، ولما كثرت زياراتي لمقر الحزب قال لي أحد الموظفين فتش عن رجل غير زواتن يعرف أقدار الناس، وزواتن هذا إذا وعد... وإذا تحدث... والسيد زواتن ظاهره حلو وباطنه كينين "شديد المرارة"، وعند سماعي ما فاه به الموظف الشهم سارعت إلى باب المصعد فارًّا حتى لا يراني زواتن ولا أراه، وعدت من حيث أتيت لأكتب إلى:

10- السيد قحموس:

حدثت نفسي فقلت سأكتب هذه المرة إلى السيد قحموس المدير العام لموظفي وزارة التربية والتعليم لعلي أصل إلى حقي بعد إلغاء عقدي وعقد زوجتي دون أي حق غير أن السيد المدير العام لم يتنازل ولم يتفضل بالرد على رسالتي. وبعد البحث عن هذا الإهمال، تبين لي أن السيد المدير العام مقيد لا عمل له ولا حكم في وزارة الونيسي إلا على سكرتيرة حضرتها، ويتهمونه بلقب المدير العام، فكانت نتيجة رسائلي الذهاب إلى سلة مهملات السيد قحموس رجل الوزيرة المفضل، والآن أهمس في أذن قحموس وأقول: تحوجني إلى اللجوء إلى القضاء الجزائري الذي سيعطيني حقي كاملاً، ومن هناك ذهبت إلى:

11- السيد قادري:

السيد قادري مدير العلاقات الخارجية العربية في وزارة الشؤون الخارجية صريح وجريء، عند لقائي به في مكتبه بادرني قائلاً: من أين أتيت؟ أجبت: من الضفة الغربية المحتلة وبالتحديد من مدينة نابلس أكبر مدن الضفة الغربية المحتلة بعد القدس الشريف. قال: يمكنك العودة إلى نابلس. قلت: أنا مطارد من طرف الصهاينة أيام كنت أعمل في الصحافة الفلسطينية. قال: هناك الكثير من الفدائيين الذين دخلوا الضفة والقطاع ولم يمسوا بسوء بل هم سعداء تحت الحكم الإسرائيلي، أنت تعرف أن في الجزائر أزمة سكن ولا يمكننا إعطاءك سكنًا كما هي رغبتك بل نحن نطالبك بإخلاء السكن الحالي لمن يخلفك في تعليم أبنائنا، وما نطلبه منك نطلبه من كل الفلسطينيين الذين أنهينا أعمالهم ويمكنكم جميعًا مغادرة الجزائر والذهاب إلى الأقطار العربية التي تجملون جوازاتها ووثائقها. وهنا استوقفني ما فعله الملك حسين بن طلال الحاكم الوحيد الذي رحب بأكثر من مليون لاجئ فلسطيني رغم قلة إمكانياته، واتخذهم أبناء له وأخوة بكل ما يحفظ كرامتهم وعزتهم، وجعل منهم وزراء وأعيان ونوابًا وأصحاب أملاك وتجارًا وقادة في جيشه الباسل وضباطًا في دوائر الأمن. لقد غاب عن ذاكرة الأخ قادري لجوء الأمير عبد القادر والذين رافقوه أيام الاستعمار الفرنسي إلى أقطار المشرق العربي كما نسي قادري الحفاوة البالغة التي لقيها الجزائريون اللاجئون في سوريا وفلسطين وحتى في لبنان والأردن وما زال أحفادهم هناك يتمتعون بكل الحقوق التي يتمتع بها السوري والفلسطيني ولم يجرح مشاعرهم أحد مطالبًا إياهم بالعودة إلى وطنهم الجزائر أن إلى أقطار المغرب العربي القريبة من وطنهم الأصلي، كما طلب مني السيد قادري أن أعود إلى فلسطين أو أعيش تحت الاحتلال الإسرائيلي البغيض، أما قليل الأموال التي وفرها بعض الفلسطينيين أمثالي فقد رفض إخراجها كعملة جزائرية كما رفض تحويلها إلى أية عملة من عملات المشرق العربي. لا أنكر أنني فوجئت بما سمعت، ولم أجب الرجل الصريح، ولكنني تساءلت هل هذه أفكار مدير العلاقات الخارجية العربية أم هي سياسة الخارجية الجزائرية؟ أنا أقول: سواء أكانت هذه الأقوال من أفكار المدير قادري أو سياسة الخارجية فإني أحبذ أن يغادر الفلسطينيون الجزائر حفاظًا على صداقة الجزائريين وحتى لا تشكل الجامعة العربية لجنة مساعي حميدة يترأسها وزير خارجية لبنان أو وزير خارجية عُمان، ومن هنا ذهبت إلى:

12- محمد الشريف مساعدية:

السيد محمد الشريف مساعدية عضو المكتب السياسي ومسؤول الأمانة الدائمة للجنة المركزية والذي يصفه رجال الصحافة في المشرق العربي بالسياسي المخضرم أرسلت إليه رسالة ملأتها ببعض العبارات التي يحب سماعها كبار العظماء، فكان جوابه سريع حيث اتصل بي أحد شباب الحزب بأمر الرجل الواعي، وطلب مني الحضور إلى مقر الحزب، عندئذ تذكرت قول الله سبحانه وتعالى "وأتوا البيوت من أبوابها"، وفي اليوم التالي كنت وزوجتي في بهو الطابق الخامس من عمارة الحزب، وإذا نحن في حجرة السيد مبارك الذي أنابه السيد مساعدية ليستمع إلى مشكلتي ثم ليرويها له وقت فراغه، وها أنا أنتظر جواب السياسي الجزائري المحنك على رسالتي، وسيكون جوابه جواب رجل يعرف الواجب، ويقدر الناس جميعًا، ومن هناك عجلت الخطى لبحث عن مقر الإنسانية في الجزائر:

13- الإنسانية:

بعد أن أنهيت جولتي يا سيدي، تحولت إلى الإنسانية المعروفة بين جميع الأجناس البشرية، فقابلت في طريقي شيخًا هرمًا، وسألته عن مكان الإنسانية في الجزائر، فأجاب الشيخ: كانت الإنسانية أيام كان الاستعمار الفرنسي في كل مكان من أرض الجزائر، غير أن الاستعمار البغيض نقلها معه إلى فرنسا في حقيبة العدل، ومنذ ذلك الوقت، لم تشعر بوجود الإنسانية بيننا وكذلك العدل. وأكمل الشيخ حديثه قائلاً: يبدو أنك غريب... فأجبته بنعم، رغم أني على أرض الجزائر منذ عشرات الأعوام. وهنا ضعف صوت الشيخ، واغرورقت عيناه بالدموع، وقال: لا تتعب نفسك في التفتيش عن الإنسانية في بلادنا، فقد ذهبت، وعودتها تحتاج إلى أعوام وأعوام وأعوام، وكذلك إلى أجيال وأجيال وأحيال... والآن أصل إلى:

14- أحمد بن عبد الغني:

السيد أحمد بن عبد الغني عضو المكتب السياسي ووزير الدولة شدني إليه ما سمعته عنه أيام توليه قيادة الجبهة الشرقية للبلاد، فأردت أن أقول له: قمت بهذه الجولة الاختيارية لأختبر من خلالها بعض المسؤولين الجزائريين، وبعد ذلك خطر لي خاطر أن أنهي جولتي، فكنت النهاية، وحتى لا تكون في عداد السادة الذين راسلتهم، ولم يستجيبوا لما دعوتهم إليه رأيت أن أسجل لك مطالبي لتعالجها بحكمة ودراية وهي:

أولا) إخراج أو تحويل ما جمعته وزوجتي خلال مدة عملنا في الجزائر من زهيد العملة الجزائرية.
ثانيًا) إعطائي سكنًا بدلاً من سكني الوظيفي إلى أن يتخرج أولادي من الجامعات الجزائرية.
ثالثًا) معاملتي وجميع أفراد أسرتي معاملة الجزائريين عند خروجي من البلاد والعودة إليها.
رابعًا) في حال عدم حق التقاعد إعطائي وزوجتي منحة مالية بمقدار المنح التي تعطيها الدول العربية للمعلمين العاملين في بلادها.

15- التعليق:

إن المسؤول حين يحفظ للعامل حقه ويصون مستقبله ويسيجه من عوادي الزمن ونوازله إنما يؤدي عبادة لله، عبادة ليس السجود والركوع قوامها، ولا الذكر والأوراد ثيابها، بل صيانة الحقوق والعمل بروح الإسلام وأوامر الله بدافع العدل والعدل لو كان شيوعيًا أو بوذيًا يرضاه الله بعيدًا عن التعاليم المضللة المستوردة منها وغير المستوردة.


ختامه مسك

أرى من واجبي أن أختتم حوادث الأيام التي مرت بي ومررت بها بحادثة عطرة الذكر والذكرى، إذا ذُكرت شحذت الهمم ورفعت الرؤوس عاليًا واعتبرتها الأجيال القادمة نبراس فخار واقتداء. كنت شابًا تربيت على حب الدين والوطن، ومن أحب دينه ووطنه كره الظلم واحتقر الاستعمار والمستعمرين البريطانيين الذي اغتصبوا فلسطين، وقدموها للصهاينة على طبق من ذهب، وكنت أنتظر بفارغ الصبر قيام ثورة تقتلع ظلم الظالمين، وتعيد فلسطين إلى الحديقة العربية الممتدة بين المحيط والخليج، لم يدم انتظاري طويلاً حتى تفجرت الثورة، فسارعت إليها، والتحقت بصفوف مفجريها، وهم رجال بررة عاهدوا الله أن يموتوا من أجل تحرير فلسطين مهد عيسى ومسرى محمد وأرض النبيين، ومن حسن طالعي أن التقيت بالقائد الشهم الشهيد الشجاع عبد الرحيم الحاج محمد "أبو كامل" قائد الثورة العام الذي أخلص لشعبه ووطنه، فشجعني رغم حداثة سني الذي لا يتجاوز الواحد والعشرين من العمر، وبعد أن علمني أحد المقاتلين كيف أقاتل دخلت أول معركة مع أعدائي، وقد كانت بين عنبتا وطولكرم (معركة نور شمس)، وبعدها تتابعت المعارك الضارية، أذكر منها معركة جبال بلعا، كما أذكر المعارك والانتصارات التي وقعت والمجابهات التي التقينا فيها مع الأعداء الإنكليز والصهاينة، أشرسها المجابهة التي وقعت بالقرب من قرى برقا وجبع وعصيرة الشمالية وبيت امرين ونصف اجبيل وسيلة الظهر وبزاريا ورامين، وقد خرج المقاتلون من هذه المعركة منتصرين، ولو توفر عندنا السلاح لحررنا كل هذه المناطق كما قال قائدنا أبو كمال. ولما هدأت المعارك اجتمع الشهيد عبد الرحيم برفاق القتال، وبعد أن تدارسوا أمرهم وحاجتهم الملحة إلى السلاح اقترح بعضهم أن يتوجه وعلى الفور القائد عبد الرحيم إلى دمشق حيث اللجنة المسؤولة عن توفير السلاح إلى المقاتلين، أو إلى المجاهدين كما كنا ندعوهم، ومطالبتها بتوفير السلاح إلى الجبهة المشتعلة جبهة قرى وادي الشعير. وفعلاً جازف القائد بحياته، وتوجه إلى دمشق، وهناك التقى بالمسؤولين الذي وعدوه بأن يصل السلاح إلى الجبهة قبل أن يصل، وبعد أن اطمأن إلى ما قيل له أخذ طريقه عائدًا إلى مقر قيادته. وبينما كان القائد في طريقه إلى ساحة القتال وجد في انتظاره بالقرب من جنين عددًا من الجنود الإنكليز، ولما أحس بهم حاول أن يبدل الطريق غير أنه فوجئ بعيارات نارية توجه إليه، فأصابته إحداها، فوقع جريجًا كما وقع مرافقه الخاص جريجًا إلى جانبه. ولما كان الوقت ليلاً لم يعثر الجنود الإنكليز عليه، وقد طوقوا المكان إلى طلوع الفجر. أثناء ذلك، كان قد هرع مع بزوغ الصباح إلى أرض المعركة لمساعدة الإنكليز آل ارشيد – ورائحة المسك هنا تتحول إلى رائحة للنذالة مع الأسف – آل ارشيد الذين حاربوا الثورة إلى جانب الإنكليز، فوجدوا الشهيد عبد الرحيم يعاني آلامًا شديدة من جراحه، وإلى جانبه مرافقه جريحًا يعاني هو كذلك آلامه، وإذا بالخونة يتوجهون إلى القائد الشهيد عبد الرحيم، ويطلقون رصاص أسلحتهم على جسد الجريح قبل أن يلفظ أنفاسه، وبعد أن لفظ أنفاسه، وقد فعلوا ذلك على مشهد من أصدقائهم الإنكليز الذين اشمأزوا من تلك الجريمة، جريمة اقترفها أناس يدعون أنهم عربٌ. هذا وقد سمع مرافق القائد الذي حمله الإنكليز، واهتموا بتطبيبه، سمع القائد الإنكليزي يقول لرفاقه: ابشروا فقد انتهت الثورة أولاً لموت قائدها وثانيًا لتعاون أمثال آل ارشيد معنا! ولا أذيع سرًا إذا قلت إن الإنكليز أرحم وأشرف من الخونة الذين وقفوا ضد الثورة من أجل الحصول على بعض المال الحرام من خزائن الإنكليز والصهاينة أمثال آل ارشيد. وبعد أن وصل خبر استشهاد عبد الرحيم الحاج محمد إلى وزارة الحرب الإنكليزية، أذاعت الوزارة بيانًا أعربت فيه عن بالغ أسفها لاستشهاد القائد الشجاع نظرًا لما كان يتحلى به من إخلاص لأمته ووطنه، ولأنه لم يكن دنيئًا، ولم يعتدِ على أموال الناس كما حدث مع بعض المستغلين الذين اندسوا في صفوف الثورة من أجل المال أو من أجل تصفية خصومهم.

أبو كمال علمني حب الوطن والترفع عن الدنيا وطهارة اليد وعدم استغلال الضعيف.

أما المسك في الجزائر فهو من نوع آخر لحادثة لا يمكن لها أن تكون في أي مكان في الدنيا ما عدا الجزائر وفقط لدى هذا الشعب الذي لا يوجد له مثيل في الوجود لكرمه وصدقه ونخوته، ففي أحد أيام التقاعد التي كنت أذهب فيها إلى السوق كل صباح، أمسك بي شخص لا أعرفه، وعرض عليّ أن يملأ قفتي من خضار وفاكهة ومواد غذائية ولحوم كل يوم إلى يوم الدين، لكني ابتسمت في وجهه وشكرته قائلاً إن لدي من النقود ما يكفي شراء كل ما أحتاج إليه. سألت عنه الناس، فقالوا لي إنه صاحب إحدى المخابز في باب الواد المنطقة التي أسكن فيها، وهو معروف ببذله وسخائه، وما عرضه عليّ لم يكن دافعه الصدقة مقابل الأجر والثواب عند الله.

في الختام هاتان قصتان عن الشاب الذي كنته والشيخ الذي أصبحته في فلسطين والجزائر تجمعهما قصة الشباب في بلد المليون ونصف المليون شهيد الذين كانوا نوعين عملت على تدريسهما في المساء في معهد للعلوم التقنية في منطقة القبة، النوع الأول كان يدخل القسم من النافذة ويخرج من النافذة خوفًا من المراقب بعد أن يقول لي هناك ما أشغله في أحد المعامل أو هناك ما سيشغله، والنوع الثاني كان يدخل القسم من الباب ويخرج من الباب لحبه للعربية ولرغبته في تعلمها كما يتعلم كل ابتكارات العلم الحديث. كنت أرى في كلا النوعين تمردي شابًا ورغبتي في الأشياء وحرصي على إدراك كوامنها ولجوئي إلى كل ما يدفع على التأثير فيها أعظم تأثير حتى ولو أداني ذلك إلى الثورة، هذا ما جرى معي دفاعًا عن وطني وشعبي، وهذا ما سيجري مع الشباب الجزائري ذات يوم دفاعًا عن وطنهم وشعبهم، ولأجل جزائر شعبية ديمقراطية حرة بالفعل.


أمين القاسم



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خطتي للسلام الاتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين
- البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثالث
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثاني
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الأول
- أنفاس الديوان الثالث
- أنفاس الديوان الثاني
- أنفاس الديوان الأول
- أربعون يومًا بانتظار الرئيس
- أفنان القاسم يجيب على أسئلة -سيدتي-
- كتب وأسفار
- الذئاب والزيتون
- أم الجميع ابنة روما
- أم الجميع سقوط جوبتر
- أم الجميع مأساة الثريا
- الاغتراب
- الكناري
- الشوارع
- إسكندر الجفناوي
- مدام حرب


المزيد.....




- لم يسعفها صراخها وبكاؤها.. شاهد لحظة اختطاف رجل لفتاة من أما ...
- الملك عبدالله الثاني يمنح أمير الكويت قلادة الحسين بن علي أر ...
- مصر: خلاف تجاري يتسبب في نقص لبن الأطفال.. ومسؤولان يكشفان ل ...
- مأساة تهز إيطاليا.. رضيع عمره سنة يلقى حتفه على يد كلبين بين ...
- تعويضات بالملايين لرياضيات ضحايا اعتداء جنسي بأمريكا
- البيت الأبيض: تطورات الأوضاع الميدانية ليست لصالح أوكرانيا
- مدفيديف: مواجهة العدوان الخارجي أولوية لروسيا
- أولى من نوعها.. مدمن يشكو تاجر مخدرات أمام الشرطة الكويتية
- أوكرانيا: مساعدة واشنطن وتأهب موسكو
- مجلس الشيوخ الأمريكي يوافق على حزمة من مشاريع القوانين لتقدي ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أفنان القاسم - أمين القاسم الأيام الفلسطينية