أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أفنان القاسم - خطتي للسلام الاتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين















المزيد.....



خطتي للسلام الاتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3677 - 2012 / 3 / 24 - 18:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الأعمال الكاملة


الدراسات (7)


د. أفنان القاسم


خطتي للسلام


الاتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين



دراسة سياسية



الطبعة الفرنسية دار لارماطان باريس 2004



إلى مدينة مولدي يافا
إلى مدينتي دومًا نابلس



اتفاق أوسلو 1



أكبر عملية نصب سياسية في التاريخ

في كتابي "دفاعًا عن الشعب الفلسطيني"، أظهرت كيف نجح ياسر عرفات في تدجين الفلسطينيين من أجل القبول بأي حل سياسي، وإلا ما كان بإمكانه أبدًا أن يجرؤ على الذهاب إلى أوسلو ليفاوض اتفاقًا تصفويًا هدفه محو القضية الفلسطينية نهائيًا وهضم الحقوق الوطنية والإنسانية لشعب بأكمله. كان على عرفات أن يفسد كل مثقف، كل كادر، كل موظف. كان عليه أن يضع يده على كل مؤسسة، كل هيئة، كل جهاز. وبقوة النقود التي كانت السعودية وبلدان الخليج تصبها عليه بأمر الأمريكيين، جعل من نفسه إله كل نفس ضائعة أو قابلة للضياع. رفع إلى الذُروة (عدا البعض الذين خانوا طبقتهم واصطفوا إلى جانب الوطنيين) أبناء وأحفاد العائلات الكبرى البائعين أبا عن جد، والذين اشتهروا بتواطئهم الدائم مع السلطات القائمة سواء أكانت إنجليزية أو أردنية أو إسرائيلية –ويبقى مصطلح "خونة" ضعيفًا جدًا لوصفهم. وفي الوقت نفسه، جرجر سكان الأحياء الفقيرة ومخيمات اللاجئين في الوحول، أولئك الذين كان يدعي عدم ادخار أي جهد باسمهم من أجل تحرير فلسطين، بينما كان يعمل كل ما بوسعه من أجل التنازل عنها للإسرائيليين قطعة قطعة. لعبة مزدوجة كانت –وإلى اليوم- لوضع القناع على حقيقة أفعاله وأهدافه، فالقول شيء، والفعل شيء آخر. والقول لم يكن يكلفه أي شيء يذكر، كلمات اغترفت من قاموس البلاغة السياسية –المتفاصحة والمتقهقرة- للحكام العرب، والتي لا تقلق لا الإسرائيليين ولا الأمريكيين على الإطلاق بما أن بضاعة عرفات موجهة إلى السوق العربي الفلسطيني، وأقل من ذلك بما أنها لا تبدل شيئًا من استراتيجيته المتآمرة والمفسدة والرامية إلى تركيع الشعب الفلسطيني، والعمل من يأسه عُملة تبادل بين الفلسطينيين. القليل أو لا شيء! كان يقول. اليوم، حتى القليل من المستحيل الحصول عليه، لأن الهدف النهائي هو التخلي عن كل شيء للإسرائيليين، عن الأرض، وعن الناس الذين عليهم أن يرضوا بحياة الأسرى والتبعية الكاملة في أرض إسرائيل. هذا هو اتفاق أوسلو، المدعو باتفاق رقم 1، للرابع من أيار/مايو 1994: حياة أسرى وتبعية كاملة في إسرائيل الكبرى التي تجمع إسرائيل المحددة بحدود 1948، الضفة الغربية، وقطاع غزة، أي فلسطين التاريخية.

وكما هي عادته عندما يتعلق الأمر "بعدم حل" في صالح إسرائيل، صفق الغرب، المُرائي والمتواطئ، للمبادرة، مرتديًا ثوب العار والخزي إلى الأبد. أيّد اليمين، لأن ذلك ما كانت تريده إسرائيل، وأيّد اليسار، لأن ذلك ما كانت ترغب إسرائيل فيه وعرفات. والشعب الفلسطيني؟ ولكن للغرب يمينًا ويسارًا الشعب الفلسطيني هو عرفات! فساهموا بصوت واحد في حملة تبرير لهذا الاتفاق من أجل تعمية ملايين أخرى من النساء والرجال، وذلك بإخفاء مصيبة ما ترمي إليه لفلفة كهذه، وليبدوا كما يبدو أولئك الذين يقولون متحضرين عن أنفسهم، أناسًا عاشقين للسلام والعدالة. ولكن، تحت قناع البنود والملحقات التي لا يقف واحد منها على قدميه، في الواقع هم قدموا دعمهم اللامشروط للعدوانية الإسرائيلية، وكذلك لشهية المستعمر، المؤلهة بصخب إعلامي يومي، والتي هي من خُلق كل سياسي إسرائيلي منذ هرتزل إلى شارون. إنه هذا الغرب الذي يمد الحكام الإسرائيليين بالمال والسلاح، حكام يعملون بسياسة دموية ومدمرة. وهذا الغرب الذي يصمت ويترك الإسرائيليين يفعلون ما يفعلون، بينما، وهو الواضع يده على الاقتصاد والعسكرة، يقبض على إسرائيل من خناقها: دون الغربيين، لا يمكن لإسرائيل العيش ولا حتى الوجود. ولكن لنقل صراحةً: في صالح الغربيين أن تسوء الحال، وفي صالحهم أن يبقى العالم العربي في حالة إنذار دائم دون أن تُترك له أية فرصة للنهوض ولعب الدور العائد عليه من أجل بنائه ومساهمته في بناء العالم. خطر دائم وحرب دون توقف لا تترك له الوقت ليستعيد أنفاسه. آخر حرب كانت هي حرب العراق على أيدي الأمريكيين وتواطؤ كل الغربيين بمن فيهم "أبطال" جبهة الرفض السلبي.

وهكذا مدعوسة ومفرقة، لا توجد البلدان العربية إلا بالاسم، وقد غدت عنابر نوم لملايين من الأفراد، محكومين من طرف طغاة يبدي لهم الغرب إعجابه ويشجعهم، وهم في الحقيقة جبناء تحت إمرة الموساد والسي آي إيه. وكان بإمكان هؤلاء المستبدين أن يضغطوا على الغرب، وذلك بإغلاق حنفية النفط، من أجل أن يفرضوا حلاً مشرفًا يرضى عنه الطرفان –الإسرائيلي والفلسطيني- ولكن كما هي عادتهم عندما يتعلق الأمر بالرهانات الوطنية الكبرى والقرارات السياسية التي تمس سلطاتهم وامتيازاتهم مباشرة، يمتنعون بعناية عن القيام بكل مبادرة في هذا الاتجاه، ولا يبقى لهم من اختيار آخر سوى الصف في صفوف اتفاق أوسلو. فلسطين التي لا تدعهم ينعمون بالنوم الهادئ في الليل وقّعت أخيرًا على وثيقة إبادتها بيد فلسطيني، عرفات، ونَعَمّا حدث! هو حل آت من الفلسطينيين أنفسهم أيًا كانت النتائج! ومنذ الآن فصاعدًا فُتحت لهم الطريق إلى تل أبيب من أجل الذهاب إليها والصلاة في وضح النهار. سيتم خلق بلد هو عنبر للنوم جديد، والتعاضد بين الأنظمة الدكتاتورية شيء موجود، وهنا يكمن معنى القوة "الجبارة" للشرطة الفلسطينية المشترط عليها في اتفاق أوسلو (بند VIII، تصريح المبادئ).

ما تبقى لا حساب له، لأن الأمريكيين عبر هيمنتهم الاقتصادية والعسكرية صنعوا من هذه الشبه البلدان حجارة شطرنج لا أكثر ولا أقل، وبالتالي تعتمد أكبر عملية نصب سياسية في التاريخ الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية على قاعدة عالمية مصانة بقوة من طرف الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية، أمريكا وإسرائيل الحليفة التي خصتها أمريكا بنعمها، طالما بقي النفط العربي موجودًا والهيمنة على المنطقة مطلبًا استراتيجيًا.

تمهيد للأسر والتبعية الكاملة

كان كل شيء واضحًا منذ البداية، ومع ذلك. يرتكز اتفاق أوسلو 1 على تسوية بخصوص غزة وأريحا، فقط غزة وأريحا، تسوية مريبة، وبما أنها لا تعالج على الفور مستقبل كل الأراضي المحتلة، يشتم منها رائحة الخداع والغِش على نحو مزعج. وكما يقال "يقرأ الموضوع من عنوانه"، هنا، يلخص العنوان "اتفاق غزة-أريحا أولاً" كل شيء. لن تذهب الأشياء إلى أبعد، فما هذا سوى ذر للرماد في العيون. ليس هناك صدق في النوايا ولا إرادة لإقامة سلام عادل. ومنذ المنطلق، تجنب الاتفاق البت في الحقوق الفلسطينية، حتى ولو كانت بنود الاتفاق تجعلنا نعتقد بحل لاحق فيما يخص مجموع الأراضي المحتلة. لقد تم ابتلاعها من طرف الشهية التوسعية والكولونيالية للمفاوض الإسرائيلي الذي يتخلى غصبًا عنه عن جزء من "حلمه التوراتي". غزة وأريحا مدينتان لا تتعلق اليهودية بهما، فتاريخهما ملطخ بالدم والدمع اللذين عانى منهما الإسرائيليون القدامى، وهو السبب الذي اختارت إسرائيل من أجله هاتين المدينتين كقاعدة لحل مع الفلسطينيين. ثم تأتي بعد ذلك الأسباب السياسية، ولكن خاصة لأن كل الأرمادا الإسرائيلية لم تستطع إنهاء المقاومة الشعبية للغزيين. بتوقيعه على اتفاق كهذا، يرمي المفاوض الإسرائيلي أولاً وقبل كل شيء إلى تحطيم هذه المقاومة بقبضة فلسطينية قوية (فلسطينيون سيتفاهمون فيما بينهم) مع احتفاظه بامتيازاته وتفوقه.
ولكن قبل نقل السلطة إلى عرفات من أجل أن "يدير" الأمور ويحيل الشعب الفلسطيني إلى شعب أسير تحت التبعية الكاملة، يجدر إدخال هذه الاتفاقات بلطافة، مع مراسيم كونية، هذا ما يوجبه النصب السياسي والتاريخي. من هنا جاء إعلان المبادئ حول تهيئة الحكم الذاتي المؤقت على إيقاع الطبول والدفوف في واشنطن يوم 13 أيلول/سبتمبر 1993. هذا الإعلان الذي يُظهر دون أدنى شك كيفية العمل لتعبيدِ طريقِ تخلٍ على المقاس عن حقوق الشعب الفلسطيني الشرعية، مع "ديناميكية" داخلية لبنود تشجع الانحباس كمن ينحبس أحدهم في دير والخضوع الاقتصادي والاجتماعي وحتى الفردي للسلطات الإسرائيلية، بواسطة تشريع هذه المرامي المضللة منذ البداية، وذلك بإقامة مجلس ذي "سلطات تشريعية وتنفيذية" بند VII.

المجلس:

نقرأ في البند الأول –وليس صدفةً أن يكون البند الأول- من إعلان 13 سبتمبر 1993: "وعلى الخصوص للمفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية الجارية في إطار صيرورة السلام الحالي في الشرق الأوسط هدف إقامة سلطة فلسطينية مؤقتة ذاتية الحكم، وهي المجلس المنتخب ("المجلس")، لفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة...".
نقع منذ النظرة الأولى على تعسف فاضح في مصطلحات الحقوق يناقض ما يؤكده استهلال اتفاق غزة-أريحا والذي هو عزم وتصميم حكومة دولة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية (منظمة التحرير) "على التعايش في حال سلمية، في الكرامة والأمن المتبادلين، مع الاعتراف بحقوقهما السياسية والشرعية المتبادلة". لا تسمح الحقوق السياسية والشرعية المتبادلة بأي حال من الأحوال لا للطرف الأول ولا للطرف الثاني أن تكون له نظرة، وأول شيء في مفاوضات كهذه، على ما يفهمه الطرف الأول أو الطرف الثاني من "إقامة سلطة"، لأنه حق يقتصر على هذا الطرف أو ذاك بعد اعتراف الواحد بالآخر. على منظمة التحرير وفقط منظمة التحرير أن ترى كيف يقام مجلسها التشريعي وأن تحدد مدى سلطته. لا علاقة لإسرائيل بهذا الخصوص، والشيء نفسه للمفاوض الفلسطيني بخصوص الكنيست. ولكن هناك وراء هذا البند الذي يبدو في الظاهر "محفزًا" ويرمي إلى ما هو "إيجابي" و"بَنّاء" شبكة من شِباك العناكب.
كل شيء يبدأ بهذا السؤال: منظمة التحرير بمركِّباتها السياسية كما هو متلاعب بها هل تمثل حقًا الشعب الفلسطيني؟ بالطبع لا. ومع ذلك اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير يشرّع ممثلاً مصيره الدخول من الباب الواسع في صيرورة تُدعى سلامًا، ولكنه في الواقع إملاء معد من أجل السماح لتطبيق سياسة تأتمر بأوامر المفاوض الإسرائيلي. هذه هي منظمة تحرير معترف بها من طرف إسرائيل، منظمة تحرير تسهر على إرضاء ما توجبه تل أبيب –وتخلي عرفات عن "الإرهاب" في رسالته إلى رابين بتاريخ 9 سبتمبر مماثلاً كل مقاومة الشعب الفلسطيني، كل تضحياته، كل شهدائه بالإرهاب، هو إشارة يبدأ بها تنفيذ كل الإجراءات التالية التي ستضع حدًا لكل حرية، لكل أمل، وعلى عكس ما جرى ذكره في تمهيد اتفاق غزة-أريحا والادعاء به، ستضع حدًا لكل كرامة. هكذا يفهم المفاوض الإسرائيلي "التعايش في حال سلمية" مع الفلسطينيين، حيث لا يفكر إلا في أمنه هو، وذلك حسب معايير محددة في صالحه هو، فيعمل كل ما بوسعه لتشريع ما يقوم به عرفات في هذا الاتجاه، وذلك بخلقِ مجلسٍ مقامٍ من ألفه إلى يائه حسب الوصفة التي يراها المفاوض الإسرائيلي.
وهكذا في البند III من إعلان المبادئ يجري عرض الأهداف والوسائل لمجلس كهذا كما يلي: "لأجل أن يتمكن فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة من حكم أنفسهم حسب المبادئ الديمقراطية سيجري تنظيم انتخابات سياسية عامة حرة ومباشرة للمجلس تحت مراقبة متفق عليها وإشراف دولي بينما يسهر البوليس الفلسطيني على حفظ النظام العام".
طبعا! سيسهر البوليس الفلسطيني على حفظ النظام العام بدلاً من جيش الاحتلال تحت "المراقبة المتفق عليها" بين الإسرائيليين وعرفات. شيء خطير، وحتى شيطاني، هذه المراقبة "المتفق عليها"، المعارضة لكل مبدأ ديمقراطي. أضف إلى ذلك أن البروتوكول المتعلق باشتراطات الانتخابات وشروطها يشكل تدخلاً لا يمكن قبوله في الشؤون الفلسطينية المحضة، عندما يتعلق الأمر بالقواعد والأنظمة، عندما يتعلق الأمر بتشكيل المشرفين على عمليات المراقبة والإشراف الدولي كما هو "متفق عليه"، عندما يتعلق الأمر بترتيبات وضع وسائل الإعلام ترتيبات "متفق عليها". أما الباقي، "انتخابات حرة ومباشرة" ما هو سوى كلمات طنانة لا أكثر. لأن عرفات، بإشراف دولي أو غيره، قادر على خداع الحياة.
ولنفترض أن هذه الانتخابات لهكذا مجلس تدور حسب "المبادئ الديمقراطية"، ستُعرف النتائج مسبقًا في صالح فتح، أكبر مركِّبات منظمة التحرير، يعني في صالح عرفات. حتى ولو لم تقاطع حماس وباقي الإسلاميين الانتخابات سيجد عرفات الوسائل التي تمكنه من الحصول على الأغلبية، وذلك بالتحالف مع "مقاتلين" آخرين لتحرير تلك المسكينة فلسطين. وفي حالة عدم توصله إلى ذلك، ستطبخ الطبخة في الكواليس كالعادة. هنا من واجبي القول إنني لا أوجه اللوم إلى مناضلي فتح في إطار هذا التحليل، وما في مرماي سوى قياديي هذه الحركة الفاسدين والبائعين الذين يعتبرون القاعدة ككمية مهملة. على مناضلي الحركة أن يتبعوا أوامر شخص واحد أوحد، الإله الفتحاوي، عرفات. دون مناقشة أقل برنامج، أقل تكتيك، أقل استراتيجية. المجلس الذي يقال عنه تشريعي ما هو إذن تشريعي إلا بالاسم، وبغياب حماس ومن لف لفها هو مجلس عرفاتي مائة بالمائة، لأن الفصائل الأخرى ما أسهل إفسادها لتتبع الخط السياسي الذي يختطه إله من يسمون أنفسهم بالديمقراطيين.
الديمقراطية إذن ليست سوى شكلية، وهي تستعمل لتمرير أوامر الدكتاتور، ذلك الذي يستلم الأوامر من الإسرائيليين. في هذا يكمن معنى "انتخابات سياسية عامة حرة ومباشرة لأجل أن يتمكن فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة من حكم أنفسهم". ليتمكن عرفات والإسرائيليون من تبديل حكومة عسكرية بحكومة بوليسية. اطلبوا إلى مبارك الذي هو في الحكم منذ ثلاثمائة سنة يقل لكم هو أيضًا: "أنا ديمقراطي وانتخاباتي حرة ومباشرة"!
والأنكى من كل هذا ما في الفقرة 3 من البند نفسه الخاص بانتخابات المجلس إياه حيث يُشترط بشكل مدع وغريب، وباتفاق مع المفاوض الإسرائيلي، أن تشكل "هذه الانتخابات مرحلة تحضيرية ومؤقتة هامة على طريق تحقيق الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني وطلباته العادلة." لأن ما حصل هو العكس، وإلا ما كان للمفاوض الإسرائيلي أن يبتلع مطمحًا كهذا آتيًا من عرفات ومن زمرته الأوسلوية الجبانة. كل شيء إذن مرتب أحسن ترتيب بخصوص المجلس.

السلطة الفلسطينية:

الإعداد لمجلس كهذا ذي "سلطات تنفيذية وتشريعية" سيأخذ تسعة شهور على الأقل، والدخول في تنفيذ الإعلان الحالي حول تنظيم الحكم الذاتي المؤقت شهرًا بعد التوقيع على هذا الإعلان، وبالتالي يأتي اللعب بكلمات مثل "ممثلي الشعب الفلسطيني" بند V، "فلسطينيين معينين لهذه المهمة" بند VI، بمعنى عرفات وأتباعه ولا أحد غيرهم ممن لا يعينهم المحتل، ونعمل سلطة قبل قيام "السلطة"، ففي آخر الحساب هو الشيء نفسه، وذلك من أجل تسليم سلطات مكملة وبأكمل تبعية لسلطات الحكم العسكري الإسرائيلي على الفلسطينيين من أجل الاحتفاظ بالطوق مشدودًا على رقابهم. هذا ما يعنيه مفهوم الحكم الذاتي في رأس المفاوض الإسرائيلي، فيجري تنفيذ تسليم الكفاءات "للفلسطينيين المعينين من أجل هذه المهمة" في الميادين التالية: " تربية وثقافة، صحة، حماية اجتماعية، ضرائب مباشرة وسياحة" بند VI. وهي في الواقع ميادين فنتازية لكنها تخفف الشيء الكثير من ثقل ميزانية المحتل. وفي الظروف الحالية، يدفع ميدان "السياحة" إلى الضحك حتى جريان الدمع من العينين، وميدان "الضرائب المباشرة"، وخاصة "المباشرة"، الذي يُرثى له إذا ما رأينا الحالة الاقتصادية الكارثية للفلسطينيين. ولكنه امتحان مهم لعرفات كي يثبت قدرته على التصرف كرئيس دولة على الطريقة المباركية، بمعنى أنه قادر على إدارة اقتصاد مفلس بالتحويل إلى حسابه ثلث المساعدات المالية. دون أن ننسى تشكيل قوة قمعية: "يبدأ الطرف الفلسطيني بتشكيل قوة بوليسية فلسطينية كما تم الاتفاق عليه" بند VI، فقرة 2. سنرى فيما بعد كيف سيجري تشكيل هذه القوة "كما تم الاتفاق عليه".
إذن ليست سلطة عرفات هنا إلا لأجل التخفيف من نفقات الإسرائيليين في الأراضي المحتلة والإشراف على القمع الداخلي، وذلك بإقامة جسد بوليسي قادر على مواجهة الاضطرابات والهيجانات الشعبية غير المتفق عليها. ولتمويه المرامي التي من أجلها وُضعت هذه السلطة، تنعت هذه السلطة نفسها "بالوطنية"، وهذا ماكياج لا يخدع مع ذلك أحدًا: السلطة الوطنية الفلسطينية! "ماركة" ترددها وسائل إعلام عرفات وكذلك وسائل الإعلام العربية كبضاعة للسوق العربي-العربي، عكس كل الاتفاقات التي تمت مع إسرائيل المانعة للنعوت والموجبة لوصف السلطة الفلسطينية بالسلطة الفلسطينية فقط، والإسرائيليون لا يقولون شيئًا، لأن هذا يساعدهم على تعميم أوامرهم عن طريق عرفات تحت غطاء "وطني"، وطالما لا يمس بالأساسي مما تم الاتفاق عليه بينهم وبين رجلهم "المعين لهذه المهمة". كان الإنجليز يقولون للفلسطينيين عندما يصرخون ويحتجون: "قولوا ما شئتم، ولكن إياكم أن تفعلوا، وإلا سحقناكم!" وهذه هي السلطة "الوطنية" الفلسطينية!

إعادة انتشار القوات الإسرائيلية:

قلته في كتابي "دفاعًا عن الشعب الفلسطيني"، وأعيده هنا. لنتخيل لحظةً واحدةً أن قوات الاحتلال الألمانية، للانسحاب من باريس، قامت بإعادة انتشار إلى فنسن أو لا دفنس، منطقتين قريبتين من باريس. ستكون مسخرة المساخر! ولكن ويا للتعاسة! هذه هي الحال مع قطاع غزة ومنطقة أريحا ولكل مدن الضفة الغربية الأخرى، انسحاب يتم "حتى أقصى أجل عند عشية انتخابات المجلس" بند XIII. ليست فقط إعادة انتشار "خارج المناطق المأهولة" بند XII، فقرة 2، ولكن إعادة انتشار تنفذ حسب شروط جائرة، "متوافقة مع أخذ البوليس الفلسطيني على عاتقه بمسؤولية النظام العام والأمن الداخلي" بند XIII، فقرة 3. والواقع، المقصود إعادة انتشار لعدة كيلومترات، وعلى مراحل، ليس حالاً، وبالعلاقة مع توريط القوة القمعية التي يتحكم بها عرفات. كم مترًا سينسحب منها قوات الجيش الإسرائيلي الأشاوس في كل مرحلة؟ مهزلة القدر: لم يجر أي اتفاق حول هذه المسألة في اللحظة التي تم فيها التصريح عن إعلان المبادئ. وإذا ما جرى التوقيع عليه، "سيحتوي هذا الاتفاق -كما يمكن للمرء أن يقرأ في الملحق II، فقرة 1- على ترتيبات مفصلة يجب أن تطبق في قطاع غزة ومنطقة أريحا عندما تنسحب إسرائيل." ومن طبيعة الحال ترتيبات ستكون استبدادية من طرف السلطة الفلسطينية، وسأعالجها بالتفصيل في الوقت المناسب. ولكن الأهم في كل هذا الكيفية التي سيدور فيها هذا الانسحاب التدريجي لعدة كيلومترات وعدة أمتار على مراحل: "حسب تقويم زمني يُعَدّ لذلك" ملحق II، فقرة2. ومن يقول تقويم زمني يعني مماطلة. ولكن يعمل المفاوض الفلسطيني كل شيء لأجل طمأنة المحتل، والمحتل بدوره يحتاط لكل شيء بفرضه ترتيبات ترمي إلى توريث "الفلسطينيين المعينين لتنفيذ هذه المهمة" السلطة العسكرية والمدنية على هاتين المنطقتين اللتين هما أريحا وغزة، "دون اصطدامات وسلميًا" ملحق II، فقرة 3 أ، "عدا النقاط التالية: أمن خارجي، منشآت (لا يقولون مستوطنات هؤلاء الدجالون الفلسطينيون!)، إسرائيليون، علاقات خارجية، ومسائل أخرى ستُحَدد باتفاق مشترك" ملحق II، فقرة 3 ب. بمعنى الأساسي الذي نُحِّيَ إلى جانب. سيتناقش المفاوضان الإسرائيلي والفلسطيني فيها فيما بعد، في المستقبل. إنه هذا التأجيل الذي لا يصمد، هذه الاتفاقات الغامضة التي لن يرى تطبيقها النور أبدًا، هذا الهرب إلى الأمام المتعمد الذي سيغدو "قانونًا"، والذي سينسف العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية. نحس أن المفاوض الإسرائيلي يسعى إلى كسب الوقت، أنه ليس صادقًا، أنه يحتال على مفاوض عرفات بينما يبتسم له هذا ببلاهة مراهنًا على ما لست أدري من ثغرة يمكن له عبرها التوصل إلى انتزاع تنازل ما لتبرير هذه الاتفاقات وليبرر نفسه لدى شعبه. لو أن الإسرائيليين ما احتفظوا في سريرتهم ألا يتخلوا عن شيء لانسحبوا في الحال ودون شروط مسبقة من كل الأراضي المحتلة وليس فقط من منطقة أريحا وقطاع غزة، هذين الثقبين، وعلى بعد عشرة أمتار من سكنى الناس، وفوق هذا حسب تقويم زمني – يا لوقاحة أولئك المفاوضين مفاوضي العاصمة النرويجية!


الأسر والتبعية الكاملة

إذن سيطبق "الفلسطينيون المعينون" من طرف المحتل من أجل القيام بمهمة تركيع الشعب الفلسطيني بالحرف الواحد اتفاقًا يؤجل دومًا إلى بعد ما يجب على إسرائيل فعله، ولكن يقضي بتنفيذ الأوامر التي أُمليت على المفاوض العرفاتي في الحال. وما يدعى "سلطة قضائية" هو جدارة التصرف في هذه الطريق، طريق الأسر والتبعية الكاملة. وبعد أن تُترك جانبًا المفاوضات "حول المسائل العالقة، وعلى الخصوص القدس، اللاجئين، المستعمرات، التدابير في مادة الأمن، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين، ومسائل أخرى ذات أهمية مشتركة" مادة V فقرة 3 – بعد كل هذه المسائل التي تركت عالقة، والتي هي القضية الفلسطينية عينها، هل تبقى مسائل أخرى حقًا؟ - عندما تترك جانبًا المفاوضات حول هذه المسائل الحيوية لثلاث سنوات "على الأكثر" بعد البدء بمرحلة الانتقال التي تمتد إلى خمس سنوات، هذا يعني أن لا شيء جرى حله في أوسلو، أن عرفات وأتباعه يدفعون الشعب الفلسطيني إلى الوقوع في فخ، وأن الإسرائيليين الذين سيكون كل الوقت لهم لن يحلوا هذه المسائل أبدًا في وقت محدد وكما يوجب ذلك. وعلى العكس، من الجانب الفلسطيني، يجب إثبات، وذلك منذ البداية، أن هؤلاء الفلسطينيين المعينين من طرف المحتل قادرون على أن ينوبوا عن الحكومة العسكرية الإسرائيلية حتى قبل تشكيل "المجلس"، والذين سيوكل إليهم ما يدعى بالمهمة الاقتصادية والبوليسية. وكل اتفاق أوسلو 1 يدور حول هاتين الناحيتين، الأولى للتخفيف من العبء المالي للمحتل، والثانية للتخفيف من الضغط على الجيش، من اختناق الجنود، والتكاليف العسكرية بمئات ملايين الدولارات. هذا هو اتفاق أوسلو 1: أن تحل حكومة عسكرية محل أخرى وإدارة مدنية محل أخرى، وأن يزول كل العبء المالي والإنساني والنفسي الجاثم على كتفي المحتل.

صلاحيات السلطة الفلسطينية:

يؤكد البروتوكول المتعلق بانسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة ومنطقة أريحا التحليل السابق عندما يجري في الفقرة 3ب من الملحق II تقليص كفاءة سلطة عرفات إلى حد "البنية، وصلاحيات ومسئوليات السلطة الفلسطينية في هذين القطاعين (حكومة عسكرية وإدارة مدنية) ما عدا النقاط التالية: الأمن الخارجي، المستعمرات، الإسرائيليون، العلاقات الخارجية، ومسائل أخرى ستحدد باتفاق مشترك". هذا اللايتموتيف "مسائل أخرى" ليس ابن صدفة، لأن المحتل يخشى أن يكون قد نسي بندًا يقيد بالسلاسل أكثر الشعب الفلسطيني، فيترك لنفسه الباب مفتوحًا على احتمال "مسائل أخرى" تعالج.

عند إعادتي لقراءة هذه الفقرة ظننتني أسمع المفاوض الإسرائيلي يقول لزميله العرفاتي: "قم بشغلك فيما يخص قمع شعبك واترك الباقي عليّ!" الباقي هو 90% من السيادة يُدعى "استثناءات"، ما هو جوهري لهوية وطنية من أجل أن ترى النور، إذ أن على الفلسطينيين أن يضطلعوا بمسؤولية أمنهم الخارجي، وعلى الفلسطينيين أن يديروا حياة المستعمرات على أرضهم، وعلى الفلسطينيين أن يحلوا وضع الأجانب في بلدهم بمن فيهم الإسرائيليين، وعلى الفلسطينيين أن يعنوا بعلاقاتهم الخارجية مع العالم، ولكن لا شيء من هذا أُعطي لهم. بالنسبة إلى انسحاب بسيط لعشرات الأمتار وحسب تقويم زمني "متفق عليه"، الثمن المدفوع مع ذلك لهو ثمن غال وغال جدًا. هذا ما أدعوه "تبعية كاملة وأسر كامل".

لن تقف الأمور عند هذا الحد، لم يعد المفاوض الإسرائيلي يملي شروطه، وضع المفاوض الإسرائيلي نفسه موضع المفاوض الفلسطيني، وراح يدير مفاوضات إسرائيلية-إسرائيلية. دخل قلبًا وقالبًا في المؤسسة البوليسية لعرفات وذلك باستحداث "لجنة ممتزجة فلسطينية-إسرائيلية للتنسيق والتعاون من أجل غايات أمنية متبادلة" ملحق II فقرة 3 إعلان المبادئ. وفي البند III فقرة 5 من اتفاق أوسلو يمكننا أن نقرأ أيضًا: "ستقام لجنة مشتركة للتنسيق والتعاون في مادة الأشغال المدنية ولجنتان فرعيتان مشتركتان على مستوى المناطق للأشغال المدنية لقطاع غزة ومنطقة أريحا من أجل ضمان التعاون والتنسيق في مادة الأشغال المدنية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل كما جرى تفصيله في الملحق II." يخفي المصطلحان "تعاون وتنسيق" بشكل رديء التدخل الإسرائيلي والهيمنة الإسرائيلية. ومع هذا التكرار المتعب للمصطلح "أشغال مدنية" كما لو كنا نسمع من فم المفاوض المتعجرف الإسرائيلي: "أنا هنا في المادة المدنية مثلما أنا هناك في المادة العسكرية شئتم أم أبيتم وسأبقى"! وكل شيء يؤشر إلى أن ما يرمي إليه الاحتلال تبديل وجهه فقط لا غير، ويبقى الهدف دومًا سحق شعب بأكمله، ابتلاع أرضه، ومحو تراثه.

سيذهب المحتل إلى أبعد فيما يخص هيمنته وتدخله في الشأن الفلسطيني عندما يحدد عدد أعضاء السلطة الفلسطينية، صلاحياتهم، ومسئولياتهم –نعم، مسئولياتهم- وإدارة المحافظات. ويكمن أسوأ الأسوأ في الطلب الموجه إلى منظمة التحرير بأن تنقل للإسرائيليين "أسماء أعضاء السلطة الفلسطينية وتخبر (الإسرائيليين) بكل تبديل في أعضائها، وستكون هذه التعديلات مقبولة بعد أن يتم تبادل رسائل في أمرها بين منظمة التحرير وحكومة إسرائيل" بند IV فقرة 3 اتفاق أوسلو. وفي إعلان المبادئ يمكننا قراءة بند IV فقرة 1: "يخبر الطرف الفلسطيني الطرف الإسرائيلي بأسماء الفلسطينيين المخولين بصلاحيات وكفاءات ومسئوليات يُكَلّف بها فلسطينيون طبقا... الخ."

أحالم أنا! تصبح منظمة التحرير هنا مركِّبًا من مركِّبات الموساد لا شيء غيره. والمذهل أكثر الفقرة 4 من البند نفسه: "يلتزم كل عضو من أعضاء السلطة الفلسطينية في وظائفه بالعمل طبقًا للاتفاق الحالي". وهذا نقيض كل حرية فردية، كل إصلاح يُسعى إليه، كل قرار يناقش. هذا ضربة سياط لما يشترطه البند III من إعلان المبادئ بخصوص انتخابات تجري "حسب المبادئ الديمقراطية"! ما يفسر التغمغم الانتخابي اللاحق مع أشخاص لم يكونوا أبدًا ديمقراطيين، ولن يعرفوا أبدًا أي لون للديمقراطية. هذا الشرط الذي يمليه منتصر لهو من العجرفة والعنف كما لم نر أبدًا عبر التاريخ. حتى الحلفاء ضد النازيين لم يصيغوا شرطًا مذلاً كهذا، ومع الأسف تم قبوله من طرف عرفات وأعوانه دون أدنى شعور بالعار. سيقبلون بالحضور المباشر للمحتل (مستعمرات، ثكنات عسكرية، نقاط استراتيجية) وبالحضور الغير المباشر (تحت شكل لجان ولجان فرعية) في كل ما ندعوه سلطة قضائية وظيفية وشخصية، بند V اتفاق أوسلو: الأرض، تحت الأرض، المياه، الأشخاص، الميدان الإلكترومغناطيسي، الفضاء الجوي، الترتيبات الشرعية والعون الشرعي في المادة العقابية والمدنية. يخرج المحتل من الباب ليعود من نافذة اللجان واللجان الفرعية، وبصفته جسدًا للقمع يقيم في المستعمرات والمناطق العسكرية التي لم ينسحب منها، والتي لن ينسحب أبدًا منها طالما بقي سرطان المستعمرات هذا ينهش الأراضي المحتلة. يكفي أن نقرأ هذه الفقرة من البند V: "ستمارس إسرائيل سلطتها عن طريق حكومتها العسكرية التي ستستمر، من أجل هذا الغرض، في التمتع بسلطات ومسئوليات تشريعية وتنفيذية وقضائية ضرورية طبقا للقانون الدولي".

ولكن في أي عصر أعيش؟ في أي بلد إن لم يكن بلد عرفات! لا، ولكن هذا من المستحيل قبوله! ألف مرة من المستحيل قبوله! مائة ألف مرة من المستحيل قبوله! والأنكى من كل هذا أن المجتمع الدولي يصفق لمثل هذا اتفاق، لمثل هذه عبودية، لمثل هذا وضع في السلاسل! والأنظمة العربية، هذه الأنظمة الفاشية المزوقة بالديمقراطية على طريقة مبارك، تستلم الصفعة الإسرائيلية بكل وجهها من يد عرفات، وترتضي لنفسها بلعق طنجرة الخبيص هذا! والمثقفون العرب (عدا البعض طبعًا)، هؤلاء المثقفون الجبناء بطبعهم، يعتزلون في الهامش الأكثر ضيقًا لمجتمعهم، وبعدم نهوضهم ضد هذا المشروع الجهنمي الرامي إلى تصفية القضية الفلسطينية والهوية الفلسطينية الهوية العربية بكل بساطة، يثبتون أنهم عار الثقافة! كما وليست المرة الأولى ولا الأخيرة لحماية مصالحهم يمتنع هؤلاء المثقفون العرب عن دحض هذا التيار المسمى إسلامي. لم يرفعوا إصبعهم الصغرى ليجتثوا من الجذور هذه الرؤية المشوهة للإسلام، بينما يمكنهم تقديم رؤية جديدة عبر قراءتهم للقرآن قراءة منطقية وعلمية مبدين للعالم الوجه الحقيقي للتسامح ومساهمين هكذا بالفكر الكوني والإنساني. سيعي الغرب التلاعب بالإسلام كأداة قمع نفسي وأيديولوجي في يد الحكام في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية طالما يخدمهم هذا على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. إضافة إلى ذلك، هؤلاء المثقفون العرب لم يفعلوا شيئًا ضد حرب العراق، ضد الاحتلال الأمريكي، ضد قلب حياة العراقيين والعرب في مجموعهم إلى جحيم. وعلى أي حال، هم لن يفعلوا شيئًا ضد دبابات الجي آي ولا دبابات شارون، بينما عليهم يعود تفجير الحجج الرامية إلى تفنيد هذه الاعتداءات، وإظهار الصفة الموبوءة لسياسة الهيمنة هذه ذات المرامي القمعية.

لن تقف الأمور عند هذا الحد. عدا "الصلاحية المخولة لها في دفاتر التسجيل والإحصاء وإعطاء شهادات ميلاد..." بند VI فقرة 1د اتفاق أوسلو، تخضع السلطة الفلسطينية بكل صراحة للسلطة الإسرائيلية فيما يخص "الصلاحيات التشريعية المشترط عليها في البند VII من الاتفاق الحالي. ويمكننا أن نقرأ تحت الفقرة 3 من البند VII: "على القوانين التشريعية التي تصدرها السلطة الفلسطينية أن تُرفع للجنة فرعية تشكلها لجنة الأشغال المدنية (ستُدعى فيما بعد لجنة فرعية للتشريع). سيمكن لإسرائيل، خلال مدة 30 يومًا ابتداء من رفع القوانين التشريعية، أن تطلب من لجنة التشريع الفرعية تحديد إذا ما كانت هذه القوانين تتعدى السلطة القضائية للسلطة الفلسطينية أو تخالف بحالة أخرى نصوص الاتفاق الحالي."

وتحت الفقرة الفرعية 4 من البند نفسه: "حال استلام الطلب الإسرائيلي، ستبت اللجنة الفرعية للتشريع أولاً في دخول القانون التشريعي المعني حيز التطبيق بانتظار أن تبدي إسرائيل رأيها في المشكل من حيث الجوهر."

ثم تأتي التفافات ودورانات من العقبات والتعقيدات لا نهاية لها عندما يتعلق الأمر بمجلس المراجعة، ثم بلجنة الاتصال، ثم لست أدري بماذا أيضًا، ثم، ثم... للوصول إلى هذه الخاتمة التعسفية في الفقرة 9: "تبقى القوانين والنظم العسكرية المعمول بها في قطاع غزة ومنطقة أريحا السابقة على التوقيع على الاتفاق الحالي سائرة المفعول إلا إذا جرى تعديلها أو إلغاؤها طبقًا للاتفاق الحالي."

لِمَ كل هذا التعب إذن بما أن الأساسي، القوانين والنظم العسكرية، ستبقى سائرة المفعول؟ الباقي الذي يقول "عدا إذا..." ليس إلا غِشًا ودجلاً، لأن كل مسعى إلى تغيير هذه النظم والقوانين لا يمر إلا بإرادة المحتل الإلهية.

لا، لا توجد صلاحيات تشريعية مستقلة لمثل هذه سلطة جرت تصفيتها كبضاعة بأقل ثمن تدعى فلسطينية، وكذلك لا توجد صلاحيات تنفيذية يجري العمل بها بحرية إلا إذا كانت تخدم المصالح الإسرائيلية وتقوّي من وضع يد الإسرائيليين على دولة عرفات. وخير ما يدل على ذلك الترتيبات التي تم اتخاذها بخصوص الأمن والنظام العام كما جاء وصفها في البند VIII من اتفاق أوسلو: مسئولية إسرائيل فقط في مادة الدفاع ضد "التهديدات" الخارجية (كما لو كانت هناك تهديدات خارجية) وتشكيل قوة بوليسية جبارة (للقمع الداخلي كما يريد الإسرائيليون). وأيضًا لجان مشتركة ولجان فرعية، وأيضًا بنود تعسفية من أجل الدفاع عن حصان طروادة الذي هو المستعمرات. باتجاه الفلسطينيين ليست هناك سوى الاشتراطات، ومن طرف الإسرائيليين ليست هناك سوى الأوامر والحبال المشدودة شدًا خانقًا. لنر كيف يقضي المحتل بتشكيل قوة بوليسية فلسطينية في البند IX:

"1. ستقيم السلطة الفلسطينية قوة بوليسية جبارة، المجلس الفلسطيني لقوة الشرطة (سيدعى فيما بعد "شرطة فلسطينية"). الواجبات، الوظائف، البنية، الانتشار، وتشكيل الشرطة الفلسطينية، وكذلك كيفية تجهيزها وعملها محددة في الملحق I، بند III. قوانين سلوكها الميداني محددة في الملحق I، بند VIII.

2. عدا الشرطة الفلسطينية المحددة في البند الحالي والقوات العسكرية الإسرائيلية لن تشكل قوة عسكرية أخرى أو تقوم بعمليات في قطاع غزة أو منطقة أريحا.

3. عدا أسلحة وعتاد وتجهيزات الشرطة الفلسطينية المحددة في الملحق I بند III وأسلحة وعتاد وتجهيزات القوات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة ومنطقة أريحا لن يكون أحد أهلاً بصنع وبيع والحصول على وامتلاك واستيراد أو إدخال بأي وسيلة كانت إلى قطاع غزة ومنطقة أريحا أسلحة نارية ومعدات وألغام أو ما يشابهها عدا إجراء معاكس يقضي به الملحق I."

طبعًا كل شيء محدد سلفًا، العدد، التجهيزات، قوانين السلوك، والأسباب التي أنشئت من أجلها هذه "القوة البوليسية الجبارة"، الشرطة الفلسطينية. فيما يتعلق بهذه الأسباب، آخر فقرة ذات دلالة: تدمير كل تنظيم "إرهابي" (سيتبنى الطرفان كل الإجراءات الضرورية لتدارك أعمال الإرهاب... بند XVIII) بواسطة أسلحة يقدمها المحتل كما يريد وبالقدر الذي يراه مناسبًا. أما بخصوص "الواجبات" الملزمة لهذه الشرطة، فهي واجبات لإخضاع الفرد لا لحمايته. وسيكون التجهيز بالسلاح والعتاد على علاقة بمستوى تجهيز التنظيمات الأخرى لا أكثر ولا أقل. لأن إسرائيل تخشى، مع اتفاق غير عادل كهذا، أن يتحول هذا السلاح إلى صدرها. ولدينا انطباع حين يلح المفاوض الإسرائيلي على التشكيل السريع لقوة بوليسية فلسطينية "جبارة" أنه على عجلة من أجل القضاء على الأشخاص والتنظيمات التي لم يستطع "تحييدها" هو نفسه. لم تجر هناك دعوة إلى الحرب الأهلية، ولكن كل شيء يشير إلى أن هذه للمفاوض الإسرائيلي أمنيته الأغلى على قلبه. وفي هذا يكمن "التسامح المتبادل" بند XII، بين الطرفين بالقدر الذي تنفذ فيه إدارة عرفات بنود هذا الاتفاق المتخلخل. ولا تأتي المسائل الأخرى مثل نقاط العبور، العلاقات الاقتصادية، حقوق الإنسان، أولوية القانون، إلا لوضع ماكياج على الهول الذي يراد القيام به، وجعل الناس تعتقد أن هذه السخرية المسماة "سلام عادل ودائم" هي منذ الآن فصاعدًا ممكنة بعد سنوات من الحروب والعداء. ولكن في الواقع، ليس كل هذا سوى سراب، لأن كل شيء تم تحديده في صالح إسرائيل، في استمرار الحياة السائرة تحت الاحتلال: تمديد للتبعية الاقتصادية والعسكرية.



ما يجري على الأرض

كان للطنطنة العالمية التي جرت حول عودة عرفات إلى غزة هدف واحد أوحد: اعتقاد العالم أجمع أن القضية الفلسطينية قد وجدت حلاً نهائيًا، وأن فلسطين تتلخص بهذين الثقبين اللذين هما قطاع غزة ومنطقة أريحا، واللذين سيقيم عرفات عليهما دولته. ولأول مرة تكلم المعلقون الفرنسيون عن فلسطين كبلد يوجد، وعن رئيس لهذه الحزينة فلسطين، عرفات، الذي كانت تراقبه مروحية من الجيش الإسرائيلي، والذي خرج لتحيته جمع غفير جاء بالأحرى بدافع الفضول أو ليطلق بعضًا من مكبوتاته مع شعور بالتخلص من السحق اليومي للمحتل. كان هذا الجمع يجهل أن خطة الإنهاء عليه قد ذهبت من يد إلى أخرى في اللحظة التي وضع فيها عرفات قدمه على أرض فلسطين، ولم يكن الناس يقدّرون النتائج التي ستتبدى عنها. كانوا يظنون أن فلسطين قد تحررت بالفعل بينما كانت الطريق قد فتحت بما لا يقبل الجدل لتطبيق هذه الخطة التي لم يكن اتفاق أوسلو 1 سوى الوسيلة، فجرى تقديمه بشكل مضحك، وكأنه أفضل ما يمكن الحصول عليه. كان عرفات يعرف أن العودة إلى غزة لا تعني على الإطلاق أن كل شيء قد تم حله، وكان عليه أن يثبت للإسرائيليين أنه رجل الساعة. وليرضيهم، كان عليه أن يعتمد على كل الأوغاد الذين صنعهم تحت سلطته في تونس، وذلك بالعمل على مستويات ثلاثة هي: الإسلاميون والمستعمرات ورجال الأعمال.

الإسلاميون:
بعد أن جرى تشجيع الفصائل التي تدعى إسلامية من طرف الإسرائيليين في البداية، كانت هذه الفصائل مزروعة جيدًا عند رجوع عرفات إلى غزة. وهذا ما كان الإسرائيليون يسعون إليه، أن يكون هناك من يعارض عرفات، من يأخذ سلطة منظمة التحرير، وخاصة من يجعل من حركة التحرر حركة دينية تقاتل باسم الله ولأجل الله، وترمي إلى إقامة دولة إسلامية وليس دولة علمانية تنشأ حسب معايير ديمقراطية، ومن أجل هذا سمح الإسرائيليون ببناء الجوامع في كل مكان والمؤسسات الدينية الأخرى، وغضوا الطرف عن خطب الشيوخ اليومية الذين لم تكن لهم في زمننا أية أهمية، والذين كانوا محط سخريتنا: "تحت اللفة زفة!" كنا نقول عنهم. ولكن أكثر ما في الأمر، عندما ترك الإسرائيليون للسعوديين التحكم بهذه الفصائل بالمال. وهكذا تم تقنين غضب الشعب الفلسطيني، وتم اقتياد الشباب الذين كانوا في وضع يرثى له دون عمل ودون مستقبل. وأكثر الأكثر، تم ما تسعى الدولة العبرية إليه عندما رأت نفسها كدولة دينية بعين الفلسطينيين الذين يطالبون بإقامة دولة مشابهة، دولة إسلامية.

إلا أن إسرائيل التي كانت تعتقد بسيطرتها على هذه الحركة المسماة إسلامية وذلك بمراقبتها عن قرب، وتعتقد بكونها ضالعة بالعمل المشبوه مع السعوديين وذلك بمراقبة مواردها المالية، وبرمي الذين يعبرون عن غضبهم بطرق أخرى غير الصلاة في المعتقلات (كالشيخ ياسين مثلاً رئيس حماس)، رأت نفسها متجاوزة بالدعم الشعبي لهذه الفصائل – دعم مترجم ليس فقط بالحلم القديم الذي يقول إن الله سيخلص الناس في يوم قريب قادم من الاحتلال ويفتح لهم الطريق إلى يافا وحيفا واللد والرملة وكل فلسطين، ولكن أيضًا بالسلاح وذلك بتحولهم إلى قنابل إنسانية. حقًا لقد نجح الإسرائيليون في انتزاع تسييس الناس، وتعميم تصورهم الدائم، والذي هو هوية عرقية ودينية، ولكن أبدًا استئصال حلمهم باسترجاع كل فلسطين بعون الله والتضحية بأنفسهم. إذن الرجل الذي عمل الإسرائيليون كل ما في وسعهم للتقليل من نفوذه سيكون هو من يضع حدًا لهيمنة حماس والجهاد الإسلامي. هذا هو الوجه الخفي من اتفاق أوسلو 1، ومن أجل هذا، بين مرامٍ أخرى طبعًا، تفضل الإسرائيليون بالذهاب إلى العاصمة النرويجية.

ومع ذلك سيلتزم عرفات، الثعلب الفلسطيني، بالذهاب في هذه الطريق، كما هو عهده مع شعاره: "اطلبوا مني كل ما تريدون، ولكن اتركوا لي اختيار الوسائل التي تؤدي إلى ذلك!" عين شخصًا أقل ما يمكن القول عنه فاشيّ النزعة على رأس جهاز الأمن الوقائي في قطاع غزة، محمد دحلان (1994-2002)، هذا الجهاز الذي لم تجر الإشارة إليه في اتفاق أوسلو 1، والذي تمت فبركته قطعة قطعة على يد الموساد والسي آي إيه، وأنفقت عليه ملايين الدولارات وعلى أفراده، من أجل خنق كل مقاومة وإخضاع كل مقاوم، ثم راح يساوم قادة الحركة الإسلامية كما لو أراد أن يقول لهم: قائد جهاز أمني قادر على سحقكم، ولكني شخصيًا أفضل حل مشكلتي معكم بشكل مباشر ومسالم، إذن تعاونوا واعتبروا أنفسكم محظوظين!

كان عرفات يلجأ إلى طرقه المعروفة من الجميع، الفساد بالدرجة الأولى ثم الحِذْق عندما يماري في أعين هذه الفصائل القوية إمكانية اقتسام السلطة معه، لكنه لم ينجح، لأن حماس والجهاد الإسلامي يعيان كفصيلين ما لهما من قوة، ويريدان، حتى ولو لم يقولا ذلك صراحةً، كل السلطة، فبدأ قائد جهاز أمنه الدموي برمي المنخرطين الإسلاميين في السجن دون أن يجرؤ مع ذلك إلى الذهاب حتى إشباع رغبات الإسرائيليين: الهجوم عليهم – لهذا أقيم البوليس "الجبار" كما يقضي به اتفاق أوسلو – ومصادرة أسلحتهم. وبعبارة أخرى، تصفية الحركة الإسلامية بالنار والدم. ستكون في الواقع نهاية عرفات لما لفصائل الله هذه من دعم شعبي ونهاية اتفاق أوسلو، مما لا يناسب الإسرائيليين في شيء طالما لم تُحل أية مشكلة في هذا الاتجاه، ولا العرفاتيين، لأنهم وافقوا على كل شيء من أجل أن يكون حكمهم، وخاصة من أجل أن يدوم.

ستستأسد اللجان واللجان الفرعية الإسرائيلية-العرفاتية من أجل إيجاد حل، ستصادر أموال هذه الفصائل الإسلامية، ستهاجم نتيجة لذلك اقتصادًا يعيل كل الغزيين، وستوجد اقتصادًا موازيًا، وذلك ببناء الفنادق السياحية والأملاك الخاصة بالمقربين لدى عرفات ومطار من أجل طائرة عرفات الوحيدة وميناء لأسطول عرفات في المستقبل. ستفتح إسرائيل بابها على دفتيه لليد العاملة الرخيصة، وستسمح بإنشاء مصنعًا أوحد للمشروبات الغازية في غزة. فلتحي الصناعة العرفاتية! ومع ذلك، طالما أن الله إلى جانب الشعب، لم يتخل الشعب عن شيء، وازداد الحقد على عرفات والإسرائيليين. فتغير التكتيك: انتهى عهد المن والسلوى، توقف بناء الفنادق والميناء، وتم هدم المطار فيما بعد ومعه طائرة عرفات الوحيدة. لم تعد هناك بحبوحة اقتصادية، ومن جديد، عادت مخيمات اللاجئين ترزح تحت كاهل البؤس، وتضاعفت معاناة السكان، كما وعادت سياسة القمع بقيادة قائد جهاز الأمن الفاشي كما لم تكن من قبل. لكن توقف كل شيء فجأة عندما هوجمت السجون من طرف رجال مسلحين، وحرر السجناء بعد مقتل عدد من أفراد البوليس الفلسطيني "الجبار". لو حقق عرفات شيئًا ما في ميادين أخرى غير ميدان الأمن لشن حربًا أهلية ولكسبها، لكن كل شيء كان راكدًا، لم يكن هناك انسحاب فعلي للجيش الإسرائيلي، ولا أي تقدم يذكر في تطبيق اتفاق أوسلو. لم يكن باستطاعته تصفية الحركة الإسلامية وفي الوقت ذاته ادعاء كونه محرر فلسطين. فوجد الإسرائيليون الذين كانوا يريدون التخلص من الإسلاميين مع احتفاظهم بكل امتيازاتهم على الأراضي المحتلة، وجدوا أنفسهم مضطرين لاستعادة الوضع: اتفاق أوسلو يعطيهم الحق، بتغيير الطريقة طبعًا، بما أنهم لم يتوصلوا بعد إلى تصفية القضية الفلسطينية، وللمجيء إلى نجدة رجلهم، ثعلب الثعالب، إذ لم يزل له دور يلعبه.

لا شيء، أبدًا لا شيء كان يرغم الإسرائيليين على تحرير الشيخ ياسين، قالوا في شيخوخته حجة، وفي مقامه كرجل دين، وفي صحته، ولكن على ما يبدو بدا الشيخ ياسين يتمتع بصحة جيدة، وقدم نفسه كرجل سياسي أولاً وقبل كل شيء.

في الواقع، دشن تحرير الشيخ ياسين بداية التصعيد الذي نعيشه حاليًا: كان الإسرائيليون يعرفون جيدًا أن المنحى مع قائد متعنت كالشيخ ياسين سيكون منحى تشدد الحركة الإسلامية. وهم بهذا يحققون غرضين، الضغط على عرفات ليدير الأمر الواقع – تجميد اتفاق أوسلو، مماطلة، مناورة، احتيال، تمسكن، تشعوذ... الخ -، وجعل الوضع السياسي الاقتصادي الاجتماعي وضعًا معقدًا من المستحيل فكفكته، وما تمني عرفات الذهاب والشيخ ياسين للصلاة يومًا في المسجد الأقصى سوى محض مكر ورياء. كان عرفات يعتقد جازمًا أن الحركة الإسلامية ستدمر بدبابات الجيش الإسرائيلي، ولكنه كعادته، أبدى من نفسه الوداعة، والانتباه الأفضل من كل الناس، ليقول براءته، ويعلق وطنيته في ساحة المزايدة على الجميع. إلا أن انطلاق الانتفاضة الثانية قد دفع الجميع بقوة إلى ما لم يكن متوقعًا، وعجل مجيء شارون إلى الحكم من الخطة الرامية إلى وضع حد لكل حمية شعبية، ما تبقى من حمية شعبية، كي يجري القبول بالحد الأدنى، الحد الأدنى للأدنى.

المستعمرات:
إذا لم يكن للمستعمرين سوى حليف واحد، فسيكون عرفات، لأنه منذ عودته إلى فلسطين، تضاعف عدد المستعمرات إن لم يكن تثالث. لعب لعبة العاجز أمام هذه الظاهرة، واكتفى بإدانتها شفويًا. تواصل مشروع الاستيطان رغم كل شيء، واستغله عرفات ليبرر الحد الأدنى المقبول. لكن الطغمة الحاكمة في إسرائيل هي التي تنتفع منها أكبر انتفاع، والتي، كي تذهب بمراميها السياسية الخسيسة إلى أقصاها، مرامي الهيمنة على الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، تُحرك أناسًا جعلوا من اللوائح التلمودية استبدادًا بالعقول على نحو غير سوي. وإذا أصبحت المخالطة جهنمية بين المستعمرين المستوطنين وجيرانهم الفلسطينيين، فلأن الساسة في المعسكرين يسعون إلى تفاقم الوضع في هذا السجل أيضًا من أجل ألا يُسحب شيء من اتفاق أوسلو المدعو 1، وأن يكون الرجوع إلى الأمر الواقع الذي على عرفات إدارته بأي حال من الأحوال.

وزيران من وزرائه المقبولين من طرف الإسرائيليين والموافق عليهما من طرف الموساد سيأخذان على عاتقهما هذه المسألة التي هي مع ذلك من غير مخرج. ولكن بغياب حقيبة حقيقية يجدر اللعب بالمُدة، والعمل على اعتقاد الفلسطينيين بأن عرفات يعمل كل ما في وسعه لدى المفاوض الإسرائيلي ليخفف من عذاباتهم. نبيل شعث من ناحية – فاسد منذ مولده، وزير "التعاون الدولي" (لقب اختير لقول "أشغال خارجية" دون المخاطرة بالتعدي على بنود اتفاق أوسلو كما سنرى) -، وصائب عريقات من ناحية ثانية – انتهازي مخضرم وببغاء لعرفات، وزير مكلف بالمفاوضات – سينشغلان بالمستوطنين.

الأول لأن اتفاق أوسلو يمنعه من كل شيء: "تطبيقًا لإعلان المبادئ، لن تكون للسلطة الفلسطينية سلطات في ميدان العلاقات الخارجية: إقامة سفارات في الخارج، قنصليات أو أي نوع من البعثات أو المناصب في الخارج، إقامة بعثات كهذه في قطاع غزة أو منطقة أريحا، تعيين أو اعتماد مِلاك دبلوماسي أو قنصلي، قيام بمهام دبلوماسية" بند VI فقرة 2 أ. إذن وزير أشغال خارجية بدون أشغال خارجية لم أر واحدًا في حياتي! ليس له في إطار وظائفه الحق في معالجة أي أمر كان إلا مع الإسرائيليين، وتثبت ذلك اتصالاته بخصوص المستعمرات.

الثاني لأن التفاوض مرتبط بوظيفته، مفاوض لعرفات ومفاوض ليس كالآخرين، بما أن "والده" المالي يملي عليه ما يجب قوله بالحرف الواحد، وهو يقوله بإنجليزية معتبرًا نفسه شكسبير زمانه! والرئيس التاريخي، والرئيس التاريخي! يفاوض الإسرائيليين بلعق نعالهم ليخفف قليلاً من تشددهم، لكنه يتركهم بوجه عابس دون أن يوفرهم نقدًا وتوبيخًا. هذا ما يدعى بالتعهر في السياسة، والذي يمارسه القادة الفلسطينيون دون حياء مع زملائهم الإسرائيليين. يتكلم عريقات عن المستوطنين للصحفيين – دائمًا بلغة شكسبير من فضلكم – ولا يسهو عن ترداد "الرئيس التاريخي" عند كل جملة إن لم يكن عند كل كلمة، كما لو كان عرفات رئيس المستوطنين. وهو رئيسهم من الناحية الأخلاقية، لأن لا الفهلوي شعث ولا الببغاء النموذج ينجح في كبح برنامج التوطين. وفي الأخير، ككل متحضر من ترمسعيا، تلك القرية المنسية من عندنا، يأتي شعث عابس الوجه من وراء ميكروفون معد لتلك المناسبة ليدلي بتصريحه كزميله الببغاء بلغة شكسبير. وعلى طريقة شيخ إنجليزي بطربوش أبيض، يتلفظ بكلامه المتفاصح ظنًا منه أن الصحفيين يسمعون له أو يهتمون بما يقول، عندما يكون كل ما يحكيه عن أوامر أعطاها لزميله الإسرائيلي ليس إلا عذرًا كاذبًا. أمام الإهانة اليومية التي يوجهها المفاوض الإسرائيلي، وخاصة منذ ذلك اليوم التراجيدي "للنييت" (يعني لا بالروسي) بخصوص "المستزرعات" – لا يقولون مستعمرات في اتفاق أوسلو ولا مستوطنات – مصطلح أقل ارتباكًا لمتحضري ترمسعيا الذين هم زبانية عرفات – يقبلون بوجود المستعمرات كقطع غيار: ترحّلون عددًا معينًا وبالمقابل نتخلى لكم عن لست أدري كم كيلومتر من الحدود! يا للعار! سيجري تطوير هذه الفكرة في مفاوضات جنيف غير الرسمية بين الجندي الشجاع الباسل الأشقر ذي العينين الخضراوين واللدغة الباريسية غو غو غو... ياسر عبد ربه، كما سنرى ذلك عند معالجتنا لهذا الفصل.

إذن، فيما يخص هذا المصراع، سيسير تزايد خطورة الوضع العام معًا وتفاقمه في الأراضي المحتلة، إلا أن عرفات سيحاول إنقاذ على الأقل الوضع الاقتصادي. إنه الباب الوحيد الذي يتركه له اتفاق أوسلو مفتوحًا، ليس دون قصد سيء من طرف الإسرائيليين طبعًا.

رجال الأعمال:
الكل يعلم أن اقتصاد الأراضي المحتلة يتوقف تمامًا على الاقتصاد الإسرائيلي، وأن هناك سيطرة كلية لإسرائيل في مادة التجارة و"التطور". تتحكم إسرائيل في النقد، وفي سوق العمل، وفي الماء، وفي الكهرباء، وفي انتقال البضائع والأشخاص. وتمثل الأراضي المحتلة كنزًا لا يقدر بثمن لاقتصاد بلد نجمة داوود، وهذا في الاتجاهين، بصفتها منطقة محتلة تستهلك، وبكونها توابع للمصانع الإسرائيلية تنتج. وبالتالي هناك أرباح دومًا للإسرائيليين الذين يصرّفون بضائعهم المصنوعة على أرضهم والذين ينتجون بضائع على الأرض الفلسطينية مع يد عاملة رخيصة، هذه البضائع التي ستباع في الأراضي المحتلة كما ستباع في إسرائيل بفائض قيمة مرتفع كمكافأة. وبالطبع ترك الإسرائيليون عرفات يعمل اقتصاديًا ما يريد عمله، لأن كل خطوة لدعم الاقتصاد في الأراضي المحتلة هي في الواقع في صالح إسرائيل. لم تنطلق الانتفاضة الثانية، ولم يأت شارون إلى الحكم بعد. تراخى الطوق المطوق لسكان الأراضي المحتلة عن أعناقهم، ولم يستعمل المستعمرون الإسرائيليون يأسهم بعد كوسيلة قمع ضد هؤلاء السكان أنفسهم. سيُرفع الحصار من وقت إلى آخر في المستقبل من أجل هدف تجاري لا إنساني: تشجيع اقتصاد الأراضي المحتلة قليلاً من أجل إنعاش الإقتصاد الإسرائيلي الذي كانت لحرب الحجارة عليه نتائج كارثية. ومن يقول ازدهارًا يقول تمويلاً جيدًا للجيش، إنهم الفلسطينيون الذين يمولون بشكل من الأشكال الجيش الذي يقمعهم، مع رضاء عرفات بالطبع.

كما يشترط إذن اتفاق أوسلو 1 بند VI، لم يكن للعرفاتيين أية صعوبة يواجهونها من أجل الذهاب إلى التوقيع على اتفاقات اقتصادية ومساعدات ومن أجل تطبيق خطط التطوير المناطقية. وكما نرى، هناك طموح بخصوص كل بلدان المنطقة يتجاوز الحدود الفلسطينية. هذه اللُّجة الاقتصادية التي تحلم بها إسرائيل دون أن تتخلى مع ذلك عن سيطرتها على الأراضي المحتلة، وهذا بفضل عرفات. عرفات الذي هو هنا لخدمة اقتصادها، الذي هو هنا لخدمة حكمها. حتى أنه هنا للذهاب إلى أبعد مما يتمنى الإسرائيليون الحصول عليه، عندما يحمل على عاتقه الرواتب وكل المسئوليات الأخرى والالتزامات العائدة إلى قبل النقل (نقل السلطات... إنهم دومًا هنا ولكن بالاختصار...) كما يمكننا أن نقرأ تحت الفقرة أ 1 من البند XXII: "نقل كل السلطات والمسئوليات إلى السلطة الفلسطينية المشترط عليه في الملحق II، يتضمن كل الحقوق والمسئوليات والالتزامات المرتبطة بأفعال أو إسقاطات حصلت قبل النقل. تتوقف إسرائيل عن حمل كل مسئولية مالية بخصوص هذه الأفعال المذكورة والإسقاطات وتتحمل السلطة الفلسطينية كل المسئولية المالية لهذه الحالات ولعملها العائد عليها."

وأكثر من هذا، سيذهب عرفات حتى دفع كل مطالبة قضائية تقدم لإسرائيل، فقرة ب من البند نفسه، ومع ذلك على البلد الذي يحتل بلدًا آخر أن يتحمل كل مسئولية مالية تعود عليه حتى بعد انسحابه من هذا البلد، وحالة ألمانيا النازية بهذا الخصوص مثالاً دامغًا. لم تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة، ومع ذلك عرفات من سيدفع الفواتير الإسرائيلية، حتى أنه جاهز للذهاب إلى المحاكم في مكانها، فقرة ج من البند نفسه. الافتتان الإسرائيلي كامل: بخصوص الأرض إسرائيل لا تعيد شيئًا، وبخصوص المال تأخذ كل شيء: كم هي الحياة جميلة! ومع عرفات، كم هو العالم جميل!

ستدفع بلدان الخليج والسعودية حصتها وكذلك البلدان المانحة الأوروبية، ليس بالقدر الذي يأمل عرفات، ومع ذلك. يبقى له رجال الأعمال ابتداء بالفلسطينيين الذين يقيمون في الأردن وكل الاقتصاد الأردني بين أيديهم. خطوة هامة ترمي إلى هيمنة إسرائيل الاقتصادية مرورًا بعرفات خارج حدودها. لقد كُلف أسعد عبد الرحمن، صديق من أصدقاء الطفولة، وأحد وزراء عرفات، بجمع كل القبيلة المالية في عمان بحضور الرجل ذي الكوفية الأبدية. كانت المهمة صعبة، فقد أوجب رجال الأعمال هؤلاء ضمانات وإلا ضاعت أموالهم، وإسرائيل هي التي أعطتهم أفضل الضمانات، وذلك بإشراكهم مباشرة في وزارة الاقتصاد والمالية. كان عرفات راضيًا تمام الرضاء، فقد أتم مهمته "التاريخية" بتطبيقه حرفيًا البنود المالية لاتفاق أوسلو. وتمت، بعد ذلك، لقاءات أخرى بين رجال أعمال فلسطينيين وإسرائيليين. أنسى الناس الازدهار في الأراضي المحتلة، مؤقتًا على الأقل، المأزق السياسي الذي توجد فيه المفاوضات المتعلقة بتطبيق البنود حول الانسحاب العسكري. وأراد عرفات أن يلعب لعبة الوطني عندما أعدم رميًا بالرصاص، كما هي الحال في كل نظام بربري، بعض المساكين بتهمة التجسس لصالح "العدو". ولكن أي عدو؟ الإسرائيليون؟ وأولئك الذين يتعهرون ليلاً نهارًا على أحذيتهم، أليسوا هم الجواسيس الحقيقيين؟ لماذا لا يعدمهم؟ يعمل من الجواسيس الحقيقيين أبطالاً ومن المتسكعين الذين لا قانون لهم ولا مأوى جواسيس ويعدمهم ليقول للناس: أنا الوطني الوحيد الذي عليكم أن تضعوا فيه كل ثقتكم. ولكن في ظهورهم يرتكب أشياء أسوأ من كل ما يمكن كل الجواسيس ارتكابه معًا. هذا أيضًا جزء مما أدعوه التعهر السياسي، والذي آخر أفعاله بنّاء: يصف قريع بالجرائم مذابح جيش شارون الذي ارتكبها ضد مدنيي رفح، وفي الغد يمتدح هذا الشارون نفسه محييًا شجاعته للانسحاب من بعض المستعمرات التي لا تشكل في الواقع أي عائق أمام تنفيذ خطته الجهنمية للانفصال. وعلى الجميع أن يعلم أن جواسيس هذا القريع نفسه على صدر "اللجنة الأمريكية الإسرائيلية"، وبعبارة أخرى "لجنة السي آي إيه والموساد والمخابرات" المكلفة بتحييد كل "المنظمات الإرهابية"، هي التي تنذر طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية محددة لها الرجال السياسيين الذين عليها قتلهم بصواريخها – ومعهم تلاميذ المدارس العابرين في شوارع غزة. تعهر سياسي أيضًا عندما تنعت المدعوة شهيد، ممثلة عرفات في باريس (وموسيو عرفات، وموسيو عرفات!) التي يقبّلها شيراك من خديها المنتفختين، عندما تنعت هذه الآنسة الجالسة على مقعدها مقعد "الدبلوماسية المجربة حتى العمق" جلوسًا مريحًا منذ أربعمائة عام، عندما تنعت المحتل الإسرائيلي على الشاشة الصغيرة بشتى النعوت، وخارج الكاميرا تصعد في سيارة سفير إسرائيل المصفحة لتذهب معه لست أدري إلى أين. وأسوأ من هذا بكثير: عندما يدفع السفير الإسرائيلي راتبها لما تفرغ صناديق عرفات أو هو يفرغها.

وبالفعل، بدأت تلحق بعرفات المساوئ الاقتصادية عندما تبين أن إسرائيل وحدها المنتفعة من "الانفتاح" الاقتصادي. غدت الحياة أكثر فأكثر غلاء، ولم تعد الرواتب تكفي، لم تكن أبدًا كافية لأجل العيش، ولأول مرة تُشن الإضرابات من أجل الخبز وليس من أجل طرد المحتل. ولكي يوقف الحركة، ذهب عرفات بنفسه بصحبة قائد المنطقة. هذا القائد، ككل الآخرين، لم يمكنه أن يرى نفسه قائدًا لأجل القتل والقمع إلا بعد أن عُرض اسمه على الموساد، وبعد أن وافق الموساد عليه. عميل إسرائيلي قديم؟ حتمًا. وإضافة إلى ذلك يقيم العرفاتيون المحاكم ليحاكموا الجواسيس!

- ما هي طلباتكم؟ سأل عرفات المضربين.
- زيادة الرواتب، أجابوا.
أشار عرفات بإصبع الاحتقار إلى قائده.
- هذا الحمار بن الحمار هل تعرفون كم مكسبه الشهري؟ سأل من جديد.
- لا.
- قل لهم، أمر قائده وهو يصفعه.
- ثلاثمائة دولار، همهم القائد.
لم يقل كم يسرق. فقال عرفات:
- هذا القائد لمنطقة كبيرة بهذا القدر مكسبه الشهري ثلاثمائة دولار وأنتم ألف، اعتبروا أنفسكم محظوظين.
ووضع حدًا للإضراب. لكن الانتفاضة الثانية جرفت معها كل شيء.

يجب ملاحظة أن اتفاقًا آخر اسمه أوسلو 2 قد توصل الطرفان إليه أثناء ذلك في طابا، وتم التوقيع عليه في كعبة العرفاتيين واشنطن في 28 سبتمبر 1995 والهدف توسيع الحكم الذاتي ليشمل كل الأراضي المحتلة، ولكنه يقضي بإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي بضعة أمتار فقط حتى أبواب المدن. وكان ذلك شكلاً من الأشكال التي تسمح بسير انتخابات مجلس تشريعي وتنفيذي مع نتائج، كما سبق لي وقلت، معروفة سلفًا، ولكن خاصة انتخاب رئيس بالتخفيض (رئيس تنزيلات كالتنزيلات التجارية)، "رئيس منتخب ديمقراطيا": حجة تدعو إلى الضحك يقدمها الغربيون ليدافعوا عن "رجلهم" الذي تخلى عن كل شيء، كل شيء على الإطلاق، للإسرائيليين – من هنا جاء هذا الحب – وليخفوا ممارسة أحرى بواحد مثل موسوليني أو واحد مثل مبارك اللذين هما أيضًا انتُخبوا "ديمقراطيًا". أي واحد بإمكانه أن ينتخب "ديمقراطيا" إذا كان المرشح الأوحد حتى بصوت وحيد. وعلى عكس ما نُص عليه في اتفاق أوسلو 1، صادر عرفات من مجلسه المنتخب بالتخفيض، وما أسهل ما صادر، كل السلطة التنفيذية، وكهتلر جديد، وضع يده على الأمن والمالية.





اتفاق واي ريفر




اقرأ ما فعله ياسر عرفات


استمرار السخرية
خفف وصول نتنياهو إلى الحكم عن قادة حزب العمل الشيء الكثير، هؤلاء القادة الذين فعلوا كل شيء من أجل ألا يفعلوا شيئًا يؤدي إلى تطبيق اتفاق أوسلو، رغم أن هذا الاتفاق كان في صالحهم. في الواقع، ليس هذا ما يَثْقُلُ على ضمائرهم، ولكن عبء إيديولوجيتهم التسلطية والتمييزية، فيسلمون الدفة إلى الليكود ليقوم ببسالة الليكوديين القومجية وصراحة أهدافهم اللامنطقية بما جهدوا في إخفائه. وهكذا سيذهب نتنياهو بطل طرد الفلسطينيين إلى الأردن الرهيب ونصير إسرائيل الكبرى العنيف وداعية إخضاع كل العرب إلى واي بلانتيشن في ماريلاند في أكتوبر 1998، لأن الأمريكان بصفتهم الضامنين لاتفاق أوسلو بدأوا يفقدون مكانتهم على مسرح السياسة الدولية، وهو سيعينهم نوعًا ما بالتظاهر بتقدم الأشياء لا أكثر، فلا شيء مما هو أساسي، أقول لا شيء، قد اتفق عليه، وجرى بالفعل تطبيقه. لقد صانت بشكل من الأشكال مراوغة رئيس الوزراء المتغطرس كما يريد له الدور الذي يلعبه وبشكل لا مثيل له في التاريخ المعاصر، كرامة قادة البيت الأبيض وحزب العمل معًا، فنتنياهو والليكود لا يخجلان من أخذ كل شيء على عاتقهما بل على العكس لأن ذلك يوسع من قاعدتهما الانتخابية وسط أناس أوقعهم النظام في الشرك، وأفقدهم قواهم، فأصيبوا عميقًا في كينونتهم وإنسانيتهم. إذن ما كان اتفاق واي ريفر إلا استمرارًا للسخرية التي اسمها "حكم ذاتي وسلام عادل ودائم". وفي الواقع، البنود كما صيغت لا تحل شيئًا جوهريًا، ولا تَنْفَذ إلى أي إعادة انتشار فعلي في الحال، كل شيء قد تم تأجيله إلى وقت لاحق. لم يكن سوى الأمن هاجسًا ملحًا للمفاوض الإسرائيلي والاقتصاد، فيستسلم المفاوض الفلسطيني للأول، لكنه يرتاب في الاستعداد الإسرائيلي لتنفيذ ما يريد، لهذا يلح ما وسعه الإلحاح على الوصول إلى اتفاق نهائي في أقرب وقت.

إعادة الانتشار:
يتم في ثلاث مراحل. يعيد الإسرائيليون للفلسطينيين في المرحلتين الأوليين 13% فقط من الضفة الغربية – ويا ليت... على اعتبار أن 3% من هذه الأراضي "مناطق خضراء" ستبقى تحت المسئولية الإسرائيلية، 9% تحت المسئولية المدنية الفلسطينية، و 1% فقط تحت مراقبة الفلسطينيين الكاملة: "بموجب الاتفاق الإنابي والاتفاقات المتعاقبة يشمل تطبيق الطرف الإسرائيلي لإعادة الانتشار الإضافي الأول والثاني على تحويل 13 بالمائة من المنطقة ج إلى الطرف الفلسطيني كما يلي: 1 بالمائة إلى المنطقة أ، 12 بالمائة إلى المنطقة ب، وقد أعلم الطرف الفلسطيني أنه سيمنح منطقة أو مناطق تعادل 3 بالمائة من المنطقة السابق ذكرها ب لتكون منطقة خضراء و/أو احتياطًا طبيعيًا، وكذلك أعلم الطرف الفلسطيني أنه سيعمل تطبيقًا للمعايير العلمية القائمة ولن يكون بالتالي أي تغيير في وضع هذه المناطق دون أن يلحق ذلك ضررًا بحقوق السكان الموجودين فيها بمن فيهم البدو. ومع أن هذه المعايير لا تسمح ببناءات جديدة في هذه المناطق إلا أنه يمكن صيانة الطرق والعمارات الموجودة"، اتفاق واي ريفر.

1% فقط من مسخرة انسحاب الجيش الإسرائيلي تحت المراقبة الفعلية لعرفات، وأنا هنا أريد أن ألفت نظر القارئ إلى أن هذا الواحد بالمائة جزء من الضفة الغربية وليس من فلسطين التاريخية التي تبتلع إسرائيل حصة الأسد منها، حصة تعادل 78%. إذن هذا الواحد بالمائة البائس ليس مقتطعًا من أل 22% من الأراضي المحتلة بمعنى من قطاع غزة والضفة الغربية، وإنما من الضفة الغربية وحدها. مما يمثل نتفًا صغيرة بالنظر إلى مجموع ما يعود من حق للفلسطينيين. أي خزعبلات هي تلك التطبيقات التي سيعمل بها الطرف الفلسطيني حسب "المعايير العلمية"! يتظاهر الإسرائيليون بالانسحاب، ولكنهم يبقون دائمًا حيث هم، ويحاولون بشتى السبل دفع البنود المتفق عليها في صالحهم، المستعمرات لهم حصان طروادة، وبالطبع عندما يتعلق الأمر بالبدو قلة القليل والمنعدمين تقريبًا أمام تحضرهم الجاري، فالأمر فقط من أجل ألا يكون هناك تغيير يخص وضع هذه المناطق ومن أجل تبرير الوجود العسكري الإسرائيلي في المستعمرات في أعين الرأي العام الفلسطيني.

لنر كيف يقدم هذا الوجود في اتفاق واي ريفر: "سيحتفظ الطرف الإسرائيلي في هذه المناطق الخضراء/الاحتياطات الطبيعية بالمسئولية الأولى في مادة الأمن وذلك بهدف حماية الإسرائيليين ومواجهة التهديد الإرهابي. سيمكن لفعّاليات وتحركات قوات الشرطة الفلسطينية التدخل بعد التنسيق والتأكيد، وسيجيب الطرف الإسرائيلي بسرعة على طلباتها في هذا الشأن".

آه منك أيها التهديد الإرهابي!

ها هي المسألة الأمنية تعود بقوة تحت ادعاء التهديد الإرهابي ولا تترك للشرطة الفلسطينية بحال من الأحوال أي حظ للتدخل، لأن واقع "التدخل بعد التنسيق" والمتبوع ب "التأكيد" يجعلنا نفهم أن الجواب "السريع" الإسرائيلي هو بشكل من الأشكال مستحيل، وما ذلك سوى مناورة لا أكثر. أما لو تعلق الأمر بقمع الفلسطينيين فستختلف الحال وبسرعة البرق سيأتي الأمر بالقمع دون تنسيق أو تأكيد.

إذن في المرحلتين الأوليين لإعادة الانتشار ليس هناك سوى 1% من الضفة الغربية لا من فلسطين التاريخية تحت السيادة الفلسطينية بانتظار المرحلة الثالثة التي "ستتكلف بها لجنة" – وعندما يتعلق الأمر بلجان ولجان ملحقة يعني هذا أن كل شيء قد أودع في يد الغيب وأن إعادة الانتشار هذه لن تتحقق أبدًا.

الأمن:
منذ قيام دولة إسرائيل والأمن لديها ذريعة مضحكة خبطُهُ خبطُ عشواء وداهيتُهُ داهيةُ الدهماء: نشل في بيارة برتقال، سطو في سوبر ماركت، ضياع مفتش أردني للتعليم الابتدائي على الحدود... وأمن إسرائيل! وأمن إسرائيل! ومع ذلك، إسرائيل هي التي تهدد أمن الفلسطينيين وكل شعوب المنطقة. لكن ما يسعى إليه الإسرائيليون أن يقوّوا أكثر فأكثر جهاز دفاعهم، وذلك بوضع جهاز الأمن الفلسطيني تحت وصايتهم، وبشكل كامل، ودون أن يتركوا له أدنى ثغرة يمكنها أن تؤدي إلى تعاون أحادي أيًا كان مع نظام الأمن العالمي، والحالة هذه النظام الأمريكي. من هنا جاء غضب نتنياهو في واي بلانتيشن عندما علم بمباحثات دارت بين السي آي إيه وعرفات من أجل قمع ثنائي كما هي عليه الحال في هذا الأمر مع كل الأنظمة العربية، فأوجب حضوره، وحصل على ما أوجب عندما نقرأ تحت عنوان "لجنة ثلاثية": "إضافة إلى التعاون الثنائي الإسرائيلي-الفلسطيني في مادة الأمن ستجتمع لجنة ثلاثية عليا أمريكية-إسرائيلية-فلسطينية عندما يتم تشكيلها وعلى الأقل كل أسبوعين من أجل تقدير التهديدات الموجودة وإزالة العقبات من أمام تعاون وتنسيق حاسمين في مادة الأمن والقيام بإجراءات لمحاربة الإرهاب والمنظمات الإرهابية، وستعمل اللجنة أيضًا كمجلس يُعنى بمسألة الدعم الخارجي للإرهاب. وفي هذه الاجتماعات يخبر الطرف الفلسطيني أعضاء اللجنة كاملاً وتمامًا بتحرياته الخاصة بالمشبوهين الإرهابيين المعتقلين، ويتبادل المشتركون المعلومات الإضافية الوثيقة الصلة بالموضوع. وستعلم اللجنة بشكل دائم قادة الطرفين بمستجدات حال التعاون ونتائج الاجتماعات وتوصياتها".

بكلام آخر لا لبس فيه، لقد تم ابتلاع جهاز مخابرات عرفات دون أدنى شك من طرف الموساد بدعم السي آي إيه، حتى أنه قد كُنِسَ كنسًا بمكنسة هذين الجهازين العملاقين، وما عليه سوى تطبيق الأوامر هناك حيث فشل الإسرائيليون في مادة الأمن يعني "الإرهاب"، فالإسلاميون وباقي النشطاء لا يتركونهم ينامون الليل، ومع ذلك الطريقة الوحيدة لوضع حد لظاهرة العنف هذه هي إعادة الانتشار الفعلي، سحب قوات الاحتلال، والانسحاب من الأراضي الفلسطينية: وستجد مسألة "الإرهاب" حلها بنفسها. لكن الليكوديين وعلى رأسهم نتنياهو، هذا المتغطرس الكولونيالي على المقاس ومن قفاه، يبحثون عن إنهاء العنف مع بقائهم الدائم كمحتلين من عصر آخر، وعلى عرفات وأتباعه أن يقوموا "بالشغل" بدلهم. لهذا السبب يوجبون ما وجده قادة حزب العمل دون منطق وأقرب إلى العته ومخالف لكل القوانين التي تعمل بها دولة ذات سيادة "قائمة بأسماء الشرطة يزود بها الطرف الفلسطيني الطرف الإسرائيلي". وكما هي حال أفراد السلطة الفلسطينية ووزراء عرفات، لتعيين شرطي بسيط يجب الحصول على الضوء الأخضر للموساد. هنا التنوِيَة للنظام العرفاتي من طرف إسرائيل تنوِيَة مطلقة، حتى "العون التقني" الأمريكي، بمعنى التموين العسكري وخبرائه، هو خاضع لما يتفضل به الموساد تحت غطاء "لجنة المراقبة والسلوك" لهدف إخضاع لا مثيل له للشعب الفلسطيني. وبعد هذا يأتون ليحكوا لنا عن حقوق الإنسان ودولة الحق: "طبقًا للبند الحادي عشر من الملحق 1 من الاتفاق الإنابي ودون خرق للتدابير السابق ذكرها تمارس الشرطة الإسرائيلية سلطاتها ومسؤولياتها لتنفيذ هذه المذكرة الدبلوماسية من خلال احترامها لمعايير حقوق الإنسان ودولة الحق المتفق عليها دوليًا ويكون دافعها الحاجة إلى حماية الجمهور واحترام الكرامة الإنسانية وتحاشي الإزعاج والتنكيد".

ولكن... أنحن أحمرة إلى هذا الحد! الشرطة التي لا يسمح لها بالعمل إلا بعد موافقة أجهزة المخابرات الإسرائيلية ولأجل هدف أوحد ألا وهو الترهيب والتحري لا يمكن لها أن تكون الضامن لحقوق الإنسان ولا الأداة لحماية الجمهور في دولة الحق فيها مداس. ومن جهة الاحتلال، هل احترام الكرامة الإنسانية يُعمل به؟ غريب وعجيب تصور نتنياهو لحقوق الإنسان، تصوره ذو وجهين وأبدًا لا يخدم إلا تغطية الأهداف اللا إنسانية قطعًا.

حسب اتفاق واي ريفر، على القمع الفلسطيني-الفلسطيني أن يمارس لحماية الإسرائيليين في إسرائيل والإسرائيليين في المستعمرات: "وافق الطرف الفلسطيني في التدابير الخاصة بتهيئة الأمن من الاتفاق الإنابي على أن يقوم بكل الإجراءات الضرورية لمنع الأعمال الإرهابية والجرائم والعنف الموجه ضد الطرف الإسرائيلي وضد الأفراد تحت السيادة الإسرائيلية وضد متاعهم...".

هؤلاء الأفراد الذين هم تحت سيادة الطرف الإسرائيلي المستوطنون، يأتون عندنا، يغتصبون أرضنا، وعلينا واجب حمايتهم! إنه العالم مقلوبًا على عقبيه! عالم عرفات ونتنياهو! ويا ليت الأمر يقف عند هذا... لنقرأ الباقي: "يعترف الطرفان أن من مصلحتهم الحيوية محاربة الإرهاب والكفاح ضد العنف تطبيقا للملحق 1 من الاتفاق الإنابي ومن الملاحظة للتذكير. ويعترفان أيضًا أن الكفاح ضد الإرهاب والعنف يجب أن يكون كاملاً، أن يأخذ في الحسبان الإرهابيين والبنية الداعمة للإرهاب والبيئة المواتية لدعم الإرهاب"... الكفاح التام ضد الإرهاب والعنف حسب عرفات يعني ضد كل السكان وكل الأراضي الفلسطينية، "وعليه أن يكون تعاونيًا بمعنى أنه لا يمكن لأي جهد أن يكون فعالاً على أكمل وجه دون تعاون إسرائيلي-فلسطيني ودون تبادل متواصل للمعلومات والأفكار والأفعال". ومن يقول تبادلاً متواصلاً للمعلومات والأفكار والأفعال يقول بكل بساطة عملاء لإسرائيل.

الاقتصاد:
يبدأ المصراع الثالث من اتفاق واي ريفر، لجنة إنابية ومسائل اقتصادية، بالفِقرة 1 التالية: "يكرر الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني تأكيدهما الالتزام بتقوية علاقاتهما ويوافقان على ضرورة دفع التطور الاقتصادي في الضفة الغربية وغزة. وفي هذا الاتجاه، يتفق الطرفان على متابعة أو إعادة تنشيط كل اللجان الدائمة المنشأة حسب الاتفاق الإنابي وعلى الخصوص لجنة المراقبة والسلوك واللجنة الاقتصادية المشتركة ولجنة الأشغال المدنية واللجنة القانونية واللجنة الدائمة للتعاون".

تُختصر كل اللجان المتشكلة عن الاتفاق الإنابي والتي يحاولون هنا تأبيدها أو إعادة تنشيطها بكلمة واحدة: العار. عار المفاوض العرفاتي طبعًا، لأن من مواقفه التي اتخذها ينتج التراجع نحو التبعية الاقتصادية الطويلة والكاملة لاقتصاد الشعب الفلسطيني في صالح الشيكل و"تساهال" (الجيش الإسرائيلي) اللذين تعود عليهما أول ما تعود فائدة كل إنعاش للاقتصاد الفلسطيني المقيد من كل طرف بالاقتصاد الإسرائيلي. ومن أجل هذا تمت الإشارة في الفقرة 2 إلى: "اتفاق الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني على القيام بتهييئات تسمح بفتح سريع للمنطقة الصناعية في غزة، إضافة إلى إجرائهما بروتوكول خاص بإنشاء وتنشيط المطار الدولي للقطاع خلال الفترة الإنابية".

لا بد من الإشارة إلى أن تنفيذ هذه التهييئات يتوقف على مدى ما سيجنيه الإسرائيليون من أرباح وفوائد، فالرهانات تتجاوز بالطبع تجاوزًا بعيدًا مصنع عرفات للكازوز، لأن الهدف في الحقيقة هو الصناعة التي يجب دفعها ومن وراء دفعها مستوطنو القطاع بالقدر الذي فيه فائدة لهم وبالقدر الذي فيه مساهمة اقتصادية إسرائيلية في إطار اختراق مبرمج: يد عاملة ليست غالية ومنطقة استهلاك نموذجية. من هنا جاء الحديث عن "الممر الآمن" نحو الشمال ونحو الجنوب فقرة3، والذي ستعود المفاوضات بين الطرفين حوله حالاً. في هذا السياق السابق للانتفاضة الثانية بناء ميناء غزة شيء أساسي، وذلك من أجل بيع بضائع غير شرعية تحت مظهر فلسطيني، ولكنها في الواقع من إنتاج المصنّع الإسرائيلي بماله أو بأداته.

وابتداء من الفقرة 6 من الاتفاق ذاته نقرأ ما يؤكد استنتاجي السابق: "سيقيم الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني أيضًا حوارًا اقتصاديًا استراتيجي المدى لتقوية علاقاتهما الاقتصادية، ومن أجل هذا سيشكلان في إطار اللجنة الاقتصادية المشتركة هيئة لهذا الغرض تفحص المسائل الأربع التالية:
1) الجمارك الإسرائيلية عند الشراء.
2) التعاون في الكفاح ضد سرقة السيارات.
3) الحل للديون الفلسطينية غير المدفوعة.
4) الأثر للمعايير الإسرائيلية كعائق للتجارة وتوسيع قوائم البضاعة أ1 وأ2.
وسترفع الهيئة تقريرًا إنابيًا خلال ثلاثة أسابيع بعد دخول هذه المذكرة حيز التنفيذ وكذلك سترفع خلال ستة أسابيع ما توصلت إليه وما توصي به من أجل التنفيذ".

وكما قلت وكررت القول، المسائل الأربع كلها في صالح إسرائيل من خلال استراتيجية اقتصادية ذات نفس طويل لكنها يمكن أن تطبق بأسرع وقت، عدة أسابيع فقط بعد دخول الاتفاق الحالي حيز التنفيذ. وللنجاح في هذه الطريق الخاضعة اقتصاديًا لوزارة المالية الإسرائيلية يبدو طبيعيًا أن يتفق الطرفان في الفقرة 7 على "أهمية العون المتواصل للمانحين الدوليين لتسهيل تنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها الطرفان، وهما يعترفان أيضًا بالحاجة إلى دعم متزايد للتطوير الاقتصادي في الضفة الغربية وغزة".

عون متواصل ودعم متزايد طبعًا طبعًا! أما فيما يخص الوضع النهائي للأراضي المحتلة للقدس وللمستعمرات لا شيء: كل شيء قد تم تأجيله إلى زمن لا وجود له ليكون إيقافه.




مذكرة شرم الشيخ



الذباب أكثر أهمية من العباد!

نص يشبه آخر

في آخر الصيف، شمس شرم الشيخ جميلة، والبحر أزرق. في 4 سبتمبر 1999، انتقلت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت، إلى المدينة الزرقاء الواقعة على خاصرة البحر الأحمر من أجل أن تقوم بدورها كعرّابة للتوقيع على اتفاق آخر وآخر بين العرفاتيين والإسرائيليين، كما قالت وسائل الإعلام، ولكن في الواقع من أجل العوم والتمتع إلى أقصى حد بذلك الذهب وذلك اللازورد اللذين يشدان الأجساد والوجوه المهددة بالتهدل. الباقي كلام فارغ، الحضور الكابوسي لمبارك، الابتسامة الخلابة لعبد الله الثاني. كل تلك الشخصيات كانت هناك لإعطاء انطباع أن الأمر جاد، وأن الشريكين باراك-عرفات (قَرَنٌ مقطور) توصلا أخيرًا إلى تذليل كل الصعوبات. ومع ذلك الاتفاق الذي ضَمِنَهُ كل أولئك "الكبار" أعطى عرفات لنفسه مهلة جديدة ليسوس "الوضع الراهن" وقد اطمأن إلى أن أحدًا لن يسأله لماذا. سيسوس أيضًا عدم صبر الشعب الفلسطيني، وذلك بجعله يعتقد أن هناك معجزة بصدد التحقق. ومع ذلك، ما عدا الشمس والبحر، تمخضت شرم الشيخ فولدت فأرًا... صغيرًا جدًا. برأس وذيل أشبه برأس وذيل الفأر الصغير جدًا الآخر الذي ولدته واي بلانتيشن. الشبه هنا مذهل، لأن مذكرة شرم الشيخ تبدأ كالسطور الأولى التي اقترحها نتنياهو على عرفات أو عرفات على نتنياهو في واي بلانتيشن: "الاتفاقات اللاحقة صائرة إلى تسهيل تطبيق الاتفاق المؤقت حول الضفة الغربية وقطاع غزة الموقع في 28 سبتمبر 1995 ("الاتفاق المؤقت") واتفاقات أخرى مرتبطة به بما فيها الملاحظة من أجل مذكرة 17 يونيو 1997 (مشار إليها تحتْ كَ "اتفاقات سابقة") كي يتمكن الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني من تحمل مسئولياتهما المتبادلة بشكل أكثر حسمًا بما فيها المسئوليات المتبادلة التي لها علاقة بإعادة انتشارات إضافية وبالأمن".

لنقرأ بداية اتفاق شرم الشيخ: "تلتزم حكومة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بالتطبيق الكامل والمتبادل للاتفاق المؤقت وكل الاتفاقات الأخرى التي تمت منذ سبتمبر 1993 (المسماة فيما بعد "اتفاقات سابقة") وكل الالتزامات المعلقة الناجمة عن الاتفاقات السابقة."

يثبت الإلحاح بهذه الطريقة على تطبيق الاتفاقات التي تم التوقيع عليها إلى أية درجة الريبة القائمة بين الطرفين، مع باراك العمالي أو نتنياهو الليكودي. ويثبت هذا أيضًا الدرجة العظمى التي وصل إليها الشك المحلق فوق رؤوس المفاوضين من طرف أو من آخر فيما يخص تطبيق واحترام هذه الاتفاقات. إذا كانت هناك مسألة انسحاب لم يتم تنفيذه من طرف الإسرائيليين هناك مسألة أمن لم يتم تأمينه من طرف العرفاتيين. وتفرض مماطلة الطرف الإسرائيلي حول الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية على الطرف العرفاتي التلويح برُهاب تغيير الوضع في هذه الأراضي نفسها، وذلك بالإعلان عن دولة فلسطينية. ولهذا السبب يُخْتَتَم الاتفاقان مع نتنياهو ومع باراك حول نفس البند الوقائي.

الاتفاق مع نتنياهو أولاً: "بدافع من وعيهما بضرورة خلق جو مناسب لهذه المفاوضات، يلتزم الطرفان بعدم اتخاذ إجراءات تغير الوضع في الضفة الغربية أو في غزة وذلك كما ينص عليه الإتفاق المؤقت."

والاتفاق مع باراك: "اعترافا منهما بضرورة خلق مناخ مناسب للمفاوضات، يلتزم الطرفان بعدم اتخاذ أي إجراء يغير من الوضع في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، وذلك تطبيقًا للاتفاق المؤقت." مما يفرض على الطرف العرفاتي عدم الإعلان عن دولة فلسطينية من طرف واحد.

هذا ما أسميه تشابهًا بين الاتفاقين، وإذا ما تم التوقيع عليهما، فلأن هناك خطر الإعلان عن دولة فلسطينية، ولا تهدف كل هذه الكوميديا الرديئة التمثيل إلا لإعاقة شيء كهذا، وإن بقي ذلك في حدود الأحلام.

إذن تُمارَس سياسة اللف والدوران، فنتنياهو ليس أكثر مهارة من باراك، حتى عمالي من حزب العمل يمكنه المزايدة، إذ إن للحكام الإسرائيليين في رأسهم كلهم هذا الحلم المجنون للسيطرة، وأمامهم هناك رجل الكوفية السرمدية، الموافق على كل شيء. هو أيضًا لا يتغير، تبقى استراتيجيته واحدة: التخلي، التخلي، التخلي.

الوضع الدائم:
لا يكاد الوضع النهائي للأراضي المحتلة يُذكر في اتفاقيات واي ريفر، وهنا لا توجد سوى تأكيدات بليغة ليست غير كلمات لا أكثر كالمثال التالي:

"أ. في إطار تطبيق الاتفاقات السابقة، سيعود الطرفان إلى التفاوض حول الوضع الدائم بإيقاع متسارع، وسيبذلان جهدهما بعزم وتصميم للوصول إلى هدفهما المشترك الذي هو إيجاد اتفاق حول الوضع الدائم حسب جدول الأعمال الذي جرى التوقف عنده والذي يتعلق بالمسائل الخاصة العائدة إلى المفاوضين المكلفين بالوضع الدائم ومسائل أخرى ذات اهتمام مشترك.

ب. يعيد الطرفان تأكيد أنه لمن المتفاهم عليه أن المفاوضات حول الوضع الدائم ستتوصل إلى العمل بالقرارين 242 و 338 لمجلس الأمن.

ج. سيبذل الطرفان جهدهما بعزم وتصميم للتوصل إلى اتفاق-إطار حول كل المسائل المرتبطة بالوضع الدائم خلال مدة خمسة أشهر ابتداء من العودة إلى المفاوضات حول الوضع الدائم.

د. سيبرم الطرفان اتفاقًا شاملاً حول كل المسائل المرتبطة بالوضع الدائم في مدة عام ابتداء من العودة إلى المفاوضات حول الوضع الدائم.

ه. ستعود المفاوضات حول الوضع الدائم بعد تطبيق المرحلة الأولى من تحرير المعتقلين والمرحلة الثانية من إعادة الانتشار الأولى والثانية اللاحقتين، وإلى أقصى أجل 31 سبتمبر 1999. لقد أبدت الولايات المتحدة في مذكرة واي ريفر إرادتها لتسهيل هذه المفاوضات."

سيعود الطرفان إلى التفاوض حول الوضع الدائم، ستتوصل المفاوضات إلى العمل بقراري 242 و 338 لمجلس الأمن، سيبرم الطرفان اتفاقًا شاملاً حول كل المسائل المرتبطة بالوضع الدائم، سيبذل الطرفان جهدهما بعزم وتصميم للتوصل إلى اتفاق-إطار حول كل المسائل المرتبطة بالوضع الدائم، ستعود المفاوضات حول الوضع الدائم بعد تطبيق المرحلة الأولى من تحرير المعتقلين والمرحلة الثانية من إعادة الانتشار الأولى والثانية اللاحقتين... إنها دومًا قذفة الحجر المؤجلة، من أجل لا شيء غير تعكير الماء الراكد للوضع الراهن. يفلت الصدق من أيدي المفاوضين. حتى ولو كانت هناك إرادة ونوايا حسنة، في الوضع كما يجري تقديمه حاليًا، لن تتوصل المفاوضات القادمة أبدًا، أقول أبدًا، إلى العمل بالقرارين 242 و 338 لمجلس الأمن. لهذا تم ذكر "اتفاق-إطار" وآخر "شامل". لأن لو كانت حقًا هناك إرادة بناءة من طرف أو من آخر لحل نهائي لوضع الأراضي المحتلة، لما احتاج ذلك إلى المرور باتفاق يدعى باتفاق-إطار، لن يرى النور على أي حال. سيفرض الاتفاق الشامل محادثات صريحة حول إقامة دولة فلسطينية القدس عاصمة لها منذ البداية، دون المرور باتفاقات أخرى تكرس المماطلة وعدم اليقين. على عكس ما قيل في الفقرة ( ه ) حول ما أبداه الأمريكان لتسهيل المفاوضات، تضع الإرادة السيئة حدًا لكل حل نهائي.

إذن يجري الكلام عن الوضع النهائي دون أن يكون ذلك حقًا ودون رسم الخطوة الأولى لآلية تصل في النهاية إلى اتفاق نهائي، وإنّ تشابه الاتفاقات بين عرفاتيين وحكومات إسرائيل من اليسار أم من اليمين لا يترك لي الهامش الذي أتمناه من أجل تحليل مفصل. لهذا السبب، سأعالج في الفصل القادم مجموع مذكرة شرم الشيخ مع التشديد على ما تفضلت حكومة باراك القيام به وما لم تتفضل في صالح "السلام الإسرائيلي"، سلام تصفوي على كل حال.

فتات، لا شيء غير فتات:
فيما يخص إعادة الانتشارات في الضفة الغربية، هناك إعادة أولى تمت بمقدار 7% في 5 سبتمبر 1999، إعادة انتشار كاذبة بما أنه بقيت في المنطقة التي تم الانسحاب منها مراقبة مشتركة إسرائيلية-فلسطينية. تمت إعادة الانتشار في 15 نوفمبر 1999 وفي 20 يناير 2000، ولكن فيما يخص كله بكله 9,1% من الضفة الغربية، بمعنى لا شيء بالنسبة لفلسطين التاريخية.

فيما يخص المعتقلين، تم إطلاق سراح مجموعة أولى من 200 معتقل في 5 سبتمبر 1999 ومجموعة ثانية من 150 معتقل في 8 أكتوبر 1999 ومجموعة ثالثة لم يحدد عددها عشية رمضان. ويمثل كل الذين أطلق سراحهم نسبة مئوية ضئيلة بالنسبة لآلاف المعتقلين السياسيين الذين يأسنون في غياهب السجون الإسرائيلية.

فيما يخص الممر الجنوبي لطرق العبور، تم فتح طريق عبور "آمن" بين غزة والضفة الغربية في 1 أكتوبر 1999 إلا أن الطريق الشمالي الآخر لم ير النور. وب "آمن" يجب فهم أن الذين يشرفون على نقاط المراقبة الإسرائيلية هم أسياد كل إيماءة، كل حركة، كل نقل، كل انتقال، حتى انتقال ذبابة لن يُسمح له إلا بأمر صادر عن الجيش الإسرائيلي.

فيما يخص ميناء غزة، بدأ بناؤه في 1 أكتوبر 1999، ولكن بناء ميناء أو لا بناء ميناء ليس هذا هو المشكل. الأهم هو "التصور والانتقال" كما تقول المذكرة، بمعنى حق الإسرائيليين في "النظر". وبكلام آخر، وجود كاميرات مراقبة مرتبطة بالموساد مباشرة كما هو الحال في المطار. لن تمر بضاعة واحدة دون تصريح إسرائيلي، لن يمر شخص واحد، لن تمر ذبابة واحدة. من الأكيد أن للذباب أكثر أهمية من العباد في مثل هذه الاتفاقات على الطريقة العرفاتية!

فيما يخص المسائل الخاصة بالخليل، لم تُفتح طريق الشهداء، ولا طريق الحسبة، ولا موقع مقام إبراهيم، وإذا كان هناك من رابح وحيد فهم المستوطنون.

فيما يخص الأمن، هناك هذه اللازمة التي لا تتوقف عن الرجوع، "تعاون حاسم وفعلي" ضد "الإرهاب"، "الإرهاب"، "الإرهاب"... "يلتزم الطرف الفلسطيني بتحمل مسئولياته في مادة الأمن، في التعاون على الأمن، وبفروضه اليومية". يلتزم، يلتزم، يلتزم... باختصار، يطلب الإسرائيليون بوصفهم محتلين من العرفاتيين أن يحلوا في مادة القمع محلهم، تحت خطر أن يؤدي ذلك إلى حرب أهلية. الجديد: يصطف باراك العمالي (أي بهدلة للعمال!) دون لبس وبكل قحة إلى جانب نتنياهو الليكودي، وذلك عندما ينسخ عن هذا ويمتلك بنوده "وعلى الخصوص الفروض التالية الناجمة عن مذكرة واي ريفر:

1. مواصلة برنامج جمع الأسلحة اللاشرعية وتقرير حول الموضوع.
2. إيقاف المشتبهين وتقرير حول الموضوع.
3. تسليم الطرف الإسرائيلي قائمة بأسماء أفراد البوليس الفلسطينيين أقصى أجل 13 سبتمبر 1999.
4. بداية فحص القائمة من طرف لجنة المتابعة والإرشاد أقصى أجل 15 أكتوبر 1999."

تسليم أسماء أفراد البوليس وكل الباقي، هذا هو المذهل: لم يكن الغستابو يفعل مع دُمى فيشي أفضل! ولكنهم في آخر المطاف هم المهرجون أنفسهم في زمان آخر ومكان آخر.




مفاوضات طابا



المحرقة تبرر كل شيء!

هذه هي حجتهم التي يلوح الحكام الإسرائيليون بها كلما أبدوا تشددًا: المحرقة. يلعبون بها كما يلعبون البوكر حيث الرهان المبني على إرادة ممارسة الضغط السياسي فقط يشوه معنى العذاب الذي لحق الملايين من ضحايا النازية. ويجد الأمريكان، للوقاحة التي لهم، هذه الحجة على ذوقهم، طالما تخدم مصالحهم، حتى أنهم يعملون على الدفاع عنها، ويَعرِضون أنفسهم من أجل توطيدها. لهذا، عندما يطرح عرفات طرحًا "جادًا" الإعلان من جانب واحد –جانبه- عن قيام دولة فلسطينية، يدعوه كلينتون في الحال هو وباراك إلى مخيم داوود في يوليو 2000، ويعد هذه المرة بمفاوضات "بناءة". كان الرجل القوي يعلم أنه يكفي الاعتراف بدولة عرفات من طرف دول بعدد أصابع اليد كي تُعتبر هذه الدولة التصفوية ناقلة وطنية وكيانًا جغرافيًا، وذكرى المحرقة تمنع القيام بمخاطرة كهذه! زد على ذلك، ليست اللحظة التي يزداد فيها الوضع تعقيدًا على تعقيد. ولكن بعد أسبوعين، انفصلت الأطراف الثلاثة دون أدنى اتفاق. كانت كوميديا باراك وأتباعه مضحكة: تحت ذريعة أن يحولوا دون أن يكون لشعبهم المصير التراجيدي الذي كانه بالأمس –وكأن الفلسطينيين بمقدورهم أن يمثلوا مثل هذا الخطر- وصلت بهم الجرأة على فبركة خطة سلام، وطلبوا من كلينتون أن يقترحها باسمه. خطة استسلام، أقل ما يقال عنها. حتى أن المعروف بتخليه عن كل شيء منذ مولده، كواحد مثل عرفات، لا يمكنه قبولها. لكن باراك وجد في رفض عرفات ما يسعى إليه من تبرير لدى منتخبيه المريدين للسلام: إنه عرفات الذي لا يريد السلام وليس أنا! وفي نفس الوقت، راح يغمز لمنتخبي اليمين: لم أتنازل عن شيء، ستبقى المستوطنات في أماكنها، والقدس أيضًا، ولن تكون هناك دولة فلسطينية أبدًا، وكذلك لن يكون هناك حق عودة!

في الواقع، لم يتم البحث في هذه الملفات الأربعة الأساسية لحل المسألة الفلسطينية، وتقسيم القدس القديمة إلى ثلاث مناطق إحداها تحت السيطرة الإسرائيلية ما هو سوى زيغ ونصب حتى وإن تعلق الأمر بأماكن مقدسة يهودية. هذه الأماكن دومًا ما كانت محترمة تحت السيادة العربية، لماذا يراد فصلها الآن عن جسد القدس القديمة، وجعلها تمضي تحت السيادة الإسرائيلية؟ لماذا توضع كل القدس القديمة تحت الحكم العُرفي للجيش الإسرائيلي؟ ما يتم السعى إليه هو تبديل شكل الاحتلال لا جوهره.

الشيء نفسه بخصوص الدولة الفلسطينية التي يريد الإسرائيليون قضم 15% منها، وضم أكثر من 80% من المستوطنات. وهي طريقة يراد منها القول: أخرج من الباب ولكني أعود من النافذة.

أما بخصوص الثلاثة المليون والنصف المليون لاجئ، يماطل الإسرائيليون، ولا يقترحون شيئًا ملموسًا، والأهم يتهربون من المسئولية التاريخية لدولتهم.

هذه هي المقترحات التي "يسيل لها اللعاب"، هذا ما حاول باراك بصلف وازدراء ونظرة متعالية –وهو يلوح بشبح المحرقة- أن يفرض على "أبي الكوفية" السرمدية قبوله: مقترحات ترمي فقط إلى الإطالة حتى الانتخابات القادمة. إذ سيدفع سلام تصفوي كهذا، مقبول من طرف العرفاتيين، رئيس حزب العمل إلى صف المفضل من طرف الناخبين، وسينتزع رئاسة للحكومة ثانية. أما في الوضع المعاكس، أما إذا ما رفض أتباع عرفات هذا السلام، فستكون النتيجة هي نفسها، لأن باراك سيحصل على دعم المعسكرين –معسكر السلميين ومعسكر التوسعيين- كما سبق لي وقلت. وفي كل الأحوال، لم يمنعه هذا من الذهاب إلى طابا.

طابا: اللف والدوران

وُصفت مفاوضات طابا التي دارت بين عرفات وباراك في شهر يناير 2001 ب"الجادة"، ومع ذلك كل شيء يدل على أن الطرفين يتهربان من حل مشرف، ويحاولان الالتفاف على الحقيقة بمقترحات هي بالأحرى مثيرة للحنق والغضب. حقًا هناك فرق كبير بين مفاوضات طابا ومفاوضات أوسلو أو غيرها، بما أنهم يدرسون هنا ما تؤجله الاتفاقات الأخرى إلى ما بعد. إلا أن ما هو ملموس في المسائل المتفاوَضِ عليها لا يعني أنه تم الوصول إلى نتائج ملموسة. بل على العكس. لم تكن هناك نتائج إطلاقًا. مما يجعل البحث في الملفات "الساخنة" لفًا ودورانًا يسعى الطرف الإسرائيلي من خلاله إلى منفعته بشكل موارب، ويخترع مشاكل فرعية تُبعد المفاوضين عن المشاكل "الأساس"، مصطلح سيتكرر غالبًا في وثيقة موراتينوس، الموفد الخاص الأوروبي، والتي سأعتمد عليها في تحليلي.

أراضٍ محتلة:
منذ البدء، يتفق الطرفان –الإسرائيلي والفلسطيني- على أن يكون قرار مجلس الأمن 242 وخطوط 4 يونيو 1967 "أساسًا" للحدود بين إسرائيل وفلسطين.

ما يعنيه التفاوض على حدود تقوم على "أساس" أي شيء هو التوصل إلى حدود جديدة، وبالضبط يكمن كل المشكل في الانسحاب الكلي من الأراضي المحتلة. ولكن ها هو عرفات يسير في طريق في صالح باراك، وذلك عندما يفسر عرفات الصيغة الشهيرة للقرار 242 كما يريد باراك: الانسحاب من كل الأراضي المحتلة أم من أراضٍ محتلة؟ وحسب الانسحاب من أراضٍ محتلة يدور التحاور حول الضفة الغربية، فيكون الابتعاد عن الجوهري، عن الشمولي، والدخول في الاصطناعي، الجزئي. وليعطي المتحاورون أهمية لأنفسهم، سيلجأون إلى خرائط يستعملونها "أساسًا"، نعم أيضًا، للتفاوض حول الأراضي الفلسطينية والمستوطنات. ويبتعد المفاوضون أكثر عن المشكل الجوهري المتمثل بانسحاب الجيش الإسرائيلي من كل الأراضي المحتلة عام 1967. ويجد هذا المشكل "الأساسي" نفسه مزاحًا إلى أبعد ما يكون على سلم المفاوضات ليحل محله مشكل فرعي، ألا وهو مشكل المستوطنات، كما لو كانت المستوطنات الأراضي المحتلة، والمفاوض العرفاتي ما هو هنا إلا للبحث في مسألة المستوطنين وليس في مسألة شعب بأكمله. إنه هنا من أجل أن "يفهم مصالح الإسرائيليين في الضفة الغربية"، كما تقول وثيقة موراتينوس، فتسير المفاوضات، بكل غِشها ودجلها، حول "حاجات الإسرائيليين" وليس حول "حاجات الفلسطينيين". لم يعد يجري الكلام عن الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، بينما من الجدير رجحان حاجات الطرفين، وحسب هذا "الأساس"، أيضًا وأيضًا، تمت الموافقة على باريمترات كلينتون من أجل التفاوض. إلا أن الاتفاق حول مدى ومعنى هذه الباريمترات لم يكن موجودًا، فيذهب الكل إلى البحث عن مسائل ثانوية أخرى تبعد المفاوض العرفاتي أكثر عن الجوهري الضروري الإجباري وخاصة عن الحق. ويجري الكلام من ناحية الإسرائيليين عن ضم تجمعات المستوطنين، والحديث الذي لا ينتهي عن حق إسرائيل في الاتصال بين هذا المستعمرات وداخلها، وتوضع على الطاولة الخطط من أجل تطوير هذه المستوطنات في المستقبل... لنتخيل قليلاً عرفات يتكلم عن ضم القرى والمدن العربية في إسرائيل: سيشن الإسرائيليون الحرب العالمية الثالثة! بالنسبة لهم المستحيل ممكن للاحتفاظ بسيطرتهم على الأراضي الفلسطينية، ورفض العرفاتيين كقبولهم لا يبدل شيئًا من الموقف الإسرائيلي، فما هي سوى نقاشات، وأن يقدم العرفاتيون حاجات ومصالح الفلسطينيين على جدول النقاش لا يبدل شيئًا من موقف باراك ومعاونيه. كل ما كان من نقاش لم يتعد الحوار البيزنطي. وعندما يوافق الطرفان على مبدأ تبادل الأراضي يبتعد الكل ويبتعد عن المشكل "الأساسي"، ولم يرم المفاوضان إلا لإبقاء "الأمر الواقع" على ما هو عليه، وذلك بكل الوسائل. أعطيكم هذا القدر، تعطونني هذا القدر، وتكون المساومة على ظهر الفلسطينيين، ولا يكون هناك أي حل. الشيء نفسه فيما يخص قطاع غزة حيث يبدي الإسرائيليون استعدادهم للانسحاب منه دون أن يخلو ذلك من أفكار ضمنية: الاحتفاظ بمستوطنات الضفة الغربية. فقطاع غزة بعاطليه عن العمل وتعاساته وإسلامييه ونشطائه، قطاع دون أهمية "توراتية"، وبعشرين مستوطنة، لا يمثل المن الاقتصادي والمن الجغرافي اللذين يرمي الحكام الإسرائيليون إلى الاحتفاظ بهما في "يهودا والسامرة". ما يهمهم في غزة هو مراقبة الميناء والمطار والحدود، مراقبة تم الحصول عليها في اتفاق واي ريفر، ولكن الأهم من هذا كله الأمن الذي كان لهم على أي حال. وفي هذا يكمن كل الرهان لهذه المنطقة الفقيرة المعزولة والسيئة الصيانة. لم تتطرق مفاوضات طابا إلى هذه المسألة الجوهرية، فعرفات وباراك كانا يعتبران أن المشكل الكبير، مشكل الأمن، قد تم حله في اتفاقات جرى التوقيع عليها. وكما نرى، على المفاوضات أن تدور حول نفسها وفي صالح إسرائيل. لهذا السبب يُعمل من مشكل كبير مشكلاً صغيرًا والعكس بالعكس، وعندئذ تصبح كل الوسائل صالحة للرقص من حول الحلبة لا في وسطها. والشيء ذاته فيما يخص المعابر بين قطاع غزة والضفة الغربية عندما يجري التطرق لمسألة: إلى من تعود السيادة عليها. تشكل المعابر مشكلة جوهرية إن لم تكن حيوية ولكنها تُرجأ إلى ما لست أدري متى وتُعامل كمشكلة ثانوية: من يحتفظ بماذا كنقاط مراقبة، ويُغلَق هذا الملف دون الاتفاق على شيء.

القدس:
لنلاحظ أولاً وقبل كل شيء أن بيغن قد خرق وانتهك كل القوانين الدولية الخاصة بالمناطق المحتلة بعد الحرب وذلك بضمه القدس الشرقية، القسم العربي من المدينة المقدسة. لم تكن القدس الشرقية جزءًا من "العاصمة الأبدية" لإسرائيل إطلاقًا، إنها وبكل بساطة عاصمة الفلسطينيين. هذا هو المشكل الرئيسي الجدير بالتحاور حوله، ولكن ها هو عرفات ومعاونوه يخضعون لإرادة مفاوضهم الإسرائيلي، فيرون أنفسهم متورطين في مسائل ثانوية تحولت إلى مسائل أساسية كي يتهرب الإسرائيليون من حل نهائي ومشرف.

نقرأ بهذا الخصوص: "يوافق الطرفان مبدئيًا على اقتراح كلينتون وذلك بأن تكون هناك سيادة فلسطينية على الأحياء العربية وسيادة إسرائيلية على الأحياء اليهودية"، ولماذا لا يقولون على القدس الشرقية؟

وعندما يقولون "مبدئيًا" معنى هذا أن لا شيء تم حله، ولكن الأكثر إذهالاً هو إرجاع مشكل كبير كمشكل القدس عاصمة لإسرائيل وعاصمة لفلسطين إلى مشكل "سيادة على الأحياء"، وفقط فيما يخص القدس الشرقية. وما يجري هو تفتيت المسألة لأجل تعقيدها أكثر وذلك بالكلام عن أحياء في الأحياء: أحياء يهودية ممتزجة بأحياء عربية في المدينة القديمة: "فهم الطرف الإسرائيلي أن الفلسطينيين مستعدون لقبول السيادة الإسرائيلية على الحي اليهودي للمدينة القديمة وجزء من الحي الأرمني." بالنسبة لهم، الحي الأرمني ليس عربيًا، لهذا يجب اقتسامه! وماذا أيضًا؟

ولا يكتفي الإسرائيليون بهذا الاختراق في العمق للمدينة العربية، ولكنهم يطالبون أيضًا بالحصول على سيادة أخرى، سيادة على... المستوطنات طبعًا: "أكد الطرف الفلسطيني استعداده البحث في الطلب الإسرائيلي وسيادته على المستوطنات اليهودية في القدس الشرقية التي بنيت بعد العام 1967...". اختراق ليس فقط في العمق للمدينة العربية القديمة وإنما أيضًا حصار. عرفات "يؤكد"، وكعادته "يستعد" لكل شيء، حسبه أن يرفع علمًا على سطح عمارة قديمة يجعل منها عاصمة ويتوج نفسه رئيسًا! وكل هذا مقابل ثمن مرتفع، مرتفع جدًا، ولأن عرفات "فهم"، لم يكن متأكدًا، ولكنه "فهم" أن المشكل لم يتم التطرق إليه مباشرة وصراحة. إذن "فهم" الرجل ذو الكوفية السرمدية: "فهم الطرف الفلسطيني أن إسرائيل مستعدة لقبول السيادة الفلسطينية على الأحياء العربية للقدس الشرقية...". إنه يقر ويعترف: "الأحياء العربية" وليس القدس الشرقية التي تعود حقًا وحقيقة إلى الشعب الفلسطيني.

كما رأينا، مفاوضات كهذه ليست جادة إطلاقًا، مفاوضات تتجاهل الأساسي، كل السيادة العائدة إلى كل طرف. ومع ذلك، يعود إلى الدولتين، في مثل هذه الحالة، بوصفهما ندًا لند أن تحلا "إداريًا" الباقي، المصطنع، الثانوي. وفي هذا وهذا فقط تدور المفاوضات الجادة.

ولكن عندما يحاول المفاوضان العرفاتي والإسرائيلي الكلام بشكل "جاد" تبرز الاختلافات، وهذا هو الحال مع تصور كل واحد منهما لمفهوم "المدينة المفتوحة".

لنر كيف يفهم الإسرائيليون هذا المفهوم:

"اقترح الطرف الإسرائيلي إقامة مدينة مفتوحة يحتوي امتدادها الجغرافي على المدينة القديمة للقدس إضافة إلى منطقة محددة كالحوض المقدس أو الحوض التاريخي."

لنر الآن كيف يفهم العرفاتيون هذا المفهوم للمدينة المفتوحة:

"كان الطرف الفلسطيني مع المدينة المفتوحة بشرط أن يُحفظ الاتصال والتجاور بينها، وقد رفض الفلسطينيون الاقتراح الإسرائيلي الخاص بالامتداد الجغرافي للمدينة المفتوحة وأكدوا أن المدينة المفتوحة لا تُقبل إلا إذا احتوى امتدادها الجغرافي على الحدود البلدية الكاملة للقدس الشرقية والقدس الغربية."

والحق معهم لأول مرة.

"مدينة مفتوحة" للإسرائيليين هي بالأحرى مدينة مغلقة، طالما بقيت المدينة القديمة ليست مفتوحة فعلاً على كل مدينة القدس. مدينة مفتوحة لهم، للعساكر، هي مدينة مطوقة كما هو عهدها في زمن الاحتلال، وفي هذا يكمن مفهوم "المدينة المفتوحة" في استراتيجيتهم المهيمنة: امتداد جغرافي محدود في الامتداد الجغرافي الشامل للمدينة.

وعندما يثير الإسرائيليون مسائل البنى التحتية والمسائل اليومية للسكان والمسائل الجوهرية يؤجلونها إلى اتفاق سيتم في المستقبل، ويصرون على مقاربتهم "للمدينة المفتوحة" عندما يقترحون "حدودًا لينة": "أثار الطرف الإسرائيلي فكرة إقامة آلية للتنسيق اليومي ونماذج عديدة تم اقتراحها بخصوص التنسيق والتعاون (إدارة البنى التحتية، الطرق، الكهرباء، المجاري، القمامة... الخ). وسيكون بالإمكان صياغة تدابير كهذه في اتفاق قادم مفصل. اقترح الطرف الإسرائيلي "نظامًا لينًا للحدود" في داخل القدس بين القدس وأورشليم يقدم لهما امتيازات "الحدود اللينة"."

أولاً، في زمن السلم، يجب ألا نتكلم أبدًا عن "حدود لينة"، ولا عن حدود إطلاقًا. والأسوأ من هذا عندما يحاول الإسرائيليون إخفاء أطماعهم في السيطرة عن طريق تدابير "إنسانية": "وفوق هذا، اقترح الطرف الإسرائيلي عددًا من التدابير الخاصة من أجل السكان الفلسطينيين والإسرائيليين للمدينة المفتوحة لضمان ألا يضر وضع المدينة المفتوحة سلبيًا حياتهم اليومية أبدًا، وألا يعرض للخطر سيادة كل طرف على قسمه في المدينة المفتوحة."

ما يبالي به هؤلاء وأولئك هو سيادة كل طرف على "قسمه"، ويرمون إلى الحصول على كل شيء مباشرة أو غير مباشرة عن طريق "نظام خاص" يتعلق بالحوض المقدس ويقترحون "شكلاً من أشكال التدويل لكل المنطقة أو نظامًا مشتركًا بتعاون وتنسيق خاصين." لم يكن عرفات ومعاونوه على اتفاق مع الإسرائيليين في هذا الشأن، وهم على حق للمرة الثانية. لكن يعمل باراك ومعاونوه على موافقة هذه الدمى حول مبدأ "مراقبة خاصة بكل طرف على كل جهة من جهات الأماكن المقدسة المتبادلة"، ومع ذلك على هذه المراقبة أن تعود إلى الإدارة الفلسطينية وإليها وحدها في حال اقتسام كل القدس وليس فقط القدس الشرقية: عاصمتان، إدارتان، مدينة واحدة. والأماكن المقدسة المسيحية، ألم يحافظ عليها الفلسطينيون تمام المحافظة منذ الحروب الصليبية؟ هل سنبعث من وراء الفرنسيين أو البلجيكيين ليأتوا ويمارسوا "مراقبتهم الخاصة" على هذه الأماكن؟ مثلما استطاع الفلسطينيون أن يتحملوا مسئولياتهم وكما يجب عليهم أن يتحملوها في مراقبة وحفظ الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية وعلى أكمل وجه يمكنهم أن يتحملوا نفس المسئوليات وعلى أكمل وجه بخصوص الأماكن المقدسة اليهودية.

وتندرج المفاوضات حول الحائط الغربي وحائط المبكى والحرم الشريف وجبل المكبر (الهيكل) تحت باب الزيغ والعته الكاملين: تتخيم، رابط بالفضاء المقدس للأماكن اليهودية، رابط بالأماكن المقدسة الإسلامية للحائط الغربي، تفريق بين الحائط الغربي حائط البراق وحائط المبكى، وضع الحرم الشريف/جبل المكبر تحت السيادة الدولية. ومع ذلك، لم تصل الحفريات التي قام بها الإسرائيليون إلى أية نتيجة: ليس هناك أي أثر مهما كان صغيرًا لهذا الهيكل المزعوم!

اللاجئون:
مسألة اللاجئين بالنسبة لي أهم من مسألة القدس أو مسألة الأراضي المحتلة، إنها مركز كل حل، وعلى المفاوضات أن تبدأ بها. سيسهل حل هذه المسألة تسهيلاً كبيرًا كل تسوية أخرى، وبإرضاء ما يتمناه الفلسطينيون المطرودون من بيوتهم لن يبقى سبب لوجود المشاكل الصغيرة، وسيوفر الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني عليهما الكثير من الوقت، ولكن على الخصوص الكثير من المماحكات، وسيتقدمان نحو تسوية عادلة ومشرفة للجميع.

ولكن ما وقع، يصرح الطرفان أن "موضوع اللاجئين يشغل مكانًا مركزيًا في العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية، وحل كامل له وعادل شيء أساسي لخلق سلام دائم وعادل أخلاقيًا"، ولكنهما لا يتوصلان إلى أي اتفاق. وعندما يعبر الإسرائيليون عن طريقتهم في فهم القرار 194 للجمعية العمومية بخصوص اللاجئين هكذا:

أ‌) عودة وإعادة

1. إلى إسرائيل
2. إلى الأراضي الإسرائيلية المتبادلة
3. إلى الدولة الفلسطينية

ب‌) إعادة التأهيل وإعادة التأجير

1. إعادة التأهيل في البلد المضيف
2. إعادة التأجير في بلد ثالث

هم يتطرقون إلى هذه المسألة بشكل مسئول إلى أن ينكشف مثل كل مرة هدفهم الأصلي الرامي إلى تصفية هذا المشكل والهرب من مسئوليتهم بتأكيد أن "الأفضلية في كل هذه البرامج ستعطى إلى اللاجئين من فلسطينيي لبنان".

لا توجد أفضلية في مادة "اللاجئين" الذين عليهم أن يختاروا بحرية كما يحدد ذلك مفاوض عرفات، ومع الأسف بهدف خفي هو أيضًا، فمن أجل إرضاء مفاوضِهِ الإسرائيلي القوي والمتعالي يوافق على دفع "مبلغ زهيد" كتعويض إلى الذين يفضلون عدم العودة، وهم بضع مئات الآلاف، فالعرفاتيون "يحشون" مسألة الاختيار في المفاوضات، وهم يعلمون أن هذا "الاختيار" لن يكون اختيار أغلبية الفلسطينيين، وخاصة أولئك الذين يحسن وضعهم حيث هم يقيمون. ثم يتكلمون عن "قيمة مشرفة" للأراضي المصادرة، هم لا يتكلمون عن قيمة السوق، وإلا كان ذلك غاليًا جدًا على صندوق دولة إسرائيل الذي لا ينام العرفاتيون الليل وهم يفكرون فيه! ومثل كل مرة، على المباحثات أن تدور في صالح الإسرائيليين، ومعاونو عرفات هم هنا لخدمتهم. لكن ما يثير الحنق أكثر ما يثير أن نرى الإسرائيليين وهم يَحْسُبون 25000 لاجئ على 3,5 مليون ممن يمكن السماح لهم بالعودة إلى إسرائيل في السنوات الثلاث الأولى ضمن برنامج محدود ومفروض بشكل تعسفي.




خارطة الطريق



الحل المستحيل

عنصران لم يلعبا في صالح ايهود باراك في الانتخابات، الانتفاضة الثانية التي تفجرت بعد "نزهة" أرييل شارون المستفزة في ساحة المسجد الأقصى، والقمع الدموي الذي أجراه باراك نفسه ضد الأقلية العربية في الجليل المطالبة بالعدالة والديمقراطية وتحسين حياتها اليومية دون أن تخفي دعمها "العاطفي" لإخوتها في الكفاح تحت الاحتلال. عندما رأى العرب الإسرائيليون دماء أبنائهم كيف سالت بغزارة لم يصوتوا له ولا لخصمه، وترك امتناعهم عن التصويت الطريق مفتوحة لليمين الصاعد بقوة من أجل استرداد السلطة. بدت كل حسابات هذا الشخص وكأنها لم تكن أمام صعود اليمين وأقصى اليمين هذا الناتج عما نشره شارون من جو رعب في الأراضي المحتلة وباراك داخل إسرائيل نفسها. حط جو الهولوكوست في النفوس، فأمكن لشارون تشريع سياسة العنف المتشددة وغير المشفقة نحو الفلسطينيين، وكانت فرصته الذهبية لنسف اتفاقات أوسلو 1 و 2 وكذلك الاتفاقات الأخرى، وقد تم له ذلك بإعادة احتلال ما انسحب الجيش الإسرائيلي منه وممارسة إرهاب الدولة على مرأى ومسمع العالم أجمع دون أن يجرؤ أحد على رفع إصبعه الصغرى من أجل إيقافه، مما يوضح مرة على مرة العيب المرتبط بهذه الاتفاقات وهشاشة الحال التي ندت عنها.

في هذا الجو من تفاقم العنف والحرب الذي بثته القبضة الحاكمة في إسرائيل، اقترحت الرباعية – الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، الاتحاد الأوروبي، الأمم المتحدة – "خارطة طريق" تقضي بإنشاء دولة فلسطينية على مراحل من هنا إلى العام 2005 تتعايش سلميًا إلى جانب إسرائيل. ومع الأسف، خارطة الطريق هذه تضل الطريق منذ البداية! فهي تقلب الأدوار وتقدم شروطًا لاحقة لنهاية الاحتلال كشرط أولي لكل الشروط الأخرى من أجل الوصول إلى حل الدولتين، إسرائيلية وفلسطينية، وهي تعلق تحقيق ذلك بوقف "العنف والإرهاب"، وليس بانسحاب الجيش الإسرائيلي الذي هو سبب هذا "العنف" وهذا "الإرهاب". إضافة إلى أنها تعتبر الإدارة الفلسطينية مسئولة عن "العنف والإرهاب"، وتطالبها ب"المكافحة فعلاً ضد الإرهاب" كما لو كانت هي التي تختبئ خلفه. ومع ذلك الكل يعلم أن الذنب في مادة العنف يعود على القادة الإسرائيليين المستفزين والمعتدين، والأنكى من كل هذا عندما تنهر خارطة الطريق عرفات وأتباعه ليضعوا حدًا "بالفعل" للإسلاميين، وتنذرهم ب"احترام مبادئ الديمقراطية والحرية"! وفي هذا تناقض مطلق، وحشو لغوي لا أكثر، يرميان إلى تمويه هذا المطلب الدافع إلى العته، والذي هو إحراق البلد وإراقة دماء أبنائه.

وفوق ذلك، ومنذ المقدمة، يرجح الميزان لصالح إسرائيل، معها تصبح الرباعية مهذبة، تختار جيدًا كلماتها، لا تنذر أحدًا بالقيام "فعلاً" بأي شيء: "على إسرائيل أن تكون جاهزة للعمل من أجل أن ترى دولة فلسطينية النور". وإذا لم تكن جاهزة خلال ألف سنة أخرى؟ خارطة الطريق لا تؤكد في هذا الأمر شيئًا، ولا في أمر الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتتكلم عن "أراض محتلة" مكرسة الصيغة المشبوهة للقرار 242. وفي الأخير تربط نهاية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني باعتراف البلدان العربية بإسرائيل، هذا الاعتراف الذي تم بشكل غير رسمي، مما لا يسعد شارون على الإطلاق، فهو يعرف هذا ولا يبالي به أقل مبالاة، بما أن كل القادة العرب من المحيط إلى الخليج في جيبه.

المرحلة الأولى:
تطالب المرحلة الأولى هذه من خارطة الطريق ب"إنهاء الإرهاب والعنف، بعودة حياة الفلسطينيين إلى طبيعتها، وببناء مؤسساتهم الوطنية".

نهاية الإرهاب والعنف غير ممكنة إلا إذا كان هناك تعهد يلزم الطرفين بينما ويا للمفارقة يجب على الفلسطينيين فقط "الالتزام بوضع حد للعنف حالاً والعودة إلى تعاونهم الأمني مع إسرائيل" كما لو كانوا هم "المحتلين". وحالاً! تخفي اللهجة الإجبارية هنا بشكل رديء استحالة تحقيق هذا الفعل. لقد أوقف الإسلاميون بعد اجتماع القاهرة كل فعل انتحاري ولكن الجيش الإسرائيلي واصل هجماته ذات "الهدف" هجماته المفخخة ضد سياسيي فصائلهم. على إسرائيل إذن أن تضع حدًا لكل عنف، هي التي تنتهك كل التزام، وتعتقد أن بإمكانها القضاء على الإسلاميين بقتلها رؤسائهم. على العكس، بأعمال كهذه تغذي إسرائيل أكثر الحركة الإسلامية، وتعمل على دعمها، وغرضها في الواقع عدم التوصل إلى أي حل أو على الأقل إلى الحل الذي تفرضه. ونحن هنا بعيدون تمام البعد عما تتمنى الرباعية رؤيته على أرض الواقع، والأمريكان لا يجهلون ذلك: فهم يصونون استراتيجية شارون في الوقت الذي يقفون فيه إلى جانب شركائهم في سلام كاذب. هذه هي خارطة الطريق المحرَّرَة من طرف تكنوقراط الدبلوماسية الأمريكية.

على أي حال إنه لمن المحال لفلسطينيي عرفات أن يضعوا حدًا للعنف، أولاً لأن الإسلاميين منزرعون بين الناس، وثانيًا لأن عرفات، كما سبق لي وقلت، لن يغامر في خوض غمار حرب أهلية في تقديره لا يمكن كسبها مسبقًا. أضف إلى ذلك، التعاون المدعو بالأمني مع إسرائيل، كما كان الحال غداة التوقيع على اتفاقيات أوسلو، لم يعط شيئًا كبيرًا في مادة الأمن. إذن والحال هذه إنه لمن المستحيل إرضاء مثل هذا الطلب، ومن المستحيل أيضًا إعادة الحياة اليومية للفلسطينيين إلى طبيعتها، وكذلك إعادة بناء مؤسساتهم الوطنية طالما لم تنسحب إسرائيل من كل المناطق التي أعادت احتلالها منذ سبتمبر 2000 (وليس من مناطق أعيد احتلالها كما يقال في خارطة الطريق) ومن كل الأراضي المحتلة. لماذا لا تنذر الرباعية إسرائيل بالانسحاب "حالاً" كما تفعله مع عرفات؟ وإنه لمن المستحيل أيضًا القيام بإصلاحات سياسية مع عرفات وفريقه من الفاسدين، وكأننا نطلب من طبيب أن يعالج شخصًا مصابًا بسرطان لا يشفى.

ثم هم يظهرون عدم الجدية عندما يطلبون من عرفات "الاعتراف دون لبس بحق إسرائيل في الوجود بسلام وأمن"، وكأنه لم يعترف بذلك عندما وقع على اتفاقات أوسلو وألغى ميثاقًا يحث على محو دولة إسرائيل. ومن جديد نعود إلى العنف، وتغدو الرباعية في طلبها أكثر مباشرة عندما توجب على عرفات وأزلامه وقف إطلاق للنار غير مشروط (إنذارها دومًا وأبدًا)، إنهاء التحريض على العنف، إلقاء القبض على كل من يريد مواصلة العنف، تحطيم بنى الإرهابيين التحتية، مصادرة أسلحتهم...

كل هذا مسخرة بمسخرة!

أولاً وقبل كل شيء لأن من المحال تدمير شبكات تذهب في جذورها عميقًا في الطبقات الشعبية، فمن سيحبس عرفات ومن؟ كل الشعب؟ ماذا سيدمر وماذا؟ وأي سلاح سيصادر وسلاح؟

وبدلاً من معالجة أسباب العنف التي هي الاحتلال، القمع اليومي، الإهانة، الإحباط، الإفقار، الإنهاء... الخ، يفرض تكنوقراط الرباعية على إدارة يجري شجبها من طرف شعبها، إدارة عرفات، القيام بطرق قريبة من الفاشية أو أنها بكل بساطة فاشية، لإرضاء شخص واحد أوحد: شارون. نعم، "على إسرائيل أن تسعى إلى إعادة بناء الثقة وذلك بتخليها على الخصوص عن إجراءاتها العقابية (هدم البيوت، الطرد، المصادرة...)" – ما حصل في جنين، في بيت لحم، في نابلس لم يزل في كل ضمير، ويجب البدء من هنا لا الانتهاء. يجب أولاً وقبل كل شيء البدء بانسحاب جاد ودون شرط مع وعد قاطع بإنهاء الاحتلال، والتزام "لا لبس فيه بالعمل على إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للعيش"، مع الاستعداد على هدم ليس المستعمرات "المتوحشة" فقط ولكن كل المستوطنات الأخرى التي لا علاقة لها بإقامة دولة فلسطينية وفي إطار الاتحاد المشرقي كما سأعرض له لاحقًا. يجب البدء بهذا لنرى العنف وقد توقف "حالاً" والانتفاضة وقد انتهت. وبفريق جديد كل الجدة في الحكم –وليس فريق عرفات والفاسدين ممن هم معه- تعود مهمة "وضع بنى ديمقراطية" دون عون من أحد وقبل كل شيء دون عون إسرائيل كما تطالب به الرباعية بشكل مهين. على إسرائيل أن تكنس أولاً وقبل كل شيء أمام بابها، وذلك بتطبيق القواعد الديمقراطية على كافة مواطنيها: يهود، عرب، دروز، وغيرهم، دون أي تمييز عنصري (وهذا أشكناز، وهذا سفاراد، وهذا فالاشا) وبالتخلي عن ديمقراطية ذات وزنين ومعيارين – سمة أساسية من سمات الأيدولوجيا الصهيونية. عند هذا الحد من التحليل أحذر من الانزلاق من العداء للصهيونية إلى العداء للسامية، فلا يخدم هذا إلا القبضة الإسرائيلية الحاكمة، وهذا تماما ما ترمي للوصول إليه بكل الوسائل، لتشرّع ما تقوم به من أعمال عدائية وقمعية ولا إنسانية من أجل تصفية القضية الفلسطينية.

المرحلتان الثانية والثالثة:
بما أن المرحلة الأولى من خارطة الطريق من المستحيل إنجازها، لا ضرورة إذن إلى المرحلتين الثانية والثالثة، فلم يعد هناك سبب لوجودهما. ولنفترض مع ذلك أن المرحلة الأولى قد تمت فعليًا، لكن المرحلة الثانية كما جرى عرضها تحتوي على خطأين: الأول تسلسلي والثاني عملي.

الخطأ التسلسلي أولاً: نقرأ أن المرحلة الثانية "ستعنى بالجهود المبذولة من أجل تأسيس دولة فلسطينية مستقلة ذات حدود مؤقتة بين يونيو وديسمبر 2003." وبعد ذلك نقرأ: "وإذا ما قدّرت الرباعية أن الشروط سانحة، يجب تنظيم انتخابات فلسطينية."

الحق يقال إن المنطق يفرض البدء بانتخابات تتبعها جهود تبذل من أجل تأسيس... إلخ. مع منتخبي الشعب بدءًا من انتخابات حرة بالفعل يجب على المفاوضات أن تكون من أجل إقامة دولة هذا الشعب.

خطأ تسلسلي أيضًا: في الفقرة الرابعة هناك مسألة الاعتراف بهذه الدولة: "ستعمل الرباعية على الاعتراف بهذه الدولة من قبل هيئة الأمم المتحدة." لأن –الفقرة الثالثة- على الاعتراف أن يتم قبل "مؤتمر دولي تدعو الرباعية إليه بالتشاور مع الأطراف المعنية من أجل دفع الجهود لتحقيق سلام شامل في الشرق الأوسط." قانونيًا، على الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل كل المؤسسات الدولية أن يتم قبل جلوسها إلى جانب الدول الأخرى في مؤتمر يعالج سلامًا شاملاً لمنطقة بأكملها ويتعلق على وجه الخصوص بهذه الدولة التي هي دولة فلسطين، قلب المشكل وشريك النِّد للنِّد. هذا التوصل المنطقي في التحليل سيزعزع مفهوم دولة مؤقتة ودولة نهائية كما سنرى.

أما الخطأ العملي، فسألخصه كما يلي:
تنوي الرباعية أن تحل محل الأطراف المتنازعة الأطراف اللاعبين لدور مباشر في الصراع والذين هم الإسرائيليون والفلسطينيون: وهي بذلك تتجاوز دورها كوسيط. إنها تتدخل في الشؤون الداخلية للطرفين، والحال هذه بأي حق "تحكم"، تفرض، عندما تستعمل مصطلح "يجب" و "تعمل"؟ بصفتها قوة عليا؟ لماذا قوة عليا؟ وإذا ما سلمنا بالأمر، هل هذه القوة أخلاقية، عسكرية، اقتصادية، سياسية، دبلوماسية، جغرافية؟ على أي حال، يجب ألا تكون أبدًا غير عادلة. والغريب في الأمر أن المصطلحات المستعملة في خارطة الطريق وكذلك البنود بمجموعها هي في صالح إسرائيل. إذا كان بمقدور الرباعية التوصل إلى ممارسة نفوذها على الطرف الإسرائيلي فلتفعل أولاً، وبعد ذلك سيجلس الطرف الفلسطيني جنبهما، جنب إسرائيل والرباعية، بصفتهما مفاوضيْن "إيجابييْن" دون دكتاتورية ولا استبداد. ولكن منذ البداية، كل شيء في خارطة الطريق هذه يشير إلى التحيز لإسرائيل، ولن يكون للفلسطينيين أكثر مما قدمت لهم اتفاقات أوسلو. لهذا السبب تتوجه الرباعية إلى عرفات وأعوانه "الأفضل" ممن يمكنهم التنازل عن كل ما يطلب منهم. بالطبع هؤلاء موافقون دومًا على مبادرات كهذه تحميهم وتشرّع لهم اغتصابهم للسلطة.

إذن انتخابات بين "عشائر" سياسية وبنتائج معروفة سلفًا في صالح هؤلاء الأشخاص الكريهين على طريقة جبهة التحرير الجزائرية، نحن لا نريدها. دولة مؤقتة ثم دولة نهائية، نحن لا نريدهما أيضًا. فالمؤقت يعني لا شرعية وحقوق مهانة بشكل احتيالي. أضف إلى ذلك أن هذا يعيدنا إلى تعرجات جو الخطوة خطوة لاتفاقيات أوسلو التي لم تؤد إلا إلى فراغ سياسي وكبت شعبي وصعود التمامية ودبابات شارون. مؤتمر أول ثم مؤتمر ثان كما ترتأي المرحلة الثالثة من خارطة الطريق، نحن لا نريد لا هذا ولا ذاك، نحن لا نريد لا أولاً ولا ثانيًا ولا ثالثًا. على الفلسطينيين والإسرائيليين أن يحلوا مشاكلهم دون هيئة وسيطة، والبرهان، خارطة الطريق هذه، حيث لا ذكر هنا لمواضيع الشقاق الأساسية، تجد نفسها حاليًا في طريق مسدود من المستحيل فتحه. لقد مضت التواريخ المنصوص عليها بين يونيو وديسمبر 2003 دون أن نرى إنشاء دولة فلسطينية مهما كانت هذه الدولة، ولم تر بداية 2004 التاريخ المنذور للمرحلة الثالثة من أجل المؤتمر الدولي الثاني لقيام دولة فلسطينية ذات حدود نهائية، لم تر هذه البداية إي شيء ملموس في هذا الشأن. ما تحقق فقط جدار العار! فلا يحتج عرفات وأزلامه على "حق إسرائيل في بناء حاجز لتدافع عن نفسها ولكن على واقع أن الجدار يُبنى فوق الأرض الفلسطينية بما في ذلك القدس الشرقية". يا للعار لعرفات ولمن يدعمه ولشارون ولمن يدعمه، لأن الأمر هنا يتعلق بغيتو ضخم للإسرائيليين وبمعتقل لا قياس له للفلسطينيين. وما يضفي على خارطة الطريق لا فاعليتها الموقف السلبي للقادة الإسرائيليين عبر ما يوجبون وما يشترطون من شروط زائغة يفرضونها شروطًا أولية لكل مشاركة في أي شيء كان:

. أن تتوقف الأعمال الإرهابية قبل أن يُنظر في أمر تجميد المستعمرات الجديدة.

. أن يقال ياسر عرفات من وظائفه في السلطة الفلسطينية التي تمس الأمن والمال.

. أن يتخلى اللاجئون الفلسطينيون عن حقهم في العودة (حق مضمون من قبل هيئة الأمم المتحدة) إلى إسرائيل مقابل قيام دولة.

. أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية وليس الرباعية التي تتكلف بالإشراف على مدار السلام.

. ألا تكتفي السلطة الفلسطينية بالتفاوض مع حماس والجهاد الإسلامي والفصائل الأخرى "الإرهابية" بل عليها محاكمتهم... إلخ... إلخ...

كل هذه المطالب مرفوضة، لأنه من المستحيل تنفيذها بما في ذلك إقالة عرفات من وظائفه التي تمس الأمن والمال –رغم أنني مع فصله فصلاً كاملاً- لأن عباس في مكانه أو قريع أو أحدًا آخر من نفس الحرس القديم لن يبدل شيئًا لا في السياسة ولا في الفساد ولا في تدهور حياة الشعب الفلسطيني. هذا المنحل قريع يجد الوقاحة الكافية ليطلب من الأوروبيين عونهم ومساعدتهم في إعادة بناء المؤسسات الفلسطينية، ومن يقول عونًا يقول مالاً يتوزعه فاسدو السلطة الفلسطينية دون سلطة فيما بينهم. لم يعد خافيًا على أحد ما يجتزئه عرفات من الأموال التي يدفعها الاتحاد الأوروبي مبالغ طائلة لزوجته سهى الطويل، وحسب بعض المعلومات، صرفت سهى الطويل مؤخرًا شيكًا بمبلغ تسعة مليون يورو. بفضل عشرات الملايين بله مئاتها تعيش هذه السيدة بدعة في باريس مع طفلتها بينما يذبح جنود الاحتلال أطفال الانتفاضة في رام الله وغزة ونابلس.

إذن شارون الذي يعلم إلى أي درجة هي مسدودة الطريق التي وُضعت فيها خارطة الطريق، يقترح خطته للانفصال، خطة معتوهة تناقض كل حق إنساني ووطني للفلسطينيين، فهو يبحث على فصل فلسطين عن الفلسطينيين بشكل تعسفي بعد أن فشل في مواجهة أطفال الانتفاضة وقبل ذلك في طرد الفلسطينيين من الأراضي المحتلة عبر نهر الأردن إلى الأردن حسب خطة "ترانسفير" ترحيل مستحيلة، دون القدس، دون حق العودة، دون تحديد لحدود متفاهم عليها، مع الإبقاء على تواجده عبر المستعمرات والاقتصاد. مما يعيدنا إلى قول إنه يطبق، بكل العنجهية التي يخولها له حق المتقاوي، ولا أقول القوي، فقوة أمريكا هي التي تقف في قفاه، إنه يطبق قليل القليل – الذي هو اتفاق أوسلو.



مبادرة جنيف



إرث طابا

يجب أن نعرف أولاً وقبل كل شيء أن الفلسطيني ياسر عبد ربه والإسرائيلي يوسي بيلين اللذين أعدا خطة السلام هذه غير الرسمية لم يمكنهما القيام بأي اتصال بينهما دون موافقة الموساد، فكان لهما هذا الجهاز القوي بأهدافه وسلطاته ضمانًا، وكان هناك بالتالي خط لا يمكن تجاوزه. وما توصل إليه من نتائج أقر به جهاز المخابرات الإسرائيلية قبل أي جهاز، من هنا يأتي كل الشك وكل الحذر اللذان أتعامل بهما مع هذه النتائج. ويجب إضافة أن عبد ربه يجري مفاوضات ليست رسمية، سأقول عنها شخصية، وبالتالي لا يلزم الاتفاق إلا شخصه، ولن تكون له بأي حال من الأحوال الأهلية القانونية للبت في مسائل حيوية يتوقف عليها مستقبل الشعب الفلسطيني ووجوده نفسه.

كل الضجة التي أثيرت حول مبادرة جنيف ليست دون حسابات سياسية فائقة الخطورة، وهي تضر بشرعية الشعب الفلسطيني وأمنه ووجوده، بقضيته وكفاحه من أجل الاستقلال منذ أحوال وأحوال. مع عبد ربه ونايف حواتمه من قبله، الشريكين القديمين في الجبهة الديمقراطية، دومًا ما كان أمر "تدجين" الرأي العام الفلسطيني أمرهما، فقد كان من عادتهما أن يرمياه بشعارات مثل "كل السلطة للمقاومة" (لتهيئة كارثة عمان)، "الدولة الديمقراطية" (لتهيئة كارثة لبنان)، "دولتان لشعبين" (لتهيئة كارثة أوسلو)... الخ، وذلك من أجل التمهيد لخطط مريبة يتبناها عرفات وأتباعه فيما بعد – وقد مضى الاستياء الشعبي مع رد فعل الناس الأول، أو، على الأقل، اتخاذه ذريعة لحسابات دنيئة وشنيعة تؤدي إلى التركيع والتخلي. التنازلات التي جرى تقديمها في هذه الخطة فيما يخص الحدود، القدس، وخاصة اللاجئين، لهي إشارة أولى، خطوة أولى من أجل تحقيقها بالفعل، وتصفية القضية الفلسطينية تصفية كاملة، فعلية، ونهائية. ودعم عرفات "للمخلص" له دومًا برهان على ما أجملته. وهو دعم مصاحب لكل ما هو مفسد في السياسة، والذي ستتبعه بعد تكييف الشعب سلسلة من الإجراءات الاستسلامية التي لا نظير لها.

الحدود:
أقرأ بهذا الخصوص: "القاعدة التي يقوم عليها تخطيط الحدود هي الخط الأخضر، خط الهدنة 1948، وهو ذو طرف مشترك مع تبادلِ أراضٍ لأجل حل أكثر مسائل الصراع تعقيدًا، مسألة المستعمرات اليهودية." وأقول على الفور مبدأ تبادل الأراضي لأجل حل مسألة المستعمرات مرفوض مسبقًا للأسباب التالية:

أولاً وقبل كل شيء، ليست المستعمرات إحدى المسائل الأكثر تعقيدًا، كما يدعي المتفاوضان السابقا الذكر، لقد أصبحت كذلك، وهي ليست معقدة إلى هذه الدرجة. من داخل منطقي الاتحادي بين الفلسطينيين والإسرائيليين تُحل هذه المسألة بعدة سطور. في الواقع، تمثل هذه المستعمرات جسدًا غريبًا في امتداد متجانس، الاحتفاظ بها تحت السيادة الإسرائيلية حتى بتبادل أراض أخرى لن يحل من المشكل شيئًا، فهي ستبقى جسدًا غريبًا، وبسلام أو بغير سلام، ستثير رفضًا دائمًا من طرف السكان العرب. ثم، تبادل ماذا بماذا؟ ليس هناك تحديد "محدد". هناك ذكر ل "يقوم هذا التبادل على قاعدة التكافؤ"، ولكن أين؟ على مقربة من المدن والقرى الإسرائيلية كما هو حال مدننا وقرانا يا حبذا، ولكن في "جنوب الضفة وخاصة على طول قطاع غزة"، يعني في أماكن صحراوية ومنعزلة، لا، شكرًا. سيحتفظ الإسرائيليون كما هو واضح جدًا بأحسن مستعمراتهم في أحسن الأمكنة: جيفات زيف وجيلو في القدس الشرقية، ومعال آدومنين أكبر مستعمرة في الضفة الغربية، وتجمع غوش اتزيون حيث قسم كبير من هذا التجمع ومستعمرات أخرى تلاصق الخط الأخضر. وماذا يبقى؟ سيقول لي المتفاوضان المستحمران: مستعمرات قطاع غزة. ولكن شارون بقراره إخلاء هذه المستعمرات "مجانًا" قد أفرغ هذا الاقتراح من كل فحوى وكل مصداقية. وبالنسبة لباقي المستعمرات التي تم "إخلاؤها وتركها سليمة للفلسطينيين" يغرينا ذلك بالضحك! وللعلم إنه ضحك أسود، لأن هذه المستعمرات التي تركت سليمة "ستُملأ" باللاجئين وحقهم في العودة قد تمت تلبيته!

إذن تبادل الأراضي أمر جائر وظالم وغير منصف، أضف إلى ذلك كما سبق لي وقلت، هذا المبدأ التعسفي مرفوض من طرف الشعب الفلسطيني لأنه يكرس تفتيت فلسطين المستقبل. إنه يُبقي سيادة الجيش الإسرائيلي مع فارق بسيط: بدلاً من أن ينتشر الجنود الإسرائيليون في كل مكان من الأراضي المحتلة، تجدهم مجتمعين في نقاط استدلال استعدادًا منهم للانقضاض عند أقل أمر كما كان الحال مع تلك الانسحابات التي تمت عشرة أمتار حول مدننا وقرانا حسبما اشترطته اتفاقيات أوسلو. إنه شكل أكثر تكتمًا لانسحاب القوات الإسرائيلية، أقل إضعافًا للمعنويات، وخاصة أقل تكلفة. وفي هذا الاتجاه، تتكلم مبادرة جنيف عن "قوة متعددة الجنسيات" ترابض في المناطق الفلسطينية التي تم الانسحاب منها. يمثل هذا همومًا أقل ونفقاتٍ أقل للعساكر، وفي المقابل يجري تطويق أكثر وإخضاع أكثر للفلسطينيين. لأن ما ينادي به المتفاوضان السابقا الذكر هو فلسطين منزوعة من السلاح، فلسطين في الواقع مسلحة بحضور الجيش الإسرائيلي الخفي أو الحضور الساطع لهذه "القوة المتعددة الجنسيات". ولنضف إلى ذلك "ممرًا تحت السيادة الإسرائيلية يقضي بربط غزة بالضفة الغربية"، مع "حق النظر" الإسرائيلي إلى "حركات المتاع والأشخاص في نقاط العبور" و "محطات إنذار"، قواعد حراسة لمدة عشر سنين. وماذا أيضًا؟ ما يُرمى إليه هنا هو تشريع "نظيف" للاحتلال ومواصلته عشرة أعوام أخرى. بعد ذلك سنرى. وكل شيء ممكن مع القادة الإسرائيليين الذين يمكنهم اختراع أي شيء لتجديد هذه المدة إلى ما لا نهاية. الحقيقة أن هذه المبادرة تكرس الاتفاقيات الجائرة السابقة، ولكنها تعود خاصة إلى أخذ كل المواضيع التي جرت مقاربتها في طابا وعلاجها بمكر ونفاق بشكل أكثر ذكاء لا أكثر.

وعندما يتحدث عبد ربه وبيلين عن روزنامة "قصيرة" للانسحاب قوامها ثلاثون شهرًا (ومع ذلك ثلاثون شهرًا مدة طويلة جدًا جدًا) يأتيان "باستثناء"، وفي هذا النوع من الاتفاقيات غير العادلة هناك استثناء دومًا: "وادي الأردن الذي سيكون موضوعًا لمعالجة خاصة." بالتأكيد! نعود هنا إلى روح الاتفاقيات حول الاتفاقيات لأجل تقنيع جشع وشراهة إسرائيل الرسمية ومراميها الاستراتيجية والاقتصادية.

القدس:
أقرأ بهذا الخصوص: "تتم تسوية وضع القدس حسب مبدأ كلينتوني، يعني سيادة فلسطينية على المناطق المأهولة بأغلبية فلسطينية وسيادة إسرائيلية على المناطق المأهولة بأغلبية إسرائيلية. وينتج عن ذلك التقسيم السياسي للمدينة حيث يستطيع كلا البلدين إقامة عاصمتهما المعترف بها من طرف الجماعة الدولية."

هذا المبدأ الجائر الكلينتوني كما يدعى نسبة إلى الرئيس الأمريكي السابق كلينتون لا يمس القدس الغربية لا من بعيد ولا من قريب حيث لا يوجد فيها أي حضور عربي. لماذا يتم إخفاء ذلك ولا يقال "بشجاعة" إن ما يرمى إليه هو تقسيم السيادة بين الإسرائيليين والفلسطينيين على القدس الشرقية، القسم الذي تم غزوه من طرف إسرائيل عام 1967 والمستعمر جزئيًا قبل ضمه؟ ها نحن نعود إلى مسألة المستعمرات، حصان طروادة، للانتقاص من أمر السيادة العائدة إلى الفلسطينيين كاملةً على القدس الشرقية عاصمتهم دومًا. ولكن ها نحن نرجع أيضًا إلى مشاكل أخرى عندما أقرأ: "لا تفلت القدس القديمة من هذا التقسيم. ستمارس إسرائيل سيادتها على الحي اليهودي والكوتل وحائط المبكى."

لقد كانت هذه الأماكن دومًا وأبدًا تحت حماية الإدارة الأردنية، وبشكل مضمر الفلسطينية، لماذا تمضي الآن تحت السيادة الإسرائيلية؟ تتعايش الديانات الثلاث في القدس القديمة منذ فجر التاريخ وحمايتها تعود للمؤمنين أنفسهم وللهيئات الدينية. إذن هذا المبدأ مرفوض. ومرفوضة أيضًا رقابة "فريق دولي" لساحة المسجد الأقصى للسبب نفسه. وعلى العكس، أتفق تمامًا مع ما "ستشكله البلديتان من لجنة تعاون وتطوير للقدس مسؤولة عن مسائل البناء المشتركة والماء والنقل والاقتصاد والشرطة"، يعني كل شيء. من الواجب إذن حل مسألة القدس: عاصمتان، إدارتان، مدينة واحدة، حسب هذه القاعدة وفقط حسب هذه القاعدة الإدارية لا الإثنية أو العسكرية. وبهذا الخصوص، كل ما يتعلق بمداخل الأماكن المقدسة كما هو محدد في الفصل الرابع من هذه المبادرة، هذه الأماكن المقدسة أينما كانت موجودة، في الخليل، في بيت لحم، أو في أي مكان آخر، يجب أن يعالج إداريًا دون أي حضور مهما كان صغيرًا لقوة دولية أو غيرها.

اللاجئون:
أقرأ حول هذا الموضوع: "يستطيع اللاجئون ممارسة حق عودة في إطار الدولة الفلسطينية بعد قيامها سواء أكان ذلك داخل الخط الأخضر أو على قطع الأرض التي تخلت عنها إسرائيل. ويستطيعون أيضا اختيار بلد ثالث، إسرائيل، أو البقاء أخيرًا في البلد الذي يوجدون فيه."

متفق تمام الاتفاق.

ولكن إذا دخلنا في تفاصيل هذا العرض المشرف سقطنا في حسابات سياسية وفقد هذا البند كل شرف.

أقرأ: "إلا أن لإسرائيل تبقى اليد العليا في تحديد عدد اللاجئين الذين تسمح لهم بدخول الأراضي الإسرائيلية." يعارض هذا حرية الاختيار التي عناها العرض المذكور. وإذا كان عدد اللاجئين هذا المسموح لهم عشرة أشخاص؟ سيجد الوفدان غير الرسميين مخرجًا عند الحديث عن "معدل": "تحسب القاعدة المتبعة في هذا الشأن ابتداء من متوسط اللاجئين المقبولين من طرف كل بلد من بلدان الاستقبال الجديدة." وإذا كان متوسط اللاجئين المقبولين مائة؟ لا، كل هذا ليس بالشيء الجاد. يحاول المبادران تصفية هذه المسألة بكل السبل وبأحط ثمن، علمًا بأن حق العودة حق مقدس معترف به دوليًا، ولا يجدر بحال التضحية به على المذبح الإسرائيلي. لا حق لأحد في القيام بذلك، لا من الناحية الإسرائيلية لمسؤوليتهم التاريخية في هذه الفاجعة الفريدة من نوعها، ولا من الناحية الفلسطينية لالتزامهم التاريخي أيضًا في الحفاظ على هذا الحق الأكثر من مقدس والدفاع عنه، الحق الجوهري في حياة كل فرد في العودة والإقامة حيث يريد العيش بحشمة وكرامة. بالنسبة لي، عودة الذين يؤثرون هذا الحق الوطني والإنساني لا تعني نهاية دولة إسرائيل، ولا تهدد بالخطر وجودها، لا تمحو صفتها الإثنية. سأعرض كيف ولماذا في خطتي.

أما فيما يخص بند التعويض والتمويل فما ذلك سوى ترقيع لا أكثر ومسخرة صرفة.



خطتي للسلام


اجعلها طريقك لتأسيس دولة فلسطين...

أهدي خطة السلام هذه إلى جارتنا في نابلس، يهودية ذات جمال ساحر، وإلى تلك الفتاة الإسرائيلية بسنيها الإحدى عشرة التي تشبه ابنتي إيناس، والتي كانت في روبرتاج على القناة الخامسة الوحيدة في صف من عشرين تلميذًا وتلميذة الموافقة على العيش مع الفلسطينيين. أهديها أيضًا إلى محمد الدرة، ذلك الصبي الذي قُتل بين ذراعي والده برصاص الجنود الإسرائيليين تحت جدار في غزة.

باريس أفريل 2004


أُرسلت هذه الخطة إلى جان-بيير رافاران، رئيس وزراء فرنسا السابق، في الأول من سبتمبر 2002 في رسالة مسجلة مع وصل استلام، وأرسلت بعد ذلك بسنة في 7 سبتمبر 2003 إلى هوارد اتش ليه، السفير الأمريكي في باريس، فلم يتفضل لا الأول ولا الثاني بالرد عليّ، علما بأن هذه الخطة أُرسلت إلى رئيس وزراء فرنسا وليس موريتانيا وإلى سفير الولايات المتحدة الأمريكية وليس بنغلاديش. ومع ذلك، لجسامة الموضوع، فالمسؤولون عن هذين البلدين من بلدان العالم الثالث كانوا سيجيبونني بأدب وكياسة، ومن طرف هاتين القوتين العظميين لا شيء! لأن لا الموساد ولا السي آي إيه ولا الدي اس تيه في ظهري، وليس عندي صاحب بنك سويسري يمول خطتي كما كانت حال ياسر عبد ربه ويوسي بيلين، ولم أجعل من كوفي عنان مؤتَمَنَاً على أسرار المباحثات. ليس لي سوى شخصي المتواضع ولكن كل شعبي معي، لأن الأمر يتعلق بحقوقه الوطنية والأخلاقية والإنسانية التي أدافع عنها أكثر من أي شخص آخر في الوجود والتي أدفع بروحي من أجلها. ولهذا السبب، لأني المدافع عن شعب بأكمله، بقيت الأبواب مغلقة في وجهي، على عكس عبد ربه وبيلين اللذين جرى استقبالهما في العالم أينما ذهبا بما في ذلك مكتب موشيه قصاب، الرئيس الإسرائيلي السابق. عجبًا من هؤلاء الغربيين الذين لا يختلفون في السلطة في شيء عن زملائهم الشرقيين! يتبدل وجه السلطة وتبقى في عمقها واحدة!

وزعت هذه الخطة على كل الصحف الكبرى لو موند، ليبيراسيون، لو كانار أنشينيه، لو فيغارو، لومانيتيه، فرانس سوار، تيموانياج كريتيان، لو موند ديبلوماتيك... ولا واحدة، أقول ولا واحدة قبلت بنشر ولو مقطع واحد أو اثنين من هذه الخطة، فهي آتية من شخص "غير معروف" نشر على الرغم من ذلك بالفرنسية أكثر من ثلاثين كتابًا! وهو أمر أكثر خطورة من عدم جواب رئيس وزراء في حملة انتخابية دائمة، بالنسبة له استمالة صوت متردد في الحي الشعبي العربي "باربيس" أكثر أهمية من حياة وكرامة شعب بأكمله، أمر أكثر خطورة من عدم جواب سفير أمريكي يعتبر نفسه في عطلة دائمة في مدينة النور، لأنه يصيب في القلب حرية التعبير. هذه الحرية المقدسة التي تفرض على وسائل الإعلام أن تحترم وتنشر أي خطاب كان، وأيًا كان الرأي، مع الحد الأدنى من المنطق. أقول الحد الأدنى من المنطق حتى وإن غاب الحد الأقصى من الموضوعية، وإلا ما الفائدة المتوخاة من مصطلح "حرية" في مفهوم "حرية التعبير"؟

ولكن ها نحن ذا، في الشرق تكمم الأفواه التي تصبو إلى الحرية والكرامة وفي الغرب أيضًا طالما مارس هؤلاء المحرِّرون والصحفيون، هؤلاء المحتكِرون للكلمات، الرقابة والرقابة الذاتية تحت ذريعة لا أدري من أي معيار هي، وطالما سهر هؤلاء الحراس "للأخبار والحريات"، هؤلاء الأبواق الرديئة في سوق الديمقراطية، على مصالح الدولة، وآخر قضية لجوبيه (رئيس وزراء فرنسي آخر سابق) ملأى بالدلالات: يستقيل لن يستقيل (من منصبه كرئيس لبلدية بوردو بسبب تورطه في فضيحة الرواتب الوهمية) قضية كرست تعليق بوجاداس واستقالة مازيرول الصحفيين في القناة الثانية.

باريس أفريل 2004

استهلال

من أجل غسيل ليس بعده غسيل لصحوننا وطناجرنا وسكاكيننا وملاعقنا وشُوَكِنا، يحتاجنا ذلك إلى السائل الصابوني "موسيو بروبر" نسخة شرق-أوسطية. يكفي أن يُخترع، أن يُتخيل. وللخروج من الطريق السياسي المسدود الذي نوجد فيه، سألجأ إلى خيالي الخصب، هذا أمر طبيعي، ولكني سآخذ بعين الاعتبار كل عنصر من العناصر التي تساهم في الوصول إلى مخرج مقبول. أولاً وقبل كل شيء هناك حاجة ظاهرة أو خافية تحت تعرجات الوعي حتى هذه اللحظة، عندنا وعند الإسرائيليين، للوصول إلى تفاهم نهائي لا نقيصة فيه. وبينما يغلق التكنوقراطيون الأوروبيون وزملاؤهم الأمريكيون أبراجهم الزجاجية على أنفسهم، هؤلاء الذين تقول عنهم الصحف إنهم وبشكل دائم في صدد إعداد "خطة سلام"، خطة سلام حسب التصوير البطيء كما يبدو، لم يتمكنوا أبدًا من التقاط هِرْمِسيّةِ (لفظ مرادف لكلمة الكيمياء السحرية) مسألةٍ كمسألتنا. والبرهان على ذلك "خارطة الطريق" التي تَضَلّ الطريق تمامًا كما رأينا في فصل سابق. وحده ابن المنطقة، من يشعر بالألم الذي يعاني منه الشعبان الضحيتان يمكنه ذلك، سيعمل مدفوعًا بروحه المستقلة وانتمائه إلى الأغلبية "الصامتة" في الأراضي المحتلة والمهجر العاشقة للسلم والمحرومة إلى اليوم من التأثير في الأحداث، لن يضيع في نقاش دلالي لا فائدة منه حول مصطلح "قابلية الحياة" لدولة فلسطينية، وسيتصرف وفي ذهنه الصورة التي لا تُنسى لناطحتي سحاب نيويورك المنهارتين، وسيتحرك باسم الواجب المقدس الذي هو واجبنا جميعًا لحماية الإنسانية. وبينما هو يعرف بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 أن عصرًا جديدًا يبدأ ليس عصر الحرب والعسكر ولكن عصر سلام الناس العاديين، سيقبل بالحق، بكل الحقوق التي تعود على كل طرف. قبل هذه الأحداث والحروب المُفْجِعة التي تلتها، ما كنت لأقبل ما أقترحه أنا بنفسي اليوم، ما كنت لأجرؤ على النظر إلى الأشياء وجهًا لوجه والغوص في المستقبل الأبعد عمقًا لأمتينا العربية واليهودية. فليحمل كل واحد نصيبه من المسؤولية، وفي المقدمة أولئك الذين ينتمون إلى الجيل المدعو "المحب للحرب"، جيلنا الذي ألهبه العنف ووسمته المعارك. أما بخصوص طريقتي فيما سأقوم به، فيجب الإشارة إلى ما يلي:

على الرغم من طاقة "موسيو بروبر" لن أدخل في التفاصيل، سأكتفي بإثارة الاهتمام وإشعال الحماس عن طريق أفكار سيعود تعميقها فيما بعد إلى مختصين قانونيين، اقتصاديين، اجتماعيين، تاريخيين، وأشخاص آخرين من العقلاء أصحاب الخطاب الحصيف.

سأعدد كل النقاط المختلف عليها، وسأجد لها الحل المناسب إجابة مني على ما ينتظره الطرفان، إجابة كاملة لا تقريبية، نعم كاملة. إنه لمن الممكن، عندما نريد، إرضاء الجميع.

الاتحاد المشرقي

صرح عبد الله الثاني ملك الأردن أنه "لا يريد أن يسمع كلامًا عن التزام مع الفلسطينيين قبل إقامة دولتهم". وغالبًا ما أثار شمعون بيريس تشكيلة اقتصادية مستقبلية تجمع كل دول المنطقة، وكان يُضَمِّنُ بداهة أن نكون نحن الفلسطينيين جزءًا منها عندما تتحدد هويتنا. في الغرب، نادت فرنسا، بلد من بين البلدان الأولى، بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل كشرط أول لكل حل، ولا يتوقف الرئيس الأمريكي عن تكرار أنه مؤيد لإنشاء دولة خاصة بنا وضامنة لإسرائيل، ونحن بالطبع الأوائل الذين نريد ذلك ونرغب فيه. لقد قاتلنا وضحينا بآلاف من أبنائنا من أجل ذلك، ولا نريد أن نسمع كلامًا عن اتحاد اقتصادي أو غيره، ثنائي أو غيره قبل أن ترى دولتنا النور. ومع ذلك، يجب على كل شيء أن يبدأ من هنا.

في الواقع، قاعدة الحل النهائي ليست "غزة وأريحا أولاً"، "الضفة الغربية والقدس ثانيًا"، أو أي شكل دَوْلي (من دولة) آخر، ثنائي الهوية كما كان ينادي به إدوارد سعيد، ولكن "الاتحاد أولاً". إنه المفتاح. إنه من أجل الإجابة على أماني الواحد والآخر لهذين الشعبين –الفلسطيني والإسرائيلي- واللذين ارتبط مصيراهما بأرض واحدة وتاريخ واحد واقتصاد واحد، ومن أجل التلطيف من ضراوة الواحد في تمسكه بالأراضي المحتلة، وخاصة من أجل السماح لتحقيق هذا الحلم حلم الأسلاف الذي يسكن الواحد والآخر بأن يكون في "بيته" في فلسطين –كل فلسطين- الاتحاد برأيي هو أحسن الحلول وأنصفها كشكل دَوْلي. معه ستحل كل المسائل، كل الخلافات، كل المصائب، رغمًا عن الموقف الأرثوذكسي لكل الذين يشكرون الله الذي فصل إسرائيل عن باقي الأمم. وفيما يخص تسميته، لدينا بالطبع الخيار بين الاتحاد المشرقي على غرار الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة المشرقية مع أني شخصيًا أفضل التسمية الأولى. سأترك كل بلد يحكم نفسه على صدر اتحادية يسيّرها مبدأ أساسي: "الانفصال في الاتحاد". وبعبارة أخرى، أنا من أجل إنشاء سوق مشتركة، على عكس أوروبا، تَنْفَذُ في الحال إلى ميادين أخرى فوق-اقتصادية آخذًا بعين الاعتبار، وهنا كأوروبا، خصوصية كل أمة. لماذا في الحال؟ لأن المنطقة لا يمكن لها انتظار وصفات سحرية أكثر مما انتظرت، ولأن كل الوسائل ستوضع موضع التنفيذ من أجل إقامة هذا الاتحاد ذي الوجوه المتعددة. وعند الاقتضاء يمكن لدول أخرى الالتحاق بالاتحاد كالولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسا. لم يكن البحر الأبيض المتوسط عائقًا على الإطلاق، وسيكون رابطًا دومًا لبناء المجتمع الجديد. لم يكن الإسلام عدوًا وراثيًا للغرب على الإطلاق، بعض المسلمين ربما، الإسلام أبدًا. لقد أثبت ذلك الوقف الكامل للحرب في لبنان، وتصور الهيمنة السامية العليا المطلقة لأمة على أمم أخرى سيتبدل في القدرة على التحرر والفعل دون إرغام ولا ضغط أو إكراه، سنتحرر من عبء الدكتاتورية، سيمكننا إشراك المنطقة في الحداثة، سنُظهر أخيرًا أن الاتحاد بين الشرق والغرب ليس أمرًا مستحيلاً.

المظاهر المختلفة للاتحاد

طبعًا وبالتأكيد إنشاء سوق مشتركة بين إسرائيل، فلسطين، الأردن، والعربية السعودية، نعم، العربية السعودية التي جئنا كلنا منها، سوق شرقاني (صفة لاتحاد الشعوب الشرقية)، سيكون رأس الحربة لمجموعة اقتصادية موسعة تشمل بلدان أخرى من بلدان المنطقة في المستقبل. وهذه المَنْطَقَة (régionalisation) لن تبدل شيئًا من الفضاء الجغرافي. أما الفضاء الاقتصادي، فسيخضع لتشكيل كامل، وازدهار الاتحاد يكمن في تطوره، لأن من يقول مَنْطَقَة يقول تطور كل المجتمعات التي تشكل هذا الاتحاد، وهكذا سنضع حدًا لحقبة الحرب الطويلة المنحوسة من أجل بداية عهد سلام ورخاء.

وإذا وضعنا جانبًا واقع أن العربية السعودية مهدنا جميعًا، لماذا هذا الاختيار؟

على عكس تصور الحرب والتفريق لإدارة بوش، يجب على العصر الجديد البادئ بأحداث وورلد تريد سنتر أن يضع حدًا لكل عمل عسكري ولكل تقسيم. في حركة لعولمة العدالة والحق، يجب النزوع إلى تعزيز الروابط بين بلدان فقيرة وبلدان غنية، الوسيلة الوحيدة والأوحد لوضع حد للإرهاب والعنف. العربية السعودية بلد غني، وعلى أي حال، في استراتيجية ترمي إلى توحيد كل بلدان المنطقة، ستكون جزءًا من هذه البنية الاقتصادية الجديدة إن عاجلاً أم آجلاً. نقول نفس الشيء عمن ينتمون إلى "أهل الذمة"، بمعنى غير-المسلمين، والحالة هذه اليهود والآخرون المسيحيون المعترف بهم من طرف الإسلام الذي يحترمهم.

***

من الواجب القول إن الفضاء النوعي هو فضاء موات لازدهار الإنسان. سنطبق في كل دول الاتحاد قوانين الحياة الاجتماعية ذاتها، ليؤدي ذلك إلى المدرسة، الضمان الاجتماعي، الصحة، أوقات الفراغ، الأخوّة، التضامن، الحب، باختصار الحرية، سنكبح جماح الاستغلال، سندافع عن الإنتاجين الزراعي والصناعي، سننظم الرواتب. اقتسام اقتصادي عادل يتضمن سياسة اجتماعية حقة، وعن هذه الطريق فقط لن نخضع لقانون السلع الأوحد.

الثقافة:
في المادة الثقافية، الاحترام الكامل لخصوصية كل دولة سيكون مضمونًا، إلا أن دراسة العبرية كالعربية بصفتهما لغة ثانية سيجري تنفيذها، إذ يعتبر تعلم لغة "العدو" في إسرائيل والأردن وفلسطين شيئًا حسنًا. وحسب تربويينِنَا القدامى، يساعد ذلك على فهم بسيكولوجية العدو لمواجهته بشكل أفضل! من الآن فصاعدًا سيكون تعلم لغة الآخر مصدر إثراء ونفع ثقافي، سيدخل الأَدَبَان العربي والعبري في ازدهار جديد، وستَعني الثقافة تأكيد الشخصية الفردية والكونية في آن، ستكون مرادفًا للتفتح. ولن يكون هناك ما يستوجب الانتزاع الثقافي أو التأقلم الثقافي: كل القيم الثقافية ستُحترم، الهوية الثقافية ستُحفظ. التوحيد اللغوي أبدًا لن يكون على جدول الأعمال.

حقوق الإنسان، الحرية، والديمقراطية:
سيكون احترام حقوق الإنسان قاعدة كل فعل سياسي مشترك على المحفل الدولي أو بشكل منفصل داخل كل بلد. ومن ناحية أخرى، سيشجع الاتحاد معايير مشتركة مع الاحتفاظ بنظام الحقوق الوطنية. وهكذا ينهل الشكل السياسي بتنوعه قوته من المؤسسات الديمقراطية. العربية السعودية، مهدنا المشترك، ستشرع دون تأخير في القيام بعملية دَمَقْرَطَة لمؤسساتها الدَّوْلية (من دولة) الدينية والشعبية، وسيكون الأردن أقل خجلاً في مبادراته. وستتبع فلسطين مثال إسرائيل في فصل الرئاسة عن السلطة الحقيقية التي في يد رئيس الوزراء. هكذا ستصان حرية الدين، الاختيار السياسي، العمل على صدر أحزاب سياسية، التعبير، الصحافة، وكل الحريات الأخرى.

المظاهر الأخرى:
فلنقل بصراحة، في فضاء سياسي حيث الأقلمة (من إقليم) تعود إلى سيادة مقتسمة، يمكننا إضافة مصراع قانوني (عدالة لأيٍّ كان يتطلع إلى عدالة أكثر اتساعًا، إقليمية ولِمَ لا عالمية، "الإرهاب" يحتم ذلك)، وإضافة مصراع عسكري ( جيش يدافع عن نفسه في حالة عدوان خارج عن الاتحاد ويدافع عن غيره، جيش الاحتلال سيرى نفسه وقد غدا جيشًا متعدد الجنسيات وشعبيًا)، مصراع بيئوي (فعل مشترك للعيش باتفاق مع قوانين الطبيعة)، مصراع سياحي (منطقة جميلة كمنطقتنا يمكنها جذب كل سياح العالم)، مصراع إداري (جهد متزايد لإزالة البيروقراطية وتسهيل معاملات المواطنين اليومية وكذلك المعاملات بين الدول)... إلى آخره.

الخصومات والنزاعات

لنر مع إقامة الاتحاد كيف يستطيع "موسيو بروبر"، هذا الجني العبقري، الوصول إلى حل النزاعات والخصومات، وذلك باعتماده على القرارين 242 و338.

القدس:
عاصمة الاتحاد. ستبقى موحدة.
عاصمة إسرائيل (القدس الغربية) وعاصمة فلسطين (القدس الشرقية)، سيكون عليها اقتسام للسلطات والمسؤوليات في إطار البلديتين. ستصان أماكن العبادة كما كان حالها دومًا من طرف المؤمنين أنفسهم وجمعياتهم الدينية، تحت السيادة الفلسطينية في مجموع عُصَيْمَتِها (sous-capitale) وتحت السيادة الإسرائيلية في مجموع عُصَيْمَتِها. ستسهر على هذه الأمكنة شرطة بلدية مشتركة.

الخط الأخضر:
هو حدود إسرائيل عام 1967 وقد حددت نهائيًا واعترف بها، إلا أن الخط الأخضر هذا يمثل رسمًا وليس حاجزًا. كالاتحاد الأوروبي ستُفتح حدود البلدان الأعضاء للاتحاد المشرقي لتَحَرُّك جماهيرها. ستُحبى غزة والضفة، وبمصطلحات أخرى، دولة فلسطين في حدودها التي حُددت نهائيًا واعترف بها اتصالاً أرضيًا ضمنيًا. لن يكون هناك ممر تحت السيادة الإسرائيلية للربط بين غزة والضفة، لن يكون هناك حق نظر إسرائيلي على تحركات المتاع والناس في نقط العبور، لن تكون هناك محطات إنذار أو قواعد مراقبة. فقط نقاط استدلال مشتركة يمكن إنشاؤها، لأن كل الاتحاد على امتداده سيكون مفتوحًا للكل. إسرائيل مع فلسطين، مع الأردن، مع العربية السعودية، ومع كل الأعضاء الآخرين في المستقبل، والعكس بالعكس. سيضع الاتحاد حدًا لعزل هذا أو ذاك من بلدانه، والتجاور بين هذا أو ذاك لا يمثل خطرًا.

ضرورات الأمن:
لإسرائيل كما هو الأمر لفلسطين ولكل الدول أعضاء الاتحاد قوة الدفاع الإسرائيلية ستمثل قوة مضافة لقوتها وضمانًا للإسرائيليين وللفلسطينيين وللدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد. ومع ذلك، كيف يمكن ضمان أمن إسرائيل والاتحاد نهائيًا، خاصة في حالة ما إذا كان الاتحاد سيضم في حضنه دولة أخرى إقليمية أو من خارج الإقليم، الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً أو فرنسا أو أية قوة عظمى أخرى غربية؟ ليست هذه البلدان مضطرة للانضمام إلى الاتحاد وإنما إلى فضاء معين من فضاءاته المتعددة. باتحادها مع جيش الاتحاد، سيكون هذا أحسن ضمان للأمن، لإسرائيل وللدول الأخرى الاتحادية. وبعيدًا عن كونها معاهدة ثنائية بسيطة، ستكرس الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ودول كل الغرب نفسها قلبًا وقالبًا للاتحاد. إذن لا قوة متعددة الجنسيات أو غيرها، ولكن قوة داخلية مندمجة تمامًا.

حق العودة:
ستتم عودة رمزية إلى إسرائيل، وهذا يتعلق بالفلسطينيين الذين سيصبحون مواطنين تحت علم نجمة داود، وسيأخذ باقي السكان الفلسطينيين المهاجرين خلال حرب 48 تعويضًا ماديًا جيدًا جدًا يساعدهم على تغيير حياتهم إلى أفضل هناك حيث يقيمون. الأمر نفسه فيما يخص السكان اليهود الذين تركوا البلدان العربية، إلا أن، وعلى غرار الاتحاد الأوروبي، سكان كل دولة عضو في الاتحاد المشرقي أحرار في اختيار أين يعملون وأين يعيشون حتى في إسرائيل. هناك أمريكان وفرنسيون وطليان وبولونيون... يعملون ويعيشون في إسرائيل من غير أن يمس وجودهم السمات الخصوصية لهذه الدولة لا من بعيد ولا من قريب، وهكذا سيكون حال الفلسطينيين. لصيانة الأنظمة التشريعية والسمات الخصوصية الدينية أو العرقية لكل دولة، وأولى الدول إسرائيل، هؤلاء السكان أنفسهم (أولادهم، أولاد أولادهم وكل الأجيال التالية) لن يُحْبَوْا حق المواطنة (صفة المواطن) والحقوق المدنية الأخرى إلا في بلدهم الأصلي.
ومن ناحية ثانية، كل من اضطره الأمر إلى أخذ طريق المنفى عام 67 سيكون على يقين من إمكانية العودة إلى دولة فلسطين.

المستوطنات:
عليها أن تُدرس واحدة واحدة: التي تمثل امتدادًا أرضيًا مع المدن والقرى الفلسطينية تبقى تحت السيادة الفلسطينية وضمنيًا تحت سيادة الاتحاد حيث ستلعب إسرائيل بخصوصها دورًا أساسيًا، المستوطنات الأخرى ستهدم، وسيطبق النظام نفسه الذي لمهاجري 48 مع سكانها. المستوطنون (وكل اليهود في العالم لا يزعجني الأمر إطلاقًا) سيكون لهم الحق في العمل والاستقرار أينما يشاؤون في فلسطين وفي الامتداد الآهل بالسكان للاتحاد. ستُرفض لهم حقوق المواطنة والحقوق المدنية الأخرى. هكذا هم يشبعون ميلهم الديني ويساهمون في إنشاء الاتحاد وسعادة الإنسان دون اغتصاب لأرض أو هوية.

سيُعلن قيام الدولة الفلسطينية في نفس الوقت الذي يُعلن فيه قيام الاتحاد.

ها هو الأساسي من خطتي.
كل شيء ممكن وجاهز للحل في حضن اتحادنا المشرقي، اتحاد منذور للأمن والرخاء لكل دول المنطقة. لن يجري إنشاؤه، كسنوات الستين، لرمي اليهود في البحر أو العرب في الصحراء. الإسرائيليون كالفلسطينيين سيكونون راضين، المتطرفون كالمعتدلين، ولكن خاصة شعوب المنطقة، وحدها الضامن لسلام عادل ودائم. سيهيئ إرسال ملاحظين أمريكيين وفرنسيين تحت وصاية هيئة الأمم المتحدة، وهذا لمهمة محدودة في الزمان والمكان، الطريق نحو حياة سوية في غزة وفي الضفة، يتبع ذلك العودة إلى طاولة المفاوضات الثنائية والرباعية التي يجب أن تشارك فيها كل القوى المعارضة. دون مشاركتها، ستبقى الحالة متزعزعة، وتنظيف الأرضية مؤقتًا، ستعود الريبة إلى القلوب جدارًا بين المعسكرين حليفي المستقبل والشريكين. ولن يتم التوصل إلى حل إذا لم يكن قائمًا على الوحدة بين الشعوب، بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني أولاً، ومساواة الحقوق. الفلسطينيون ليس لهم أي حق. شعب من المتسولين ينعم بحقوق، ليس الفلسطينيون! على الضمير الوطني الإسرائيلي وكذلك الضمير الوطني الفلسطيني أن يتحملا مسؤوليتهما في هذا الاتجاه: الاتحاد.



حكاية فلسطيني عاد إلى يافا


دائمًا ما يكون الجو جميلاً في يافا، حتى في الشتاء، ويا لنا من محظوظين نحن اليافاويين! الشمس لنا طوال السنة تقريبًا، والبحر، ولا تفرغ حدائقنا من عطر زهر البرتقال. نعمة حقيقية. وقعت ابنتي سامية في غرام المدينة منذ أول يوم لعودتنا. زوجتي كذلك. لديهما نوستالجيا لباريس طبعًا، لشوارعها، لمعالمها الأثرية، لدكاكينها، ولكن يافا تعطيهم الأمن، والاطمئنان، وراحة النفس، خاصة منذ غدت سارة وأمها نورة اللتان تسكنان في الطابق الأول صديقتيهما. الصداقة في النهاية هي اختيار القلب، وقد اهتزت قلوب النساء الأربعة بسرعة. تذهب بنتا الخامسة عشرة إلى الكلية الإنجليزية معًا كل صباح، فهما في نفس الصف. وتعودان إلى البيت معًا، وأحيانًا تبقيان معًا إلى ساعة متأخرة من المساء لتنجزا واجباتهما. خاصة واجبات العبرية، لغة لا تعرفها ابنتي إطلاقًا. لحسن الحظ سارة هنا. العبرية ليست كالعربية، يا بابا، تقول لي سامية، ومع ذلك كانت تقدر على فك لغة الضاد بصعوبة. الذنب ذنبي. مهنة الصحافة تأخذ مني كل وقتي، ولا يمكنني تكريس ساعة أو ساعتين في اليوم من أجل تعليم لغتنا لابنتي. تعاتبني زوجتي: أنت يا من تتقن العربية جيدًا لا تُعلّم هذه اللغة لابنتك الوحيدة لتستطيع فيما بعد قراءة مقالاتك، الأمر جسيم الخطورة بالنسبة لي! فأفعل كل ما بإمكاني فعله كي أطبق برنامج تعليم تطبيقًا تعسفيًا، لكن ابنتي تتراخى بسرعة، فهي لا تأخذ درس "بابا" أبدًا بمحمل الجد. والغريب أني لم أفكر أبدًا في إحضار أستاذ لها. مع كل نشاطاتها، موسيقى، رقص، رياضة، سباحة... هي أيضًا لم يكن لديها وقت. هنا، في يافا، ومع أخذ بيئتها الجديدة بعين الاعتبار، عليها أولاً أن تتعلم العبرية. العربية، ستكون فيما بعد. ربما خلال إقامتها عند أخي في عمان.

حول هذا الموضوع، وعلى العكس مني، لا يريد أخي أن يسمع شيئًا عن يافا. في كل مرة يقوم بزيارتنا، يشعر بالاختناق، فيختصر إقامته. ومع ذلك، يحب أبناؤه البحر، وتشعر زوجته كما لو كانت في الجزائر. زوجته من الجزائر العاصمة، وتجد يافا أجمل من المدينة التي ولدت فيها. بالنسبة لأخي، لن يقيم فيها أبدًا. عمان دميمة بالمقارنة مع المدينة الساحلية الإسرائيلية، ولكنه يفضلها على أية مدينة أخرى في العالم هو الذي ولد في نابلس وكبر في الجزائر. يفضل عمان على نابلس حيث يشعر فيها أيضًا باختناق أكثر. بالنسبة له، عمان هي عاصمة العالم. هناك يحب العمل والعيش. هكذا هو الأمر. أما عني، فليس لأنني ولدت في يافا عدت إليها، ولكن لأن قلبي، قلوبنا أنا وزوجتي وابنتي قد اختارت، يتعلق اختيار القلب أيضًا بالمدن كالأصدقاء. ولأن لي بعض الإمكانيات التي سمحت لي بشراء هذه الشقة الصغيرة في الطابق الأرضي من هذه العمارة الصغيرة ذات الطابقين، مع حديقة تزهر فيها أشجار البرتقال طوال السنة. ولكن على الخصوص لأن عملي الصحافي يسمح بهذا. أنا مراسل لعدة صحف عربية في بيروت ودمشق والقاهرة، كما كان الحال لما كنا في باريس. وكابنتي وزوجتي لا أعرف من العبرية سوى كلمة "شالوم" إلا أن معظم الإسرائيليين الذين أعمل معم يتكلمون العربية، إذن لا مشكل هناك. كأني كنت في دمشق أو بغداد. أضف إلى ذلك، القدس، عاصمة الصحافة بمجموعها، ليست بعيدة، أصدقائي الصحافيون هم هنا دومًا عندما أحتاج إليهم.

الحق أني لا أريد الحديث عن مهنتي، ومع ذلك هذه المهنة تملأ حياتي. أريد أن أحكي أشياء بسيطة عن حياتنا الجديدة في يافا. أريد أن أتكلم عن نورة وابنتها سارة – ابنة وحيدة كابنتي سامية – أريد أن أحكي عما تفعلانه لنا عندما تدعواننا عندهما، عما تقولانه لنا. أريد الكلام عن مجنون السوق هذا، عن بائع السمك، عن الخباز، عن بائعة الخضروات والفواكه. أود الحديث عن الأماكن التي أرتادها، مقهى القرنة، مطعم الشط، البركة التي أرافق سامية إليها دون أن أسبح أبدًا بسبب خوفي من الماء. الأمر جسيم الخطورة، يا بابا: واحد وُلد في يافا ولا يعرف السباحة! ترميني ابنتي ساخرة. أريد الحديث عن هذا القارب الراسي دومًا قرب مسكننا والمسمى عنترة على اسم الفارس الجاهلي الأسود عاشق ابنة عمه عبلة. منذ كنت صغيرًا، وأنا أحلم بالصعود على قاربٍ مشابه لأمخر البحار. أود الكلام عن موشيه وموسى، الأول يهودي والثاني عربي، ولكن للاثنين الاسم نفسه، فقط النسخ الصوتي يختلف. أريد الحديث عن كل شيء ولا شيء، عن العابرين، عن متنزهي السبت، عن اللصوص كما هم موجودون في كل البلدان، عن الطيبين، عن اللئيمين، عن كبار القامة والأفعال، عن صغار القامة والأفعال، وأيضا عن كبار القامة وصغار الأفعال، وصغار القامة وكبار الأفعال، عن المتواضعين، عن البسطاء، عن المتهورين، عن الوقحين، عن الشرفاء، عن عديمي الشرف، وعن آخرين لا خصوصية لهم. أود الكلام عن أحلامي الأخرى، أحلامي التي لي، الأكثر حميمية، التي اعتدت الاحتفاظ بها لنفسي، والتي لا أقولها لأحد حتى لابنتي، ولا حتى لزوجتي. أود الحديث عن ابتسامة مدفونة في ذكرياتي، ابتسامة رأيتها ذات صباح على شفتي امرأة عند موقف الباص، ومنذ ذلك الوقت لم أرها من جديد، ومع ذلك، كنت أنتظرها، تلك السيدة ذات الابتسامة التي لا تُنسى، لم أزل أنتظرها. أريد الحديث عن أمي، العجوز أمي، التي تتلفن لي غالبًا، وفي كل مرة تبكي، لأنها تتلفن لي في يافا، المدينة التي ولدت فيها، والتي ولدتني فيها، ولأنها لا تجرؤ على وضع القدم فيها لخوفها الموت من الفرح. أريد الحديث عن كل هذا، ولكني لا أعرف من أين أبدأ.


قالت لي سارة أول مرة دعينا فيها عند نورة أنا وزوجتي وابنتي، وهي تشير إلى صورة بالأسود والأبيض تمزقت حوافها لكثرة ما لُمست وحُملت ودُللت: هذا ساري. ضحكت أمها، وقالت إنها منذ كانت صغيرة لم تكن ابنتها تقول أبدًا بابا وإنما ساري، كانت تدعو أباها ساري. هذه إذن صورة أبيك، قلت لها. قل ساري، ألحت البنت، هو الآن في الجنة. مات أبوك في الحرب؟ هزت سارة رأسها. أنا آسف، همهمت. بدلت نورة الموضوع. سألتنا إذا كنا نحب الأكل الكاشير. كنا نأكل من كل الأطباق في باريس، قلت لها، كنا نحب كل شيء، الأكل الصيني، الهندي، الإيطالي، اليوناني، اللبناني، البرتغالي، البولوني... وأطباق يهودية، يهودية، ألحت نورة، هل سبق لكم وأكلتم؟ لم أكن أريد مضايقة نورة، كنت أريد الكذب عليها، كنت على وشك القول نعم، سبق لنا وأكلنا، لكن زوجتي سبقتني إلى الكلام، وقالت لا، أبدًا. إذن ستأكلون أطباقًا يهودية لأول مرة، وستقولون لي إذا أعجبكم هذا. سمعتُ سارة تقول لسامية، أبوك يشبه ساري، ألا تجدين ذلك؟ أبدًا على الإطلاق، أجابت ابنتي. يشبه ساري بابا سامية، يا ماما، أليس كذلك؟ سألت سارة أمها. دعيني أرى... قليلاً، إذا أردتِ، أجابت نورة. وابنتي: أبدًا على الإطلاق، أبدًا على الإطلاق. توجهت زوجتي بالحديث إليّ: أجد الحق مع سارة، أنت تشبه ساري كثيرًا. أرأيتِ؟ صاحت سارة منتصرة. وسامية: أبدًا على الإطلاق، أبدًا على الإطلاق. اتركي ساري في حاله هناك حيث هو، هلا أردتِ، قالت نورة لابنتها. تركته، تركته، ولكن اعترفي أن الحق معي، بابا سامية يشبه ساري، أعادت سارة. نعم، قلت لك، قليلاً، أعادت نورة مع بعض النرفزة. عند ذلك، نظرت سارة إليّ بمحبة. نظرت إليها بحنو، وابتسمت لها. ابتسمت لي. بدا على سامية الضيق. ابتسمت لسامية أيضًا. انتظرت أن تبتسم لي، أن لا تخيب أمل صديقتها، أن تضع نفسها مكانها، وتجد في ساري بعض الشبه بي. فَهِمَتْ في النهاية، وابتسمت لي ابتسامة كبيرة.

في مقهى الفولغا القريب من بيتنا، أصبح النادل يوري يحفظ عاداتي عن ظهر قلب. إذا مررت في الصباح حوالي العاشرة لأكتب مقالي على رصيف المقهى، أحضر لي قهوة دوبل دون أن أطلبها منه. كان يكفيه أن يراني قادمًا من بعيد. ابتداء من الثانية بعد الظهر، كان يحضر لي قهوة دون كافيين، كان يعرف أنني لا أشرب قهوة بكافيين بعد تلك الساعة خوفًا من ألا أنام في الليل. وعندما كان يحلو له ذلك، كان يقدم لي قطعة شوكولاطة سوداء. كان يبتسم لي، ويتكلم لي عن نفسه بضمير الغائب عندما لا يكون مشغولاً كثيرًا. يوري يفضل الفودكا على القهوة، إنها قهوته، قال لي في إحدى المرات. ليعمل جيدًا، يوري يشرب كثيرًا من الفودكا، مثلك، يا سيدي الصحافي، مع القهوة. لا يمكنك كتابة مقالاتك دون هذا. يوري أيضًا لا يمكنه الاعتناء بالزبائن دون هذا. سألته إذا كان لا يسكر. يوري لا يسكر أبدًا، قال لي. ابتسم لي. في عروق يوري هناك نهر من الفودكا كبير بقدر نهر الفولغا، لكن يوري لا يسكر أبدًا. هل تريد أن أحضر لك كأسًا، ستكون دورتي؟ لا، شكرًا يا يوري، أنت لطيف جدًا، قلت له. أنا لا أحتمل الكحول، الكحول يقطع لي الإلهام، وفوق هذا يسبب لي الدوار. الفودكا إلهام يوري، عدة كؤوس، كثير من الكؤوس يوميًا، قال يوري. وإلا ما أمكن يوري الاعتناء بالزبائن. سيعود يوري، قال فجأة. تركني إلى زبون ناداه. عرفت فيما بعد أن يوري يتكلم عن نفسه بضمير الغائب لأنه لا يعرف التكلم غير ذلك بالإنجليزية.

في أحد الأيام، بينما كنت أكتب على طاولة في زاوية من زوايا رصيف المقهى، جاء يوري مع مخلوقة شقراء جميلة جدًا، وقال لي هذه دوشكا، خطيبة يوري. يود يوري أن يقدم لك صديقته لأنه كلمها عنك، قال لي. اعتذرت دوشكا للإزعاج بإنجليزية ممتازة، وهي تأخذ مكانًا قربي. كلمتني عن القاهرة، وقالت لي إنها تعرف جيدًا العاصمة المصرية، ثم سألتني إن كان لي أصدقاء في دمشق. قلت لها كصحافي لي أصدقاء في كل العواصم العربية، فقالت لي إنها ستزور مدينة الحرير، وإنها تريدني أن أوصي عليها أصدقائي. أحضر يوري كأس فودكا لصديقته وقهوة دوبل لي. قلت له إن هذه القهوة الدوبل الثانية كثيرة عليّ، لكنه أجابني أنها دورة دوشكا. وبالطبع، لبيت مطلب الشقراء الجميلة. جرعت كأسها دفعة واحدة، وكشفت لي أنها ستسافر وحدها، فيوري لا يستطيع ترك معلم الفولغا، وبشيء من الضغينة في صوتها، اعترفت لي أن النادل هنا يفضل عمله على خطيبته منذ أن توقفت الحرب نهائيًا. أحضر يوري لدوشكا كأس فودكا أخرى، ولي كأس عصير برتقال. إنها دورة يوري، قال هذا الأخير. وذهب، وهو يبتسم كالطفل، إلى زبون وصل. وأنا أرى دوشكا تجرع كأس الفودكا الثانية دفعة واحدة، قلت لها في دمشق لن تكون هناك فودكا، لن يكون هناك كحول، وإلا نظر إليها الناس نظرة أخرى، فابتسمت لي دوشكا ابتسامة كبيرة، وقالت إنها لن تشرب سوى الماء في دمشق، وإنها لن تخيب أملي عند أصدقائي.

يوم الجمعة، في السوق، سعد المجنون هو من يحمل لنا، لي ولزوجتي، السلة. يأكل حبة فاكهة من السلة أو حبة خضار، ولا ينقطع عن الابتسام لنا ببلاهة. يقفز فجأة ليهدد حمالاً آخر أو يركض وراء صبي يمد له لسانه فقط لأجل استفزازه. ولكن تعال، يا سعد، إلى أين أنت ذاهب؟ تصيح به زوجتي. هل رأيتِ ما فعله لي؟ يجيب بكلماته المقطعة. أنا يهودي، مثلكم، مثلهم، مثل كل الإسرائيليين. لي حق الاحترام. طيب، احمل جيدًا السلة ولا توقعها، تنصحه زوجتي. ومن وراء بسطة السمك: هيه، سعد، لم تذهب إلى الكنيس اليوم من أجل الصلاة، يناكده مئير، السماك. لأجل إسعادك سأذهب إلى الجامع، مبسوط، يا بائع الحيتان؟ يجيب سعد. إلى الجامع أم إلى الكنيسة؟ يناكده مرة أخرى مئير. إلى الجامع، وسأطلب من إله الإسلام أن يجعل... يصيح سعد. حوتًا يبلعني؟ يسأل مئير، السماك. قرشًا يبلعك! يجيب سعد المجنون. أنا أخيف القروش، ألا ترى كرشي؟ يضحك مئير السماك. إذن سمكًا أحمر، يرمي سعد بسذاجة. السمك الأحمر لا يؤذي أحدًا، السمك الأحمر يعمل وجبة شهية للسيد الصحافي، يختم مئير. يغمزني، وهو يمد لي كيلو سلطان إبراهيم، هذا السمك بطعمه الملوكي لبحر يافا. إذن سمكًا أسود، يعود سعد إلى القول. يقهقه مئير السماك. سمك أسود، لا يوجد سمك أسود، يقول. إذن سمكًا أصفر، يرمي سعد دون أن يعني ما يقول. ومن جديد، يقهقه مئير السماك. لا يُغلب، سعد المجنون هذا، يقول لي، وهو يعيد لي الصرف. ثم لامرأتي: احتراماتي، سيدتي الصحافية. طعام ممتاز ونهار ممتاز! يتركنا سعد، ويعود ليعمل الصف عند بائعة الفواكه والخضار، يكمش عشرة عروق فاصولياء خضراء، ويأخذ في مضغها. كف عن مضغ الفواكه والخضار، تقول له زوجتي. تضحك البائعة الطيبة التي من الجليل حتى تدمع عيناها، ثم تهمس بالعربية في أذن زوجتي: إنه من عندنا، ولكنه لا يريد أبدًا العودة إلى بيته. يفضل التسكع هنا. إنه من عند... تتردد زوجتي. والأخرى: من عندنا، من عندنا، من الجليل. أعرف للمرة الأولى أن سعد من الجليل. إنه من الجليل، من عندنا. أبوه من نبلاء البلد، ولكن هو، يفضل التسكع هنا. إنه مجنون.

ما أن يرانا صموئيل الفران نرتقي درجات محله حتى ينادي راشيل زوجته. راشيل، الخبز الفرنسي للسيد الصحافي وزوجته، يقول وهو يرفع الستار الفاصل بين قسم الفرن وباقي الدكان. ثم لنا، صباح الخير سيدي الصحافي، صباح الخير سيدتي الصحافية، خبزكم في الطريق. تصل راشيل بجسمها الضخم ووجهها المدور، وهي تبتسم كلها، وفي يدها عصاتان من الخبز الفرنسي. ها هي العصاتان كما تريدان وترغبان، تقول لنا. تأخذهما زوجتي، وهي تشكرها. أذهب لأدفع، لكن ككل مرة صموئيل لا يريد أن يأخذ شيكلاتي. ألح ألف مرة ليأخذ ثمن خبزي. خلال ذلك، تلف راشيل قطعة حلوى. هذه للصغيرة، تقول وهي تبتسم أكثر فأكثر. أريد دفع قطعة الحلوى، لكن راشيل تأخذ بالصياح: مقدمة للصغيرة من طرف الدكان. نشكرها أنا وزوجتي. ونحن على وشك المغادرة، يرمي صموئيل من ورائنا: وغدًا، الشيء ذاته؟ نعم، الشيء ذاته، تجيب زوجتي. إلى الغد إذن، يقول صموئيل وراشيل بصوت واحد. إلى الغد.

لا تريد امرأتي أن يحمل سعد المجنون العصاتين، لكنه يلح على حملهما. يبدأ بالتسييف بهما كما لو كان يحمل سيفًا. يصرخ، خبز فرنسي، خبز فرنسي! ينظر إليه الناس ويبتسمون. توقف قليلاً، يا سعد المجنون، تقول له زوجتي. وهو، يصرخ دومًا، خبز فرنسي، خبز فرنسي! يستمر حتى شارعنا، خبز فرنسي، خبز فرنسي! إلى أن يجعلنا انفجار ضخم نقفز من الخوف فجأة. صاروخ تم إطلاقه على مقطورة مدرعة لنقل النقود كانت تقف أمام أحد الفروع البنكية. مات ناقلو النقود في الحال، ودخل رجال مقنعون في المقطورة التي انشقت اثنتين، وحملوا أكياس مليئة بالأوراق النقدية، ثم هربوا في سيارتين بأقصى سرعة. لم يعد سعد مجنون كل يوم، قال لنا إنهم ضباط قدامى في الجيش الإسرائيلي. بعد انتهاء الحرب، وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل، فأصبحوا قطاع طرق. ولم ينطق بكلمة واحدة بعد ذلك حتى شقتنا. أعطيته بعض الشيكلات، وصرفته.

قبل مواصلة استكشاف حيي، أريد أن أحكي قصة موشيه وموسى. نشرتها في جريدة بيروتية، ولكن وقائعها لا تغادر أفكاري.

في الواقع، موسى فلسطيني من الأراضي المحتلة، هذه هي التسمية التي كانت قبل قيام الدولة الفلسطينية والاتحاد المشرقي. قروي من الخط الأخضر. أما موشيه، فهو مستوطن. في الخط الأخضر هناك عدد من المستوطنات التي بناها سكان القرى المجاورة من أجل عيشهم. وبالطبع، غصبًا عنهم. وأحيانًا على حساب القرى العربية التي هدم نصفها أو تم محوها تمامًا. لأن الأطفال عليهم أن يأكلوا، ولا أحد في العالم يقلق من أجل القرويين الصغار هؤلاء. إلا أن، بعد قيام الدولة، ذهب موسى يطرق باب موشيه ليقول له إن البيت الذي يسكن فيه هو من بناه. وعلى العكس، بيته، بيت موسى، قد هدمته الجرافات.

وضع موشيه كتابه المقدس، ورجا موسى الدخول. طلب من زوجته روبيكا أن تعد الشاي، شايهم بالنعنع، بما أن موشيه يهودي أصله مغربي. تكلم مع زائره بالعربية الفصحى، عندما اعترف موسى أن لمن الصعوبة لديه فهم الدارجة المغربية تمام الفهم. وعندما علم موشيه أن اسم من دعاه إلى منزله موسى، رفع يديه إلى السماء، وشكر الله على تلك الصدفة. لم تفهم روبيكا شيئًا، وطفلها على ركبتيها، فشرح لها زوجها أن لهما واجبات ومسئوليات الواحد تجاه الآخر بسبب اسمهما المشترك. وفي وقت السلم، يوصي الله بالجار خيرًا خاصة أنه لم يعد عدو الأمس. بنيتَ بيتي، إذن سأبني بيتك، قال موشيه الطيب. وابتداء من الغد، شمر عن ساعديه ليعين موسى.

في مطعم الشاطئ نجمة دافيد، لا يجري تقديم سوى أطباق شرقية. كنا ندعو هناك نورة وابنتها سارة عندما تكون زوجتي تعبة وتريد مشاركة صديقتيها وجارتيها الطعام. دافيد، صاحب المطعم، يهودي أصله مصري، أناديه داوود، وأحكي معه بالمصرية، وهو على أي حال يرفض أن أكلمه بالإنجليزية. حتى عندما يقبل – لأن نورة وسارة اللتين أصلهما إسباني لا تفهمان العربية – وأكلمه بالإنجليزية يجيبني بالعربية. يقدم لنا دجاجًا محمرًا بالبصل مع مائة طبق مقبلات، أنا لا أغالي. هذه الأطباق اللذيذة التي نتناولها في الوقت الذي نتناول فيه الطبق الرئيسي، في جو فرعوني وتحت سطوة الأغاني المصرية. فجأة يجتاح صوت أم كلثوم الماسي القاعة، ويقترب داوود مني، وهو في غاية السعادة، ويقول لي بابتسامة كبيرة جدًا إن كل هذا لأجلي. أشكره، ولكن أمام تغضن جبين البنتين، أطلب منه أن يوطئ الصوت، فلا يوطئه. تقول زوجتي لسامية وسارة لو كان هذا روك أو راب لرفعتا الصوت إلى أعلى ما يكون ولأمضيتا الليل مرحتين أقوى ما يكون المرح. تضحك البنتان. تجد نورة صوت أم كلثوم رائعًا حتى وإن لم تفهم الكلمات. يقدم لنا داوود على حسابه طبقًا كبيرًا من الكباب، وهو يلح قائلاً: على الطريقة المصرية، كما هو الحال في الماضي الرغيد. ومع ذلك لم يكن داوود كبير السن إلى هذه الدرجة. وفي كل مرة: تريدون شيئًا آخر؟ تريدون شيئًا آخر؟ بعد العشاء، نتنزه قليلاً على طول الشاطئ، ألقي نظرة على القارب عنترة الراسي دومًا هناك. أذهب قليلاً مع أحلامي: أن آخذه ذات يوم، وأمخر البحار.

في أحد الأيام، فاجأتني أمي. سأكون غدًا في مطار تل أبيب، قالت لي على الهاتف. كنا كلنا هناك بانتظار وصولها، أنا، وزوجتي، وابنتي. كنا خائفين عليها بعد غياب نصف قرن، كنا خائفين عليها أن تموت من الفرح كما لا تتوقف عن ترداد ذلك كلما تلفنت لنا. عددنا الساعات والدقائق. فكرنا في كل ما يمكنه عبور روحنا، تخيلنا شخصًا لم ير بلده منذ عقود. متى تضع القدم على الأرض التي ولدت فيها، عندما تنظر من حولها وترى أن كل شيء قد تغير، عندما تذهب إلى البحث عن المكان الذي كانت تسكن فيه، عندما تنظر إلى البحر وتجد أن السفن تبحر دومًا، عدا عنترة. وعندما، وعندما، وعندما... حطت طائرتها أخيرًا. أخذ قلبي يدق بعنف. تركتنا زوجتي، أنا وسامية، وذهبت إلى باب وصول المسافرين، بهيئة زائغة. لم نكن سعداء لرؤية أمي، كان الحزن يعصر قلوبنا. لماذا تفعل فينا هذا؟ لماذا عادت؟ لماذا لم تعد تخاف الموت من الفرح؟ كنا حزانى. رأيتها من بعيد، رفعت يدًا مترددة، وحاولت أن ابتسم لها، ولكني لم أستطع. اختبأت ابنتي من ورائي. اختفت زوجتي. لدهشتي كانت أمي تقطب حاجبيها، لم تكن حزينة، ولم تكن سعيدة، كانت لها هيئة شخص يخرج من قبر، الموت عنه بعيد، ولكن دون إظهار أقل إشارة فرح لعودته إلى الحياة. كان لأمي وجه كامد، وجه ميت.

ماما!

لم تقبلني. لم تسألني لماذا تختبئ سامية من ورائي. لم تسألني أين زوجتي. ومع ذلك قلت لها إن زوجتي في مكان ما هناك، إنها ذهبت لاستقبالها. توجهنا إلى سيارتي التي لا آخذها إلا لماما، ووجدنا زوجتي جالسة على المقعد الأمامي، وهي تبكي. لأني هنا تبكين؟ سألتها أمي بجفاف. لا، أؤكد لك، همهمت زوجتي. في الطريق، على رؤية يافا من بعيد، انفجرنا كلنا نحن الأربعة باكين. سقطت سامية بين ذراعي جدتها، وبكت، بكت كطفلة ذات خمس سنين، وبكت. صرخت "مامي"، وبكت. أوقفتُ السيارة، وعيناي مغرورقتان بالدموع، وبكيت كطفل، أنا أيضًا. انتحبنا نحن الأربعة، أمي التي سيكون عمرها ثمانين سنة ونحن الباقين، كالأطفال. استمر ذلك وقتًا طويلاً. ثم توقفنا كلنا عن البكاء دفعة واحدة. مسحت سامية دموعها، وأطلقت بعض الضحكات، أحلى الضحكات. ثم صمتت. عدت إلى قيادة السيارة من أجل الذهاب مباشرة إلى بيتنا. كانت نورة وسارة هناك بانتظار أمي. أشارت إليهما زوجتي من بعيد، ففهمتا، وبقيتا جامدتين كالتماثيل. حيتهما أمي، وهي تمر أمامهما، ولكنهما، هما، لم تردا عليها. سارعت سامية وسارة إلى الانعزال لتحكيا لبعضهما أشياء عن وصول أمي، عنا، ولماذا كل هذا الجو المفجع. أما نورة، فقد بقيت جامدة كالتماثيل. ثم رفعت رأسها، ونظرت إلى قمم الشجر.

خلال إقامتها في يافا، لم تبد أمي أي فرح، حتى أنها لم تطلب الذهاب إلى اكتشاف بيتها القديم. كانت تنظر إلينا، وتنظر إلى الناس. في البداية، رافقناها إلى الشاطئ، ثم أصبحت تعرف كيف تذهب وحدها. السبت، كنا نتنزه مع نورة وسارة في شارع اسكندر عوض القديم، وطبعًا لم يعد هناك أي أثر لهذا الشارع الماضي. ومع ذلك، كانت لأمي هيئة أقل حزنًا عندما تسير على رصيفه. كانت تكلمها نورة بالإنجليزية، وتترجم لها من العبرية، حتى عندما يصيح عابر بآخر. هذا بحار سئم الإبحار، أو هذه عاهرة تشكو قلة الزبائن في زمن السلم، شيء مفارق، ولكن لا تفسير له. إسرائيل بلد المفارقات، أسرّت نورة لأمي. تَقاتَلَ شخص مع شخص آخر، وراحا يشتمان بعضهما. عربي ويهودي؟ سألت أمي نورة. لا، يهودي ويهودي، أجابت سارة. نحن بلد المفارقات ولكننا أناس طبيعيون... إلى حد ما، تضيف نورة. ولكن أتسمعين ما يقولان لبعضهما؟ أنا لا أفهم العبرية، رمت أمي بابتسامة تعبة وحزينة. أعرف، أعرف، سارعت نورة إلى القول. على بعد وجيز، كان هناك شخصان آخران يتقاتلان ويتشاتمان هما أيضًا. أريد فقط أن أقول لك، عادت نورة إلى القول، أترين هذين الشخصين هناك اللذين يتقاتلان؟ الواحد عربي والثاني يهودي، وهذا الأخير غطى الأول بالشتائم، بكل الشتائم العنصرية التي في العالم. أنتم إذن، رمت أمي من جديد، لستم فقط طبيعيين بل أكثر من طبيعيين. نادتني أمي، ولكني لم أجبها. وقعت على تلك الابتسامة التي كنت أبحث عنها والتي كانت تسكنني. نفس السيدة الماضية، نفس الابتسامة التي ألقت بها قبل الصعود في الباص والاختفاء.

في وسط الليل، بدأت سامية بالصراخ من ألم في بطنها. جربنا كل شيء لتخفيف الألم عنها، العشب المغلي، القربة، الحبوب التي تحتفظ بها زوجتي احتفاظها بالأحجار الكريمة "في حالة ما". لكن شيئًا لم ينفع. صعدت زوجتي تطرق الباب على نورة. سامية يوجعها بطنها وجعًا رهيبًا، قالت لها. نهضت سارة أيضًا، وأرادت مصاحبة أمها. لا، عودي إلى السرير، غدًا عندك كلية، وعليك النوم، قالت لها أمها. أحضرت بعض أكياس "ديبريدا" لإذابتها في كأس ماء. لكن شيئًا لم ينفع. اقترحت نورة أخذها إلى المستشفى العسكري غير البعيد، وستقوم بدور المترجمة. لا تزعجي نفسك، قالت لها زوجتي، سيكون حتمًا هناك أحد يتكلم الإنجليزية أو الفرنسية. لكن نورة أصرت على المجيء.

في المستشفى العسكري، كانت الحياة في أوجها ليلاً نهارًا. أخذ فريق من الأطباء والممرضات على عاتقه معالجة ابنتي فورًا. تركت زوجتي ونورة ترافقان سامية، وذهبت أجلس في قاعة الانتظار. كانت لي رغبة في النوم، فأغمضت عينيّ، ولكني لم أتمكن من ذلك. وقفت، وعلى غير عادتي، وضعت قطعة نقدية في موزع الشراب الساخن، وأخذت قهوة سوداء. قطعت الممر الطويل، وأنا أرشف قهوتي، عندما بدأ من ناحيتيّ معاقو حرب من كل الأشكال يخرجون من الحجرات. من قطعت ذراعه أو ساقه، من على عينه ضماد أو حول رأسه رباط، من أسنانه مقتلعة، أنفه مجدوع، شفتاه مقطّعتان، أظافره مقتلعة. هناك الشقر، والسمر، والسود. من يتكلم العبرية، من يتكلم العربية، من يتكلم الفرنسية، ومن يتكلم الروسية، ومن يتكلم الإنجليزية أو الإسبانية أو الهنغارية أو البولونية. كانوا يتكلمون كلهم في وقت واحد، ويبدون سعيدين. كانوا يضحكون، ويضربون في أيدي بعضهم البعض، وعلى الكتف. كانوا يتنادون. كانوا يشيرون إلى بعضهم البعض، ويتجهون كلهم إلى قاعة كبيرة، ويختفون. نظرت إلى ساعتي، كانت الثالثة صباحًا، ولم أكن أحلم. عدت إلى قاعة الانتظار، وقليلاً فيما بعد، رأيت ابنتي تتقدم بين أمها ونورة، وعلى شفتيها ابتسامة ساحرة. سارعت إليها، وأخذتها بين ذراعيّ. لا شيء لديكِ؟ واصلت الابتسام. لا، لا شيء لديها، قالت نورة. غسل لها الطبيب معدتها، أوضحت زوجتي، لم يعد لديها شيء.

عند عودتنا إلى البيت، وجدنا أمي وسارة جالستين بانتظارنا على عتبة باب البناية الخارجي. كانت أمي تحتضن الصغيرة بين ذراعيها، وهي تغطيها جيدًا، والصغيرة تنام على صدرها. قالت نورة وزوجتي لهما إن الطبيب أجرى غسيلاً لمعدة سامية، وإنه لم يعد لديها شيء. قلت للجميع لم تعد لديّ رغبة في النوم، وأنا ذاهب لأعمل دورة على الشاطئ. نَظَرَتْ أمي إليّ، قلقة. طمأنتها، وأنا أبتسم لها، وهربت من نظرتها.

كان الشاطئ خاليًا من كل قدم، والبحر ممتدًا إلى ما لا نهاية، أسود وفضيًا، وكانت الأمواج تكلم الأمواج. تقدمت من عنترة، الموجود دومًا هناك، الراسي دومًا، المهجور دومًا، عندما خرج من قعره فجأة رجل أسود عاري الصدر جميل كإله. حدثني بلغة أجهلها، ولكني فهمت من حركاته: إذا ما كنت أرغب في القيام بنزهة في القارب معه. قلت لنفسي للقارب إذن صاحب، وهو يمخر البحر كل ليلة في مثل هذه الساعة. أشرت إليه بنعم، فساعدني العملاق الأسود على الصعود. وبعد لحظات، اخترقت حلم طفولتي، أنا الرجل الذي كنت، بعد سنوات طويلة من الانتظار والعذاب.


باريس 2004



* د. أفنان القاسم: خطتي للسلام، الاتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، دار لارماطان، باريس 2004، ترجمة د. بريجيت بوردو / الكيبيك.




أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004



[email protected]



في مكان ما من العالم، هناك بقعة بأكملها منذ عشرات السنين مسرحٌ لفاجعة، فيما وراء الآلام، تطرح هذه البقعة للمناقشة القيم الجوهرية للإنسانية وبالقدر نفسه مستقبل كل مجتمع البشر. تتواصل هذه الفاجعة اليوم كموضوع لمساومات سياسية لا نهاية لها، وتبدو الرهانات حولها بعيدة عن الآمال والمطامح الحقيقية لمن هم بيادقها. وبوصفه روائيًا قادمًا من هذه البقعة التي يدللها، كتب أفنان القاسم مؤلفات عديدة، بحنو دائمًا، بغضب غالبًا، عن أولئك الناس، ناسه، الذين يمكنهم أن يكونوا ضحايا أو جلادين، ليجعلنا نعرفهم، وليقول لنا ما يعيشون. لكنه اليوم يبتعد أكثر: متجاوزًا القول الروائي، يقوم اليوم في هذه الدراسة بربط المشاعر بالأفكار كي يدعونا إلى تأمل من زاوية إنسانية محضة ما يبدو للرأي العام كمسألة سياسية فقط. وبشجاعة، يعارض الخطاب الرسمي بشرح نقطة نقطة ما يبدو له جوابًا همه العدالة والاحترام واللياقة في وجه الألم الإنساني.



* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثالث
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثاني
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الأول
- أنفاس الديوان الثالث
- أنفاس الديوان الثاني
- أنفاس الديوان الأول
- أربعون يومًا بانتظار الرئيس
- أفنان القاسم يجيب على أسئلة -سيدتي-
- كتب وأسفار
- الذئاب والزيتون
- أم الجميع ابنة روما
- أم الجميع سقوط جوبتر
- أم الجميع مأساة الثريا
- الاغتراب
- الكناري
- الشوارع
- إسكندر الجفناوي
- مدام حرب
- النقيض


المزيد.....




- في وضح النهار.. فتيات في نيويورك يشاركن قصصًا عن تعرضهن للضر ...
- برج مائل آخر في إيطاليا.. شاهد كيف سيتم إنقاذه
- شاهد ما حدث لمراهق مسلح قاد الشرطة في مطاردة خطيرة بحي سكني ...
- -نأكل مما رفضت الحيوانات أكله-.. شاهد المعاناة التي يعيشها ف ...
- -حزب الله- ينعي 6 من مقاتليه
- صفحات ومواقع إعلامية تنشر صورا وفيديوهات للغارات الإسرائيلية ...
- احتجاجات يومية دون توقف في الأردن منذ بدء الحرب في غزة
- سوريا تتهم إسرائيل بشن غارات على حلب أسفرت عن سقوط عشرات الق ...
- -حزب الله- ينعي 6 من مقاتليه
- الجيش السوري يعلن التصدي لهجوم متزامن من اسرائيل و-النصرة-


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أفنان القاسم - خطتي للسلام الاتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين