أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - تراجيديا النعامة















المزيد.....



تراجيديا النعامة


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3738 - 2012 / 5 / 25 - 10:17
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الأعمال الروائية (27)


د. أفنان القاسم



تراجيديا النعامة
LA TRAGEDIE DE L’AUTRUCHE




رواية


















إلى د س ك















القسم الأول

ديدييه آبل-كاين Didier Abel-Caïn صديقي، بالأحرى غدا صديقي. منذ بضع سنوات لم يكن صديقي، تعرفت عليه في السنترال بارك، ثم غدا صديقي. كان يمارس الجوغنغ مثلي من وقت إلى آخر، عندما يكون لديه بعض الوقت، هو وحارسان خاصان يركضان في ثيابهما الرياضية من ورائه، وأنا الريح. كنا نسكن في نفس الشارع، الشارع 65، هو في الناحية الغربية، وأنا في الناحية الشرقية، فالشارع 65 يقطع السنترال بارك من وسطه. كان الواحد يمر بالآخر. صباح الخير، كان الواحد يقول للآخر. صباح الخير. أو مساء الخير، كان الواحد يقول للآخر. مساء الخير. ندور دورة، ونتقابل، فنبتسم. كان يبتسم. لم يكن يبتسم لي. كان يبتسم.
ديدييه آبل-كاين الرئيس المدير العام لأهم بنك في أمريكا، البنك العالمي. ونحن معًا لم يكن يتكلم عن النقود، كان يتكلم عن كل شيء ما عدا النقود. أنا كنت أتكلم عن النقود قليلاً، فأقول الأرباح التي حققتها هذا الشهر من بيع المطاط تجاوزت المليون دولار. كان يبتسم. لم يكن يبتسم لي. كان يبتسم. وفي المطعم غير بعيد عن طاولة حارسيه الخاصين، كان ينهمك في الأكل. كان يبتسم، لم يكن يبتسم لي، كان يبتسم، وكان ينادي النادل بعد أن ننتهي من تناول الطعام، فيدفع الفاتورة، ولا يترك البخشيش. البخشيش تمت إضافته على الحساب، لكني أُخرج من جيبي بضع دولارات أضعها في يد النادل.
كان ديدييه آبل-كاين يوقفني قرب دكان الزهور عندما أوصله إلى البيت في سيارتي، فهو يفضل الركوب معي في سيارتي على الركوب في سيارته الليموزين، وبالطبع مع متابعة حارسيه الخاصين لنا في سيارتهما، كان يوقفني قرب دكان الزهور، وبعد عدة دقائق يعود بباقة من الورود البيضاء، وهو يرسم ابتسامة واسعة على شفتيه. إنها لجين، كان يقول لي. أعرف، كنت أقول له. إنها لجين، كان يقول لي من جديد. هل تحب جين الورود البيضاء إلى هذه الدرجة؟ كنت أقول له. ليس جين، كان يقول لي، أنا. دومًا ما أحببت الورود البيضاء.
عن طريق ديدييه آبل-كاين تعرفت على "العظماء". في نيويورك ندعوهم بالعظماء، كل أولئك الرأسماليين الذين لا تقدر ثرواتهم، كل أولئك الملوك الحقيقيين لأمريكا والعالم. تعرفت على العظماء. في نادي جورج واشنطن كانوا كلهم هناك، يتناقشون في كل شيء ما عدا النقود. وكسائر البشر، كانوا ينكّتون على بعضهم، وكانوا كسائر البشر يضحكون. لكنهم كانوا يحتسون أجود أنواع الكحول لا كسائر البشر، ويأكلون أطيب أنواع المشهيات لا كسائر البشر. وفي نادي جورج واشنطن، رأيت كيف يُعامل الرؤساء القدامى للولايات المتحدة دون أية أهمية، وكيف يوضع الوزراء، القدامى والجدد، على الباب، لسبب أو لآخر. كانت الثروة في نادي جورج واشنطن شيئًا آخر، والمجد شيئًا آخر، والارتقاء المجتمعي ليست من ورائه الجدارة.
كان ديدييه آبل-كاين العظيم يختلف عن أولئك العظماء ليس بوصفه حرًا بالفعل، حريته طوع يده، ولكن لأنه طوع حريته، طوع غرائزه، غرائزه الجنسية، خاصة غرائزه الجنسية، امرأة، رجل، أو امرأة/رجل، التنكر بجسد الجنس الآخر، رجل/امرأة، هذا لا يهم، ما يهم هو إشباع غرائزه الجنسية، ما يهم أكثر من أي شيء توظيف ذكائه في خدمتها، أن تصبح غرائزه الجنسية كل ذكائه، وكل عدم ذكائه. كان يصرف كل حراسه الخاصين على الرغم من احتجاجاتهم، ويجرني معه إلى غرينويتش فيلاج، إلى المكان الذي أكثر ما يتصرف فيه بحرية، وكأنه حياته ودنياه، والذي أكثر ما يتعامل فيه مع النساء، وكأنه في بيته، وكأن النساء طيور من نوعه. ليس لأن لا أحد يعرفه في غرينويتش فيلاج كان يصرف حراسه الخصوصيين، ولكن لأنه لا يفكر في الخطر هناك، ولأن الخطر في ظنه ليست هذه أسبابه، الحب لا يشكل خطرًا على أحد، الحب كما يفهمه، ولا يسبب الخطر لشخصه، على الأقل في عالم لا مكان لسمك القرش فيه. كان يجرني معه، وأنا أتبع من ورائه، لا أريد أن أقطع عليه تأملاته ولا رغباته سعيًا وراء ملء عالمه الفردي. عالمه الفردي، جدرانه هو، روحه كما يراها، كما يريد أن يراها، جسده كما يريد أن يعامله، أن يتعامل معه.
في أحد الأيام، طلب مني ديدييه آبل-كاين أن أقضي بصحبته يومًا كاملاً لأرى. سألته لأرى ماذا؟ أعاد لترى.
في صباح اليوم التالي، غادرت سيارتي، وذهبت إلى الليموزين المنتظرة أمام باب البناية التي يسكن فيها صديقي. كان هناك ثلاثة من الحراس الخاصين ككل الحراس الخاصين في العالم، أناقة كاملة، وفطنة أكمل تنط من كل ناحية من أجسادهم، ومن كل زاوية من حركاتهم. أول ما ظهر ديدييه آبل-كاين في بدلته السموكن، نعم، بدلة سموكن وعقدة فراشية، من أجل الذهاب إلى العمل، نزل السائق بخفة ليفتح له باب السيارة. أشار إليّ صديقي بالصعود، فأخذت مكانًا إلى جانبه. انتظرنا مجيء جين إلى أن حضرت في ثياب التنس، وهي تحمل مضربًا وحقيبة. دفعتني، وأخذت مكانًا إلى جانبي، فوجدت نفسي وسط الزوجين. انطلقت الليموزين، والحراس الخاصون يتبعون في سيارتهم.
- اليوم لن يكون لديك وقت، يا حبيبي، قالت جين.
- اليوم لن يكون لدي وقت، يا حبيبتي، قال ديدييه.
- ككل يوم، يا حبيبي.
- ككل يوم، يا حبيبتي.
- لكننا سنتغدى معًا إذا ما كان لديك وقت، يا حبيبي.
- لكننا سنتغدى معًا إذا ما كان لدي وقت، يا حبيبتي.
- ككل يوم، يا حبيبي.
- ككل يوم، يا حبيبتي.
- وإذا كان لديك بعض الوقت أنت لا تعرف متى، يا حبيبي.
- وإذا كان لدي بعض الوقت أنا لا أعرف متى، يا حبيبتي.
- ككل يوم، يا حبيبي.
- ككل يوم، يا حبيبي.
توقفت الليموزين قرب باب نادي نسر مانهاتن الذهبي، فقبّلت جين زوجها، والاثنان يكادان يلمسان وجهي بوجهيهما. اختلط عطراهما في أنفي، وغدا لهما أريج واحد، أريج يشبه إلى حد بعيد أريج الأرياش المخضبة. نزلت جين، وأحد الحراس الخاصين يذهب في أثرها، وهو ينظر كالعصفور الدوري في كل الاتجاهات.
توقفت الليموزين من جديد عند مقر البنك العالمي في ويليام ستريت غير بعيد من وول ستريت، وفي الحال لحق بالحارسين الخاصين اثنان آخران، أحاطوا بديدييه آبل-كاين إلى مصعد حالوا دون صعود أحد غيرنا، وفي الطابق السابع والعشرين، اخترقنا القاعة الكبرى، وسرنا بين مكاتب مفتوحة على بعضها لا تعد ولا تحصى، جهنم المال كلها كانت هناك، وجاء من وراء الرئيس المدير العام عشرات من الموظفين، وهم يحملون ملفاتهم. أوقفتهم السيدة ماكماهيليان، في الأربعينات، رئيسة الديوان. قدمها لي صديقي، وهي تتقدم لاستقبالنا، وعلى صدرها مفكرة المواعيد التي كانت تفتحها كلما أرادت التأكيد على موعد، دون أن أسمع ما تقول، في جهنم لا نسمع ما نقول. كانت في مكتبها أربع فتيات وقفن عند مرورنا دون أن تعيرهن السيدة ماكماهيليان أدنى اهتمام.
أعادت لديدييه آبل-كاين، ونحن في مكتبه الفخم أخيرًا وحدنا:
- إذن خلال عشر دقائق على تمام التاسعة والنصف اجتماع مجلس الإدارة...
خلع العقدة الفراشية، وذهب إلى حجرة تبديل الملابس، المفتوح بابها على مصراعيه، والسيدة ماكماهيليان تتابع، وهي تسير من ورائه:
- على تمام العاشرة اجتماع مجلس البنوك...
اختارت ربطة عنق بين ثلاث أو أربع حملتها بيدها، وأخذت تربطها له، وهو يضع يديه على إليتيها.
- على تمام العاشرة والنصف استقبال مدراء بنوك بلدان الخليج الفارسي...
انهمكت مع ربطة العنق، بينما رفع د آ ك تنورتها أمام ناظري، وراح يداعب إليتيها، والسيدة ماكماهيليان تتابع:
- على تمام الحادية عشرة استقبال شيوخ بلدان الخليج الفارسي...
وضع د آ ك يده بين إليتيها، وهو في حال من يشعر بالأمان والاطمئنان، فراحت السيدة ماكماهيليان تطلق التأوهات المتقطعة، ولما أنهت ربط ربطة العنق، انقضت على فمه، وقبلته بعنف. جذبته بين فخذيها على طاولة، لكنه أبعدها عنه بهدوء. أعادت هندمة ثيابها، وتصفيف شعرها، وتابعت، وهي تعود إلى المكتب من ورائه:
- على تمام الحادية عشرة والنصف رئيس بلدية نيويورك بانتظارك في مكتبه...
اتجه د آ ك إلى الباب، والسيدة ماكماهيليان تتابع:
- على تمام الثانية عشرة رئيسة جمعية نساء نيويورك بانتظارك في مكتبها...
وهو يمضي بمكتب السيدة ماكماهيليان، وقفت الفتيات الثلاث دون الرابعة، فقدمتهن إلى معلمها:
- الآنسة غرين، الآنسة مارتن، الآنسة ستون، أين الآنسة ستيوارت؟ تفضل باختيار واحدة من هذه الفتيات لتكون لك النوت-جيرل، المدونة، التي تبحث عنها. آنسة ستيوارت!
رفع سبابته لاختيار هذه لا هذه لا هذه، سمعنا ثجّاج بيت الماء، ورأينا الآنسة ستيوارت تخرج من التواليت. شعر أسود وبشرة بيضاء وعينان نجلاوان، فتردد د آ ك، وهو يثني سبابته، ثم صوّبها إليها، وأعطاها ظهره، فقالت لها السيدة ماكماهيليان:
- لقد وقع الاختيار عليك، يا آنسة ستيوارت. احملي دفترك، واتبعي السيد آبل-كاين.
أحاط بصديقي حراسه الخاصون وكل الموظفين الذين يسعون إلى إمضاء صغير منه، فأمضى هذه الورقة أو تلك، وابتسم لتلك الكاتبة أو تلك، والسيدة ماكماهيليان تتابع:
- على تمام الثانية عشرة والنصف افتتاح فرع للبنك العالمي في كوينز...
وصل إلى القاعة حيث يجتمع مجلس الإدارة، ودخلها، والسيدة ماكماهيليان تتابع:
- على تمام الثالثة عشرة حفل التوقيع على كتابك "لا توجد أزمة مالية عالمية إلا في الرؤوس" في مسرح تينيسي ويليامز في البرودوي...
أخذه نائبه بالأحضان، وبقي واقفًا إلى جانبه، بينما تعالى د آ ك بقامته في وجه الأعضاء الجالسين من حول الطاولة الضخمة، وأخذ يضرب بقدومه الخشبي ليحل الصمت، والسيدة ماكماهيليان تتابع:
- على تمام الثالثة عشرة والنصف الذهاب لرؤية عشيقتك رقم 13...
حط الصمت، فتابعت السيدة ماكماهيليان بصوت خافت:
- في المستشفى.
- لماذا؟ ماذا حل بها؟
- محاولة انتحار.
- من أجلي؟
- من أجل عشيق آخر تحبه.
- أرسلي لها باقة من الورود البيضاء من طرفي مع كلمة اعتذار.
- على تمام الرابعة عشرة...
توجه د آ ك إلى الحضور، فانسحبت السيدة ماكماهيليان على رؤوس أصابع رجليها، بينما جلسنا أنا والآنسة ستيوارت على مقربة منه، أنا أستمع لما يود قوله، والآنسة ستيوارت تدون ما يقول:
- يسعدني، أيها السادة، أن أبلغكم بالمليار دولار أرباح البنك العالمي كل يوم!
تصفيق صاخب وعدة صرخات "برافو!".
- كل هذا بفضلكم!
تصفيق صاخب من جديد.
- الأزمة مصطلح غير موجود في قاموس البنك العالمي!
عودة إلى التصفيق لكنه قطعه بإشارة من يده:
- الاقتصاد أزمته، إذا كانت للاقتصاد أزمة، سياسية. هناك أزمة سياسية، نعم، لهذا يغرق البلد في الديون، فيُلقى على عاتقنا مسئولية إنقاذه. أطلب من أعضاء مجلس الإدارة أن يعكفوا على دراسة أنجع الطرق ليس لإنقاذ البلد من الغرق ولكن لإنقاذه ممن هم من وراء هذا الغرق.
سُمعت صرخة هنا وصرخة هناك:
- آبل-كاين رئيسًا للولايات المتحدة!
فرفع رأسه عاليًا عاليًا عاليًا جدًا، وهو في وضع من يشعر بالثقة والسطوة، وألقى:
- أشكركم، أيها السادة، ولكني رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دون أن أكونه!
انطلقت الضحكات، فتابع:
- لكل مقام مقال، اليوم نحن هنا لإنقاذ البلد، وغدًا لانتخاب الرئيس الذي يستحق أن يكون رئيسًا للولايات المتحدة بالفعل.
عاد نائبه يأخذه بالأحضان قبل أن يغادر د آ ك القاعة، وأنا والآنسة ستيوارت معه، وسط عاصفة من التصفيق.
قادته السيدة ماكماهيليان من باب خلفي، بعد أن أشارت إلى حراسه، ليتفادى موظفيه، والسيدة ماكماهيليان تقول:
- بدلاً من عيادة عشيقتك رقم 13 في المستشفى إذن ستتغدى مع السيدة آبل-كاين على الساعة الثالثة عشرة والنصف، وعلى الساعة الرابعة عشرة...
- ابتداء من هذه الساعة إلغي كل المواعيد، فلدي ما أقوم به مع صديقي غريغوري.
- ولكن سيد آبل-كاين هناك موعد هام مع الرئيسة المديرة العامة لشركة الطيران إنديا إير لاين، سبق وأجلناه عدة مرات، وهناك عرض أزياء لاغاردير في الشارع الخامس جاء لاغاردير بنفسه خصيصًا من أجلك، وهناك افتتاح خمارة لورنس العرب للأمير الملياردير السعودي المعروف سعود بن بن بن بن بن، آه! يا إلهي، سعود، وهناك...
- لدي ما أقوم به مع صديقي غريغوري.
- وهناك افتتاح مبنى أيتام العراق...
- سأرسل لهم صكًا بنصف مليون دولار.
- نصف مليون د...!
- ليس كثيرًا؟ مليون دولار.
- أعني (وهي تكاد تدوخ)...
- مليونان.
ودفع بقدمه باب القاعة التي كان مدراء البنوك فيها بانتظاره، سلم عليهم واحدًا واحدًا، وهو يدعو كل واحد باسمه الصغير، ويضرب على كتف هذا أو ذراع ذاك. كانوا يتناولون قدحًا، فصبت السيدة ماكماهيليان لمعلمها قليل السكوتش وكثير الصودا في قدح، وتركته مع زملائه. بقينا أنا والآنسة ستيوارت واقفين من وراء د آ ك، والآنسة ستيوارت تدون ما يقوله الرئيس المدير العام للبنك العالمي:
- عمل جميل، أيها السادة! ما أنجزتموه عمل جميل، تستحقون عليه الشكر. كل ما تصنعونه في أمريكا والعالم عمل جميل، وأجمل الجميل دعمكم لليونان، هذا البلد الذي لولاكم لأعلن إفلاسه.
رفع كأسه ورأسه، وطلب منهم أن يشربوا نخب اليونان:
- نخب بلد هوميروس!
- نخب بلد هوميروس!
أضاف:
- لكن من العار أن نقرض هذا البلد بيد ونأخذ أضعاف ما نقرضه بيد عن طريق المضاربة في البورصة.
قال أحدهم:
- أوروبا ستتكفل بالأمر، يا سيد الرئيس المدير العام.
- أوروبا سيأتيها الدور، لهذا لا يكن بنا طمع أكثر. أترك للأعزاء مدراء البنوك التفكير في الأمر، إذا بقي الحال على ما هو عليه، أوروبا آتيها الدور، وأمريكا آتيها الدور، وكل كواكب البحر والسماء آتيها الدور، فحذار!
وخرج تاركًا من ورائه عاصفة من التساؤلات والاحتجاجات.
أصعدتنا السيدة ماكماهيليان، ونحن مع د ا ك، أنا والآنسة ستيوارت وحراسه الخاصون، إلى الطابق الأخير من ناطحة السحاب، الطابق التاسع والأربعين، وعشرون أو ثلاثون من مدراء بنوك بلدان الخليج الفارسي كل نيويورك تحت أقدامهم. لم يسلم صديقي عليهم، مضى بهم، مبتسمًا، والكل ينحني بين يديه كالدجاج المخصيّ. كانوا يأكلون الحلويات العربية، ويشربون الشاي الصيني. صبت السيدة ماكماهيليان لمعلمها كأس شاي، واختارت الآنسة ستيوارت لآبل-كاين بعض قطع الحلوى. كلمهم بالعربية الفصحى، وهو يشمخ بأنفه عاليًا، فترجمت لي الآنسة ستيوارت: ليعتبروا أنفسهم أنهم هنا في نيويورك، وكأنهم في بلدهم، وأن أموالهم هنا في نيويورك، وكأنها في جيبه، فلا يخشوا عليها شيئًا، وهو لن يأذن بتحويلها إلى بنوكهم في هذه الأوقات الحرجة، وهو، على كل حال، أوقات حرجة أم غيره، لم يأذن بتحويلها من قبل، وذلك حرصًا على سلامتها، وسيعمل على إقراضها بفوائد ما وسعه ذلك، فوائد لن يدرجها في حساباتهم، فهي في دينهم تقابل الربا.
صفق له مدراء بنوك بلدان الخليج الفارسي تصفيقًا صاخبًا، وطلبوا من الآنسة ستيوارت "أوتوغراف" للذكرى، وهذا ما فعلت، وهم يدورون بها كالدائر بطائر غريب في حديقة الحيوان. لهذا فضلت السيدة ماكماهيليان ألا تدخلها مع معلمها على شيوخ بلدان الخليج الفارسي. بدأ صديقي يقبلهم من أفواههم، ويحك أنفه بأنوفهم، ويكرر في أذن كل واحد منهم "نيك أمك، نيك أمك، نيك أمك..."، وهم مستلقون على الأرض بكروشهم الضخمة كالنعامات. استلقى على الأرض، وبدأ يحكي عن الأكل معهم، عن الطبيخ، وهذا بلحم الضأن أطيب، وهذا بلحم الناقة أطيب، وهذا بلحم الخنزير أط... فقحقحوا وحقحقوا، وهذا بلحم الخنزير حلال أطيب، فقهقهوا وهقهقوا، والصفيحة عندكم هي البيتزا عندنا. وعندما صفق إذا بشتى صواني البيتزا الضخمة تدخل على رؤوس شبان نيويورك الشقر، فبدأوا يأكلون، وأياديهم تذهب إلى أعناق الشبان وأفخاذهم. تركهم د آ ك في لحظة من أكثر لحظات حكمهم لذة وسعادة، وغادر المكان على متن طائرة هيلوكبتر إلى لقاء رئيس بلدية نيويورك.
استقبله رئيس بلدية نيويورك عند قدم طائرة الهليكوبتر بترحاب بالغ، على الرغم من كونه من الجمهوريين وآبل-كاين من الديمقراطيين، وذهبنا جميعًا إلى قاعة الشرف المخصصة للشخصيات الهامة وفي مقدمتها رئيس الولايات المتحدة. كان لدي انطباع بأن د آ ك يرمي إلى أن يجرب نفسه قبل أن يغدو رئيسًا بعد إجراء تحقيق في الرأي العام أعطاه سبعين بالمائة إذا ما خاض غمار معركة الانتخابات الرئاسية القادمة، وكان عمدة نيويورك يعرف ما يدور في رأس مضيفه، فدغدغ الحلم، الحلم الأمريكي لآبل-كاين، مبالغًا من مراسيمه، لأن كل طاقم البلدية كان هناك لتحيته، كل طاقم البلدية من موظفين ومنتخبين، وجوقة البلدية عزفت له النشيد الوطني. وعلى أي حال، كل هذا لم يكن دون مقابل، فقد تبرع الرئيس المدير العام للبنك العالمي بمبلغ مليون دولار، قال عنه لصندوق البلدية الاجتماعي، وهو بهذا المبلغ يريد تقديم يد العون لسكان نيويورك المحتاجين عبر بلديتها. علمًا بأن المبلغ سيتوزعه العمدة وبعض الأقوياء الآخرين. وضع رئيس بلدية نيويورك تحت تصرفنا سياراته المرسيدس المصفحة، وأخذنا طريقنا، وصفارات الإنذار تصاحبنا، إلى الموعد القادم.
كانت رئيسة جمعية نساء نيويورك في العشرينات من العمر، ومن الشقراوات الفريدات من نوعها، أدخلت ود آ ك مكتبها وحده، وطرقت الباب في وجوهنا، نحن المرافقين له، ثم أقفلته بالمفتاح. كنا نسمع قهقهاتهما، ونقول سيكون الشيك مهمًا. لم يتوقفا عن القهقهة لحظة واحدة، ولكن ما أخذنا كلنا صمت طويل، صمت طال أكثر مما يجب، ثم عادت القهقهات من جديد، وتأخر الوقت بالرئيس المدير العام عن موعده القادم، فذهبت السيدة ماكماهيليان تطرق عليهما الباب دون أن يستجاب لطرقاتها. وبعد فترة أخرى من الصمت الطويل، خرج ديدييه آبل-كاين منكوش الشعر، فسوته له السيدة ماكماهيليان، ومسحت له عن فمه أحمر الشفاه، عن خده، عن عنقه. وبعد ذلك، تركنا المكان دون أن تخرج السيدة رئيسة جمعية نساء نيويورك لوداعنا.
لم نمكث لافتتاح فرع البنك العالمي في كوينز أكثر من خمس دقائق توجهنا بعدها بالسيارات المرسيدس المصفحة إلى برودواي، هناك حيث وقع د آ ك كتابه لنخبة رجال الأعمال والمحللين الاقتصاديين، والكل ينحني لرب المال. شربنا كأس سكوتش بالصودا، وأكلنا بعض الخبزات المأدومة، ومن هناك إلى نادي التنس، لنأخذ جين من أجل الغداء في مطعم الطاهي الحلواني الفرنسي الشهير "لونوتر".
أخذنا مكانًا أنا والسيدة ماكماهيليان والآنسة ستيوارت على طاولة السيد والسيدة آبل-كاين، بينما جلس الحراس الخاصون على طاولة قربنا. طلبت لنا جين جميعًا سكالوب نورماند فريت عيدان الكبريت، وأخذنا كشراب نبيذ البورغوني. أثناء الأكل، تبادل صديقي وزوجته الكلمات التالية:
- هل لعبت التنس جيدًا، يا حبيبتي؟
- لعبت التنس أكثر من جيد، يا حبيبي.
وبعد لقمة:
- وأنت، هل جنيت مليارك اليومي جيدًا، يا حبيبي؟
- جنيت ملياري اليومي أكثر من جيد، يا حبيبتي.
وبعد جرعة:
- متى ستلعب التنس معي، يا حبيبي؟
- عندما تجنين المليار اليومي معي، يا حبيبتي.
وبعد نظرة من عيني جين إلى الآنسة ستيوارت:
- مدونتك الجديدة جميلة، يا حبيبي.
- أشكرك، يا سيدة آبل-كاين، قالت الآنسة ستيوارت.
- هذا لطف منك، يا حبيبتي.
بعد لقمة وجرعة:
- لن نتعشى معًا، يا حبيبي.
- لن نتعشى معًا، يا حبيبتي.
- ككل مساء، يا حبيبي.
- ككل مساء يا حبيبتي.
وضعت شوكتها وسكينها بحركة لم تكن مناسبة، وقامت:
- اعذروني.
نظرت إلى حارسها الخاص، وأمرت:
- كارل، اتبعني!
نهض كارل على التو، وهو يمسح بالمحرمة فمه، ثم وهو يلقيها، وتبع سيدته إلى التواليت. انتهينا من أكل طبقنا الرئيسي، وطلب لنا د آ ك بوظة خوخ ملبا كتحلاية، سيمفونية حسبه، فاستأذنت بدوري الذهاب إلى التواليت. وصلني، وأنا قرب مراحيض النساء، صوت مضاجعة، فاسترقت النظر إلى جين وحارسها الخاص ينكحها وقوفًا. انتهيت من الشخ، وعدت أمرّ بمراحيض النساء، وجين مع حارسها لم ينتهيا بعد. عادت جين وكارل، وأخذا تحلايتهما، وكأن شيئًا ما كان. قبّلت جين زوجها شاكرة إياه على الأكل اللذيذ، ثم نهضنا جميعًا. وكالعادة لم يترك د آ ك البخشيش، فأخرجت من جيبي بضعة دولارات وضعتها في يد النادل.
ونحن على أبواب تشاينا تاون في مانهاتان، توقف موكبنا، لندخل الوكر الصيني في سيارات الفورد المصفحة، كل سائقيها وحراسها الخاصين صينيون، على رأسهم ما دعاه د آ ك بالعود الأحمر: أيها العود الأحمر، أيها العود الأحمر، وهذا ينحني سمعًا وطاعة. كانت جين قد عادت من المطعم إلى الشارع 65، وها هم الحراس مع السيدة ماكماهيليان يعودون في سيارات المرسيدس المصفحة.
- سنقيل عند الآنسة ياما، همس ديدييه آبل-كاين في أذني.
توقفت سيارات الفورد المصفحة أمام "الملاك الأصفر"، أحد صالونات التدليك الكبرى في نيويورك، فدخلناه، لتستقبلنا الآنسة ياما محاطة بعشرات من أجمل البنات الصينيات المرتديات للكيباو، وأول ما ظهر د آ ك هتفن كلهن بصوت واحد:
- أهلاً وسهلاً، يا ديدييه آبل- كاين!
وأتبعن ذلك بضحك أسطوري خلته ينبثق من أعماق الصين القديمة. أشارت ياما إليهن بالذهاب إلى أعمالهن، فخففن كل واحدة إلى حجرة حمام حيث الزبون ينتظر عاريًا ممددًا على فراش أرضي. رأيت بعضهن من الأبواب المفتوحة، وهن يخلعن الكيباو، ولا شيء تحته، ويجلسن على إليتي المستلقي، ويأخذن بتدليك ظهره. وياما أيضًا كانت ترتدي الكيباو بقبة ماو لكنه قصير ودون أكمام.
في شقة ياما الفخمة، دار الحديث بين ياما وآبل-كاين بالصينية، بينما كانت ياما تبدل لد آ ك ثيابه بأخرى صينية من الحرير، طقم تاي تشي أسود بتنين، والآنسة ستيوارت تترجم لي. سأل د آ ك:
- كل شيء على ما يرام، يا 438؟
وأنا:
- 438؟
والآنسة ستيوارت:
- نائب الرئيس 489.
- 489؟
- رأس التنين.
- رأس التنين؟
- سأشرح لك فيما بعد.
أجابت ياما:
- كل شيء على ما يرام، يا 489.
وضع يديه على إليتيها، وراح يداعبها منهما، بينما ياما تضيف:
- تعليماتك يعرفها اليوم كل الزبائن، صالوناتنا في كل الولايات المتحدة ليست بيوتًا للدعارة، وبناتنا كلهن بنات عائلات، التدليك هو بالفعل شهواني، ومن كله، ولكن دون اختراق، من أراد فعل هذا، فليفعله بين أصابع أمه.
أخذ د آ ك يرفع الكيباو، بصعوبة حقًا لضيقه، لكنه تمكن من رفعه، وراح يعجن إليتيها بأصابعه، وياما تقول:
- ليس هناك أجمل من النظافة، يا 489. ولهذا كل الثالوثات الأخرى...
وأنا:
- الثالوثات؟
والآنسة ستيوارت:
- سأشرح لك فيما بعد.
- ولهذا كل الثالوثات الأخرى غارت منا، لم تنفع معها تخفيض الأسعار ولا إحضار أجمل الأجمل من أخواتي، فبدأت تعمل مثلنا، التدليك الشهواني دون اختراق.
وضع د آ ك يديه بين إليتي مايا، وراح يدلكها منهما، والصينية الجميلة لا تمنع نفسها من إطلاق التأوهات المتقطعة:
- وكما أمرت، يا 489، استثمرنا الأموال في بناء المستشفيات، والأوبرات، والفنادق لمن ليس لهم مسكن ثابت، فكانت الأرباح ليست كثيرة جدًا، ولكنها تبقى كثيرة.
بدأت تنزع عنه ثيابه التي ألبسته إياها بعصبية، تريده أن يفتك بها، وأنا أقول للآنسة ستيوارت أن لا داعي لترجمة هذا، فهذا لا يحتاج إلى ترجمة، لولا طرقات على الباب، فاعتدلت ياما، وهي تسوي من هندامها، وهندام د آ ك، وصاحت:
- من بالباب؟
- صندل القش.
وأنا:
- صندل القش؟
والآنسة ستيوارت:
- 432.
- 432؟
- سأشرح لك فيما بعد.
صاحت ياما من جديد:
- أدخل.
دخل صيني في الأربعين من العمر لكنه شبه أصلع، انحنى لنا، كل واحد على حدة، وبالغ في الانحناء لصديقي، ثم قال له:
- آخر صالون تدليك آخر صرخة في التشاينا تاون سيتم تدشينه اليوم الرابع من الأسبوع القادم...
وأنا:
- اليوم الرابع؟
والآنسة ستيوارت:
- الأربعاء، أبدلوه الصينيون بالرقم أربعة فهذا الرقم يجلب الحظ عندهم.
- وبوصفي المكلف بالعلاقات والاتصالات أعددت ذلك تمام الإعداد، لبى كل العظماء الدعوة وفي مقدمتهم رئيس الولايات المتحدة بقضه وقضيضه.
لفظ ديدييه آبل-كاين من خلف شفتيه:
- أنا لا أطيق هذا الرجل.
تلعثم الرقم 432:
- ولكن، يا رأس التنين، لقد تمت الدعوة.
- إلغها! تدبر أمرك! نبر د آ ك، وهو يصرفه بحركة آمرة من يده.
انحنى سمعًا وطاعة، وأكثر من انحنائه. خرج الرقم 432، ودخل الرقم 415، وبين ذراعيه العديد من السجلات. سألته ياما بنبرة جافة:
- ما الذي جاء بك، مروحة الورق الأبيض؟
انحنى كثيرًا أكثر من سابقه، للجميع، وخاصة لديدييه آبل-كاين:
- هناك عدد من الأوراق بخصوص شراء بعض الأسهم العقارية يجب التوقيع عليها وإلا أفلتت من يدنا.
وعاد ينحني كثيرًا حتى أنني ظننته سيسقط على الأرض، أشار صديقي إليه بحركة من أصابعه ليست آبهة، ما معناه أعطني هذا وحل عن ظهري. وقَّعَ دون أن يقرأ الأوراق التي يوقع عليها، ومدها للمكلف بالمالية والإدارة، ثم استوقفه شيء فيها، عاد إليها، وهو يقول بصوت عال، ولا يمنع نفسه من الضحك بافتتان:
- شراء ثلاثة أرباع أسهم تمثال الحرية! شراء ثلاثة أرباع أسهم البرجين التوأمين! سيكونان أربعة هذا صحيح، ولكن لنسمهما البرجين التوأمين دومًا. شراء ثلاثة أرباع أسهم مسارح البرودوي! شراء ثلاثة أرباع أسهم تاكسيات الأجرة! شراء ثلاثة أرباع...
لم يكمل، أعاد الوثائق للرقم 415، وهو يطبطب على كتفه:
- جهد مشكور! جهد مشكور!
والآخر ينحني كثيرًا، وهو يكاد يصل الأرض بين قدمي ديدييه آبل-كاين. رميت حالما خرج مروحة الورق الأبيض:
- تهانيّ الحارة، يا رأس التنين!
- هل سمعت؟ ثلاثة أرباع أسهم نيويورك برمتها!
قالت الآنسة ستيوارت التي لم تتوقف عن التدوين كل تلك المدة:
- تهانيّ الحارة، يا معلم!
- آنسة ستيوارت كل ما يتعلق بالتشاينا تاون أرجو شطبه، طلب صديقي، فهو بشكل من الأشكال سري الصغير.
ترددت الآنسة ستيوارت بعد كل ما بذلته من جهد:
- كما تريد، يا سيد آبل-كاين.
نزعت الورقات من دفترها، ثم مزقتها. التفت د آ ك إلى مايا، وهو يبتسم لها ابتسامة العاشق:
- هلا ذهبنا إلى الفراش من أجل القيلولة، يا 438؟
- القيلولة عادة من أحسن العادات الصينية التي تعود على الجسم كالجيب بالنفع، يا 489!
- سميني رأس التنين...
وتظاهر ببصق النار:
- أحب أن أسمع هذا منك.
وجذبها إليه، وراح بها مدغدغًا، وهي تقهقه:
- توقف، يا رأس التنين، توقف!
دفعها من أمامه إلى حجرة النوم، وقبل أن يغلق عليهما الباب، غمزنا، أنا والآنسة ستيوارت.
قالت لي الآنسة ستيوارت لما وجدنا نفسنا وحدنا:
- أظن أنك فهمت كل شيء عن الثالوث الصيني.
- فهمت كل شيء، أو، أقول لك الصدق لم أفهم تمامًا.
- آبل-كاين على رأسه، وهو يدعى رأس التنين، ويحمل الرقم 489، نائبته مايا الرقم 438. الأرقام بدافع الحيطة.
- هذا واضح.
- وفي الترتيب الثاني يجيء الضباط: رأينا العود الأحمر أول ما رأينا، وهو المسئول عن النظام والأمن، وهو يحمل الرقم 426، فالمسئول عن العلاقات والاتصالات، صندل القش، الرقم 432، ثم مروحة الورق الأبيض، المسئول عن المالية والإدارة، الرقم 415. هناك رابع لم نره، سيد البَخور، الرقم 438، رقمه ورقم مايا واحد للسلطة العظمى التي يتقاسمانها، وهو المسئول عن الطقوس والمجندين. الجنود يأتون في المرتبة الثالثة، إنهم قاعدة المثلث، وكل منهم يحمل الرقم 49، مع كل ما يحويه هذا الرقم المزدوج من رمز للحظ، 4، وللقوة، 9.
تثاءبت، وقلت:
- القيلولة أهم من كل هذا.
أكدت الآنسة ستيوارت:
- كما تقول، القيلولة أهم من كل هذا.
وأضافت مع ابتسامة ماكرة:
- القيلولة غير الصينية!
استلقيت على أريكة، وكذلك فعلت الآنسة ستيوارت. بعد ثلاثة أرباع الساعة، نهضنا على ضحكات عذبة، فإذا بأربع مدلكات يشرن إلينا كي نتبعهن. عرفنا ما يردن، كان د آ ك لم يزل يقيل، فقلنا نذهب معهن. كان دافعنا حب الاستطلاع ليس أكثر. ليس أكثر؟ حقًا؟ تركنا جسدينا في عهدتهن، فعريننا، وأنفقنا في النعيم الأرضي ساعة من عمرنا. وجدنا خلالها أنفسنا، أنا والآنسة ستيوارت، نأخذ بعضنا الواحد بين ذراعي الآخر، ومارسنا أسعد حب في الحياة، ونحن نذوب بين الأصابع الحريرية.
كان الليل يتساقط على التشاينا تاون بكل ألوانه العنيفة، بكل روائحه القوية، وخاصة بكل خصوصيته الصينية، فجاء العود الأحمر بسياراته الفورد المصفحة، وأقلنا نحن الثلاثة، ديدييه آبل-كاين في المقدمة، إلى أبواب إيطاليا الصغيرة في مانهاتان دومًا، هناك حيث تركنا في عهدة بعض سيارات الفيات المصفحة، بسائقين وحراس خاصين إيطاليين كلهم. دخلنا علبة الليل "الكلب اليقظ" الوحيدة في كل نيويورك التي لا يشرب المرء فيها كحولاً، الويسكي نعم، ولكن دون كحول، والبيرة نعم، ولكن دون كحول، والنبيذ نعم، ولكن دون كحول، وشتى أنواع المشروبات اللاروحية. كانت النادلات كلهن هناك لاستقبال د آ ك، وهن يرتدين مايوهات سوداء تكشف عن مفاتنهن، وعلى رأسهن كانت كلوديا في ثوب متقشف لا يبرز شيئًا من مفاتنها. كلمها ديدييه آبل-كاين بالإيطالية، وهو يسعى إلى مكتبه، والآنسة ستيوارت تترجم لي:
- عدد الرواد في ازدياد دائم، يا دون دييغو، فماذا نفعل؟ المشروبات دون كحول تجذب كل نخبة نيويورك، وفي الكثير من الأحيان نعتذر عن استقبال عدد هام من زبائننا.
- سأرى ما يمكنني فعله مع لاكي لوتشيانو جيل ثالث وفرانك كوستيللو جيل ثالث وجو أدونيس جيل ثالث.
- سينافسونك لا شيء أكثر، يا دون دييغو، وذلك بتأسيس سلاسل من هذا النوع من علب الليل.
- منافسة شريفة كهذه، هذا ما أسعى إليه.
- تجار المخدرات والعاهرات وماكينات اللعب لم تكن منافستهم أبدًا شريفة.
أخرجت كلوديا لد آ ك ثياب السهرة، وأخذت تخلع عنه ثيابه الصينية، وهي تتابع:
- افتح فروعًا لعلبتك دون كحول في نيويورك وفي كل المدن الكبرى ولا تضع يدك في أيدي هؤلاء المجرمين.
لم تكن الاستعرائية لدى صديقي، تلك النزعة المرضية إلى تعرية العورة، وإنما الاستسلامية لأصابع المرأة. ما جعلني أفكر في هذا، تكرار الفعل لديه مع كل عشيقاته. هناك شيء من السادية لديه هذا صحيح، كما هي لدينا كلنا نحن الرجال، عندما يتركهن وحدهن لمعاناتهن، وهو لا يرضيهن بالقليل من جسده، لكنه لا يلبث أن يعوضهن عن ذلك بالكثير من نفسه، إنها نزعة العطاء التي تغلب لديه، العطاء الإنساني الذي هو عطاء جنسي أولاً وقبل كل شيء.
وضع د آ ك يديه على إليتي كلوديا، وقال:
- تقولين هذا لأنهم اغتصبوك واحدًا واحدًا، يا كلوديا.
- اغتصبوني، وكنت سعيدة.
- إذن لماذا؟
- أن يغتصبك عظماء الشر هذا يعني أنك شيء.
أخذ يرفع فستانها الضيق بصعوبة إلى أن وصل إليتيها، وهي تواصل إلباسه، بينما هو يقول:
- إليتان كهاتين شيء عظيم، شيء عظيم جدًا، يا كلوديا.
- إنهما لك، يا دون دييغو، أنت تعرف هذا. أنا أحجزهما فقط لك بعد كل الذي حصل.
أخذ يزلق بيديه بينهما، وهي لا يبدو عليها الشعور بشيء، مما جعله يلقي نحونا، أنا والآنسة ستيوارت، نظرة متسائلة:
- يبدو لي أنهما تغيرتا قليلاً بعد الحادث، يا كلوديا.
- من الطبيعي أن تتغيرا قليلاً، يا حبيبي.
وإذا بها ترتفع كلها بين ذراعيه، وتطنب:
- بالله عليك أن تأخذني كلي، يا دون دييغو، كلي، لم أعد أطيق، كلي.
نظر إلينا د آ ك، وهو في كامل سروره، فابتسمنا أنا والآنسة ستيوارت، وآنسة ستيوارت تدون كل شيء:
- ليس هذا، يا آنسة ستيوارت رجاء.
- سرك الصغير، يا معلم.
- وهذا أيضًا.
- إذن سأمزق كل شيء.
- كل شيء، كل شيء... قال، وهو يلهث.
ثم رماها على الكنبة:
- برب السماء، يا كلوديا، قليل من الحياء.
قامت، وهي تسوي هندامها، وأرادت أن تكمل إلباسه، فرفض، وأكمل إلباس نفسه بنفسه، وهو يقول لكلوديا:
- اطلبيهم لي.
- لاكي لوتشيانو جيل ثالث وفرانك كوستيللو جيل ثالث وجو أدونيس جيل ثالث؟
- وفي الحال.
- في الحال، يا دون دييغو.
وذهبت لتتلفن من مكتبها المجاور.
على الساعة الواحدة صباحًا، انتشرت الجحافل المسلحة في كل زوايا إيطاليا الصغيرة لحراسة مواكب رؤساء المافيا الثلاثة، وبينما كانت علبة الليل "الكلب اليقظ" في أشد نشاطها، اخترقها لاكي لوتشيانو جيل ثالث وفرانك كوستيللو جيل ثالث وجو أدونيس جيل ثالث كل واحد في الخمسين من العمر، وكل واحد مع مسلحيه، وكل واحد على حدة. حاول رجال العلبة سحب الأسلحة منهم، لكنهم هددوهم بها. ومع ذلك، استقبلهم د آ ك بذراعين مفتوحتين، لكن كلوديا رفضت أن تسلم عليهم. والمسلحون في المكتب بأسلحتهم الثقيلة، الثقيلة أكثر من حامليها أحيانًا، مدافع ثقيلة أحيانًا، لهدم بنايات بأكملها أحيانًا، همس آبل-كاين في أذن كل من مضيفيه همسة صغيرة، وفي الحال أمروا بخروج كل الرجال المسلحين، وبقينا أنا والآنسة ستيوارت وكلوديا إلى جانب د آ ك طبعًا مع عظماء الشر الثلاثة. بدأ ديدييه آبل-كاين بالكلام بالإيطالية أولاً، وبعد أن رفض ضيوفه الكلام بالإيطالية، تكلم بالإنجليزية، والآنسة ستيوارت تدون، فقام ثلاثتهم، وهم يشهرون أسلحتهم في وجه المسكينة، مما جعلها تسلم لهم كل دفترها. تصفحوه، ثم مزقوه، وألقوه في سلة المهملات. عند ذلك، أعاد د آ ك:
- قامت المعارك في عهد أجدادنا ما بينهم، وفي عهد آبائنا ما بينهم، من أجل الكحول، وأنا لا أريد أن تقوم المعارك في عهدنا ما بيننا من أجل عدم الكحول. الكلب اليقظ يعمل بقدر كل علب نيويورك، وأنا لهذا أريد أن أعمل سلسلة من الكلب اليقظ معكم، أيها السادة، لنقتسم ليل نيويورك وكل المدن الكبرى والأموال ما بيننا، من أجل هذا الاستثمار المتعدد المنافع دعوتكم، فما رأيكم؟
قال لاكي لوتشيانو جيل ثالث، وهو يشير بمسدسه إلى زميليه:
- هذان الوغدان أبدًا لن تكون هناك منافع مشتركة معهما.
قال فرانك كوستيللو جيل ثالث، وهو يشير بمسدسه إلى زميليه:
- هذان الوغدان أبدًا لن تكون هناك منافع مشتركة معهما.
قال جو أدونيس جيل ثالث، وهو يشير بمسدسه إلى زميليه:
- هذان الوغدان أبدًا لن تكون هناك منافع مشتركة معهما.
ونهض ثلاثتهم يريد كل منهم القضاء على الآخر لولا تدخل كلوديا:
- كفى، يا سادة! قليل من التحضر، يا سادة!
عاد كل منهم إلى مجلسه، وكلوديا تتابع:
- إذا كان هناك من ضامن لما يعرضه عليكم الدون دييغو، فستكون إليتاي هما الضامن.
فتح الثلاثة أفواههم وأعينهم واسعًا من الدهشة والاستغراب، وكلوديا تتابع:
- هل لديكم أكثر من هذا ضمان، وقد خبرتم ما هو؟ وهذه المرة بمحض إرادتي.
هز رؤساء المافيا الثلاثة رؤوسهم موافقين، ففرقع د آ ك بإصبعيه باتجاه الآنسة ستيوارت التي أخرجت ورقة من حقيبتها، وراحت تكتب ما يمليه عليها معلمها:
- نحن الموقعين أدناه، عظماء نيويورك الشر...
أمام صفحات الامتعاض التي قرأها د آ ك على وجوههم قال:
- عظماء نيويورك بلا زيادة ولا نقصان، نشارك الدون دييغو في إنشاء واستثمار سلسلة علبة الليل "الكلب اليقظ" دون كحول ودون عنف في نيويورك وكل المدن الكبرى في الولايات المتحدة والعالم، والأرباح تقسم على أربعة، والضامن إليتا كلوديا... التوقيع، يا سادتي.
قدمت الآنسة ستيوارت الوثيقة إلى كل واحد، فوقعها، ووقعها د آ ك، ووقعتها كلوديا بعد أن تظاهرت بالتوقيع بإليتيها، ثم صفقت، فجاءت نادلات العلبة بالشمبانيا. الشمبانيا للاستثناء، قالت، وللمناسبات النادرة، وتلك كانت مناسبة نادرة، التوقيع على وثيقة الشراكة كانت بالفعل مناسبة نادرة. وكلما أراد أحد عظماء الشر مداعبة إحداهن، ضربته كلوديا على يده، ومنعته، فيداعبها من إليتيها، وهو يقهقه، وهي تقهقه. دخل المسلحون دون أسلحتهم، وشربوا الشمبانيا معنا، ورقصوا، وبقينا هكذا نشرب ونرقص حتى مطلع الفجر.
في الصباح الباكر، وكل نيويورك تنام أو تنهض من نومها، غادرت المواكب الأربعة المكان، كل موكب إلى حيث يشاء، وموكبنا إلى فندق سوفيتل. أخذ ديدييه آبل-كاين جناحًا، وأنا والآنسة ستيوارت جناحًا آخر إلى جانبه، وذهبنا كالخِرَقِ نيامًا.

































القسم الثاني

نهضنا من نومنا أنا والآنسة ستيوارت على الساعة الثالثة بعد الظهر، أخذنا حمامًا معًا، ونحن نرتدي ملابسنا طلبت لنا الجميلة ستيوارت "بغ بريكفاست"، فطورًا وفيرًا على الطريقة الأمريكية مع الهوتكيكس. كنا قد انتهينا من ارتداء ملابسنا عندما طرق خادم الطابق الباب، ودفع عربة ملأى بالطعام والشراب. أرادت الآنسة ستيوارت الاتصال بديدييه آبل-كاين، فطلبت إليها أن تتركه نائمًا، قلت لها طالما لم يتصل هو، فهو لم يزل ينام. ونحن منهمكين في التهام الأكل اللذيذ والحديث المرح، لست أدري أي نداء داخلي دفعني إلى إشعال جهاز التلفزيون. وإذا بد آ ك يطلع علينا بوجه داكن يعبر عن جسامة الكارثة، ثم ما لبثنا أن رأيناه مكبل اليدين، وأفراد من الإف بي آي يقودونه في سيارتهم إلى سجن ريكرز آيلاند، كما قالت المذيعة. لم ننتظر لماذا، ذهبنا نركض أنا والآنسة ستيوارت إلى جناحه، فلم نجده. وجدنا كل شيء في الجناح مرتبًا كما كان ما عدا السرير. عدنا نركض إلى جناحنا، وبدّلنا القناة لنتأكد من صحة ما رأينا، ثم أخرى، ثم أخرى، كانت كل القنوات تعيد عرض الصور نفسها، وتقول الشيء نفسه: اتهام الرئيس المدير العام للبنك العالمي باعتداء جنسي على إحدى منظفات الفندق، احتجاز، واغتصاب.
لم يكن الاعتداء الجنسي من طبيعة صديقي، ولم يكن الاغتصاب ليخطر على بالي كتهمة. كانت لد آ ك كل النساء، وكل النساء كانت عالمه، عالمه الذي له، والذي كان يفعله، كان يتصرف في عالمه، كان كل ما يفعله أن يتصرف في عالمه، أن يتصرف بعالمه. ليس لأنه زير نساء، ولا لأن لديه الجاه والمال، ولكن بدافع ميل فطري لديه، والفطرة صفة من صفات الإنسان الطبيعية. د آ ك بسلوكه تجاه المرأة على هذا النحو الفطري يعيد لإنسان القرن الحادي والعشرين، هذا الإنسان الغريب عن إنسانيته، يعيد لهذا الإنسان إنسانيته، يعيده إلى إنسانيته. إذن د آ ك لم يكن مريضًا، كان يحب المرأة، بكل بساطة، كان يحب المرأة، وكان يسلك معها على نحو فطري، هذا كل ما في الأمر. لماذا إذن رمته منظفة الفندق بكل التهم؟ هذا شيء آخر، وفي هذا يكمن كل الاغتصاب لروح د آ ك، المطامع واضحة، وهي مطامع ما في شك لغايات شريرة، لا يُجبل المرء عليها، بمعنى ليست من فطرته، وإنما يكتسبها، ونيويورك كمكان، أفظع وأنسب مكان لاكتسابها. أعادت وأعادت وأعادت كل قنوات التلفزيون في العالم عرض صورته، وهو مقيد اليدين كالكلب، وهو يُدفع دفعًا في سيارة رجال الإف بي آي كالمجرم. كحدث، هذا شيء آخر في الواقع، غير الخراء الذي تحشوه في أدمغتنا كل يوم. كانت صدمتي عنيفة، كنت على مقربة قليلة من صديقي، ولم أستطع فعل شيء. أول شيء فكرت في القيام به أن أذهب لأرى جين، وأخفف القليل عنها. لكن الآنسة ستيوارت قالت لنذهب إلى ريكرز آيلاند، فربما تركونا نراه. وفي الأخير قررنا الاتصال بمحامي، فاتصلت بمحاميّ ومحامي ديدييه آبل-كاين الأستاذ جوزيف ماكدويل. أخبرني أن د آ ك قد وقع عليه اختياره، ومدعي عام نيويورك هو من أخبره بهذا الاختيار. كانت الماكينة الجنائية عندنا تعمل بسرعة، وعلى أكمل وجه، ككل الآلات في مصانعنا الحديدية. كانت من النوع الحديدي، وأنا كلما فكرت أن صديقي قد سقط بين فكيها يدقني الرعب عليه. قالت القنوات التلفزيونية عن الضحية إفريقية، وهي تحت حماية العدالة، بمعنى أنها تسقط هي الأخرى بين فكي الماكينة الجنائية، نعم، حتى الضحية. وُضعت الضحية أيضًا في القفص، وضاق عليها العالم، حتى صورة واحدة لها لم نرّ.
أخذتُ جين بين ذراعيّ، وهي تذرف الدموع الحرى:
- أحسن الفعل، صديقك، أحسن الفعل! وفيمن؟ فيّ أنا! لماذا؟ ماذا فعلت له؟ دومًا ما كنت الزوجة المتفهمة على أكمل وجه. أرادني أن أكون هذه الزوجة المتفهمة على أكمل وجه، فكنتها. إذن لماذا؟ ماذا فعلت له؟ ربما فعلت له شيئًا لا أدريه، شيئًا تفعله أية زوجة مثلي دون أن تدري، لكني دومًا ما كنت الزوجة المتفهمة على أكمل وجه. رجوتها:
- جين، اهدأي، بالله عليك أن تهدأي.
تَرَكَتْ ذراعيّ، وهي تنشق، وتمسح دموعها.
قلت لها:
- هذا ليس من طبيعة د آ ك.
عادت إلى ذراعيّ، وعادت إلى البكاء:
- لا تدافع عنه لأنه صديقك.
- بماذا أقسم لك؟ في الجو الكثير من الغيوم، وهذه المرأة التي شكت به، وأودعته السجن، لا تريد سوى نقوده، فهي سوداء من طبقة متواضعة.
وما أن سمعتني أقول سوداء حتى ضاعفت من نواحها:
- أترى ما هو ذوقه الآن؟ وكل هذا كي يهزأ بي، وينغص عيشي. ماذا فَعَلْ...
أبعدتها عن ذراعيّ شادًا إياها من ذراعيها:
- كل هذا ما هو سوى صدفة خالصة أن تكون من طبقة متواضعة وسوداء.
توقفت عن البكاء تمامًا، وجهرت:
- تقول صدفة خالصة؟ أود أن يكون كل هذا صدفة خالصة. لديدييه العالم كله أعداء.
- لا، ليس لديدييه. لديدييه العالم كله أصدقاء، ولكن يحصل أن يلعب الظرف في غير صالحه، فيتحول الأصدقاء إلى أعداء.
- في غير صالحه، في غير صالحه، لم يكن ساذجًا ديدييه، أبدًا لم يكن في حياته ساذجًا.
- الكثير من الثقة تؤدي أحيانًا إلى هذا.
- كما تقول، وأكثر ما كانت ثقته بنفسه تجاه المرأة، وها هي النتيجة.
وعادت إلى البكاء، وإلى ذراعيّ:
- ماذا فعلت له؟ ماذا فعلت له؟
أحضرت الآنسة ستيوارت كأس ماء لها:
- اشربي هذا، يا سيدة آبل-كاين.
كانت فرصتي لأنسحب بعيدًا عن المنتحبة، ولأكلم الأستاذ جوزيف ماكدويل، فيعمل على ألا ينام د آ ك ليلته في السجن الرهيب. قال لي إنه سينام فيه هذه الليلة لا محالة، وفي الغد عند امتثاله أمام القاضي، سيطلب إخلاء سراحه مقابل كفالة، وربما وصلت الكفالة إلى عدة ملايين من الدولارات. قلت لا بأس، أنا هنا.
توجهت إلى جين:
- سينام هذه الليلة في ريكرز آيلاند.
أبدت جين ساخرة:
- هكذا يكون قد جرب كل فنادق نيويورك.
- وأمر الكفالة؟
- إذا كانت هناك كفالة ستُدفع، يا غريغوري، فلن نتأخر عن الدفع.
- أنا هنا إذا كنت في حاجة إلى أي شيء.
- أعرف أنك هنا، يا غريغوري، فأنت صديقه الوحيد.
- هذا إطراء منك، يا جين، بل شرف لي.
أشرت إلى الآنسة ستيوارت بالذهاب، فخرجنا تاركين جين إلى حزنها، ليس على زوجها، بل على ما فعله زوجها فيها كما كانت تتصور. أخذت سيارتي، المصفوفة منذ البارحة قرب البناية التي يسكن فيها د آ ك، إلى مقر البنك العالمي في ويليام ستريت.
اخترقنا أنا والآنسة ستيوارت ناطحة السحاب وسط عشرات الكاميرات والصحفيين، وصعدنا إلى الطابق السابع والعشرين بصحبة أحد حراس د آ ك الخاصين، وبين جحيم القائمين القاعدين من الموظفين في القاعة الكبرى سرنا إلى مكتب السيدة ماكماهيليان التي صرخت بالآنسة ستيوارت أول ما وقعت عليها:
- بعد كل الذي وقع مكانك هنا، يا آنسة ستيوارت، إذا كنت تريدين دومًا الاحتفاظ بوظيفتك.
- ولكني، يا سيدة ماكماهيليان، كنت قرب السيدة آبل-كاين.
- قربي، عليك أن تكوني قربي، وكل هذا العالم الذي لا يرحم أحدًا.
كانت هناك فتاة في العشرين تتصفح مجلة وتعلك غير مبالية بما يقع، أو هكذا بدا لي.
- أقدم لك ابنتي ميراندا، يا سيد غريغوري.
- كيف الحال؟
- جيدة، أجابت الفتاة، وهي تفقع علكتها.
تدخلت السيدة ماكماهيليان دون أن يزول عنها عبوسها:
- بل ليست جيدة على الإطلاق.
- ليست جيدة على الإطلاق؟
- ميراندا حالها ليست جيدة على الإطلاق، أليس كذلك، يا حبيبتي؟
- حالي جيدة، يا أمي.
- ليست جيدة على الإطلاق.
- بل جيدة، حالي جيدة، لماذا لا تكون جيدة على الإطلاق؟
- لأنها ليست جيدة على الإطلاق.
- ولماذا هي ليست جيدة على الإطلاق؟ سألت.
- لأنك قلت لي، يعني، أنها قالت لي، ليست جيدة على الإطلاق.
- ماذا هناك، يا سيدة ماكماهيليان؟ لماذا حال ميراندا ليست جيدة على الإطلاق؟
- قولي له، يا ميراندا، لماذا حالك ليست جيدة على الإطلاق.
ضحكت ميراندا وهي تفقع علكتها من جديد:
- هل أقول له لماذا حالي ليست جيدة على الإطلاق؟
تدخلت الآنسة ستيوارت مشجعة:
- نعم، قولي للسيد غريغوري، لماذا حالك ليست جيدة على الإطلاق؟
طلبت السيدة ماكماهيليان من ابنتها بعد أن أعادت "ليست جيدة على الإطلاق":
- السيد غريغوري صديق د آ ك الحميم، قولي له لماذا حالك ليست جيدة على الإطلاق؟
صاحت ميراندا غاضبة:
- ولكن حالي ليست "ليست جيدة على الإطلاق"، حالي جيدة جدًا، ليس لأن د آ ك حاول اغتصابي لما كنت في الخامسة عشرة، أي منذ خمس سنوات، ستكون حالي ليست جيدة على الإطلاق.
سألتُ بتنبه:
- د آ ك حاول اغتصابك منذ خمس سنوات؟
أضافت الآنسة ستيوارت:
- منذ خمس سنوات، والآن فقط تقولين هذا، يا آنسة ميراندا؟
- إنها فكرة أمي، أليس كذلك، يا أمي؟ وأنا أؤكد لكم أنني في حال جيدة جدًا، جيدة جدًا جدًا.
رمت السيدة ماكماهيليان:
- ستذهب ابنتي إلى المحاكم.
صحت:
- ماذا؟
- سترفع قضية على د آ ك لمحاولة اغتصاب، فحالها ليست جيدة على الإطلاق. منذ ذلك الوقت، وهي تعاني من صدمة نفسية.
صاحت ميراندا:
- ماذا؟ أعاني من صدمة نفسية!
- وحالك ليست جيدة على الإطلاق.
رددت ميراندا، وهي تطلق قهقهاتها الهازئة:
- مريضة هذه المرأة! مريضة هذه المرأة!
ثم فقعت علكتها فقعات متواصلة وعلى وجهها تبدو أمارات القرف:
توجهتُ للسيدة ماكماهيليان:
- سنتحدث في الأمر، يا سيدة ماكماهيليان، عديني ألا تفعلي شيئًا قبل أن نعود إلى التحدث في الأمر.
- ميراندا حالها ليست جيدة على الإطلاق.
- مريضة هذه المرأة! مريضة هذه المرأة!
- عديني، أوكي؟ عديني!
- ليست جيدة على الإطلاق.
قذفت ميراندا المجلة على طول يدها، ونهضت بغضب خارجة.
- أوكي؟ أوكي؟
تضاعفت القيامة في الخارج مع خروج أعضاء مجلس الإدارة، وتحلُّق كافة الموظفين بهم. أخذ نائب الرئيس المدير العام الكلام:
- البنك العالمي هو عالمي بفضل جهدنا جميعًا وليس بفضل شخص واحد فقط منا مهما أوتي هذا الشخص من عبقرية، وإن كنتَ ريحًا فصادفتَ إعصارًا همك الأوحد هو حفظ هذا البنك والاستمرار في خدماته التي يقدمها للعالم، لهذا على الرغم من افتراض البراءة، قررنا إقالة السيد آبل-كاين من منصبه كرئيس مدير عام ونزع كافة صلاحياته مقابل تشكيل لجنة تدير مؤسستنا حتى انتخاب رئيس مدير عام جديد.
تركتُ الآنسة ستيوارت إلى جانب السيدة ماكماهيليان، وانسحبت وسط صراخ البشر في الجحيم. كانت السيدة ماكماهليان في أسوأ حالاتها، لم تكن سعيدة بما تفعل. حقًا عندما يسقط المرء، يترك نفسه فريسة لأعدائه، حتى الأصدقاء يصبحون أعداء، يريدون منه حصة. ذهبت في الحال إلى أحد البارات، وطلبت كأس ويسكي دوبل، وكل الرواد يتابعون "مسلسل" د آ ك من تلفزيون معلق على جدار. كأن حفلة للأطفال كانت في البار، فالزبائن كلهم، المع والضد بخصوص قضية د آ ك، كانوا سعداء. كان شاب أشقر يرتعش من شدة إعجابه بآبل-كاين، وكان يتخيل نفسه مكانه:
- لو كنت د آ ك لفعلت أكثر، لاغتصبت كل نساء نيويورك، ولجعلت من نيويورك ماخورًا مفتوحًا للكازا نوسترا.
قال ثان أسود، وهو يبتسم ما وسعه الابتسام:
- ولكنه مريض، يا هذا، يهلوس بفرج المرأة ليل نهار، وهي مريضة أكثر منه، تلك القحبة، تظن أن رجلها مغارة علي بابا، ومع ذلك، بفضل رجلك سنقيم العدالة بين السود والبيض، كما تُغتصب نساؤنا تُغتصب نساؤكم.
قال ثالث أسود، وهو يدور حول نفسه بسرعة الضوء كمن يرقص الهيب هوب في الهواء:
- ولكنها مرغته في الوحل هو واسمه وشهرته وعائلته، في الوحل، هذا شيء لا يجوز، هذا شيء يلطخ أفريقيا، يلطخنا كلنا.
قال رابع أسمر، وهو يقهقه قهقهة الرابح لمليون دولار:
- يلطخ أم لا يلطخ، رب المال يتصور أنه سيفلت من كل عقاب.
عاد الأول يقول:
- رب المال يفلت من كل عقاب، وسترى، لن ينام أكثر من ليلة في ريكرز آيلاند.
عاد الثاني يقول:
- ستنفَقُ الأموال، الأموال الكثيرة، الملايين من الأموال.
عاد الثالث يقول:
- وهي لماذا فعلت ما فعلت تلك القحبة؟ من أجل أن تنفق الملايين من الأموال.
عاد الرابع يقول:
- كلها تمثيلية، تمثيلية تلفزيونية، تمثيلية تلفزيونية لتسليتنا.
سكت الكل على رئيس البلدية:
- د آ ك بفعلته هذه، بالطبع مع افتراض البراءة، أضاع فرصته التي لن تتكرر ثانية للذهاب إلى البيت الأبيض، أرقام التحقيق في الرأي العام في سقوط حر، 70 بالمائة أمس و25 بالمائة اليوم...
قاطعه الأشقر المتحمس لديدييه آبل-كاين:
- كذاب! كذاب! أكبر كذاب! آبل- كاين سيكون أعظم رئيس للولايات المتحدة، أيها المغفل!
- بفعلته هذه، تابع عمدة نيويورك، د آ ك حطم أسطورة البنك العالمي الذي أقيل من منصبه كرئيس مدير عام له، وأثبت أن الأزمة لا توجد في الرؤوس، وإنما في كل أنحاء العالم، ورئيسنا الحالي وحده القوي المهاب عالميًا المحنك محليًا الخبير القدير القادر على تسديد الديون إذا ما أعطاه الشعب الأمريكي الثقة لعهدة ثانية.
هذه المرة أثار رئيس بلدية نيويورك احتجاج كل من في البار، فراح كل منهم يشتم من طرف. جرعت كأسي، ورميت عددًا من الدولارات قبل أن آخذ طريقي إلى بيتي.

* * *

كانت مجموعة من الحراس وكلابهم على رأسهم الرقيب أول ماكنامارا يبحثون في ضباب الغروب عن خمسة من السجناء الفارين، عصابة الفهود السود، كما كانوا يطلقون على أنفسهم. والحقيقة أن الرقيب أول كانون جونيور هو من ساعدهم على الهرب، وهو من أرسل أحد أعوانه للإخبار عنهم. كان الكل يعلم في ريكرز آيلاند بالصراع الدائم بين الرقيبين أولين من أجل الهيمنة على نزلاء السجن الرهيب واستغلالهم، ولأن عصابة الفهود السود عرفت الكثير من ألاعيب الرقيب أول كانون جونيور، وأصبحت تشكل خطرًا عليه، فبرك عملية الفرار للتخلص من أفرادها، وعلى الخصوص من زعيمها الأسود المدعو بُواء، ذلك الثعبان الرهيب. كانت أسهل طريقة للخروج من الأبواب الحديدية المتعددة تعدد أبواب الجحيم الواحد بعد الآخر والتي تصل في عددها أحيانًا إلى العشرة، أن يتم هربهم في شاحنات الغسيل. طريقة سهلة إذا كانت محروسة من طرف أعوان الرقيب أول كانون جونيور. وكيلا يقع الفارون بأيدي حراس بوابة الجزيرة، كان على الفهود السود أن يتدبروا أمرهم، قبل وصول شاحنات الغسيل إلى البوابة، بتواطؤ السائقين طبعًا. وأن يتدبروا أمرهم يعني أن يقطعوا نهر الإيست ريفر عومًا حتى البرونكس، ومن جهةٍ لم تكن محاطةً ببرك التماسيح، أقربها كانت قرب بوابة الخروج. كانت العصابة تعلم بسوء نية الرقيب أول كانون جونيور، فهي لخبراتها الجرائمية تحدس هذا النوع من الوقيعة، لكنها كانت تراهن على عشر دقائق بين الانطلاق وبداية المطاردة تكون فيها قد اجتازت بسكاكينها النهر من إحدى برك التماسيح. نعم، من إحدى برك التماسيح، فالتماسيح أقل خطرًا من حراس ريكرز آيلاند الفظيعين، والمخاطرة بالحياة، بحياة أقرب إلى حياة المسخ من الحيوان في السجن الرهيب، لم تعد أمرًا بذي بال. ولكن ما لم يعلمه الفهود السود أن الرقيب أول ماكنامارا كان بانتظارهم قبل هذا الوقت بكثير، وأنه لن يكون هناك انطلاق، وأن المطاردة ستبدأ أول ما يطأون أرض الجزيرة بأقدامهم.
لم تمض أكثر من ساعة على المطاردة حتى تم للرقيب أول ماكنامارا القضاء على أعدائه، كانوا خمسة، الأول انقضّت عليه الكلاب الشرسة، ومزقته بأسنانها، والثاني خردقته رشاشات الحراس عدة مرات من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، والثالث الذي سقط بسكينه من شجرة على أحد الحراس وذبحه، ذبحوه كما ذبح زميلهم، والرابع حاصروه، ليجد نفسه مضطرًا إلى أن يرمي بنفسه بين أسنان التماسيح، فكان لها أمتع وليمة، والخامس، بُواء زعيمهم، تسلى الرقيب أول ماكنامارا بقتله تدريجيًا: هذه الرصاصة في كتفك اليمنى لأنك قذر، وهذه الرصاصة في كتفك اليسرى لأن أباك قذر، وهذه الرصاصة في ساقك اليمنى لأن أمك قذرة، وهذه الرصاصة في ساقك اليسرى لأن أختك قحبة، وهذه الرصاصة في قدمك اليمنى لأنك فضلت التعاون مع الرقيب أول كانون جونيور الذي باعك ببلاش، قذر مثلك ومثل أبيك وأمك وأختك، وهذه الرصاصة في قدمك اليسرى، لأني أطرب على صراخك القذر، ويدفعني صراخك القدر هذا أيها القذر إلى ارتكاب كل الموبقات، وهذه الرصاصة في مخك كي أبعث بك إلى الجحيم دون عودة، يا ابن القحبة! بصق عليه، وأخذ يضرب جثته بقدمه الضربات تلو الضربات، وهو يردد: بُواء! كان يسمي نفسه بُواء هذا القذر ابن القذر! عضني، يا ابن القحبة! هيا، عضني كما كنت تفعل في الماضي! عضني أيها الثعبان القذر! عضني! عضني! عضني! إلى أن فتك به التعب. جاء أعوانه، وضربوا الجثة بأقدامهم كما ضربها، في دمها، في بصاقها، في غائطها، وفي كل مرة كانوا يدفعونها قليلاً إلى أن وصلوا بها إلى أفواه التماسيح المفتوحة على سعتها، وألقوها بين أسنانها.
حقًا كان الرقيبان أولان من أشد الأعداء لبعضهما، لكن عندما يشعران بالخطر يهددهما كانا يتحالفان، ويغدو الواحد للآخر من أكثر الناس إخلاصًا.
- لقد خلصتك من بُواء، ذاك القذر ابن القذر، والآن يأتي دورك، قال الرقيب أول ماكنامارا للرقيب أول كانون جونيور.
- أنت أيضًا تغرق في الخراء؟
- إلى قمة رأسي.
- ولكنه مدللك، القرن الكبير.
- كما كان بُواء مدللك.
- ولكنه مجرم المجرمين، القرن الكبير.
- لديه نقطة ضعف يمكن التسلل منها.
- سأرى ما يمكنني فعله من أجلك.
- الحرب ما بيننا انتهت، رقيب أول كانون جونيور.
- أتظن ذلك، رقيب أول ماكنامارا؟ في هذا المعتقل الذي لا يمشي إلا بالحرب.
- الحرب ما بيننا انتهت، وما بيننا وبين غيرنا بدأت.
- هكذا أفهمك.
- وماذا تقول عن ذاك القذر الآخر ابن القذر؟
- القرن الكبير؟ لم يعد الأمر بذي بال طالما تركته يسقط.
في المساء نفسه، بعد تحقيق طال مع ديدييه آبل-كاين في مكاتب الإف بي آي، أحضروه إلى السجن الرهيب، فقال الرقيب أول كانون جونيور لا تحيز لأبناء المليارديرات المتبهرجين، وخاصة في تهمة اغتصاب أكساس واحتجاز منظفات خراء، ورمى بد آ ك في زنزانة القرن الكبير وعصابته.
استقبل أفراد العصابة السبعة د آ ك بلامبالاة، وباحتقارٍ كانوا يرمونه بنظراتهم. كان رئيسهم الأسود العملاق المدعو بالقرن الكبير ينشر قضيبًا من عشرات القضبان المزروعة في كوة الزنزانة على مرأى الحراس دون أدنى قلق، حتى أن بعضهم أطل من بين قضبان الباب الحديدي، وراحوا به ساخرين: كم سيحتاجك من الوقت لنشر كل هذا؟ إلى قرن من الزمان؟ كل هذا لتسليتك؟ قل إنك تتسلى! قل إن هذا يدغدغك! يدغدغك من بيضاتك الثقيلة! أو من كهفك المفغور ككهف أمك! انفجروا ضاحكين، وذهبوا، بينما استمر القرن الكبير في نشر القضيب عابسًا. كان د آ ك قد صعد على سريره، واستلقى في ثياب السجن. وبعد قليل، سمع القرن الكبير يقول لأحدهم أن يأخذ مكانه، ولم يتحرك أحد في الزنزانة. تلفت آبل-كاين من حوله، فعرف أنه المقصود.
- أنا؟
- أنت! وهل يوجد أحد غيرك في الزنزانة؟ كل هؤلاء نساء لا تُعتبر.
نظر د آ ك إلى نزلاء الزنزانة بسحنهم الإجرامية الخشنة، وتحرك ليأخذ مكان القرن الكبير. بدأ بنشر القضيب لكن المنشار سقط من يده، وجرحه جرحًا طفيفًا، فانفجر الموجودون في ضحكة واحدة، بينما بقي القرن الكبير عابسًا.
قال القرن الكبير، وهو يقبض على د آ ك من عنقه ويثنيه:
- امسك هكذا، وانشر هكذا، وكن رجلاً لا ابنًا للماما!
أطاع د آ ك، وبعد قليل من التعثر، راح المنشار يعمل بين أصابعه عمل قوس الكمان.
- أنتم تحذقون في كل شيء، يا أبناء الماما، حتى في قص القضيب الذي سأحشوه في قفاك!
جمدت أصابع د آ ك على سماعه لما قاله القرن الكبير، استرق النظر إليه، فوجد لا أكثر منه جدية. في قفاي! فكر ديدييه آبل-كاين مرتعبًا. وفجأة، رمى المنشار، وابتعد عن الطاقة، وهو يقول للقرن الكبير:
- أنت لست جادًا، وأنا يمكنني أن أنفعك، لدي من المال ما يجعلك تقضي الباقي من حياتك في نعيم الدنيا.
انفجر القرن الكبير مقهقهًا:
- الباقي من حياتي؟
وانفجر كل من هم في الزنزانة مقهقهين.
- أقضي الباقي من حياتي؟
وقهقه من جديد والكل في آنٍ معه.
- في نعيم الدنيا؟
وصلت قهقهات أفراد العصابة الأوج، فخنقها القرن الكبير بحركة جافة من يده، وقال لديدييه آبل-كاين عابسًا:
- نعيمي هنا وجحيمي هنا حتى آخر يوم من حياتي، يا ابن الماما!
تلعثم د آ ك:
- انتظر، يا رجل! سأفعل كل ما بوسعى من أجلك.
قهقه الأسود العملاق نصف قهقهة:
- افعل بالأحرى كل ما بوسعك من أجلك أنت، يا ابن الماما، فلن تخرج من هذا النعيم سالمًا.
عاد د آ ك بسرعة إلى أخذ مكانه على الطاقة، وراح يعزف على الكمان محاولاً أن يتجاهل كل ما يدور في رأس هذا المجرم.
- قالوا في التلفزيون إنك ملأت فمها بقذارتك، أُخَيتي الصغيرة، وكنت سريعًا وأهوج ككلِّ ابنٍ للماما. ربما كنت تفضل أن نعلمك أحسن الطرق، فنحن كثيرون، ويسعدنا أن نعلمك أحسن الطرق، حتى ابتلاع الجحيم والاختناق، حتى قيء الخراء الذي في أمعائك، أن نعلمك أحسن الطرق.
انكسر القضيب في يد د آ ك، فقهقه كل الموجودين.
- اختار القضيب عنك، يا ابن الماما!
نهض أربعة من أكثر الموجودين جرمًا ودمامة، وتقدموا من د آ ك ببطء، فقذف القضيب من كوة الزنزانة ليمنعه السياج من السقوط. جذبه المجرمون الأربعة، وجردوه من ثيابه، ود آ ك يصرخ مستنجدًا ولا أحد من الحراس يجيء لنجدته. قلبوه على بطنه، فتناول مخدة أخفى رأسه تحتها، بينما أخذ كل واحد من أفراد العصابة يقضي حاجته. كان ديدييه آبل-كاين في البداية يصرخ، وبعد ذلك أخذ يئن، ثم صمت تمامًا، وتركهم يعبثون بجسده كما طاب لهم. تمكن أحدهم من سحب القضيب بأصابع قدمه، وجاء به إلى القرن الكبير، فدفعه في د آ ك، بينما عاد إلى التفجر صياحًا والدم يتفجر منه أنهارًا، وعندما جاء الحراس، وجدوه غائبًا عن الوعي.
رموهم كلهم في زنازين ريكرز آيلاند التحت الأرضية، وأخذوا بهم ضربًا حتى أوصلوهم إلى حافة قبورهم، ثم بإشارة من رأس الرقيب أول كانون جونيور، تم قصم أعناقهم، كلهم، الواحد بعد الآخر، وأولهم القرن الكبير.
* * *

وضعتنا الليموزين، أنا وجين والآنسة ستيوارت، على باب محكمة نيويورك. وعلى باب محكمة نيويورك، كان العشرات بل المئات من الصحفيين وأجهزة التصوير والكاميرات التي لا تخفى عنها خافية. كانت جين ترتدي طقمًا أسود، وتخفي عينيها الحمراوين المنتفختين لكثرة ما بكت بنظارات سوداء، وفي الواقع لتخفي عارها، وبنا أحاط الحراس الخاصون كالدروع من كل جانب. ونحن نصعد درجات المحكمة، تحت صيحات معادية لنساء من كل لون يمثلن الجمعيات النسوية، التفتُّ إليهن، ووقفت وجهًا لوجه معهن، كما لو كنا طيورًا من نوعين مختلفين، ومن شدة الحنق رميت في وجوههن:
- د آ ك دومًا ما عامل المرأة كشريك وكنِدّ، وكل هذه القضية لأن هناك حسابات للمرأة دنيئة!
كان نصيبي كجواب أن رشقنني بالبندورة الفاسدة والبيض المَذِر، ولولا الدروع للوثني "قذف" النساء. عجلنا الدخول إلى قاعة المحكمة، كان ديدييه آبل-كاين هناك مع محاميه الأستاذ جوزيف ماكدويل، وكان هناك النائب العام ووكيلة النائب العام، وكان هناك الحضور، الذين بعضهم كان واقفًا. دلف القاضي إلى منصته، فأمرنا الحاجب بالنهوض، فنهضنا، ثم أمرنا بالجلوس، فجلسنا. وفي الحال، في نظام قضائي اتهامي، بدأ النائب العام يعدد الأعباء ضد د آ ك، واحدًا واحدًا: اغتصاب واعتداء واحتجاز و... و... و... وطلب في الأخير إعادة المتهم إلى ريكرز آيلاند على ذمة التحقيق. خلال كل ذلك، كنت أنظر إلى صديقي، فأرى أنه تغير بين يوم وليلة. بدا لي مريضًا، وقسمات وجهه التي عهدي بها متفجرة بالحياة والتحدي، بدت لي ميتة. كنت أخشى عليه من شحنة انفعالية، بمعنى ما تولده فكرة من ارتكاسات في المرء، فكرة سوداء جهنمية، فكرة من أفكار ريكرز آيلاند تغير الحياة. وردًا على النائب العام، قال الأستاذ جوزيف ماكدويل إن موكله لا يعترف بكل هذه التهم، وهو يرافع عنه بوصفه غير مذنب. أضاف أن موكله على استعداد لدفع كفالة بالمبلغ الذي يقرره السيد القاضي مقابل ألا يعود إلى ريكرز آيلاند.
- عشرة ملايين دولار! طن القاضي تحت صرخات الحضور المشدوهة.
ثم...
- صمت! صاح القاضي، وهو يضرب بقدومه الخشبي. القضية فاحشة العظمة، وأنا شخصيًا، طوال حياتي المهنية، لم أر مثلها اثنتين، ومن تدور حوله أعظم، إنه واحد من أعظم العظماء، من هنا تأتي ضخامة المبلغ، إلى جانب سحب كل جوازات سفر المتهم، الأمريكي، والإيطالي، والصيني، والفرنسي، والسعودي. أضف إلى ذلك، وضعه تحت الحراسة الأمنية والفيديوية ليل نهار، وعدم مغادرة شقته. سيبقى محتجزًا إلى أن يتم دفع الكفالة نقدًا. الجلسة القادمة خلال أسبوع لإتمام التحقيق. رفعت الجلسة.
وديدييه آبل-كاين يغادر قاعة المحكمة مع رجال الأمن والإف بي آي، ألقى علينا نظرة الخجول كما لو كان يريد أن يقول: حتى الآلهة يقومون بحماقات مثلي! بسم لجان بسمة خاطفة، بسمة ميتة، بسمة لميت. هذا الرجل العظيم الذي فضل فرج المرأة على البيت الأبيض، وضرب كل شيء عُرْضَ الحائط، شيء لا يفعله سوى مجنون أو إله. انفجرت جين باكية، فأخذتها الآنسة ستيوارت بين ذراعيها بعد أن سجلت كل شيء في مذكرتها، وخرجنا كما دخلنا تحت الصرخات العدائية للجمعيات النسوية والبندورة الفاسدة والبيض المَذِر. تركنا الصحافيين للأستاذ جوزيف ماكدويل، وما أن وجدنا أنفسنا في السيارة وحدنا، نحن الثلاثة، حتى رفعت جين نظارتها السوداء عن عينيها الحمراوين المنتفختين، وقالت لم يكن لزوجها البنك العالمي من أجل دفع الكفالة، كان الرئيس المدير العام، بمرتب أكثر من جيد هذا صحيح، لكن المليار اليومي لم يكن يضعه في جيبه، لهذا سوف تبيع بعض اللوحات أو ترهن الشقة، فهي مكتوبة باسمها.
- لن تبيعي أو ترهني أي شيء، سأتدبر الأمر، قلت.
أعادتنا الليموزين إلى الشارع 65، ومن هناك أخذت والآنسة ستيوارت سيارتي إلى الملاك الأصفر.
تفاجأنا بياما نصف عارية، وهي تدخن الغليون مع العود الأحمر في ثياب رأس التنين، وتشرب كحول الرز. قالت لنا بجلافة، أن لا مكان لنا هنا، فالعود الأحمر حل محل ديدييه آبل-كاين على رأس الثالوث.
- قل لهم، يا 489.
- كما قالت 438.
- وأموال د آ ك، أينها؟ سألت. يجب دفع الكفالة، عشرة ملايين دولار، لتجنب عودته إلى ريكرز آيلاند.
- فليعد إلى الشيطان، يبقى الأمر أمره!
وانفجرت تقهقه ورأس التنين الجديد، بينما هذا يردد بلكنته الصينية:
- فليعد إلى الشيطان! فليعد إلى الشيطان!
وكأني بمايا تقول: عندما يسقط الرأس نأتي بآخر بدله، ونتصرف بالجسد كما نشاء. حضرت ثلاث مدلكات شبه عاريات، وهن يضعن الأموال في صينية نحاسية، فشتمتهن ياما بالصينية، والآنسة ستيوارت تترجم لي، قالت لهن كل هذه الأموال لا تكفي، وعليهن أن يعملن على مضاعفتها ضعفين بل ثلاثة أربعة خمسة عشرة مائة ألف. ذهبنا أنا والآنسة ستيوارت من حيث ذهبن، فشاهدنا عناقات من جهنم بين الزبائن والمدلكات. كانت بعضهن يفعلن هذا، وهن يذرفن الدموع الحرى.
ومن الملاك الأصفر ذهبنا أنا والآنسة ستيوارت إلى الكلب اليقظ، كانت علبة الليل ملأى بمن هب ودب من المخمورين ولما يسقط الليل بعد. لم تشأ كلوديا استقبالنا، قالت عنها مشغولة، لكننا اقتحمنا المكتب عليها لنجدها تشرب وتنكح مع رؤساء المافيا الثلاثة، لاكي لوتشيانو جيل ثالث وفرانك كوستيللو جيل ثالث وجو أدونيس جيل ثالث. حدثناهم عن عشرة الملايين كفالة، فقالت كلوديا:
- دون دييغو ورط نفسه بنفسه، وأنا لست مسئولة عن شيء، لست مسئولة عن لا شيء، وعلبة الليل غدت تحت إمرة لوتشيانو جيل ثالث وكاستيللو جيل ثالث وأدونيس جيل ثالث.
- اشتريناها بعرق إليات نادلاتنا، قال أدونيس جيل ثالث، وانفجر ضاحكًا.
- قليل من الذوق، بصحبتنا عذراء، قال كاستيللو جيل ثالث، وهو يشير إلى الآنسة ستيوارت، وانفجر ضاحكًا.
- تعالي بين ذراعيّ، قال لوتشيانو جيل ثالث، وهو يجذب الآنسة ستيوارت، فضربته بحذائها على رأسه، وهو يقهقه.
- لا مكان لكما هنا! نبرت كلوديا، وصفقت مرتين، ليدخل الحراس المدججون بالسلاح، ويضعونا على الباب.
أجريت بعض اتصالات هاتفية بأصدقائي، وتدبرت أمري بحيث جمعت المبلغ المطلوب، وبعد ساعة كنت في مكاتب قاضي نيويورك، سلمتهم عشرة ملايين دولار عدًا ونقدًا، وأخذت بها وصلاً تمكنت بواسطته إخراج صديقي المحتجز.

* * *

الأسبوع السابق للجلسة الثانية في المحكمة كان لا يصدق مع كل هذه الكاميرات وكل أفراد الأمن هؤلاء، كاميرات في كل مكان، في كل مكان، وأفراد أمن في كل مكان، في كل مكان، حتى في الحمام، حتى في بيت الماء. لم يكن يمكننا فعل أي شيء بحرية، وكانت حياتنا الخاصة معتدى عليها. في أحد المساءات، تسللت إلى حجرة الآنسة ستيوارت، أخذتني بين ذراعيها تحت اللحاف، فإذا بحارسة تدخل علينا، وترفع الغطاء عنا. كيف ستكون لديك رغبة في شيء بعد ذلك؟ لم يكن يمكننا الحديث كما نريد، لم يكن يمكننا الحديث بلغة مشفرة، لم يكن يمكننا الحديث بالإشارة، لم يكن يمكننا الحديث بالكتابة. وعندما كانت الأفكار تفلت من رؤوسنا، كنا نقول ما نقول، ولا نهتم بالنتائج.
- ميراندا، هل حاولت اغتصابها، يا آبل-كاين؟
- لا، كل ما هنالك أنني أخذت منها قبلة.
- أنت متأكد، يا آبل-كاين؟
- لا أدري ما الذي دفعني إلى ذلك. كان الأمر طبيعيًا لدي، كنت أنام مع الأم، وأردت النوم مع الابنة.
- والبنت، ميراندا، ماذا كان رد فعلها؟
- البنت بنهديها العظيمين وإليتيها العُظميين لم تكن بنتًا، كانت بين ذراعيّ كبالغ، كامرأة بأتم معنى الكلمة، وكانت تريد مني أكثر من قبلة، كانت تريد مني أن أغتصبها بالفعل، لكني أبعدتها بلطف، وذهبت.
- أنا على أي حال سأدفع، عشرين، خمسين، مائة ألف، مائتين، نصف مليون، مليون، سأدفع. أمها عازمة على الذهاب إلى المحاكم.
- لا تدفع. أمها مجنونة، فقط لا غير. منذ خمس سنين لم تنطق بكلمة، واليوم، مع كل ما يجري اليوم وجدتها فرصة للاغتناء على ظهر فرج ابنتها الذي لم أمسسه أبدًا، بماذا أحلف لك؟ لا تدفع.
- بل سأدفع.
- قلت لك لا تدفع.
- القُبَل القديمة غالية جدًا، كما ترى، قبلة الخمس سنوات تصبح أغلى، كالنبيذ القديم، من قبلة ساعة أو يومين أو شهرين.
- لا تدفع. قلت لك لا تدفع.
- بل سأدفع.
كان ديدييه آبل-كاين يقضي نهاره نائمًا، يرمي رأسه فوق مسند الكنبة أو يدفنه بين يديه، تحت أعين الحراس والكاميرات، وينام. كان ينام طول الوقت، وكنت أراه يسمن بسرعة، ويكبر، فأقول لنفسي لقد تغير د آ ك، ارتكاسات ما يجري عليه عظيمة ورهيبة. كان يعرف نقطة ضعفه، ويتجاهلها، وكل أعدائه كانوا هناك، بانتظار أن تزل به القدم، لعجزهم أمام الجبل الذي لا تهزه الرياح، وكانوا من كل الأكوان، الكون السياسي، والكون المالي، والكون الجنسي، والكون المافيوي، والكون الشيطاني، والكون الغائطي، من كل الأكوان، من كل الأكوان، ولم يطل بهم الانتظار كثيرًا. لم يتآمروا عليه، وتآمروا كلهم عليه. نقطة ضعفه كانت مؤامرتهم عليه، كانت مؤامرته على نفسه، وبعد ذلك، ترك لهم نفسه كلها كمن يترك المرء جسده للطعنات، وتم كل شيء على حسابه. لم يعد هو، لم تعد طبائعه هي ذاتها، كانت على الخصوص فطرته الدافعة إياه إلى حب النساء قد زالت، قد ماتت. في الليل، حسب الحراس والكاميرات، كانت جين هي من تطلبه، من تنط عليه، وتمارس ما تمارس، وهو ساكن سكون الموتى، يفتح عينيه، وينظر في البهيم.
تابعنا على الشاشة الصغيرة كل وقائع جلسة غريمة د آ ك، قال لي صديقي كل هذا كذب، لأنها كانت راضية. وبالفعل، بعد عدة أيام، تسربت الأخبار من مكتب النائب العام عن تناقضات هذه السيدة في أقوالها وأفعالها، وبدأ الحديث عن تسجيل لمكالمة هاتفية بينها وبين عشيق لها تقول فيها إنها تعرف جيدًا ما تفعل. خلال ذلك، كانت التحريات سارية على قدم وساق بتكليف من محامي آبل-كاين الأستاذ جوزيف ماكدويل. ذهب رجال التحري حتى قريتها الإفريقية البعيدة، ونبشوا كل ماضيها، لم يكن كل ماضيها بريئًا. أنا لا أدين هذه المرأة، أدانها شرطها الإفريقي. وحتى من هذه الناحية، أنا لا أدينها. شرطها الأمريكي شيء آخر، شيء أقرب إلى الكابوس. بالنسبة لمنظفة فندق، شرطها الأمريكي كابوس، لا شيء غير كابوس. في أفريقيا يحزون النساء، ألا يكفي هذا ثمنًا لكل شيء؟ ألا يكفي هذا للمطالبة بأكبر ثمن "لغلطة صغيرة"؟ الكابوس الأمريكي هذا هو، غلطة صغيرة ذات أكثر ثمن. إنه أجمل كابوس. لامرأة إفريقية محزوزة إنه أروع كابوس، إنه الصراخ المبحوح لكل نسائنا. نساء لم يقطعهن مشرط وحشيّ. الصراخ المسعور في الفراش. الخدش البربري بأظافر مدللة. العض الهمجي بأسنان لا تحتاج إلى الذهاب عند طبيب الأسنان لبياضها الناصع. العض، فقط العض، وليكون الوجع أكثر ما يكون. العض من المهبل. فقط العض. لتقول نساؤنا لرجالهن أنتم تحسنون العض، وهذا هو كل شرطنا لنكون نساء غير إفريقيات، غير محزوزات.
توقعت أن تبدو على وجه صديقي بوادر الأمل والعودة إلى ما دأب عليه من فطرة، ما دأب عليه من فطرة في كل شيء، لكنه داوم على رمي رأسه فوق مسند الكنبة أو دفنه بين يديه، والذهاب غافيًا. لم يكن يهرب من الخطر، فكل الخطر تركه من ورائه. كان فقط يدفن رأسه بين يديه أو يرميه فوق مسند الكنبة، وكأنه يبحث عن شيء، وكأنه يتأهب لفعل شيء. كان يركض في رأسه، كما لو كان يريد التدرب على الركض من جديد، من أجل سباق قادم ليس فيه من الهرب شيء، ربما الهرب من حياته الماضية، علاقاته، ثقته الكبيرة بنفسه، أوهامه، أوهامه النسائية، أوهامه المالية، أوهامه الشيطانية، الخلاقة الهدامة في آن، أوهامه، على أن يُبقي بعضها كي يظل إنسانًا مثلنا، نحن الذين تطاردنا الأوهام منذ زمن آدم. كنت أراه يلهث، وهو يغلق عينيه، فأقول لنفسي إنه يركض كثيرًا في رأسه، فأتركه يفعل، ولا أوقظه. لكن ذلك لم يخفف من انطوائه على نفسه، بل على العكس. لم يكن يتكلم كثيرًا، ليس بسبب الكاميرات المزروعة في كل مكان، فلم يعد لديه ما يقوله، والحق يقال ماذا يقول وكل هذا الخراء الذي غدا شرط حياته. كان يركض في رأسه، يركض، يركض، ولا ينظر إلى الخلف، يركض، فقط يركض، بأقصى سرعة، ويأخذ باللهاث، وهو مغمض العينين، وأحيانًا بقول بضع كلمات ليست مفهومة.
ونحن نصعد درجات محكمة نيويورك بين الهتافات النسائية المعادية وتحت آلاف الفلاشات، التفت د آ ك إلى كل تلك النساء الشريرات، ورسم على شفتيه ابتسامة صغيرة، ابتسامة مهولة، جعلتهن كلهن يخرسن، ثم وضع يده في يد جين، ودخل المحكمة، ونحن، أنا والآنسة ستيوارت والحراس الخاصون وغير الخاصين، نتبع كلنا من ورائه. ابتسامة أقرب إلى ابتسامة الموناليزا، ابتسامة غريبة ليست لرجل ولا لامرأة، ابتسامة، فقط ابتسامة، لكنها مهولة.
اعترفت وكيلة النائب العام بعدم مصداقية أقوال الشاكية، وأبدى الأستاذ جوزيف ماكدويل عن رغبته في الكشف للقاضي عما يملكه من معلومات دامغة ليست في صالح الشاكية، فرفع القاضي الإقامة الجبرية عن آبل-كاين، تحت شرط أن يبلّغ مسبقًا عن مكان تواجده خارج المنزل. حدد موعد الجلسة القادمة بعد أسبوعين، فهمس ماكدويل في إذن موكله:
- فلتنم منذ الآن خالي البال، يا آبل-كاين، حتى أنك في المرة القادمة لست بحاجة إلى الحضور، سأتكفل دونك بكل شيء.
ومن المحكمة، ذهبنا مباشرة إلى أفخم مطاعم نيويورك، تماسيح ريكرز آيلاند، ووضعت في يد النادل البخشيش مثل كل مرة.
ونحن على باب تماسيح ريكرز آيلاند، تنفس د آ ك الصعداء، وقال:
- في عالم منحط، كي نعيد بناء كل شيء، علينا أن نهدم كل شيء، وأول ما نهدم المخابئ التي تغيب فيها الرؤوس عن الأبصار.




























القسم الثالث

تركنا الدولارات الملايين العشرة تحت تصرف ديدييه آبل-كاين، فقال لي أَدْخُلُ بها شريكًا معك في تجارة المطاط. لم يكتف بالبرازيل كمصدّر للخام، لأن معارفه تتعدى هذا البلد إلى كل أنحاء العالم. غدت القارات الثلاث أمريكا الجنوبية وآسيا وإفريقيا تصدر لنا المطاط سائلاً، ونحن في مصانعنا نجعل منه مادة لعمل كل شيء من المغيطة إلى عجلة الطائرة. احتكرنا السوق في أمريكا وأوروبا وكل العالم في أشهر قليلة، وأخذت ثروتنا بالتضخم. أخذت ثروتنا بالتضخم، بالتضخم. أحذت ثروتنا بالتضخم، بالتضخم، بالتضخم، ولم تعد كل المشاريع في العالم تكفي آبل-كاين. كان كل ذلك بقدر عقله الجبار، وكان أهم المشاريع قاطبة استخراج المطاط من النفط، فعلاقاته القديمة مع أساطين بلدان الخليج الفارسي كرسها كلها في سبيل ذلك، صنع المطاط من النفط. بتكلفة أقل، وسعر أكثر، فتضخمت ثروتنا على تضخمها. تضخمت. تضخمت. تضخمت. تضخمت ثروتنا أكثر فأكثر. كان يقول لي النفط روح حضارتنا، لهذا حضارتنا رائحتها كريهة كرائحة النفط. حضارة رائحتها كريهة، لأنها حضارة مصنوعة من هذه القذارة التي لا تقدّر بثمن والتي اسمها النفط، وأنت عليك أن تكون قذرًا مثلها وإلا ما كنت على قدر المسئولية التي تلقى على كتفيك. أن تكون قذرًا. عليك أن تكون قذرًا. في أحد النهارات، قال لي د آ ك تعال، سنقوم بزيارة للرئيس المدير العام للبنك العالمي الذي كان مساعدي وأقالني ليأخذ مكاني دون أي احترام لافتراض البراءة. ذهبنا مع د آ ك أنا والآنسة ستيوارت والأستاذ جوزيف ماكدويل وكل الحراس الخاصين بمن فيهم كارل الحارس الخاص لجين إلى ناطحة السحاب شارع ويليام ستريت، وصعدنا إلى الطابق السابع والعشرين الذي اخترقنا قاعته الكبرى تحت وطأة الصمت المتنامي، وكل هؤلاء الموظفين يقعون على آبل-كاين لأول مرة بعد قضية أقامت الدنيا ولم تقعدها حتى بعد الحكم بالبراءة شهورًا عدة فيما بعد. اقتحمنا مكتب السيدة ماكماهيليان، فأرادت التصدي لنا، لكن رجال د آ ك عقدوا فمها بمنديل تحت عيني ابنتها ميراندا التي راحت تنطنط، وتصفق. وعندما رموا الأم على مقعدها، وسقطت للدفعة القوية على الأرض، ضربتها الابنة بقدمها، وانضمت إلينا. دفع ديدييه آبل-كاين بقدمه باب الرئيس المدير العام الآخذ لمكانه والمحتل لمكتبه، ودخل عليه دخول الصاعقة، ونحن كلنا من ورائه.
ردد الرجل وهو يزلق في مقعده، ويدفن رأسه بين يديه:
- رويدًا آبل- كاين، رويدًا!
جذبه د آ ك من ربطة عنقه، وهدده:
- جئت فقط كي أقول لك إنني سأهدم هذا البنك على رأسك، وسأجعل منك شحاذًا في الوول ستريت.
نادى صديقي ميراندا كي تبصق عليه، فبصقت عليه، وهي تنطنط وتصفق. رماه بربطة عنقه، وأعطاه ظهره، ونحن فعلنا مثله. وبينما كنا نجتاز حجرة السيدة ماكماهليان من جديد، سمعنا صرخاتها المكتومة، ورأينا قدميها من تحت المكتب، وهي تضرب بهما، وميراندا عادت تنطنط وتصفق وتكركر. الشيء نفسه كان مع الموظفين، ضجة، فصمت بالتدريج، وصمت مطبق. انطبق باب المصعد علينا وميراندا معنا، وهبطنا إلى الطابق الأرضي، فالخارج، ومن هناك أخذنا طريقنا إلى الملاك الأصفر.
لم تكن ياما هناك، ولا رأس التنين الجديد. نزلنا إلى الطابق التحت الأرضي، فكانوا كلهم هناك، كل طبقات الثالوث كانت جالسة على الأرض هناك. وما أن رأوا آبل-كاين يدخل عليهم، حتى نهضوا كلهم، وانحنوا له طائعين، بمن فيهم العود الأحمر. انقض عليه رجال د آ ك، وهو يبرر ما فعله بالصينية. أدنوا فمه من نعل آبل-كاين، فمد لسانه، ولعقها. أشار د آ ك إلى اثنين من رجاله الصينيين، إلى اثنين 49، فعرفا في الحال ما عليهما أن يفعلا. جذبا العود الأحمر بعنف، وصعدا به لست أدري إلى أين.
أمر آبل-كاين ياما بالاقتراب:
- تعالي هنا، يا 438!
فتلعثمت:
- لا تلحق بي الأذى، يا 489.
- أريدك فقط أن تلبسي هذا الحذاء الحديدي كما كانت النساء يفعلن في الصين القديمة وذلك من أجل الاحتفاظ بقدمين صغيرتين جميلتين.
- ستلحق بي الأذى، يا 489.
- كل هذا فقط لجمال قدميك، يا 438.
- في عمري هذا ستلحق بي الأذى، يا 489.
- ولماذا لم تفكري في هذا من قبل، وأنا أكاد أموت بين قضبان ريكرز آيلاند، وأنا أعاني كل آلام البشر لا ككل البشر؟ لماذا لم تقولي سيُلحق بي الأذى لأني لم أعمل على الحيلولة دون أذاه، لماذا يا ياما؟
ركعت بين يديه، وراحت تقبله من قدميه، وهي تهمهم:
- لقد أخطأت، ولن أعود إلى ذلك أبدًا.
أشار د آ ك برأسه إلى مرافقيه غاضبًا، فرفعوها، وهي تصرخ، وزرعوا قدميها في الحذاء الحديدي الصغير والقدمان الكبيرتان تتكسران بعظمهما والدم يسيل كالنبع منهما. لم تحتمل الآنسة ستيوارت المشهد، ولا ميراندا التي خرجت بها. حملوا المعذبة إلى حجرة داخلية، وأقفلوا عليها بالمفتاح. كان حقد صديقي كبيرًا، هائلاً، لا يضاهيه حقد، حقد العظماء عندما يسقطون، ولا يجدون أحدًا إلى جانبهم. لم يكن حقد المتوعك، كان حقد المتعذب. أمس كان موضوعًا للتراجيديا، واليوم التراجيديا من صنعه. أعداؤه هم موضوعها. كل أعدائه واحدًا واحدًا، كلهم، كل واحد آتيه دوره. ليس الانتقام، التراجيديا. تحقيق ما يكمن لنا على بعد خطوات منا منذ مولدنا تحت شرط أن نرتكب خطأنا. لا، ليس الانتقام، فالطيور الخوافة تعرف كيف تنهي خوفها عندما يضطرها الأمر إلى ذلك، وليس تراجيديًا أن تصنع تراجيديات الآخرين في سبيل أن تحول دون تراجيدياها. ليس الانتقام، التراجيديا. جلسوا على الأرض كلهم، وراحوا يصغون.
قال مروحة الورق الأبيض:
- الأموال تضاعفت مع النظام الجديد، يا 489، بعد أن ضاعفنا الأسعار باتفاق مع كل صالونات التدليك في نيويورك، لكننا سنعود إلى ما عودتنا عليه في الماضي.
فاجأ د آ ك الجميع:
- ليستمر النظام الجديد، يا 415... والكل يطلق صيحة التعجب والاستغراب.
- نحن بحاجة إلى الكثير من الأموال، أوضح صديقي، هذا ما توجبه الظروف الجديدة، نحن بحاجة إلى الكثير الكثير من الأموال.
عادت ميراندا والآنسة ستيوارت، وراحتا تصغيان بانتباه. أضاف آبل-كاين:
- إذن لنترك العفة والطهارة جانبًا طالما يدر علينا هذا بالأرباح...
قاطعه مروحة الورق الأبيض:
- بالأرباح الطائلة.
- بالأرباح الطائلة. وسيكون الأمر ذاته في كل الفروع التي سنفتتحها إضافة إلى الفروع التي لنا في نيويورك وشتى المدن الأمريكية. والآن إليكم الثالوث الجديد: الطقوس والمجندون سيد البخور، 438، يحتفظ بمهماته...
نهض سيد البخور وهتف بالصينية ثم انحنى بين يدي د آ ك سمعًا وطاعة قبل أن يعود إلى مطرحه.
- المالية والإدارة مروحة الورق الأبيض، 415، يحتفظ بمهماته...
نهض مروحة الورق الأبيض وهتف بالصينية ثم انحنى بين يدي د آ ك سمعًا وطاعة قبل أن يعود إلى مطرحه.
- العلاقات والاتصالات صندل القش، 432، يحتفظ بمهماته...
نهض صندل القش وهتف بالصينية ثم انحنى بين يدي د آ ك سمعًا وطاعة قبل أن يعود إلى مطرحه.
- النظام والأمن العود الأحمر، 426، لا يبقى في مكانه، وسيحل محله...
أشار إلى حارس جين الخاص:
- كارل روجرز.
هب كل الصينيين واقفين احتجاجًا، فكارل روجرز ليس صينيًا، ليس كآبل-كاين عبقريًا، ولما صمتوا يأسًا، قال د آ ك لحارس زوجته الخاص، وأمارات عدم التوقع وعدم الفهم كثيرة على وجه هذا الأخير:
- أنت العود الأحمر، 426، يا كارل روجرز.
- لكني لا أعرف الصينية.
- سيكون لك مترجمك ريثما تتعلمها... أما نائبة رأس التنين، 489، والتي ستحل محل ياما، 438، فهي ميراندا ماكماهيليان.
لم يصح أحد من الصينيين الموجودين احتجاجًا، بل ابتسموا كلهم على صرخات ميراندا الفرحة وكركراتها.
- وسيكون للآنسة ميراندا مترجمها ريثما تتعلم الصينية.
أخذت ميراندا تقول أي شيء كان مقلدة الصينيين في كلامهم، فضحك الجميع.
غادرنا الملاك الأصفر، وكل الموجودين ينحنون لنا إكبارًا وإجلالاً، تركنا بالطبع ميراندا هناك، وهي تودعنا مع مرؤوسيها حتى الباب الخارجي.
في علبة الليل، الكلب اليقظ، تمت تصفية أعداء ديدييه آبل-كاين بسرعة، وبجرأة، وبحنكة من له باع طويل في صنع التراجيديا، منذ شكسبير، منذ راسين، منذ سوفوكل، منذ آلهة الإغريق الدمويين، من له من الإرث كل دم البشرية. بعد تحييد الحراس المافيويين في الممر، فاجأنا ثلاثي الشر، وهم يشربون، ويعربدون مع كلوديا. رأت المرأة د آ ك، وهو يخرج عليها كالجنيّ من قمقمه، فدقها الرعب، وسارعت بإلقاء نفسها من النافذة.
- سنشرب نخب أباطرة الكلب اليقظ، أيها السادة، هتف د آ ك، وهو يشير بيده إلى الأستاذ جوزيف ماكدويل.
أخرج المحامي زجاجة كحول من جيب سترته، وتقدم بها إلى آبل-كاين، ففهم رؤوس الشر كل شيء. حاول كل منهم إخراج سلاحه، لكن تحييدهم كان بسرعة، وبجرأة، وبحنكة من له باع طويل في صنع التراجيديا، في صنعها كما يجب، ليس بالدم فقط، بالخراء أيضًا، خراء أحمر، وخراء أصفر، وخراء أبيض، وخراء أسود، وخراء زهري، وخراء فستقي. تراجيديا الدم. تراجيديا الخراء. إن الأمر سيان. جلب ديدييه آبل-كاين ثلاث كؤوس من البوفيه، وسكب فيها السائل المميت. قدم الكؤوس للمجرمين المحكوم عليهم بالإعدام، ودون أن يضطرهم إلى ابتلاع ما فيها تحت تهديد السلاح، أفرغوها في حلوقهم، فتساقطوا بعد دقيقة واحدة الواحد تلو الآخر كالأجنحة التي لا حياة فيها. كان ذلك مصير الكواسر من الطيور، مصير تراجيدي، لكنه مصير عادي. لم يكن مصير العظيم مصيرهم، لم يكن المصير العظيم.

وبينما ينظف رجال د آ ك المكان منهم، توجه صديقي بالكلام إلى الآنسة ستيوارت قائلاً:
- آنسة ستيوارت، ابتداء من هذه اللحظة ستأخذين مكان كلوديا، وستُبقين على النظام الجديد، كحول، وكحول، وكحول... نريد الأموال الكثيرة، الأموال الكثيرة، الكثيرة، الأموال الكثيرة، الكثيرة، الكثيرة، وسيكون الأمر ذاته في كل الفروع التي سنفتتحها في نيويورك وشتى المدن الأمريكية.

* * *

ماما، من فضلك، يا ماما، كان د آ ك يقول لأمه كلما أراد أن يطلب منها شيئًا. من فضلك، يا ماما. لم يكن يحتاج إلى أن يأخذ إذنًا من أمه، ومع ذلك كان يقول لها، ماما، من فضلك، يا ماما. حل عن ظهري، يا حبيبي، كانت أمه تقول له. ماما، من فضلك، يا ماما. حل عن ظهري، قلت لك، حل عن ظهري، يا حبيبي. ماما، ماما. حل عن ظهري. حل عن ظهري. ماما، يا ماما، من فضلك، يا ماما. حل عن ظهري، يا حبيبي، حل عن ظهري، حل عن ظهري.
في ذلك المساء، والرقيب أول كانون جونيور يترك ريكرز آيلاند بسيارته، وكذلك يفعل الرقيب أول ماكنامارا، بحيث أخذ كل منهما الطريق التي من العادة أن يأخذها إلى مسكنه، رأى الرقيب أول كانون جونيور وجهًا جهنميًا ينبثق من الظلام فجأة، مما اضطره إلى الدعس على الفرامل والتوقف.
- ماذا تفعل هنا في قلب الطريق، أيها الأحمق؟ رمى الرقيب أول كانون جونيور، وهو ينزل من سيارته. ألا تخاف من أن تمزق جسدك عجلات سيارة سائقها لا يحسن القيادة؟
وإذا بكرة حديدية وزنها عشرة كيلوغرامًا تلطمه من خلف رأسه، وتفلقه فلقتين. نظر الأسودان العملاقان إلى الدماغ الرمادي اللون، وهو ينط، ويلغو، ويكشر، وفي الأخير، وهو يفتح فمه، ويقيء، ويتحشرج، ويقيء، ويقيء، ويتحشرج، ويقيء، ويقيء، ويقيء، ويتحشرج، ثم حملا الجسد، وألقيا به في حفرة مثل جرذ. استقلا سيارة الرقيب أول كانون جونيور، وغادرا المكان.
حل عن ظهري، قلت لك، حل عن ظهري، كانت أمه تصرخ في الأخير، وهي تستشيط غضبًا، حل عن ظهري، حل عن ظهري، هل تفهم؟ حل عن ظهري. ماما... حل عن ظهري، قلت لك، حل عن ظهري. من فض... حل عن ظهري، يا دين الرب، حل عن ظهري. من فض... يا دين الرب، يا دين الرب، حل عن ظهري، قلت لك، حل عن ظهري، حل عن ظهري. من فض... يا دين الرب، يا دين الرب، يا دين الرب، حل عن ظهري، حل عن ظهري، حل عن ظهري...
في الوقت نفسه، كانت سيارة سوداء فيها أربعة من البيض العمالقة، تسير على طول الإيست ريفر، وتجيء في أعقاب سيارة الرقيب أول ماكنامارا، ثم ما لبثت، في بخار النهر، تضرب سيارة الضابط المجرم، ضربات متتالية تزداد ضربة عن ضربة عنفًا، فأخذت سيارة الرقيب أول ماكنامارا تسير متعرجة، والرقيب أول ماكنامارا يكاد يفقد صوابه، وبضربة أخيرة، سقطت السيارة في النهر الرمادي، وأخذت تبقبق بصاحبها حتى ابتلعتها المياه.
من فض... حل عن ظهري، حل عن ظهري، حل عن ظهري. سأحل عن ظهرك إلى الأبد، هكذا كان د آ ك الصغير يقول لنفسه، إلى الأبد، سأحل عن ظهرك إلى الأبد. لكنه ظل متوقفًا عليها، على إذن منها، لم يكن يحتاج إلى أن يأخذ إذنًا منها، ومع ذلك لم يتوقف عن التوقف عليها، لهذا كانت كل علاقاته، النسائية وغير النسائية، بسببها، لأنها تريده أن يحل عن ظهرها، لهذا غدت علاقاته النسائية كل حياته، وغير النسائية إضافية، تبدو من الخارج كل حياته، بينما هي لا صلة لها بحياته في شيء.
سمعت لهثاته، فذهبت أجري لأرى ما به، فوجدته عاريًا، وهو يمارس الاستمناء، أردت الانسحاب، فاستوقفني، وهو يهمهم، ويحرك هاتفه المحمول في وجهي: أولاد القحبة، الفاسدون في ريكرز آيلاند، لقد جاءني خبر أجلهم على يديّ، ها أنت ترى إذن كيف أنجح في كل شيء دون أن آخذ منها إذنًا.
أخذ يقذف في يده، وهو يصرخ مناديًا أمه. كان يقول: ماما، أين أنت؟ كان يقذف، وهو يبكي، ويهمهم: ماما، لماذا تركتني وحدي؟ رفع أصابعه الملوثة بالمني إلى مستوى عينيه. كان يرتعش. لماذا مت؟ كان يهمهم. سحب من علبة الكلينيكس عدة مناديل، وراح يمسح يده بعصبية. أراني إياها قبل أن يلقيها، وقال: وكما ترى، هذه القذارة هي الإنسانية. منذ قليل كان يبكي، والآن راح يقهقه. هون عليك، د آ ك، رجوته، فنبر: أتظن أن الأمر يزعجني كثيرًا أن تكون أمي في جهنم الآن تنظر إلى ما أفعل، وهي عاجزة عن ألا تعطيني إذنًا لأقل فعل من أفعالي؟ سأصب لك كأسًا، قلت له. وأنا أصب الويسكي في كأسين، سمعته يقول: لقد أخذ مني أمي، القذر. زوج أمي، لقد أخذها مني، وأنا بالمقابل أخذت كل النساء. أعطيته قدح الويسكي، فجرع منه القليل، الكثير، حتى أفرغه. لغسل القذارة التي فينا، قال. صب لنفسه ما ملأ الكأس، وكشف لي لأول مرة: هل تعرف ماذا كنت أفعل، وأمي تصرخ مع زوجها من اللذة؟ كنت أدفن رأسي في المخدة. ثم كنت أسمع ضحكاتهما، فأرفع رأسي، وقد عاد لي بعض الاطمئنان. خلال الليل، كنت أتذكر ما كان قد قاله لي زوج أمي ساخرًا مني: عندما تكبر، لن تجد امرأة واحدة تحبك، فلا أنام طوال الليل، وأنا أفكر في قتله، لكني كنت لا أريد رؤية أمي تبكي، كانت دموع أمي أعظم مأساة بالنسبة لي. شرب كأسه الثالثة، وهمهم: ستكون مجنونًا تمامًا لو فكرت يومًا أنني نجحت في حياتي العملية من أجل أن تعجب النساء بي. همهمت بدوري: لكنك كرست عبقريتك، كل عبقريتك، من أجلهن، فانفجر يقهقه لست أدري مني أم منه. كان بطلاً من أبطال موليير أيضًا، أو متفرجًا على أبطاله، التراجيديا لما تغدو كوميديا.
وللذين يتكالبون على د آ ك سأقول لهم إنه مصنوع هكذا، شرطه صنعه هكذا، طفولته، نجمه، حياته. لست بحاجة إلى فرويد كي أقول كل هذا، وفي جميع الأحوال، د آ ك يحب النساء، سيحبهن دومًا، فاتركوه وشأنه. إنه إله. كل شيء مسموح للآلهة. ليس الأمر واحدًا إذا ما تعلق بشخص آخر، بشخص عادي، ليس نفس الإذن، ليس نفس اللغز.

* * *

ومضت الأيام، وأشغالنا الرئيسية الثلاثة، صناعة المطاط، الملاك الأصفر، الكلب اليقظ، تسير من حسن إلى أحسن. أضافت الآنسة ستيوارت لمساتها الخاصة على علبة الليل، وذلك بإضفاء زاوية كباريه ابتداء من منتصف الليل، وجعلت ميراندا في صالون التدليك جناحًا خاصًا بالمدلكات الأمريكيات، بينما راح ديدييه آبل-كاين بفضل الأستاذ جوزيف ماكدويل يقتني كل شركة أو مؤسسة أفلست أو مهددة بالإفلاس، ومن جديد ينفخ فيها روح الحياة. راحت الأموال تتساقط علينا كالمطر بغزارة، ولما كثرت جدًا قرر د آ ك إنشاء البنك العابر للقارات. كان شعاره: القروض بأقل الفوائد وأقصر الآجال والتوفير بأعلى الفوائد وأطول الآجال. لم نبدأ بعد، أو بالأحرى بدأنا على إنترنت، وإذا بالعالم أجمع يأتي إلينا من كل القارات، وإذا بالأموال تتكدس في خزائننا بعشرات عشرات الملايين بل بمئات مئاتها، وعما قريب بآلاف آلافها. استطاع آبل-كاين أن ينشل كل زبائن البنك العالمي، فأعلن هذا البنك إفلاسه. وفي الحال، احتللنا مكانه في ويليام ستريت، ويوم الافتتاح كان في القاعة الكبرى كل رجال الأعمال، كل أصحاب البنوك، كل رؤساء البنوك، كل الأثرياء في أمريكا والعالم، كل المحللين الاقتصاديين، كل المحللين السياسيين، وكان هناك كل أعضاء الثالوثات الصينية، وكل أساطين المافيات على شتى أنواعها، وفي مقدمتها المافيا الإيطالية، وكل زعماء السود، وكل زعماء اليهود، وكل زعماء العرب، وكل زعماء البورتوريكويين، وكل زعماء الحزب الديمقراطي، والبعض من زعماء الحزب الجمهوري، وكل زعماء... وكل زعماء... وكل زعماء... هل أقول كل زعيمات؟ كانت النساء في كل مكان هنا وهناك.
دخلت على آبل-كاين في مكتبه قبل خروجه إلى قوة رأس المال في العالم، وأنا أمرّ بمكتب الآنسة غرين، مديرة ديوانه الشابة الجديدة، بعد أن غرقت السيدة ماكماهيليان، أم ميراندا، في الكحول. لم تذهب الإف بي آي بدعواها ضد د آ ك حتى المحاكم من أجل قُبلة، وقُبلة كانت من خمس سنين، وألغت الدعوى دون أن أدفع سنتًا واحدًا.
قلت لصديقي:
- لاكي لوتشيانو جيل رابع وفرانك كوستيللو جيل رابع وجو أدونيس جيل رابع ينتظرون في الخارج ليرفعوا لك آيات الطاعة والولاء.
كان جوزيف ماكدويل عنده، وبعد أن تبادلا نظرة تعني الموافقة، أمرني بإدخالهم، فسارعت إلى إدخالهم أولاً في غرفة الآنسة غرين، ثم في مكتب معلم البنك العابر للقارات. ثلاثة من الشبان كانوا في كامل أناقتهم، أخذوا يسلمون على د آ ك، وهم يقبلون يده، ود آ ك يحيطهم بذراعي الأبوة، ويحييهم واحدًا واحدًا، يسأل عن صحتهم وأعمالهم، ويبدي لهم كل عطفه. لم يبقوا طويلاً لضيق وقت القوي، القوي جدًا، آبل-كاين. انحنوا بين يديه، وخرجوا، وأنا معهم احترامًا لاحترام آبل-كاين لهم، وهم في بالغ السعادة. عدت لأصحب الرئيس المدير العام صاحب البنك العابر للقارات مع الأستاذ جوزيف ماكدويل إلى القاعة الكبرى. ونحن على عتبة مكتبه، جاءت جين. لم تكن في أبهى حللها كما يستوجب الحفل، كانت أتعس مخلوقة على وجه الأرض. قبلت زوجها من خده، وهمست في أذنه كلمات لم أسمعها، لكني رأيت على شفتي صديقي ذات الابتسامة في ذلك اليوم، ونحن نصعد على درج محكمة نيويورك، ابتسامته للنساء التي شلتهن، ابتسامة مونوليزا أو ربما أجمل ابتسامة للشيطان، لست أدري. عرفت في الابتسامة مع ظرف اليوم ماذا يعني التربع على قمة المجد، فابتسمت بدوري، على الرغم من غمامة الدمع في عيني جان. كانت بسمتي العادية، بسمة كل يوم، ولكن في ذلك الظرف الاستثنائي كان لها طعم خاص. ونحن ندخل القاعة الكبرى مع آبل-كاين، أنا وجين والمحامي جوزيف ماكدويل والآنسة غرين ورجال الأمن والحرس الخاص، إذا ببنات ميراندا المصفوفات على المنصة يهتفن بصوت واحد: ديدييه آبل-كاين! ويأخذن هن وجموع الحاضرين الواقفين كلهم بالتصفيق الحار المتواصل، وفي المقدمة هناك كان لاكي لوتشيانو جيل رابع وفرانك كوستيللو جيل رابع وجو أدونيس جيل رابع. كان الكل يصفق، وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مثلثٍ صنعوه من أجسادهم إجلالاً وإكبارًا. التحقت ميراندا والآنسة ستيوارت بنا، بينما صعد د آ ك على المنصة، وأخذ الكلام:
- العالم كله هنا، أيتها السيدات والسادة! العالم كله نحن!
عاصفة من التصفيق، وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مُثَلَّثِهم الحيويّ أجلالاً وإكبارًا.
- في الماضي كنت أقول لا أزمة مالية إلا في الرؤوس، وفي الحاضر أقول أن لا أزمة في أي مكان لا على الأرض ولا في أي رأس من رؤوس البشر.
ومن جديد عاصفة من التصفيق، وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مثلثهم الحيوي أجلالاً وإكبارًا.
- الاستثمار في بلدنا وفي العالم نحن من ورائه، وبالتالي البطالة في تناقص، والأزمة، بالأحرى الأزمات، من مخلفات التاريخ...
بعض التصفيق هنا وهناك لكنه أكمل خطابه:
- النظام العالمي الجديد سيكون غيره، ومصالحنا ستكون أقوى وأوسع، والحريات في العالم سيكون الدولار في خدمتها، وليس العكس، أي كما كان متبعًا لغاية اليوم.
عاصفة أخرى وأخرى من التصفيق، وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مثلثهم الحيوي أجلالاً وإكبارًا، وبعض الهتافات هنا وهناك: آبل-كاين رئيسًا!
- أيتها السيدات... أيها السادة...
رحت أنظر إلى أقدام بنات الملاك الأصفر واحدة واحدة وأرى أن لكل منهن قدمين عاديتين إلا من واحدة قدميها صغيرتين بصغر قدمي طفلة، عندما رفعت رأسي، وجاءت عيناي في عيني الفتاة، وجدت ياما تنظر إليّ، وهي تقطر ابتسامًا.
- …الأيام القادمة ستكون أيامًا حاسمة أكثر لأمريكتنا الغالية على قلوبنا ولكل بلدان العالم، ونحن كما كنا دومًا سنكون إلى جانب كل من يطلب منا عونًا في كل مدينة وقرية من مدننا وقرانا على امتداد كل الولايات المتحدة، لن نخيب آمال شعبنا، ولن نخيب آمال شعوب العالم بنا... والآن إلى الرقص والشرب والاستمتاع بأجمل اللحظات.
عزفت الموسيقى تحت صيحة الكل: هورا! وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مثلثهم الحيوي أجلالاً وإكبارًا. دخلت بنات كباريه الكلب اليقظ، وهن يغنين، ويرقصن. اختلط الحابل بالنابل، ورقص الكل مع الكل ما عدا الأستاذ جوزيف ماكدويل الذي اعتلى مكانًا، ومن حوله أربعة من العمالقة البيض واثنان من العمالقة السود، راح يراقب منه الكل. رقص د آ ك مع جين، وهي دومًا تعيسة، جهمة الوجه، ورقصتُ مع الآنسة ستيوارت. قالت لي بحب وحنان: تعال بين ذراعيّ، أيها الأرمل التعس! وقبلتني من فمي. رأيت ميراندا تختطف آبل-كاين من بين ذراعي زوجه، وتذهب به بعيدًا عنها. بدت جين لي حائرة، ضائعة، لا تدري ما تفعل، إلا أنها لما وقعت على كارل روجرز، ذهبت تترامى بين ذراعيه.
وجد د آ ك نفسه وحيدًا مع ميراندا في مكتبه.
- هذه المرة، أنا من سيغتصبك، ألقت ميراندا مهددة قبل أن تنقض على ثغره، ذاهبة معه في قبلة كبيرة.
خلعت فستانها، خلعت بنطاله، رمته فوق ملفاته، وامتطته، وهي تهمهم:
- انتظرتُ هذه اللحظة خمس سنين، نعم انتظرتها، وها هي تتحقق اليوم.
لكن جان قطعت عليها رغبة غالية على قلبها، عندما دخلت مكتب زوجها، لتقف مكتوفة اليدين خلفهما. اضطرتهما إلى الاعتدال، و إلى ارتداء ثيابهما، وبسرعة، اتجهت ميراندا نحو الباب، ليتحاسب الزوجان.
- سأتركك، يا حبيبي، همهمت جان.
- ستتركينني، يا حبيبتي، همهم د آ ك.
- سأتركك.
- ستتركينني.
- أنت لا تتقن كره النساء، لهذا سأتركك.
- وأنت؟
- وأنا ماذا؟
- هناك التي أحبتني، وبعد ذلك كرهتني أشد كره، وهناك التي أحبتني، وتركتني، لكنها بقيت على حبي، وهناك التي لم تحبني ولم تكرهني.
- أعتقد أنني من هذا النوع الأخير.
- لم تحبيني ولم تكرهيني.
- لم أحبك ولم أكرهك.
- لهذا السبب.
- لهذا السبب.
- بعد كل تلك السنين التي قضيناها معًا.
- ولأني سأعطيك الحرية كاملة.
- كنت قد أعطيتني إياها كاملة، الحرية، كل تلك السنين التي قضيناها معًا.
- اليوم أعطيك إياها للمرة الثانية.
- وكارل، عشيقك؟
- كان حارسي الخاص، ولم يكن عشيقي. كان يحصل أن أرغمه على فعل ما لم يكن من اختصاصه، المسكين، بسببك. إنه كسائر الرجال، المرأة لا تهمهم، ما يهمهم الشيء الذي بين فخذيها.
- لكني كافأته على ذلك، وجعلت منه عودًا أحمر. عندما أكون مع واحدة أخرى، كان يؤدي لي خدمة كبيرة، بشكل من الأشكال.
- الوداع، يا حبيبي.
- انتظري، جان.
أمسكها من ذراعها، وضمها بقوة. أوجعها، وهو يضمها بقوة. رمى رأسه على كتفها، وبكى. سمعته يهمهم "ماما، من فضلك، يا ماما". أبعدته عنها، كان يبكي، كان يذرف دمعه بغزارة. طبعت قبلة على خده، أعطته ظهرها، وسارت نحو الباب. فتحته، فعلا ضجيج المحتفلين بالمجد، وبكل هدوء، أغلقته من ورائها.

* * *

خرج ديدييه آبل-كاين من مقر البورصة في الوول ستريت محاطًا برجاله، كان النهار مشمسًا، شمس خضراء بلون الدولار كانت هناك، وكانت هناك رائحة زكية للنقود، كرائحة الدم طلية. وقبل أن يركب د آ ك الليموزين، لاحظ شحاذًا هناك عرف فيه نائبه القديم والرئيس المدير العام للبنك العالمي الذي أقاله وأخذ مكانه. زلقت به سيارته، وموكب رجاله من ورائه، ومن أمامه، ثم توقفت قرب الرجل المخلوع. نزل الزجاج الأوتوماتيكي على د آ ك، وهو يمد قطعة فضية للشحاذ الذي جاء يجري، وهو يشكر، ويشكر: شكرًا، يا سيد آبل-كاين! شكرًا، يا سيد أبل-كاين! وفي اللحظة ذاتها، انطلقت رصاصة كانت موجهة للزعيم المالي الكوني أودت بحياة الشحاذ. ركض رجال الشرطة باتجاه الرجل الذي أطلق الرصاصة وهرب، وهم يصفرون، بينما سارع موكب آبل-كاين أسرع ما يقدر عليه من الإسراع إلى مغادرة وول ستريت نحو ويليام ستريت، مقر البنك العابر للقارات.
تم القبض على رجل الرصاصة بعد مطاردة دامت أكثر من ساعة في الأزقة المجاورة للوول ستريت، وكاد زلمة محاولة القتل يُسحق، تحت عجلات السيارات، أكثر من مرة. لم يتم القبض عليه لجدار في طريق مسدود، ولا على سطح إحدى البنايات، أو لأن سيارة للشرطة اعترضت طريقه. بعد أكثر من ساعة طويلة من المطاردة المستميتة قرر الرجل فجأة تسليم نفسه. توقف فجأة، واستدار، وهو يرفع يديه لاهثًا إلى أعلى، فسقط عليه رجال الشرطة، وراحوا به ضربًا وشتمًا، ضربًا وشتمًا، ضربًا وشتمًا، بغل الآلهة الأشرار. والأكثر من هذا أنه اعترف لمفوض الشرطة بكل شيء وبكل بساطة، قال إن رئيس البلدية هو من كلفه بالقتل. كل هذه السهولة في القبض عليه والاعتراف حيرت المحققين، لم تكن لديهم أية بينة ضده، وكان من الممكن، والحال هذه، أن توجه التهمة إلى أي شخص كان، إلى رئيس بلدية نيويورك كما إلى رئيس الولايات المتحدة. عذبوه، فكرر ما قال. سألوه إذا كان رئيس البلدية هو بنفسه من طوَّعه، أجاب هو بنفسه. هل كان أحد معكما؟ قال لا أحد. هل دفع لك؟ قال لم يدفع. ولماذا آبل-كاين؟ قال لم يقل لي. أما عن القتيل، فلم يكن ذنبه، ذاك الشحاذ هو من وضع نفسه بين المسدس وآبل-كاين. قتل خطأ. خطأ إجرامي تافه. أراد القاتل أن يفعل شيئًا، ففعل شيئًا آخر. كل هذا فبركة من مضطرب في عقله. في آخر المطاف، طلبوا له واحد همبرغر مع كأس كوكا كبيرة، وأطلقوا سراحه.
لم يرق ذلك لآبل-كاين، كنا ثلاثتنا في مكتبه، أنا وآبل-كاين والمحامي جوزيف ماكدويل.
- آنسة غرين، اطلبي من ابن القحبة، مفوض شرطة الوول ستريت، أن يحضر في الحال، قال د آ ك على الهاتف لمديرة ديوانه.
- محاولة الاغتيال من ورائها الكل، ديدييه، قلت لصديقي. لهذا السبب، تم الاتصال بهذا المجرم بشكل فردي جدًا ومحدود جدًا وعالٍ جدًا.
- لن يصدق أحد أنه رئيس البلدية، قال الأستاذ ماكدويل. لهذا السبب، اعتبروا الاعتداء كفبركة من مريض وبما أن القتل لم يحصل. صحيح وقع شخص آخر كضحية هو في عُرف القانون من أوقع في الفخ نفسه، فأطلقوا سراحه.
- لم يكن من اللازم إطلاق سراحه، قال د آ ك بعصبية، كانت هناك محاولة اغتيال. وإذا ما كان المحاول قد فعل بإرادة منه دون أن يطلب منه أحد؟ هذا المجرم يجب إيقافه، وزجه في السجن، ومحاكمته. أنا، أبناء القحبة، أرسلوني إلى ريكرز آيلاند من أجل نصفِ قدحِ مَنْيٍ في فم تلك القحبة، أسقيتها إياه بمحض إرادتها، وابتلعته كله لزكاوته، أرسلوني، أبناء القحبة إلى جهنم، وهذا الوغد يطلقون سراحه، لأنهم اعتبروا الاعتداء كفبركة من مريض. لا، يا ماكدويل، أنت تخيب أملي، تخيب أملي كثيرًا.
- إذن ارفع شكوى، وابن القحبة هذا سيُرمى في الريكرز آيلاند في الحال، قال المحامي الشخصي لآبل-كاين.
- لن أرفع شكوى، رد د آ ك، اليوم إذا آذاني أحد أنا من يحكم وأنا من ينفذ، هكذا أنا اليوم بعد أن يئست منهم كلهم، أبناء القحبة، ومن نظامهم.
- ماذا تريدني أن أفعل؟ طلبتُ من صديقي، هل أذهب إلى رئيس البلدية، وأتفاهم معه على طريقتي؟
- لا، ليس أنت، لأنك أنت ستأخذ مكانه.
- ماذا؟! د آ ك ماذا تقول؟ أنا عمدة نيويورك؟ هذا آخر ما يخطر على بالي.
- ستأخذ مكان ابن القحبة هذا، وقصتي معه ومع غيره لن تكون طويلة.
- ومع غيره؟ سألت.
- إذا تعلق الأمر برئيس البلدية ابحث عمن يختبئ خلفه.
- تقصد البيت الأبيض؟ سأل الأستاذ ماكدويل.
- التحقيق في الرأي العام عاد ليكون في صالحي كما كان قبل ريكرز آيلاند، مما يزعجهم، يزعجهم كثيرًا، هم وكل حزب الخراء حزبهم، أريد القول كل المافيا التي تحكم اليوم.
دخلت الآنسة غرين بعد أن طرقت الباب:
- السيد مفوض الشرطة هنا.
- دعيه يدخل ابن القحبة!
وشبك قدميه على مكتبه.
دخل مفوض الشرطة، وهو يحيي مرتبكًا، وتقدم ليسلم على د آ ك، فرفع له قدمه التي شد عليها.
- بحرارة، أمره آبل-كاين.
فشد عليها بحرارة.
- تطلق سراح مجرم حاول اغتيالي، يا ابن القحبة!
- دعني أشرح لك، يا سيد آبل-كاين.
- أنا في حِلّ من شرحك، الآن تعيد القبض عليه، وترميه في ريكرز آيلاند، والأستاذ ماكدويل سيوافيك بالشكوى... بره!
وخرج مفوض الشرطة كما دخل مرتبكًا.
- لن تذهب أنت للقاء ابن القحبة الآخر، رئيس البلدية، يا غريغوري، ستبقى أنت بعيدًا، لا أريد أية شبهة تدور حولك. سيذهب ماكدويل، فهو محاميّ، وسيطلب منه الاستقالة وكل فريق الخراء المنتخب بالرشوة تاعه، لتكون انتخابات جديدة ستخوضها، وستكسبها.

* * *

بدا رئيس البلدية صلفًا وعنيفًا أمام هدوء جوزيف ماكدويل ودماثته:
- لن أستقيل! من قال لك إنني أنوى على الاستقالة؟ سأذهب بعهدتي حتى نهايتها، وأعلمك أنني مزمع التقدم لعهدة جديدة، كل نيويورك تحبني. ألغيت الباركمتر من كل شوارعها، والسكان هذا كل ما يريدون، إلى جانب أنني ضاعفت الأسرّة للذين لا سكن ثابت لهم، وشوربة الخراء للذين لا يأكلون سوى وجبة واحدة في اليوم. قل لصديقك شوربة الخراء هذه للجوعى خير ألف مرة من كل الأموال التي يكدسها في خزائنه ولا تنفع شيئًا. 75 بالمائة من الرأي العام في صالحه! هل رأيت إلى أية درجة يصل الخداع؟
همهم محامي د آ ك:
- وليس أنت فقط، بل وكل الفريق الذي معك المنتخب بالرشوة عليه الاستقالة.
فقد العمدة أعصابه:
- بل وكل الفريق الذي مع... أطلب منك، يا أستاذ ماكدويل، الخروج من مكتبي حالاً.
رفع المحامي هاتفه المحمول، وهمس بكل هدوء:
- هلا أتيتم؟
جن جنون رئيس البلدية، فراح يضرب على الأزرار، لكن الرجال البيض العمالقة الأربعة والرجلان الأسودان العملاقان كانوا قد دخلوا قبل ذلك بكثير، وأقفلوا الباب بالمفتاح. أمسكه العملاقان الأسودان من ذراعيه، وفرشا يديه على المكتب تحت تهديد كاتم الصوت.
- هل ستستقيل، يا سيد رئيس البلدية؟
- أبدًا.
أطلق أحد العملاقين النار على ظاهر يده اليمنى، فراح يصرخ:
- سأستقيل.
- أنت وكل الفريق الذي معك المنتخب بالرشوة والمتواطئ في محاولة قتل السيد آبل-كاين.
- أبدًا.
أطلق العملاق الآخر النار على ظاهر يده اليسرى، فراح يصرخ:
- أنا وكله، وكله.
تقدم المحامي ماكدويل منه بكل هدوء، وطبطب على خده:
- ها أنت تغدو عاقلاً. سأجلس أمام الشاشة الصغيرة، وبعد ساعة تكون الاستقالة. أشار إلى اليدين الغارقتين في الدم المسببتين لألم مبرح، ووضع إصبعًا على فمه:
- شوووووووووت، ولا كلمة واحدة، وإلا... أنت تعرف كل القصة.
بعد ساعة من ذلك، كنا ثلاثتنا، أنا وجوزيف ماكدويل وآبل-كاين، نجلس من حول كمبيوتر هذا الأخير الموضوع على مكتبه، والآنسة غرين تصب لنا السكوتش، وتشعل لنا السيجار، بانتظار نشرة الأخبار، وفلاش من وقت إلى آخر يقول: تصريح هام من رئيس البلدية إلى كافة سكان نيويورك. وقفت الآنسة غرين إلى جانب د آ ك ليلفها بذراعه، وسمعناه يهمهم على حين غرة: ماما، من فضلك، يا ماما. راح يرفع تنورتها إلى أن وصل إليتيها. من فضلك، من فضلك. داعبها منهما. بدا أنه لا يريد أكثر من أن يداعبها منهما. ماما، من فضلك، يا ماما. كان يتركها أحيانًا، فترفع يده، وتجعله يداعبها منهما. من فضلك، من فضلك. القحبة، نبر آبل-كاين فجأة، فارتعدت فرائص الفتاة، وأرادت الابتعاد، لكنه جذبها. أمي، همهم د آ ك. عاملتني ككلب. أدار الآنسة غرين، وطبع قبلة على بطنها، فجلست في حضنه، وجعلته يكشف عن ثدييها. أمي عاملتني ككلب، وزوجتي قاءتني، قاءتني كقذارة، كل النساء اللاتي عرفتهن قئنني كقذارة، كقيح، كغائط، قئنني كغائط، احتقرنني كغائط، كبول، كبول كلب. طنت مقدمة نشرة الأخبار، وظهر وجه رئيس البلدية الدميم، فقهقه آبل-كاين، وهو يشير إليه. وقهقه أكثر عندما ظهر كله، ورأينا يديه المضمدتين. بدأ عمدة نيويورك يجيب على أسئلة المذيعة، وآبل-كاين يهمهم: كقذارة، كقيح، كغائط، بينما الآنسة غرين تعضعض حلمتيه، تدفن رأسها بين ساقيه، ورئيس بلدية نيويورك يواصل ثرثرته. متى سيقولها، ابن القحبة؟ القحبة، ليست أمي فقط، بل كل البشرية. رفعها من رأسها، وراح يجعل أصابعه في فمها، ويبحث عن لسانها. ماما، كس أمك، يا ماما. أخذ حنكها بعنف، ونبر: سأنيكك! سأنقب قفاك! سأفجرك من جواك! سأجعل منك وليمة للذئاب! وبكلمات حزينة، أعلن عمدة نيويورك استقالته وكل أعضاء المجلس البلدي معه. تناول د آ ك دبوسًا من علبة على مكتبه، وزرعه في لسان الآنسة غرين، وهذه تبذل أقصى جهدها لئلا تصرخ، ودبوسين آخرين زرعهما في حلمتيها، وهذه المرة لم تستطع تمالك نفسها. لعقها، ليخفف من ألمها. جعلها تستلقي على مكتبه، وزرع دبوسًا في بظرها، وهي تصرخ أشد ما يكون. اخترقها في دمها، وهو يهمهم كمن فقد رشده: سأفجرك من جواك، يا ماما، من جواك، من جواك، من جواك.

* * *

"انتخبوا غريغوري رامزي رئيسًا لبلدية نيويورك".
كانت الإعلانات مع صورتي، وأنا أبتسم ابتسامة واسعة، تملأ كل جدران نيويورك، كنت أتقدم بالطبع تحت راية الحزب الديمقراطي، الحزب الذي كان في المعارضة. لم توفرني قنوات التلفزيون، كانت لدي مقابلات يومية، ولم ترحني وسائل الإعلام الأخرى، خاصة الجرائد المجانية، أكثر ما يُقرأ في أروقة وعربات المترو. ما هو برنامجك، يا سيد رامزي؟ عكس كل برنامج رئيس البلدية المستقيل. ماذا ستفعل لنيويورك، يا سيد رامزي؟ عكس كل ما فعله رئيس البلدية المستقيل. عكس كل كل ما فعله رئيس البلدية المستقيل، يا سيد رامزي؟ عكس كل كل ما فعله رئيس البلدية المستقيل. الباركمتر، يا سيد رامزي؟ صاحب السيارة لا يضره أن يدفع بعض السنتات، بنقود الباركمتر سنحقق الكثير من المشاريع. الأسرّة للذين لا سكن ثابت لهم، يا سيد رامزي؟ سنعطيهم سكنًا ثابتًا. الشوربة، يا سيد رامزي؟ شوربة الخراء تريد القول، سنخصص للمحتاجين المعونات اللازمة. أضف إلى ذلك، سنستثمر، وسنخلق الأعمال. نيويورك تحت عهدتي لن تكون نيويورك، ستكون شيئًا آخر، أعظم وأغنى وأجمل... ولكن كان الأهم من كل هذا لقاءاتي مع الأساطين والزعماء من كله وكلهم، كل الأساطين والزعماء، لقاءاتي معهم في أي وقت من النهار كالليل. في النهار، خاصة في الملاك الأصفر، وكل ما هو متوقع في هذا المكان، وفي الليل، في الكلب اليقظ، حول طاولات المتعة، وأمام راقصات الكباريه ابتداء من منتصف الليل. في الملاك الأصفر، كانت تأخذني ميراندا بين ذراعيها مهدهدة إياي كطفل من كثرة التعب، وفي المساء، كانت تضمني الآنسة ستيوارت برقة، وتقول لي: أنت تهلك نفسك، يا حبيبي! كل بلدية الخراء هذه لا تعادل ذرة واحدة من صحتك! وعندما يكون د آ ك هناك، كان يزجرها، ويقول لها: أنت تفسدينه! ما أدراك أنت بلدية خراء أم غيره؟ عليه أن يصبح ملكًا لنيويورك! إنه يكرهني، كانت الآنسة ستيوارت تقول لي. يكرهك، وأنت المرأة؟ كنت أقول للآنسة ستيوارت ساخرًا. إنه يكرهني، إنه يكرهني. إنه لا يكرهك، إذا كان لا يحسن الحب، فهو لن يحسن الكره. الكره لديه شيء آخر، الكره لديه حقد. حقد ميتافيزيقي. لن يصل معك إلى حد هذا الحقد، حقد ما فوق قدرات البشر. شدد د آ ك عليّ الحراسة، جاءني بالعمالقة البيض، لئلا يقع المحظور، ويغتالوني. كان يقول لي إياك والثقة حتى بظلك! وقبل الانتخابات بثلاثة أيام أمر كارل روجرز، رأس التنين، بفتح الملاك الأصفر وكل الصالونات النيويوركية الأخرى مجانًا لكل من يريد مقابل إعطائي صوته، وكذلك فعل بالكلب اليقظ وكل فروعه، المتعة مجانًا، كان الشعار على كل الشبكات الاجتماعية. مجانًا؟ ليس تمامًا، ففي المقابل أنا، وصوت الناخب. قبل يوم من الانتخابات، جاءت جان. قالت لي إنها تطل عليّ بوصفها صديقة قديمة. لم أسألها عن أحوالها بعد انفصالهما، هي ود آ ك، كانت لها طلعة بهية، فقلت لنفسي أحوالها لا بأس بها. اعتزلت مع الآنسة ستيوارت في زاوية، وراحتا تتحادثان كما لو كانتا طائرين من طيور المسيسبي. كان د آ ك محور حديثهما. لم أحب آبل-كاين يومًا، قالت جان. أنا لم يحبني أبل-كاين يومًا، قالت الآنسة ستيوارت، نعم على عكس كل ما يقال عنه، ربما لأنني لست من نوع المرأة التي يفضل. ليس لديه نوع محدد، قالت جان، إنه يحب كل النساء، سوداء بيضاء، جميلة دميمة، قصيرة طويلة، خادمة أميرة، عاهرة محجبة، صنديدة عاجزة، كل النساء، كل النساء. إذن، قالت الآنسة ستيوارت، لأني أخرج مع صديقه. غريغوري؟ هذا عنده سواء، صداقة أم غيره، كله سواء. إذن لماذا؟ وأخذت تبكي، أنا لست امرأة إذن. ماذا هنالك؟ صحت بهما. لا شيء، ردت جان، شغل نسوان. عندما تبكي امرأة أو تضحك وتقول لك "شغل نسوان" هذا يعني شغل د آ ك. يوم الانتخابات، كان غزوًا مفتوحًا لناخبي الجمهوريين، غلافات الرشاوي كانت توزع على رؤوس الأشهاد. أنفق د آ ك عشرات الملايين من الدولارات بل مئاتها، فجاءني خصمي الرئيسي، جون بلايموث، محتجًا. افعل كما أفعل إذا كان باستطاعتك، قلت له.
بقينا ليلة الفرز ننتظر النتائج النهائية حتى الصباح، كانت كل وسائل الإعلام قد أعطتني الفوز الساحق مسبقًا، لكننا انتظرنا عد كل الأصوات. لم يفارقني آبل-كاين قيد أنملة، كان يقف إلى جانبي طوال الوقت، وينتظر دون صبر النتائج الرسمية، وكأنه هو المرشح لهذا المنصب. همست في أذنه على حين غرة: عما قريب سيكون دورك، وستُنتخب رئيسًا للولايات المتحدة. كنت أظنني سأسعده، لكنه تجهم، وراح يجمجم شاتمني وشاتم الولايات المتحدة ورئيس الولايات المتحدة. رأيت الشرر يتطاير من عينيه، فخلته يريد ضربي بقدمه كمن يضرب أسدًا ضربة قاتلة. أذهلني، وهو يغادر المكان قبل الإعلان عن النتائج النهائية بعدة دقائق. ناديته، طلبت منه أن يعود، لكنه غادر مع حراسه، وهو يدفع العملاقين الأسودين دفعًا من أمامه، كان يشتمهما، ويشتم العالم، كما وترك الأستاذ جوزيف ماكدويل المكان.
أطلقنا صيحات الفرح حال الإعلان عني رئيسًا لبلدية نيويورك، قبلتني الآنسة ستيوارت من فمي قبلة طويلة على تصفيق الحاضرين المتزايد مع تزايد القبلة إلى أن قطعوها بانتزاعي من الذراعين الحبيبتين. وجدت نفسي أُرفع على الأكتاف، وإلى السيارات ذهبنا، ركبناها، ورحنا في الصباح الباكر نطرق باب البلدية. كان البواب العجوز الأسود نائمًا، فأيقظناه. فتح الباب لرئيس البلدية الجديد، وهو يشتم غير راض كما شتم د آ ك منذ قليل. اخترقنا غرفة رئيس البلدية، وشربنا كل ما في الخزانة المزججة من كحول، ونحن نرقص، ونغني، ونتعانق. جعلوني أبول على مكتب رئيس البلدية السابق، وبلنا كلنا عليه، حتى البنات بلن عليه، ثم تفرقنا في المكاتب والقاعات، وتضاجعنا قبل أن نذهب كالخرق إلى بلد النعاس.

* * *

كانت الزيارة الأولى لي من طرف ديدييه آبل-كاين بوصفي رئيسًا لبلدية نيويورك، ترك رجاله في الخارج، وأخذني بين ذراعيه مهنئًا. جلس على كرسيّ، وشبك قدميه على مكتبي واضعًا حذاءه في وجهي.
قال لي:
- أنت ملك نيويورك الآن!
ضحكت، وقلت:
- لقد ورطتني، يا آبل-كاين.
- لكنك لا تلبث أن تعتاد على ذلك.
- سأعتاد على ذلك، أعرف، وهذا ما يزعجني، أن أعتاد على ذلك، فهل سأكون قادرًا؟
- تأتي المهارة بالمِران! معظم الأعضاء الجدد هم لك، وعليك واجب ألا تجعلهم يعتادون على أي شيء، شغّلهم، واحرث على ظهورهم.
- أعرف، لكن الأمور لن تكون على مثل هذه البساطة، بلدية نيويورك بلا ميزانية تقريبًا، اللصوص سرقوها، وما سيدخل من الباركمتر من أموال لا تكفي لشوربة الخراء، فكيف للمعونات الاجتماعية، كيف لبناء شقق لمن لا سكن ثابت لهم. الضريبة السكنية تكفي بِشِقِّ الأنفس لتنظيف المدينة، والمشاريع التي لنا لا تدر علينا بما هو كاف، أما التي لغيرنا من مقاولين، فالعمولة التي تعود علينا منها تبقى محدودة.
- أفهم من كلامك أنك تريدني أن أفتح خزائني أكثر مما أنا فاتح.
- يجب ذلك، وستكون لك الفائدة فائدتين، ولا تنس أنني لست واحدًا من برة.
- أنا لا أنسى.
ونهض، احتضنني من جديد، فسألته:
- هذا المساء، ماذا لديك؟
- ككل مساء.
- أنا وماكدويل سنحتفل بفوزي معك على طريقتنا.
- أيها المأفونان، ماذا أعددتما لي؟
- ستكون مفاجأتنا لك.
طبطب على ذراعي، وقبل أن يغادرني هتف:
- إلى هذا المساء إذن.
حضر آبل-كاين إلى الجناح الذي شهد مأساته في فندق سوفيتل، دق الباب، ففتحنا له، أنا وماكدويل، ونحن نضع على رأسينا باروكتين، ونحن نزوق وجهينا، ونحن نرتدي أرياش النعامة، ونحن نكشف عن صدرينا، ونحن نضع على فمينا منقارين عريضين، ومن خلفنا إحدى وعشرين عاهرة، وهن يرتدين أرياش النعامة، وهن يكشفن عن صدورهن، وهن يضعن على أفواههن المناقير العريضة. أشرق وجه د آ ك على مرآهن إشراقًا يعمي العالم، وراح يهمهم: أيها المأفونان، ماذا أعددتما لي؟ ألقى بنفسه بين الأذرع الغريضة، وترك نفسه للأيدي الناعمة تفعل فيه ما تشاء. أخذت بنات الهوى بتعريته تحت عاصفة من الضحكات والغنج والدغدغات بالمناقير العريضة، زوقنه، ووضعن على رأسه باروكة، وعلى فمه منقارًا عريضًا، ألبسنه ثوب النعامة، بينما رحنا، أنا وماكدويل نريق الشمبانيا. شربنا وطعمنا، ضحكنا وصحنا، طرنا وحلقنا، وحلقنا، وحلقنا. رقصن لنا، العاهرات، وجعلننا نرقص مثلهن رقصة الحياة والموت. جئن لد آ ك بقالب جاتو كبير، عليه شمعة واحدة، فقط، شمعة مشتعلة، وهن ينشدن: سنة حلوة يا جميل، فقال آبل-كاين، والقلق يغزو وجهه: ولكنه ليس عيد ميلادي! أطفأ الشمعة، وقطع التورتة، وهو يرسم الابتسامة الغامضة للموناليزا على شفتيه. بعد ذلك، أحاطت بكل واحد منا سبع عاهرات، وذهبن بكل واحد منا إلى زاوية من زوايا الجناح الكبير. تركنا أنفسنا فريسة عناق جهنمي حتى انهارت على رؤوسنا أعمدة نيويورك، فتهنا كلنا في نوم عميق. في الصباح الباكر، نهضنا على صرخة مدوية آتية من الحمام. صرخة لم تكتمل، ككل شيء تراجيدي. من كل شيء تراجيدي يبقى بعضه يحوم فوقنا ليحيل حياتنا إلى جحيم، ليجعل منا نفوسًا ضائعة، ليردنا إلى التفاهة، التفاهة التي نرفض الاعتراف بها طوال العمر، تفاهتنا الجوهرية، تفاهتنا، تفاهة الإنسان، في اللحظة التي نقف فيها على حقيقتنا، بعد فوات الأوان. في الحمام، كان د آ ك يرتدي ثوب النعامة، وهو معلق بالحنفية من فرجه، بعد أن ربطه ببنطال قصير، وخصى نفسه بنفسه.
بعد أسبوع قضاه في المستشفى، أعلمني آبل-كاين على التلفون بسفره في رحلة تشمل كل بقاع العالم. رحلة عمل قال لي، سيلتقي بقادة البلدان التي سيزورها، قادتها السياسيين وقادتها الماليين، وسيقوم بمحاضرات حول النظام الاقتصادي العالمي الجديد كما يراه. سيفتتح العديد من فروع البنك العابر للقارات في أوستراليا والصين والهند والأرجنتين وأفريقيا الجنوبية وباقي البلدان المنبثقة. أخذت أتابع من التلفزيون أخبار "القوي العظيم الجبار الرجل الفحل الهمام"، فأرى كيف كان يُستقبل من طرف أعظم الناس، كيف كانت شعبيته تتزايد لما يهجم عليه رجل الشارع في البلد الذي يزوره لتحيته أو لأجل أوتوغراف، وكيف كانت النساء تترامى عليه كما تترامى الطيور على كمشة من الذرة. كانت محاضراته كثيرة، وفي كل مرة الموضوعة التي كان يدافع عنها تحت عاصفة من التصفيق أينما حط بجناحيه: أمريكا ستقف إلى جانب الشعوب لا إلى جانب الأنظمة، ستتقاسم أمريكا الثروات معها لا أن تنهبها، ستستثمر أمريكا خارج أمريكا لأجل نمو الشعوب وتقدمها. كان يبدو لي رئيسًا للولايات المتحدة قبل أن يكون الرئيس، وكنت سعيدًا من أجل ذلك ومن أجله، خاصة بعد الذي حصل في ذلك الجناح، جناح التعاسة، من بين كل أجنحة فندق سوفيتيل، ليعتاد، لا لينسى، وهو يبدو عليه أنه اعتاد. لكن ما لفت انتباهي أكثر من أي شيء، وجود جوزيف ماكدويل إلى جانبه، وكأنه القوة الجنسية التي فقدها. كان لا يفارقه، وكأنه ظله، كان لا يفارقه أبدًا. لم أتوقف بالطبع عن العمل كرئيس بلدية من أجل نيويورك، اجتماعات يومية مع طاقم العمل أحيانًا ومع الفريق المنتخب أحيانًا، وكان عليّ في كل يوم أن أصنع المشاريع أو أن أساهم في صنعها من أجل المدينة العملاقة. كان العمل هائلاً، يأخذ كل وقتي، فلم أعد ألقى بعض الوقت للذهاب إلى الملاك الأصفر أو الكلب اليقظ، حتى جين نسيتها، ولم أعد أسأل عنها... إلى أن كان يوم، اقتحمت فيه عليّ الآنسة ستيوارت مكتبي. كانت غاضبة، رأيت دمعًا في عينيها، وهي تعاتبني، وتسألني عن سبب غيابي. لم تترك لي فرصة للاعتذار ولا للتبرير. كانت غاضبة، وكانت تحبني. كانت غاضبة لأنها كانت تحبني، وكانت لا تفعل أكثر من ذرف دمعها. أمسكتها كي آخذها بين ذراعيّ، فَطَلَبَتْ مني:
- هلا تزوجتني، يا رامزي؟
لم أتفاجأ على الرغم من أنني لم أفكر في الموضوع بتاتًا.
أعادت:
- هلا تزوجتني، يا رامزي؟
بعد عدة ثوان، وأنا أنظر إلى عينيها الدامعتين، وإلى شفتيها اللذيذتين، ابتسمت سائلاً:
- هلا قلت لي اسمك الصغير، يا مدام رامزي؟
أطلقت ضحكة خرجت من أعماق قلبها، وقبلتني في كل مكان من وجهي، وهي تقول دون أن تتوقف عن ذرف الدموع:
- كنت أعلم أنك ستوافق، كنت أعلم أنك ستوافق...
- وما هو اسمك الصغير، يا حبيبتي؟
- كيلي، اسمي الصغير كيلي، كيلي.
- كيلي. كم هو جميل هذا الاسم الصغير، يا كيلي.
وقبلتها قبلة طويلة طويلة طويلة... دخلت سكرتيرتي علينا من أجل التوقيع على ورقة من الأوراق، وعندما رأتنا ونحن في عناق طويل، ابتسمت، وانسحبت على رؤوس أصابع رجليها.
بعد عدة أيام، تم زواجنا في كنيسة صغيرة، زواج تبعه حفل صغير في شقتي جمع البعض من معارفنا، وكانت جين بالطبع من بين معارفنا.






القسم الرابع

حطت طائرة د آ ك الخاصة في مطار جون كنيدي، فتقدمنا على السجادة الحمراء لنستقبله عند قدم السلم. كانت هناك مجموعة من أساطين الشر والخير النيويوركية، من بينهم الثلاثي الإيطالي لاكي لوتشيانو جيل رابع وفرانك كوستيللو جيل رابع وجو أدونيس جيل رابع. أخذوا يقبلون يده، وكأنهم يقبلون يد قديس. وكان هناك العود الأحمر كارل روجرز ومعه ميراندا نائبة رأس التنين. رفض آبل-كاين السلام عليّ، وهو ينبر في وجهي:
- تتزوج دون أن تنتظر عودتي!
وجدتني أقف وحيدًا على السجادة الحمراء، بعد أن تبع الكل نجم المال العالمي إلى قاعة الشرف حيث كلمهم واحدًا واحدًا، وهو يعبط هذا، ويشد على يد أو كتف ذاك. أحسستني كالبخار المتصاعد من الإيست ريفر، موجودًا وغير موجود، فسارعت إلى اللحاق بالآخرين، لكن آبل-كاين جعل الأستاذ جوزيف ماكدويل إلى جانبه، وتركني أنتظر بين آخر الموجودين. عندما وجدتني أخيرًا أمامه، شبك قدميه في وجهي، وقال من طرف شفتيه:
- وكما أعلمني منذ قليل لوتشيانو جيل رابع وكوستيللو جيل رابع وأدونيس جيل رابع، جعلت زوجتك تُوَلّي الأدبار خلال غيابي، وعهدت بالكلب اليقظ إلى سِحاقيتين.
- الآنسة ستون والآنسة مارتن كانتا ستصبحان مدونتين لك لو اخترتهما بدلاً من كيلي، زوجتي كيلي، أعني الآنسة ستيوارت، والسِحاقية أفضل من أي امرئ كان على حفظ "شرف" النادلات إذا لم تكن تعرف، فهي تَغير على كل ما هو أنثوي، أضف إلى ذلك أن الآنسة ستون والآنسة مارتن تتحابان، إنهما أفضل اختيار، يا د آ ك.
- لنفترض أن كل هذا صحيح، لكنك لم تأخذ رأيي.
- كنت واثقًا من موافقتك، ثم... اسمع، يا ديدييه، أنا كلي أسف، لم أكن أعتقد بأن زواجي دونك سيغضبك إلى هذه الدرجة، ما أردت...
- لن أفتح هذا الموضوع ثانية معك.
- لقد تم كل شيء بسرعة. كانت كيلي تعيش على أعصابها...
- أرجو أن تضاجع جيدًا، هذا كل ما هنالك.
- وكنت أنا بكل بساطة مع العمل الجديد لا أعيش، كنت لا أعيش...
- أرجو أن تضاجع جيدًا، قلت لك. لم تنتظر عودتي، لم تشأ أن أكون هنا، كنت أظنني أخًا كبيرًا لك، حتى أنك لم تأخذ رأيي. بعد فعلتك هذه أنت مشكوك فيك!
أشار إلى الأستاذ جوزيف ماكدويل، وقال:
- يكفيني أن يكون معي سيد كل العادلين!
وأنا أقول لنفسي: لم أعد إلهام الشيطان لذاتي، ولا نفث المني له، قام مغادرًا صالون الشرف، وكلنا نتبعه.

* * *

حال عودة آبل-كاين، بدأ حملته الأولية للانتخابات الرئاسية على صدر الحزب الديمقراطي، كان شعاره: الماليون للشعب. شعار ذكي جدًا. لم يقل الأموال للشعب. قال الماليين للشعب. له. لخدمته. لتكريس أموالهم من أجله. كان يقصد نفسه. كان يقصد كل طبقة رأس المال. كان يقصدها دون أن يمسس أموالها. لكن أموالها ظلت الهدف المراد بلوغه. لم يرفع شعارًا ديماغوجي البعد مثل "التغيير ممكن"، أو غير ملموس مثل "من أجل أمريكا الغد". كان شعاره "الماليون للشعب". شعار يبهر، ويقنع، خاصة إذا ما جاء من العبقري المالي والاقتصادي آبل-كاين.
أما الصدمة الكبرى، أعني المفاجأة الكبرى، فأنا أستعمل المصطلح بمعناه الإيجابي، عندما قرر د آ ك أن يكون نائبه في سباقه إلى البيت الأبيض مروحة الورق الأبيض، المسئول المالي في الثالوث. لقد سبق وكان أحد رؤساء الولايات المتحدة، أحد الرؤساء وليس أحد نواب الرئيس، لقد سبق وكان أحد رؤساء الولايات المتحدة أسود، إذن فليكن نائبه صينيًا. لِمَ لا؟ ليكن صينيًا. الطائفة الصينية كبيرة، وهي تتمتع بكل حقوق المواطنة كأي طائفة أخرى. وعدا عن الحنكة المالية لمروحة الورق الأبيض، أن يكون صينيٌ نائبَهُ، هذا يعني أن كل الصين ستقف إلى جانبه، وهذا البلد العملاق ببشره واقتصاده كان يريد آبل-كاين اقتحام سوقه بنفس الطريقة التي يقتحم فيها السوق الأمريكية، أو، على الأقل، الوصول إلى توازن مالي بين العملاقين. كانت النظرة بعيدة المدى ذكية ومدهشة.
بدأ جولته في كاليفورنيا، ولم يكن الاختيار عشوائيًا، اختار كاليفورنيا لأن نسبة التعددية اللغوية فيها تصل إلى 40 بالمائة. دومًا ما كانت نظرة د آ ك تعددية، كونية، كما كان في كل فعل ينجزه، مالي أو غير مالي. كانت نظرته متعددة في الشمول، وشمولية في التعدد. كان كونيًا. وكان إنسانيًا. لهذا عندما كان يقول أمريكا كان الأمريكي يرى الكون، كل الكون، وعندما يقول الكون، كان هذا الأمريكي ذاته، أينما كان موقعه، وأيًا كانت مهنته، كان يرى أمريكا، وبشيء من الفخار، لأنها أمريكا جورج واشنطن، وأمريكا أبراهام لينكولن، وأمريكا تيودور روزفلت، وأمريكا جون كنيدي، وخاصة جورج واشنطن الذي ارتبطت صورته بالدولار، والدولار هو العصب الأساسي للحياة، شيء كالحبل الشوكي، في أمريكا والعالم.
أمام جمهوره في لوس أنجلس، قال هذه الكلمات:
- كلما فكرت أن المال من صنع الإنسان دون أن يكون في خدمته غَضِبْتُ أشد ما يكون، على المال أن يكون في خدمة الإنسان، المال في خدمة الإنسان يزداد أكثر فأكثر، فينعم الماليّ، ويزدهر الإنسان. لهذا أقول لزملائي في أمريكا والعالم ألا يخافوا على أموالهم، ستكون أموالهم دومًا لهم، لكنها ستكون في الوقت ذاته لنا جميعًا عندما نرمي إلى الاستثمار والاستثمار والاستثمار في أمريكا وكل العالم.
وتقريبًا كان يكرر الشيء نفسه وسط عاصفة من التصفيق في كل الولايات المتحدة، في تكساس، وفي تكساس الجديدة، وفي الأريزونا، وفي النيفادا، وفي الكولورادو، وفي فلوريدا، وفي الإلينوا، وفي بنسيلفانيا، وفي ميتشيغن، وفي المينزوتا، وفي المونتانا، وفي... وفي... وفي... وفي نيويورك، وفي واشنطن. وفي واشنطن ألقى بين جحافل مؤيديه:
- سيقول لنا الجالس على كرسيه المريح في المكتب البيضاوي إن الأزمات كلها، على رأسها الأزمة المالية، لسوف يحلّها خلال الأربع السنوات القادمة، هذا وعد من رئيس يفي بكل وعوده، وخلال السنوات الأربع الماضية، لماذا لم تحلّها كل هذه الأزمات، يا سيادة الرئيس، فهل وفيت بوعودك؟ أنت لم تحل أية أزمة، ولن تحل، بل فاقمتها، وأنت ترمي بالأسباب على ظهر غيرك، وأبدلت حياة الأمريكيين بالجحيم.
وفي كل مرة، بعد الخطاب، وبعد عواصف التصفيق، كان يدعو الحضور إلى مأدبة عملاقة، يأكلون المشاوي، ويحتسون الجعة، وشتى أنواع الكحول. بالنسبة لي، كان كل هذا شيئًا رائعًا، أروع من رائحة اللحم المشوي وقت الجوع، وألذ مما هو عليه بين أسنان الآلهة. كنت على استعداد أن أعطيه لحمي، لكن آبل-كاين، أهملني تمامًا. أهملني، وأبعدني عنه. كنت أراه كيف يسترقّ غيري من مقربيه، فأحسدهم على ذلك. كان مجرد أن يعملوا تحت إمرة د آ ك شيئًا سحريًا، كان د آ ك صنمًا، نوعًا من الآلهة الوثنية، بفكره المادي، بفكره المالي، ولكن في الوقت ذاته كان قدسيًا، وأُلوهيًا. تركتني أذهب معه من ولاية إلى ولاية، بعد أن عهدت بمنصبي كرئيس لبلدية نيويورك لنائبي، واحتملت كل جفائه عليّ. كنت أنظر إلى معاملته لجوزيف ماكدويل بعين الحسد، وعندما كنت أحاول الاقتراب منه، منهما، أن نكون معًا نحن الثلاثة، كما كان عهدنا في الماضي، كان يأمرني بالابتعاد، ويشتمني، لأني "أعبث" كثيرًا بين قدميه. كنت أعيقه عن الحركة كما يجب، على حد قوله، ولهذا كان لا يريدني أن أبقى قربه. وعندما كنت أبدي انزعاجي، كان يكلفني بالإشراف على عد أصوات الناخبين التي كانت معظمها في صالحه وصالح نائبه، لأن منافسيه كانوا دون مستواه، لا كاريزما لديهم، وكانوا يتهربون من مواجهة الأزمات الداخلية وتقديم الحلول لها بالحلول الخارجية، مثل تضييق القبضة على آبار النفط، أو شن الحرب على الإرهاب.
- هل هذه أنت، يا جين؟ سأل د آ ك.
- هذه أنا، أجابت جان.
- الآن تجيئين؟
- تأخرتُ قليلاً، فمعذرة.
- تأخرتِ قليلاً.
- تأخرتُ قليلاً.
- تأخرتِ قليلاً.
- ليس أكثر مما يجب.
- ليس أكثر مما يجب.
- لم تصبح بعد رئيسًا للولايات المتحدة.
- هل صحيح ليس أكثر مما يجب؟
- مم أنت خائف؟
- مم أنا خائف؟
- لا تخف، يا حبيبي.
- أنا... أنا خائف، يا حبيبتي.
- لا... لا تخف، يا حبيبي.
- تأخرت قليلاً، يا حبيبتي.
- ليس أكثر مما يجب، يا حبيبي.
أخذها بين ذراعيه، وبكى على كتفها. سمعته يهمهم: ماما، معذرة، يا ماما.

* * *

قبل عدة أسابيع من الانتخابات الرئاسية، كان الرئيس ومستشاروه يسترخون بقمصانهم النصف الكم في مقاعدهم هنا وهناك من المكتب البيضاوي، كانوا يفكرون في موضوع سبق لهم وتناولوه حسبما يبدو. بعد عدة لحظات من الصمت، فتح الرئيس فمه، وقال:
- حقًا غدت الطريق إلى البيت الأبيض مفتوحة لآبل-كاين، لكن هذا لا يعني أن كل الشروط الرابحة في حوزته. هناك ناحية هامة في حياة الأمريكيين: الأمن، يمكننا استغلالها.
ابتسم نائب الرئيس:
- فكرة جيدة، يا سيادة الرئيس!
تدخل المستشار الأول، وهو يبتسم بدوره:
- بل فكرة جهنمية، يا سيادة الرئيس!
قال المستشار الثاني عابسًا:
- ألا تزنون سوء مغبة ما يمكن أن يقع؟
طلب الرئيس:
- دعنا نفكر في الأمر.
تدخلت المستشارة:
- رجال الإف بي آي لن يقبلوا أبدًا، يا سيادة الرئيس.
- بالطبع لن يقبلوا.
- والقانون يمنعك من دفعهم إلى ذلك.
- أعرف.
- إذن ماذا، يا سيادة الرئيس؟
- لم أقصد هم.
ابتسم نائب الرئيس من جديد:
- لستَ رئيسًا ببلاش، يا سيادة الرئيس.
نظر الرئيس إلى كل واحد، وأوضح:
- لنترك غير الإف بي آي يفعل بمعرفة الإف بي آي.
صاح المستشار الثاني محتجًا:
- وإذا ما افتضح الأمر؟ الرابح الوحيد سيكون آبل-كاين. لست متفقًا معك، يا سيادة الرئيس. وفوق هذا، أنا أحذرك.
قال المستشار الثالث متجاهلاً كلام زميله:
- مجانين الله كثيرون، يا سيادة الرئيس، وبعضهم تحت الحراسة المشددة، التخفيف من هذا، مع مهمة للتحريض عواء مواقعنا "الإرهابية" المبثوثة هنا وهناك، سيدفع ذلك أحدهم إلى ارتكاب الحماقة التي نريدها.
صاح المستشار الثاني محتجًا من جديد:
- لست متفقًا، يا سيادة الرئيس. ستكون هناك ضحايا، هل فكرتم في هذا، يلعن دين، سيسقط أبرياء.
تنفس الرئيس الصعداء:
- إنه داعي المصلحة العليا مع الأسف.
ثم، توجه بالكلام إلى مستشاراته:
- في الواقع يا بنات، الحق أني أريد عهدة ثانية، أنا أفضل هذا على كتابة مذكراتي، "رجال حياتي"، احفظن جيدًا هذا العنوان.
نهض، وراح يربط ربطة عنقه، ويقول لنائبه:
- أنا لا علاقة لي بالأمر، هل تفهم؟ أنا لا أعرف عن الموضوع شيئًا، أوكي؟ اتصل بأصحابنا في الإف بي آي، ورتب الأمر معهم.
أنهى ربط ربطة عنقه، ارتدى جاكيته، وتوجه إلى الحضور:
- سيداتي سادتي خلال خمس دقائق سأستقبل رئيس الوزراء البريطاني.
خرج الكل، وقبل أن يخرج نائب الرئيس بدوره، أمسكه الرئيس:
- بعد أن يقوم الأهبل بفعلته، يجب تصفيته في الحال، ومحو كل أثر، مفهوم؟
- وإذا لم تجر الأمور كما نريد؟
- يجب أن تجري الأمور كما نريد، ودون أية زلة قدم.
- هذا ما أتمناه، يا سيادة الرئيس.
وذهب عابسًا، دون أن يسلم على رئيس الوزراء البريطاني الذي كان يقف في فوهة الباب.
هتف الرئيس مرحبًا:
- سيد رئيس الوزراء!
وتقدم ليسلم عليه بحرارة، بينما أغلقت السكرتيرة الباب.

* * *

شقت دراجة السكوتر شوارع نيويورك من هارلم إلى مدرسة خاصة في بروكلين، وعلى متنها شاب ملتح يحمل على كتفه قِرابَ كمان جهير. كان الوقت ظهرًا، والأطفال يعودون مع آبائهم إلى بيوتهم من أجل طعام الغداء. أوقف الشاب الملتحي دراجته، وأخرج من قِرابِهِ سلاحًا رشاشًا. سلطه على أبٍ مع صغيرِهِ، وأمٍ مع صغيرتيها، وأرداهم قتلى. أعاد وضع سلاحه في القِراب، وصوّر الجريمة الفظيعة بفيديو هاتفه المحمول. امتطى دراجته من جديد، وغادر المكان كملاك من ملائكة الجنة. كان الهلع بين صغار المدرسة وذويهم قد وصل أقصاه، وبعد قليل جاءت سيارات الشرطة.
لم ينتبه أحد إلى المختبئ في الوجه المقابل، وهو يتكلم في لحيته. ومع أول لفة قام بها المجرم، لاحقته سيارات الشرطة وطائرات الهيلوكبتر. تركوه يذهب حتى دخل شقته في الطابق الثاني من بناية متواضعة في هارلم، وحاصروه من كل ناحية، من فوق، ومن تحت، ومن جنب، من كل ناحية: بوليس، وإف بي آي، ومارينز، وعشرات القنوات التلفزيونية، وكلها تركز على أمن الأمريكيين، وكلها تردد أن الإدارة الأمريكية على رأسها الرئيس لا هم لها سوى أمن الأمريكيين، وهي تبذل أقصى ما تستطيع عليه من قوة في سبيل ذلك: أمن الأمريكيين. وفي الوقت ذاته، ألقت الحملة الإعلامية بكل بؤس الأمريكيين على أكتاف أولئك الجهاديين المجرمين، برابرة القرن الحادي والعشرين. حضر سكرتير الدولة للدفاع بنفسه كي يقود عملية الأخذ والرد مع المجرم الملتحي، ووصلت المساومة بينهما إلى أن يسلم الإسلامي نفسه على الساعة الحادية عشرة والنصف مساء.
أقامت المجزرة الدنيا ولم تقعدها، أدان البيت الأبيض الحادث بشدة، وعبر عن هم الرئيس الأول الذي هو حماية مواطنيه. قال الناطق بلسان الرئيس إن هذا لن يساوم الإرهابيين في شيء، وإنه بكل الخبرة التي لديه والتي ليست لغيره سيقاتلهم بسلاحهم، وسيقلعهم، سيقتلعهم من جذورهم، وهو في سبيل دم الضحايا الذي ذهب باطلاً مستعد لتقديم دمه دون أدنى تردد.
كانت اللعبة بائنة لد آ ك ولنا جميعًا، فاجتمعنا كلنا في الكلب اليقظ، كلنا وأعمدة الملاك الأصفر. رافقتني زوجتي كيلي لجسامة الأمر، وشاركَتْ في النقاش الذي تركز على كيفية مواجهة هذا الهجوم العنيف من طرف رئيس الولايات المتحدة الحالي.
قالت كيلي لآبل-كاين:
- هذا الهجوم، لأنه عنيف، لهو في صالحك، الناس ليسوا كلهم نعامًا، وقت الخطر، هم لا يدفنون رؤوسهم في الرمل، إن لهم رؤوسًا تفكر على الرغم من كل شيء.
قلت لآبل-كاين:
- مهما يكن مدى هذا الهجوم، فهو لن يؤثر في الرأي العام كثيرًا الذي يعطيك 75 بالمائة من الأصوات دومًا.
انتهرني آبل-كاين:
- أنت لم أطلب رأيك!
وراح بي متهكمًا:
- مهما كان مدى هذا الهجوم!
ثم طردني:
- يلعن دين! أخرج في الحال، واهتم بأمر الحراسة!
قمت على التو، وقامت كيلي إلا أن د آ ك أوقفها:
- أنت تبقين هنا، اتركيه يذهب وحده.
بادلتني زوجتي نظرة قانطة، وعادت إلى مكانها، بينما تركتهم يتابعون نقاشهم. وأنا قرب الباب، سمعت الأستاذ جوزيف ماكدويل يقترح:
- وإذا ما ذهبت أنت، د آ ك، لمساومة الرئيس في ذلك؟
قال آبل-كاين:
- بل أنت الذي سيذهب لمساومة نائبه. يجب أن يتوقف كل هذا، كل هذه الحملة الهستيرية، قل له، وإلا سنفعل ما سنفعل.
على الحادية عشرة مساء، نصف ساعة قبل أن يسلم القاتل نفسه، رأينا على الشاشة الصغيرة كيف تم الانقضاض الذي استعملت فيه كافة الأسلحة حتى الثقيلة منها، فتهدمت الشقة المقصودة وطرف من البناية. أخرجوا جثة الشاب الملتحي من تحت الأنقاض، كان كله مخرقًا، فطلبت المذيعة من المتفرجين إبعاد أطفالهم.
على الساعة الثانية عشرة مساء، أي عند منتصف الليل، انفض الاجتماع في الكلب اليقظ، مع صعود بنات الكباريه على خشبة المسرح. كانت العلبة كعادتها ملأى بالزبائن، وكأن لا شيء يجري في هارلم، وكانت الآنستان مارتن وستون تتابعان كل صغيرة وكبيرة، وتقبلان بعضهما من الفم من فترة إلى أخرى. قال د آ ك إنه يريد أن يكون وحده، فتركنا يذهب. بقي قليلاً في بيته، الوقت اللازم لوضع المساحيق على وجهه، الباروكة على رأسه، المنقار العريض على فمه، ثوب النعامة على جسده، ثم أخذ تاكسي إلى غرينويتش فيلاج، وصعد مع أول عاهرة.
- ماذا تريدني أن أفعل، يا رجل؟ سألت المومس، وهما في السرير.
لكنه بقي صامتًا دون حراك.
- إنه لا يحسن النطق، يا ابنة القحبة، قالت لنفسها. تصرفي إذن، يا ابنة القحبة.
خلعت عنه ثوب النعامة، وبعد ذلك تناولته بفمها، ولا سبيل إلى رجولته. كانت الدموع تسيل على خديه، والعاهرة تهمهم لنفسها: إنه امرأة، يا دين الرب!
ونبرت:
- إذن لماذا، يا دين الرب؟
اعتدل، وجعلها تتناوله من جديد، وراح يضغطها بكل قواه، فصاحت:
- إذا كنت تريد هذا، فلتنتظر.
تناولته بين أسنانها، وراحت تعض، وآبل-كاين يصرخ، ولما أرخته خشية، أخذها بعنف، فعادت تعضه، وآبل-كاين يصرخ من جديد دون أن تبالي هذه المرة بصراخه. غرزت أنيابها في عضوه حتى تفجر دمه، وهو يصرخ أشد ما يكون. تراخى في الأخير، وذهب نائمًا كفرخ النعام.


* * *

قال جوزيف ماكدويل لنائب الرئيس هادئًا:
- لعبتكم واضحة، يا سيد نائب الرئيس.
أجاب نائب الرئيس مبتسمًا:
- أثبت أنها لعبتنا، يا أستاذ ماكدويل.
- إنها لا تحتاج إلى إثبات. أنا أتوجه إليك، وأنا أعلم أنك تعرف أني أعرف، وبوصفك تعرف أني أعرف أبلغك ما يطلبه آبل-كاين منكم، أنت والسيد الرئيس وباقي الشلة هنا في البيت الأبيض، أن توقفوا الحملة الإعلامية الدائرة حول الأمن في الحال، وإلا جعل آبل-كاين من أمنكم الشخصي أمره. هذه الدسائس الدنيئة لا تمشي عليه، دسائس دفع الأبرياء ثمنها غاليًا. وهو لهذا يجد نفسه في الموقع المناسب من أجل الدفاع عنهم والثأر لدمهم.
ظل نائب الرئيس مبتسمًا:
- استطلاع الرأي العام اليوم يعطي للسيد الرئيس عشرة بالمائة زيادة، الشعب الأمريكي سيقف إلى جانبه.
- هل هذا ردك على آبل-كاين.
- هذا ردي.
وقف المحامي ماكدويل ليغادر هادئًا دومًا، ولكن كلماته كانت تتفجر عنفًا:
- ها أنا، باسم موكلي، أنذركما، أنت والسيد الرئيس، إذا لم توقفا كل شيء آخر أجل حتى الغد مساءً تصرفنا.
وأغلق الباب بهدوء من ورائه.
لم تتوقف الحملة الإعلامية حول الأمن وشجاعة رجال الأمن وخاصة شجاعة الرئيس قائد الأمن الفعلي، وإقدامه من أجل الدفاع عن الأمريكيين في أمريكا والعالم. واصلوا طرحه كالبديل لنفسه في الانتخابات القادمة، فأهليته الأمنية هي الأساسي مقابل الأهلية المالية لخصمه، آبل-كاين، أضف إلى ذلك ما ليس لخصمه، سلطته وخبرته ونفوذه، وأن على الأمريكيين أن يختاروا بين أمنهم وخبزهم، وهم على التأكيد سيختارون أمنهم.
عندما عاد نائب الرئيس إلى فيلّته في تلك الليلة الحالكة من الليالي الأمريكية، ليلة دون قمر ولا نجوم، وجد صديقه الذي يتقاسم حياته معه مكممًا ومربوطًا على كرسي في المطبخ. ذهب لنجدته مضطرباً، وإذا بعملاقين أسودين يظهران من ورائه. أراد أن يضرب بقدمه على زر يربطه بالإف بي آي إلا أن أحد العملاقين الأسودين اقتلعه، بينما أمسكه الآخر بصلابة. فرش العملاقان الأسودان أصابعه على طاولة الأكل، وأطلق كل منهما طلقة على يد من كاتم صوته. ألقياه على الأرض، وهو يزحف في دمه، ويصرخ صراخ المعتوه، وغادرا المكان سرًا كما دخلا.
توقفت الحملة الإعلامية حول الأمن تحت ذريعة المصلحة العليا للشعب الأمريكي، هكذا خرج نائب الرئيس بيديه المضمدتين للناس على شاشة التلفزيون معلنًا، ولتجنب الأخطار المحدقة بحياة الأمريكيين. بعد أسبوعين، كانت الانتخابات الرئاسية، وكان النصر، بالطبع، حليف ديدييه آبل-كاين، بأغلبية ساحقة.
في الصباح الباكر، غادرنا كلنا المقر العام للانتخابات، وتفرقنا في شوارع العهدة الجديدة من التاريخ الأمريكي. كنا تعبين جدًا، حتى الأحلام في رؤوسنا كانت تعبة جدًا، أحلامنا كانت ترغب في النوم مثلنا، والأمواج كانت ترغب في الراحة مثلنا. كان البحر في رؤوسنا في جزر، جسده المتلاطم منذ قليل، والذي كان بتسونامي سلطته يسحق العالم، كان يتراخى على ضفاف خيالنا كما يتراخى على ضفاف هاواي. قرب بائعة الزهور، أوقف د آ ك ليموزينه، ودخل الدكان بقدمين مثقلتين. كانت الزهور لم تزل في كراتينها في تلك الساعة من الصباح، والفتاة الجميلة تعمل كل ما في وسعها على إفراغها. غاب الرئيس الجديد للولايات المتحدة لبعض الوقت، كأي فرد عادي، ثم ما لبث أن عاد بباقة من الورود البيضاء، وهو يشمها، وهو يضمها، وهو يبتسم ابتسامة الموناليزا.

* * *

مضت عدة أشهر على د آ ك رئيسًا للولايات المتحدة، عين ميراندا ماكماهيليان وزيرة للخارجية، كانت أصغر وزيرة للخارجية في كل تاريخ أمريكا، وأجمل وزيرة للخارجية، وأذكى وزيرة للخارجية، جعل من زوجتي كيلي مستشارة له، بل كبيرة المستشارين، وجوزيف ماكدويل مديرًا عامًا للبيت الأبيض، أما أنا، فلا شيء، قال لي احتل مكتبك في بلدية نيويورك، ولا ترني وجهك إلا عند الضرورة القصوى. جين كانت أسعد مخلوقة على وجه الأرض، وهي مشغولة، جد مشغولة بصبغ حجرات البيت الأبيض التي لا تعد ولا تحصى، وفي كل مرة تبدل رأيها، فتعيد صبغها، كانت تقضي معظم وقتها في إعادة صبغها. والأهم من كل هذا؟ سيسألني أحدهم. الأهم من كل هذا كان تأسيس آبل-كاين نظام مالي عالمي جديد، لم يَعُدْ بالمال الوفير على الماليين، كما كان يَعِدُ في برنامجه الانتخابي، وهو لهذا أثار كل خصومه ضده، في كل مكان، في الإدارة، في الجيش، في القطاع الخاص، وخاصة في أوساط رأس المال، لدى عظماء نادي جورج واشنطن أول هذه الأوساط، في كل مكان، في كل مكان، حتى في أعماق الأرض، حتى في أعالي السماء، في كل مكان، في كل مكان، في كل مكان. حاول البعض الاتصال بي عندما عرفوا ما بيني وبين د آ ك من توتر لتحريضي عليه، وذهب البعض إلى حد الطلب مني أن أعمل معهم على "إقصائه"، والإقصاء يعني من بين ما يعني تصفيته الجسدية، فهددتهم، وقلت لهم إذا مس أحد شعرة من شعره كان حسابه معي عسيرًا. ذهبت عنده في المكتب البيضاوي، فرأيته، وهو يدفن رأسه في ملفاته. قبض على مخلب نعامة، وشبك قدميه في وجهي، وهو يستمع إليّ. نقلت إليه كل شيء، وفي النهاية، قلت له هذا هو سر الأسرار، فانتبه إلى نفسك، وأردت الخروج، لكنه راح يهمهم كمن يكلم نفسه:
- المجهول للنقود كالمجهول للقبلة، لمعرفته عليك أن تمضي إلى الفعل، ولكنك تفاجأ بأسراره الكثيرة، فتذهب من سر إلى سر، على لسانك طعم المالنخوليا اللذيذ، وفي رأسك حيرة الرياضيين أمام مشكلة عويصة، لأن الأسرار كثيرة، جِدّ كثيرة، أسرار لا تعد ولا تحصى، وذهابك من سر إلى سر لا يكشف عن مجهول النقود، مجهول القبلة، فلا تتوقف، تداوم على امتطاء جوادي اللذة والحيرة، وتطارد الإبهام وقد غدا اللذة، وقد غدا الحيرة، تطاردك الكآبة، يطاردك القلق، القلق كإحساس ميتافيزيقي. هل يَصْدُقُ الإحساس بجزيل النعمة على شواطئ الكانكون؟ كان عليّ أن أقبِّلَ أكبر عدد من الفتيات، وإلا فلن أقف على كل أسرار المجهول للقبلة. فْرِنْشْ كِسْ، قبلة فرنسية، كان الشرط أن تكون قبلة فرنسية، أن أدخل لساني في فم الربة، وأن تدخل الربة لسانها في فمي، وأن نعقدهما في الجحيم الخَضِلِ، وأن نقرضهما. قبلة فرنسية كنت أصرخ، كبائع الفطائر. قبلة فرنسية. كانت هناك من الثغور ما تقبل، وكانت هناك من الثغور ما ترفض. قبلة فرنسية. هذا الثغر، وهذا اللسان، وهذا السر، وهذا القتل، وهذا الموت، وهذا الخلق من عدم، وهذه المحنة، هذه المحنة، هذه المحنة، هذه المحنة، هذه المحنة، هذه المحنة. قبلة فرنسية. كن يضحكن. كن يعتذرن. كن يغنجن. كن يقدمن شفاههن للذبح مجانًا. وأنت ما أن تقف على سر حتى تظهر لك أسرار، كما هو عليه الحال في البورصة. قبلة فرنسية. تنسى نفسك. تنسى أنك تسعى لفك أحاجي قبلة. تتذكر أنها عابرة. قبلة عابرة. قبلة واحدة. قبلة وحيدة. لن تتكرر. تتذكر، وكأن الحاضر الذي أنت فيه قد مضى. وكأن الحاضر هو الماضي. كجسدين يتعانقان على مقربة هناك، فوق الرمل الناعم الأبيض، الأبيض الناعم، ليس بعيدًا، وفي انعكاس أشعة الشمس يبدوان جسدًا واحدًا. تسقط في بحر المالنخوليا، وهذه المرة، لا لذة هناك لطعمها على لسانك، بل لذة طعم الملح، لذة طعم القلق، لذة طعم الكآبة. كل كانكون عالم للكآبة. وأنت تهرق دم قبلة من أحلى القبلات. كل المكسيك عالم للقلق. كل النقود في العالم لا تساوي شيئًا. هذا هو سر الأسرار الذي لن نعرفه عندما يتعلق الأمر بالمجهول في أحلى ثغر وفي أثرى بورصة.
نادى على ميراندا، وأبلغها ما أبلغته، فلم تجد ميراندا شيئًا آخر تفعله غير ما تفعله على طريقتها. اكتشفت عجزه، فانفجرت تبكي مرددة أن لا حظ لها معه. اقترحت عليه وصفة لذلك، وصفة عن أمها. لحم النعام. بيض النعام. خراء النعام. لم تنتظر منه جوابًا، إذ سارعت إلى طباخ البيت الأبيض تبلغه أمر الرئيس. على الفطور بيض النعام. على الغداء لحم النعام. على العشاء خراء النعام. وهذا كل يوم لأربعين يومًا. وصفة أمها. لأربعين يومًا. امتلأت حديقة البيت الأبيض بالنعام، وصناديق قمامته برؤوس النعام المذبوحة وسيقانه المقطوعة. أكل الرئيس من لحم النعام حتى ملت أسنانه، حتى التقزز، حتى جيشان النفس، و... دومًا دون فائدة. كانت عاهرة غرينويتش فيلاج ملاذه الأخير، أنيابها، طريقتها في العض، في إهراق الدم، اللذة الوحيدة التي بقيت له، كلما كان لديه بعض الوقت، وهو كان لديه الكثير من الوقت، لا كما يقال عن رئيس أعظم دولة في العالم. أضف إلى ذلك، نيويورك لرئيس الولايات المتحدة كانت على مرمى حجر، وكل وسائل النقل الجوية والبرية والبحرية التي كانت تحت تصرفه. عندما علم شيوخ بلدان الخليج الفارسي بحب الرئيس للنعام، جاءوه ببيضة نعامة ضخمة من الذهب الخالص. قالوا إنها هديتهم مقابل بعض الملفات الصغيرة عن قضايا العرب التي يريدون حلها: مصر، سوريا، لبنان، الأردن، العراق، السودان، الصومال، النعال، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، البحرين، اليمن، الغائط، وإن شئت الخراء... فلسطين. بعض الملفات الصغيرة. ودون أن يطلب منهم الإذن، فتح الرئيس سرواله، أخرج عضوه، وشخ عليها، وهم يقهقهون، بينما هو يهمهم مرتاح البال، هانئ الضمير: لم يعد ينفع إلا لهذا.

* * *

كان الاجتماع في مكان سري لا يعرفه أحد، لم يكن في البنتاغون، ولم يكن في السي آي إيه، ولم يكن في الإف بي آي، كان في مكان يجهله حتى الحاضرون من كل أجهزة الدولة والكارتلات والرأسماليين، وكان أهم الحاضرين نائب الرئيس، مروحة الورق الأبيض. بدأ الكلام أحد جنرالات الجيش:
- أيها السادة، اجتماعنا اليوم، سيغير مجرى التاريخ، وسيكون من الواجب علينا أن نتخذ قرارت خطيرة تتوقف عليها مصائرنا ومصير أمريكا والعالم. النظام المالي العالمي الجديد الذي يعمل على إنشائه رئيس الولايات المتحدة الحالي، يهدم بين ليلة وضحاها كل ما بنته أمريكا خلالَ قرونٍ من العمل والتضحيات. السياسة السياسية والسياسة الاجتماعية والسياسة الاقتصادية التي تم ترسيخها بعرق ودم مواطنينا إلى عشرات السنين بل مئات الأعوام يُختلق اليوم غيرها لنجد أنفسنا نهبًا للشك والضياع. الدفاع عن الوطن والموت في سبيله غَدَوَا لا شيء يُذكر أمام الدفاع عن أوطان الغير والموت من أجلها. النظام المالي العالمي الجديد يعني أن تأخذ الدول التي هي تحت سباطنا اليوم مكان أمريكا، وحكام تلك الدول الذين كنا نقول لهم ارفضوا، فيرفضون، اقبلوا، فيقبلون، لأنهم كلابنا، عملاء لنا، وهم في خدمتنا، يستخدمون شعوبهم لحماية مصالحنا، هؤلاء الحكام سيملون علينا إرادتهم، وسيستخدمون شعوبهم بكل الوسائل وتحت كل الأشكال حتى الأشكال التي يقال عنها ديمقراطية وثورية لحماية مصالحهم هم لا مصالحنا نحن. أيها السادة، بعد هذا العرض القصير، فلتُفرش كل الاقتراحات على الطاولة!
قال أحد جنرالات المخابرات:
- فليسمح لي الحاضرون، أعتقد أن كل الاقتراحات يمكن إيجازها في اقتراح واحد: قتل الرئيس.
ضجت القاعة بالصرخات بعضها موافقًا وبعضها معارضًا، ونائب الرئيس، مروحة الورق الأبيض، يرسم على شفتيه ابتسامة شاحبة. انتظر جنرال المخابرات إلى أن عم الصمت:
- مع النظام المالي القديم، النظام بلا زيادة، تتغير الأشياء أو لا تتغير، وعندما تشتد الأزمة نقوم بإصلاحات تطيل من عمر النظام دون أن تزيل الأزمة، فالأزمة تبقى أزمة، الأزمة إلى الأبد ستبقى، ونحن نعيش معها، دونها تكون نهايتنا. هذا ما يجري اليوم، الرئيس الجديد يحاول استئصال الأزمة ونحن معها.
قال أحد عظماء نادي جورج واشنطن:
- أوافق على التحليل ولا أوافق على التنفيذ. قتل الرئيس مخالف لمُثُلنا وقوانيننا!
عاد جنرال المخابرات إلى القول:
- إنها الطريقة الوحيدة للتخلص منه فورًا، والأسهل من أية طريقة أخرى.
قال أحد جنرالات الأمن:
- موافق، ولكن كيف؟
تدخل أحد الموجودين من رؤساء الكارتيلات:
- انتظروا، أيها السادة! لم نصل بعد إلى كيف. مصرع الرئيس آبل-كاين بعد مصرع الرئيس كنيدي ليس بالأمر الهين، حتى وإن كان تنفيذ ذلك سيتم بأسهل الطرق. أعني أن النتائج ستكون وخيمة العاقبة، سينهار كل النظام القديم، ونحن معه، وربما كان ذلك مدعاة للذهاب بنظام آبل-كاين إلى أقصاه، وفي كل الأحوال ستكون نهايتنا.
علق جنرال الجيش:
- ستكون النتائج وخيمة العاقبة ولكن ليس إلى هذه الدرجة، أنتم تنسون، أيها السادة، أن نائب الرئيس، الذي هو معنا هنا، سيؤدي اليمين في الحال بعد مقتل آبل-كاين، سيمسك زمام الحكم بقبضة قوية، وسيعيد كل الأمور إلى نصابها.
نظر الجميع إلى مروحة الورق الأبيض ليسمعوا منه تأكيدًا أو تعليقًا، لكنه داوم على رسم ابتسامته الشاحبة على شفتيه.
سأل العظيم الرأسمالي:
- ولماذا لا نرغمه على الاستقالة؟
- نرغمه على الاستقالة كيف؟
- نحن لن نرغمه على الاستقالة.
- الدستور.
- الدستور لن يرغمه على الاستقالة.
- الدستور معه.
- إذا بدرت عنه تصرفات المجنون، الدستور لن يبقى معه، الدستور سيرغمه على الاستقالة.
- ليس هناك أعقل من آبل-كاين، أيها السادة.
- إذا ما لوحنا للملأ أن كل هذه الإجراءات مضرة على الزمن البعيد، وأيدتنا وسائل الإعلام، اتهمناه بالجنون، وقضينا عليه دون أن نقتله، وفي كل الأحوال، نائبه جاهز لأخذ مكانه (بينما يواصل مروحة الورق الأبيض رسم ابتسامته الشاحبة على شفتيه). أما إذا أردتم أن يكون بالفعل مجنونًا، فالوسائل كثيرة للضغط على طبيبه الشخصي.
- أُفَضِّلُ هذا، أحسن من قتله، وتلويث أيادينا بدمه.
- ولكنكم، أيها السادة، كما أرى، تبتعدون عن الموضوع كثيرًا.
- لنقتله إذن، ولكن كيف؟
- لنقتله إذن.
- ولكن كيف؟
- ولكن كيف؟
- لن أكشف لكم عن الخطة، ستبقى خطتي، وستظل سرية إلى الأبد، قال جنرال السي آي إيه. ولكن هناك نقطة اعتراض واحدة.
- ما هي؟
- نائب الرئيس.
- ما له نائب الرئيس؟
- ألا ترون أنه صينيّ؟
انفجروا كلهم ضاحكين، ومروحة الورق الأبيض يداوم على الابتسام بشحوب إلى ما لا نهاية.
- نرى أنه صينيّ، رئيس سابق للولايات المتحدة كان زنجيًا، وماذا يعني ذلك، صيني أم غيره؟ وحتى عربي، ماذا يعني ذلك؟ في كل مرة نوحي مع المحتل للمكتب البيضاوي أن هناك عهدًا جديدًا، والواقع أن النظام القديم هو نفسه دومًا، بوجوه جديدة، وهلم جرا، منذ جورج واشنطن.
- صينيٌّ أم غيره الأهم هو إدارة الأزمة، أيها السادة.
نهضوا جميعًا، ومروحة الورق الأبيض يداوم، يداوم، يداوم على رسم ابتسامته الشاحبة على شفتيه.

* * *

لم يكن أحد في ممرات البيت الأبيض، ومن النوافذ، في الليل، كانت الأشجار لا تتحرك، وكأنها من شمع. كان الصمت هو المهيمن، لم يكن صمت المتاحف، ومع ذلك كانت رائحة الماضي في كل مكان. كان الماضي في المرايا، وكان يبتسم مع زهو الألوان. كانت للماضي ابتسامة شاحبة، وكان الماضي لا يتوقف عن الابتسام. لم تكن جميلة، ابتسامة الماضي، ولم تكن لتستفز أحدًا، فلم يكن أحد هناك، في ممرات البيت الأبيض، عند تلك الساعة البعيدة من الليل. ما عدا... العملاقين الأسودين. كانا واقفين كتمثالين أمام باب غرفة نوم الرئيس. كانا يقومان بالحراسة، ولم يكونا يتحركان. كانا كتمثالين أفريقيين من تماثيل الاسترقاق، وكانت على عينيهما نظارة سوداء لا يبين الحاضر منها.
وعلى حين غرة، جاء رجلان من رجال السي آي إيه، جاء أحدهم من طرف، والثاني من الطرف الآخر، جاءا كلهبين أبيضين من جحيم المستقبل، فالتفت كل من العملاقين الأسودين إلى الاتجاه المضاد. ورجلا السي آي إيه على مقربة منهما، أخرجا كاتم صوتهما، وبسرعة البرق أطلقا، أطلق كل منهما في رقبة الدائر رأسه نحو الآخر. فتحا باب غرفة نوم أقوى رجل في العالم، ودخلا على رؤوس أصابع رجليهما، فلم يكن الرئيس في سريره، كانت جين. استولى على جين الرعب، وتفجرت عيناها بصمت، كما هو عليه في الأفلام الخرساء. غابت عن الوعي، عندما جاء رجلان آخران من رجال السي آي إيه، وقتلا زميليهما، ولم تر كيف جاء رجلان آخران بعد الآخرين من رجال السي آي إيه، وقتلا هما أيضًا زميليهما، ورجلان آخران، ورجلان آخران، ورجلان آخران. كل هذا بينما كان الرئيس في غرينويتش فيلاج يمارس إهراق دمه، وهو يصرخ من الألم واللذة. وككل مرة بعد قتل الروح، عاد يرتدي ثوب النعامة، ليعود خِفية كما جاء خِفية. لكنه، وهو في الزقاق، لم ينتظر اعتداء بعض السوقيين عليه. غصبوه نقوده، واغتصبوه، بينما هو يردد: أنا الملكة مارغو! أنا الملكة مارغو! وعلى سماع نفير سيارات الشرطة، امتطوا أجنحة الظلام. في مركز شرطة غرينويتش فيلاج، عرف رجال الأمن في المعتدى عليه رئيس الولايات المتحدة، فذُهلوا. شاهد الأمريكيون رئيسهم في ثوب النعامة على شاشات التلفزيون، وهو يقدم استقالته، فقام العالم على الخبر، ولم يقعد: مئات آلاف سيارات الإف بي آي والبنتاغون والسي آي إيه، مئات آلاف الأضواء الزرقاء والحمراء والصفراء والخضراء والبيضاء والسوداء والبرتقالية والقهوية والقمرية والقهرية والقبرية والزَّهْرية والزُّهَرية، مئات آلاف القنوات الناقلة لصور آبل-كاين في ثوب النعامة، ومزيد من الصور، ومزيد من الصور، ومزيد من الصور، الصور، الصور، الصور، سلطة الصور، ربوبية الصور، عبادتها، عبوديتها، السجود لها، التبرك بقدسيتها، بأُلوهيتها، بعهريتها، بشيطانيتها، بخرائيتها، بقيئيتها، المزيد من صور العار، المزيد من الصور الخلابة لرقصته، رقصة العار، في حفل الإغواء الإعلامي، رقصته المذهلة، المزيد من صور رقصته الفريدة، رقصته الغائطية، ومزيد من الصور، ومزيد من الصور، ومزيد من الصور، كان العار صورًا لانهائية، وكان العار على الرغم من كل دمامته فاتنًا أقحبَ خلابًا. وفي الليلة نفسها، أدى نائب الرئيس اليمين كما تحتمه الإجراءات الدستورية، وغدا مروحة الورق الأبيض، أول رئيس صيني للولايات المتحدة الأمريكية.

* * *

أول ما فعله الرئيس الأمريكي الجديد المجيء إلى البيت الأبيض بالثالوث الذي كان يعمل معه: كارل روجرز أو العود الأحمر نائبًا، صندل القش للعلاقات والاتصالات، سيد البخور للطقوس والتجنيد. طرد كل من يعارض سياسته، وأبقى كل من يوافق عليها، طرد زوجتي كيلي، وأبقى ميراندا، ورمى الأستاذ جوزيف ماكدويل في ريكرز آيلاند، وأكثر من أي شيء، ملأ البيت الأبيض بجنود سيد البخور. أخذت تتصاعد رائحة العفن من البيت الأبيض، رائحة قديمة كانت حبيسة، رائحة مزكمة للأنوف غلبت على كل الروائح الأخرى كرائحة الأري المحترق أو رائحة البط المبرنق أو رائحة أزهار البرقوق، الرمز الوطني للصين. حتى ما هو عديم الرائحة كفضة القمر في المساء أو ذهب الشمس في النهار كانت له رائحة عفنة مزكمة للأنوف. كانت كل صفحات التاريخ التي كتبت في البيت الأبيض تند عنها رائحة عفنة مزكمة للأنوف، وكل ظلال العظماء الذين يعرفهم هذا المكان المَعْبَد اختلطت بظلال الحكام الألاعيب ورائحة نعال الجلادين الذين نفذوا بالحديد والنار في شعوبهم من الجرائم ما يُثقل الذاكرة. لم نعد نسمع في الممرات غير اللغة الصينية، ولم نعد نرى غير الظلال الصفراء، ولم نعد نقرأ على أبواب المكاتب غير أرقام تشير إلى هوية من يشغلها: 438 لسيد البخور، 432 لصندل القش، 426 للقطب الأحمر، 438 لنائبة رأس التنين، 489 لصاحب المكتب البيضاوي، إلى آخره، إلى آخره، والكثير من 49 حيث يقيم الجنود. كان الله صينيًا في البيت الأبيض، وهو ككل شيء فيه كالأدوات المنزلية المتحركة بالكهرباء كالسيارات كالمسلسلات التلفزيونية كالفساتين القصيرة كربطات العنق يفوح برائحة عفنة تزكم الأنوف.
بدأت البنوك تعلن إفلاسها واحدًا تلو الآخر، وكان لهذا الوباء علاج وحيد يقوم به مروحة الورق الأبيض، ألا وهو الاستدانة من الصين، فتراكمت الديون، وغدت أضعاف أضعاف ما كانت عليه، وتضخمت الفوائد، والفوائد على الفوائد. لم يعد بالإمكان دفع الرواتب إلا بالأموال الصينية، لم يعد بالإمكان صيانة الجيش إلا بالأموال الصينية، لم يعد بالإمكان تشغيل المصانع إلا بالأموال الصينية، وبكل بساطة لم يعد بالإمكان العيش (الأكل الشرب اللبس النوم العمل التنفس الشخ التغوط التضاجع) إلا بالأموال الصينية. احتلت الصين أمريكا بأموالها، وكانت تلك الخطوة الأولى قبل اجتياحها، ونحن نرى دباباتنا صدئة، ومدافعنا صدئة، وبوارجنا صدئة، وحاملات طائراتنا مهجورة، وطائراتنا دون قطع غيار. كان الخطر كل الخطر يصدر عن قنابلنا النووية وصواريخنا العابرة للقارات، إذن ما تبقى لدينا من قوة خصصناه لها، لأن عدم الاعتناء بها يعني انفجارها، بيدِ طفلٍ يمكن انفجارها، وانفجار أمريكا والعالم معها. كان تفكيك هذه الأجهزة الجهنمية، يكلف أكثر مما كلف صنعها، لهذا فضل الجنرالات صيانتها بانتظار، بانتظار ماذا؟
في أحد الأيام، أمام ضعف المارينز وتدني عتادهم بالمقارنة مع العتاد الصيني، عتاد النانوتكنولوجيا، آخر طرز، وكذلك لاضطرار الجنرالات إلى التعاون مع الصين، وذلك بسبب اجتياحها المالي للولايات المتحدة، اجتياح القوي الذي لا يتزعزع، ولا يؤثر فيه شيء مهما عظم، تمامًا كما كانت أمريكا منذ عدة عقود، نزلت في موانئ نيويورك فرق الجيش الأحمر غير بعيد من تمثال الحرية، وذهبت في عرضٍ لها في الشارع الخامس، من سنترال بارك إلى ميدان واشنطن. كان الرئيس الأمريكي الصيني الأصل بابتسامته الشاحبة على المنصة هناك لمشاهدتها، وهي تسير في رتلٍ يتلو رتلاً، وكان يحرك يده لها علامة الرضاء والإعجاب. كان كل هذا يدعى بتوسع "الفار ويست" الجديد على حساب الأمريكيين، كل الأمريكيين، ففي الأزقة المؤدية إلى الشارع الشهير، كانت اعتقالات المحتجين بالعشرات، بالمئات، بالآلاف، والمظاهرات تقمع بالحديد والنار واللون الأصفر.



تمت الترجمة إلى الفرنسية والتعديلات يوم السبت في 2013.03.09
باريس












أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) بنيوية خاضعة لنصوص أدبية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004

[email protected]



تراجيديا النعامة مستوحاة من قضية العصر "د س ك" دون أن يكون ذلك تمامًا، فالمؤلف يبتعد أكثر في نظرته إلى هذه القضية، ينظر إلى أبعادها الكونية كقضية لا مثيل لها من قضايا القرن الحادي والعشرين، وإلى أبعادها الشخصية كقضية فرد استثنائي، فما وراء الفعل الجنسي، وبعد ذلك الفعل البوليسي على الطريقة الأمريكية، يسجل أفنان القاسم كل الإحالة الوجودية في هذين الفعلين، ويجعلنا نكتشف معه ملامح ومزايا ربما ليست في د س ك، ولكن دون د س ك ما أمكنه تمثلها، وما أمكنه عرضها كما فعل إلا لأن هذه الشخصية تظل مذهلة، شخصية من شخصيتين، وفعل من فعلين، ولحظة من لحظتين، حتى في أشد لحظاتها بؤسًا وتعاسة، حتى في أعظم لحظاتها تألقًا وصعودًا، فالشرط الإنساني والشرط التاريخي يراهما أفنان القاسم رؤية بول ريكير (Paul Ricœur) لهما، كشرط تراجيدي. من هنا كل هذه التراجيدية "المحتَّمَة"، كل هذا التخيل "المتعذِّر تنفيذه"، كل هذا الكلام "المتعذِّر وجوده"، وربما كل هذا ليقول المؤلف لنا: حذار، اعرفوا قيمة العباقرة والأفذاذ ولا تتركوهم وحدهم إذا ما زَلَّت بهم القدم، وإلا كان مستقبلكم وخيم العاقبة... إنها رواية سقوط الجبابرة.








* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشيخ والحاسوب
- وصول غودو
- مؤتمر بال الفلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم في كتاب
- أمين القاسم الأيام الفلسطينية
- خطتي للسلام الاتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين
- البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثالث
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثاني
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الأول
- أنفاس الديوان الثالث
- أنفاس الديوان الثاني
- أنفاس الديوان الأول
- أربعون يومًا بانتظار الرئيس
- أفنان القاسم يجيب على أسئلة -سيدتي-
- كتب وأسفار
- الذئاب والزيتون
- أم الجميع ابنة روما
- أم الجميع سقوط جوبتر
- أم الجميع مأساة الثريا
- الاغتراب


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - تراجيديا النعامة