أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - البحث عن أبولين دوفيل رواية الثورة المصرية















المزيد.....



البحث عن أبولين دوفيل رواية الثورة المصرية


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3787 - 2012 / 7 / 13 - 11:14
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الأعمال الروائية (31)


د. أفنان القاسم



فرانك لانج، أبولين دوفيل
و
البحث عن أبولين دوفيل

A LA RECHERCHE D’APOLLINE DEVILLE



الرواية الثانية

















































إلى مصر الضائعة


































القسم الأول

لم يتوقع فرانك لانج كل تلك الحركة غير العادية في مدينة شاتني مالابري، مدينة صغيرة من مدن أعالي نهر السين، وعند تلك الساعة المتأخرة من الليل. كانت السيارات في ذهاب وإياب، يزمر سائقوها دون سبب، حسبما بدا له، ويسرعون دون دافع، كما ظن، وكانت الأرصفة مليئة بالناس، دون هدف، مثلما تخيل، بينما تبدو على وجوه الجميع أمارات القلق. كان الجو باردًا، والناس لا يبالون بمساء بارد من مساءات شهر يناير، وعلى وجوه الجميع تبدو كل تلك الأمارات من القلق. هل يكون هذا بسبب قداس منتصف الليل في الكنيسة القبطية، وما يوجب ذلك من اتخاذ إجراءات مشددة؟ بعد اعتداء الاسكندرية الذي أودى بحياة عشرات الأقباط، كل شيء متوقع، كل شيء ممكن، السيارات المفخخة، الذئاب المتوحدة، القنابل الموقوتة. أليست اليد الأجنبية، كما يشيع النظام، بكافية عبادها من المجرمين الفعليين؟ خذوا إذن كل هذا بالمقابل. كل شيء متوقع في كل مكان من العالم، كل شيء ممكن بالمفهوم الأمني في زمن نهاية الحضارات. تعال، قالت له أبولين دوفيل على الهاتف، ربما احتجت إليك. لأول مرة تطلب منه ضابطة المخابرات الخارجية المجيء، ولأول مرة لا يد للصدفة في شيء. لم يحيره طلبها، شيء طبيعي أن يتعاون أصحاب المهنة ما بينهم، وتمنى رجل التحري الخاص لو يكون هناك أكثر من ذلك بينه وبين الشقراء الساحرة. هذا ما كان يتمنى. أن يكون هناك أكثر من عون صغير يقدمه لها، وألا يقف الأمر عند هذا الحد. لكن نعومة نبرتها التي لم يعتد عليها جعلته يفكر في أن هناك خصمًا خطره كبير لم تكن أبولين دوفيل قادرة على التصدي له وحدها، كان الخطر كبيرًا، وكانت أضواء مصابيح الأعمدة ضعيفة في الناحية التي كان هناك موعدهما، والناس ما زالوا كما رآهم في كل مكان، دون هدف، تبدو على وجوه الجميع أمارات القلق، والسيارات ما زالت كما التقاها في كل شارع، يزمر سائقوها دون سبب، ويسرعون دون دافع. عبرت مرسيدس مزينة بأكاليل الزهور بأقصى سرعة، وهي تطلق أنغام الفرح، فتحير في أمره. أوقف فرانك لانج سيارته الفيراري الحمراء فوق الرصيف، ودخل مقهى "كأس الجعة"، فوجد الزبائن فيها قيامًا قعودًا. كانوا يشربون، ويدخنون، وبعض الثملين يتمايلون في زاوية نصف معتمة على أنغام الساكسفون والبيانو. ضرب كتفه بكتف أكثر من واحد، وهمّ بالجلوس على أول مقعد يجده فارغًا، كان لا يريد الجلوس، لكنه فكر في كل أولئك الناس الذين يقومون، ويقعدون، وفي اللحظة ذاتها لاحظ أبولين دوفيل، وهي تشير إليه. كانت تأخذ كأس جعة على طاولة الشرب، والنادل لا يجد الوقت ليمسح عرقه عن جبينه.
- هل كل هذا بسبب ما يجري في الكنيسة القبطية؟ رمى فرانك لانج قبل أن يصل قرب شقراء المخابرات الخارجية دون أن تسمعه.
- ماذا تقول؟
- سألتك إذا ما كان كل هذا القلق غير المعهود لسكان شاتني مالابري بسبب ما يجري في الكنيسة القبطية.
ترك جار أبولين دوفيل مقعده العالي، فاحتله رجل التحري الخاص، وأبولين دوفيل تعلق ساخرة:
- في أي بلد تعيش، لانج؟
- الحق أنني مع كل شاتني مالابري القائمة القاعدة على مثل هذه الصورة لست أدري.
وتوجه إلى النادل الذي يلبي الطلبات دون توقف:
- كأس جعة لو سمحت.
- شقراء؟
- وهل هناك ما هو أفضل؟
ضحكت أبولين دوفيل:
- لماذا لا تتوقف عن التحرش بي؟
- تعرفين لماذا أم يسرك أن أقوله لك دومًا؟
- هل أعذبك خلال نومك إلى هذه الدرجة؟
- تعذبينني؟ تهلكينني كابتن دوفيل، تَجْزِرينني، تميتينني.
ضحكت أبولين دوفيل من جديد:
- ولكنك لست رجلي، أيها الفُطر!
- سينتهي بي الأمر إلى أن أكون فُطرًا من أجل حب عينيك.
- لكنني لا أحب الفُطر، أيها الفُطر!
- يكفي أن يحبك الفُطر هو.
- سأبوح لك بسر.
- ما هو؟
- ولكن لا.
- قولي بالله عليك.
- ستغضب.
- قولي وسنرى.
- اشرب جعتك.
- يا لهذا النادل العفريت! لم أنتبه إليه! منذ متى وجعتي بانتظاري؟
- منذ وقت ليس بالبعيد.
- مع كل هذا العالم!
- إنه جهنميّ.
- إنه جهنميّ بالفعل.
- ومن قال يا أشيطن يكون مستوجب نار جهنم.
- لم تقولي.
- لا تريد أن تعرف لماذا الناس هنا ليسوا كغيرهم هذا المساء.
- بعد أن تقولي.
- لقد وجدت رجلي، وسأرحل معه بعيدًا عن كل هذا إذا ما تم كل شيء على ما يرام الليلة.
- إذا ما تم كل شيء على ما يرام الليلة.
- لا يبدو عليك التأثر.
- وإذا ما لم يتم كل شيء على ما يرام الليلة؟
- والشيء الآخر.
- الشيء الآخر؟
- شاتني مالابريه التي ليست شاتني مالابريه.
- الشيء الآخر. نعم، لماذا؟
- لأن رئيس البلدية يزوج ابنته.
- رئيس البلدية يزوج ابنته، تشرفنا.
- أمرك غريب كرجل تحر خاص.
- رجل تحر خاص نعم، ولكن ليس في كل شيء، ما عدا...
- وما تشربه على حسابه.
- بجد ما قلته لي؟ وجدت رجلك؟
- وما تشربه على حسابه.
- على حساب رئيس البلدية؟
- لهذا السبب هو رئيس بلدية.
- أرى ذلك.
- ترى ذلك.
- وما قلته لي بخصوص رجلك الذي وجدته بجد؟
- سيجيء يوم ويصبح بجد.
- لقد ارتعدت فرائصي من الخوف.
- تقول بجد؟ من الخوف؟
- أنا خواف لما يتعلق الأمر بشئون القلب.
- ابتعد عني، لانج، ابتعد عني كثيرًا أحسن لك.
- أحسن لي؟
- أحسن لك.
- سأحاول. ولكن...
- هذا المساء لشاتني مالابري ليس كغيره.
- سأبوء بالفشل.
- هذا المساء الكل يريد أن يشرب الجعة.
- لهذا لن أحاول.
- لن تحاول.
- ولماذا إذن كل أمارات القلق هذه؟
- لأن سكان شاتني مالابري لا يريدون أن ينغص عليهم ما يجري في الكنيسة القبطية لحظة من أسعد لحظات حياتهم، هذه اللحظات القليلة في حياتهم.
- ماذا لديك، كابتن دوفيل؟
- أنت لا تفكر سوى في النوم معي.
- هل الأمور خطرة إلى هذه الدرجة؟
- معنا الأمور دومًا خطرة.
- ليست بخطورة ما جرى في الاسكندرية.
نظرت إليه نظرة طويلة، ثم أنهت كأسها دفعة واحدة، ونهضت:
- سأذهب. علينا ألا نُبدي أننا معًا.
- خاصةً لا تقولي شيئًا.
ذهبت، فناداها:
- كابتن دوفيل.
لكنها ضاعت بين الرواد.
شرب فرانك لانج كأسه على أنغام الساكسفون الزاعقة، وطلب أخرى، أخذ منها جرعة بطيئة، ثم جرعتين سريعتين. ترك ورقة نقدية كبيرة للنادل، وعجل في مغادرة المقهى، والنادل ينقل الورقة النقدية بإصبعين دهشتين، فرئيس البلدية من يدفع، وهو ينظر في الاتجاه الذي ذهب منه رجل التحري الخاص.

* * *

ترك رجال الأمن فرانك لانج يمضي بسيارته الفيراري إلى غير بعيد من مدخل الكنيسة القبطية، كنيسة أشبه بكباريه، سقفها على شكل قبعة الفارس الملكي. كانت السيارات الرسمية كثيرة، والحواجز، والكلاب، وكان المدعوون والمؤمنون يختلطون ببعضهم، فلم يُعرف هذا من ذاك. رأى رجل التحري الخاص رجال الدرك، وهم يبطحون أحدهم في طرف الفناء، ويكبلونه، وهذا يصرخ بفرنسية مكسرة أنه قبطي، وأنه جاء للاحتفال بنويل القبطي في السابع من يناير، أليسه السابع من يناير؟ نويل القبطي الذي له، وليس الذي لهم، الأوغاد! فأوسعه رجال الدرك ضربًا لما ظنوه يسبهم، والرجل يصرخ إن الأوغاد هم، وليس أنتم، أصحاب اللحى، المجرمون، قتلة أبرياء الاسكندرية، دون أن يتوقف رجال الدرك عن ضربه.
في الداخل، كانت قاعة الكنيسة تعج بالحاضرين، وكان الكثير منهم وقوفًا في الممرات الجانبية، وهم صامتون، كان القلق يغزو وجوههم دون التهيج هذا صحيح، لكن القلق كان يبدو على الوجوه، وكل الوجوه كانت عابسة على عكس وجه المسيح الباسم في اللوحات المعلقة على الجدران، مسيح أسمر كالمصريين، أقرب إلى أسود "بانانيا" الشاب، وهو بين أيدي حَوارييه، حَواري من حَواري الصعيد تحت عمائمهم وجلابيبهم، عمائمهم البيضاء وجلابيبهم الثقيلة، أو إلى "بيبيتو" الطفل، وهو بين ذراعي أمه، أم من أمهات الصعيد تحت شالها ومُلاءتها، شالها الأبيض ومُلاءتها الفضفاضة. أما تماثيل المسيح، فكانت آية من آيات الفن الفرعوني، وكأن رمسيس الثاني قد عاد في ثوب الابن المادد سبابته ليبارك من هم في بيته. بحث فرانك لانج بعينيه عن أبولين دوفيل دون أن يجدها، فقال لنفسه إنها في مكان ما كعادتها. لكنه لم يكن مطمئنًا، خاصة بعد أن تقدم أقرب ما يكون من الشخصيات الهامة التي تحتل الكراسي الأمامية، ورأى وزير الداخلية، ورئيس مجلس المنطقة، وممثل الإليزيه، والحاخام الأكبر، وكاردينال نوتردام، وإمام مسجد باريس، وليس بعيدًا منهم كان رجل طويل القامة يخفي وجهه في ظل قبعة. لم يكن مطمئنًا. كان يفكر في أبولين دوفيل، ولم يكن مطمئنًا. استعاد نظرتها قبل أن تتركه منذ قليل، وبدا له أن نظرتها كانت باهتة. كل أبولين دوفيل كانت باهتة، كانت أبولين دوفيل باهتة، ولم تكن تتألق ذهبًا وألواناً. معنا الأمور دومًا خطرة. قالت. لم تقل ما هي. الأمور، لم تقل ما هي. الأمور دومًا خطرة هذا صحيح، ولكن هناك أمور خطرة وأمور خطرة. هناك أمور خطرة إلى حد المغامرة بالنفس، وهناك أمور فقط خطرة. معنا. مع أفراد الدي جي إس إي التي هي واحدة منهم. أفراد المخابرات الخارجية. معنا. ليس معي ومعها. معها ومعهم. لم تقل معي ومعك على الرغم من كل ما أفعله من أجلها، الكافرة بالنعمة، فنحن الاثنان يساوي المرء ما بيننا دون تمييز. ليس هذا لأنها تحتاج إليّ. ليس هذا من أجل خدمة صغيرة أقدمها. أبولين دوفيل تعرف هذا تمام المعرفة، تعرف هذا، وتتجاهله لمناكدتي. هل يعني هذا أن الأمور ليست خطرة؟ ليست خطرة إلى حد المغامرة بالنفس أم فقط ليست خطرة؟ واستعاد من جديد نظرتها الباهتة. يا إلهي! بل هي خطرة، الأمور جِدّ خطرة.
دخل أسقف الكنيسة أول ما دخل أمام مجموعة من سبعة كهنة، وهم يرتدون الثياب المزوقة، ويضعون على رؤوسهم القبعات المطرزة، ويحملون الصولجانات المبرنقة. أخذوا أماكنهم في الجناح المواجه للحاضرين، وهم يحنون رؤوسهم، ولا ينظرون إلى أحد. وبعد مضي عشر ثوان من الصمت الثقيل، رفع الأسقف رأسه، وحط بعينيه على وزير الداخلية الذي وقف في الحال، وراح يقول:
- يسعدني أن أكون هنا بين إخوتي الأقباط، وأن أشاركهم فرحة نويل على الرغم من كل شيء، ويهمني أن أقول على مسمع الجميع إن رجالي يسهرون على حمايتكم، وهم لن يدخروا وسعًا في سبيل ذلك، والآن أترك الكلام إلى ممثل السيد رئيس الجمهورية.
وجلس بينما وقف ممثل رئيس الجمهورية، وبعد أن انحنى بين يدي أسقف الكنيسة، قال:
- أريد أن أوصل إليكم رسالة شخصية من السيد رئيس الجمهورية، رسالة فحواها التضامن مع الجالية القبطية في فرنسا بعد كل ما وقع في الاسكندرية، وعبر السيد رئيس الجمهورية فرنسا بأكملها.
وجلس بينما وقف رئيس مجلس المنطقة الذي تلفت حواليه قبل أن يتوجه بالكلام إلى الأسقف القبطي:
- بوصفي رئيسًا لمجلس المنطقة أعزي الكنيسة القبطية بضحايا الاسكندرية وفي الوقت ذاته أهنئها بمولد السيد المسيح.
وجلس ثم نهض ليضيف:
- وأقول لمواطنينا الأقباط نحن هنا في خدمتكم ويا ليتنا كنا نستطيع أن نفعل شيئًا من أجلكم هناك، وشكرًا.
عاد يجلس، وهو يتلفت حواليه، بينما الحاخام والكاردينال والإمام يهزون رؤوسهم علامة الموافقة الإجماعية، وفي نفس اللحظة خفتت الأضواء، ودخلت كاهنات الكنيسة السبعة من باب جانبي، وهن يرتدين الثياب المزوقة كالكهنة، وثلاث منهن يحملن آلاتهن الموسيقية: جنك، وطبل، وقيثار. بدأن العزف والترتيل، والأسقف يقول، وهن يعدن من ورائه:

أنت كالشمس تولد كل يوم
أنت كالشمس تموت كل يوم

أنت كالشمس تشرق كل يوم
أنت كالشمس تغرب كل يوم

أنت كالشمس تضيء كل يوم
أنت كالشمس تظلم كل يوم

أنت كالشمس تُدفئ كل يوم
أنت كالشمس تُبرد كل يوم

أنت كالشمس تخصب كل يوم
أنت كالشمس تعقم كل يوم

دخلت سبع راقصات، وهن يتزوقن بكثير من الأسود والأحمر والأخضر والأبيض، ويرتدين الثياب الشفافة، ويعقصن شعرهن بدبوس، وأخذن يرقصن على إيقاع الموسيقى. تبادل الأسقف ورجل القبعة نظرات متسائلة، في البداية، ثم وجلة، إلى أن دخلت أبولين دوفيل كربة من الربات في ثياب الرقص الشفافة، والتحقت بالراقصات الأخريات، اللواتي رحن يملن بمفاتنهن على الأسقف، والأسقف يمسح عرق جبينه. توقفت الموسيقى فجأة، وكل الراقصات ارتمين على قدميه، وكل المؤمنين اعتمدوا على ركبهم. تلفت رئيس مجلس المنطقة حواليه، وأشار إلى زميليه بالركوع كما فعل غيرهم. وبينما كان الكل في حضرة الأب خاشعًا، رفع الأسقف أبولين دوفيل من ذقنها، وبعد أن تأملها مليًا، سحبها من ذراعها، وغادر معها القاعة. عادت الكاهنات إلى الترتيل مع الكهنة هذه المرة، كهنة لم يرفعوا رؤوسهم مذ حضروا، والعازفات إلى العزف، والراقصات إلى الرقص، كان رجل القبعة قد اختفى، فخف فرانك لانج إلى عالم الكنيسة الخفي متعقبًا آثاره.

* * *

في الطابق السفلي للكنيسة، ابتعد الترتيل، وكأنه يجيء من فجر التاريخ. كانت الأضواء خافتة في الممرات، والشموع كثيرة هنا وهناك، وكانت تماثيل كثيرة للأب بعضوه العالي، أحيانًا لوحده، وأحيانًا مع العذراء العارية، وفي أوضاع مختلفة. كانت للأب هيئة الصعيدي الهمجيّ، وللعذراء هيئة المصرية المسكينة المستكينة المستسلمة لقدرها. لم يكن هناك أي تمثال للابن، ولا أية صورة، ولكنه كان يعوم في بعض الأيقونات كما لو كان يعوم في بطن أمه، وهو يبتسم ابتسامة بلهاء أو يبارك بسبابته العالم، ولما يأتي بعد إلى العالم.
على باب إحدى الحجرات، نظر الأسقف من ناحيتي الممر خوفًا من أن يكون أحدهم قد تبعه، ثم زلق يده تحت ظهر أبولين دوفيل، ودفعها، لتجد نفسها مقابل رجل القبعة، وهو يشهر مسدسه عليها.
سقط الأسقف على قاعدة تمثال الأب، وهو يهمهم شاكرًا ممتنًا:
- كما أرسلتني إلى العالم، أرسلتهم أنا أيضًا إلى العالم.
- لا تفرح قبل الأوان، نبرت ضابطة المخابرات الخارجية.
لكن الأسقف عاد يهمهم:
- أنا معكم كلكم كل يوم وحتى نهاية الأزمان.
فصاح رجل القبعة:
- هلا خرست لحظة واحدة، يا دين الرب!
والأسقف يواصل الهمهمة:
- ولكن أيها المبتئسون، الروح القدس التي سيرسلها الأب باسمي ستعلمكم كل شيء، وستذكركم كل ما قلته لكم.
- يا دين الرب، ويا دين الرب، لست الروح القدس، يا دين الرب!
- الروح الدنس، رمت أبولين دوفيل، أنتم كلكم في السي آي إيه.
نهض الأسقف، وبحركة مسرحية حمل أيقونة تحبل بالمسيح، وراح يخاطبها:
- وصارت الكلمة لحمًا، وسكن ما بيننا هو النعمة والحقيقة.
- قلت لك أن تخرس، يا حقيقة قفاي!
شد الأسقف الأيقونة إلى قلبه، وانتظر صامتًا، لكن القلق لم يغادر محياه.
- نعم، هكذا، وحتى نهاية الأزمان، بصق رجل السي آي إيه.
- أعد مسدسك إلى جيبك، وسنتفاهم أنا وأنت، سنجد مرتعًا خصبًا لنا ولكم، طلبت أبولين دوفيل.
- سنجد ماذا؟ كلامًا خلابًا؟ لنا ولكم، يا قفاي؟
- إذا لم أخرج من هنا في الحال، عرف الكل أن هذا الأسقف الخرع لم يُقتل، وجاء كل جهاز الأمن على رأسه وزير الداخلية لنجدتي.
- وزير الداخلية؟ إخوتي الأقباط؟ حلوة هذه مضاجعتكم!
- حلوة أم ليست حلوة أنت تعرف جيدًا ما تريده السياسة التي غالبًا لا علاقة لها بالأخلاق.
- أنتم تسعون وراء ضرب الأقباط بالإخوان المسلمين كما فعل النظام عندما قتل أبرياء كنيسة الاسكندرية، وأوحى إليهم بأنهم هم، واليوم عندما تقتلون باتفاق مع النظام أسقف قفاي هذا، وتوحون إلى العالم بأنها يد الشيطان، يدهم، فتكون المذابح بين المصريين، ويكون الرابح الوحيد النظام، أنتم، لكن البيت الأبيض لا يريد كل هذا، نحن الأمريكيين نسعى لتحقيق هدف التغيير في مصر، ولن يكون هناك تغيير إلا باتفاق الخريتين المسيحية والمسلمة.
- الإخوان المسلمون، هذا هو التغيير.
- حتى وإن كانوا الإخوان الشياطين.
- النظام أقل شيطانية، لهذا نحن معه.
- مقتل أسقف قفاي هذا لن يبدل شيئًا كبيرًا، الثورة على الطريق، وستجرف كل شيء.
- سيبدل.
عاد الأسقف يشد الأيقونة إلى قلبه، ويبتهل إلى ما لا نهاية.
- خصومه في البطركية سيكونون الرابحين الوحيدين بعد الإنهاء على أكثرهم ترشيحًا لخلافة قداسة بابا قفاي.
- وما المزعج في الأمر؟
- وإذا كان الخلف كالسلف لاحسًا لقفا النظام؟
- هكذا نوفر على المصريين مآسي الإخوان المسلمين.
- على الإخوان المسلمين أن يحكموا.
- على النظام أن يبقى.
- على الإخوان المسلمين أن يحملهم الشعب على أكتافه إلى سدة قضيبي.
- على النظام أن يبقى في سدة الحكم.
- على الإخوان المسلمين أن يجربوا حظهم، خراء!
- على النظام ألا يعطيهم أي حظ، خراءان!
- لن نتفق.
- سنتفق.
- لن نتفق.
- سنتفق.
- لن نتفق، يا دين الرب!
- سنتفق، يا دين الكلب!
دفع فرانك لانج الباب بقدمه، وأردى رجل القبعة قتيلاً، بينما قفزت أبولين دوفيل على الأسقف، وهي تنزع الدبوس من شعرها، وتغرسه في عنقه. وقعت الأيقونة، وتحطمت إلى ألف قطعة. تأكد رجل التحري الخاص من مصرع رجل السي آي إيه، فسمعها تقول:
- تأخرت كثيرًا، أيها الفُطر.
- بسبب تماثيل الأب المثيرة في الممرات.
- يا لك من منحرف!
- هذا شيء أقوى مني، يا عزيزتي.
- كنت أعرف أنك لن تتخلى عني، لانج، أبدًا لن تتخلى عني.
- وهذا الذي يأخذ مكاني بين ذراعيك، ماذا سنفعل به؟
عاد الأسقف إلى ابتهالاته، والعرق يتصبب من جبينه.
- المخدر في الدبوس لا يؤثر فيه.
- لنتركه، ونذهب.
دفعته عنها بعيدًا، والأسقف يداوم على الابتهال.
- سيحبط مسعى النظام، هذا صحيح.
- اليد الأجنبية، أليس كذلك؟
- ذريعة أردنا تأكيدها، لكن النظام جهنميّ، سيجد الكثير من الذرائع الأخرى.
- هذا الأسقف الخرع لنتركه، ونذهب، قلت لك.
توقف الأسقف عن الابتهال، وراح يشكر، ويشكر.
- ولكن ماذا سنقول لهم في القاهرة؟
- هذا لأننا سنذهب إلى القاهرة؟
- بمقتل هذا الأسقف الخرع أو بعدم مقتله النظام سينهار إذا ما لم نقف إلى جانبه.
- ليس من طبيعتي أن أدعم الطغاة.
- سنحاول التحاور حيث الثقافات لا تتحاور.
- ستقولين لي داعي المصلحة العليا.
- لن أقول لك بما أنك قلته.
تقدم بمسدسه حتى رأس الأسقف، وهذا يهمهم الرحمة الرحمة! كانت أبولين دوفيل قد اتجهت إلى الباب.
- ألن تأتي؟
- لن نترك شاهدًا من ورائنا.
- ولكن، كنت تقول...
- نعم، كنت أقول، وبدلت رأيي.
- الأمريكان لن يعترفوا برجلهم مقتولاً.
- وماذا سنقول لهم في القاهرة؟
- سنقول لهم وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم.
ضربه بمسدسه على دماغه، فسقط رجل الدين مغشيًا عليه، وسارع رجل التحري الخاص بمغادرة الكنيسة مع شقراء الدي جي إس إي، دون أقل مخاطرة.

* * *

قطعت الفيراري الأوتوروت بسرعة هائلة، كانت أبولين دوفيل في ثيابها الشفافة صامتة، طوال الوقت صامتة، إلهة الضوء والجمال كانت طوال الوقت صامتة. لم تكن تنظر إلى فرانك لانج، ولم يكن فرانك لانج ينظر إليها. كان فرانك لانج يفكر في الطائرة الخاصة التي سيستقلانها من مطار رواسي إلى القاهرة، أما هناك في القاهرة ماذا سيجري كان رجل المباحث الخاص لا يريد أن يعرف. كان يقود بسرعة جنونية، لا لسبب، فالطائرة لن تقلع دونهما إذا ما تأخرا، ستقلع في الوقت الذي سيصلان فيه، لكنه كان يقود بسرعة جنونية. في ليل الأوتوروت كان كل شيء يبدو جنونيًا، وكان كل شيء يذهب بالوقت إلى نهايات الدنيا.
سمعها تقول دون أن تنظر إليه:
- اعتقلوها وعذبوها لأنها رفضت إنكار عقيدتها.
لم يفهم:
- عمن تتكلمين؟
- عني.
- عنك؟
- لكنها رمت بنفسها في المحرقة.
- تقصدين... أي خراء كل هذا!
- أي خراء كل هذا!
- هذه السويداء ليست من طبيعتك.
- لم أفقد بعد اعتقادي بالحظ الذي لي.
- الحظ. هل هناك حظ حقًا؟
- وأنا كنت صغيرة كنت لا أُطاق، كنت خرّاية، وكنت أقوم بأفعال خطرة أحيانًا، وأنجح، فيقولون بسبب الحظ الذي لي.
- والثقة أين مكانها في كل هذا؟
- الثقة شيء آخر، الثقة لأنك محظوظ، لو لم تكن محظوظًا لما كنت واثقًا.
كان على وشك الوصول إلى المطار، وكانت الأضواء تتشتت أمام مصابيح الفيراري، فلم يكن ذلك ليريح فرانك لانج. نظر إليها من طرف عينه، وبدا له أنها ترتعش.
- سأشعل السخان، قال رجل التحري الخاص.
- السخان مشتعل، قالت ضابطة المخابرات الخارجية.
- كنت أظن...
- يحصل أن أرتعش عندما أشك في الحظ الذي لي.
أوقف فرانك لانج فيراريه عند سلم الطائرة الخاصة، فجاء من أخذ المفاتيح منه، وذهب بها بعيدًا عن الأنظار، بينما تمنى لهما كولونيل حظًا طيبًا.
في الطائرة الخاصة، استقبلهما ثلاثة مضيفين ومضيفة بفيض الابتسامات والتحايا. رافقت المضيفة أبولين دوفيل إلى غرفة نوم فيها خزانة ملأى بشتى أنواع الثياب النسائية والرجالية، وقالت لها أن تختار ما تشاء منها بعد الإقلاع. أجلستها على كنبة مريحة، وربطت حزامها. حملت لها علبة إزالة المساحيق عن الوجه، وفتحتها على مرآة. تناولت محرمة مخضلة بالعطر، وراحت تمسح بها الكحل عن عينها، ثم نزلت بالمحرمة إلى وجنتها، فثغرها، وبسبابة شبقة مست شفتيها، وانحنت لتأخذهما بشفتيها، إلا أن أبولين دوفيل أدارت رأسها. داعبتها المضيفة من عنقها، ومن ثديها، ومن بطنها، وسقطت بأصابعها على فخذها، ثم أعطتها ظهرها، وقبل أن تغلق الباب ألقت عليها نظرة متيمة. كان أحد المضيفين قد رفع السلم، وأغلق الباب الخارجي، ومن تلفون داخلي أعلم القبطان بذلك. اهتم المضيفان الآخران براكبهم المحظوظ، فأجلساه هو الآخر على كنبة مريحة، وربطا حزامه، وقرّبا منه سلة الجرائد والمجلات. أخذت الطائرة الخاصة تتحرك، فترامى المضيفون الثلاثة في مقاعد متفرقة، وربطوا أحزمتهم. كانت المضيفة قد عبرت الصالون إلى المطبخ، وهي تبتسم أجمل ابتسامة، ومن المطبخ إلى حجرة القيادة. ابتسم لابتسامتها القبطان، وابتسم لابتسامتها مساعده، وأخذت مكانًا خلفهما. أخرجت تلفونها المحمول من جيبها، وأرسلت رسالة قصيرة "سنقلع بعد عدة ثوان". نبهها القبطان إلى ربط الحزام، فارتبكت، وهي تعيد تلفونها المحمول إلى جيبها، ولم تبتسم هذه المرة. "هل هو حبيبك؟" رمى القبطان. "ليس أنا" رمى مساعده. فجأة، عجلت الطائرة الخاصة الحركة قبل أن ترتفع، وتحلق في الأجواء تحليق الطائر الفولاذيّ. عند ذلك، فك المضيفون الثلاثة أحزمتهم، وجاءوا لفرانك لانج بأجود أنواع الشمبانيا وأفخر أصناف المقبلات، كما جاءت المضيفة للطيارَيْنِ بالشيء نفسه. لم تتأخر أبولين دوفيل عن الخروج من غرفة النوم، وهي تنعم بماكياج خفيف، وترتدي كنزة حمراء وجينز يضغطها ضغطًا، فيبين وسطها السفلي، وكأنه نُحِتَ نَحْتَ تماثيل آلهة الإغريق. ابتسم فرانك لانج لكل هذا الخلق الربانيّ، وابتسم المضيفون الثلاثة، وقدموا كوب شمبانيا لضابطة المخابرات الخارجية، وهم يتسابقون على خدمتها، والمضيفة تلقي عليها من بعيد نظراتها المتيمة.

* * *

فتحت المضيفة عينيها، والظلام يخيم على كل مكان داخل الطائرة الخاصة. كان القبطان ينام في مقعده بعد أن أنزل مسنده، ومساعده يقود بانتظار أن ينام بدوره. وقفت المضيفة، فأدار المساعد رأسه، وابتسم لها، فلم ترد على ابتسامته بالمثل. قطعت المطبخ إلى الصالون، ورأت كيف ينام المضيفون ملء جَفْنَيْهِم. تقدمت على رؤوس أصابع رجليها من فرانك لانج، كان هو الآخر يبدو عليه النوم ملء جَفْنَيْهِ، جاكيته معلق، ومسدسه مدلى على خاصرته. مدت يدها إلى المسدس، وداعبته بأصابع متوترة، ثم ما لبثت أن تركته إلى غرفة النوم، وهو يفتح عينيه، ويتابع خطواتها. فتحت باب غرفة النوم بحذر، وأغلقته بحذر. على الأرض، تعثرت بالكنزة الحمراء، وبالجينز الضيق، وبباقي ثياب أبولين دوفيل الجنونية. كانت كابتن الدي جي إس إي تنام بكل عراء العالم، وهي تعطي للعالم ظهرها المنحوت بإزميلِ مجنونٍ فقدَ عقله بعد أن وقع في حب ما صنع. كان يكفي النظر إلى كل ذلك الرخام الحي لتعوي كل الرغبات، لتتفجر كل البراكين، ليتحول الوحش الذي في الإنسان إلى أفاعٍ وعقارب وتماسيح. مرت عليها بيديها الاثنتين، وهي تَنْخُرُ كخنزيرة، ولسانها يتدلى ككلبة. أخذتها من فخذيها، وصعدت، ومن رِدْفيها، وصعدت، ومن خاصرتيها، وصعدت، ومن كتفيها، و... أدارتها، فإذا بالإلهة تنقض على شفتي العابدة، وتقبلها قبلة الفسق الشهيّ. خلعت لها كل ثيابها في لمح البصر، وجعلتها تغوص في تقوى المعاصي، كل ذلك الجسد الإلهيّ كان رجسًا وصدقًا. ومن الباب المفتوح قليلاً، كان فرانك لانج يشاهد أجمل عناق على وجه الأرض، ولم يكن رجل التحري الخاص سعيدًا، كان فرانك لانج تعيسًا، فكل ذلك الجسد كان خداعًا وأمنًا، كل ذلك الجسد كان سرابًا ورشادًا. ظل ينظر إلى التغير في الكيف مع بقاء الصورة النوعية، فأحس بعطش شديد. كان الملح على لسانه، ولم يكن يبحث عن الماء، كان يبحث عن الشمس في الصحراء، والشمس في الصحراء في كل مكان. قال فرانك لانج لنفسه: هكذا تولد الأديان. أقفل الباب بهدوء، وعاد إلى مكانه. نظر من الكوة، كان الظلام يبتلع السماء، وكان جناح الطائرة كجذع شجرة ملقى في الفضاء. استحالت الرؤية، وهو، كرجلِ تحرٍ، أقلقه ذلك. كان تعسًا منذ قليل، والآن ها هو قلق. كان قَلِقًا كناس شاتني مالابري. فكر فيها، في أبولين دوفيل. لم تكن ضابطة الدي جي إس إي قلقة، لم تكن تعسة، كانت جسدها العاشق. كانت جسدها. كانت جسدها على الأرض وفي السماء. العاشق. جسدها. كانت جسدها العاشق، لم تكن العاشقة. كانت الجسد العاشق. الجسد العاشق مع الجسد العاشق. كأنه شخصه بالذات. الجسد العاشق. كأن الجسد العاشق شخص الجسد العاشق. بالذات. لهذا كانت أبولين دوفيل ربانية في جسدها. كل هذا الجمال. كل هذا السحر. كل هذا الذكاء. كانت ربانية في جسدها. في كيانها. في جوهرها. ككليوباترا. كانت ربانية ككليوباترا. كنفرتيتي. كإيزيس. كانت ربانية كمريم. مريم العذراء كانت أبولين دوفيل.
عاد فرانك لانج ينظر من كوة الطائرة، كان الظلام يبتلع السماء دومًا لما ظهرت فجأة على جناح الطائرة نجمة ذهبية. أبولين دوفيل، همهم رجل التحري الخاص. مد يده، والتقطها، لكنها سقطت من بين أصابعه، وضاعت في البهيم.


القسم الثاني

نهض الجميع على صوت قبطان الطائرة الخاصة، وهو يعلن قرب الهبوط في مطار القاهرة الدولي. كانت الشمس بكل ألقها تتسلل من الكوّات، وكانت الأهرامات تبدو من فوق أبعد ما يكون عن السماء. ارتدت المرأتان ثيابهما بسرعة، وذرفت المضيفة دمعة، وهي تضم أبولين دوفيل. خرجت دون أن تنظر إلى أحد، وغابت في غرفة القيادة. أخذت ضابطة المخابرات الخارجية مكانًا إلى جانب فرانك لانج، وربطت حزامها دون أن تفوه بكلمة. بدأت الطائرة الخاصة تخفف من سرعتها، وتهبط بالتدريج صانعة دورات لا تنتهي. قعد المضيفون الثلاثة، وربطوا أحزمتهم، وهم ينظرون من الكوّات.
- لم أعد أرى الأهرامات، همهم فرانك لانج، وهو ينظر من الكوة.
كانت كل القاهرة هناك تحت قدميه تحترق بالشمس حتى في شهر يناير.
- لم أعد أراها، أعاد، وهو يلتفت نحو أبولين دوفيل.
- من الأفضل ألا تراها، همهمت ضابطة الدي جي إس إي.
ضربت العجلات بأرض المَدْرَجِ، وأخذت الطائرة الخاصة تهتز اهتزازات عنيفة، وتزفر زفرات مديدة، ثم هدأت فجأة، وبدأت بالتحرك رويدًا رويدًا حتى توقفت تمامًا. سارع المضيفون الثلاثة إلى فتح الباب، وإنزال السلم الذي عند قدمه كانت ليموزين بيضاء بالانتظار، وسيارة سوداء تسبقها وأخرى تلحقها. أحاط بالراكبيْنِ رجال جَهِمو الوجوه، وقبل أن يدخلوهما في الليموزين، استدارا على صوت كعب نسائي ينزل بسرعة درج الطائرة الخاصة، ورأيا المضيفة، وهي تضع على عينيها نظارة سوداء ضخمة، وبحراسة اثنين من جَهِمي الوجوه تركب في السيارة السوداء الأمامية بعد أن ألقت على أبولين دوفيل نظرة خاطفة، فهمهم فرانك لانج، وهما يجلسان في صالون الليموزين الصغير:
- لقد انتهى دورها وبدأ دورنا.
وما أن قال كلماته حتى أحكم أحدهم رتاج الأبواب.
- شُفْتِ؟
- أنا لا أحب هذا.
مضت الليموزين البيضاء إلى جانب ليموزين أخرى سوداء يختفي نصفها وراء طائرة صغيرة، أبوابها مفتوحة، وكل من فيها مغشي عليه بمن فيهم السائق.
- لنشرب نخب كل هذا، كابتن دوفيل، قال رجل التحري الخاص، وهو يخرج قنينة نبيذ من بار الليموزين وكأسين. بوردو، علق، وهو يقرأ ماركة القنينة، هذا ما أفضّل.
- ومن هم برأيك؟
صب قليلاً من النبيذ في الكأسين، قدم إليها واحدة، واحتفظ بالأخرى. أعاد القنينة إلى البار، وهتف:
- تشن! تشن! قارعًا كأسه بكأسها.
- تشن! تشن!
أخذ كل منهما جرعة، فقال فرانك لانج:
- لا بأس به.
أعادت أبولين دوفيل:
- ومن هم برأيك؟
- وهل يخفى القمر؟
- إذا أمسك الأمريكان بنا قل الوداع لكل دور لنا.
- ليس على مثل هذه السرعة.
- وهل سيتحرك النظام عندما يصله خبر الإمساك بنا؟
- سيتخبص النظام، أفضّل هذا، وبعد ذلك سنرى.
جرع كل ما في كأسه، وأعاد:
- لا بأس به بالفعل.
تناول القنينة من جديد، وهو يفحص بطاقتها:
- بعضٌ آخرُ من هذا، كابتن دوفيل؟
جرعت كل ما في كأسها، وقالت:
- لِمَ لا، وهي تمدها.
صب فرانك لانج الخمر في كأس الشقراء السماوية، ثم في كأسه، وبعد أن أعاد القنينة إلى البار، تراخى، وهو يشعر بغامر السعادة. تنهد، وهمهم:
- يعجبني كل هذا البذخ لدى الأمريكان.

* * *

عندما ظهرت الليموزين البيضاء والسيارتان السوداوان على شاشات كاميرات السفارة الأمريكية في غاردن سيتي، شرّع الحراس البوابة على مصراعيها، فدخل الموكب منها إلى الطابق التحت الأرضي. حلّ أحدهم رتاج أبواب الليموزين، وفتح باب الصالون الصغير المتحرك، ليخرج فرانك لانج، فأبولين دوفيل، ويجدا نفسيهما بين عشرات الحراس. انتزع أحدهم المسدس من عن خاصرة رجل التحري الخاص، وطلب إليه وإلى ضابطة المخابرات الفرنسية أن يتبعاه إلى المصعد، ومن المصعد إلى مكتب السفير بينما كان في الممر عشرات آخرون من الحراس. أدخلهما مرافقهما من باب ضخم منجد في قاعة كبيرة ستائر نوافذها كلها مسدلة، وأغلق الباب. تقدما من مقاعد جلدية ضخمة على الجدار خلفها العلم الأمريكي ولوحة لجورج واشنطن، وما أن جلسا حتى وصلهما صوت السفير الذي دخل من باب جانبي:
- أرجو ألا تزعجا نفسيكما بالوقوف.
لكنهما وقفا، فسلم عليهما السفير بحرارة، وهو يكرر:
- أرجوك، موسيو لانج، أرجوك، مدموزيل دوفيل.
مشيرًا إليهما بالعودة إلى الجلوس.
- أتمنى أن تكونا قد أمضيتما رحلة طيبة.
- رحلة طيبة، همهمت أبولين دوفيل، تستطيع أن تقول ذلك.
- وأنت، موسيو لانج؟
- في الواقع أنا على عجل من أمري لأعرف لماذا نحن هنا.
ضغط السفير على جرس، وقال:
- سأطلب لكما عصير مانجا، للمانجا في مصر طعم استثنائي، المانجا شيء هائل.
- لكل شيء في مصر طعم استثنائي، رمى فرانك لانج.
- ليس كطعم المانجا.
أطلت خادمة مصرية محجبة برأسها الجميل من الباب الجانبي، فأمرها السفير:
- ثلاث أكواب عصير مانجا.
جذبت الخادمة رأسها الجميل بعد أن هزته سمعًا وطاعة، وعادت تغلق الباب الجانبي.
- بعصير مانجا أم بغير عصير مانجا لن يتبدل من الأمر شيء، رمت أبولين دوفيل.
- بلى، سارع السفير إلى القول.
- ماذا علينا أن نفعل؟ سأل رجل التحري الخاص.
- ليس هي، ولكن أنت.
- ليس هي!
- ألم أقل لك لماذا كنت أرتعش في فيراريك؟ قالت ضابطة المخابرات الخارجية.
- هي ستنزل ضيفة عليّ حتى... لم يكمل السفير جملته لمقاطعة فرانك لانج إياه.
- لماذا لم تقل رهينة؟
- كل هذا الجمال رهينة! أمام هذا الجمال الدبلوماسية تبدل مفرداتها!
- أشكرك، يا سعادة السفير، هذا لا يبدل شيئًا من كوني رهينة.
- أنتم الفرنسيون أكثر منا سرعة وأكثر منا مباشرة على الرغم مما يقال عن مقدمات الحب لديكم.
دخلت الخادمة المحجبة على رؤوس أصابع رجليها، وضعت أمام كل واحد كوب عصير مانجا ضخمة، وخرجت على رؤوس أصابع رجليها كما دخلت.
- ومع ذلك، ليس في مقدمات الحب، عارض فرانك لانج.
- بلى بلى، فنحن نذهب إلى فعل الحب بسرعة ومباشرة دون مقدمات، همجية ربما ورثناها عن الهنود الحمر.
- لأن الهنود الحمر هم أجدادكم؟ رمت أبولين دوفيل ساخرة.
- وما يدرينا بعد كل القرون التي مضت وانتهت بزوالهم؟
- تريد القول إن الهنود الحمر ذابوا فيكم؟ تهكم فرانك لانج.
- أو إننا ذبنا فيهم، علق السفير، وانفجر وحده ضاحكًا.
رفع كوبه، واقترح عليهما:
- بصحة الهنود الحمر.
- بصحة مصر، هتف رجل التحري الخاص.
- وبصحة مصر، أضاف السفير الأمريكي.
- بصحة مصر، همهمت أبولين دوفيل.
أخذوا عدة جرعات عصير مانجا، ووضعوا أكوابهم.
- ماذا عليّ أن أفعل لإطلاق سراح أبولين دوفيل؟ سأل رجل التحري الخاص.
- الاتصال بوزير الداخلية من طرفي ليوقف كل أعمال الاستفزاز بين الجاليتين المسيحية والمسلمة، وإفهامه أن فرنسا تتخلى عن النظام تمامًا.
- ولكن فرنسا لم تتخل عن النظام، ولن تتخلى، وما أن يصلها خبر احتجازنا حتى تتدخل بشتى الطرق في سبيل إطلاق سراحنا.
- أعرف هذا، ولكن...
- من هنا إلى هناك، تدخلت أبولين دوفيل موجهة الكلام إلى رجل التحري الخاص، افعل، يا لانج، ما يطلبه منك سعادة السفير.
- عين العقل ما تقوله مدموزيل دوفيل، علق السفير، من هنا إلى هناك، لأن الأمور تتفجر بشكل مُدَوِّخ، قبل عدة أيام الاعتداء على كنيسة القديسين في الاسكندرية ويوم أمس على الكنيسة المعلقة في القاهرة القديمة واليوم على المتحف القبطي.
- وهل سيسمع وزير الداخلية لي؟ أنتم بكل ثقلكم لم يسمع لكم، وأنا...
- عندما يعرف أن مدموزيل دوفيل في خطر سيسمع لك.
- في خطر؟
- إذا ما لم يسمع لك، لكنه سيسمع لك.
- سيناور.
- هذا شيء طبيعي أن يناور، لكنه سيسمع لك.
- لن يسمع لي.
- سيسمع لك.
- لن يسمع لي.
- إذا حصل شيء لمدموزيل دوفيل فرنسا لن تسكت، وستتخلى عن النظام ما لم يسمع لك.
- إذن لماذا لا تقتلونني ونختصر كل شيء؟ أليس هذا ما تسعون إليه، أن تتخلى فرنسا عن النظام، وأن تأتوا بأصحابكم؟
- ألم أقل لكما إنكم أنتم أيها الفرنسيون أكثر منا سرعة وأكثر منا مباشرة على الرغم مما يقال عن مقدمات الحب لديكم؟ في السياسة لا بد من مقدمات نحن أدرى الناس بها، وإلا لما كنا قوة عظمى، لما كنا أعظم قوة.
- أعظم قوة في مادة النكاح السياسي، تريد القول.
- موافق، في مادة النكاح السياسي.
- اتركني إذن أتصرف.
- سأتركك إذن تتصرف.
- سأفكر في كل هذا.
- ستفكر في كل هذا.
- ربما بدأت بالطرفين المتناحرين قبل اتصالي بوزير الداخلية.
- لن تحتوي ردود فعل كل طرف بسهولة، ولكن ابدأ بهذا أو ذاك، كل الأمر يعود إليك طالما بقيت مدموزيل دوفيل ضيفة عليّ.
تبادل فرانك لانج والكابتن دوفيل نظرة طويلة حائرة. خلال ذلك، ضغط السفير الأمريكي على الجرس، فأطلت الخادمة المحجبة برأسها الجميل من الباب الجانبي.
- قولي للسائق أن يحضر، أمر سعادته.
- ها هو هنا ينتظر الإذن بالدخول، قالت المحجبة الشابة.
- فليدخل إذن.
دخل السائق، مصري في الأربعين من عمره، وانحنى بين يدي السفير الذي أمره:
- خذ موسيو لانج إلى الهيلتون، وبعد ذلك ابق معه، وكن طوع يده.
انحنى السائق دون أن يفوه بكلمة، ونظر إلى رجل التحري الخاص منتظرًا أن يرافقه. تناول فرانك لانج كوب عصير المانجا، وجرع منه جرعة كبيرة. مسح شفتيه بظاهر يده، وقال، وهو يعيد الكوب إلى مكانه:
- حقًا للمانجا في مصر طعم استثنائي.
- ألم أقل لك؟ قال السفير مسرورًا.
- هيا بنا، طلب رجل التحري الخاص إلى السائق.
وخرج وإياه من الباب الجانبي.
- تعالي معي مدموزيل دوفيل، هلا أردت؟ طلب السفير الأمريكي من الضابطة الشقراء، وهو ينهض.
- دعنى أولاً أنهي كوب عصير المانجا، قالت أبولين دوفيل مناكدة، وهي تنقل كوبها إلى شفتيها. للمانجا في مصر طعم استثنائي.
- خراء، للمانجا في مصر طعم خراء، نبر بعصبية.
- خراء هائل، يا سعادة السفير، قالت بعد أن جرعت كل كوبها، ولحوست حوافها.
ذهب السفير إلى الباب الرئيسي لمكتبه بقدم عصبية، وفتحه، وهو ينادي الحراس، ويشير إلى الكابتن دوفيل صائحًا:
- خذوا لي هذا الخراء إلى زنزانة تحت!
تدافع بعض الحراس من أجل الإمساك بها من ذراعيها.
- ليس هكذا تعامل واحدة تنزل ضيفة على وزارة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، رمت في وجه سفير البيت الأبيض، والحراس يدفعونها بشراسة.
- وزارة خارجية ولايات متحدة قفاي، لا؟
- بلى بلى، أجمل قفا!
- بسرعة أكثر من هذا... بسرعة أكثر من هذا...
بصقت عليه، وهي تمر به، مما اضطر الحراس إلى لويها من ذراعيها، ودفعها بشراسة أكثر، وهي تصرخ من الألم.
نزلوا بضابطة المخابرات الفرنسية طابقين تحت الأرض، ومن باب ضخم منجد أشبه بباب السفير أدخلوها، وأغلقوا عليها بالمفتاح، لتجد نفسها في جناح فخم، وكأنه جناح أحد فنادق الدرجة الخامسة. وفي الحال، ذهب عنها ألمها، ومن الذهول أطلقت ضحكًا مثلجًا متقطعًا، وهي تتفقد "زنزانتها" الأمريكية.

* * *

وفرانك لانج يجلس في المقعد الخلفي المريح للمرسيدس، طلب من السائق:
- لا تسرع.
- لا أستطيع، قال السائق.
- لماذا؟
- إذا لم أسرع كالباقين وقع حادث.
- لدي بعض الصداع.
- في مصر إذا لم تسرع، فلن تصل.
- هل الوقت ثمين في مصر إلى هذه الدرجة؟
- بل لأن الوقت بخس، بخس جدًا.
- إذن بسبب المسافة.
- بسبب المسافة؟
- الناس تحترم مواعيدها.
- الناس آخر من تحترم مواعيدها.
- فهمت.
- ماذا؟
- أنا أُسرع لأن الكل يُسرع.
ابتسم السائق، وهو يخفف السرعة، فأبدى فرانك لانج استغرابه:
- لماذا؟
- أنا أُبطئ لأن الكل يُبطئ، ألقى السائق.
وانفجر كلاهما ضاحكًا.
نظر رجل التحري الخاص إلى وجوه العابرين، كانت كلها تغرق في محيطات الهدوء. لم يكن العابرون يسرعون، كانوا يسيرون بهدوء، وكانوا لا ينظرون إلى بعضهم. كانوا كلهم يغرقون في محيطات الطمأنينة: أصحاب الجلابيب كأصحاب البناطيل من الرجال، وصاحبات الأحجبة كصاحبات الفساتين من النساء. كانوا كلهم يغرقون في محيطات السكون، ولم يكن يبدو عليهم القلق. كانوا يسيرون بقدم واثقة، ولا ينظرون إلى المكان الذي يضعون فيه قدمهم. كانوا لا ينظرون إلى شيء، ويسيرون بقدم واثقة. لم يكونوا يبتسمون، لأنهم لم يكونوا يبتسمون، ليس لأنهم لا يعرفون الابتسام، ولكن لأنهم لم يكونوا يبتسمون، وكانت وجوههم جميلة هكذا، دون أن يبتسموا. كانت وجوههم جميلة، ولكنها كانت كلها متشابهة، المرأة كالرجل، الطفلة كالطفل، الصغير كالكبير، كانت وجوههم كلها متشابهة. لهذا كانت وجوههم كلها أشبه بوجه واحد، أشبه بوجه جميل واحد، ينتهي الأمر بالناظر إليه إلى إشاحة وجهه. أشاح فرانك لانج وجهه، ونظر إلى الرصيف الآخر، فرأى الأشجار كلها أشجار مسامير مدببة. كانت أغصانها كلها أغصان مسامير مدببة، وعلى بعض الأغصان بعض حبات المانجا. المانجا في مصر شيء هائل. رأى رجل التحري الخاص مقاعد تحت بعض تلك الأشجار الغريبة، وكانت نساء محجبات سمينات يجلسن عليها، وهن يفتحن عن صدورهن، ويهوين بالمنشات، لشدة الحرارة. لم يكن أحد ينظر إلى صدورهن الضخمة، وكن يهوين بالمنشات، ووجوههن حمراء لشدة الحرارة، ولا أحد من العابرين ينظر إليهن أو إلى صدورهن. كن يهوين بالمنشات في ظل أشجار المسامير، ويمسحن عرقهن عن جباههن، ورأى فرانك لانج إحداهن، وهي ترفع حجابها إلى ما فوق فخذيها، وبمنشتها ترسل الهواء إلى كل جسدها، ولم يكن أحد من العابرين ينظر إليها.
فجأة عاد السائق إلى قيادة المرسيدس بسرعة، فسأله فرانك لانج:
- هل ما زلنا بعيدين عن النيل؟
- ليس كثيرًا، أجاب السائق، وهو يبطئ من جديد.
أخذت مجموعة من الظباء تهرب من إحدى المكتبات، وتقفز من فوق السيارة.
- ظباء! صاح فرانك لانج من الدهشة.
- هذا لأن الناس لا تقرأ شيئًا، أوضح السائق.
- ماذا؟
- هربت الظباء من الكتب بعد أن أصابها الملل.
- ولكن...
- إنها ظباء نجيب محفوظ.
- هل كتب نجيب محفوظ عن الظباء؟
- إنه الكتاب الذي لم يكتبه.
رأى فرانك لانج عيني السائق في المرآة الارتدادية، ولأول مرة اكتشف أنهما خضراوان. كان غفر من النساء الواضعات للخلاخل المزوقات الموشومات قد بدأن يخرجن من المكتبة.
- وهؤلاء هن نساء السكرية، قال السائق.
وما لبث أن خرج صائد شيخ، وهو يسحب من ورائه سمكة ضخمة من أسماك أبي منقار، فقال رجل التحري الخاص:
- أعرف من هو، إنه بطل إيرنست همنجواي.
تركا المكتبة من ورائهما، فالتفت فرانك لانج، ورأى آلاف الفئران الهاربة من رفوف الكتب الغارقة في بحور الغبار، وقال لنفسه، إذن فهم يبيعون كتاب جون شتاينبك. عندما عاد السائق إلى سرعته الجهنمية، لم يكن أسرع من أحصنة الهنود الحمر، وهي تغيب في سرابات القاهرة. كانت سيارة مسرعة في الأمام قد دهست أحد العابرين، ولم تتوقف، وباقي السيارات الأخرى تمضي على جثته، وفرانك لانج، يتابع المشهد بعينيه، وهو يردد ببلاهة: "ميرد! ميرد! ميرد!" تفجرت الجثة بدمها وخرائها، وكر رأس الضحية حتى حافة الرصيف. ميرد! ميرد! ميرد!
- ميرد أخضر، قال السائق.
- ميرد، ميرد، ميرد!
فتح رجل التحري الخاص النافذة، وأخذ نفسًا عميقًا. كانت السيارة قد توقفت تمامًا أمام جمهرة من الناس الرافعين رؤوسهم إلى أعلى.
- ستقذف بنفسها، قال السائق، وهو يحني رأسه فوق مقوده، ويشير بسبابته إلى شرفة عالية.
- ميرد، ميرد، ميرد! جمجم فرانك لانج.
انقض على المرأة رجلها، وأمسكها من كتفيها، كان بإمكانه إنقاذها، لكنه أخذ يدفعها، وقصده الإطاحة بها، والمرأة تنظر إلى أسفل بعينين مرتعبتين، وتحاول المقاومة بعد أن عدلت عن رأيها، ولم تعد تريد الانتحار. وفي الأخير، تمكن رجلها من دفعها، فسقطت، وهي تصرخ، ورؤوس الناس تتابع السقوط، حتى الأرض، ثم ركض الكل ليرى الجسد المدمى.
- ميرد أخضر، عاد السائق إلى القول، وهو يواصل السير.
بعد قليل، عاد فرانك لانج يسأل:
- هل ما زلنا بعيدين عن النيل؟
نظر السائق إلى رجل التحري الخاص بعينيه الخضراوين من المرآة الارتدادية، ولم يقل شيئًا.
- لم تقل شيئًا، همهم فرانك لانج.
أبطأ السائق مرة أخرى بسبب الكثير من المصلين في الشارع المحاذي للمسجد، ثم توقف في وسط الشارع، هكذا، وقال، وهو يخرج سجادته من الصندوق الأمامي، قبل أن ينزل من المرسيدس:
- لن أطيل عليك.
- سألتك النيل، هل ما زلنا بعيدين عنه؟
- بإمكان النيل أن ينتظر، موسيو لانج، أما الصلاة، هي، فلن تنتظر.
ضاع السائق بين جموع الملتحين، وفرانك لانج يفكر في أبولين دوفيل، وهو يستعيد عناقها الجهنمي مع المضيفة. عاوده الشعور بالتعاسة، وأحس بالعطش. المانجا في مصر شيء هائل! نظر حواليه، فرأى عربة عصير عند زاوية الشارع. ذهب إليها، وهو يفكر في أبولين دوفيل دومًا، ويقول لنفسه إن البائع لا يصلي كالآخرين. عندما وصل قربه، رأى صليبًا كبيرًا عليه المسيح يتدلى من رقبته.
- ماذا تريد، يا خواجا؟ سأل البائع.
- أريد عصيرًا، قال فرانك لانج، وهو يلتفت إلى السيارة، ويفكر، يفكر دومًا في أبولين دوفيل. مانجا...
- عصير مانجا؟
- نعم.
كان العصير جاهزًا، فصبه البائع في كوب ملأها بالثلج، ورجل التحري الخاص يفكر في أبولين دوفيل، ويقول لنفسه، العصير ليس طازجًا. شربه دفعة واحدة، ورمى للبائع ورقة نقدية. أعاد له الصرف، وعاد فرانك لانج إلى السيارة، وهو يفكر دومًا وأبدًا في أبولين دوفيل. فجأة، فتح السائق باب السيارة، واحتل مقعده، وهو يعيد وضع السجادة في الصندوق الأمامي. نظر إلى فرانك لانج عبر المرآة الارتدادية، فوجده ساهمًا. كان يفكر في أبولين دوفيل، وبقي يفكر في شقراء المخابرات الخارجية لمسافة طويلة، حتى أنه لم ينتبه إلى النيل الذي أخذت السيارة تسير بتواز معه.
- التماسيح كثيرة في النيل هذه الأيام، رمى السائق.
- التماسيح...
انتبه فرانك لانج إلى النيل المترامي على مقربة منه، كان أحد التماسيح يلتهم النصف الثاني للجثة التي قضمها، ورأى رهطًا من التماسيح يحتل أحد القوارب، وتمساحًا آخر يستلقي بكسل على الرصيف.
- في الماضي كان الناس يلعبون مع التماسيح، قال السائق. جاء نابليون، وتبدل كل شيء.
- نابليون...
- نابليون الذي لكم.
- الذي لنا.
- جاء نابليون الذي لكم، وتبدل كل شيء.
أخرج فرانك لانج رأسه من نافذة السيارة، وأخذ يستنشق هواء النيل بقوة، وهو يبتسم، ويفكر في أبولين دوفيل. ابتسم السائق، وسأل:
- هل يذكرك بشيء، نيلنا.
- يذكرني، قال فرانك لانج، وهو يدخل رأسه. يذكرني بأشياء. يذكرني بالموت. يذكرني بالحياة. يذكرني بالحب. يذكرني بكل النساء اللواتي أحببتهن، ولم أظفر بهن.
- يذكرك بمدموزيل دوفيل؟ رمى السائق بكثير من الجد.
- وكيف عرفت؟
- لا أحد يراها إلا ويسقط عاشقًا بها، إنها إرادة ربنا.
على يمين النيل وعلى يسار النيل كل المصريين: ربنا! ربنا! وامرأة في الجحيم الأبدي ترسل صيحاتٍ: الله يلعن ربنا! توقفت المرسيدس أمام ناطحة الهيلتون المحترقة بشمس القاهرة، والسائق يقول قبل أن ينزل منها:
- سأحمل حقيبتك.
- ولكن لا حقيبة لي.
خارج السيارة، أوضح السائق، وهو يخرج حقيبة من الصندوق الخلفي:
- الأمريكان يفكرون في كل شيء، لهذا هم أمريكان.
تبع فرانك لانج السائق حتى مكتب الاستقبال، وتركه يتم الإجراءات الإدارية، بينما راح ينظر إلى أعمدة ردهة الدخول العديدة، ويفكر في أبولين دوفيل.
- كف عن التفكير فيها، موسيو لانج، طلب السائق.
- هل أحضرت المفتاح؟ سأل رجل التحري الخاص.
- الحجرة 33 الطابق الثالث، أجاب السائق، وهو يمد المفتاح.
- سآخذ حمامًا وأنام قليلاً ثم سأنزل لنأكل شيئًا معًا قبل أن نذهب إلى كنيسة إمبابة، قال فرانك لانج، وهو يأخذ المفتاح والحقيبة من يدي السائق.
- ألا تريدني أن أحملها عنك؟
- لا.
اتجه فرانك لانج إلى المصعد، والسائق يقول من ورائه:
- أنا تحت أمرك.

* * *

رافق حارس أسود المضيفة حتى الزنزانة الأمريكية، فتح بابها الضخم المنجد، وبعد أن أدخلها، أغلقه بالمفتاح. نظرت المضيفة هنا وهناك، ولما لم تقع على أبولين دوفيل، نادتها:
- أبولين.
تقدمت من الحمام، وقبل الدخول فيه نادت من جديد:
- أبولين... هل أنت هنا؟
كانت أبولين دوفيل في البانيو والرغوة تغطيها.
- كنت أعرف أنك ستأتين، قالت ضابطة المخابرات الخارجية، وهي تبتسم، وتمد يدها لتمسك يد حبيبتها.
- اعذريني، أرجوك، طلبت المضيفة بعينين مغرورقتين بالدموع.
- هذا لا شيء، لو لم تفعلي لما كانوا لطيفين معك، عندكم في السي آي إيه الشيء نفسه عندنا في الدي جي إس إي، إنهم أوباش وكفى.
- إذن أنت تعذرينني؟
- تعالي لتأخذي حمامًا معي.
- لا أستطيع، هناك ما ينتظرني فوق، قالت المضيفة، وهي تجلس على حافة البانيو.
- خسارة.
- سأخرجك من هنا.
- ليس قبل أن يعود لانج.
- أقسم لك أني سأخلصك من هذه الورطة.
- ورطة؟ ليست إلى هذه الدرجة، قالت أبولين دوفيل، وهي تضرب يديها في الرغوة البيضاء، وهي ترشق حبيبتها ببعضها.
- توقفي، توقفي، رددت هذه، وهي تقهقه.
لكن أبولين دوفيل أسقطتها في البانيو، وبللتها كلها، وكلاهما تطلق أحلى الضحكات، إلى أن توقفتا فجأة، وجمدتا على منظر نهديهما: كان نهدا أبولين دوفيل يلمعان بالماء والضوء، وكان نهدا المضيفة يبرزان من تحت قميصها متحديين الدنيا. أخذت الأولى حلمة الثانية بشفتيها، وبعد ذلك، أخذت الثانية حلمة الأولى بشفتيها. وقفت المضيفة في وسط البانيو عملاقة من عملاقات الأمازون، وتركت أبولين دوفيل ترفع تنورتها، ومع التنورة يرتفع الرأس الأشقر، ليضيع بين الفخذين.

* * *

بعد الحمام، ارتدى فرانك لانج بنطال البيجاما، ودخل في السرير. ذهب نائمًا حتى السادسة مساء، لكنه عاد يغمض عينيه، ونام ساعة أخرى. نهض دفعة واحدة، فرأى كيف كان أول الليل دامسًا في قاهرة الشتاء. ارتدى ملابس خفيفة، ورمى على كتفه كنزة زرقاء، ثم غادر حجرته إلى الردهة تحت، فوجد السائق بانتظاره، وبين يديه حاسوب محمول.
- المطعم من هنا، موسيو لانج، قال السائق أول ما رآه.
- كان لديك ما يشغلك، قال رجل التحري الخاص، وهو يشير إلى الحاسوب المحمول.
- لا تقلق من أجلي، موسيو لانج.
- أشكرك.
- لم أقدم لك ما يستوجب الشكر بعد.
دفع السائق باب المطعم، وأدخله من أمامه.
- لديك طاولة محجوزة باسمك، همهم السائق، ومدير الخدم يقترب. موسيو لانج، قال السائق قبل أن يفتح مدير الخدم فمه.
قادهما مدير الخدم إلى طاولة في صدر المطعم، أجلسهما بكل الاحترام اللازم، وقدم لهما قائمة الطعام. تركهما، ووقف على مقربة منهما منتظرًا أول إشارة.
- ماذا تريد أن تأخذ، موسيو لانج؟ سأل السائق.
- لا أريد مقبلات ولا أريد تحلاية، قال رجل التحري الخاص.
- لا وقت لديك أعرف.
- لا أريد ستيك بالبطاطا ولا أريد سكالوب مُخَبَّز.
- تريد طبقًا من عندنا.
- فول مدمس وطعمية وملوخية بالأرانب.
- أنت تعرف أطباقنا الشعبية كلها، ألقى السائق ضاحكًا.
- قرأت بعض الشيء عنكم، أوضح رجل التحري الخاص.
- أطباقكم الشعبية أشبه بآلهتكم التي تعبدونها، لهذا الدين في دمكم، وأنا أود لو أعرف لماذا.
أشار السائق إلى مدير الخدم، فقفز آتياً.
- لا يريد موسيو لانج أيًا من هذه الأطباق، قال السائق، يريد أكلاً مصريًا.
- قائمة الطعام المصرية ها هي، قال المسئول، وهو يتناول نسختين منها عن طاولة قصيرة. قلت لنفسي...
- لا تقل لنفسك ولا حاجة، قاطعه السائق، أحضر لنا فولاً مدمسًا وطعمية وملوخية بالأرانب، وكل السلطات والمخللات التي في الهيلتون.
- وماذا ستشربان؟
- أنا مَيّه.
- وأنا عصير مانجا. للمانجا في مصر طعم استثنائي، المانجا شيء هائل.
- لبِّ الطلبات، ولا تطل، أمر السائق، نحن على عجل من أمرنا.
وصرفه بحركة من يده.
وبالفعل لم يطل مدير الخدم، وهو يأتي بصحبة واحد من مرؤوسيه، وهذا يدفع من أمامه عربة مليئة بالأطباق. وضعا الأطباق على الطاولة، وفرانك لانج يبتسم لها كما لو كان يبتسم لامرأة، ثم راح أكلاً دون أن يفوه بكلمة حتى شبع، وتجشأ مع ضحكة هائلة.

* * *

فتح الحارس الأسود باب الزنزانة الأمريكية، ودخل ليقف عند قدم السرير الذي تستلقي فيه العاشقتان.
- لن أستطيع تركك أكثر مس كين، همهم الحارس الأسود.
- اتركنا على الأقل نتعشى، قالت أبولين دوفيل للحارس الأسود.
- لا يا مس كين، قال الحارس الأسود دون أن يبالي بضابطة المخابرات الفرنسية.
- سأذهب، قالت المضيفة لأبولين دوفيل، وهي تطبع قبلة سريعة على شفتيها، ونهضت عارية إلى خزانة الثياب.
- سأنتظرك في الخارج مس كين، رمى الحارس الأسود قبل أن يخرج.
أخرجت المضيفة فستان تفتا أبيض، وهي تقول لأبولين دوفيل:
- ارتديه، إنه مفضلي، واطلبي الكافيار والشمبانيا والكبد الدسم، وتخيليني وإياك.
رمته على السرير، وراحت ترتدي ثيابًا عادية. نهضت الشقراء الربانية عارية ووضعت فستان التفتا الأبيض عليها، وهي تشده على خصرها، وتنظر إلى نفسها في المرآة.
- ستكونين رائعة كعرائس النيل، ألقت مس كين قبل أن تعود وتطبع قبلة خاطفة على شفتي الشقراء الفرنسية، وتسارع إلى الخروج.
تأملت أبولين دوفيل نفسها، وهي تشد الفستان التفتا الأبيض دومًا على خاصرتها، وتميل، ثم ألقته جانبًا، وجلست على أريكة، ساقًا من تحتها، وثديًا بين ذراعيها، وذهبت مفكرة.

* * *

بدت كل الأمور عادية في شوارع القاهرة، الناس والأضواء والأشياء كانت تبدو كلها عادية. وفرانك لانج يجلس إلى جانب السائق، كان يفتح الحاسوب المحمول، ويجيب على بريده الإلكتروني. وبعد ذلك، نقر على صفحة الفيسبوك التي له، ولم يجد ما يستحق القراءة. عرّج على صفحات بعض الشباب المصريين، فكانوا كلهم يتحدثون عن الجنس بنفس الطريقة التي يتحدثون فيها عن الدين، الطريقة المبالغ فيها. عرج على صفحة وزارة الداخلية المصرية، فلم يجد ما يثير القلق. كل الأمور كانت لوزراة الداخلية المصرية عادية. لكن والسيارة توغل في حي إمبابة الشعبي، لاحظ بعض التوتر على وجوه الناس، وكانت بعض المحجبات يركضن، وهن يسحبن أطفالهن من أيديهم. وما لبث فرانك لانج أن رأى مجموعة كبيرة من الملتحين، وهي تتقدم من الكنيسة. لم يكونوا يهتفون، كانوا يتقدمون بقدم ثابتة من البناء القبطي، وكانوا كلهم عابسين. سبقهم السائق إلى باب الكنيسة، أنزل فرانك لانج، وخف ليختفي من الناحية الأخرى.
كانت اللوحات في حرم الكنيسة القبطية كلها للعذراء عاريةً، فلفتت انتباه فرانك لانج ثلاث منها، الأولى للعذارء بينما الضوء السماوي يدخلها، وينفخ بطنها، والثانية للعذراء بينما تعطي للسماء ردفيها، وهالة من النور تحيط بهما، والثالثة لزوجة الرب، وهي تعرض له ثدييها، ومن حول كل ثدي هالة من النور تطلق شعاعًا سماويًا.
أول ما استقبله أسقف الكنيسة، وعرف أنه مبعوث من طرف الأمريكان، قال له:
- يسعى النظام إلى استعمالنا بشكل آخر غير ما دأب عليه ليصل إلى تثبيت قدميه في الأرض، فلا عداوة بيننا وبين الإخوان المسلمين، إن حكموا حكمنا، وإن لم يحكموا حكمنا، يعني نحن مع الحاكم دومًا أيًا كان، ولكن لما تخلى الأمريكان عن حاكم اليوم، يحاول هذا بشتى الطرق التمسك بالحكم، ولو على حساب دم مواطنيه، وهذا ما حصل مع الاعتداءات على كنائسنا ومتاحفنا.
- ناسكم لا يرون الوجه الحقيقي للمعتدي، سيثور ناسكم على من لم يعتد عليهم، وستكون فرصة النظام لقمعكم أنتم وهم كلكم، علق فرانك لانج.
- قل للأمريكان إننا سنحول دون ثورة ناسنا، وعليهم أن يحولوا دون الانتقام منهم.
- سأقول لهم.
- ولكن بعد كل ما فعل بنا النظام وسيفعل قل للأمريكان إننا لن نقبل بالقيام بدور النعاج إلى الأبد.
- سأقول لهم.
- وقل لهم أيضًا إننا نعيش في وئام مع إخواننا المسلمين منذ فجر الإسلام.
- سأقول لهم.
وعلى حين غفلة، اخترق الفسيفساء حجر كاد يفتح رأس الأسقف، ودبت النيران في أحد أجنحة الكنيسة، فسارع رجل الدين إلى الاختباء.
- انتظرني يا أبت، صاح فرانك لانج.
- عجل يا ولدي، إنه النظام، وكل هؤلاء الملتحين رجاله، كشف الأسقف.
- هذه المرة ستنحرون بعضكم، يا أبناء مصر.
- على الأمريكان أن يعجلوا قبل أن يقع ما لا يحمد عقباه.
ذهب به وكل الكهنة من ممر أرضي إلى الخارج، فشاهدوا هجمات الملتحين المزيفين من بعيد، وصرخاتهم الهستيرية. كان هناك من يطالب بتسليمهم امرأة قبطية تريد اعتناق الإسلام كرجلها المسلم والكنيسة تمنعها.
- من هي هذه المرأة؟ سأل رجل التحري الخاص.
- هل رأيت نساء في الكنيسة، موسيو لانج؟ سأل الأسقف بدوره.
- لم أر.
- إنها ذريعة للجريمة التي يرتكبونها في حقنا بلطجية النظام هؤلاء، وإذا ما عدنا إلى الحقيقة، هم الذين يختطفون بناتنا، يغتصبونهن، ويشنعون بهن، وبعضهن لا يعدن إلى الأبد.
- سأحتج لدى وزير الداخلية.
- ولعلمك الإسلام لا يحتم على زوجة المسلم أن تسلم، هناك يهوديات تزوجن من مسلمين وبقين على دينهن، الرجل نعم، أما المرأة فلا.
- إذا لم يستمع وزير الداخلية إليّ هددته بتوقف فرنسا عن دعمهم.
- فرنسا تضل الطريق، يا ولدي، لكنها المصالح، والتناحر عليها.
ركبوا كلهم في سيارات أبعدتهم عن الحريق والتدمير، دار فرانك لانج حول الكنيسة، فرأى ثلة كبيرة من رجال الشرطة والدرك تصل، وما فعل الملتحون المزيفون سوى الاختفاء في الشوارع الفرعية، ومنها ركبوا السيارات العسكرية، وعادوا حتمًا إلى ثكناتهم.
في ذلك المساء، رأى فرانك لانج على التلفزيون رجال الأمن، وهم يكسرون بأقدامهم أبواب قيادات الإخوان المسلمين، ويسوقونهم إلى المعتقلات واحدًا واحدًا.

* * *

قال فرانك لانج لوزير الداخلية:
- الإخوان المسلمون حلفاؤكم كالأقباط، وكل هذا القمع وإيقاع الواحد في الآخر لن يحل مشكلتكم.
- نعرف هذا، موسيو لانج، همهم وزير الداخلية.
- إذن لماذا؟
- لأننا نراهن على الوقت.
- إلى أي مدى؟
- إلى أقصى مدى ممكن.
- لهذا تجازفون بكل شيء؟
- تقصد باليد الأجنبية؟
- أقصد باليد المحلية.
- إذا لم ندفع الجاليتين إلى الاقتتال اقتتلنا نحن بدلهما في أثواب أبطال راسين الذي لكم وأحكمنا القيد على الشارع من أعالي النيل إلى الدلتا.
- بالنسبة للأمريكان أنتم انتهيتم.
- ليس بعد، موسيو لانج، ليس بعد، وسنضطرهم إلى تبديل رأيهم.
- هل أقول لك شيئًا؟
- قل، موسيو لانج، أنا أحب الصراحة.
- فرنسا لن تقف إلى جانبكم إلى الأبد.
- إذا كانت أبولين دوفيل هي فرنسا، فلسوف تقف إلى جانبنا إلى الأبد.
- ماذا تعني؟
- أعني أن العميلة المزدوجة لا خيار لها.
- أفهم من هذا أنكم ستقتلونها إذا ما لم...
- لن أكشف لك عن الطريقة التي سنلجأ إليها، القتل، الخطف، النفي... تتنوع الخراءات، وفرنسا تعرف تمام المعرفة طرقنا، ويا ما أسهل تنفيذها. لهذا فرنسا التي فتحنا لها القصور في وادي الملوك، وجعلنا من مشاخخ كليوباترا مشاخخها المضمخة بالعطر، ومن ليالي القاهرة، ليالي القحبات، لياليها، عليها ألا تتركنا وحدنا، وتنسى.
نهض فرانك لانج غاضبًا يريد الذهاب.
- قل للأمريكان إننا هنا، وسنبقى هنا، حتى ولو على جثث كل مصريي الخراء، صاح وزير الداخلية.
عجل رجل التحري الخاص في الخروج، وهو يضرب الباب بعنف من ورائه.

* * *

قال فرانك لانج للسفير الأمريكي:
- المشكل هو النظام، النظام يتقوى بالجاليتين، على الرغم من أن الأقباط والإخوان المسلمين يريدون زواله تمامًا كما تريدون، لكنهم سيبقون معه ما بقي، هكذا هم صُنعوا، وهكذا هم يستنبطون.
- أشكرك، موسيو لانج، على كل ما فعلت، همهم السفير.
- لم ينجح النظام في دفع الطرفين إلى الاقتتال على الرغم من كل الاعتقالات وكل الاستفزازات، وكل هذا لطبيعة المصريين المسالمين بالفطرة، لكنه دعم أقدامه في الأرض، وشدد من إحكام الخناق على شعب بأكمله، ليضطركم إلى تبديل رأيكم كما قال لي وزير الداخلية.
- تبديل رأينا.
- تبديل رأيكم.
- الاستراتيجية الجديدة لا تسمح بتبديل رأينا.
- ستصلون إذن إلى تبديل نهجكم، فالإخوان المسلمون ليسوا من أولئك الذين يذهبون إلى "القتال" بدافع منهم، لديهم حساباتهم الكثيرة.
- سأرى ما يقوله البيت الأبيض.
- وأنا سأرى ما تقوله أبولين دوفيل.
- اتركها ضيفة عليّ يومين آخرين إلى أن يتضح الموقف الفرنسي.
- لن أتركها دقيقتين أخريين.
- أرجو أن تتفهم الأمر، موسيو لانج.
- لن أخرج من هنا إلا وإياها.
ضغط السفير على الجرس، ففتحت الخادمة الشابة المحجبة الباب الجانبي، وأطلت برأسها الجميل.
- اطلبي من سائق موسيو لانج العودة به إلى الفندق، قال لها، وأشار إلى رجل التحري الخاص بالذهاب، اذهب، موسيو لانج، أرجوك.
بعد تردد، نهض فرانك لانج، وذهب، دون أقل إحساس بالارتياح.

* * *

انتظرت الخادمة المحجبة مغادرة فرانك لانج مع السائق، ثم أخذت طريقها إلى الممر الداخلي للسفارة. قطعته تحت أعين الحراس اللامبالية، وبعد ذلك صعدت درجًا داخليًا يدور إلى أعلى، ودخلت أحد المكاتب. كانت مس كين تنظر من النافذة إلى فرانك لانج، وهو يركب إلى جانب السائق، وما لبثت السيارة أن غادرت الباحة الخارجية المخصصة لوقوف سيارات السفارة.
- عندنا في أمريكا طيور سوداء ليست الغربان التي عندكم، قالت مس كين للشابة المحجبة وهي تدير دومًا ظهرها، أحضرها السود معهم عندما جاءوا من أفريقيا، ثم نسوها، فسماها الناس "السهو".
- أعرف أنك لن تنسيني مس كين، همهمت الخادمة المحجبة.
- سأعتنق الإسلام من أجلك، قالت مس كين، وهي تلتفت، هل أنت سعيدة؟
- آه! مس كين، هتفت الشابة المسلمة، وهي تأخذ فتاة المخابرات الأمريكية بين ذراعيها، هكذا لن يغضب مني ربنا، وسيغفر لي خطيئتي.
أخرجت المصرية من صدرها سلسالاً ينتهي بآية الكرسي، فكته، وربطته حول العنق الأبيض.
- إنه لك.
- ولكن...
- كان هدية أمي رحمها الله يوم ارتديت الحجاب، وأنا لم أبلغ بعد من العمر العاشرة.
وطبعت قبلة على شفتي المس كين، فلم تبد هذه سرورها.
- ماذا يا مارغريت؟
- بهية، ساعديني.
زعلت الشابة المحجبة:
- لقد فهمت كل شيء.
- بهية، أرجوك.
- تفعلين كل هذا من أجلها.
- بهية، كي تبقي وحدك في قلبي.
وقبلتها قبلة طويلة من فمها، ومن عنقها، ومن ثديها، وهي تفتح عن ثديها، وجذبتها فوق المكتب، ودفعتها، وهي ترفع حجابها عن فخذيها، إلا أن بهية أبعدتها، واستقامت:
- أنا لا أريد.
- أنا آسفة، همهمت مس كين، لم يكن قصدي. هذا ليس بالمقابل، هذا لأني أحبك بالفعل.
- وأنا أحبك بالفعل.
أعطتها ظهرها، وخرجت.

* * *

حط الظلام على السفارة الأمريكية، فتسللت الأضواء من نوافذها. كانت كل النوافذ ترسل الأضواء، فتتكسر مع تحرك شجر النخيل في الحديقة. وكان النيل يبدل مجراه في الليل، ويأتي ليغسل روحه على أعتاب السفارة الأمريكية. ومن النيل كانت الحور تخرج، وتتعانق في ظلال السفارة الأمريكية. لم يكن قمر النيل جميلاً لولا السفارة الأمريكية، ولا النجوم كثيرة، متلألئة فوق أسطح القاهرة، لم تكن القاهرة جميلة، بهية، أبدية، لم تكن مصر أم الدنيا والآخرة.
- سأطلب لك عصير مانجا، قال السفير الأمريكي، للمانجا في مصر طعم استثنائي، المانجا شيء هائل.
- أفضّل كأس كونياك، قال القبط الأعظم المصري.
كان ثلاثة شبان وشابة سمراء ترتدي الجينز وتلف شعرها بشال زهري هناك في زاوية شبه معتمة، وكلهم يرتدون قفازات بيضاء، ويربطون فوطة جلدية بيضاء بمريلة. كانت فوطة الشابة مرفوعة، وفوطة الشبان منزلة. تقدم أحد الشبان من قناني الكحول، وحمل بيد قنينة الكونياك، وبالأخرى كأس ضخمة، صب فيها قليلاً منه، وقدمه للقبط الأعظم، وهو ينحني بين يديه بكل احترام.
- اشربوا شيئًا، طلب القبط الأعظم إلى الشبان الثلاثة والشابة.
فرفضوا، واكتفوا بمد إبهامهم بمعنى نحبكم، دون أن يتحركوا في زاويتهم شبه المعتمة.
- سندخل في الموضوع مباشرة، قال السفير.
- بعد هاتفك اتخذنا قرارًا نحن الماسونيين، قال القبط الأعظم.
- أرجو ألا تخيبوا أمل البيت الأبيض، همهم السفير.
- إذا لم يخيب البيت الأبيض أملنا، همهم القبط الأعظم.
- في إستراتيجيتنا الجديدة أنتم أمل المستقبل، عاد السفير إلى الهمهمة.
- هذا لأنه مستقبل معتم، عاد القبط الأعظم إلى الهمهمة.
- معتم نعم، ولكنه ليس معتمًا جدًا.
- بلى، بلى، معتم جدًا، بل وأكثر من معتم جدًا.
- لا تبالغ أيها القبط الأعظم.
- الإبقاء على التبعية واستفحال التخلف تحت ثوب ثوري، هل أبالغ؟
- العصر الجديد عصر ليس كله وردًا للعالم أجمع.
- ولِمَ لا لو كنتم جادين في التغيير والتطوير؟ لو كنتم تريدون رفع القليل من عالم لم يعد يعرف ما هو الورد لوقفتم إلى جانب الشعب حقًا وذلك بمحاربتكم الإخوان المسلمين وكل نظام ديني تطبيقًا لشعارنا: حرية، مساواة، أخوة، علمانية – على عكس أوروبا الشريحة الاجتماعية المهيمنة في مصر ليست الطبقة البرجوازية التي بين يديها الاقتصاد وإنما شريحة رثة من البرجوازية المتسلقة على أكتاف الأغلبية الساحقة من الفقراء، لا قوة اقتصادية لها، وكل قوتها الاقتصادية هي أموال السعودية – الإخوان المسلمون كإيديولوجيا، كبنية سياسية ليسوا على مستوى مطامح المرحلة في التغيير، ليسوا العقل النير الذي اجتاح كل أوروبا وكان الدافع إلى بناء الدولة المدنية، هم ظلاميون كرؤية وكبرنامج مهما ادعوا من اعتدال لأنه لا يوجد إسلامي معتدل وإسلامي غير معتدل، هناك إسلامي وفقط. ستُدخلون مصر من باب عصر الظلمات، بابها "الثوري" الواسع، ولن تنهض لا هي ولا العالم العربي إلى الأبد.
- كل هذا صحيح، ولكن...
- ولأن كل هذا صحيح، ولن يكون غير هذا -في لغتكم اسم هذا "العولمة المضطلع بها" "المتناحرة الثقافات" "المهجنة"، وفي لغتنا "ضد الوطنية المصرية" "ضد سيادة الشعب" "ضد الاعتراف بإنسانيته"- نحن الماسونيين براغماتيون حتى النخاع، نريد حصتنا من كل هذا، إذا ما كان هذا الهذا في صالح الشعوب أو في طالحهم.
- القوة الثالثة التي حدثتك عنها بسرعة على الهاتف، نريدها نحن الأمريكيين لما رأينا أنفسنا نتراوح بين قوتين، النظام المستبد والإخوان المسلمين السلبيين.
- القوة الثالثة كما تقول، همهم القبط الأعظم، وهو ينظر إلى الشابة والشبان الثلاثة القابعين في زاويتهم شبه المعتمة يصغون ولا ينبسون ببنت شفة.
- القوة الثالثة، هتف السفير الأمريكي بحماس، ستدفع الإخوان المسلمين إلى أن يتبعوها، وتضع حدًا لمراهنتهم على النظام والتوازن معه، ليساهموا أخيرًا في انهياره، وهذه هي الخطوة الأولى.
- والخطوة الثانية، أكمل القبط الأعظم، تجاوز هذه القوة.
- أما الخطوة الثالثة، فأخذ الحكم.
- وإذا ما لم يكن الإخوان المسلمون بقدر الحكم؟
- سيأخذه الجيش، أقصد سيعيد أخذه، فالحكم دومًا ما كان بيد العساكر.
- ستحلون دكتاتورية محل أخرى.
- وهكذا إلى الأبد.
- لأن مشاكل مصر لا يوجد كحل لها...
- إلا هذا الحل.
- فهمت. ستأتون بالإخوان المسلمين لتبعدوهم، وتأتوا، فيما بعد، بخصومهم، فتنشب حرب أهلية تقسم مصر إلى مصرين أو ثلاث أو أربع، وتكون نهايتها ونهاية العالم العربي معها إلى الأبد، وإلى الأبد تكون لكم ثروات المنطقة ومقدراتها.
أنهى كل من الرجلين الهامين المهيمنين كأسه، ثم توجه القبط الأعظم بالكلام إلى الشبان الثلاثة والشابة:
- كاميليا، علاء، جمال، غالي، في المرة التي احتفلنا فيها بعيد شم النسيم، وهي الأهم، كم من الشباب استطعتم أن تجمعوا عن طريق الفيسبوك؟
- حوالي نصف المليون، همهم الشاب الذي قدم كأس الكونياك للقبط الأعظم.
- في كل مصر، أوضحت الشابة.
- أريد نصف مليون في القاهرة وحدها، أمر القبط الأعظم بسبابة مرفوعة قرب فمه، والشابة تحني رأسها كما يحني البوذيون رؤوسهم لتمثال بوذا، وكذلك يفعل الشبان الثلاثة. معكم ثلاثة أيام، وهي - مع الوسائل التكنولوجية اليوم - على ما أعتقد كافية.
رفع القبط الأعظم سبابتيه فوق رأسه كقرني الشيطان علامة الشجاعة، فقلب الشبان الثلاثة والشابة الفوطة البيضاء على ناحيتها السوداء، وبان رأس ميت. طووا إبهامهم لتجنب الخطر، ثم عملوا بأصابعهم النجمة السداسية علامة الإذعان بالطاعة، وبعد ذلك أخذوا طريقهم إلى باب الخروج، والقبط الأعظم يقول للسفير الأمريكي:
- لقد بدأت الثورة، يا سعادة السفير.

* * *

كانت أبولين دوفيل تحتسي كوب شمبانيا في زنزانتها الأمريكية، وهي ترتدي فستان التفتا الأبيض القصير عندما سمعت فجأة المفتاح يدور في قفل الباب، فاستدارت لترى من القادم. دخلت مس كين بصحبة الخادمة المحجبة، وهي ترفع المفتاح بيدها.
- ليس هذا لأن الحارس الأسود يثق بي، بدأت مس كين الكلام، فهم لم يعودوا يهتمون بك، ولكننا لن ننتظر أكثر، ربما طال الأمر، معهم أنت لا تدرين في أي خراء تعومين. ليس لدينا الكثير من الوقت، اخلعي فستانك الرائع، وارتدي حجاب بهية.
- بهية، همهمت أبولين دوفيل.
- هذه بهية، قالت مس كين، وهي تشير إلى الشابة المحجبة التي بدأت بخلع حجابها، إنها خادمة السفير، وأنا أعرضها للخطر.
- أنا من يعرض كلتيكما للخطر، قالت ضابطة المخابرات الفرنسية، ثم بعد ذلك سأحلم أحلامًا مزعجة.
أخذت مس كين تساعد أبولين دوفيل على خلع فستانها التفتا، وهذه تضيف:
- أنا أحلم أحلامًا مزعجة عندما أعرف أن من أحب في خطر، ولا أستطيع أن أفعل من أجله شيئًا. ماذا سيفعلون بك؟ ماذا سيفعلون بكما عندما يعلمون؟
- الوداع لعشرين سنة في السي آي إيه، هذا ما سيفعلون بي، أجابت مس كين، وبهية لسوف نربطها، ونعمل على أن يظنوا أننا أرغمناها.
- مارغريت، لسوف يؤذونك، وأنت لا تحتملين.
- ربما لا، فكل شيء سيكون في مصر كما يريدون، وبما أنهم لن يخسروا هذا البلد، هربك أو عدمه واحد بالنسبة لهم.
- هل أخلع ثيابي الداخلية؟ سألت بهية، وقد بدت ساحرة بشعرها الأسود المنسدل وكتفيها العاريين.
- لا، يا حبيبتي، أجابت مس كين، وهي تضمها بحنان، وتقبلها من خدها، ومن ثغرها. أشكرك، يا حبيبتي! سأكون وفية لك إلى الأبد، يا حبيبتي! وذهبت بالحجاب لأبولين دوفيل، وراحت تساعدها على ارتدائه، وآية الكرسي تلمع تحت الأضواء. أمسكتها أبولين دوفيل بأصابعها، وهمهمت:
- أنا لن أنساك!
- وأنا أيضًا لن أنساك!
ولما لم تفلح في لف رأسها بالشال، تدخلت بهية، وقالت:
- هكذا، هذا يُلف هكذا.
جذبت مس كين الشال من ناحيتي الوجنتين لتخفي وجه أبولين دوفيل أكثر ما يكون، وتنهدت:
- أتمنى أن يمضي كل شيء على ما يرام.
أخرجت من جيبها حبلين، أعطت واحدًا للفرنسية الشقراء، واحتفظت بواحد. عقدتا يدي بهية من ورائها وقدميها حول قدم السرير. قبلتها مس كين من فمها، وبعد ذلك بمنديل شقت فمها.
- هيا بنا، طلبت مس كين من أبولين دوفيل.
- والفستان التفتا؟ قالت أبولين دوفيل، وهي تحمله.
- خذيه! رمت مس كين. ستخفين به وجهك لو يلزم.
قالتا الوداع للمصرية الساحرة، وهذه تذرف الدموع الحرى، وخرجتا. لم يهتم الحرس بهما، وهما تمران بهم، حتى أن الحارس الأسود قد ناداها بعد أن أعادت له المفتاح، وتجاوزته عدة أمتار، فسقط قلب كلتيهما من شدة الخوف:
- مس كين!
- نعم، قالت دون أن تلتفت، وقد أبطأت وأبولين دوفيل السير.
- طاب مساؤك، يا مس كين.
- طاب مساؤك، يا سيرجنت براون، ردت عليه، وهي تدير رأسها، وتبتسم.
في الخارج، ركبتا سيارة فيات صغيرة، وانطلقتا في شوارع القاهرة، شوارع لا تعرف شيئًا عن نيزك سقط من أعالي السماء، واحترق، نيزك كان قدرها.

* * *

مضت المرسيدس بكورنيش النيل، فأنزل فرانك لانج زجاج النافذة، وأخرج رأسه. أراد أن يشم رائحة النيل في الليل، رائحة امرأة عارية، امرأة شبقة، تقضي الليل وحدها في السرير، وتنتظر حتى صعود الشمس، وعند ذلك تنام. امرأة عارية. رائحة امرأة عارية. أخذ يستنشق الهواء بلذة، وهو يغمض عينيه، ويبتسم. أحس بأصابع المرأة على وجهه، فمال برأسه، وهو يواصل الابتسام. داخ، وأخذ يلهث. كان محبورًا، أكثر الناس سعادة، وكان متيمًا. كان يحب أبولين دوفيل، وعاد يستنشق الهواء بلذة. وصله غناء من عَبّارة: أحبك يا مصر... كان الصوت حزينًا، ورجل التحري الخاص في ذروة السعادة. عندما فتح عينيه، وجد نفسه أمام أكبر ساحة في العالم، فتفاجأ، كان يظن أن النيل دومًا هناك. لم يسعده ذلك، وعاد يدخل رأسه.
- ساحة التحرير، قال السائق.
- والنيل؟ سأل فرانك لانج ممتعضًا.
- لقد تركناه خلفنا.
- لماذا؟
لم يفهم السائق، لكنه سمع رجل التحري الخاص يهمهم:
- كانت هناك امرأة، امرأة عارية.
- انظر، موسيو لانج، طلب السائق بنبرة قلقة أعادت فرانك لانج إلى الواقع، أولئك الناس الذين يتواردون.
كان بعض العشرات من الشباب في مجموعات قليلة يأتون من الشوارع الفرعية للساحة.
- إنهم يتنزهون، قال فرانك لانج دون مبالاة، هذا كل ما في الأمر.
- من الأفضل العودة إلى الفندق، نصح السائق.
لم يعارض رجل التحري الخاص، والمرسيدس تنهب شوارع القاهرة نهبًا، وهو يلتفت من حوله، ولا يرى ما هو غير عادي، لكن قلق السائق سيطر عليه. لم يعد يشم رائحة النيل، لم يعد يشعر بأصابع المرأة على وجهه، لم يعد يحب أبولين دوفيل. بدا له كل شيء غريبًا، ليس بسبب ليل القاهرة، ولكن كل شيء بدا له غريبًا. كل شيء. كل شيء بدا له ضائعًا. كان كل شيء يفلت، ويضيع، لهذا كانت غرابته. كان كل شيء يبدو غريبًا. كان كل شيء يبدو ضائعًا. لم تعد السيارة تنهب شوارع القاهرة نهبًا، فنظر إلى امرأة ورجل يتشاجران على الرصيف، واستدار برأسه، ليتابع المشهد من الزجاج الخلفي. كان كل شيء يبدو ضائعًا. وصله نباح كلب ضائع، فأقفل النافذة، وأمسك رأسه. كان رأسه ثقيلاً بثقل الرصاص. أنزله، وهو بين يديه، وعندما رفعه، والسيارة تبطئ أكثر فأكثر، رأى وجه امرأة يبتسم إليه من وراء الزجاج الأمامي. كانت إحدى عاهرات القاهرة. والمرسيدس تمضي بها، أخذت تقرع زجاج النافذة، فنظر فرانك لانج إليها، ورأسه دومًا بثقل الرصاص. ابتسمت له ابتسامة واسعة فيها كل شبق الموت، لكنه ظل جامدًا. لم يعد العالم غريبًا، كان هو الغريب.
كانت المرسيدس قد توقفت أمام الهيلتون منذ عدة ثوان دون أن يشعر بذلك.
- موسيو لانج، سأجيء في صباح الغد الباكر إن شاء الله، قال السائق.
- طيب، إلى الغد، همهم فرانك لانج، وهو يخرج من السيارة.
بقي عدة دقائق واقفًا على الرصيف، وهو لا ينظر إلى شيء على التحديد، لم يكن يمكنه النظر إلى شيء، لم يكن يمكنه التفكير في شيء، بقي واقفًا هكذا. رفع رأسه إلى أعلى، فرأى سماء القاهرة ككل سموات العالم. عند ذلك، اتجه نحو باب الهيلتون. حياه البواب، فرد عليه التحية. أعطاه شاب الاستقبال المفتاح، وتمنى له مساءً طيبًا. وهو في المصعد، فكر في أبولين دوفيل. ظن أن ذلك لم يحصل منذ زمن بعيد، فلام نفسه، وعزم على تحريرها من زنزانتها الأمريكية.
أغلق باب حجرته، واستدار، فإذا بها تخرج من وراء باب داخلي بفستان التفتا الأبيض، كلعبة خزفية. أمام ارتباكه، قالت:
- كانت لدي كلبة صغيرة أحبها ضاعت منذ عشر سنين، وأنا لم أعد أطيق الانتظار أكثر، أريد أن أجدها.
- كابتن دوفيل، قال فرانك لانج بنبرة المتحير، هل أطلقوا سراحك؟
- أنت لم تفهم إذن عدم صبري من أجل البحث عن "ريري"، إنه اسم كلبتي، ريري.
- وكيف تمكنت من الهرب، سأل رجل التحري الخاص، وكلاهما يقترب من الآخر.
- سأشرح لك فيما بعد، قالت، وهي تمسك بيده.
- السائق غادر منذ قليل على أن يعود غدًا صباحًا، أوضح، وهو يقبّل يدها.
- لا يمكننا البقاء هنا ثانية واحدة على فرض أنهم سيكتشفون أمر هربي بين لحظة وأخرى. إنهم جهنميون.
- سنذهب إذن في الحال.
واتجها إلى الباب، وهو لم يزل يمسك بيدها، ويقول هاشًا باشًا:
- أنت رائعة الجمال!
- أشكرك، أيها الفطر.
- الأحمر لونك كالأبيض ككل الألوان، أنت رائعة الجمال بالفعل!
ضحكت بسعادة.
قطعا الممر حذريْن، وأخذا الدرج، وحاولا ألا يلمحهما شاب الاستقبال، لكن البواب رآهما، وهما يغادران الهيلتون كلصين، فرفع تلفونه المحمول، وتكلم مع أحدهم.














































القسم الثالث

كانت الشمس تغمر ساحة التحرير بذهبها، وأبولين دوفيل في فستانها التفتا الأبيض، وكأنه يوم عرسها. رفعت رأسها إلى سماء يناير البِلَّوْرِية، وابتسمت، فابتسم فرانك لانج هو الآخر. فكر في غيوم باريس، واتسعت ابتسامته. لم يكن يحب اللون الرمادي، كان يحب اللون الذهبي. نظر إلى شعر الشقراء التي تسير إلى جانبه، كان من بين أولئك الذين يثيرون الحسد، لكن الناس من حوله لم يكونوا في حال يسمح لهم بإرهاق أرواحهم. كانوا يتنادون، ويتجمعون، وينظرون إلى الناحية الأخرى. في ساحة الحرية، كان الكل ينظر إلى الناحية الأخرى، وفي الناحية الأخرى كان الخطر، حتى الشمس كانت خطرة في الناحية الأخرى.
- أنتما أمريكيان؟ وصلهما صوت أنثوي من ورائهما.
التفتا، فرأيا شابة سمراء مبتسمة ترتدي الجينز، وتلف شعرها بشال زهري، فتاة ذلك المساء مع القبط الأعظم في السفارة الأمريكية.
- نحن فرنسيان، قال فرانك لانج.
- وهذه عروستك؟
ضحك رجل التحري الخاص، وهو ينظر إلى أبولين دوفيل، وأبولين دوفيل تقول:
- أنا عروس النيل.
- أجمل عروس! هتفت الشابة إعجابًا قبل أن تقول: تعالا من هنا قبل أن يظنكما الناس أمريكيين. الناس لا يحبون الأمريكيين.
- والفرنسيون؟ سأل فرانك لانج.
- الناس يحبون الفرنسيين، لكن هذا غير مكتوب على وجوهكم. وهم على كل حال لا يقرأون في معظمهم الفرنسية.
وأطلقت الشابة ضحكة عذبة.
داخل خيمة زرقاء، قدمت للفرنسيين الشبان الثلاثة الذين كانوا في ذلك المساء مع القبط الأعظم في السفارة الأمريكية، وهم يدورون بحاسوب محمول:
- هذا علاء، وهذا جمال، وهذا غالي، إنهم ينادون كل شبان القاهرة عن طريق الفيسبوك. هذه عروس النيل... قالت الشابة، وهي تضحك.
- أنا أبولين، قالت الشقراء الفرنسية، وهي تضحك.
- وأنا فرانك.
- أنتما أمريكيان؟ سأل الشبان الثلاثة معًا.
ضحكوا كلهم، والشابة تقول لأبولين دوفيل وفرانك لانج:
- ألم أقل لكما.
- نحن فرنسيان، قالت الشقراء الغولية.
- وأنتِ، توجه فرانك لانج إلى السمراء المصرية، لم تقولي لنا اسمك.
- أنا لا اسم لي، قالت الشابة، وهي تطلق ضحكتها العذبة، وترفع رأسها. أنا أمزح... كاميليا، اسمي كاميليا.
- كاميليا، أعاد فرانك لانج.
- غادة الكاميليا، قالت أبولين دوفيل.
- كانت أمي تحب اسكندر دوما الابن، وكل شيء اسمه فرنسا، وكانت تريدني أن أدرس في باريس.
- تعرفين الفرنسية إذن؟
- ليس كثيرًا. أقرأها ولا أتقن التكلم بها. سأترككما بعهدة "الثلاثي المرح"، قالت كاميليا والشبان الثلاثة يضحكون، ولا تتركانهم أبدًا، فالناس يتواردون تباعًا، وبين لحظة وأخرى ستكون المواجهة.
- المواجهة؟ سأل فرانك لانج.
- كيف كانت ثورتكم؟ كانت بالمواجهة، أوضحت كاميليا.
- تقصدين أحداث 68؟ استفسرت أبولين دوفيل.
- أقصد أحداث 1789. أول ثورة في التاريخ، فالثورات أولها وآخرها كلها واحدة.
وهتفت بالشبان الثلاثة قبل أن تذهب:
- خذوا بالكم على عروس النيل!
- من عينينا الاثنتين، أكد الشبان الثلاثة معًا.
انشغل الشبان الثلاثة مع حاسوبهم المحمول، فجلس فرانك لانج أمام الخيمة في طرف، وأبولين دوفيل في طرف، وراحا ينظران إلى ساحة التحرير، وهي تمتلئ بالناس، بالشباب من الناس، وهي تمتلئ بالشمس. صارت الشمس حامية، فرفعت أبولين دوفيل وجهها إليها، وأغمضت عينيها. بدا أنها تبتسم، والضوضاء تكبر شيئًا فشيئًا، وكأنها لا تسمع شيئًا. غفت قليلاً، فامحت ابتسامتها، واربد وجهها. نادت، وهي تغفو: لانج! جاء لانج، فوجدها ترتعد.
- أبولين، ماذا دهاك؟ سأل فرانك لانج، وهو يأخذها بين ذراعيه.
- مارغريت كين في خطر، همهمت أبولين دوفيل.
- ما لها عروس النيل؟ سأل غالي، أحد الشبان الثلاثة، وهو يترك صاحبيه داخل الخيمة، ويقترب من أبولين دوفيل.
- هل هي مريضة؟ صاح الشاب جمال من مكانه.
- إذا كانت مريضة نادينا على الطبيب، قال الشاب علاء من مكانه، لقد كان هنا منذ قليل.
- لا شيء، قال فرانك لانج، لقد حلمت حلمًا مزعجًا.
ضحك الشبان الثلاثة، وعلق غالي:
- مزعجًا أكثر من الكابوس الذي نحن فيه!
في تلك اللحظة، سقط حجر على الخيمة الزرقاء، وانطلق الرصاص، ووصلتهم صرخة، فذهبوا جميعًا ليروا، والصرخات تتكرر، والطلقات تتتالى، والحجارة تترامى. كانت هناك معركة حقيقية بين أفراد الشرطة والبلطجية من ناحية وشباب وشابات ساحة التحرير من ناحية، وكانت القنابل المسيلة للدموع التي يلقيها أفراد الشرطة تعود إليهم بعد أن تلتقطها الأيدي الجسورة، وتلقيها عليهم. اختلط الشبان الثلاثة بالمنتفضين، وبقي فرانك لانج وأبولين دوفيل يقفان في مكانيهما حائرين، فوصلهما صوت كاميليا من ورائهما:
- ما كان عليكما أن تخرجا من الخيمة الزرقاء!
- كاميليا، صاحت أبولين دوفيل، وهي تستدير، ثم وهي تقفز جاذبة كاميليا من ذراعها: لا تعرضي نفسك للخطر.
- يجب أن أوقف الأوباش، نبرت كاميليا.
- ليس أنت، يا دين الكلب، ابتهلت الشقراء الفرنسية.
- ربنا معي، قالت كاميليا بكل ثقة.
- سأذهب أنا، قال فرانك لانج.
وهو على بعد عشرة أمتار، التفت على صراخ أبولين دوفيل، فرأى كاميليا بين ذراعيها، وهي مخضبة بالدم، وأبولين دوفيل تبكي، وتشد كاميليا إلى صدرها في الدخان، كما لو كان دخان بركان صامت منذ العام 1919. في تلك اللحظة، جاء أحدهم يركب جملاً، وهو يعدو بأقصى سرعة فاصلاً المنتفضين عن بعضهم، ذهبوا بالمئات من الناحية التي كان فيها فرانك لانج، وبالمئات من الناحية التي كانت فيها أبولين دوفيل، وهم يحاولون الإمساك به، إلى أن تمكنوا من ذلك. عندما نجح رجل التحري الخاص في الالتحاق بأبولين دوفيل لم يجدها، كانت جثة كاميليا هناك في حقل من الدم والرماد، ولم تكن هناك عروس النيل.

* * *

كانت القدم تزداد في ساحة التحرير بشكل لا يصدق، وليحول الجيش دون المصادمات، طوّق المتجمعين من كل النواحي. وجد فرانك لانج نفسه بين عشرات الآلاف من القاهريين، فنظر إلى أبعد نقطة تستطيع عيناه الوصول إليها بحثًا عن أبولين دوفيل، ولم يقع عليها. أين ذهبت أبولين دوفيل؟ هل ذهبت أم أنهم اختطفوها؟ ومن هم الذين اختطفوها؟ تقدم من أول شخص كان أمامه، وسأله إذا كان قد رأى فرنسية شقراء ترتدي فستان تفتا أبيض. قال إنه رأى واحدة ترتدي فستان تفتا أبيض، ولكنه ليس متأكدًا إذا ما كانت فرنسية. تدخل آخر، وقال إنه رأى فرنسية سمراء ترتدي فستان تفتا أبيض. لكن ثالث كان يعطيهم ظهره، وهو يجلس على كرسي، وفي حضنه حاسوب محمول، قال إنه رأى فرنسية شقراء ترتدي فستان تفتا أسود. استأذن أحدهم محدثه على الهاتف المحمول، وقال إنه رأى واحدة ترتدي فستان تفتا أبيض لكنه ليس متأكدًا إذا ما كانت فرنسية أم غير فرنسية. جاءت على كلامهم شابة، وسألت إذا كان فستان التفتا الأبيض طويلاً أم قصيرًا، أجابها فرانك لانج قصيرًا، فقالت إنها رأت فرنسية شقراء ترتدي فستان تفتا أبيض طويلاً، فستان أشبه بفستان أختها العروس قبل أن تموت قتلاً في الليلة التي زفت فيها، وضحكت بسعادة كما لم تضحك من قبل، وعلى ضحكها أخذ كل من كان حولها يضحك، حتى أن فرانك لانج ضحك هو الآخر.
شكرهم رجل التحري الخاص، وراح يشق طريقه بصعوبة بين جمهور ساحة التحرير. نادوه، فلم يلتفت، وأخذوا ينظرون إلى بعضهم البعض كمن فقدوا شيئًا من فرديتهم. راح أحدهم يضرب صورة طاغية البلاد بقدمه ضربًا عنيفًا، وهو يلهث، فانتقل اللهث إليهم، بينما هم جامدون لا يقومون بأدنى حركة، ومحدث صاحب الهاتف المحمول يصيح من الطرف الآخر: آلو! أنت لم تزل معي؟ آلو! آلو! أين ذهبت؟ آلو! آلو! آلو! أنت هنا؟ آلو! آلو! آلو! آلو...
سأل فرانك لانج ثلاثة شبان معهم شابة بشعر أشقر قصير وقامة متوسطة إذا كانوا قد رأوا شقراء باريس ذات الثوب التفتا الأبيض، فقال الأول إنه رآها، وهي ذهبت من هنا. قال الثاني بل من هناك، ذهبت من هناك. قال الثالث لم تذهب لا من هنا ولا من هناك، بل من هنا، من هنا. نظر رجل التحري الخاص إلى الشابة، فوجدها تبكي. قالت: لأنهم يكذبون كلهم، وهي وحدها التي رأتها، وابتسمت لها، قبل أن تذهب من هنا، من هنا. مسحت دموعها بأصابع مرتعشة، وهمهمت: لها شعر طويل كشعري قبل أن أقصه، وهي أطول مني قامة، القامة التي تمنيت طوال حياتي أن تكون لي، لكنها تشبهني في كل شيء. هل أذهب معك بدلها؟ صاحت الشابة بفرانك لانج. قل إن هذا غرضك، أن أذهب معك! لما كنت قذرة، كنت أذهب مع غيرك، كنت صغيرة ودون عقل، وكنت أذهب دون أن تعرف أمي. وبعد ذلك، عرفت أمي، وقالت لي ألا أذهب مع أحد لأنها هي لم تذهب مع أحد مرة واحدة طوال حياتها، وبدأت تُفهمني كيف أتصرف، كانت تفكر عني في كل شيء إلى حد لم أعد أشعر بحاجة إلى التفكير، عند ذلك توقفت عن الذهاب مع أحد. والآن تريدني أن أذهب معك؟ اُغْرُبْ عني، أيها النذل، يا ابن المومس! ابعد بعيدًا... بعيدًا... ابعد بعيدًا... بعيدًا... بعيدًا... ابعد بعيدًا... بعيدًا... بعيدًا... بعيدًا... ابعد بعيدًا جدًا... ابعد بعيدًا أبعد ما يكون...
ابتعد فرانك لانج، وهو ينظر إلى الشابة باستغراب، والشابة تنظر إلى نفسها غريبة عن نفسها، بقي يبتعد إلى أن لفت انتباهه أحدهم كان يرتدي قميصًا مخططًا، ويسير على غير هدى، ومن حوله كل أفراد أسرته، وهم يرجونه العودة إلى الدار، ويتوسلون إليه، بينا هو يردد: سأتزوجها، سأتزوجها! سألهم فرانك لانج إذا كانوا قد رأوا أبولين دوفيل، والشاب الذي يبدو فاقدًا لقواه العقلية يردد دومًا: سأتزوجها، سأتزوجها! أبولين دوفيل؟ من هذه؟ ممثلة؟ سأل الأخ الأكبر. والشاب ذو القميص المخطط يردد: سأتزوجها، سأتزوجها! والأب: أستاذة؟ سأتزوجها، سأتزوجها! والأم: أجنبية؟ إذا كانت أجنبية، فهي إذن جاسوسة. سأتزوجها، سأتزوجها! والأخ الأصغر: رقاصة؟ سأتزوجها، سأتزوجها! وفرانك لانج: أبولين دوفيل فرنسية شقراء ترتدي فستان تفتا أبيض. والشاب ذو القميص المخطط بدل أن يردد سأتزوجها، سأتزوجها، أخذ يردد: أبولين دوفيل، أبولين دوفيل! اقتربوا من مجموعة شبان كانوا حائرين لا يجرؤون على تسلق عمود كهرباء لرفع العلم عليه. وفرانك لانج: أبولين دوفيل! والشاب ذو القميص المخطط: أبولين دوفيل، أبولين دوفيل... اختطف العلم، وبقدمي سعدان تسلق عمود الكهرباء، وراح فوق يلوح بالعلم، ويصرخ: أبولين دوفيل، أبولين دوفيل، أبولين دوفيل... وكل من كان في ساحة التحرير: تحيا الثورة، تحيا الثورة، تحيا الثورة... وملأ الصَّخَبُ العالم.

* * *

سقط الليل على ساحة التحرير دفعة واحدة بعد موت الشمس، ولم يزل الناس يتواردون إليها. كانوا بمئات الآلاف، وهم في معظمهم كانوا شبابًا. نصبوا الخيم الملونة أو من ورق الجرائد والكرتون، وجلسوا تحتها. كانوا يتراسلون عبر هواتفهم وحاسوباتهم المحمولة، ويتنادون. كانوا يبدون أسياد أقدارهم، وفي الواقع كانت تلك "الماكينات" الصغيرة كل الأقدار. كانوا وهم ينحنون برؤوسهم فوقها يضفون القدسية عليها، وكأنهم بين يدي إله قوي. كانوا لا يعون ما يفعلون، وكل ما يدعونه "ثورة" لم يكن سوى اندفاع عاطفي، أو، إذا شئت، تحت غمرة من الاندفاع. كالنيل عند فيضانه. هكذا كان يفكر فرانك لانج، وهو يبحث عن أبولين دوفيل. يفيض النيل فجأة، يتجاوز بمائه ضفتيه، فيجرف كل شيء، ثم يَشُحُّ، ويعود إلى ما كان عليه. كانت تلك الماكينات الصغيرة كالنيل الوسط الذي يعومون فيه، دون أن يكونوا أسياد أنفسهم بعد أن اختلست أنفسهم تلك الماكينات الصغيرة التي كانوا يظنون أنهم يتحكمون فيها بينما هي التي تتحكم فيهم، وتحاصرهم كما الجيش يحاصرهم، وتفرض إرادتها عليهم. لهذا كانوا يذعنون لها إلى حد التأليه، ويقدسونها دون أن يقدروا على منع أنفسهم من القيام بذلك، ككل شيء يقدسونه هنا. كالله. كالنيل. كعصير المانجا. لم يحلوا التكنولوجيا محلها كما هو في الغرب، لكنهم أضافوا مقدسًا جديدًا إلى مقدساتهم. وعلى عكس تعامل الغرب مع المقدس التكنولوجي بعقلانية فكر التنوير، يجري التعامل هنا مع المقدس التكنولوجي بطوباوية فكر الظلامية في أرقى درجاتها الثورية. لم يكن هناك فرق كبير بين هؤلاء الشبان الذين دون لحى وبين أولئك الشبان الذين بلحى والذين بدأوا يتواردون بدورهم إلى ساحة التحرير.
قدسوها، ففقدوا روحهم النقدية، فكر فرانك لانج. كان يقصد التكنولوجيا، وكان يبتسم بمرارة، وهو يقول لنفسه: ثورة دون روح نقدية ليست ثورة، إنها بكل بساطة امتثالية، ودائمًا ما كانت امتثالية اليوم كليانية الغد. تركهم يرسلون رسائلهم عبر حاسوباتهم وهواتفهم المحمولة إلى كل المصريين في مصر والعالم بحثًا عن أبولين دوفيل، وراح يخترق حلقة من الراقصين الهاتفين بسقوط طاغية البلاد، بشهوة تقترب من شهوة المضاجعة. كانوا يرقصون بقدم خفيفة، ولم يكن يبدو عليهم أنهم يحملون على عاتقهم أية مسئولية، ككل من لا يستحق الاهتمام، وكانوا جزلين. ليس بعد، قال فرانك لانج لنفسه، لم يحن الوقت بعد. كانوا يرقصون رقص المعافى من كل مسئولية، وكانوا جزلين، كانوا يُبدون ذلك علانية، ويعترفون لأنفسهم ما لم يكونوا يجرؤون على الاعتراف به. كانوا كالأطفال جزلين. كالخرّائين. دون أية مسئولية. كل أولئك البالغين لم يكونوا بعد بالغين. كانوا ثوريين حتى النخاع. كانوا يرقصون ويهتفون، وكأنهم لا يريدون أن يكبروا. دون أية مسئولية. جزلين. كالمنيوكين. ولكن إلى أي مدى يبلغ الجزل؟ تساءل فرانك لانج، وهو ينظر من حوله بحثًا عن أبولين دوفيل أو عمن يشير إليه كيف يقتفي أثرها.
اقترب من شاب وشابة، وهما يتكلمان بصوت عال دون أن يباليا بمن حولهما من بشر دنيا ساحة التحرير، ويقولان إنهما فكرا في الأمر جيدًا. الزواج لن يكون الحل، الزواج مسئولية، وهما لم يعتادا على ذلك. لنحب بعضنا هذا المساء، غدًا ربما أو بعد غد تكون الثورة قد انتهت، ويذهب كل واحد في طريقه.
- هلا ساعدتماني في البحث عن أبولين دوفيل؟ طلب فرانك لانج إليهما.
- أبولين دوفيل؟ سأل الشاب والفتاة معًا.
- فرنسية شقراء ترتدي فستان تفتا أبيض، أوضح رجل التحري الخاص.
- ولماذا لم تذهب إلى مركز الشرطة؟ بصق الشاب عابسًا.
- إلى مركز الشرطة! صاحت الشابة استغرابًا. ومع حال الخراء هذه في ساحة التحرير هناك مركز شرطة؟
- إنها مسئولية الشرطة على كل حال، عاد الشاب إلى القول عابسًا دومًا.
- اسكت أنت، أيها الرِّتْج المَهْبِلِي، وخليني أتفاهم مع الرجل، ردعت الشابة الشاب، ربما كانت زوجته. وماذا لو كنت زوجتك، وأضعتني كما أضاعها؟
- ولكنك لست زوجتي، صححها الشاب.
- أعرف أنني لست مِلْكَك، المومس التي لك، ولن أكون، وأنا الآن أفهم لماذا لن أكون زوجتك، وبدأت الشابة تبكي.
- لا تبكي أرجوك، طلب الشاب من الشابة.
- لا تبكي أرجوك، طلب فرانك لانج بدوره من الشابة.
- اسكت أنت، يا فرنسي الخراء، صاح الشاب بفرانك لانج.
- بل أنت، اسكت أنت، يا دين فرعون! صاحت الشابة بالشاب، وهي تشد فرانك لانج من ذراعه، وتبتعد به تحت عيني الشاب الذاهلتين. تعال، سأبحث عن زوجتك معك.
- ليست زوجتي، همهم فرانك لانج، وهو يترك نفسه للشابة تسيره على هواها.
- ليست زوجتك! قالت الشابة دَهِشَة.
- ليست زوجتي.
- إذن هي أختك.
- ليست أختي.
- ابنتك؟
هز فرانك لانج رأسه نافيًا.
- ليست زوجتك وليست أختك وليست ابنتك وتريد البحث عنها بين كل هؤلاء البشر! أنت لن تجدها، يا دين فرعون!
- سأجدها.
- من تكون لك إذن وكل هذا الإصرار لمريض في رأسه على أن تجدها؟
- بمفهومكم، لا أحد، إنها ليست أختي ولا زوجتي ولا ابنتي.
- وبمفهومكم أنتم؟
- كل شيء.
- كل شيء وهي ليست زوجتك ولا أختك ولا ابنتك!
- كل شيء.
- وهل تقتل من أجلها؟
- أقتل أو لا أقتل، إنه السؤال.
- أرأيت؟
- الواقع أنني...
- كلكم إذن واحد، يا دين فرعون! همهمت الشابة حزينة.
انسحبت، وهي تنظر إلى أعلام الثورة التي تلوح بها مئات الأيدي حتى ضاعت بين الحشود.
في وسط غابة الأعلام كانت خيمة فيها مصباح قوي وخيالان يتعانقان، ثم ينفصلان، أحدهما يجلس، والثاني يحرك يديه بما يتوافق مع ما يقوله، ومن جديد يتعانقان، ثم ينفصلان، ويجلس الاثنان أحدهما مقابل الآخر، ويلوذان بالصمت، ومئات الأعلام فوقهما لا تتوقف لحظة واحدة عن الخفقان. وفي لحظة معينة، ظن فرانك لانج أنه يرى أبولين دوفيل بكل سلطتها وجمالها، فرفع ستار الخيمة، ونظر إلى داخلها. كان في الخيمة شابان ملتحيان، فسلم عليهما، وقال إنه يبحث عن أبولين دوفيل.
- أبولين دوفيل، أعاد أحد الشابين، وهو يمسك بيد الآخر.
- كانت هنا منذ قليل، قال الثاني.
- كانت هنا منذ قليل؟ سأل فرانك لانج مهتمًا.
- قالت إنها تريد الذهاب بحثًا عنك، قال الأول، وهو يترك دمعة تسيل على خده.
- أشكرك، أشكركما أنتما الاثنان، همهم فرانك لانج، وهو يهم بمغادرة الخيمة.
- انتظر، هتف الأول، فاستدار رجل التحري الخاص، والشاب يخرج مسدسًا من صدار الآخر. تركت هذا لك.
أخذ فرانك لانج المسدس بيد مترددة، وخرج.
وهو في الخارج، نظر إلى ظلي الشابين، وهما يخلعان ملابسهما، ويمارسان الحب بكل حرية.
- ماما، إلى أين أنت ذاهبة بابني؟ سألت المرأة الشابة العارية الكتفين أمها المحجبة.
- أريد أن أربيه بعيدًا عن كل هذا، أجابت الأم.
- ماما، أعيديه لي.
- فيما بعد، بعد أن ينتهي كل هذا.
- ماما، لن ينتهي كل هذا.
- سينتهي كل هذا.
وأخذت الأم تهدهد الصغير كلعبة، وتقول له:
- عندما تكبر لا تنس أنني ربيتك.
- ماما، سأربيه أنا.
- ليكبر مثلك وينسى أنك ربيته؟
- ماما، لا أحد يظل لعبة إلى الأبد.
- أنا لا أنكر ذلك، ولكن...
- ماما، كلنا نمضي من هنا، وفي النهاية نعي أنفسنا، ونصبح شيئًا جديدًا.
- لا أريده أن يصنع ثورة كثورتك.
- ماما، سيصنع ثورته.
لم تسمعا فرانك لانج، وهو يعود إلى القول للمرة الثانية:
- أنا أبحث عن أبولين دوفيل.
- ماذا يقول هذا الملاك؟ سألت الأم.
- ماما، يقول إنه يبحث عن أبولين دوفيل، قالت المرأة الشابة لأمها، وهي تفتح تلفونها المحمول، وتنظر إذا كانت لديها رسالة جديدة. منذ أكثر من ساعة، وأنا أنتظر جوابًا على الرسائل التي أرسلتها إلى أصدقائي من أجل البحث عن أبولين دوفيل، قالت المرأة الشابة لفرانك لانج.
- كل مصر تبحث عنها، همهم فرانك لانج.
- هذا لأن مصر لم تعِ بعد نفسها، أوضحت المرأة الشابة.
- ماذا تقولين، يا شيطان حبي؟ سألت الأم.
- ماما، أنا أتكلم مع الرجل، ردت المرأة الشابة.
- أشكرك على كل حال، قال رجل التحري الخاص بأدب.
- اذهب إلى الناحية الأخرى من ساحة التحرير، الناحية الشرقية، نصحت الأم.
سار فرانك لانج على غير هدى، وعندما ابتعد، سألت المرأة الشابة أمها:
- ماما، لماذا الناحية الشرقية؟
- لا تدرين لماذا؟
- لا أدري.
- إنها الناحية التي تصعد منها الشمس في مملكة الأحياء، هناك حيث يولد البشر.

* * *

في قلب الصَّخَب، رمى فرانك لانج جسده على مقعد، وأغفى. حلم أحلامًا مزعجة رأى فيها أبولين دوفيل، وهي تُغتصب من قبل جماعة من الملتحين، وهي تُغتصب من قبل جماعة من اللاملتحين، وهي تغتصب من قبل جماعة من العسكريين. كانت في كل مرة تغتصب فيها تناديه، وهي تصرخ، وتبكي، وعندما لم يكن يأتيها، كانت تقهقه، وتتركهم يعبثون بجسدها ما شاء لهم العبث حتى يتعبون.
فتح رجل التحري الخاص عينيه فجأة على صرخات امرأة كان أربعة أو خمسة من المراهقين يحاولون اغتصابها في ركن معتم ومنعزل، فهب واقفًا، وذهب لنجدتها. عندما رأوه يطلع عليهم ومسدس بيده ولوا الأدبار، فارتمت المرأة على صدره، وهي تبكي، وتلهج بشكره.
- أبولين دوفيل، همهم فرانك لانج، وهو يشد المرأة بكل حنان الأرض، والمرأة تتركه يفعل.
بعد قليل، أبعدها عنه، ومسح عن وجنتها السمراء الدمع، فسألته المرأة:
- من هي أبولين دوفيل؟
- أنت.
- ولكنني لست أبولين دوفيل، ألقت المرأة، وهي تزيح نفسها متراجعة خطوة، ثم عدة خطوات، وبعد ذلك أخذت تركض، وهي تلتفت، من وقت إلى آخر.
- كابتن دوفيل، صاح رجل التحري الخاص من وراء المرأة، وأخذ يركض، هو الآخر، من أجل اللحاق بها. كابتن دوفيل، عاد إلى الصياح ثانية، ثم توقف عن الركض، وهو ينظر من حوله حائرًا.
- فرانك، جاءه صوت من ورائه، فالتفت. أخيرًا، قال الشاب غالي، كنا نبحث عنك طوال الوقت.
- أبولين دوفيل ذهبت من هنا، همهم فرانك لانج بكل يأس الأرض.
- تعال معي، طلب غالي، نحن لسنا بعيدين هناك.
وفي اللحظة ذاتها، انقض على غالي ثلاثة من الملتحين بأمواسهم، وهم يشتمون القبطي الذي كانه، ويسيلون دمه، ولولا تدخل فرانك لانج لأنهوا عليه. حمله بين ذراعيه كمن يحمل طفلاً، وذهب به إلى الخيمة حيث هناك صديقاه، بإشارات من غالي لم تكن كلها واضحة. أول ما رأى علاء الحال التي غالي فيها راح يجري في طلب الطبيب، وجمال يسأل بينما يمدد رجل التحري الخاص الضحية على فراش أرضي:
- من فعل هذا؟ لماذا فعلوا هذا؟
- كانوا ثلاثة من الملتحين، أوضح فرانك لانج.
- ليسوا من الملتحين، همهم غالي بصعوبة.
- إذن من؟ أبولين دوفيل بثلاث لحى، قال رجل التحري الخاص متهكمًا.
- ملتحون ولكن ليسوا بملتحين، أوضح جمال، بلطجية. يتسللون ويقومون بأفعال إجرامية كي يفرقوا ما بيننا.
حضر الطبيب جاريًا مع علاء، وضع حقيبته على طاولة تُطوى بعد أن رفع جمال الحاسوب المحمول عنها، وهو يقول:
- ليس فعلهم الإجرامي الأول.
- لنكن حذرين قال علاء.
- هل الجراح خطيرة؟ سأل فرانك لانج.
لم يجبه الطبيب، الذي انشغل بمسح الجراح، وتضميدها.
- اجلس فرانك، طلب جمال إلى رجل التحري الخاص، وهو يدفع كرسيًا من البلاستيك. كيف ضاعت أبولين؟
- لم يقولوا شيئًا في الفيسبوك؟ سأل فرانك لانج.
- لم يقولوا شيئًا، أجاب جمال بنبرة يائسة.
- أين سنجدها؟ قال علاء.
- لا أعرف، همهم رجل التحري الخاص. بحثت عنها في كل مكان، ولم أجدها.
- ومن هم برأيك؟ سأل جمال.
- خاطفوها؟ كل من هم في ساحة التحرير، ألقى فرانك لانج. الأحياء والأموات.
- كاميليا لا ذنب لها في شيء، همهم غالي بصعوبة.
- أنت لا تتكلم، أمر الطبيب.
- كاميليا قتلوها كي يختطفوا أبولين، عاد غالي يهمهم بصعوبة.
- ماذا قلت لك؟ قال الطبيب بعصبية.
- كاميليا تبحث عن أبولين دوفيل هناك في مملكة الموتى، قال غالي ودمعة تسيل على خده.
- ليست كاميليا فقط، همهم جمال، وهو يضع الحاسوب المحمول على الأرض. أختي سعاد تبحث عنها.
- كانت تخرج كل مساء، خطيبتي نعيمة، همهم علاء، كانت ممرضة تسهر على إحدى العجائز الثريات في غاردن سيتي.
- لم تعد تجلس معنا، أختي سعاد، أضاف جمال، كانت أمي تناديها "سعاد! أخرجي قليلاً من بين جدرانك الأربعة، وتعالي لتجلسي معنا".
- كانت تخرج كل مساء، خطيبتي نعيمة، عاد علاء إلى القول، وعندما أبديت اعتراضي، قالت إنها لن تخرج كل مساء بعد أن نتزوج، وإنها ستجد عملاً نهاريًا في أحد المستشفيات.
- سعاد، أخرجي قليلاً، كانت أمي تقول.
- سنتزوج إذن في الحال، قلت لنعيمة.
- دخلتُ غرفتها لأرجوها الخروج من أجل أمي، فوجدتها تبكي. أخذتها بين ذراعيّ، وأنا أقول لها سعاد لماذا تبكين؟
- قالت لي نعيمة أنت لم تزل طالبًا في الجامعة، فكيف نتزوج؟
- لماذا تبكين؟ لماذا كل هذه الدموع؟
- في أحد المساءات تبعتها، كنت لا أشك فيها، ولكنني تبعتها.
- لماذا تبكين، يا سعاد، يا أختي، يا حبيبتي؟ لماذا كل هذه الدموع؟ قولي لي.
- لم تذهب إلى غاردن سيتي، فذهب عقلي. دَخَلَتْ أحد أحياء الدقي القديمة، ثم اختفت في عمارة على وشك السقوط.
- الجراح ليست عميقة والحمد لله، قال الطبيب بعد أن أنهى تضميد غالي، وراح يعيد أدواته إلى حقيبته.
- وقفتُ حائرًا لا أدري ما أفعل، هل أدفع باب العمارة، وأدخل؟
- قامت سعاد فجأة، وراحت تجري صوب الباب. سعاد، إلى أين أنت ذاهبة؟ صحت من ورائها.
- تبقون على خير، قال الطبيب، هناك العديد من الجرحى، وغادر الخيمة.
- وأمي تصيح من ورائها، سعاد، يا حبة عيني!
- وفي الأخير قررت دفع باب العمارة، ومن باب لا يقفل لإحدى الشقق نظرت، فرأيت العديد من النساء والرجال. كانت النساء...
- لم أستطع اللحاق بها، كانت سعاد قد اختفت. وفي اليوم التالي...
- الجراح لا تلبث أن تندمل، همهم غالي.
- وفي اليوم التالي، جاء شرطي، وأخبرنا أن سعاد ألقت بنفسها في النيل.
جاء أحدهم، وبقي في فتحة الخيمة، وهو يسأل:
- من منكم فرانك لانج؟
قال فرانك لانج:
- أنا.
أشار الرجل إلى ناحية ليست بعيدة، وقال:
- هناك امرأة قرب فوهة ماء البيوت بانتظارك.
وذهب.
تردد فرانك لانج، فشجعه الشبان الثلاثة بحركة من رؤوسهم. عندما وصل إلى البالوعة، وجد غطاءها مرفوعًا. تدلى بقدميه، وقفز ليجد نفسه قرب سيل ماء. كان هناك زورق لم ير فيه أحدًا في البداية، وعندما اقترب منه، بان له ما في داخله من شتى آلهة المصريين القدامى إنسانًا كانت أم حيوانًا أم نصف إنسان ونصف حيوان. كانت الآلهة تحيط بأبولين دوفيل العارية داخل ناوسها، بينما يبدو عليها الوهن. لما لمحت فرانك لانج، مدت له يدها، فساعدته الآلهة على الركوب، لتعانقه الشقراء، وهي تتحرق شوقًا إليه. فتح فمه ليسأل عما جرى لها، لكنها أغلقته بسبابتها. وقبل الإبحار، خلعت عنه الآلهة ثيابه، وتركته يزيل كل أثر للوهن على طريقته من الجسد الأبيض بالعناق والقبلات. لم يكن الإبحار سهلاً على الآلهة للأخطار التي واجهتها، فالأفاعي والتماسيح والعقارب لم تتوقف عن الهجوم، كانت تسعى إلى عدم ذهاب الزورق بأبولين دوفيل إلى الناحية الأخرى من السيل، فيطلع النهار على العالم. ولما عجزت الزواحف عن تحطيم الزورق، حاولت ابتلاع الماء، لكن الزورق غاص في أعماق الأرض، ووصل إلى المحيط الأصلي أصل الوجود. كان فرانك لانج وأبولين دوفيل قد قاما بفعل الحب، فعل التجدد والانبعاث، وفي الصباح، وُلدت الشمس، وهي تأخذ شكل الجُعَل.
وجد فرانك لانج نفسه وحيدًا قرب أهرامات الجيزة، تحت شمس كثيرة على الضفة اليسرى للنيل، وكانت عشرات الآلهة هناك، رع، وتوت، وشو، وجب، وأوزوريس، وإيزيس، وست، ونفتيس، وحورس، و...، و...، و... كان الناس أحرارًا فيما يعبدون، وهم لهذا كانوا يعيشون في وئام مع أنفسهم ومع غيرهم. وكانوا ديمقراطيون فيما بينهم، لأن التعددية روح الحرية والسلم والمساواة والعدل والإبداع والتقدم. لكنه تفاجأ بأخناتون، وهو يشعل النار فيها، ويهدم معابدها، ويخضع عابديها، ليعلى إلهًا واحدًا دكتاتوريًا جبارًا مثله.
في المتحف، لم يتمكن رجال الإطفاء من التغلب على النيران التي التهمته إلا بصعوبة كبيرة. كانت كنوز الإنسانية قد غدت رمادًا، وصرخات الإنسانية من ساحة التحرير قد ازدادت ارتفاعًا. لم يكن فرانك لانج ليعرف كيف يجدها إنسانيته الضائعة، بعد أن ترك أبولين دوفيل كمن يترك المرء شمسه في عتمة التاريخ. أخرج المسدس من جيبه، وألقاه في أحد صناديق القمامة.
وهو يخف عائدًا إلى ساحة التحرير، اعترض طريقه أعمى، وسأله إذا كان قد وجدها. قال إنه لم يجدها، فأخذ الأعمى يبكي، ويقول:
- لقد فقدتها إلى الأبد.
- كان ذلك كما في حلم، همهم رجل التحري الخاص.
والأعمى يعيد:
- لقد فقدتها إلى الأبد، ابنتي سناء.
- كان ذلك كما في حلم جميل، واصل رجل التحري الهمهمة.
حكى الأعمى:
- كانت لها أخت توأم اسمها وفاء، ماتت هي وأمها في الطريق إلى الحج. كانت ترافق أمها، ضربتهما الشمس، فماتت هي وأمها، وذهبت هي وأمها إلى الجنة. يا ليتني كنت أنا لأموت في أرض الله، فكل من يموت في أرض الله يذهب مباشرة إلى الجنة. طلبت من ابنتي سناء أن تقتلني في أرض الله، لكنها ذهبت، تركتني في أرض الشيطان، وذهبت.
- في الزورق كانت بين ذراعيّ عارية، همهم فرانك لانج، كانت كلها عارية بين ذراعيّ، لم أزل أشم رائحة جسدها، كان ذلك كما في حلم.
- سأموت في أرض الشيطان، همهم الأعمى، وسأذهب إلى الجحيم. حتى المتدين الذي لا يقطع فرضًا واحدًا المؤمن بالله ورسوله وكافة الأنبياء، من يموت في أرض الشيطان يذهب مباشرة إلى الجحيم.
- كان ذلك كما في حلم جميل، قال فرانك لانج من جديد، وأراد الذهاب، فأمسك به الأعمى.
- ابنتي سناء تركتني في أرض الشيطان، ولا أدري اليوم الأرض التي هي فيها.
انتبه رجل التحري الخاص إلى الأعمى، وكأنه يسمعه لأول مرة.
- عن أي سناء تتكلم، يا رجل؟ سأل فرانك لانج الأعمى بشيء من الحنق.
- عن سناء ابنتي، أجاب الأعمى، ابنتي التي بكيتها مر الدمع حتى صرت أعمى. ألم تكن تبحث عنها؟
- كنت أبحث عن أبولين دوفيل.
عاد الأعمى إلى البكاء، وهو يقول:
- ابنتي سناء، لقد فقدتها إلى الأبد.
كان فرانك لانج قد ابتعد، فصاح الأعمى من ورائه:
- قلت لي كيف اسمها؟
- أبولين دوفيل، أجاب رجل التحري الخاص، وهو يواصل السير باتجاه ساحة التحرير.
- كيف؟
- آ-بو-لين-دو-فييييييييييييل!
همهم الأعمى لنفسه، وهو يتأوه: أبولين دوفيل. ثم راح يطرق الأرض بعصاه، وينادي صائحًا:
- أبولين دوفيل! أبولين دوفيل!

































القسم الرابع

كان آلاف المصلين في ساحة التحرير، بحراسة عشرات الأقباط، فالخوف كان كبيرًا من هجوم أبناء النظام على الرغم من دبابات الجيش. لكن لم تكن تثير اهتمام فرانك لانج الحركات المتوائمة للمؤمنين، حركات جميلة أقرب إلى حركات الرياضيين، وإنما ما تعنيه كل تلك الحركات من إعلاء وتسامٍ. كل من يظن أن المسلم يتواضع بين يدي الله لهو مخطئ بلا ريب، قال فرانك لانج لنفسه، والخضوع في هذا اللقاء العابر مع الله شكلي ليس أكثر كالطاعة التي يحاول العابد التركيز عليها، بينما كل ما في الأمر أن العابد والمعبود شيء واحد، الفرق أن للأول خصائص عادية، وللثاني الخصائص نفسها، ولكنها ليست عادية، وهكذا يغترب الإنسان في الله، فلا يعي جوهر كونه، يترك إرادته لإرادة الله، وعقله لعقل الله، وإذا ما أعاقه شيء عن تحقيق ذلك كالبحث عن أبولين دوفيل، يقلب العلاقة رأسًا على عقب، فيغترب الله فيه، ويغدو جبارًا كما لو كان الله، ويكون له سلوك حاكمه المستبد، فهل اختطف هؤلاء أبولين دوفيل؟ هل أرادوا باختطافها تعميم بؤس وعيهم أم وعي جوهرهم، وبالتالي قطع علاقتهم بالأعلى والأسمى الذي صنعوه على صورتهم؟ لم يكن متأكدًا من أي شيء. كان فرانك لانج يريد أن يعرف من اختطف الشقراء الفرنسية لينقذها، وبعد ذلك ماذا يهمه أن يكون هؤلاء ما يكونون، بعد كل شيء لم يكن مصريًا. كان يحب مصر، لكنه لم يكن يحبها أكثر من أبولين دوفيل. أبولين دوفيل. الله مغتربًا فيها. وفي الأخير قال لنفسه، لا، جوهر بنيتهم لا يؤهلهم لاختطاف روحهم، فهم روح الله، ليس الله الغفور الرحيم، فلهذا شروط لديهم، الله الجبار المستبد، على الأقل في ظرف المرحلة، وشرط المكان: ساحة التحرير.
أخذ طريقه بين مئات آلاف الموجودين في ساحة القيامة، واقترب من مجموعة كبيرة من العمال الذين كانوا هم أيضًا يصلّون كغيرهم، ويعبدون أنفسهم على طريقتهم، إلى درجة يجلون بها قوتهم، فلولاهم لما اشتغلت الماكينات، هذا إذا ما كانت هناك ماكينات في مصر، ولما اعتبروا ماكينات هم أنفسهم. نعم، الفرق بين أن تكون ماكينة وأن تعي كونك ماكينة وتداوم على الإنتاج كالفرق بين أن تكون الله وأن تعي كونك الله وتداوم على العبادة، فهل اختطفوا أبولين دوفيل كيلا يداوموا على الإنتاج، كيلا يواصلوا اغترابهم عما ينتجون؟ سيكون فعل الاختطاف بالنسبة لهم فعلاً استثنائيًا، خلاقًا، مخالفًا للواقع، فكّر فرانك لانج. ولكن لا، لن يجرؤوا على ذلك، لأنهم مجردون من ذواتهم، حتى فعل الثورة لن يغيرهم. إنهم غير أنفسهم، فكيف تريدهم أن تكون أبولين دوفيل لهم دافعًا للوقوع على أنفسهم؟ وهل هم يفكرون أساسًا في الوقوع على أنفسهم؟ هل يفكرون أصلاً في أبولين دوفيل كوسيلة لوعي جوهرهم؟ وإذا ما حصل، فهل سينجحون؟ وكيف ينجحون، وهم ضحايا أبديون لنظام لم يزل قاعدًا هنا؟ حتى بعد سقوطه، سيظل قابعًا هنا بأدواته وأشيائه. لن يسقط النظام في الرؤوس، قال فرانك لانج لنفسه، فكيف تريده أن يسقط في الواقع؟
إذن من اختطف أبولين دوفيل؟ شبان الشبكات الاجتماعية؟ جمال وعلاء وغالي ومن شابههم؟ تساءل فرانك لانج. هم اختطفوها افتراضيًا، ولم يعملوا على إعادتها افتراضيًا. أدخلوها في عالمهم، عالم لا يلمس، كالله، كالقوة، عالم تجريدي. لهذا لن تفلت من بين أياديهم أبولين دوفيل، ككل شيء في ساحة التحرير، كل شيء في ساحة التحرير لن يفلت مما هو افتراضي، الإله تحت كافة صوره. وهؤلاء كلهم الأدوات. كلهم. فهم على اختلافهم يتشابهون كلهم. لكلهم صلاة واحدة تحت أشكال متعددة. صلاة واحدة. إله واحد. جبار. مستبد. بلحية أم بدون لحية. واحد. ذلك الغفور الرحيم لن يكون دوره. لن يجيء دوره. ربما بعد ألف عام. يكون الدين قد انتهى.
وعلى حين غِرة، فكر فرانك لانج في الأمريكان: هم من اختطفوا أبولين دوفيل. لأنهم لم يسقطوا النظام بعد. ككل رأسمالي الأمريكان يفكرون في الأسوأ حتى وإن كانوا متأكدين تمامًا مما سيقع. نعم، الأمريكان هم من اختطفوها، هم من احتجزوها، إلى أن يتم لهم كل شيء. وبعد ذلك، سيصفونها ربما، سيطلقون سراحها ربما. لكن مقابل ماذا؟ لم تعد لدعم الفرنسيين للنظام أية أهمية، والقوة الثالثة استقطبت القوة الثانية، وهذه أو تلك أمريكية. أمريكية دون عقد طبعًا. فهؤلاء كلهم ليسوا عملاء لأحد، لكن تحريكهم كان مدبرًا. على الأقل في جانب منه كان مدبرًا.
إذن هم الإسرائيليون. الموساد. الموساد هو من اختطف أبولين دوفيل. ليضغط على فرنسا، وليقول لأمريكا نحن حلفاء إلى الأبد. المقابل دومًا معروف. اتركونا منهم. من الفلسطينيين. اتركونا نتصرف على هوانا معهم بأمر هواكم. لن نخرج عن إستراتيجيتكم. نحن هنا تحت أمركم. ولكن بيننا وبينكم لن نترك مصر لكم وحدكم. لن تخرجوا عن إستراتيجيتنا. أبولين دوفيل. أبولين دوفيل. بالأمس كل مصر كانت تبحث عنها، وهي عندنا، واليوم كل العالم. لقد جعلنا منها ضمير العالم المعذب، وهذا دون أدنى غيرة.
ولماذا لا تكون الدي جي إس إي هي التي اختطفت أبولين دوفيل؟ سيتم الأمر على أيدي أفراد مخابرات فيما بينهم. سنختطفك لأننا نريد الضغط على حكومتنا، فلا تتورط في ساحة التحرير. طيب، ولكن ليس جميلاً أن أترك لانج وحده، ستقول الكابتن دوفيل. لا تخشي عليه شيئًا، فرانك لانج، سيتدبر أمره. الملاك دومًا ما يتدبر أمره. نعم، نعم، سأتدبر أمري، همهم فرانك لانج لنفسه. سأنيك أمي، هل أنت راضية؟ أبولين دوفيل، هل أنت راضية عندما أنيك أمي من أجلك؟ هل أنت راضية؟ سأنيك أمي، أيتها الوغدة! وبعد ذلك لن أتشرف بالعمل معك، أنا ابن القوادة! سأنيك أمي على الرُّحب والسعة، وسأتحرر إلى الأبد منك. هل تريدينني أن أنيكها الآن؟ ولكن أينها هذه الأم القحبة؟ كل ما أفعله من أجلك، وتتركينني وحدي كي أنيك أمي. لقد سبق لي ونكتها هذه الأم القحبة، لما طلبت مني ذلك. كنا في الحي اللاتيني، وأردت تقبيلك على الرغم منك بعد أن أكلنا ساندويتشَ تونس احتفالاً بالثورة هناك، أردت أن أقبلك بدافع الحماس فقط لا غير، فرفضت، وقلت لي اذهب ونك أمك، فذهبت ونكتها تلك الأم القوادة. كان ذلك فقط لأرضيك، فهل أنت راضية الآن، أبولين دوفيل؟ اخرجي برب السماء من مخبئك، وتعالي في الحال، وإلا فأرسلي لي إشارة كالعادة، تلفوني المحمول الفرنسي معي، وأنا لم أستعمله في القاهرة مرة واحدة.
بدأ فرانك لانج ينكش شعره، وينبش ذاكرته بحثًا عن أبولين دوفيل، فلربما وجدها فيها. عَبَرَ النيل إلى الماضي القريب، ولم يجدها ككل الناس الذين أضاعوا شيئًا غاليًا على قلوبهم، ولم يجدوه. كان الظلام شديدًا، وفي الأزقة بعض القطط الحبلى التي لم تكن تتوقف عن المواء. كان الناس يرشقونها بالحجارة كي تتوقف عن المواء، ولم تكن لتتوقف عن المواء. أخذت الأناشيد العسكرية تملأ الدنيا، فلم تتوقف القطط عن المواء. لم يعرف الناس أن الحرب انتهت، ولما تبدأ بعد، فالقطط لم تتوقف عن المواء. كانت أبولين دوفيل تحب القطط، فلم تتوقف القطط عن المواء، ولم يعرف الناس أن الحرب انتهت، وأنهم خسروا الحرب. لم تكن القطط تتوقف عن المواء، وكانت حبلى، فرشقها الناس بالحجارة، وفجأة، توقفت القطط عن المواء، وامتلأت الأزقة بالهريرات. كانت كل الهريرات ميتة، فاحتار الناس. كان الموت ما بينهم، فرموا بالهريرات في النيل كي يبعدوا الموت عن أبوابهم، لكن حيرتهم لم تنته.
عبر فرانك لانج النيل إلى الماضي البعيد، ولم يجدها أبولين دوفيل. ظن في البداية أنه وقع عليها في دهاليز الأوبرا، ولكنه عرف خطأه لما رفع القناع عن وجه أسود كانت كل أوروبا تغني له. الوجه كان أسود، وكان أجمل وجه، إلا أنه لم يكن وجه أبولين دوفيل. كان الوجه الأسود وجه الخير، الثدي المصري المرضع، ثدي كلما أراد أن يفعل بالأفواه خيرًا عضته الأسنان، وعملت بالثدي شرًا. لهذا كان للوجع صوت يُسمع في مصر، وكل أوروبا كانت تطرب على سماع صوت الوجع. كانت أوبرا الوجع شيئًا آخر غير ما كتبه فيردي، كانت شيئًا آخر، كانت ضحكات أبولين دوفيل في الفراش لما يبدأ عناقها الأسطوري مع أوزوريس أخيها. بحث فرانك لانج عن أخيها ليجدها، فوجدها تبحث عن أخيها، لكن الجريمة وقعت في الأوبرا عندما قُتِل أوزوريس، وقُطِّع، قبل أن يُرمى في النيل، ثم ضاعت أبولين دوفيل من جديد.
عبر فرانك لانج النيل إلى بلد السماء، ولم يجدها أبولين دوفيل. كانت بلد السماء مليئة بالعاهرات، فلم يتردد رجل التحري الخاص عن الذهاب مع إحداهن. سألها عن شقراء باريس لو كانت تعرفها، فقالت إنها تعرفها. قالت إنها كانت هنا قبل أن يدخل الإيمان قلبها، فتحجبت، وغادرت بلد السماء إلى بلد الدماء. أخذت العاهرة تبكي، وتقول إن أبولين دوفيل البركة، وهي تذرف الدمع لأنها لم تستطع أن تكون مثلها. كانت مثلها أيام المماليك، وكانت مثلها أيام الحشاشين، وكانت مثلها أيام الفاطميين، وكانت مثلها أيام العباسيين، وكانت مثلها أيام الأمويين، وكانت مثلها أيام أوائل الفاتحين، ولكنها اليوم لم تستطع أن تكون مثلها. أعطاها فرانك لانج كثيرًا من النقود، وعاد من حيث جاء.

* * *

أخذت الحجارة تُرشق على النازلين في ساحة التحرير، بدأت متفرقة، وما لبثت أن تكاثرت، وغدت تهطل كالمطر. كان مصدرها العمارات المحيطة بالساحة، من شرفاتها ونوافذها وأسطحها. ثارت ثائرة الناس، فقاموا، وقعدوا، بعضهم راح يجمع الحجارة التي شجت رؤوسهم وأدمتهم، ويعيد رشقها على أصحابها، وبعضهم راح يحطم بلاط الساحة، ويجعل منه أكوامًا يختبئ خلفها أو يرمي بها المعتدين. لكن حجارة السماء ظلت تهطل على رؤوس "نزلاء" ساحة التحرير، وبعد مضي بعض الوقت، أطلق المعتدون الرصاص، فسقط البعض قتلى. كان الغضب قد وصل أقصاه، فانقض الناس على المعتدين، بعضهم اخترق العمارات من أبوابها، وبعضهم تسلق جدرانها. وفي الوقت ذاته، كان أحد الصبيان يبحث عن شيء يأكله في صندوق القمامة الذي كان فرانك لانج قد رمى المسدس فيه لما وقع عليه، فتناوله بأصابع تنعم بالسعادة بعد أن نسي جوع بطنه، وأخفاه في صدره بسرعة لئلا يراه أحد، ثم أخذ طريقه إلى ساحة التحرير، هناك حيث تمكن النزلاء من تحييد بعض المعتدين، وسوقهم إلى نقطة جمعوهم فيها بعد أن خلعوا ثيابهم، وتركوهم عرايا.
بدأ الميزان يرجح في صالح المنتفضين، فتدخل الجيش المحاصر للساحة ليل نهار. كان الصبي قد تسلل تحت نظر فرانك لانج الذي آثر الحياد كل تلك المدة، ولما جاءت عينه في عينه، قال له:
- أنت الذي لا يكل عن البحث عن أبولين دوفيل؟
- أنا هو، أكد رجل التحري الخاص.
- تعال معي أدلك عليها، عاد الصبي إلى القول.
وذهب إلى جموع المتعاركين مع الجيش، يشجع هذا، ويعين ذاك.
- متى رأيتها لآخر مرة؟ سأل فرانك لانج الولد.
- هذا الصباح، أجاب الصبي، وهو لا يتوقف عن تشجيع هذا وإعانة ذاك.
- أين؟
- هنا في ساحة التحرير.
جرح الجيش أحدهم في ساقه، فرفعه الصبي بين ذراعيه، وهتف بفرانك لانج:
- لا تقف كالأبله هكذا!
سارع الفرنسي إلى إعانة الجريح على الذهاب إلى نقطة فيها فتاة محجبة تسعف الجرحى، وما لبث أن جاءه غناء الصبي من ناحية المتاريس:

بهية
أنا لن أكون غير من أكون
من أجل عينيك

بهية
مصر اليوم في غاية الجنون
من أجل عينيك

بهية
ما يهم لو كان بيتي المنون
من أجل عينيك

أخرج الصبي المسدس من صدره، وراح يلوح به حاثًا المنتفضين على التقدم إلى الأمام، فاخترقته رصاصة. خف فرانك لانج إليه، فهمهم الصبي "أبولين دوفيل"، وهو يبتسم، ثم أغمض عينيه، وثقل رأسه.
تناول أحدهم المسدس، وراح يطلق الرصاص على الجيش على الناس وعلى الله، فأمسكوه، وأمسكوا كل من أراد تخليصه، راحوا يمسكون كل واحد يشكون فيه، وكل واحدة، أمسكوا علاء وجمال وغالي، وأمسكوا عشرات مثلهم، مئات، فكبرت دائرة العراة الملعونين، ولم يقبلوا احتجاج أحد. رآهم فرانك لانج، وهم يحطمون أغصان أشجار ساحة التحرير، ويجعلون منها محرقة ومن الكثير من الكتب التي لم يدر رجل التحري الخاص من أين جاءوا بها. يُحكم عليهم بالإعدام حرقًا، قال أحد الذين جعل من نفسه قاضيًا.
وبينما كان بعضهم يُشوى في جحيم ساحة التحرير، كان بعضهم الآخر يرقص طربًا على صراخ المعذبين، فقرعت الطبول، وعلت الحناجر بالغناء كي تطغى على أصوات الهالكين:

بهية
أنا لن أكون غير من أكون
من أجل عينيك

بهية
مصر اليوم في غاية الجنون
من أجل عينيك

بهية
ما يهم لو كان بيتي المنون
من أجل عينيك

كشفوا عن وجوههم الحقيقية، فبانت خطاياهم، لكنهم قالوا "لكل خطيئة غفران"، وكأنهم يقولون "لكل خطيئة أبولين دوفيل". أخذوا يتعانقون عناق الداخلين إلى الجحيم، ككل منحرفي الأخلاق، وكل واحد منهم يهدم في خياله قصرًا، ويسعى إلى هلاكه الأبدي.
جاء اللصوص، وجاء المجرمون، وجاء الحشاشون، وجاء الشعراء، وجاء الروائيون، وجاء الصحافيون، وجاء المعلمون، وجاء المحامون، وجاء الموظفون، وجاء القوادون، وجاء السياسيون، وجاء المتاجرون، وجاء كتاب النت، وجاء نقاد تحت الدرج، وجاء فلاسفة فك العتب، وجاء خطباء يوم الجمعة، وجاء خطباء يوم الأحد، وجاء خطباء يوم السبت، وجاء خطباء يوم القيامة، وجاء خطباء يوم الحساب، وجاء خطباء يوم الإباضة، وجاء خطباء يوم الأرض، وجاء خطباء يوم البيئة، وجاء خطباء يوم المومس، وجاء خطباء يوم الطفل، وجاء خطباء يوم الرذيلة، وجاء خطباء يوم الفضيلة، قالوا إنهم سمعوا عن الخطيئة في ساحة التحرير، لهذا هم جاءوا، وكأنهم يقولون إنهم سمعوا عن أبولين دوفيل. كانت أبولين دوفيل لبعضهم الكتاب الموحى به ولبعضهم الهرطقة، كانت الخير، وكانت الشر، كانت الخلاص، وكانت الضياع.

* * *

عزم فرانك لانج على مغادرة ساحة الملعونين، والعودة إلى باريس، لكن بشر الساحة راح يزداد، ويمنعه من تنفيذ ما عزم عليه. كانت الشمس تستعد للرحيل على زورقها، والناس يتواردون من كل دروب الجحيم. صاروا أكثر من مليون في جهنم، ولم يكونوا ليشعروا بالنار التي هم فيها. كانوا يهتفون، وهم يحملون أطفالهم على أكتافهم، وكانوا مغتبطين، وهم يحلمون بالحرية. لم تكن أبولين دوفيل معهم، كانت أبولين دوفيل فيهم. كانوا كلهم أبولين دوفيل، وهم لهذا كانوا لا يبحثون عنها، وقد وجدوها. لكنهم لم يكونوا كلهم مثلها. كانوا مثلها، وكانوا شيئًا آخر. لهذا كانوا يهتفون، ويهزجون. كانوا يحتفلون على طريقتهم بالحرية. كانت الحرية على مرمى حجر من شاشات هواتفهم المحمولة، وكانوا هم يهتفون، ويهزجون، ويتساءلون عن شكلها، فهم لا يعرفونها: الحرية. شكلها كالموت: الحرية. لهذا كانت الحرية جميلة. كالموت. كالقبلة المختطفة. كالعناق في النار. لهذا كانت الحرية جميلة. الحرية التي لم يعرفوها. لم يعرفوها أبدًا الحرية. في العصور الحديثة على الأقل. لم يعرفوها أبدًا الحرية. كانوا يهتفون، ويهزجون، ويتساءلون عن شكلها، فهم لم يسمعوا بها: الحرية. شكلها كأبولين دوفيل: الحرية. لهذا كانت الحرية ساحرة. كأبولين دوفيل. كشعرها الأشقر. كقدميها في النيل. لهذا كانت الحرية حلوة. الحرية التي لم يذوقوا طعمها. لم يذوقوا طعمها أبدًا. كانوا يهتفون، ويهزجون، ويحتارون، فماذا سيفعلون بها: الحرية. كانت تدق على أبوابهم، ويترددون: هل يفتحون لها أم يتركونها تذهب من حيث جاءت لئلا يزعجهم وجودها، فالحرية يزعج وجودها لمن لا حرية لهم. ماذا سيصنعون بها: الحرية؟ كيف سيصنعون بها: الحرية؟ رآهم فرانك لانج في عز صخبهم، وأشفق عليهم. قال: ضاعت إلى الأبد أبولين دوفيل. كان كل هذا الأمل الذي يطوقه من كل مكان كما يطوق الجيش ساحة التحرير يبعث في قلبه اليأس، وكان كل هذا التحرر من السلاسل والقيود في ساحة التحرير يعطيه انطباع العائم في بحر العبودية. تَخَرّأ الأمل، وغدا إبريقًا من النحاس في خان الخليلي، وكذلك التحرر تَخَرّأ، غدا عبّارة من عبّارات النيل. وصله صوت ناي من أقاصي الصعيد، وتراءت له حور مصر في خلاخيلها ودنادشها، حور مصر، آه! حور مصر، حور مصر التي من أجلها قام نابليون بحملته، وليس من أجل مسلات مصر، حور مصر، حور عواء الدنيا، حور مصر، حور مصر، يا أبولين دوفيل، حور مصر، الحور الذين هن في القرآن جئن، حور مصر، حور النعيم. بانت له ابتسامة متخرّئة، لكنها جميلة في تلك اللحظة من لحظات ساحة التحرير الحاسمة، ابتسامة متخرّئة، لم تكن غامضة، كانت بكل وضوح الخراء تحت قناديل الساحة المنتشرة هنا وهناك كنجوم آخر الأزمان. لماذا لست معي الآن يا أبولين دوفيل؟ همهم فرانك لانج، لتشهدي، فقط لتشهدي، فالوقت آخر الأوقات، لحظة لن تتكرر ثانية، لن يعيشها المرء مرتين، لحظة لن تُنسى، ستظل في الذاكرة ما بقي الخراء، لحظة مصرية، يا أبولين دوفيل، لهذا لن تُنسى، أبدية، كالأهرام، كأبي الهول، كأبي مِنجل. لماذا لست معي؟ الآن؟ لماذا لست معي الآن؟ هنا والآن؟ في ساحة التحرير؟ في ساحة الجحيم؟ في ساحة الخصوصية الخرائية؟ في ساحة العواء والعويل؟ في ساحة حاضر لا ماضي له ولا مستقبل؟ في ساحة الآن؟ في ساحة الزمن المعلق بين الأرض والسماء؟ إلى الأبد معلق؟ في ساحة الزمن الذي أنهى كل الأزمان؟ زمن متخرّئ! الآن؟ فقط الآن، ليس غير الآن، أما بعد ذلك، فالأمر سيان. الماضي؟ الحاضر؟ المستقبل؟ كل هذا ليس من شأننا، كل هذا من شأن ساسة الخراء.
فجأة، حط الصمت، صمت بقوة الصخب، صمت مزلزل للعقائد والنفوس، صمت مساوٍ بين المقدس والمدنس، صمت مهدم للأضرحة والقصور، وفي الصمت أصغى مئات آلاف المنتفضين، كان الإعلان عن سقوط الطاغية أشبه بفعل الطغيان، فعلاً جهنميًا، وكان سقوط الطاغية يعني سقوط شيء ما في نفس كل واحد، لهذا بدا البشر في ساحة التحرير دائخين، وهم يسمعون، مهمومين، متخرّئين، كما لو كانوا مصابين بإمساك في أحلامهم، كانوا مشغولين بذواتهم، فلم يصرخوا من الغبطة إلا بعد أن تأكدوا من أنهم بالفعل أحرار. أخذ فرانك لانج يصرخ معهم، كان لا يمكنه إلا الصراخ معهم، نسي أبولين دوفيل، وهو يجرفه كل هذا الموج، كل هذه العاصفة، كل هذا الزمهرير، كل هذا السُّعْر الجماعي، كل هذا الجماع التحرري، كل هذا القذف الرباني. ولأول مرة في حياته، عرف ما هي الغبطة بالمفهوم الديني، ما هو المقدس، الفوقي، اللازمني، اللاطبيعي. كان ذلك اكتشافه الذي لم يسبق معرفته لرجل التحري الخاص، لهذا أخذه الخوف بعد قليلٍ من الوقت، لئلا يفقد الغبطة. وشيئًا فشيئًا هدأ البشر، وتلاشى الهدير، كانوا ينظرون إلى أنفسهم ليروا كيفهم في زمن الحرية، ليعرفوا كيفهم الأحرار الذين هم في أثوابهم. بدا على وجوه بعضهم الخوف، وعلى وجوه بعضهم الآخر البطش: وجها الحرية للذين لا حرية لهم. ارتعدت فرائص البعض، فأخذ ينوح، وذهب البعض الآخر يبحث عن ضحاياه.



















القسم الخامس

في الصباح، لم يكن هناك سوى العشرات من الثوار في ساحة التحرير، هاجمهم الجيش بلا رحمة، وهدم خيمهم. طرد من تمكن من طرده، واعتقل من لم يتمكن من إبعاده. رأى فرانك لانج كيف راحت رشاشات البلدية تغسل بقايا الثورة، وحك لحيته الدَّرِنَة، كان عليه أن يغتسل هو أيضًا، وأن يغادر إلى باريس. وبينما هو يهم بترك الساحة الشهيرة، إذا بفلاح صعيدي ينبثق من أحد شوارعها الفرعية. كان ينظر حواليه، والخيبة تدمغ وجهه. وهو على مقربة من رجل التحري الخاص، رفع إصبعه، وأشار إلى صور الجنرالات التي تملأ اللوحات والجدران.
- هل هذه هي الثورة التي يتكلمون عنها؟ سأل الفلاح.
- كان عليك أن تكون هنا الليلة الماضية، همهم فرانك لانج.
- بسبب القطار، أوضح القروي، القطار لا يقوم أبدًا في الوقت الذي عليه أن يقوم فيه، يقوم القطار حسب مِزاجه.
- لأجل هذا، عاد فرانك لانج يهمهم.
- ولماذا يقتتلون هناك؟
- أين؟
- هناك، في ظلال الأهرامات. هل يريدون تقسيمها فيما بينهم؟
- الأهرامات لا تقسّم.
- الملتحون من ناحية واللا ملتحون من ناحية، ستندثر الأهرامات إذا ما قُسّمت.
- مصر من غير الأهرامات لا تساوي شيئًا.
- لكن الجيش سيحميها، سيقتل الطرفين، وسيحميها.
وبعد لحظة من الصمت.
- لم أكن أعلم أن أبولين دوفيل هي كل هذه الصور الجميلة، ألقى الصعيدي، وهو يبتسم حبورًا لصور الجنرالات، قبل أن يذهب، ويضيع في مركز الساحة الشاسعة.




























في نفس السلسلة

1) فرنك لانج وأبولين دوفيل و شيطان طرابلس
2) فرانك لانج وأبولين دوفيل و البحث عن أبولين دوفيل
3) فرانك لانج وأبولين دوفيل و زرافة دمشق
4) فرانك لانج وأبولين دوفيل و قصر رغدان
5) فرانك لانج وأبولين دوفيل و الصلاة السادسة
6) فرانك لانج وأبولين دوفيل و مدينة الشيطان
7) فرانك لانج وأبولين دوفيل و هنا العالم




























































أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011
33) تراجيديا النعامة 2011
34) ستوكهولم 2012
35) شيطان طرابلس 2012
36) زرافة دمشق 2012
37) البحث عن أبولين دوفيل 2012
38) قصر رغدان 2012

الأعمال المسرحية النثرية

39) مأساة الثريا 1976
40) سقوط جوبتر 1977
41) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

42) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
43) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
44) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
45) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
46) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
47) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
48) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
49) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

50) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
51) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
52) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
53) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
54) بنيوية خاضعة لنصوص أدبية 1985 – 1995
55) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
56) خطتي للسلام 2004
57) شعراء الانحطاط الجميل 2007 – 2008
58) نحو مؤتمر بال فلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم 2009
59) حوارات بالقوة أو بالفعل 2007 – 2010
60) الله وليس القرآن 2008 - 2012
61) نافذة على الحدث 2008 - 2012


[email protected]































البحث عن أبولين دوفيل رواية الثورة المصرية، تبدأ وقائعها في باريس، وتنتهي في ساحة التحرير. أبولين دوفيل، شخصية أفنان القاسم التيمية، تعود هنا بعد رواية "شيطان طرابلس"، هي وفرانك لانج، شخصية تيمية ثانية لأفنان القاسم في سلسلته السوداء، لتلعب دورًا جديدًا بوصفها ضابطة في الدي جي إس إي، المخابرات الخارجية الفرنسية، إلى جانب رجل التحري الخاص، فنكتشف وجهًا آخر من وجوهها العديدة، وفي مصر تتحول إلى رمز عديد الصفات، وتغدو محورًا لحبكة خالية من الهذر في الكلام وفريدة.

كيف يعرض أفنان القاسم للثورة المصرية؟

لماذا الثورة المصرية الآن؟

من هم الذين من ورائها؟

ما هي نتائجها على المصريين؟

كيف يتحول ناسها من خلال السرد إلى عناصر تؤثر في أحداث تتجاوز "مصرية" هؤلاء الناس، أحداث الكون، وتطرح أسئلة وجودية؟







* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نافذة على الحدث الأعمال الكاملة
- حوارات بالقوة أو بالفعل
- دمشق كروما فاشية فأينهم مقاتلو الظل؟
- الله وليس القرآن الأعمال الكاملة
- الجنس والله
- الكون لم يخلقه الله
- الإسلام دراسة أعراضية
- فولتير والمثقفون العرب
- ردًا على سامي أبي الذيب الله وليس القرآن
- شعراء الانحطاط الجميل
- البؤساء فكتور هيغو الجزء الأول
- شيطان طرابلس
- ستوكهولم
- تراجيديا النعامة
- الشيخ والحاسوب
- وصول غودو
- مؤتمر بال الفلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم في كتاب
- أمين القاسم الأيام الفلسطينية
- خطتي للسلام الاتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين
- البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - البحث عن أبولين دوفيل رواية الثورة المصرية