أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الله وليس القرآن الأعمال الكاملة















المزيد.....



الله وليس القرآن الأعمال الكاملة


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3762 - 2012 / 6 / 18 - 12:08
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة



الدراسات (9)



د. أفنان القاسم



الله وليس القرآن



مقالات أدبية




إلى سعدي يوسف




ملاحظات سريعة حول رواية لا تقرأ بسرعة

روايتي "أربعون يومًا بانتظار الرئيس"، رواية السقوط الفلسطيني، الصادرة في طبعتها الأولى بالجزائر عام 1992، ثم في طبعاتها العديدة في عمان والوطن المحتل، المحتل دومًا، مليون نسخة بيعت منها، كنت قد قدمت لها بكلمة عنوانها "إلى الأديب العربي الخاضع للموج"، أقول فيها: "إذا لم يكن باستطاعتك أن تلعن الوثن العربي، أن تحطم كل شيء في مرآتك، وأن تكون من المنبوذين الخلاقين، فعليك أن تصمت، وأن يكون صمتك إلى الأبد، فلسنا بحاجة إليك ولا إلى أدبك! نريد أديبًا جديدًا في زمن جعلوه أقدم الأزمان وأحطها بأمرنا وأولي أمرنا! هذا أمر القارئ الجديد عليك وأمر أمورنا! انتهى عهد أولئك الذين يتلاعبون بالكلام، ويلعبون على كل الحبال، باسم التقدمية والديمقراطية والاعتدال أو عرض بنات الخيال! أتى عهد تدمير التدمير ونسف النسف وإعادة النظر في كل شيء، فإما أن تكون الكتابة هكذا أو لا تكون!" وكان مني أن انتظرت خمسة عشر عامًا دون أن أقع على عمل أدبي واحد يكون جوابًا على ما قلت إلى أن قرأت مؤخرًا رواية "تحت سماء الكلاب" للكاتب العراقي الفذ صلاح صلاح.

إنها رواية بركانية، خارجة عن المألوف، كنت أود القول "خارجة عن القانون" بكل ما تحمل هذه العبارة من معنى التمرد والتفرد والاستثناء، تسير في الخط ذاته الذي رسمت لأدب الغد، تاركة من ورائها في المزابل كل روايات الصمت العربي والتجهيل والتطبيل والتعتيم وأول ذي بدء التدمير، ودفن شعوب حية بأكملها في قبور خيالية تعجز كل تلك الأقلام "النجومية" عن وصفها لأنها ضالعة في كتابة سيناريو الموت الرهيب لحسابات شخصية وانفصام الشخصية وأمراض نفسية مزمنة سنعرض لها في سلسلة من "الرؤى" في حلقات قادمة.

لنبدأ ملاحظاتنا السريعة هذه بالعبارة المزلزلة: "هكذا كان منذ أيام بغداد" ص85. كم هذه العبارة ملأى بالنوستالجيا! بغداد! أيام بغداد! أيام بغداد هنا لا تعني أنها كانت سعيدة بل بعيدة، جد بعيدة، بغداد الغارقة في الضباب، من غير ملامح ولا أبعاد، فتصبح لكل واحد "بغداده"، إنها الغربة في أقصى درجاتها. كل شيء في الرواية يصل بك إلى أقصى الدرجات، أقصى درجات الهول، أقصى درجات اليأس، أقصى درجات الأمل، أقصى درجات المجانية، الضياع، اللاجدوى، العبثية، التشيؤ، التخشب، التشقق، التشظي، التعصب، العدم، أقصى درجات الهمجية، أقصى درجات الاشمئزاز، أقصى درجات التقزز، أقصى درجات الخيانة، أقصى درجات العهر، التعهر، نهايات الأمم، أقصى درجات الحب، الحب القلبي والحب الأبوي، أقصى درجات الرعب الأبوي، أقصى درجات الانهيار الأبوي، الانهيار، فقط الانهيار، الانهيار بكل بساطة، والموت الذي ينظر إليك، ينتظرك، الذي تشم رائحته في الورد، في شمس الصباح، في القر، في القيظ، في "بحيرات القتل والدم" ص180، رائحة الموت تأتي من كل شيء، تطغى على كل شيء، حتى على الكلمات، رائحة الموت تأتيك من الكلمات!

أول مرة يحفزك الأسلوب "المباشر" على القراءة!

أول مرة تدفعك رواية سياسية إلى معرفة المزيد ولا يشكل "التفسير" السياسي صدمة لك!

لا يمكنك أن تقرأ هذه الرواية كما لو كنت تقرأ بلزاك مثلاً، أن تنط عن الوصف إلى "الآكشن" أو إن شئت سير الأحداث، عليك هنا أن تقرأ كل كلمة، كل جملة، كل سطر. هناك اهتمام كبير (عفوي تبعًا لتجربة الكاتب الكابوسية) بالكلمات أكثر من المعاني: كل كلمة عبارة عن حكاية أو موضوع لحكاية، كل جملة عبارة عن فاجعة مستقلة، قائمة بذاتها. لا معنى هناك إذن من خلال حدث تطوري على الطريقة الكلاسيكية، لكن الكاتب يشدك من خلال هاجس الخروج من جحيمه، هذا الهاجس لهو العنصر البنيوي الأساسي الرابط للنص من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة، المهيمن فيه، عليه، عليك!

لهول تجربة الكاتب ( الرواية سيرة ذاتية)، هذه الرواية تحل محل التاريخ: مرحلة صدام "الكردية"، وتجعل منه وثيقة لا أساس لها من الصحة، كأي وثيقة مزورة في أجهزة المخابرات، يعجز فيها عن التحقق، لأن كل الهول في هذه الرواية، الهول وروائية الرواية واحد، انه الشيء الوحيد الملموس، الباقي، والمتفجر في سعيه الدائب إلى ما وراء النص، انه التاريخ حيًا، الواقع الاستثنائي المجروف بالانزياحات النفسية، الإيحاءات الطبيعية التي تطرق بعنف أبواب الفلسفة، التوجسات الإنسانية، الكونية، التي هي اختصار للكون، الإيمان أو عدمه، الوجود، ولا وجود أبدًا في هذه الرواية لراحة الضمير أو طمأنينة النفس (آتاراكسي)، للامبالاة الإنسان "الكامل" الذي لا يخاف، ولا يرجو، ولا يأسف، ولا يندم، الإنسان هنا يولد غريبًا، أعزل، وحيدًا، دون أبوين، إن سقط وإن سما يظل "ناقصًا"، يبقى إنسانًا‍!

وعلى العكس، هناك لامبالاة القتلة الآتين من كل حدب وصوب، وتحجر قلوبهم بعد أن فقدوا إنسانيتهم، وصاروا طوع غرائزهم الحيوانية، القتلة من الأكراد على الخصوص، جشع رؤسائهم، عمالتهم، بيعهم لكل شيء، للعرض والأرض، لكل شيء، ولمن يريد، لكل أجهزة المخابرات التي في مقدمتها الموساد، ولكل من يدفع، أكثر أو أقل هذا لا يهم، المهم أن تدفع، ادفع أكون لك عبدًا بل حذاء. لامبالاة الكردي البسيط أيضًا، الذي شوهه رؤساؤه، وصاغوه على صورهم، فقعد خانعًا خاضعًا، وصار أداة. عندما استقبل الأكراد أطفالاً ونساء ورجالاً الجيش الأمريكي برفع أعلامه وإلقاء الأرز على دباباته التي داست جسد العراق، كنت أستغرب، وكلي يرتعش غضبًا، كيف أمكن أن يكون شعب بأكمله عميلاً! إنه انطباع لحظته، إذ يظل الأكراد شعبًا نفخر به. الرواية تلقي الضوء على هذه الناحية الكارثية من تصرفات شعب عندما حللت أوضاعه عبر التاريخ، وكيف صارت هذه الناحية جزءًا من بسيكولوجية تنوء بالواقع المر الذي عانى الأكراد منه كأمة مضيعة ومغرر بها ومفرقة تمامًا كالفلسطينيين.

المعجم اللغوي عجيب، مليء بالتعارض الدلالي أو التبديل الوصفي أو انقلاب المعاني، معجم الفاجعة، ينهل حقل الدلالات منه، وبه جسد النص يتنفس. الاستعارة تتجاوز البطولة، الاستعارة منطوقة، مجبولة بالدم، غريبة، نوعية، جديدة، "تغرق في تأويلات المتاهة" ص 315، كل النص يتحول في الأخير إلى استعارة للموت والهول والأمل المسفوح، استعارة حية على الرغم من سيمائية كل الموت، وخطاب ينتفض كعضلة مطعونة، كقلب مفتوح!

هذه الرواية لا يمكن قراءتها بسرعة كغيرها من الروايات، لأنها تقبض عليك من خناقك، وتشد...



ثلاث أميرات في مملكة الكلمة

1- ابتسامة في المنفى


فرانسواز كيستمان في "شهاداتها عن جنوب لبنان"، سعاد العامري في يومياتها "كابوتشينو في رام الله"، وهيام بسيسو في وقائعها الفلسطينية "ابتسامة في المنفى"، ثلاث أميرات في مملكة الكتابة الأوتوبيوغرافية، يجمعهن هذا النوع من السرد الصميمي كما يجمعهن الموضوع الفلسطيني في فضاءات متعددة: في الشتات، في غزة، في رام الله، لتبرز عند ثلاثتهن أكثر ما تبرز سلطة المكان، وفي الأدب النسائي ما أدعوه بسلطة الجسد.


في هذه المقاربة النقدية السريعة التي سأبدأها بكتاب هيام بسيسو، سألاحق الفعل السردي من وجهة دلالة هذا الفعل في سير الأحداث، وأكشف عن حركة هذه الدلالة بوصفها تأويلاً للواقع، وذلك على مستويين أساسيين لزمن السرد: زمن الطفولة وزمن البلوغ. وأقول حالاً لم تعط الطفولة لغتها، في الوحدة الكبرى الأولى للنظام الدلالي، ولم يعط البلوغ لغته، في الوحدة الكبرى الثانية، وإنما اللغة هي التي وصفت سن الطفولة، ورسمت سن البلوغ، كما جاءتا في السياق السردي.


إذن للفعل دلالة، وللدلالة لغة.


في أولى الوقائع "شارع"، نحن في سن البلوغ، يبحث الفعل السردي عن مخرج من هذه السن يعيدها إلى طفولتها في غزة، فيراوغ عن طريق تراكب شارعين، الشارع الباريسي والشارع الذي كانت الفاعلة/الكاتبة تأخذه للذهاب إلى مدرستها، وهي طفلة صغيرة في غزة. الدلالة هنا شديدة الوضوح: أمام العجز عن العودة إلى غزة بوصفي امرأة وبشكل فعلي، أعود إليها بوصفي طفلة وبشكل خيالي. حتى أن اللغة الواصفة للفعل هي لغة واحدة وإن جرت على لسانين: لغة العجوز التي تشد الكاتبة/الفاعلة إلى الواقع، وهي لغة تأكيدية عدائية، ولغة الكاتبة التي تلجأ إلى نفس اللغة، اللغة العدائية والتأكيدية، من أجل الولوج في عالم غير حقيقي، عالم انتهى.

تصر الفاعلة على موقفها في الواقعة الثانية "البديل"، نحن في غزة، ولكن لم تنته المراوغة بعد، والفعل هناك لا يحرر من عبء المنفى وعبء الزمن: استحالة حضور الفاعلة الفعلي في مدينتها المحتلة واستحالة عودتها إلى طفولة انتهت دون رجعة. لا تراوغ فقط بل تناور أيضًا: نعرف أنها بديل أخت لها اسمها هيام، اختُطفت دون أن تترك أدنى أثر من ورائها، لتعيدنا إلى التراكب بين شخصيتين، ومن قبل بين شارعين، ولكن اللغة هنا تلين، وتطرى، لغة تنطق بها أُمها –وكل أُم- فالأم لغة، واللغة هنا من كبيرة إلى صغيرة، عن فقدان الأمل في الوقوع على الأخت، عن لاجئي 48، عن كونها ابنة غزة الأصلية... الخ. إنها لغة تمهد السبيل للدخول إلى عالم الطفولة من بابها العريض، دلالة على انتصار عالم الوهم. زد على ذلك، أحد أسماء الطفلة التي غدتها الفاعلة "انتصار" ص 19، تراكب آخر، معنوي هذه المرة.

في "لونين" الواقعة الثالثة، نحن في صميم الطفولة، إذ نقرأ أول ما نقرأ: " كنت طفلة شديدة التعلق بأمي..." ص 21. يضعنا الفعل هنا في علاقة أولية ولكن هامة لتفسير سلطة الجسد بين لون البحر ولون جسد الأم، جسد الياسمين، "كانت أمي كشجرة الياسمين في حديقتنا" ص 21، رائحة الأم ورائحة الياسمين ص 22.

لغة الفعل في "شجرة التوت" عن شجرة التوت ولكن على الخصوص عن "ماما"، كلمة "ماما" التي تلخص كل عالم الطفولة شيء آخر غير "أمي"، لغة بسيطة عن بساطة البراءة وبراءة البساطة: الولاعة تغدو شيئًا نادرًا في عين الطفلة ص 24، استقبال المرأة التركية شخصية آتية من حكايات الجنيات ص 24، أخواها البنت والولد التوأمان ص 24... الوردة الحمراء ص 26، وخاصة شجرة التوت ص 25 التي يحبها الأطفال "حبًا جنونيًا" ص 25.

في واقعة "زيارة العم" ص 29 يتمحور الفعل في المكان: غرفة الضيوف، صالون الجنينة، الأرض عبر شجرة العليق، وفلسطين القريبة البعيدة، فلسطين التي سقطت بأيدي الأعداء على اعتبار أن غزة الغير المحتلة في زمن السرد "ليست فلسطين"، فلسطين تلك، البعيدة، مثل السعودية البعيدة حيث ذهب الأب للعمل من أجل الأولاد: دلالات غياب الأب عميقة تصب في صلب بنية سلطة الجسد.

ابتداء من واقعة "الحرب تعود مرة أخرى"، يتمحور الفعل في ذكريات الطفولة عن هذه الحرب: الأسرار والأشجار ص 35، تريد أن تأخذ الشجر بين ذراعيها لتحميها من الحرب ص 36، تفتح الأم الشبابيك بدل أن تغلقها ص 36... الحرب تحوّل الأطفال إلى بالغين: كلمة "ماما" تختفي لتحل محلها كلمة "أمي" ص 44، لكن الفعل السردي يقاوم، لا يريد إفلات الطفولة من بين يديه، فيأتينا بشخصية هامة مساعدة، شخصية محورية لإنقاذ الطفولة من شبح الحرب: عدنان. عدنان هو فاعل ذو أفعال ذات جملة من الدلالات والعلامات: صديق الشمس والشجر ص 46، صديق العصافير والألوان ص 46، صديق الفراشات وبيض الطيور ص 48 و 49... مرفوض من طرف الكبار ص 47. عالمان متعارضان، الفعل يرجح في صالح العالم الأول، عالم المزرعة السحرية والأسئلة المحيرة ص 55... حتى ينقلنا الفعل بعنف إلى الحرب الأهلية في بيروت وتل الزعتر ص 55 و 56، في صميم الوحدة السردية الكبرى الثانية، كما لو كانت لغة الكبار هي التي انتصرت على لغة الصغار، كما لو كان عالم عدنان لا ينتمي، لم ينتم أبدًا إلى الواقع. حتى الزعتر في عالم الكبار، عالم الحرب، ليس جميلاً على الرغم من كل محاولات اللغة في تقديمه عَطِراً ولذيذ الطعم!

اللغة سياسية ص 60 و 61، والمقاطع الخاصة بمقهى أبو علي لم تخضع للأدبية الني عادة ما تخفف من حدة السياسة وتجعلها محتملة. اللغة بشعة! لغة بيروت 1982 أبشع! ص 62. مصرع رامي كمقاوم، هذا الفعل السامي، يخفف قليلاً من مأزق الخطاب، لكنه لا يلبث أن ينتهي كسٍرّ من الأسرار يصعب التكهن به: "أتساءل ما يمكن أن تقول هذه الأم لولدها رامي وقد اجتاز عتبة قبره؟ في تلك اللحظات لكلٍّ سِرّه وكلماته لا تعود إلا عليه." ص 66


من فاعل إلى آخر

مقابل عدنان كفاعل متعدد الأفعال والدلالات في عالم الطفولة، لدينا الآن رشاد، ابن العم في عالم البلوغ، بالمزايا السردية ذاتها: ثري من أثرياء فلسطينيي الكويت، الدلالة هنا هامة جدًا، هذه الشخصية تحيّد الصورة الأخرى للفلسطيني في الغرب، وتلغي مفهوم البؤسية "misérabilisme": الفلسطينيون ليسوا كلهم مقطّعين مشحّرين! ومع رشاد (تحبه البنت أو هكذا تتوهم فهي عندما تكبر تهرب منه إلى الجزائر) تأخذ مسألية الجسد منحى أساسيًا في الفعل السردي: "بكيت في سريري، عجنت كل جسدي ليكبر، على صدري لم أجد سوى برعمين! كرهت نفسي لأني كنت صغيرة" ص 70. هذا العجز أمام الجسد سيتتبعه الفعل السردي أينما حلت صاحبة الفعل، وبعد سن البلوغ، في بيروت وفي باريس وفي كل مكان تكون للرجل فيه مساحة مهما كانت ضئيلة، لتُطرح مسألة العفة: أينما كان هناك موعد مع رجل غالبًا ما يرافق الفاعل الأساسي فاعل ثانوي ليكون شاهدًا على عدم المساس بالجسد والحفاظ على طُهره.

لا أريد أن أتوقف على سياسية الخطاب في صفحات حرب 67 وما تلاها ولا على ما جاء عن " المناضل الفلسطيني الكبير" ص 77 أبو حسن سلامة، لا ولا على الإيديولوجيا نقيض الإيديولوجيا الأخرى "السنة القادمة في القدس"، لأن دلالات تفخيم "النضال" و "المناضلة المسكينة" و "النضالية"، على الأقل من لحظتنا الآن، تبدو كاريكاتورية جدًا بعد أن أُفرغ النضال في الوقت الحاضر من معناه كما أُفرغت الحرية من معناها، والوطنية، والأخوة، والصداقة، والسلام، إنها اليوم كلمات جوفاء لأفعال لم يعد لها شكل، لقد أُفرغت هذه الأفعال من معانيها، ولم يبق سوى شكل المعنى الذي لها، أي أنها غدت شكلية... شكلة تتزين الفاعلة/الكاتبة بها، شكلة من ورق! فكان التشدق بالنضال كالتشدق بالعفة: "متزوجة من القضية الفلسطينية" ص 83، مستويين للسرد هما في واقعهما واحد: الهرب بالجسد بعيدًا عما يوجب: الحب! نهاية رشاد التراجيدية في بلغاريا من أجل الحب يجد لها الفعل السردي سببًا آخر "نضاليًا": "لأنهم منعوك من رؤية بحر غزة." ص 90 وكذلك تبدو النضالية من لحظة الطفولة وكأنها لا تمت إليها بصلة، مما يشكل صدمة للقارئ الغربي. زمن بيروت وحدثها كانا صدمة حتى للقارئ العربي الذي لا يبحث عن تاريخ وقائع وإنما عن وقائع شخصية لكبار ببساطة الصغار، عن حكايات نادرة، مما أدى إلى "الزيحان" المشهور في الفلسفة البنيوية بين السرد وموضوع السرد لا كما حصل مع حدث غزة في زمن الطفولة، فبقينا مع ذكر الواقعة دون الدخول في أعماقها.


لم تكن هيام في كتابها الصغير مضطرة إلى عرض كل تاريخ فلسطين تحت ذريعة "إفهام القارئ الغربي"، فهناك قارئ غربي فاهم وآخر غير فاهم سيصدمه السرد التاريخي، سرد في غير مكانه هنا بل في كتب أخرى مختصة بالقضية الفلسطينية.


وحدات سردية صغرى: سلطة الجسد

ابتداء من "حمامة ذبيحة" ص 67 لدينا سبع عشرة واقعة قصيرة جميلة لو اكتفى النص بها أو لو جرى تطويرها أو إضافة أخرى عليها لكانت أكثر إفحامًا بالنسبة للقارئ الغربي (والعربي) من كل النضالية المدّعاة. هذه الوقائع، هذه الوحدات السردية الثانوية، والتي تمثل في مجموعها الوحدة الأساسية الكبرى الخاصة بسن البلوغ تحتاج إلى قراءة مفصلة على جميع مستويات النظام الدلالي كما يرتأي غريماس، ولكني سأكتفي في هذه الوقفة السريعة بتوليد دلالة سلطة الجسد، أي بمستوى واحد فقط، وبنسق واحد فقط من أنساق الخطاب.

"رأيت نظرة حليم تسقط على ساقيّ، وبحركة عفوية، سحبت تنورتي لأغطيهما." ص 137

هذه هي الصورة الوحيدة لفعل يحمل دلالة جنسية "دالة"، بمعنى دون مراوغة لغوية. لكن ليس هذا ما أود عرضه فيما يخص سلطة الجسد، كما أنني لا أرمي إلى تحليل عقدة الخصاء عند فرويد، من خلال علاقات الفاعلة/الكاتبة بالأم وبفلسطين الأم وبالأنا، فلهذا دراسة خاصة.

سلطة الجسد إذن في الكتابة ليست الكلام عن الجسد وإنما كيف يُقَدَّم الكلام بوصفه جسدًا؟ كيف يجري توصيف فعل الفاعل، وبالتالي عالمه كجسد؟ كيف تتشكل الدلالات فيه كفستان تغطيه أو تكشف عنه؟ وغالبًا ما تغطيه كما رأينا في المقطع السابق.


نقرأ صفحة 90 "فلسطيني" (فلسطين تاعي)، وكأننا نقرأ جسدي، وصفحة 157 "لماذا تتألمين يا هيام، ما أنت إلا فلسطينية، أنت لست فلسطين"، هنا التماهي الجسدي مطلق، وعلى أساس هذا التماهي تتم كتابة النص من أوله إلى آخره: الشارع وكأنه ساق للفاعل، الشجر أسراره وأحاجيه، بيروت أساوره النحاسية، باريس ذراعاه في جبس (بسبب حادث)، ولكن، خاصةً، البيت، البيت هو كل الجسد: في واقعة "هذه غرفتي"، تموت الفاعلة/الكاتبة من الغيرة لأن صديقة فرنسية لها نامت في غرفتها الغزاوية بينا هي ملقاة في غرفة باريسية نائية. وهي لا تقول عنها غرفة، ولكن "اثنان وعشرون مترًا مربعًا" ص 144 وكأنها حدود الرحم، وقد انطبق الرحم على العالم، وتطابق أحدهما مع الآخر. وفي "باب مغلق باب مفتوح" ص 125، يتحول التأكد من إغلاق الباب إلى رُهاب، وغير صحيح التبرير الذي تسوقه، تريد أن تغلق جيدًا على أشيائها عالمها جسدها، وها هي في "مطلوب" ص 153 تسكن في غرفة أشبه بالكراج تريد أن تنقل السماء والشجر إليها: "شجرة لجسدي! شجرة لوجهي! شجرة لعينيّ!" ص 155 وبكلام آخر، كل شيء لجوّه... البرّه لجوّه والجوّه لجوّه! عالم الجوّه هو عالم الجسد الذي لا يعرف إلا الجوّه، وهو الغير المشغول بالبرّه! فلسطين-الجسد على أكمل صورة! لا يهم ما يجري في العالم، فالعالم فلسطين، فلسطين تلخص العالم، وهذا شيء جميل لو... لم يكن الكلام عنها يجري بشكل أحادي، ولو لم تكن الناحية الفلسطينية الناحية الشخصية فقط، الخاصة، الناحية المغلقة على الأنا، على الجسد!

البداية الحقيقية للكتاب تبدأ بالطفولة، والنهاية الحقيقية تنتهي بالطفولة، وكأنه جسد يفتح ذراعيه مستقبلاً مودعًا! نبدأ بفعل الطفولة مع كل دلالات البراءة والبساطة، وننتهي بالفعل نفسه، على عكس فعل البلوغ ووقائعه، وقائع من عين الكمال، من عين من هو في نظره "كامل"، فأين جنون التجربة؟ وأين الجنون؟



Hiyam Bseiso : Un sourire en exil, chroniques palestiniennes. Ed. Golias, Paris 2004.




ثلاث أميرات في مملكة الكلمة

2. شهادات عن جنوب لبنان

ولدت الشهيدة فرانسواز كيستمان في مدينة نيس على الشاطئ اللازوردي عام 1950 من عائلة عمالية تعرف كيف تربط شروق الشمس على العالم بدموع الأشقياء وابتساماتهم أينما كانوا وأيًا كانت قضاياهم، بدأت نشاطاتها السياسية والعلمية مع أحداث 68 الطلابية في فرنسا، في بلدها أولاً ضد العنصرية والصهيونية ثم في لبنان إلى جانب بسطاء الجنوب والمخيمات، لتموت مع حبيبها الفدائي الفلسطيني في عملية ضد الجيش الإسرائيلي. كتابها "شهادات عن جنوب لبنان"هو المذكرات الخواطر الهواجس آيات الشعر ودرر النثر التي تركتها بعد استشهادها، صفحات مكتوبة بالدم، بكل العطاء وكل الاندفاع، بكل النبل وكل البذل، بذل الذات في الأخير عندما لم تجد شيئًا آخر تعطيه. لن أحلل ما كَتَبَت، فكل كلمة كتبتها فرانسواز كالضوء في العتمة لا تحتاج إلى ناقد يكشف عن أسرارها وينير فحواها، كل كلمة لديها، كل جملة، كل صورة، كل استعارة، كل بسمة، كل آهة، تعكس وعيًا وتعبر عن ضرورة، وعيها "بأشيائنا"، وضرورة قولها وتسجيلها ليس كشهادة فقط وإنما كتأريخ وكتدوين وكرسم بالحبر الصيني لحدث انتهى من أجل أحداث أخرى لم تنته بعد.

الفصل قبل الأخير

بيروت، أيار/ماي 1981


محمود،
ساقاك يكبران إلى أن يصلا السماء، في فلسطين، وهاتان الشجرتان،
بجذورهما، في ظليهما قد حررتا الأرض.

وأنت، أنت متحد بفلسطين
ومتحدة فلسطين بك.

ساقاك شمسان
تدوران حول فلسطين
وتُبدل فلسطين لونها
عندما تشرق شمساها أو تغربان.

محمود، ستخطو في فلسطين، لسوف تخطو فيها،
وستشم تحت خطوتك رائحة الأرض،
ألف رائحة شتى... من الصيف إلى الربيع.

ولأنك تغار
ولأن عينيك تفتحان العالم
ولأن العالم في بسمتك،
في نظرتك،
في قوة الحياة التي لك،
ستفتح باب فلسطين الحرة
أنت بنفسك، ستحطم المفاتيح.

وعندما تمد يدك،
سينبثق القمح،
وستكبر أشجار الزيتون.

لأنك القوة والحياة
وفلسطين.



الفصل الأخير


بيروت، أيار/ماي 1981

هو وُلد في السنة التي وُلدت فيها الدولة الصهيونية.
وُلد فلسطينيًا.أنت ترى أنهم أقاموا دولة إسرائيل في 14 أيار/ماي، وفي ذلك اليوم قرروا أن لا توجد فلسطين أبدًا.
ولكنه هو، من فلسطين، إخوته وأخواته، أولاده فلسطينيون.
أبواه فلسطينيان.
وعندما وُلد، شهرين بعد الدولة الصهيونية، وُلد فلسطينيًا.

والآن؟
يقول "أتذكر كل شوارع وبيوت أصدقائي" ووجهه سارح.
يقول "سنعيد بناء فلسطين من ذاكرتنا" ووجهه فَرِح.
يقول "في فلسطين، لن يكون لدينا أبدًا أطباء أكثر من اللازم، فهم سيساعدون الدول العربية الأخرى". ووجهه باسم.
يقول "أنا فلسطيني، وأنا ملك" ووجهه مزهوّ. ويضحك.
يقول "المرة الأولى التي تفقد فيها صديقا، تبكي.
وتذهب. المرة الثانية التي تفقد فيها صديقا، تبكي. وتذهب.
المرة الثالثة، العاشرة، الشيء نفسه. بعد ذلك، عندما تفقد صديقا، ترمي بعض التراب على قبره، وتمضي."
ووجهه عندئذ منغلق.
بعيد.



ترجمة أفنان القاسم
Françoise Kestemen
Témoignages sur le Liban-Sud
صادر عن دائرة الإعلام الموحد
بيروت 1982


07.07.2008




ثلاث أميرات في مملكة الكلمة

3- كابوتشينو في رام الله

تستمتع بقراءة "كابوتشينو في رام الله" للدكتورة المهندسة سعاد العامري كما تستمتع باحتساء فنجان كبير من الكابوتشينو على الفرنده! لسردها الفكه لمواضيع جادة خلال حصار "المقاطعة" من طرف الجيش الإسرائيلي عامي 2001 و0220 ولفهمها للفاجع من زاوية الساخر والعكس بالعكس، وكأننا بالكاتبة في يومياتها لا تجد طريقة أخرى أفضل تعينها على قطع وقتها العصيب واحتمال ما لا يحتمل. مفارقات الكتاب كثيرة، وكذلك لحظاته المتوترة الكاشفة عن روح عامة لرام الله وسكان الله، لا أريد أن أضخم الأمور بدعوتها روح المقاومة، لأنها روح أقرب إلى الكيفية التي يقطع المرء فيها الوقت، فيمتزج اللامعقول باللامقبول، ونخرج بلوحة للعبث الفلسطيني في أتم معانيه، ولن يتوقف الأمر مع الساردة عند أحداث حصار ياسر عرفات وأثر ذلك عليها وعلى أفراد أسرتها كأبطال ميتاواقعيين لزمن ميتاواقعي بل يتعداه إلى حصار كل فلسطين وأثر ذلك على كل الشعب الفلسطيني منذ فاجعته الكبرى –وددت القول منذ ملهاته الكبرى مصطلح من روح النص- عندما تعود إلى يافا مدينتها، ولا تجرؤ على وضع قدمها في بيتها خوفًا من ألا تجد ظلالها أو ربما بسبب تلك الظلال التي سترفض حتمًا تركها لها في الظلام بعد كل ذلك الغياب. كيف يمكنها البقاء إذن وظلال الغرباء في كل مكان؟

مقتطفات من الكتاب الذي صدر بالعربية تحت عنوان "شارون وحماتي"
"السابعة والنصف صباحاً من يوم العاشر من ابريل عام 2002. للأسف لن نحضر معنا شتلة الزهور التي أهديتني إياها في عيد الفصح, هذا كان أول ما قالته لي حماتي عند استيقاظي صباحًا".
"لا تقلقي يا أم سليم، فقد كانت أيدينا مليئة بأمور أهم".
"ستموت النبتة، خسارة" قالت أم سليم.
تمتمت بصوت منخفض "يا أم سليم، الناس يموتون في جنين ونابلس".
كنت استمع إلى إذاعة بي بي سي التي أوردت خبرًا عن طلب تقدم به كوفي عنان لإرسال قوة دولية للأراضي الفلسطينية.
"لا أجد السكر" قالت أم سليم.
خرجت من الفراش وأعطيتها كيسين من السكر.
"هل هناك ما يكفينا؟" سألتني "ماذا لو لم يرفعوا منع التجول؟"
"يا أم سليم، استعملي ما شئت ولا تقلقي".
"قرر كولين باول أن لا يقابل ياسر عرفات اليوم" قالت إذاعة بي بي سي.
"لم أتناول إفطاري بعد" قالت أم سليم.
"حسنًا سأحضر لك الإفطار".
"لكن الآن، يجب أن أتناول إفطاري في السعاة الثامنة تمامًا".
أحضرت لها الإفطار عند السرير.
"ألا يوجد لديك طبق أكبر للبيض؟" سألتني.
أحضرت لها عدة أطباق بأحجام مختلفة لتختار".


صدر بالفرنسية تحت عنوان "كابوتشينو في رام الله" عن دار ستوك باريس 2004




صراع العمالقة والأقزام


عندما طلع علينا البنيويون بمقولتهم التي تقول إن كل كاتب عبارة عن "بنية فكرية" قصدوا بذلك أنه لسان طبقته الأعلى يفكر لها وليس عنها، فالأفراد كل منهم بنية فكر تقوم مقام غذاء العقل، وهذه البنية تَصَورٌ للواقعِ تجتمع فيها جملة من الأوهام والأحلام. ولكن مجرد أن يفكر الكاتب للغير، طريقته في التفكير تنقله من دائرة الفكر والبنى الفوقية والترف المعرفي إلى قلب الصراع الدائر بين التيارات الفكرية، ومن يقول صراعًا فكريًا يقول صراعًا سياسيًا، وبالتالي حياتيًا، صراعًا من أجل رغيف الخبز وكأس الماء، نعم إلى هذه الدرجة، في غابات الوحوش التي هي مجتمعاتنا اليوم.


إذن البنيويون لترفهم، وأعني هنا فلسفتهم لا طرقهم في البحث والتحليل التي أنا واحد من أهم مطبقيها، قالوا عن الكاتب "بنية فكرية"، وأنا أقول عنه "بنية مادية" كقطعة السلاح، ونصل السكين، وقلم النار، والأهم من هذا كله، كمدمر لأسس قامت عليها سلطة نخرة، تحاول في حربها معه أن تحمي نفسها من الانهيار، أيامها المعدودات تسعى إلى إطالتها أكبر قدر ممكن بطرق دأبت عليها الفاشية عبر تاريخها الكلبي الأسود: قمع، عنف، استبداد، تقطيع، تحبيس، ترعيب، تدبيح، وبالاختصار تفريغ الإنسان من إنسانيته، ومع الكُتاب النَّكِدين المزعجين المكدِّرين من الأقلام الغاضبة تذهب إلى حد التصفية الجسدية وإن لم تستطع لجأت إلى أختها الأهم والأشد مَرارة "التصفية المعنوية" لقلم النار الحارقها بكلمات البرق.


لقد كان هذا أمري مذ خرجت على الناس خروج معاوية!


في الثمانينات صدرت موسوعة للكُتّاب الفلسطينيين بدعم من اليونسكو تحت إشراف الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي لم يأت فيها ذكر اسمي.

في التسعينات صدرت موسوعة أخرى للكتاب الفلسطينيين بدعم من منظمة أبي عمار التحرير تحت إشراف الشاعرة الفلسطينية سلمى الجيوسي لم يأت فيها ذكر اسمي.

في أوائل هذا القرن المقرن صدرت موسوعة للكتاب الفلسطينيين وغير الفلسطينيين بدعم من معهد العالم العربي في باريس تحت إشراف مطبعجي محمود درويش الكُتَيْوِب السوري المعروف فاروق مردم بك (بك مش أنا هوّه اسمه هيك!) لم يأت فيها ذكر اسمي.

أقول حالاً كي أجيب على تساؤلات القارئ (لم أكن معروفًا، ربما كنت غائبًا في المريخ، لم أكن متعاونًا... إلخ) اللعبي كان يقضي الساعات الطوال معي على الهاتف، الجيوسي تراسلنا وأعطيتها كل كتبي وكل المعلومات التي طلبت، مردم بك أخذ مني عنواني وكل أرقام تلفوناتي للمحررة.


هل أكتفي بهذا القدر أم أزيد؟


مركز خليل سكاكيني في رام الله راسلتُ مديرته على الإنترنت، وأرسلت إليها صفحات عني، اذهَبْ إلى رابطهم، وابحث رجاءً لك مني أعظم جائزة إن وجدت اسمي.
قوائم كُتاب اتحادات عرب أو فلسطين، أتحداك أن تجد اسمي.

دراسات وكتب عن الأدب الفلسطيني والرواية الفلسطينية بالعشرات آخرها لصديق لي كأخي لم يذكر فيه اسمي.

لماذا كل هذا التطويق، هذه الحرب، هذا التعتيم، هذا التنكيل بمئات آلاف الكلمات، هذا الإجرام بمئات الأبطال، هذا الفتك بملايين الصور... لموقف سياسي هذا صحيح، ولكن على الخصوص لأن ما يقوله نصي، حتى الذي لا ينطق بكلمة سياسية واحدة ولا يحكي إلا عن الحب كروايتي "السيدة ميرابيل"، يزلزل عروشًا، ويهدم حصونًا، لأن ما يقوله الجن الساكن في قلمي لا يقوله غيري لغيري ممن هم مثلي، الجوعى للحرية، والظمأى للعدل والعلم والحياة الكريمة بكرامة، بمعنى كل الناس. لم يبدأ صراعي أنا الوحيد مع كل الآخرين مذ كتبت كتابي "أربعون يوما بانتظار الرئيس" بل قبل هذا الكتاب بكثير.

كاتب الأربعين كتابًا بسبب الأربعين يومًا الحرب الضروس بلغت الأوج معه إلى حد التجويع والتطويق وحرمان الثائر الذي في الحائر أمام شئون الدنيا أو الحائر الذي في الثائر ضد كل ما هو شائنٌ مُشين طفل الكلمة العاق من كل حقوقه.


إنه صراع العمالقة مع الأقزام!


في الخمسينات، جان بول سارتر، الفيلسوف الفرنسي الشهير، لموقفه المشرّف من حرب الجزائر، حاول الأقزام معه أكثر مما يحاولون اليوم معي، حاربوه، طوقوه، شوهوه، ومنعوا نشر مقالاته التي من جهنم عليهم، فكان منفذ كلمته الحرة إلى الناس مجلته "الأزمنة الحديثة"، وأنا، حفيد سارتر والمتنبي، وليد الثقافتين، سيكون منطلق كلمتي الحرة من هذا الموقع، هذا المنبر الفريد، لكل عشاق الحرية.


أول حزيران 2008





عندما تخيف الكتاب العرب الحرية!

كيف يمكن أن نصف الكاتب العربي اليوم؟ جبان؟ متخاذل؟ منحاز؟ منساق؟ متطاول؟ متقاصر؟... لكن الصفة الأخطر من كل هذا المُفرَغ قلمه من المداد، كالإنسان عندما يُفرغ من إنسانيته، تغدو كلماته بيضاء، أي لا تُرى ولا تُقرأ ولا تترك أدنى أثر. ليس عن هذا ما أود الحديث اليوم، وإنما عن الأسنان الماضية للسلطة الإعلامية عندما تقضم ليس قلم الكاتب فقط، وإنما كُلِّيته، تطبق بأنيابها على جسده، وتلتهمه من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، فلا إيديولوجيا مسيطرة هي، ولا وجبة ممتعة من لغو القول هو، إنها صيرورة النهم الإعلامي في عهد تألهت فيه كلمة الاسترقاق والخطاب الآمر الناهي واحتلال الوعي من طرف رقابة ذاتية تزيف العالم، وترسم للكاتب حدودًا إن هو حاد عنها أو اجتازها ولو القليل نحو حرية الرأي والتعبير أو حتى وهم مثل هذه حرية أصابه الرعب، وأحس بالضياع بعيدًا عن (أردت القول ثدي) أنياب أمه.

سأبدأ من النهاية، منذ يومين طلب مني علي الخليلي أن أحذف اسمه من قائمة مستشاري التحرير (الوحيد الذي طلب مني ذلك) لأنه –كما يقول- لا يتفق مع طروحات الجريدة!


السلطة الإعلامية القمعية لا تقضم القلم والعقل فقط بل وتسلب البصر وتُعمي: يتصدر هذه الجريدة الإلكترونية شعار يقول "موقع كل التيارات السياسية والفكرية"، دون أي إبهام وبكل وضوح وبالعربي لا بالصيني ولا بالسنسكريتي، إذن موقع كل الطروحات يمينًا ويسارًا على كافة ألوانها وأشكالها، أما أن لا يتفق مع طروحاتي أنا شخصيًا، فهذا شيء آخر وجوهري وضروري ومنتج ومحفز ومزلزل... إلى آخره.

ثم، الهيئة الاستشارية هيئة شرفية فيها من الأسماء اللامعة المتعارضة أو المتوافقة ما تشاء وما لا تشاء، هيئة من كل روض زهرة، ولا علاقة لها بمواقف من يكتبون فيها وطروحاتهم ولا بمواقف وطروحات رئيس التحرير.


جاك شيراك، الرئيس الفرنسي السابق، أعلن يوم أمس الاثنين عن إنشاء مؤسسة للتطوير والحوار بين الثقافات، تجد في هيئتها الشرفية الاستشارية أنماطًا مختلفة في توجهاتها السياسية ابتداء من كوفي عنان مرورًا بجائزة نوبل الهندية راجندرا باشوري وانتهاء بالمرأة المتعددة المليارات صاحبة مصانع لوريال للمساحيق والتجميل ليليان بيتانكور.


حرية مطلقة!


أنت لا يُطلب منك أن تكون غيرك! أنت هو أنت، وغيرك هو غيرك، والكل يقدم ما يقدر عليه حسب تصوراته وإمكانياته وعلاقاته للمشروع الذي اجتمعوا من حوله.


الرئيس الفرنسي الحالي نيقولا ساركوزي، وللتذكير هو يميني متختخ، ابتعد أكثر عندما جاء برموز من قادة اليسار: جاك لانغ، جاك آتالي، دومينيك ستروس-كان، وكلفهم بمهمات ومناصب رفيعة. هل كان شرطه عليهم أن ينفوا مواقفهم وأفكارهم ويتنكروا لها؟... على الإطلاق.


لأننا هنا في الغرب تجاوزنا عصر التوحش الإيديولوجي، ونحيا اليوم بعيدًا عن أدغال الإعلام البوليسي العربي والسلطة القاضمة للحريات كلها بما فيها حرية الرأي وحرية القلم، حريتان يمارسهما موقع "أفنان" كما لم يمارسهما أحد (لأن موقع "أفنان" ليس أفنان القاسم، والخلط بينهما سيفسد كل شيء، وسيشوه، وسيودي بالقلم المستلب منه مداده إلى عدم نوم صاحبه): تصدرت الموقع صورة الأمير الحسن، ومن قبل مقالة في مدح أمير قطر، وقبل هذه وتلك مقالة في نقد الموقع ذاته، كما أن الموقع لن يتردد عن إصدار مقالة في التنديد بسياسة الحسن أو بأمركة شيخ قطر... إلى آخره. في أي جهاز إعلامي تجد هذا؟ وعن محمود عباس وكل جماعته الأوسلويين أكتب يا علي الخليلي وامدح وطبل ما طاب لك التطبيل، أنا سآخذ منك موقفًا أما الموقع، فساحة مفتوحة للجميع، لكن الممارسة الخسيسة "أنت محسوب على من، أقول لك من أنت" التي احتلت الضمائر قد حلت محل المصداقية، فأنت المحسوب على هذا البوق أو ذاك وليس ما تكتب، لأن ما تكتب هو اجترار وتكرار لما تكتبه كل جوقتك، وعندما يأتيك منبرٌ الحريةُ فيه حقيقة والحقيقة كل الحرية ترتبك، تشك، تشكك، ولا تشاء أن تدرك أن المصداقية هي هنا أولاً وقبل كل شيء، و"المحسوب على" صفة لعهد قديم مريض ينتمي إلى غائط تاريخ صراع الأفكار وحرية الرأي والتعبير.


حرية التعبير إذن في عالم الحريات المصادرة تُديخ بل تُخيف، والقلم الذي عودوه على الكتابة عن سفاسف الأمور (خرطماني يا تين! يدلل علي الخليلي في إحدى مقالاته)، ويتحول كابوس الاحتلال لديه إلى ديكور ليس غير، وكابوس السلطة إلى رغيف خبز ملوث، لهو قلم ميت، وإن تمثل الموت شعرًا، وكتب أعظم القصائد!


10.06.2008





فلسطين هذه التي هم يحبونها أنا أكرهها

يكتبون عنها الأشعار ولها، والقصص والروايات في حبها، والمقالات التي تَبكيها أو التي يقسم أصحابها من أجل تحريرها أن يقدموا الغالي والنفيس وأن يموتوا في سبيلها، وهم ما كتبوا وما دبجوا إلا لأنهم يحبون أنفسهم هم لا فلسطين، فكل كتاباتهم تملقٌ لفلسطين، كل كتاباتهم مستشفى للأمراض النفسية. يكتبون نحن قاعدون ها هنا كالشوكة في حلوقكم، ويقولون عن هذا شعر مقاومة، فلتقعدوا كالشوكة في حلوقهم ما طاب لكم، هل يغير هذا من واقع الأمر شيئًا؟ يتغنون بالأرض والأم والقهوة، ويرقصون على إيقاع مزامير الغيرة من حب الآخرين أكثر لها، ويقولون عن هذا العشق، فلتغنوا إلى الأبد ليل نهار، هل يغير هذا من واقع الأمر شيئًا؟ يمخرون على قارب النوستالجيا، نوستالجيا عديمة الجدوى كما يرى روسو، تَعيث في الحاضر فسادًا ككل كتابات محمود درويش النثرية، ويذرفون الدموع، ويقولون هذا هو البرهان على أننا لم ننسها، فلتذهبوا حتى نهايات الكون، حتى نهايات نهايات الكون، هل يغير هذا من واقع الأمر شيئًا؟ كل هذه الكتابات، أقول كلها، كل هذه الكتابات أنا أكرهها. لأن كل هذه الكتابات تنتمي إلى أدب الغائط الوطني الذي يلوثنا به من باعوا فلسطين، فما في الدنمارك من عفن أقل بكثير مما هو في رام الله، وفي غزة، وفي عمان، وفي دمشق، وفي الرياض، وفي القاهرة، وفي العاهرة، وفي طرابلس الغرب، وفي الجزائر، وفي الحرائر، وفي... وفي... وفي...


أدب المقاومة شيء آخر، ولماذا نقول أدبًا؟ فلنقل المقاومة، لأن فعل المقاومة أولاً، وبعد ذلك يكون أدبها. ذلك الذي يقول نقعد كالشوكة في حلوقكم، طب ما أنت قاعد، إذن كيف يكون فعلك هذا مقاومة؟ فعل المقاومة هو ألا تقعد بل تقوم وتكسر أنف ذلك المتغطرس الذي يذلك، فعل كهذا لهو بمثابة رواية لماركيز، أو أن تذهب وتبصق في وجه واحد من أزلام أوسلو، فعل كهذا لهو بمثابة ديوان للمتنبي. لهذا كل الكتابات التي قيلت عن فلسطين هي أبعد ما يكون عن حقيقة فلسطين، كل الكتابات التي قيل إنها من أدب المقاومة، أنا أكرهها، لأنها، من هذه الناحية، لا علاقة لها بالمقاومة، طالما بقي الاحتلال، طالما بقي البحر يتنفس بعيدًا.


أما من الناحية التقنية لهذا أدب، فأنا لا أطيقه، "سجل أنا عربي!" طب سيسجل، وماذا بعد أيها المهرج؟ مهرج اللفظة المستهلكة والمعنى المستهلك! أدب الهتاف، نعم، أدب الهتاف، وليس أدب المقاومة، أدب النعيق، أدب النعيق هذا للحاكم أروع أدب، فهو يدغدغ فيك ما لم تنجح ألف عصا. عندما أقرأه أشعر بالاختناق، بيد تضغط على فمي، ولا تترك لي أية فرصة للمقاومة. لهذا تجدني أكتب أي شيء وكل شيء وأنا مستسلم تمام الاستسلام، ويكون كل ما أكتبه عن غير فلسطين هو لها، لفلسطين التي أنا أحبها، والتي هم يكرهونها.





مات لأنه كان يعشق شقائق النعمان


عشر سنين مضت على موت محمود موعد، أكثر بقليل أو أقل بقليل هذا لا يهمه بالقدر الذي يهمنا حين نذكر صديقًا غاليًا، فالوقت لديه لم يكن أمرًا كبيرًا، لحظة من المتعة عنده كانت تعادل مائة سنة، وهو لهذا فارقنا مبكرًا في الخمسين على الرغم من ندرة هذه اللحظات في حياته لإحساسه الدائم بالموت، بيد الموت وهي تضغط على فمه. كان مسكونًا بالموت لدرجة أنه كان يراه في كل شيء، في الورد كان يراه كما في رغيف الخبز، وكان يفسر ذلك بقوة غامضة تطارده، قوة أشبه باللعنة، فارتبطت اللعنة لديه بالفاجعة، وغدا كل ما يفعل أو ينتظر فعله نوعًا من تراجيديات الإغريق.

كان محمود موعد موضوعًا تراجيديًا بأتم معنى الكلمة، مجموعته القصصية عن الموت والجنون لم تأت جزافًا. سأسرد عنه بعضًا مما عشته معه في باريس، مدينته، فلا صفورية، مسقط رأسه، كانت مدينته، ولا دمشق حيث كان يسكن في مخيم اليرموك، ولا أية مدينة أخرى في العالم، كانت باريس بأحيائها ومتاحفها ومقاهيها وسينماتها ومكتباتها وساندويتشاتها وأزقتها الضيقة المبلطة ملكًا له، كانت باريس فلسطينه، ونهر السين أخاه.


المطار


هو كان يفسر ذلك بسوء الطالع، "لأنه منحوس منذ مولده!"، والفيلسوف الذي فيه بموضوعٍ للعبث. لم يكن قد حجز مكانًا في الطائرة المقلعة لدمشق، وكان يرجو –دون أدنى أمل- أن يغادر بعد تسجيل اسمه في قائمة المنتظرين. كان هشام القروي بصحبتنا، كان ذاهبًا إلى بيروت عن طريق دمشق يوم كانت دمشق محطة إجبارية، ولقلق محمود الجنوني قلت سأطلب من هشام أن يؤجل سفره على الرغم من أنه أتم معاملات شحن متاعه. كنت أنتظر من محمود أن يضع حدًا لتعذيبه لنفسه بنفسه عن طريق "استهلاكه" له كما يقول المحللون النفسيون، لكن الأمر معه لم يكن بالسهل: قلب المطار جيئة وذهابًا، وفي كل مرة يرى فيها دعوة أحد المسجلين على قائمة الانتظار إلى السفر كان يأتيني بوجه ذي ألوان شتى، ويقول لي "أرأيت؟" بمعنى أن كل شيء ضده، العالم ضده والبشرية ضده دون أن ينسى الخالق، وكل ذلك من أجل مقعد على متن طائرة! وكاد محمود يسقط أرضًا عندما أغلق المسؤول قائمة المنتظرين لولا أني أنقذته في اللحظة الأخيرة. سافر بدلاً من هشام القروي، وهو يبتسم ابتسامة الطفل المذنب التي كانت له، ويعد بأخذ متاع هشام، وباستقباله، وتسهيل كل أموره، وإن شاء بمرافقته حتى أبواب "المصنع".


الدكتوراه والسواقة


لم أر في حياتي شخصًا نال شهادة الدكتوراه بالحزن الذي كان عليه محمود موعد، من هم مثله يقيمون الحفلات، ويَبدون أسعد الناس، أما هو، فقد كان حزينًا، كثير الحزن، شديد الأسى، لم يكن يبتسم ابتسامة الطفل المذنب ولا ابتسامة الرجل المطارَد، كانت ابتسامته ابتسامة الميئوس من حاله! هل كان يرعبه وضعه الاجتماعي الجديد؟ هل كانت شهادته العليا بالنسبة له طريقه إلى فاجع أعلى ومشاكل ليست متوقعة لا تعد ولا تحصى؟
وعلى العكس، عندما عاد من دمشق ذات مرة، أخبرني، وهو يكاد يقهقه من عينيه، أنه حاز على شهادة قيادة السيارات، وأنه سيشق شوارع دمشق، شوارع من جهنم، بسيارة يسوقها هو! كانت شهادة السواقة لديه أغلى على قلبه من شهادة الدكتوراه، هذه كادت تقتله أو أنها قتلته، وتلك حررته من كارثة اسمها دمشق، ومن قيودها، لينطلق، وهو في الأخير قد انطلق إلى اللامنتهى.


أورفيو نيغرو


كنا ونحن نشاهد فيلم أورفيو نيغرو لمارسيل كامو مأخوذين بسحر الصورة والموسيقى والإخراج، وأنا فوق كل ذلك برد فعل محمود إلى جانبي: كان يضحك ببراءة أخرى لم أكتشفها في طفولةٍ من قبل، وكان "يتمتّأ" وهو عاجز عن وصف سعادته لمشهد ما أو لقطة معينة، كان يقطر سعادة، وكانت متعته تسيل من حولنا، وتجرف كل شيء، كانت المرة الأولى والأخيرة التي رأيت فيها محمود وقد قطع عسل الوجود وغدا نحلة.


ماريان


حبيبة محمود الخالدة، ليس هذا لأنها كانت بارعة الجمال أو استثنائية، ولكن لأن محمود أحبها بدمعه. عندما رافقتنا لتودعه إلى مطار شارل ديغول، كانت دموع محمود تتفجر كينابيع كل جبال العالم. لم أكن أعلم أنه هو من كان يودعها! كان وداعه الأخير لماريان وداعًا لباريس ولكل تماثيلها ولكل مصابيحها وداعًا للنار ولشقائق النعمان، عنوان مجموعته الشعرية التي كتبها بالفرنسية... لم أكن أعلم أن الأحمر يقتل عاشقيه!



16.06.2008




حفيد سندباد

أن يكون المرء أستاذك لهو مفخرة لك، أما أن يكون أستاذك وصديقك فهو مفخرتان! أستاذك وصديقك وزميلك ألف مفخرة ومفخرة! دانيال ريغ كان صديقي وأستاذي وزميلي الجامعي، صديق عمر طويل مذ حللت في باريس عام 1970 حتى وفاته في العام الماضي، وأستاذي في الترجمة والأدب، ثم زميلي السوربوني الذي شاركته بتدريس الأدب واللغة. كان موسوعيًا عملاقًا في العلم وعملاق القامة، عندما تراه قادمًا تظنه جملة من البشر، ولحضوره البارز يملأ عليك المكان، وينفخ الحياة في كل شيء من حوله. عندما مات بكيته كما لم أبك امرأ من قبل، وأحسستني يتيمًا. واليوم، أينما أذهب حيث كنا نذهب أجده معي، في الحي اللاتيني خاصة، حي الطلبة والجامعات، في مقاهيه ومطاعمه وأزقته، وهو الآن معي، وأنا أكتب هذه الكلمات عنه، يجالسني، وكأنه أبدا لم يمت.

الحديث عن دانيال ريغ ضد الإيجاز بقدر ما كان التفصيل ديدنه، في أحاديثه المتشعبة، وفي سلوكاته المتعددة، وفي علومه الأدبية والسياسية والعلمية المتفرعة، لكني سأحاول التوقف في هذه العجالة على بعضٍ مما كان لي معه بانتظار أن أكتب عنه بالتفصيل وعن أعماله، فأُرضي هذه الناحية الجوهرية من خصاله.


العجوز


حملت روايتي "العجوز" إليه عام 70 بعد عودتي من الجزائر، كنت فد قضيت كل وقتي في كتابتها خلال عطلتي الصيفية على مقعد إحدى مدارس باب الواد، الحي الشعبي الشهير، بدلاً من الذهاب إلى البحر والاستمتاع بملحه ورمله. قرأها في يومين، وقرر ترجمتها قبل أن تطبع في بغداد مع دراسة بقلمه، بعد أن رأى فيها عملاً فريدًا. كانت الدراسة سيميائية، من الدراسات السيميائية الأولى عندنا، استلهمها من نظريات أستاذه غريماس. وبغض النظر عما استنتج، كانت مصطلحاته المعربة مكسبًا للدارس وإضافة للعربية التي كان يتقنها كما لم يتقنها مستعرب، مصطلح طالما دافع عنه مقابل مستشرق، إذ الأول برأيه يبقى في إطار اللغة وإبداعها والثاني سياسي يعود في أصله إلى تراجمة نابليون وتوجهاتهم التوسعية، وقد أصدر في هذا الشأن كتابه "الاستشراق" دون أن يخترق في مداه "استشراق" إدوارد سعيد الإعلام الغربي، بسبب حسمه في الكثير من الأمور التي لا ترضي الغرب بينما تركها سعيد عرضة للتأويل والمماحكة.


القواميس وكتب تعليم العربية


كرس دانيال ريغ كل حياته من أجل إعلاء شأن اللغة العربية في فرنسا خاصة والغرب عامة، فأصدر سلسلة قواميس "السبيل"، وكذلك سلسلة كتبه في تعليم اللغة العربية، وتخرج على يده العشرات، ولما يزل، فكتبه لم تزل حية من بعده، تُدَرّس في هذه الجامعة أو تلك. أذكر كيف بدأنا بتدريس العربية معا أول ما بدأنا في جامعة باريس الثالثة، وأذكر كيف أضاع الطريق إلى منزلي في ضواحي باريس، وقضى الساعات الطوال في البحث عن عنوان من أجل استرداد بضع صفحات من قاموسه.


ابن الجوزي


علاقته مع ابن الجوزي كانت كعلاقتي معه، علاقة صديق حميم بقي حيًا في الذاكرة. ابن الجوزي بقي حيًا في ذاكرة دانيال على الرغم من موته في القرن الثاني عشر، وزمنه بقي حيًا قبل السقوط العربي الإسلامي، ليس فقط بكتبه التي تتجاوز المائتين، ولكن أيضًا بحضور العالم العلامة الأبدي: أطروحته كانت عن ابن الجوزي، وترجمته كانت عن "صيد الخاطر" الذي يلخص فيه فلسفته، ويذهب فيه إلى حدود التصوف.


سندباد


أريد أن أصل إلى أشهر بحار في الغرب بعد عوليس، ودانيال يخالف الجميع عندما يرى على عكس المختصين أن عوليس قد تم اقتباسه عن سندباد وليس سندباد عن عوليس على الرغم من أن أسطورة اليوناني كانت قبله، لأن أسطورة سندباد برأيه أعمق وأرقى وأبعد خيالاً وشاعرية، ومن هذه الناحية ترجم وعلق على رحلات سندباد السبع. عندما ذهبنا معًا إلى بغداد لنحضر مهرجان "المربد"، اشترى دانيال خرائط المدينة القديمة، وسحبني من ذراعي بعيدًا عن صراخ الشعارير وضجيجهم لنقتفي آثار سندباد وهارون الرشيد وألف ليلة وليلة، كانت سعادته لا توصف، وهو يجد نفسه بين أطياف أجداده الأوائل، لم يكن "بابا" البروتستانت الذين هو واحد منهم جده ولا بابا روما، كل أولئك كانوا له أجدادًا، وهو لم يكن إلا لسندباد حفيدًا.


20.06.2008





659 رواية فقط لبداية سنة النشر في فرنسا


بداية سنة النشر في فرنسا هي ما بين 13 أغسطس و28 أكتوبر، تصدر خلالها آلاف الكتب التي منها هذه السنة 2008 فيما يخص الأعمال الروائية 659 رواية فرنسية وأجنبية، هذا العدد الذي هو في انخفاض ب 10 بالمائة بالنسبة للعام 2007. وتتساءل الصحافة إذا ما كان سبب ذلك الأزمة الاقتصادية العالمية، حتى في الرواية الاقتصاد له دور، أو أنها إشارة من إشارات الزمن، وقد أتى هذا النوع من الأدب في الغرب أكله؟ الروايات الفرنسية انخفضت بمقدار 63 رواية والأعمال الأولى بمقدار 15 عملاً، بينما الروايات الأجنبية ازدادت ب 10 بالمائة، ما خسره الفرنسيون في سنتين، وذلك بنشر 229 عنوان. لا أريد هنا أن أقارن بين ما نشره العالم العربي أجمع في عشر سنوات وهذا الكم المنشور في فرنسا في سنة واحدة والمأسوف على نقصانه، ولا أريد أن أمارس فن اللطم الإعلامي على حالنا الأدبي الذي هو من حالنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والكابوسي والعفريتي و... و... وما يجب علينا فعله، وما لا يجب علينا فعله، ولو فعلنا، ولو ما فعلنا، ونحن، وهم، وكيف، ولماذا، فهذه هي حالنا في كل كتاباتنا عندما نرمي إلى المقارنة بيننا وبين الغرب، أن نجلد الذات، ونذهب لننام بعد ذلك منتصرين! ما أريده الإشارة إلى شيئين الأول أن الرواية كنوع أدبي تعيش حالة من الانحسار والانحصار والتقهقر والهجران، ولذلك علاقة بالهجوم الكاسح الذي تشنه التكنولوجيا الجديدة ليس على الرواية فقط بل وعلى المنشور المقروء الجرائدي أو الكتبي، وصعود الرواية كما كان يقول لوكاتش كنوع مرتبط بصعود البرجوازية غدا حكمًا نقدويًا مشكوكًا في أمره، فما أكثر صعودها اليوم. الشيء الثاني انتهى اليوم عهد الروائيين العظام أمثال ستندال وبروست وجيد وسيلين في فرنسا على الأقل، وما تنتجه فرنسا اليوم من أعمال روائية ليس إلا بمستوى كتاب صغار من عندنا.

الجوائز واقتصاد الكتاب نشره وتوزيعه والدعاية له هي من توهم بوجود الأدب الروائي، وقد غدا قانونه مثل أية سلعة قانون الربح والخسارة، قيمته في المال وليس في الإبداع.

يبقى هنا في الغرب قارئ يقرأ تحت تأثير شيء ما ولكنه يقرأ وهناك في الشرق قد انعدم القارئ الذي هو منعدم أصلاً بانترنت أو بدون انترنت.




سيلين

أريد أن أؤكد حقيقة واحدة أن للروائي الحق في الروائية سواء أكان روائيًا واقعيًا أو خياليًا، ولا علاقة ذلك البتة بمواقفه السياسية، أنا مثلاً كنت من المعجبين بالنازية ولكني أبدًا لم أكن نازيًا في الكتابة، على عكس البعض من الكتاب الذين خلطوا بين موقفهم وموقعهم وتركوا الواحد أو الآخر يؤثر في كتاباتهم، وهناك شيء آخر أهم ألا وهو أن تصنع لونك الكتابي الخاص بك، فتستقل عن كل من سبقك وكل من سيلحقك من الكتاب، وتغدو كتابتك لك حاميًا من نفسك ومن غيرك، لهذا حتى وإن انتقد الكل موقفي لم يجرؤ أحد إلى اليوم على انتقاد كتابتي...




الريح التي لا تعرف القراءة


أرسل المسؤول الفني إيميلات تعرّف بالموقع تتجاوز الخمسة عشر ألف إيميل، زاره في الأيام الأولى من أصحابها بضع عشرات، هم كتاب أكثر منهم قراء، وهؤلاء بعد أن نشروا مقالاتهم التي سبق لهم نشرها في مواقع أخرى، وانبسطوا على صورهم، توقفوا عن زيارة الموقع، فهم ما كانوا ليزوروه من أجل قراءة غيرهم أو قراءة حتى أنفسهم، بما أنهم أصدروا مادتهم في أكثر من مكان، في عشرات الأمكنة كما تشي بذلك بعض إيميلاتهم الجماعية، وقريحتهم لا تنتج إلا بالمناسبات التأبينية أي لمامًا، وبالتالي من آلاف الإيميلات الخمسة عشر لم يعد يزور الموقع سوى صاحبه، ولسوف يضطر المسؤول الفني إلى التقاط مجموعة أخرى منها، وليس أيها، فهي تمس – حسب ادعائه - الشريحة التي تهمنا، شريحة المثقفين، ويا لها من كارثة في أمة ضحكت من جهلها الأمم، إذ هذا هو حالنا مع المثقفين، فكيفه مع الدواب من الجهلة والأميين؟

هذه شعوب لا تقرأ! صنعها حكامها جاهلة على شاكلتهم كي يسهل عليهم قمعها، ونخبتها أشد جهلاً منها، وإن كانت عالمة، فهناك جهل الجاهل، وهناك جهل العالم، وهذه هي صفة المنحط العظمى لأنه لا يدرك مقدار ما هو فيه من بؤس ثقافي، والبؤس الثقافي لديه أنواع، بؤس العقل وبؤس القلب وبؤس الجسد، بؤس العقل يغذيه بقشور بصل الثقافة السائدة، وبؤس القلب يملأه بهلوسات عن أمجاد الماضي وانتصارات الأجداد، وبؤس الجسد يراكم فيه ما يراكم من صور نهد أو كفل ممنوعين منذ مولده عليه.


هذه شعوب لا تفهم! تركها حكامها في درك من الإدراك لا تقوم منه، أسهل لك أن تشرح للحيتان، أو تفسر للحمير، أو تقول الشعر للغربان، فللغربان أُذنٌ تصغي أكثر من غيرها، ولهذا السبب نعيقها في الانحطاط العربي أشجى غناء وأعذب صوت وأرق من كل النهيق العالِم المتمدن المنتمي إليه سميح القاسم ومحمود درويش.


هذه شعوب لا تبصر! جعلها حكامها عمياء ليحسنوا رُكبها، أن لا تعرف الطريق إلى مقال مفيد كارثة أما أن يجهل مثقف أي مقال هو على طريق العلم والتميز والمعرفة فألف كارثة، مليون كارثة، مليار كارثة، كارثة الكوارث في حق شعوب حامل المشعل منها ونبراس التقدم والدخول من باب العصر الأوسع.


الحكام العرب دكتاتوريون لأنهم على شاكلة شعوبهم وليس العكس، كل فرد من شعوبهم دكتاتوري على طريقته، في الخراب، لأن الجاهل هو جاهل على نفسه قبل أن يكون جاهلاً على غيره، وأن يقبل الفرد بهوية الجاهل هذا يعني أن يمارس القمع الذاتي من عنده إضافة إلى القمع الأخروي من عند غيره، إنه يدمر نفسه بنفسه، مثله مثل الريح التي لا تعرف القراءة، متى هبت على حديقة للورد كانت عالمًا لها دمرتها على الرغم من وجود لوحة كُتب عليها "ممنوع قطف الورد".


26.06.2008






ألف مرحى بالنرجسية


تلقيت العديد من الرسائل التي فيها من الحماس ما لي قبل وخلال وبعد تأسيس هذا الموقع، وذهب البعض إلى أبعد بكثير مما رسمت وأملت حين رأى فيه محاولة لصنع "ثورة فكرية أضحت مطلوبة في زمن التراجع الفكري العربي"، وإذا بكلمة يفاجئني صاحبها بها اليوم سأوردها بحذافيرها: "أظن أن الموقع مقيّد إلى درجة كبيرة حيث صمم ووجّه وتم ترتيب أفضيته وفق ما توحي به التسمية ووفق إرادة ذاتية ونرجسية محبطة يواجهنا دائمًا بها المثقفون العرب ..الذين يشير إلى مقاطعتهم الموقع.. وكأن الجدة والحداثة والحرية رهينة ب- أفنان - فقط.. الذي رهنت بالتسمية - مهما كانت إيحاءاتها القاموسية - كل شيء.. كما أظن أن أسماء الأدباء الذين وضعتهم على واجهة الاستشارة لا تعفي من تلمس فردية الإدارة و-الإرادة- فكيف تريد أن يكتب الواحد في بيئة التكميم والخنق النرجسي الأخرق.. دع النرجسيين يكتبون لحرية نافقة راجيًا إعادة النظر بالكلام الكبير الذي يتبناه الموقع فيما يستجدي من الأغنياء العرب الذين كونوا ثرواتهم من سرقة أموالنا وحرياتنا.. إدامة الموقع، وكنت أظن أن الواحد لما يكبر يعقل.. ورحم الله جبرا".

طبعًا سأضع جانبًا، نهائيًا وليس مؤقتًا، وصفي في الجملة الأخيرة بالتخريف، مع الشكر الجزيل، لأرد على ثلاث نقاط يركز عليها صاحب الرسالة: نرجسيتي المحبطة، ممارسة الموقع للتكميم والخنق النرجسي الأخرق، واستجداؤه الأغنياء العرب.


النرجسية


لنلاحظ أول ما نلاحظ سطحية كاتب الرسالة، ليس بمعنى هزالة ما يقول، فأنا كلي احترام لما يقول وإن كان هزيلاً، ولكن بمعنى نظرته إلى السطح، دون التعمق، والوقوف على ما يكمن من ورائه، كتابات القراء التي يحتقرها، ويتجاهل قيمتها والجهد المبذول فيها كلها أو على الأقل في بعضها. صحيح تسمية الموقع على اسمي الشخصي لم تكن صدفة، لأنه أولاً موقعي قبل أن يكون موقع غيري، ولأنه في محتواه كالشجرة الفنّاء متعدد ومتنوع. هل كان نرجس الشعراء في حديقتي – لتكرار كلمة أفنان – الطاغي على باقي ما فيها من ورد؟ ربما، ولكن هذا ليس ذنبي، لأنه يتعدى الشعراء إلى كل إنسان، يدعوه فرويد وغير فرويد بالليبيدو، الغُلمة إن أردت، وتركيزها النفسي على الأنا كموضوع للغريزة الجنسية يتفاوت من شخص إلى آخر، وهي عند الجميع، وليست حكرًا على أحد، كما ويعتبرها المحللون النفسيون جوهر كل تألق فردي. إذن من وجهة النظر هذه لا إحباط لديّ، أنا شخص غير محبَط (بفتح الباء) فهل أنا شخص محبِط (بكسر الباء)؟


التكميم والخنق النرجسي


تهمة كبيرة لا أدري من أين حاء بها صاحب الرسالة، إذ من الواضح أنه يعاني من التكميم والخنق الأخرقين اللذين هما صفتان مجرمتان لأبواق السلطة، فهل أنا سلطة أم ضحية من ضحاياها مثلي ومثل كل سيف ولدته أمه دون غمد؟ سأترك الصورة وأرجع إلى التهمة: الخنق النرجسي أقره مع مراسلي إذا ما تعلق الأمر بأدونيس مثلاً أو محمود درويش، وعند هذا الأخير يتعداه إلى الإرهاب النرجسي. لو كنت إنسانًا مُطْلَقًا متحيزًا لآرائي لأقررت التهمة، ولطالبت بمحاكمتي. من أول كلمة إلى آخر كلمة فيه، الموقع يفتح ذراعيه على سعتهما لكل التيارات السياسية والثقافية والفكرية، تجد فيه ماركس والسيد قطب، المتطرف والمعتدل، المتدين واللامتدين، تجد فيه من يمتدح أمير قطر أو ينتقده، من يصفق لمحمود عباس أو مثلي من يشرشحه، حرية مطلقة، فأين التكميم، المنبر للكل، وكل واحد مسؤول عما يقول.


استجداء الأثرياء العرب

سرقوا ونهبوا وبترولنا وحرياتنا وكراماتنا كل هذا صحيح، ولكن من غير الصحيح أن يتجاهل المرء موقف الموقع من أنه لا يبيع، وهو سيظل ثابتًا على مواقفه، كما أننا لا نستجدي بقدر ما نوجب من أجل رفع القصة العربية والأدب العربي والثقافة العربية عامة ولو سنتمتر واحد إلى فوق، ومن أجل ألا تخيب هذه الجريدة الإلكترونية الصغيرة، هذه الفكرة الكبيرة، هذا الموقع الإمبراطوري في أهدافه وأبعاده ومراميه، أمل القارئ.





أساتذة المخابرات


جاءني صديق، وهو يهمس في أذني، ويلتفت يمنة ويسرة على الرغم من كونه في بيتي خوفًا من أن يسمعه مخبر خفي أو ملاك سري، ويؤكد عليّ قبل أن يفوه بحرف ألا أقوله لأحد ثم كشف ما اكتشف أن أساتذة جامعات كبار في الجزائر هم في الوقت ذاته ضباط مخابرات كبار، فضحكت منه وعليه لأن الكل يعرف هذا، وليس هذا سرًا خافيًا على أحد، في الجزائر، وفي المغرب، وفي تونس، وفي ليبيا، وفي مصر، وفي سوريا، وفي الأردن, وفي السودان، وفي اليمن الهمام، وفي الكويت، وفي سلطنة عمان، وفي قطر، وفي أي خزق عربي دولة أو يشبه الدولة، وهذا أمر طبيعي في دول المخابرات أن تكون لها جامعات المخابرات وصحافة المخابرات ومقاهي المخابرات وأسواق المخابرات وشركات المخابرات وحافلات المخابرات ودور حضانة المخابرات ومزابل المخابرات ومباول المخابرات، ولا يقتصر هذا على البشر في أنظمة القمع، فيتعداه إلى الطير والحيوان والحشرات إذ هناك ضباط كبار للمخابرات بين النمل والعصافير والجرذان.

لكن أخطر ما في الأمر، وهذا ما غاب عن محدثي، أن يكون من بين كل هؤلاء السفلة أساتذة للجامعات، وأساتذة كبار!


حالة الجزائر حالة خاصة كبلد للترهيب العسكري، الجامعات فيها عبارة عن نموذج مصغر للنظام، بمعنى أن الجامعة كمؤسسة للعلم والثقافة، وبالتالي كبؤرة للنور والتنوير، تتحول كمؤسسة للجهل والجهالة، وبالتالي كبؤرة للعهر والتعهير. من ناحية الجهل الخريجون على أيدي أساتذة المخابرات هم أطر الدولة، وبؤرة التعهير المصغرة بحجم الجامعة – محجبات أو غير محجبات كله واجد حتى إن الحجاب هناك يستعمل كأنجع وسيلة لإخفاء السيدا – ستكبر وتتضخم لتشمل كل الجزائر، هذا بالطبع ما يرمي إليه المخابراتيون البوليسيون الجهنميون، ويا للحظ أن شرف هذا البلد ونخوة شعبه يواجهان بكل ما أوتي هذا الشعب الأبي من قوة آفة السقوط والدمار الأخلاقي، ولهذا السبب عندما أفلتت زمام الأمور السياسية أيام صعود "الفيس" (أحزاب، صحافة، حريات أخرى...) شدد النظام المخابراتي العسكري القبضة على الجامعات، وكان مستعدًا للتضحية بكل شيء وقبل الانتخابات التي ألغيت بوقت كبير لو أفلتت هذه الصروح المؤسساتية الأساسية التي له من يده.


في الأردن وغير الأردن الشيء ذاته، لكني أسوق الأردن مثلاً آخر لأني كنت أستاذًا عابرًا في أواسط التسعينات في الجامعة الأردنية وجامعة الزيتونة. في جامعة الزيتونة كان رئيسها يقول عن نفسه في الملا والخلا "عميلاً للسي آي إيه"، وبكثير من الخيلاء والعظمة، وكانت تلك وسيلته للوصول إلى كرسي وزير الثقافة! الكل يعرف بالطبع مدى تغلغل جهاز المخابرات الأمريكي في الأردن، وبالتالي مدى تساقط ضباطه من أساتذة جامعات أو غيره، تساقط من وجهة نظرنا وتصاعد وارتقاء إلى أعلى المناصب من وجهة نظرهم البراغماتية الدنيئة. المسار الوظيفي المتصاعد لخالد الكركي إلى سمت القذارة المخابراتية الكل يعرفه، من طالب مخابراتي في الجامعة الأردنية إلى رئيس للديوان الملكي إلى وزير لست أدري لكم من وزارة واليوم إلى رئيس للجامعة التي خرّجته فاسدًا وجمّلته مفسدًا!





من نابلس إلى باريس


سيرجي-بونتواز مدينة صغيرة في ضاحية من ضواحي باريس الأخطبوطية، لها جامعة تحمل الاسم نفسه، تأتي بطلبة ليسانس جامعة النجاح الذين يدرسون اللغة الفرنسية من أجل دورة تعليمية في الاتصال الإلكتروني، يوضح الأستاذ جان-إيف كروازيه هدفها بالكلمات التالية: "في فلسطين اليوم تتمحور الاتصالات الإعلامية المتعددة حول المقاومة. على الفلسطينيين أن يستخدموا انترنت ليحكوا عن حياتهم اليومية، ليقيّموا ثقافتهم، ليرقوا بإرثهم. يجب إخراج هذا الجيل من الحلقة المفرغة التي يمضي كل شيء فيها بالسلاح والمواجهة ليتمكن من شق طريقه نحو حياة عادية. ما نقوم به هو نقل الكفاءات ليعوّل الشباب على أنفسهم، ويروا شيئًا آخر غير الاحتلال".

تصريح الأستاذ المكلف بالتعاون الفلسطيني-الفرنسي لجريدة "ديرِكت ماتان بلوس" 17 حزيران 2008 الثقافي فيه يدور حول دور الطالب الفلسطيني وأهداف برنامج الجامعة الإلكتروني، أما السياسي، فخطير الأبعاد، يوظف الثقافي في خدمة السياسي من أجل التطبيع مع الاحتلال، يكفي أن نقرأ "في فلسطين اليوم"، وكأن فلسطين موجودة ومحررة، وأن نفهم من غير المجدي أن تدور المقاومة لا على انترنت ولا على الأرض، وهذا ما تسعى إليه سلطة محمود عباس ميرزا الوهابي، أن نتعامل مع الاحتلال وكأنه لم يعد موجودًا، مؤتمرات، ندوات، مهرجانات، محاضرات، كتب تصدر، كتب تصادر، تين خُرطماني يُصَدّر، وتين خُرطماني يستورد، الحياة يا عالم تحت الاحتلال طبيعية، إذن مِمَّ تشكون؟ فليحي الاحتلال إذن!


نعم، الحياة عادية هنا في فرنسا، كما تقول ليلى، إحدى الطالبات المحظوظات، والجامعة بالمجان لا كالجامعة تحت الاحتلالين العسكري الإسرائيلي للبلد والعباسي المالي للجيب! نعم، الحياة عادية هنا، وهنا كافة الحريات، من حرية التنقل دون مجنزرات "التشيكبوينتات" إلى الاحتفاظ بغطاء الرأس "الفولار"، ولكنها الحياة في فرنسا، ويا لحظنا عندما نقع في ضمائر أولادنا وبناتنا على شرارة وعي "فطرية"، فخوف ليلى على فلسطين من الزوال يدفعها إلى تكريس كل الكفاءات التي حصلت عليها هنا من أجل فائدة كل الفلسطينيين هناك. تقول: "نحن الجيل الجديد الذي سينقذ فلسطين حين العمل على تطورها".


تطورها تحت الاحتلال، يا ليلى؟

كل الخطر يكمن في هذا.


هذا لا يعني أن نوقف التطور بانتظار أن نطرد المحتلَّيْن العباسي والإسرائيلي، وكذلك ألا نصدّر تين علي الخليلي الخرطماني، بانتظار أن يتمكن الفلسطينيون من مسح بصاق أوسلو عن وجوههم.


سيقول قائل على الفلسطينيين أن يقوموا بالاثنين معًا، التطور والتحرير. مع سلطة فيشي الفلسطينية، أيمكن هذا، أن يقوموا بالاثنين معًا؟ لهذا السبب، تفتح جامعات فرنسا أبوابها للطلبة المحتلين، لأن سلطة فيشي الفلسطينية تعمل وكأن الاحتلال الإسرائيلي انتهى، وكأن التحرير حصل، وفي الواقع، لن يكون أبدًا.


04.07.2008




الكلام الشعري والكلام العملي العالم الخيالي والعالم اليومي في بوهيميا الخراب


الاختلافات والتعارضات والتقابلات بين الكلام الشعري والكلام العملي العالم الخيالي والعالم اليومي لدى المنظر الأدبي الألماني هانز روبرت جوس لهي ركن أساسي من أركان جمال الاستقبال، ولكنها تتوقف على درجات التعود على إدراكها والإحساس بها، وهذا ما توجبه قراءة رواية "بوهيميا الخراب" لصلاح صلاح، رواية أشبه بالمُسارّة، تلك الاحتفالات التي كانت تقام للوقوف على أسرار الديانات القديمة والجمعيات السرية الحديثة. فالمستقبِل وإن شئت القارئ الذي لم يجر تحضيره لقراءة هذا النص سيطغى عليه إحساس بالانتهاك لثقافته وعالمه وإنِّيته، ما يفرق الكائن عن سواه، ويضفي عليه الذاتية الخاصة به، إحساس مرتبط بالقطع مع عالم ثقافي عادي جليدي سرطاني تم في عالم الرواية ولم يتم في رأس القارئ المليء بتجارب النوع الأدبي القديمة وأشكاله ومواضيعه ولغاته المحنطة التي تخجل من الحديث عن حيض المرأة مثلاً ومني الرجل تحت ذريعة مفادها أن على الأقلام أن ترتدي برقع البراءة. فبعد مسافة سردية قصيرة من التفكيك في الفصل الأول والتداعي، يتحرر السارد من السائد، ويلجأ إلى التقطيع على مدى الرواية، مع انطباع أن هناك روايات لا رواية، لكن طريقة الكشف والمكاشفة التي كانت للتشكيل الروائي، جعلت منها وحدة واحدة، وبنية واحدة، وصرخة مديدة واحدة ضد الطغيان. حين الكشف لدينا حدث ووقائع وتحليل، وحين المكاشفة لدينا حقائق يسعى السارد إلى دحضها أو إثباتها. وفي المكاشفة مواجهة! إنه أسلوب المصارحة والتشهير، ليس قول ما لا يقال ولكن قول ما يجب أن يقال. لهذا جاء النص عن المرحلة الصدّامية (من صدام) دون رموز أو غموض (كل شيء فيه على المكشوف)، واستطاع أن يعكس في أبعاده الفنية والإنسانية أحط درك من الدونية وصل إليه الإنسان! إن صلاح صلاح يضفي بعدًا آخر على ما قاله جوس، فلديه اختلاف وتعارض وتقابل بين الكلام الشعري والكلام العملي، ولكن الكلام العملي (اللغة السوقية) يتسامى لديه والكلام الشعري (جنون اللغة)، كما أن العالم الخيالي لديه والعالم اليومي ينهلان من السيميائية المذهلة للخراب.


مع الأسف النص مشوه بغلطاته المطبعية واللغوية عشرات الغلطات بل مئاتها من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة قال لنا المؤلف إنه اعتمد على الناشر الكسول في تصحيحها.


مع الأسف هناك الكثير من التكرار والكثير من النُعاظ، الشبق المفرط لدى الرجل، مما يسبب الملل حتى عند القارئ الذي جرى تحضيره لقراءة مثل هذا النص، فيتراوح بين التمتع والتلذذ بالمعنى الذي يراه بارت، والتلذذ كما يراه بارت أثره سلبي.


مع الأسف من ناحية اللِفاظة، علم الألفاظ، استعملت بعض المفردات من حيث علاقتها بالمجتمع الذي تعبر عنه وخاصة من حيث علاقتها بدلالاتها التي يرمي السارد إليها استعمالاً ليس في محله بدءًا بالعنوان "بوهيميا الخراب"، فالبوهيمي هو الأفّاق المتشرد المترحّل، وصلاح صلاح لا يرمي إلى التشرد صفة للخراب، والبوهيميا ليست بلاد بوهيميا المعروفة على خريطة الجغرافيا، هي بالأحرى سلوك فرد أو جماعة وليست معيارًا لخراب بلد ودماره، إلا إذا كان المقصود هنا بوهيميا الإنسان في خراب العراق.


أما الملحوظة " أي تشابه بين الأسماء الواردة في هذه الرواية مع أسماء حقيقية هو محض صدفه" التي تبدأ بها الرواية، فهي تدفع إلى الابتسام: عبد الستار ناصر الذي ورد اسمه مئات المرات أليسه عبد الستار ناصر؟ ولطفية الدليمي أليسها لطفية الدليمي؟ وحميد سعيد أليسه حميد سعيد؟... الخ.


هذا لا يعني أن النص في شكله الحالي غير ممتع وغير مرهق وغير غير، هل أقول عنه مدام بوفاري عصرنا؟ وصلاح صلاح فلوبير هذا العصر؟ مدام بوفاري الخارجة عن السائد الخارجة عن المألوف الخارجة على القانون رُفضت في زمنها... بوهيميا الخراب كتاب عن أمة لأمة لا تقرأ!




السندباد بين خيال الشاعر وعقل الفيلسوف

منذ عدة سنوات قرأت رواية "آخر الأسرار" لمحمد الغزالي مخطوطة، وقرأتها اليوم في كتاب، وفي كل مرة أستمتع بقراءتها، وإن اختلفت زاوية القراءة، وإن تمايزت أبعاد الرؤية، وإن تبدلت درجات الهيمنة، فسلطة النص هنا لهي سلطة القول بل عملية القول التي يغدو القارئ جزءًا منها، وعنصرًا من عناصرها، فتلتغي الحدود بينه كمرسلٍ إليه وبين عوالم ألف ليلة وليلة حديثة يرسلها الكاتب بعد أن يكتبها بكلمات يمعن فيها الفكر تارة أو يرسمها بصور يتخيلها ويخيل بها تارة، وينجح في بناء رمزية العمل التي تحكم تجربته عندما نقف في نهاية الرواية بعد تشغيف طال ما طال الروي على السر الأخير، مغزى النص المتمثل بالنسر الدليل والمرشد والمريد تحت شرط ألّا يعرف المرء سره لئلا يزول أثره ومع أثره الميتولوجيا التي هي وجود السندباد، الإنسان العربي، ومع وجوده الوجود ذاته. والسندباد الرحلة أو الشخصية الحاملة للسر الحالمة بالسر لهي شخصية سرية مركبة، فكل شخصية من شخصيات الرواية عبارة عن سندباد على طريقتها، لكل منها حكاية ولكل منها رحلة في الحياة، وكل واحدة معجونة بالتعب والهموم والأوهام، وهي "نصفان حلال وحرام بينهما التيه والحيرة" ص89، صورة عن الفاجع السندبادي الميتافيزيقي، فاجع الإنسان المعاصر. كل امرئ سندباد على طريقته دونما حاجة به إلى الرحيل، هذا هو الوجه الآخر لرمزية العمل، ميناؤه اليوم أين يوجد، وميناؤه منفاه، العالم اليوم هو المنفى. هذا هو البعد الوجودي للرواية والارتقاء الكوني للروي. الموت المقنن والجاهز ص87 هو المصير الذي ينتظر الإنسان في المنفى. تلخيص للزمن في لحطته الأخيرة القائمة، القاتمة، آخر سر، آخر لحظة، وهذا هو الموقف الحضاري للرواية والوعي العميق لفحوى الروي: المضمون الروائي. لهذا تتحول باريس في النص كفضاء حدثي ودلالي إلى مدينة طحلبية، تقوم مطاعمها وحاراتها وناسها في رحمها الرمزي، ومعها كل القيم الثقافية والأخلاقية والدينية. ويحضرني هنا رأي لديكارت يتوافق ومُلْك المَلَكات لدى بودلير عندما شبه بَذر العلم بالنار في الصَوّان يستخلصها بالعقل الفيلسوف وبالخيال الشاعر، فيسطع بها أكثر.

روائية الكلام مبتكرة، فهي التونسية الدارجة يقلبها الراوي فصحى، وكذلك روائية الشخصيات، شخصيات تونسية أصيلة، وكذلك روائية الأحداث، الأسماء، النوستالجيا... يوجز الكاتب روائيته السردية على لسان أحد أبطاله بهذه الكلمات: "المهم أننا حين نلتقي بصديق، إما أن نتحدث ونسر إليه بأشياء وهو يتلقى ويسمع، وإما أن يشكو هو ويحكي ونحن نقوم بدور السامع. وقليل من الناس من يتحاورون ويستمع كل للآخر حسب دوره وباحترام لمنطق التناوب"ص25.

روائية سندباد أشبه بالخرافة: "أي سندباد؟ أهي رحلة ذلك الرجل الذي في كتاب ألف ليلة وليلة؟ إنها خرافات... لا، ليس هذا. إنه صديق لي." ص25 فهي خرافة من نوع معاصر، اختراع سردي لرحالة يبدأ رحلته من أحد أحياء باريس الشعبية وعلى خطى ابن بطوطة سيتجول عبر العالم، فنقف على روائية التاريخ قديما (غرناطة) وحديثا (أحداث 11 سبتمبر) "نركب عالمنا المركّب، ومن لا يفهم الجزئيات لا يأبه بالكليات" ص32 و كالسر المركب الذي هو آخر سر لأن آخر الأسرار هو سر أن تحفظ سرًا إذا به سندباد مركّب أيضا من عربي وغربي، روائية الشخصية، من انترنت وبساط الريح، اسمه آشور السندبادي وضمنا عاشور التونسي، ولغته كذلك مركبة، لغة هذا السندباد من عصر ذلك السندباد، سندباد بلزاك وسندباد ألف ليلة وليلة، روائية اللغة، حتى إن دخول الجميلة الأسبانية "ألبان" دخولها السردي، لهو دخول ألبان الخيالية الألف ليلية، يتم في قلب الغرب على طريقة شهرزاد، دخول مفاجئ وفارض لنفسه في بنية الروي: "-السلام عليكم. –وعليكم السلام ورحمة الله. أصابه ما يشبه الذهول. –هل أستطيع الاستراحة هنا قليلاً؟ رد وعيناه تائهتان: -نعم. طبعًا. هذا المكان للجميع. وفكر: من أين نزلت هذه الغانية الشابة، وأين ستذهب؟" ً33 كل ما له علاقة بهذا السندباد الأدوات الروائية المفاجآت الروائية المصادفات الروائية المحطات الروائية مثلما هي عند ذلك السندباد. وهو حاضر في السياقين الأكبر والأصغر من خلال متابعة الشخصيات لرحلته عن طريق السؤال أو التذكر، وحاضر لدى الراويين الآني والماضي من يحكي حكاية من هنا (زمن باريس) حكاية فريدة مثلاً ومن يحكي حكاية من هناك (زمن سندباد) حكاية ألبان مثلاً.

روائية السؤال: "هل هي الصورة الحقيقية لسر النسر الملكي؟" ص60 "هل أنا جابر ميمون أو ابن عمر؟ لماذا أطلق علي هذه الكنية؟" ص40 "ماذا لو غادر النسر اللوحة وذهب بعيدًا ينير طريق السندباد؟" ص71 ليس عن الحقيقة أو عن الهوية أو عن التنبؤية فما هذا سوى واسطة سردية ولكن سؤال الروي سؤال يجر سؤال من أجل حكاية تجر حكاية وشهرزاد تجر شهرزاد، تعدد الراوي بتعدد الشخصيات، أبطال شهرزاد هنا ينطقون ويتقمصون شخصيتها، مع كل مكونات البنية الشهرزادية، خاصة مكونات الفتح وعدم الغلق والقطع وعدم الربط والقص وعدم اللصق والبدء وعدم الانتهاء التقاطع السردي الطرح ثانية للبحث الحضور المفاجئ: "فجأة دخل فارح" ص43 والغياب المفاجئ.

روائية التعزيم ص74-76 تعرف أن حرق الجني الساكن في جسد فريدة غير ممكن في الواقع وغير معقول لكن جمال المقطع وقوة بنائه يجعلانك تعيش المشهد وتستمتع به، فالراوي يلعب اللعبة متقمصًا شخصية الشيخ وخطابه، لا أريد أن أقول متبنيًا قناعاته.

روائية السياسة عندما يقول الاحتلال الإسرائيلي دون أن يقوله: "أما الرحلة الثانية فتبدأ في مصر وما تبقى من فلسطين إن استطاع..." ص83 كلمتا "إن استطاع" تشيران إلى الاحتلال ولا داعي إلى أن تسمياه، فالإشارة الجاكوبسونية محايدة وعميقة، ولكنها هنا أقل حيادية وأقل عمقًا: "ألا تعرف يا جابر بأن الصهاينة يراقبون كل شيء ويجب ألا يفوتهم أمر عظيمًا كان أو حقيرًا إن عيونهم في كل مكان..." ص90 الفانتازم الفلسطيني العربي عن الصهاينة! وتملح الروائية السياسية في النص أو تنفّر، تملح عندما تبتكر التفسير لمقولة تاريخية: "يا أخي أنتم وغيركم لم تفهموا العبارة (أن تلقوا اليهود في البحر) لا يعنى أننا نبيدهم ونغرقهم بل إبعادهم ليعودوا عبر البحر إلى البلاد التي جاؤوا منها..." ص92 وتنفّر في كل الحوارات السياسية التي جاءت في المتن كله والتي لو حذفت لما أثر ذلك في جسد النص ولا في سيميائيته.

لا روائية النقد العربي تدفع إلى الغضب والاستنكار، فهذه الرواية التي صدرت في تونس منذ سنتين دون أن يقرأها النقاد تدين مثل هؤلاء نقاد، وتؤكد العدم عدمهم أو الكسل! أما زالوا يثرثرون عن "السد" والسد قد تفجر وجرفهم معه أم أن اللوز المحمص مع كأس بيرة على رصيف مقهى أحسن لهم من كل الروائع في العالم إلا روائع نزولهم إلى حضيض أسفل سافلين؟




659 رواية فقط لبداية سنة النشر في فرنسا


بداية سنة النشر في فرنسا هي ما بين 13 أغسطس و28 أكتوبر، تصدر خلالها آلاف الكتب التي منها هذه السنة فيما يخص الأعمال الروائية 659 رواية فرنسية وأجنبية، هذا العدد الذي هو في انخفاض ب 10 بالمائة بالنسبة للعام 2007. وتتساءل الصحافة إذا ما كان سبب ذلك الأزمة الاقتصادية العالمية، حتى في الرواية الاقتصاد له دور، أو أنها إشارة من إشارات الزمن، وقد أتى هذا النوع من الأدب في الغرب أكله؟ الروايات الفرنسية انخفضت بمقدار 63 رواية والأعمال الأولى بمقدار 15 عملا، بينما الروايات الأجنبية ازدادت ب 10 بالمائة، ما خسره الفرنسيون في سنتين، وذلك بنشر 229 عنوان. لا أريد هنا أن أقارن بين ما نشره العالم العربي أجمع في عشر سنوات وهذا الكم المنشور في فرنسا في سنة واحدة والمأسوف على نقصانه، ولا أريد أن أمارس فن اللطم الإعلامي على حالنا الأدبي الذي هو من حالنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والكابوسي والعفريتي و... و... وما يجب علينا فعله، وما لا يجب علينا فعله، ولو فعلنا، ولو ما فعلنا، ونحن، وهم، وكيف، ولماذا، فهذه هي حالنا في كل كتاباتنا عندما نرمي إلى المقارنة بيننا وبين الغرب، أن نجلد الذات، ونذهب لننام بعد ذلك منتصرين! ما أريده الإشارة إلى شيئين الأول أن الرواية كنوع أدبي تعيش حالة من الانحسار والانحصار والتقهقر والهجران، ولذلك علاقة بالهجوم الكاسح الذي تشنه التكنولوجيا الجديدة ليس على الرواية فقط بل وعلى المنشور المقروء الجرائدي أو الكتبي، وصعود الرواية كما كان يقول لوكاتش كنوع مرتبط بصعود البرجوازية غدا حكمًا نقدويًا مشكوكًا في أمره، فما أكثر صعودها اليوم. الشيء الثاني انتهى اليوم عهد الروائيين العظام أمثال ستندال وبروست وجيد وسيلين في فرنسا على الأقل، وما تنتجه فرنسا اليوم من أعمال روائية ليس إلا بمستوى كتاب صغار من عندنا.

الجوائز واقتصاد الكتاب نشره وتوزيعه والدعاية له هي من توهم بوجود الأدب الروائي، وقد غدا قانونه مثل أية سلعة قانون الربح والخسارة، قيمته في المال وليس في الإبداع.


يبقى هنا في الغرب قارئ يقرأ تحت تأثير شيء ما ولكنه يقرأ وهناك في الشرق قد انعدم القارئ الذي هو منعدم أصلاً بانترنت أو بدون انترنت.





عندما يكون القارئ رائعًا والكاتب أروع


قراء "باريس القدس" لا يتجاوزون المائتين، ولكنهم برهافة ذوقهم وحسهم وعاطفتهم يعادلون مائتي ألف قارئ، من هنا تأتي ثروة هذه الجريدة الإلكترونية، وهي في جدها اليومي واجتهادها ترمي إلى الحفاظ على هذه الثروة، ومضاعفتها في سوق الكلمة من أجل اقتصاد إعلامي وثقافي مزدهر يتحدى الكساد السائد، ويحاول أن يتجاوز أزمة الخطاب بروتينيته، واجتراره، وحفره في الدماغ، الرامي إلى إخضاع العقل، وذلك في الاتجاهين، اتجاه الناقد واتجاه المنقود، لأن كل أقلام الفكر السائد، يمينًا ويسارًا، تكرس بإرادتها فيما يخص الأوائل، وبغير إرادتها فيما يخص الأواخر، أطروحات النظام العربي-الإسرائيلي-الأمريكي، فاللطم في آخر المطاف واحد، والوعد كالوعيد يجري تجيير الواحد والآخر لصالح رأس الأفعى هذا الثلاثي... وما ينقذ العقل في "باريس القدس"، ولو القليل، أن صفحات موقعنا مفتوحة لكل التيارات ولكل الاتجاهات ولكل المذاهب ولكل المعارف، "باريس القدس" منبر متعدد المعارف، وهو يعي الصراع ما بين هذه المعارف، وبالتالي لا خوف على القارئ النبيه من الوقوع في مطب المعرفة الأحادية، والإعلام الأحادي، والاتجاه الإيديولوجي الواحد المدمر بإيجابياته السرمدية أو بسلبياته الثابتة. لهذا على "باريس القدس" كموقع حر ومتعدد أن يَبْرُزَ من بين كل مواقع العسل والبصل الأخرى السائدة، وهو يومًا عن يوم يبرزُ وينتشرُ، ببطء هذا صحيح، ولكن بعزم وثبات، وأجدني أهيب هنا بكل الأصدقاء من كتاب وقراء العمل على انتشاره وتعميمه والدعاية ما استطاعوا له، إنه واجبهم نحوه، في الاختلاف، ومن أجل مقاومة السائد، من أجل التغيير في الكتابة، في الكلمات، في المعاني، في الدلالات، وفي الحياة.




فهمنا للتغيير شيء جوهري، فالمواقع التي تقاطعنا نحن ننشر موادها، المواقع التي نحن ضدها نحن ننشر مقالاتها، وكالات الأنباء التي تتجاهلنا نحن ننشر إرسالاتها، الأقلام التي تهاجمنا نحن ننشر نقدها الموضوعي وغير الموضوعي لنا، فقط الأشخاص المفلسون الذين هم مغرمون بنبش الضرائح والقبور والاعتداء على أدبي وسمعتي بتدبيج حكايات دونية عني وعن كتبي عمرها نصف قرن أو يزيد ورشقي بألفاظ سوقية نحن لا ننشر لهم لا لسبب وإنما لمستواهم الأخلاقي وعدم احترامهم لشخصي.


فهمنا للاختلاف شيء أكثر من جوهري، "فباريس القدس" ليس موقع أفنان القاسم إنه موقع القراء والكتاب على شتى أفنانهم، لهذا موقفي شيء، وموقف الموقع شيء آخر، موقفي لا يمنع نشر موقف الآخر، وما يتم نشره لا يعني اتفاقي مع صاحبه، ولا اتفاق الكاتب مع ما أنشر، ومع هذا يوجب الموقع على نفسه نشر كل الكتابات ولكل الكتاب، فالموقع عبارة عن عدة مواقع، لكل كاتب وقارئ مكان يمتلكه فيه.





الدين السياسي سرطان الشعوب



مقولة ماركس الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" عمل على تحريفها النظام السياسي لمحاربة الشيوعية تحت ادعاءات لا تعد ولا تحصى، كما يجري اليوم مع الإسلام، من التهويل والتهويم ولإخضاع هذه الشعوب ذاتها بعد أن يغدو الدين سوطًا سياسيًا ومِكبحًا لكل تطور، لأن الدين السياسي هو أفيون الشعوب لا الدين كإنتاج ثقافي غير مادي نجده جنبا إلى جنب مع باقي المعتقدات والعبادات والطقوس والأساطير والحكايات والعادات، لكنه للنظام السياسي والنظام الإيديولوجي أهم أسس البنية الفوقية من قانوني ومدرسي وثقافي يشكلها هذان النظامان لغاية في صدر يعقوب دوما، والتي هي السلطة والتسلط. وأبتعد أكثر عندما أقول إن الدين السياسي سرطان الشعوب يضرب في جسدها ضربًا إلى أن يرميها أرضا، فيدوسها التاريخ ويمضي. هذا ما حصل مع الإمبراطورية الإسلامية في الماضي البعيد، وهذا ما حصل مع الإمبراطورية السوفييتية في الماضي القريب بعد أن حولت الماركسية إلى دين بيروقراطي، وهذا ما سيحصل مع الإمبراطورية الأمريكية وقد تعدد الدين السياسي لديها تعدد سرطانات اليوم، فهو الدين السمائي والدين الدعائي والدين الاستهلاكي والدين التلفزي والدين الموضوي والدين الحُلمي والدين الاستيهامي... لهذا السبب التغى اسم الله بين الناس، فالله هو انعكاس للعالم الموضوعي بما وصل إليه من تقدم وللهموم التي تنتج معه، وعلى عكس عالم التخلف، على عكس العربي الذي يذكر اسم الله في حله وترحاله، ويراه في كل شيء ومن كل شيء حتى من ثقب الباب، يتذكر الغربي الله، وليس كل غربي، يوم الأحد عندما يذهب إلى القداس ثم يريحه من أعبائه المادية التي لا تعد ولا تحصى أسبوعًا كاملاً، وهكذا دواليك. لقد فهمت الكنيسة أن السرطان سيستشري في جسد شعوبها وفي جسدها، فقبلت باستئصال سلطة البابا، وتبنت العلمانية كعلاج، ولقد فهمت الدولة أن السيطرة على الشعوب هي سيطرة بالحريات التي عددناها كأديان وليس بالقمع الديني أو البدني.


بعد أن نامت الشياطين الحمر ومن قبلها الزرق، أيقظ الأمريكان الشياطين السود، كل شياطين الدين القدامى عندنا لأنها على صورنا نحن المنتمين إلى بنى متخلفة لننشغل ببعضنا في الوقت الذي تذهب فيه ثرواتنا ثروة النفط على الخصوص إلى أسواقها دون أي عائق.


الدين السياسي هو اختيار جهاز القمع العربي التونسي المغربي الجزائري الليبي السوري اليمني القطري السعودي المهترئي المتعهري، والدين القرآني المسيحي التوراتي البوذي الكونفوشيوسي اختيار شخصي نحترمه.


الإسلام كالمسيحية كالتوراة جاء من أجل إرساء العدالة لهذا كان عظيمًا في مهده وفي زمنه وتحت شرطه الاجتماعي، وعندما تبدل بقوة الأشياء شرطه، أُقحم في الجهاز السياسي، وجرى تسييسه الذي أدى إلى مقتل كل الخلفاء الراشدين ما عدا أبي بكر –كان عجوزًا ولو امتد به العمر لمات هو الآخر قتلاً- ومنذ ذلك الزمن البعيد تحول إلى سرطان على أيدي حكامه ليبقوا حكامًا ولو على جثثنا.


التطور تحت كل أشكاله ليس مرتبطًا بدين أو ملة، فهم الغرب هذا، وسيفهم الشرق هذا. الصدق والنقاء والحب والعدل والمتعة وكل القيم، كل واحدة منها صاحبة شرطها، والدين ليس شرطها، يمكن أن يكون شرطها مع غيره من أركان البنية الفوقية، ولكن أبدًا شرطها الوحيد.

باريس 2010



أيقونات توت العليق لإلياس لحود (1)

عندما تكتسب الأيقونة معنى جديدا وفهما جديدا


"المرأة وصورها حول المرآة" عنوان القسم الأول من ديوان إلياس لحود الأخير "أيقونات توت العليق" يحير ولا يشفي الغُلة وبالتالي يدفع إلى التأمل والتساؤل والبحث في القصائد عن الأجوبة، وهذه هي أهم الخطوات التي يرجو الشاعر من القارئ قطعها، فالشعر تجربة "بيشخصية"، دونها لا يوجد شعر، ولا يوجد سحر. عدم الاكتفاء بالمرأة وصورها عنوانا يشير إلى الصور التي يجدر البحث عنها حول المرآة وليس فيها، الصور السرية الخفية التي لا تُرى والتي يراها القارئ كما يشاء، خطوة أخرى هامة نحو المقروء. وعلى غرار هيغو وكل الشعراء الرومنطيقيين، يدل إلياس لحود على الدلالة، ويؤشر إلى الإشارة، ويفتح حقولا شاسعة للمعرفة.


في القصيدة الأولى الأيقونة الأولى "الوجه" نقرأ: صورٌ حولَ المِرآةْ/عن أولِ حبّ…/عن أول شكلٍ من أشكالِ الجسدِ المختومْ/وجهي فيها/وجميعُ فمي الأعمى فيها/والشمس المُسندةُ الرأسِ على كَتِفِ الجبلِ الأشيبْ/:مِصطبةُ في مقتبلِ العُريِ/وسيدةُ لمْ تبلغْ بعدُ جواربَها/


الصور التي عن (أول حب) والصور التي في (الوجه) والصور التي على (الشمس) والصور التي لم (السيدة)، كل هذه الصور حول المرآة، وكلها صور لامرأة ليست صورها، الفم أعمى بدل العين والجبل أشيب بدل الشيخ والمصطبة في مقتبل العُري بدل البنت والعُري بدل العُمر والسيدة بنتٌ لم تبلغ بعد جواربها بدل سنيها، كل هذه الصور من حول المرآة التي فيها الوجه وينظر منها فتأخذ أشكال الجسد، تقترح أشكالا جديدة ذات معان جديدة وفهم جديد.

صورٌ حولَ المرآةِ/أُخبئُها/من أكثرِ من عِشرينَ تُرابا والمرآة وحيدةْ/لم تَخْتُمْ بعدُ بقُبْلتِنا المبصومةِ آخِرَ مقطعِ حُبِّ/من أولِ ألفِ قصيدةْ/

الإبدال المصطلحي القلب المعنيي الوقع المقطعي القطع الدلالي الوصل العلامي كل هذا يُغترف دوما وكما رأينا من حقل الجديد في الشكل والفهم والمعنى، ولكني هنا أريد أن أتكلم عن التشكل الشعري، لأن إلياس في ديوانه هذا يرمي إلى الابتعاد أكثر بقصيدته والقصيدة العربية، والتشكل الشعري كما أراه ليس في تقليد الطبيعة، فنحن في هذا الديوان نحترق مع توت العليق، وإنما في تطبيع الطبيعة، وأعني بالتطبيع التطويع لغايات أخرى غير المحسنات تمحو الحدود بين الطبيعة والطبيعة البشرية، فالتراب عمر الناس والمرآة المرأة والقبلة الإبهام.

بدلاً من أن تكون الأيقونة لمريم الأيقونة للمرأة.

يغدو عالم السحر عالمنا.

ندخل الأيقونة ولا نعبدها، نصبح نحن موضوع العبادة، موضوع القصيدة، ننتمي إلى ما حولنا وليس إلى ما فيها.

بدلاً من أن نطالب بتحطيم الأيقونة نحفظها.

الأيقونة اكتسبت معنى دلاليًا جديدًا وفهمًا معرفيًا جديدًا.



أيقونات توت العليق لإلياس لحود (2)


السبر الشعري والمنطق الرمزي


تبدأ القصيدة الثانية الأيقونة الثانية "البلدة" بهذين البيتين: كان يوما جميلا/طعمُهُ امرأةٌ عارية، تبادل الدلالة بين البلدة والكلام عن طريق الاستعارة يجعل التداخل بينهما طريقا في تشكيل القصيدة، ويصبح للسبر الشعري صفة للسبر المكاني وقد دخل المكان حيز التخيل، وعلى غرار أبوللينير عندما جارى القصيدة باللوحة يجاري إلياس لحود القصيدة بالمكان، المكان كفضاء هو في أساسه شعري كاللوحة بطبيعته أو على طبيعته، والذي هو الريف اللبناني البلدة اللبنانية البلدة الجنوبية البلدة الجليلية، فهي بلدة دون اسم كما سنرى، بلدة كونية، وسيراها الشاعر في بيتٍ تالٍ من الزاوية الفلسطينية. وعندما يقول "كان يومًا جميلاً" من أيام البلدة التي يريد منا سبرها وارتيادها إذا به يضيف "طعمُهُ امرأةٌ عارية" ليتحول بنا السبر والارتياد إلى سبر القصيدة وارتيادها، فطعم المكان، تحت صورة اليوم الجميل، الصورة الزمانية للمكان، هو المرأة العارية، الصورة المكانية للزمان. لاحظ أنه لا يقول "كان بلدًا جميلاً" ويقول كان يومًا جميلاً، وأنه يقول "طعمه المرأة العارية" ولا يقول "طعمه طعم المرأة العارية"، لأن الشاعر المدفوع بِهَمّ دوام الوجود الفلسطيني تحت عنصري الزمان والمكان الأبديين على أرضه رغم اجتثاثه من هذه الأرض يمحو ما لا يدركه القارئ بخصوص خصوصية الزمان المتمثلة بإزالة الحدود بين المكان والزمان، وما يدركه القارئ بخصوص خصوصية المكان المتمثلة بطعم المرأة، كي يعمق من صوره ورموزه، ويؤسس لألوان وأذواق ومجازات وطرائق في الفهم والكلام جديدة، وعلى قاعدة هذه الظاهرة اللغوية لديه يقوم المنطق الرمزي لكل قصائده.


من الرأسِ حتى يماماتِ جدي/من البيتِ حتى هديلِ الجليلْ.../تذكرتُ/كانت لنا بلدةٌ واسمُها؟؟/(دعكَ منْ اسمِها).../بلدةٌ منْ جَواريرَ ملأى خُزامى/تُرفرفُ عَبْرَ الحواكيرْ/إلى زمنٍ لمْ يَجئْ مرةً من مخابئِهِ في أعالي القصيدة/لمْ يذُقْ حُلْوَ رُمانِنا.../أو فماً في جريدةْ/

كما قلنا التداخل بين المكان الذي هو البلدة في الواقع والمكان المتخيل الذي هو البلدة في القصيدة هذا التداخل لهو أساس التشكيل الشعري، فالرأس والبيت والاسم والجوارير والحواكير والرمان والجريدة كلها دوال حقيقية لمكان حقيقي، ولكن ليس لهذا السبر المكاني غور السبر الشعري للمكان نفسه وقد دخل حقل الذكرى "تذكرت" حقل المتخيل: "من الرأس حتى يمامات جدي" بدلاً من الرأس حتى القدم. التحليق هنا مهول لأن المدلول قرية غارقة في ضباب الماضي اندثرت أو صارت إسرائيلية، والزمن من خلال التحليق –لم يجئ ذكر اليمامات كاستعارة سدى- يتصاعد إلى أعلى إلى أبعد إلى أعمق، فهو زمن الجد البشر التاريخ، ولا يتساقط إلى أسفل إلى تحت إلى السطح مع العبارة المعروفة والمستهلكة "من قمة الرأس حتى أخمص القدم". هذا ما دعوته بالتأسيس لطرائق في الفهم والكلام جديدة، وهذا ما يؤكد المنطق الرمزي اللحودي.

يمكننا أن نقول الشيء نفسه بخصوص الأبيات الباقية من هذه الأيقونة القصيدة القصيرة: "من البيت حتى هديل الجليل"، هديل بدلاً من قمم، وهديل كتعميق ليمامات، وتموسق دلالي، وخاصة كتشكيل استعاري لا ينفي الجليل كفضاء أسطوري ثابت ودائم للفاجع الفلسطيني وينفي اسم القرية الجليلية "دعك من اسمها" يقول الشاعر، فهو يسعى إلى أن يصنع من قريته المندثرة أو المتسرئلة قرية حلم وقرية للحلم الشعري الحلم الأبدي الحلم الخالد، الذي هو "بلدة من جوارير ملأى خزامى"، وبلدة يمامة "ترفرف عبر الحواكير": هاجس التعميق الخاص باستعارة اليمامة وهاجس التحليق الملخص لسريالية أبوللينير، فعلى إلياس مهمة النحات لأربعين سنة من الشعر الخاص به ومسؤولية الوارث لمائة سنة من الشعر الخاص بغيره، والبلدة اليمامة هذه تذهب إلى "زمنٍ لمْ يَجئْ مرةً من مخابئِهِ في أعالي القصيدة"، لا يقول أعالي الهضاب هضاب الجليل تبعا لمنطقه الشعري دومًا، ودومًا للشاعر نفس المسعى فيما يخص الزمان بعد أن أدخل المكان عالم الحلم الأبدي ها هو يدخل الزمان العالم ذاته في القصيدة أو الحلم، الأمر سيان تحت شرط المجيء، فهو زمن قادم لا ريب وزمن جديد كل الجدة لم يجئ مرة واحدة ليذوق "حلو رُماننا" بما أنه لم يذقه بعد، وليبوس "فمًا في جريدة" بما أنه لم يقرأ بعد ما ستقول الأفواه عنه في اللحظة القادمة الحرة لفلسطين.






أيقونات توت العليق لإلياس لحود (3)


الوصل والفصل القراءة والكتابة


من الممكن اعتبار القصائد الثلاث "الفينيق" "السرير" "كلام الجدة" قصيدة واحدة مؤلفة من ثلاث وحدات متتالية، فالتزامن ما بينها واحد، والتماكن ما بينها واحد، الواصل ما بينها الشاعر-الراوي: يقول "أروي" في الفينيق، ويضيف "لا أشبع من وجهك" في السرير، ويواصل "أطلقوني إذا غَلَّ تموزُ بين الحفافي" في كلام الجدة، وأداة الوصل ما بينها نحوية عامة وبحرية عامة. لكن البنية السطحية للقصائد الثلاث تظل مشروطة بشَرطية منفصلة نحوية خاصة بكل منها وبحرية خاصة بكل منها. هناك أيضا وصل وفصل على مستوى العبارة المخالفة للمألوف، في الفينيق نقرأ: قلبي يدٌ/صدري يدٌ.../وجهي يدٌ شهقت تنادي/وفمي يدٌ ودمي يدٌ، في السرير: لا/أشبع من ثغرك.../أشبع من ثغري، في كلام الجدة: أطلقوني إذا غَلَّ تموزُ بين الحفافي/أنا ما تبقى من الصيفِ في بالِكُم/أنا عَقفةُ السنديانِ/وقطفُ الخُطى بالخطى. القلب اليد والثغر القُبلة وتموز الجد كل هذه العبارات الغريبة أداة وصل تضم الفَرع بالأصل، وهي في الوقت ذاته أداة فصل بين القلب واليد الثغر والقبلة تموز والجد على مستوى العبارة وعلى مستوى الموضوعة فيما يخص كل قصيدة. القصيدة الأولى موضوعتها موضوعة الفينيق المعروفة مضافًا إليها "التكحيل" الشعري اللحودي: وتحل في جسدي/بلادي.../أَمسي التراب مشيدا/وغدي الفضاءُ على امتدادي... البلاد الجسد، الأمس التراب، الغد الفضاء. القصيدة الثانية موضوعتها موضوعة السرير وما يتضمن ذلك من فعل العشق: لا أشبع من وجهك/لا أشبع من صوتك/ لا/ أشبع من ثغرك.../أشبع من ثغري/وأمص ب"إبهامي"/وأنام... الوجه الأكل، الصوت الأكل، الإبهام النوم. القصيدة الثالثة كلام الجدة منه نكتفي بقراءة هذين البيتين المعبرين عن موضوعة التذكير والتحذير: أطلقوني على مدِّ ضوئي/أنا عَبطة الزعفرانِ (الذي لَمُسُهُ حَجَلٌ وأظفارُهُ برتقال)... العبطة الأنا، اللمس الحجل، الأظفار البرتقال. الاستعارات هنا محيرة لأنها تجمع بين المتزامن والمتماكن، وهذه هي سمة الكتابة، وكل شيء يتوقف على القراءة، على خيال القارئ، فهو من يَصِل وهو من يَفصِل، وهو من يقرن المفيد بالمستحب.


مثل مالارميه في "الأغاني الواطئة" تتعدد لدى إلياس إمكانيات القراءة، وتغدو القصيدة بوحداتها الصغرى وحدة كبرى واحدة وباستعاراتها العديدة استعارة وحيدة واحدة: العناوين ذات دلالات هامة، وهي عناوين تقترح أكثر مما تؤكد.


الكتابة المتقطعة عند إلياس مثلما هي عند مالارميه، حسب دانيال بريوليه، وعند آراغون أيضًا، لا تمنع أبدًا امتلاك نصوصه لوحدتها الخاصة بها، وهذه الوحدة لا تُعطى دفعة واحدة، وإنما على القارئ "نصف المبدع" أن يقوم ببنائها.



تعليق على أطفال الندى


تراجيديا المكان في رواية "أطفال الندى" للشاعر محمد الأسعد لا تنفصل عن تراجيديا الزمان وكأن إحداهما مرتهِنة بالأخرى، فالتزامن في السرد ينهل من كل ما جرى في "أم الزينات" منذ نشأتها إلى أمس النكبة وغدها، أم الزينات الفضاء الفلسطيني وقد غدا فضاء للإنسانية المفجوعة بزمنها، فالقرية لم تعد موجودة لا على الخارطة ولا على الأرض بعد أن اقتلعها الصهاينة واقتلعوا إنسانها، وأسسوا لتراجيديا هذا الإنسان بطريقة أخرى تختلف عن كل تراجيديات إشيل وسوفوكل وأوريبيد، فمصرع البطل في آخر مشهد من الفاجعة الإغريقية غدا مصرعًا لشعب بأكمله، أو هذا ما تقوله الدراسة الشعرية للنص في بعدها الدلالي، وفي اعتقادي أن تقييم الفاجع في أم الزينات هو تقييم لكل فاجع في التاريخ السابق عليها واللاحق، ولكن دون عمل محمد الأسعد، دون القيمة الجديدة التي أضفاها الشاعر إلى هذا الفاجع، لما جرى أي تثمين له، ولتوقف الأمر عند خبر مقتضب في الموسوعات –كما يقول الكاتب- وطلل من الأطلال في التاريخ، المكان المندثر والزمان الذي زال. أريد التركيز على هذه القيمة الجديدة القيمة المضافة القيمة التي لولا الفاجعة الفلسطينية لما كانت لتحكي عن فلسطين الماضية السعيدة الحرة والحاضرة التعيسة المستوطنة، وكأني هنا –كما فعل الشاعر في كل نصه- أقلب الأشياء لأصل إلى فهمها الضدي، لأن كل شيء هنا هو ضد، ضد الاقتلاع وضد الاجتثاث وضد الموت وحتى ضد الذات وضد الجسد وضد الطفولة، وكل ذلك لتثبيت المع، وفي بعض الأحيان لإثباتها، لأن في ميدان الصراع يتحتم على المرء ذلك، وكذلك في ميدان اللغة التي هي هنا لغة للأشياء، فكل شيء على علاقة باللغة هنا محسوس، حتى لغة الأم وحكاياتها، حتى لغة الأبطال العابرين ومآثرهم، حتى لغة الجن وعنهم، وكأني بالشاعر يريد القول إني موجود وسأبقى والأهم من هذا وذاك سأعود.





محمد حلمي الريشة وعلبة أسبرين


أرسل لي محمد حلمي الريشة ديوانه "قمر وحبة أسبرين" قبل نشره من أجل مقدمة، لكني تفاجأت بقصائد لم يكن فيها طعم المفاجأة، فالشاعر يعيد بالطريقة ذاتها كتابة كل دواوينه، وكأنه يكتب قصيدة واحدة مملة، واقترحت عليه أن يكتب هذا الديوان مرة ثانية –ولم لا ثالثة ورابعة وخامسة؟- حسب ملاحظات دونتها أولاً بأول أثناء قراءتي له، فلم يحاورني، حتى ولو بتعليق صغير لم يرد، بل قاطعني، ولم يعد يجيب على إيميلاتي (سمة من سمات شخصية العام الثقافية التي ساهمت في تلاقح الحضارات والثقافات، حلوة هادي كلمة تلاقح!) وأعتقد أن كلامي قد جعله يصاب بوجع رأس لم تنفع علبة أسبرين كاملة معه، علمًا بأن الشاعر وليس أي شاعر الشاعر الكبير بالفعل يترك غروره (في الحالة التي أقدمها ربما يكون العجز؟) جانبًا لكلمة نقدية واحدة حتى ولو خرجت من فم طفل، ويصغي، لكنه لم يصغ، وأنا كل قصدي ما كان سوى إعلاء شعره والشعر تحت الاحتلالين الأوسلوي والإسرائيلي. الآن وقد حصل على جائزة أسترالية تضاهي جوائز نوبل في قيمتها ومالها (!) –ما يثير الضحك أن مصدرها موقع من بين مئات آلاف المواقع على إنترنيت التي لا تتفضل بتصفحها وأن أعضاء لجنة التحكيم من الأدباء والإعلاميين لا أحد منهم أخبر عن اسمه أو ماضيه الأدبي والعلمي- الآن وقد أرسل هو الخبر لي دون كلمة واحدة من طرفه، وقصده القول: "شوف غيرك إيش بقول عني!" رأيتني أجيب معلمًا أنني سأنشر ما دونته من ملاحظات لناحيتين الأولى لأنني أجد نفسي بعد الجائزة مضطرًا إلى الإدلاء بدلوي فيما يقال عن الديوان وعنه وعلى الخصوص بعد كلمة التقريظ التي لم أقرأ مثلها في بودلير أو رامبو أو آراغون والتي كتبها الشاعر بقلمه –على ما يبدو- فنحن نشتم منها أسلوبه في السجع والسجح والإطناب، والثانية لأن الرأي الآخر المختلف شيء إيجابي يدفع إلى التساؤل، وبالتالي إلى النقاش حول هذا العمل، وفي جو نقدي بناء حول كل أعمال الشاعر. إليكم هذه الملاحظات "الخام" التي أنقلها كما هي، ويا حبذا لو يشارك القارئ في النقاش والتعليق على التعليق، إذ هناك النص والتعليق عليه...


الفَهْرِسْتُ
قَمَرٌ لَا يَلِيقُ بِضَوْئِهِ كل العناوين ليست جميلة!!!!!!!!!!!!!!!! (علامات التعجب كلها مني).

بِوَهْجَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ خُضَّ يُوسُفِي!!!!!!!! .........................
فَوْقَ ظِلِّ عَبَّادِ الأَمْسِ!!!!!!! .....................................
مُسَوَّدَةٌ بَيْضَاءُ!!!!!!!! .............................................
أَوْصَافُ حَدِيقَةٍ مَقْطُوفَةٌ!!!!!!! ...................................
رَغَوَاتُ!!!!!!!!! دَاءِ الفَرْجَارِ!!!!!!!!!!!!! .......................................
كُؤُوسِي مَلِيئَةٌ فِي حَانَةِ فَرَاغِهَا!!!!!!

يا الله يا محمد تمرد لماذا كل هذا الخجل والارتباك أمام اللغة لماذا لا تدخلها في ماخور الإبداع وترميها في أحضان آلهة الشعر ليفعلوا ما يشاؤون قبل أن تصنع منها ثيابًا للروح؟ لماذا لا تجبل منها كما جبل الله الإنسان من قبلك؟ لماذا لا تجعل منها لغة للضواري وللسمك، فيغير منك الطير لأنك شاعر؟
..............................
إِغْلَاقُ الخَاتَمِ ضِدَّ مَذْهُولٍ !!!!!!!!!!!!!!!!!..............................

قَمَرٌ لَا يَلِيقُ بِضَوْئِهِ: العنوان مفعم بالأناقة المفتعلة كنت أفضل: قمر لا يليق بجسده، الدلالات هكذا تتعدد فتشمل الفتاة الجميلة كالقمر أيضًا.
"أُهَرِّبُ وَقُودًا لِتَوْبَةٍ مُسْتَعْصِيَةٍ": المصطلح كلاسيكي مهضوم وممجوج والتلاعب اللفظي ضعيف وواهن وكل العبارة لا تزين هادا الفصل بقدر ما تملأه بالسأم منذ بدايته!!!
(شَرْبِل دَاغِر) (كيف حاله شربل داغر؟ هوه لساه بكتب شعر؟)
بِوَهْجَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ خُضَّ يُوسُفِي: يجب البحث عن مفردات جديدة ومبتكرة تعتدي على السائد وعلى القارئ أو تبديل المفردة بصورة غريبة تغريبية تزلزل خيال القارئ وتملك عليه ذائقته.

"إِنَّهُ كَانَ مَجْنُونًا، مُهَذَّبًا، غَيْرَ مُؤْذٍ، يُبَدِّدُ عَاطِفَتَهُ بِجَعْلِهَا شِعْرًا"
(جِين دُوفَال- عَشِيقَةُ بُودْلِير السَّوْدَاءُ): أنا أريدك العكس من كل هذا أريدك غير مهذب مؤذ ولا تبدد عاطفتك بجعلها شعرًا وإنما عقلك وكل أحاسيسك المدركة إضافة إلى الجنون العاقل أو إن شئت المعقلن... الجنون الخلاق في الشعر هو جنون الناسك الذي يتوحد مع الطبيعة المتوحشة كي يصقل ماسها ومع الإنسان الأول كي يسقيه ماء الحضارة من كفه...

1
عَتَبَةٌ خِلْتُهَا أَخِيرَةَ القَلْبِ
أَوْجَسْتُ مِنْهَا فَكِدْتُ أَؤُوبُ،
لكِنَّ عَيْنَيْنِ نَضَّاحَتَيْنِ بِالشَّغَفِ
مَغْنَطَتْ حِكْمَتِي العَاجِلَةَ،
وَأَرْسَتْ طَيْشِيَ الشَّهِيَّ: شو هادا؟ أين فلسفة الحكمة في هذه الوحدة الشعرية أو حكمة الفلسفة التي تبقى جد سطحية ومستهلكة، لماذا لم تعمق؟ لماذا لم تقل مثلا: موجة خلتها أخيرة القلب... ارتديتها فكدت أهلك... لكن عينين إغريقيتين منذ القدم... فرشت حكمةَ أرسطو حكمةً لي... وأرست ميتافيزيقيا طيشي... هنا ببضع كلمات تلخص دور العرب العظيم في نقل فلسفة الإغريق ودور ابن رشد الذي تقمص الشاعر شخصيته!!!

2
وَمِيضُ صُدْفَتِهَا
لَمْ يَزَلْ يَجْذِبُ النَّبْضَةَ الأُولَى
مِنْ عُنُقِ بَهْجَتِهَا
لَاثِمًا بِلِسَانِ: اللثم ليس باللسان يجب تبديل كل الصورة قَلَقِهِ العَارِيِّ
صُورَتَهَا - القَصِيدَةَ: كل الوحدة الشعرية ليست جميلة لا ابتكار فيها ولا تشعير!!!!!

3
يَا النِّدَاءُ الَّذِي غَطَّسَنِي: يا أخي شاعر زيك مرهف يقول غطسني!!!!!!!!!!!!!!!!،
رَغْمَ مِحْنَةِ المَسَافَةِ المُضَبَّبَةِ: يجب قول: رغم محنة حارة الياسمينة رمز الصمود في مدينة نابلس القديمة المحتلة... أجمل بكثير.
فِي تَأَوُّهِ المَاءِ المَكِينِ شو هادا؟ ليش ما بتقول في تأوه الماء الفضيّ وفي الفضة مكانة:
لَكَ مِنِّي خُضُوعُ نَرْجِسِي: استعارة النرجس مستهلكة كان من الأجدى تجنب الصفة وقول: نرجس الخضوع أو إذا صممت على الاحتفاظ بالصفة فأعط صورة ملموسة للخضوع كالبندقية التي تخضع أو السيف أو النسر فتكون الاستعارة أجمل: بندقية نرجسي... سيف نرجسي... نسر نرجسي... أو الرعاع الخاضع للملك: رعاع نرجسي... فتيات ليل نرجسي... أحذية نرجسي... إلخ.
بِانْتِصَابِ القضيب؟ له يا زلمة!!!!العِقَابِ البَهِيِّ: ليش البهي؟ البهي كمصطلح مستهلك قل عقاب روما، فهو بهي أو العقاب العراقيّ أجمل وأجمل.

4
بَعْدَ انْشِطَارِ!!!!!!!! البَابِ عَلَى مِصْدَاعَيْهِ: الله ما أبشع هذه الكلمة في هذا السياق!!!!!!!!!!!!!؛
كَانَتْ عَيْنَاهَا طَائِرَيْ عُقَابٍ
يَذُودَانِ: شو هادا المصطلح الجاهلي؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ عَنْ ثَمَرَةِ صَبْرِي: قل بالأحرى "عن تفاح نزقي".
بِانْحِنَاءِ جَنَاحَيْهِ البَرَّاقَيْنِ
فَوْقَ تَنَاثُرِ صَمْتِي: له يا محمد هون بتذكرني بكتاباتنا الأولى في المدرسة الابتدائية المدرسة الخالدية في مدينتنا نابلس!!!

5
كَأَنَّهَا انْسِكَابُ!!!!!!!!!!! نَغَمَاتٍ: كأنها سيمفونية موزارت
حِينَ شَقَّتْ أَصَابِعُهَا سَهْلَ عُشْبِي: حين لمست أصابعها ذهب عشبي
كَوَرْدَةٍ تَتَفَتُّحُ فِي فَصْلِ وَصْلِيَ: وصلي مصطلح مستهلك!!! النَّحِيلِ: كقدر يُهلك في فصل موتي المعدنيّ
وَصَاغَتْ أَنْفَاسَهَا مُتَّقِدَةً: وصاغت أنفاسها نيزكا
لِـمَجْهُولٍ يَرْتَسِمُ رَغْبَةً وَانْتِظَارًا: لمجهول ينعظ رغبة وانتظارا
(خليني أعيد لك كتابة الديوان بس كم بتدفع؟ ها! ها! ها!)

6
مِثْلَ نُوَّارٍ مَكْنُونٍ!!!!!!!!! يَضِجُّ أُلْفَةً: التعارض مستهلك!!!!!!!!؛
حِينَهَا سَرَتِ القَشْعَرِيرَةُ: ابحث عن صورة بدل القشعريرة قل: حينها سرت الأشرعة بحذافيرها (بِحَذَافِيرِهَا)
(كَدَبِيبِ نَمْلِ اللُّعَابِ:تبديل الاستعارة!!!!!!!!!!!!!) كدبيب نمل البحار!!!!
"هَيْتَ لَكَ" شو هادا!!!!!!!!!
بِغُمُوَضٍ: نبويّ (مَحْمُومٍ)، وَانْهِيَارِ عُذْرِيَّةِ: يعقوب (عَذْبَةٍ).

7
-: أَنْتِ.. يَا...
-: أَنْتَ.. يَا...
وَلَمْ تَكُنْ لُغَةٌ تَرَى فَرَاغًا بَيْنَنَا،
فَتَوَارَتْ خَلْفَ عُنْفِ خَجَلِهَا،
وَتَوَارَيْنَا نَفُضُّ الآهَ فِينَا: كل هذه الوحدة الشعرية مجترة والبداية الحوارية مسئمة ومذلة لأنا القارئ، كان من اللازم أن تكمل: أنتِ يا أيتها البغي!... أنتَ يا أيها القديس... ولم تكن لغة ترى محرابًا بيننا... فتوارت خلف جدار بطنها... وتوارينا نفضّ بكارة القدس... أنا تمثلت كل ما تريد قوله هنا إضافة إلى التورية السياسية التي تتجنبها... لماذا؟ لا تصدقهم اذا ما قالوا لك الشعر هو الابتعاد عن السياسة، فالشعر بإمكانه أن يكون شعرًا وسياسة، وأنت لا بد من دور لك كبير طالما بقي الاحتلالان الإسرائيلي والأوسلوي.

8
مُعَافَىً مِنَ التَّوَتُّرِ المَالِحِ: اقلب الاستعارة تغدو أجمل: معافى من الملح المتوتر أو ملح التوتر أو توتر الملح أما صفة المالح للتوتر فضعيفة ومستهجنة!!!
مُعَانِقًا سُكَّرَ الصَّلْصَالِ: شفت هون أجمل بسبب تحاشيك للصفة لكن الصلصال لفظة ليست موفقة لو وضعت الطمي لكانت اللفظة أقوى وأجمل: سكر الطمي... في نيله (نسبة إلى النيل وطميه بدلاً من في مداراته) فِي مَدَارَاتِهِ؛
جِئْتُهَا ثَرِيًّا: جئتها تمساحًا بِأَسْمَاءِ يَأْسِي،
وَقَاحِلًا كَأَحْشَاءِ!!!!!!!! وقاحلاً كثدي قمر ممزق... هيك أجمل بكتير مع كل هذه الغرائبية... قَمَرٍ عَقِيمٍ!!!!!!!!!!:
- مَنْ يَلِدُ الآنَ مَنْ؟!!!!!!!!!! مستهلك: من يقيء الآن من؟ وفي القيء عوارض الولادة!!!

9
أَحُكُّ رُوحِي: ليش انت جربان يا محمد ولو؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ بِمَرْفَأِ القَلْبِ
لِأُصَدِّقَ حُلُمِي، أَوْ يَصْدُقُنِي؛
فَثَمَّ بِهَار!!!!!!!! مَاضٍ سَحِيقِ!!!!!!!!! اليَأْسِ!!!!!!!!!!!!!! مستهلك
يُزَوْبِعُ !!!!!!!!!!! ولو ما فيش مصطلحات تانية؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟رَاقِصًا فِي خَاطِرِي،
وَيَنْبُشُ!!!!!!!!!!!!!! فِي جُرْحِ رَحِيقِي الرَّحِيمِ: استعارة مستهلكة وعقيمة لماذا لم تقل: ويخدش في جرم رحيق الجليل الإشارة هنا كما تريد ولكنها مبطنة بالسياسي.

10
تَشَعْشَعَتْ صَرْخَةً: أين الإعجاز اللغوي والدلالي؟ أين اللفظة الجديدة الغريبة؟ لماذا لم تقل تفجرت صرخة كموج يحترق... غسلني نارًا حتى كدت أهوي... لم أكن أدرك أن جمري ثوبها... وأني شجرة القمر وهي إجّاصها... وأنها تائهة وقصيدتي قنديلي... كل المعاني التي أردت هنا لكن كل الاستعارات جديدة... كَمَوْجٍ يَتَوَالَى
غَسَلَنِي ارْتِجَافًا حَتَّى كِدْتُ أَهْوِي.
لَمْ أَكُنْ أَدْرِكُ أَنَّ قَطْفَتِي قَطْفَتُهَا: يا محمد وبعدين! وين الرهافة؟ وين الصور اللي بتزلزل المخيلة والذاكرة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وَأَنَّي شَجَرَةُ اللَّيْلِ وَهِيَ ثِمَارُهَا: التبادل الاستعاري مستهلك!!!!!!!!!!،
وَأَنَّهَا تَائِهَةٌ وَقَصِيدَتِي دَلِيلِي: شرحه!!!!!!!!!!.

11
أَبْيَضُ النَّدَى فِي الحَنَانِ الثَّرِيِّ؛
أَيْقَظَ شَهَقَاتِ رُوحِي مِنْ بَيَاتِهَا المَكْمُومِ
أَنْقَذَ اسْمِي قَبْلَ تَسْمِيَتِي فِي تَجَوُّفِ التُّرَابِ.
هكَذَا كَانَتْ/هكَذَا هِيَ؛
مَدْخَلُ ضَوْءٍ تَنِزُّ جُدْرَانُهُ حَاءً لِابْتِلَاعِ عُرْيِي: هادا كله مصيبة وفي الآخر بتقول حاء... له يا محمد!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

12
لُغَةٌ لِلُّغَةِ
صُورَةٌ صَافِنَةٌ!!!!!!!!!!! مستهلك كَمِنْقَارِ حُزْنٍ يَبْتَلِعُ انْخِطَافًا!!!!!!!!!!!!!!مستهلك!
شَبَكَةٌ لِاصْطِيَادِ غَزَالَةِ الأَقَاصِي.
بِاسْمِهَا حَطَّ سُؤَالُ الأَزْرَارِ:
كَيْفَ مِنْ وَهْجَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ خُضَّ يُوسُفِي؟!!!!!!!!!!!!!!مش بس مستهلك مرة بل ملايين المرات وبدون عمق أو دلالة!

13
أَخَذَتْ كَأْسَ المَرَارَاتِ عَنْ تَشَقُّقِ شَفَتَيَّ
رَشَقَتْهُ، مِنْ فَرْطِهَا، فِي سَرَاحِ المَرَايَا،
وَسَالَتْ غُرْفَةً فِي مَسَاءِ إِنَائِي.
صَدَحْتُ: دَعِي كَأْسَ غَيْبُوبَتِي فِيكِ
فَارِغَةً مِنْ زُجَاجِهَا: كل هذا غير جميل التراكبية التعبيرية عندك لا تسأل لا تتساءل لا تتفجر لا تفجر... اذهب بالتخييل إلى أبعد مدى، يا رجل!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

14
تَوَغَّلْتُ فِي التِّيهِ
دَغْلُهَا شَائِهٌ بِلِبَاسِ النُّعَاسِ
أَمُجُّ المَسَافَةَ كَمَا يَشْتَهِي طَلْقُ خَيْلِي
أَؤُوبُ وُقُوفِي عَلَى جَمْرَةِ المَاءِ؛
هِيَذِي أَنَانَا فِي أَتُونِ التَّمَاهِي!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!.

15
كُنْتُ نَسِيتُ غُبَارَ دَمِي فَوْقَ طَعْنَةِ العُزْلَةِ،
وَأَحْلَلْتُ شَاهِدِي دَلِيلًا لِنُبُوءَاتٍ مَرْضَى
بِهَبَّةٍ تَتَشَاغَفُ خَجَلًا مُسْتَوْحِشًا؛
أَيْقَظَتْ قِنْدِيلَ شَرَاهَتِي،
وَاسْتَسْلَمَتْنِي!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!.

16
فِي مَرْفَأِ الذَّاكِرَةِ القُصْوَى
خَلَعْتُ نِعَالَ الصَّدَأِ عَنْ ظِلَالِ قَدَمَيَّ،
وَبُحْتُنِي عَلَى ظَمَأِ مَوْجَةٍ:
أَنَا الَّذِي كُنْتُ بِانْتِظَارِي
فَكَيْفَ الَّذِي جَاءَ.. هِيَ؟!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

17
لِأَنَّ حِصَّةَ الْقَلْبِ
لَا تَقْبَلُ الْقِسْمَةَ إِلَّا عَلَى وَاحِدٍ؛
عَلَيْهَا
: أَنْزَلْتُكَ نَفْسِي،
وَأَلِدُكَ الآنَ مِنْ أَوْصَافِ رَحْمِكَ!!!!!!!!!.

لا جديد ولا ابتكار لا نرفزة ولا شبق لفظي ومعنيي... أنصحك بألا تنشر هذه القصائد اذا كانت كلها على هذه الشاكلة، سبق لي وقرأت لك في بداية كتاباتك مثلها إذن لم التكرار؟ اطعن هذا الديوان واقلب كل شيء رأسًا على عقب انسف السائد في قصيدتك وفي القصيدة العربية... واجعل من قصيدتك حدثًا... لا تكثر من الكتابة وأكثر من الحلم الفرويدي الغريب... ومن الفلسفة ليس كما يمضغها نيتشه أو ديكارت وإنما الفلسفة كما تخرج من بين شفاه الأطفال...

تابع الملاحظات حتى صفحة 42

ميرسيه

فَوْقَ ظِلِّ عَبَّادِ الأَمْسِ: ولكنك هنا تبقي على صورة عباد الشمس في ذهن القارئ فتنزع الجديد في الدلالة لو قلت فوق ظل قرنفل الأمس لكان أفضل أنت بهذا تكسر العلاقة بزهرة عباد الشمس مع إبقائك للزهرة بعد أن ألبستها عباءة الزمن.
هَايْكُو شُبِّهَ لِي فِي انْتِظَارِ أَحْفَادِ "غُودُو" وَأَيْتَامِ الـ"بَرَابِرَةِ"

أَشُمُّ - حَتَّى عُلْبَةَ لَفَائِفِهَا
أَلْحَسُ: لا رجاء!!!!!!!!!!!!!!! - حَتَّى إِنَاءَ قَهْوَتِهَا
أَشْعُرُ - قَصِيدَةً أَكَادُهَا.

1
أَنْهَضُ كُلَّ لَيْلَةٍ
بَحْثًا عَنْ صَبَاحٍ: تبادلية صورية مستهلكة سهلة وضعيفة!!!!!!!!!!!
بَيْنَ جَنَاحَيْ غُرَابٍ: أنت تصدم القارئ من أول كلمتين فيتوقف عن القراءة!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

2
أَبْتَلِعُ الأَسَى
نَحْلَةً مَرِيضَةً،
وَأَصْرُخُ مِنْ شَبَعِي: التبادلية الصورية والمعنيية ضعيفة ومستهلكة قل بالأحرى: ابتلع الأسى... قبعة عسكرية... وأصرخ من نهمي... أنت هنا تلخص الاحتلال في كلمتين دون أن تقوله لأني أعرف رغبتك في عدم مقاربة السياسي في قصيدتك.

3
أَصْعَدُ شَجَرَةَ الحَيَاةِ
لِأَلْتَقِطَ ثَمَرَةً
سَقَطَتْ فِي القَبْرِ: التبادلية ضعيفة ومكرورة.

4
أَرَى بُومَةً: يعني من بين كل طيور الأرض ما فيش الا البومة والغراب!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!لَا تَرَانِي؛
يَبْدُو أَنَّ عَيْنَيْهَا
مُعَارَةٌ!!!!!!!!!!! لِلْعَتْمَةِ: تبادلية الصورة جميلة لكنها ضعيفة ليست قوية وبالتالي خفيفة الأثر على المستقبِل الذي هو القارئ... أقترح بدل مُعارة للعتمة: ماسة معتمة!

5
أَبْحَثُ عَنْ ظِلِّي
تَحْتَ شَمْسٍ عَمُودِيَّةٍ
عَلَى بُقْعَةِ اسْتِوَائِي: لا لا كل الوحدة ماضوية بمعنى مستهلكة ولفظة بقعة منفرة لماذا لم تقل:
أبحث عن ظلي... تحت ضفيرة عمودية... على حديقة ساعدي؟
أنا هنا لم أبتعد عن المعنى الذي تسعى أنت إليه لكنها استعارات جديدة فيها زعزعة للمهيمن والمجتر في الشعر العربي.

6
أَزْرَعُ زَهْرَةَ أَمَلٍ: مستهلك لماذا لم تقل ازرع زهرة وحل؟ الأمل في الاستعارة جلي وجميل هنا وسيعجب به بارت!!!!!!!!!!!!!!!!
سَيُرْدِيهَا: مستهلك ومصطلح من الجاهلية، المعلقات أحدث منه!!!!!!!!!!!!!!! خَرِيفُ العُمْرِ: مستهلك لماذا لم تقل خريف برج ايفل؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ عمر البرج حوالي القرنين؟
بَيْنَ فَكَّيْ !!!!!!!!!!!!دُودَةٍ: فكين وفوق هادا دودة!!! لماذا كل هذا العقم الخيالي؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

7
أَحُطُّ !!!!!!!!!!!!!!عَلَى دُوَارِي!!!!!!!!!!!
نَازِفًا عَرَقًا: ولو اللغة العربية عجزت عن المصطلحات؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
فِي جَفَافِ سُكْرِي.

8
أُدَاوِلُ!!!!!!!!!!! له يا محمد هيه مداولات التعبانين جماعة أوسلو!!!!!!!! الحَنِينَ
بَيْنَ جَسَدٍ وَقَلْبٍ
لِآكُلَ الثَّمَرَةَ مَرَّتَيْنِ: لماذا لم تقل لأقسم الثمرة شفتين؟ أنا هنا لا أبتعد عن أسلوبك لكني جئت باقتراح جديد وممتع حين القراءة وفي المعنى الذي تريده.

9
أَقْرَأُ الجَسَدَ العُضَالَ؛
قُوَّةُ الغَرِيزَةِ
أَقْوَى مِنَ الغَثَيَانِ.

10
أَنَا مَرِيضٌ بِهَا: لو قلت بروست مريض بها لشددت الانتباه إليك أكثر عندما نعرف أن بروست مات مريضًا!
حَتَّى اكْتِمَالِ العَافِيَةِ: شو هالاستعارة هاي ولو!!!!!!!!!!!!!!
كَيْفَ صَدَّقْتُ طَبِيبَ العُقَابِ: العقاب تكررها دومًا فلا هي موسيقية ولا هي مزلزلة كاستعارة؟

11
أَبْكِي مِنْهَا
أَبْكِي عَلَيْهَا: مستهلك !!!!!!!!!! لماذا لم تقل أبكي منها... أبكي على ساقيها؟ هذا ابتكار سياقي وفيه المعنى الذي تريده بدلاً من إعادة ما قيل ملايين المرات في السائد الشعري العربي؟
خَشْيَةً مِنْ بُكَائِي: تلاعب في الكلمات مستهلك!!!!!!!!!!! لماذا لم تقل خشية من ضحكي؟ فتقلب السائد وتنسف المكرور المكرر والمعاد.

12
أَرْتَجِفُ فِيهِ
حَتَّى وَإِنْ لَمْ يَزَلْ بَعْدُ دَافِئًا
فَرَاغُ لَحْدِي: مستهلك!!!!!!!!!!! وكل الوحدة الشعرية مستهلكة!!!!!!!!!!!!!!!.

13
أَعْمَى بِرُؤْيَةِ عَمْيَاءٍ
نَنِزُّ وَمِيضَ عَتْمٍ
عَمَايَ وَأَنَا.!!!!!!!!!!!!!!!!!

14
أَثْدَاءُ نَحْلَةٍ؟!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!ولو!
حَلَمَاتُ!!!!!!!!!!!!!!ولو! فَرَاشَةٍ؟
رَائِحَةُ حَلِيبٍ!!!!!!!!!ولو حليب الملاجئين (احنا في نابلس بنقول ملاجئين وليس لاجئين! فِي فَمِ صَمْتِي!!!!!!!!!!!!!!.

15
أَظَلُّ أَشْتَهِيهَا: لماذا لم تقل أظل حلقًا في سرتها، فنفهم أنك تشتهيها، لماذا لا توظف الاستعارة المعبرة عن الفعل بدلا من الفعل؟
أَلَذُّ مِنْ ثِمَارِهَا التَنْتَهِي: يا سلام!!!!!!!!!!!؛
نَبْتَةُ عَبَّادِ الأَمْسِ!!!!!!!!!!!!!!.

16
أُغَطِّي الثَّمَرَةَ المَرِيضَةَ
بِمِعْطَفِ!!!!!!!!! مستهلك!!!!!!!!! شَفَقَتِي،
وَأَبْتَدِعُ: لماذا تقول أبتدع ولا تبتدع صورة للابتداع؟ مَذَاقًا آخَرَ.

17
أَخْطُو بِقَدَمَيْ قَشٍّ!!!!!!!! وَنَارٍ
لَا أُبَاعِدُ بَيْنَهُمَا
لِسُوءِ!!!!!!!!!!! احْتِرَاسِي!!!!!!!!!!!.

18
أَهُشُّ !!!!!!!!!!!!حَتَّى اخْتِبَاءَ!!!!!!!!!! خَيَالِي!!!!!!!!!!!!!!!
لِتَكُونَ كُلُّ مَرَّةٍ
أَوَّلَ مَرَّةٍ.

19
أَصْنَعُ إِلهَ هَبَلٍ: له يا محمد طب ليش هبل هادا انت نابلسي قح!!!!!!!!!!!!!!!
إِنْ جَاعَ غَدًا
أَكَلْتُهُ أَمْسِ: مستهلك!!!!!!!!.

20
أَسْخَفُ !!!!!!!!!!!مِنْ حَرْثِ بَحْرٍ
أَجَنُّ مِنْ زِرَاعَةِ ثَلْجٍ فِيهِ؛
تَاءُ!!!!!!!!!!!!!: ومن قبل حاء!!!!!!!!!!!!!!!!! تَذْكِيرِهَا.

21
أُطْلَقْتُ ذِئْبِي!!!!!!!!!!!!!
فِي بَرِّيَّةِ اسْتِسْلَامِهَا!!!!!!!!!!!!؛
عَادَ عَاطِفَةً!!!!!!!!!!!!!!!.

22
أَنْسَى؟
لِسَانُ: مالك انت واللسان؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ زَهْرَةِ اللَّيْمُونِ
يَهْتَزُّ مِنْ لُعَابِي واللعاب؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

23
أُبْعِدُ حِصَانَ قُرْبِي
عَنْ يُنْبُوعِ أَرْبَعَتِهَا!!!!!!!!!!!!!!!!؛
وَيَشْرَبُ!

24
أَنْحَنِيهَا !!!!!!!!!!!!!!!!! هادا انت هون نابلسي ألف مرة قح!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!قَوْسَ قُزَحٍ
بِلَوْنٍ وَاحِدٍ؛
مَائِي.

25
أَقْطِفُ كَرَزَتَيْهَا!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!: سأتوقف................. كل القصيدة لا طعم لها، ما كنا نريده كحريق الكرز كسم الكرز على اللسان (ها أنا أستعمل كلمة لسان مثلك ولكن في سياق جديد!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! تابع الذهاب حتى صفحة 42 هناك ملحوظة أخيرة مع الشكر.............
تَنْبِتُ ثَانِيَةً؛
شَفَتَايَ.

26
أَخْتَفِي فِي إِبْطِ ظِلِّي: إبط! يا رب السموات إبط!!!!!!!؛
شَيْطَانُ: شيطان!!!!!!!!!!!!!!!!! شَمْسِهَا
يَبْحَثُ عَنْ صُدَاعِي: صداع!!!!!!!!!!!! ربما كان الشيطان أنا!

27
أَنْزَعُ: أنزع!!!!!!!!!!!!!!!! قُبَّعَةَ الأَلَمِ
أَضْحَكُ عَلَى نَفْسِي كَحَاوٍ: حاوي!!!!!!!!!!!!!!!!
مِنْ كَثْرَةِ قُبَّعَاتِهِ: قبعات!!!!!!!!!!!! الله يسترنا!!!!!!!!!!!!!!! إلى آخره إلى آخره.............

28
أَتَأَوَّهُ
تَتَصَارَخُ: أين في الفراش؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ لِصَلَاةِ النَّرْجِسِ: ولماذا كل هذه العفة؟؟؟؟؟؟؟؟ النرجس مرض وإجرام بالنفس، بعد الكتابة بالأحرى، أي في الحياة، ولدى الكثير من الشعراء !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

29
أَخُونُ قَلْبِي؛
أَجْعَلُ اسْمَهَا رَذَاذًا
بَيْنَ أَصَابِعِي: لا معنى ولا دلالة ولا إيحاء!!!!!!!!!!!!!!

30
أَحْسِدُهُ؛
دُورِيٌّ يَشِيخُ
فِي بَيْضَتِهِ: يشيخ في بيضته يا رجل!!!!!!!!!! شو هادا!!!!!!!!!!!!

31
أَعْزِفُ أَوْتَارَ قَهْرِي
مُوسِيقَى مَلَاكٍ
بِآلَةِ شَيْطَانٍ: التعارض مستهلك لا يرقى إلى مستوى شياطين وزارة الثقافة التي تعمل موظفًا أخرس فيها!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
32
أُرِيدُكِ
لَيْسَ كَمَنْ يَعْتَنِقُنِي
بَلْ يَعْتِقُنِي: صرخة دون صدى لابن السلطة الوطنطنجية!!!!!!!!!!

33
أُعَانِقُ اللِّقَاءَ
وَالوَدَاعَ
بِصَدْرِي الوَاحِدِ نَفْسِهِ: غموض بعيد عن الخلق هو بالأحرى تغميض!!!!!!!!

34
أَغِيظُنِي بِالغَيْرَةِ؛
بَيَاضُ القُبَّرَةِ
يَرْقُصُ بِعُرْيِي: كلها كليشيهات مستهلكة!!!!!!!!!!!!!!!!

35
أَحْتَرِقُ؛
لَحْمُ المَسَاءِ وفَحْمُ اللَّيْلِ
فَوْقَ حُمَّى ذَاكِرَتِي: فذلكات دون أي اجتراح لغوي أو فلسفي وعلى الخصوص دون متعة للقارئ!!!!!!!!!!!!!!

36
أَخْدِشُ صُورَتِي لِعَيْنَيْهَا؛
أَزِيزُ رَحْمَتِي
أَصَابَ صَدَايَ: دون اجتراح!!!!!!!!!

37
أُرَاقِبُ أُمُومَةَ ظِلِّي
تَشُدُّنِي كَطِفْلٍ
إِلَى البَيْتِ: دون اجتراح!!!!!!!!!!

38
أَخْفِقُ؛
كَنَارِي نِيسَانَ
يَخْتَفِي أَوَّلَ أَيَّارَ: رصف وصفي للشطارة البلاغية لا غير!!!!!!!!!!!!!

39
أَنْتَظِرُ أَحْفَادَ "غُودُو"،
وَأَيْتَامَ الـ"بَرَابِرَةِ"
لِأَطْرُدَ رُؤْيَايَ: هل قرأت على الأقل غودو لبيكيت بالطبع لا لأن لا أحفاد له واختراعًا منك أحفاد غودو لا يمكنهم أن يكونوا هم الذين تنتظرهم لأن عالم العبث يمنعهم من الحضور، أن يحضر غودو نعم، ولكن تحت شرط العدم.

40
آخُذُهُ فَأَتْعَبُ
أَتْرُكُهَ فَيَتْعَبُ؛
الحُبُّ: مستهلكّ!!!!!!!!!!!!!!!!

41
أَحْتَاجُهَا أَكْثَرَ
ثَمَرَةُ العُزْلَةِ؛
قَصِيدَتِي: القصيدة ثمرة العزلة طيب موافق ولكن ما الجديد؟ مع التكنولوجيا الجديدة العزلة وهم!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

42
أَخْشَى انْتِهَائِي
رَغْمَ أَنَّهُ
لِي: لا اجتراح ولا تجديد مع عجز واضح وخوف متسلط (تقول أخشى) يمنعك من إبداع قصيدة ما بعد محمود درويش.

43
أُشْفِقُ عَلَيَّ؛
مَا لِهذِهِ القَصِيدَةِ
لَا تَنْتَهِي!: لا جديد في هذه القصيدة من حيث الموضوع، ومن حيث الاستعارة، هناك فذلكة لغوية لا ترقى إلى مستوى الوصف في جحيم التخييل!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

مُسَوَّدَةٌ بَيْضَاءُ

1
الرَّأْسُ فَسِيحٌ، فَكَيْفَ يَسَعُهَا؟! أَمَّا القَلْبُ؛ فَمَخَالِبُهُنَّ فَرَّغَتْهُ مَعَهَا مِنْ جُنُونِهِ المُصَدَّى: له يا محمد طب ليش!!!!!!!!!!!!!!!!!

2
بَعْدَ سَنَةٍ حَلِيبِيَّةِ الأَسْنَانِ: له يا محمد لماذا حليب وأسنان ورضاعة وفطام لماذا لا تصطاد على جسد ملوث بمني الجنود الإسرائيليين يعجز عن الفطام؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فِي الفَمِ، يَزْفُرُ الفِطَامُ سُرَّتَهُ المُلَوَّثَةَ الوَطِيئَةَ تَطَهُّرًا جَدِيرًا بِرِضَاعَتِهِ.

3
ذُهُولٌ يَمْشِي!!!!!!!!!، بِقَدَمَيْ ضِفَّتَيْنِ حَافِيَتَيْنِ!!!!!!!!!!!، عَلَى سَغَبِ!!!!!!!!!!!!!!! المَاءِ الُمغَادِرِ إِلَى دَوَرَانِ سَاقِيَةِ!!!!!!!!!!!!!! الحَيَاةِ!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!، فَيُشْغِلُنَا، أَكْثَرَ، ثَوْرُ!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! الرَّتَابَةِ، بِتَعْدَادِ قَرْنَيْهِ!!!!!!!!!!! المَفْقُودَيْنِ: سأتوقف من جديد هنا... عليك أن تبتكر قصيدة جديدة (نثرية؟) ذات موضوع جديد كل الجدة وخاصة ذات أسلوب جديد، أن تعيد خلق قصيدتك من جديد وخلق نفسك تفكيرك طريقة تفكيرك رؤيتك للأشياء الأشياء التي تراها والتي نحن لا نراها.. عليك أن تقوم بثورة على اللفظة وعلى الاستعارة وعلى الدلالة... خاصة على الدلالة بكل ما تحبل من دلالات، لأني أريدها تعددية مذهلة مربكة مهدئة كقرص الأسبرين مجننة كقرص الفاليوم محيرة مهلكة مدغدغة وخاصة ممتعة، فالشعر متعة حتى في أفظع صوره وأرذلها....

أفنان

أكرر لا تنشر هذا الديوان، نشرت عشرات غيره يكفي، ولا تستعجل... دع كلماتي تهزك أطول وقت ممكن....



وظائف الكلام في قصة الزكام لنبيل عودة


لا أريد أن أنظر إلى طريقة السرد في "الزكام" لنبيل عودة نظرة الناقد التقليدي إلى عناصر الأحداث في تكونها المعروف، مقدمة، فعقدة، فحل: المقدمة توجز تقديم الشخصية الرئيسية في زمان ومكان محددين حياتها شكلها فعلها حلمها، العقدة تتمحور حول علاقتها العاطفية بشخصية رئيسية ثانية بعد نسيج هيكلي كلي عندما تتأزم هذه العلاقة ويبدو المحتمل فيها غير محتمل، الحل يجيء في السطور الأخيرة مفاجئًا وقالبًا لكل معايير النص والواقع... لا أريد إذن أن أنظر إلى الطريقة السردية نظرة كلاسيكية وإنما كنسق يجري عليه التطور البنيوي، والنسق هنا مرتبط بسلوك الشخصيتين الأساسيتين للقصة، وبتصرفهما، وهو ذو حدين تعبيري وانفعالي. تعبيري عندما يصف السارد عالم البطلة الجامعي "جو الدراسة" "الاحتكاك بالشباب" "التواصل فكريًا مع زميل"... إلى آخره، فيذهب بالتطور البنيوي من التعميم "جو الدراسة" إلى الحصر "الاحتكاك بالشباب" ثم إلى التحديد "التواصل فكريًا مع زميل". انفعالي عندما يحلل السارد نفسية البطلة "مسئوليتها كطالبة" "اكتشاف أن خطر الاحتكاك بالشباب من مخيلة الجدات" "عقلها الواعي يهزم مخاوفها ويضع حدًا لضعفها"... إلى آخره، فيكون الشيء نفسه فيما يخص التطور البنيوي الذاهب من التعميم "مسئولية الشخصية الرئيسية كطالبة" إلى الحصر "اكتشاف أن خطر الاحتكاك بالشباب من مخيلة الجدات" ثم إلى التحديد "عقلها الواعي يهزم مخاوفها ويضع حدًا لضعفها". السيرورة البنيوية واضحة هنا، وارتباط الوظيفتين التعبيرية والانفعالية كذلك، اعتمادًا من السارد على وظيفة ثالثة مرجعية، لا علاقة لها بالكلام (لغة التعبير ولغة الانفعال) بل بما هو خارج الكلام (عالم الجامعة وأشياؤه) عالم يرجع إليه السارد ندعوه بالسياق، غرف المحاضرات الكافيتيريا المكتبة الحافلة الممرات الحدائق وكذلك الطلاب والأساتذة والزملاء إلى آخره، وهذه كلها إشارات مرجعية لعالم الجامعة، وتأخذ الوظيفة المرجعية أهمية لا تقل عن الوظيفتين التعبيرية والانفعالية عندما يعرض السارد للعالم الفكري وموضوعاته ( النقاشات الأدبية والفلسفية حول موضوعات عدة وخاصة موضوعة الحب العذري) وسنرى أن هذه الوظيفة هي التي ستصل بالتطور البنيوي إلى أقصاه، بعد أن يؤشر السياق إليها كمرجعية نصية.


الوظيفة التعبيرية


تبدأ القصة ب "جو الدراسة الجامعية أعجبها"، وفي الحال تتضح للمتلقي حقيقة معارضة لما تدلل عليه هذه العبارة، جو الدراسة الجامعية الذي لا يعجب أحدًا، والذي يفصّله السارد تحت تنبيهات الأم والجدة، وفي الوقت نفسه تتضح للمتلقي طريقتان في التفكير وفي النظر إلى العالم، سرعان ما يقطع السارد بينهما لصالح الشخصية الرئيسية، الطالبة، الطالبة المتحررة، لكنه لا يتوخى السهولة، ويسعى إلى نص ذي قيمة يتعين علينا اكتشافه، فيعتمد طريقة السرد ذاتها كنسق يجري عليه التطور البنيوي، هي الآن طريقة في التعبير تمضي في تطورها من وصف لعالم الجامعة ووصف لما تتشوق إليه الشخصية الرئيسية من علاقة صداقة، كما يقول السارد، إلى وصف خارجي لشخصيتها وجمالها "ليست جميلة بشكل خاص لكنها مريحة بوجهها وقسماتها للناظر" وغلبة علمها وذكائها، ازدواجية ليست ذات أهمية بعد أن تم الحسم في تحرر البطلة، والتركيز على الحب الذي تريده، فالحب هو العنصر البنيوي الأساسي، وكل الوظيفة التعبيرية تدور حوله... ثم يعتمد السارد الطريقة ذاتها في وصفه للزميل، الشخصية الرئيسية الثانية، الذي "اخترق قلبها بقوة"، "جاذبيته تكمن في معلوماته واتساع آفاقه الثقافية"، ومنذ البداية، نعرف أنه "لم يكن شابًا مندفعًا". هنا أيضًا تتضح للمتلقي طريقتان في رسم شخصية الحبيب المفترض، متزنة كما هي في الواقع، وغير متزنة ولكن بحدود ما يُرْسَمُ لشخصية الحبيب كعاشق كما هي في الخيال، لا يقطع السارد بينهما كما فعل بخصوص العالم التقليدي والعالم المتحرر، وإلا انتهت القصة، ولم يعد يوجد ما يبررها، فيداوم على تقديم الشخصية المتزنة لدرجة تستفز القارئ أكثر من استفزازها للحبيبة المفترضة، وبشكل غير مباشر تدفعه هذه الشخصية ذات التحفيز السردي إلى مواصلة القراءة، فيتحول النسق إلى عنصر للتشويق لدى المتلقي إضافة إلى كونه عنصرًا للتطوير البنيوي، لأن العلاقة بين جمال التلقي والموضوع القصصي –جاكوبسون يقول الموضوع الشعري- تصبح بدءًا من هنا واضحةً تمام الوضوح.


الوظيفة الانفعالية


قلنا عن الانفعالي عندما يحلل السارد نفسية البطلة، أناها، وبطريقة أخرى عندما يخوض غمار لغة الانفعال جنبًا إلى جنب مع لغة التعبير، فتكون للانفعال وظيفة من وظائف الكلام حسب نظرية جاكوبسون، وعاملاً من عوامل الإنتاج اللغوي. في "الزكام" يتكلم السارد عن الشخصية الرئيسية الأولى، يتكلم عنها بلسان الغائب، ولكن كل ما يقوله عن أناها، وفي حالة الشخصية الرئيسية الثانية، الزميل، يتكلم السارد عنه، يتكلم عنه بلسان الغائب، ولكن كل ما يقوله عن أناه، تمامًا كما هو حال الأنا في النص الشعري، أضف إلى ذلك، وليس كما هو حال الأنا في النص الشعري، يعرض السارد لأنا مزدوجة لدى البطلة، إحداهما ذات "تربية محافظة" والأخرى تسعى إلى "علاقة حميمة" بمعنى ليست محافظة، وكما فعل مع عالميها المحافظ والمتحرر يقطع في صالح العلاقة الحميمة مع الشاب، فكل عواطف الفتاة تريد هذا " قَصَدَتْ أن يكون حديثها مليء بالتمثيل والدعوات الصريحة له إلى الإقدام"، وهي في سلوكها تعمل على تحقيقه على الرغم من هذا السؤال الأساسي الذي دافعه عالمها النفسي "هل تكون الغرائز أقوى من العقل؟!"، في أحاديثها، في مُسَارَّاتها، في أحلامها، في تمرداتها "ليذهب هو وحب العرب العذري إلى الجحيم"، لدرجة يظن "الطلاب أن ما يجمعهما معًا هي علاقة خاصة". وعلى العكس، يمارس الشاب "عبثية الحب العذري" كما يعترف ذات يوم، على الرغم من "الطهارة" –تقول الفتاة- التي تشكل عالمه النفسي، ونستنبط من أقواله "الساخطة" على ما يدعوه بالمجتمع الذكوري المجتمع المشرقي أنها أقوال، لا شيء غير أقوال، سلبياتها كإيجابياتها، فالسخط يليه التمرد لا الانطواء وقرع أبواب المدينة الفاضلة، وتحت ازدواجية للأنا، إحداهما الأنا-العذرية، نظرات من بعيد، وابتسامات، وخجل غير مبرر، وعرض لمشاكله الشخصية لمجرد العرض لا البوح، البوح لحبيب أو على الأقل لشخص هو أكثر من صديق، فهو "لم يتجاوز الرسميات"، والثانية الأنا-البطريركية، خشونة صوته، تفوقه المعرفي، تفوقه المجتمعي، تفوقه الذاكرتي المتوج بقصة من الذاكرة (الذاكرة الفردية والذاكرة بمعنى التراث كليلة ودمنة ربما الذاكرة الجماعية) عندما يروي قصة فتاة تحب آخر –تشتهيه بكلمة أوضح هذا الحق الإنساني- لا يعرف عن هذا الحب شيئًا بينما يعرف الحيوان -كما يقول- حب أنثاه من شمه لرائحتها، لتقول له حبيبته ما ستقوله للفتى الفتاة المغرمة إذا ما كان مصابًا بالزكام، مع كل الدلالات التي يحمل هذا البوح الفجائي، هذا الانقلاب الفجائي، من مسعى إلى وضع حد للانفصام النفسي، انفصام مضى بالاعتراف غير المباشر ثم بالتأكيد المباشر لوضع "استثنائي" في عالم بطريركي، لن تخرج المرأة المتحررة منه مظفرة، كما تعتقد واهمة، وإنما ستتخلى فيه عن حريتها عندما تغدو "حالة جنسية" أو بعض حريتها في سبيل حبها.


الوظيفة المرجعية


تهيمن الوظيفة المرجعية على النص كمعيار خارج لغوي كما ذكرنا، خارج الكلام، عالم الأشياء أو عالم المراجع أو عالم الشخصيات، وهي الوظيفة الأقل "أدبية" كما يقول الألسني دانيال بريوليه، ولكنها تبقى ذات إشارات لسانية ضرورية تعتمد الدال والمدلول، وتعسفية تعتمد كل النص ومرجعه المادي كما يقول الألسني إيميل بنفينيست. من عالم الأشياء هناك الجامعة كدال والعلم كمدلول، ومن عالم المراجع هناك السياق الدراسي كدال والمفاهيم حين يعرض النص لها من خلال النقاشات حول الحب (نظرة مشرقية أم غير مشرقية، حب عذري أم حب جنسي) كمدلول، ومن عالم الشخصيات هناك عالم المرأة وعالم الرجل كدال وشكلاهما المتحرر والمستبد كمدلول. الازدواجية هنا لا يقطع فيها السارد بل يتركها جوهرًا لكل النص كدال ولإشكاليته كمدلول، الإشكالية كمرجع مادي، وعدم القطع فيها، هذا الإجراء "التعسفي" يعطي للنص زخمه المعنيي، ويعمق من البعد التراجيدي للساخر، إذا أحسنا القول. لهذا توظف كل المرجعيات الخاصة بالخطاب المتمثل بالنقاشات تحت محاور عدة حول موضوعة الحب أولاً بأول في خدمة البعدين الانفعالي والتعبيري، وعرض هذه الموضوعة من كل جوانبها ومن كل الأطراف، وفي العرض تطور بالبنية السردية وبفواعل هذا البنية الذين هم شخصياتها وبأفعال هذه الشخصيات، وستصل هذه المرجعيات بالتطور البنيوي إلى أقصاه: 1- يتطرق المحاضر إلى موضوع الحب العذري عند العرب. 2- يتسع الحديث حول مفاهيم الحب المختلفة. 3- تتحدث الشخصية الأساسية مطولاً مستعرضة الكثير من قصص الحب العذري عند العرب. 4- تفاجئ الطلاب بسعة إطلاعها. 5- تتحدث طالبة عن الحب وكيف صار في أيامنا مبتذلاً. الحب العذري مقدمة لحب حقيقي، إنساني (ضمنيًا العكس هو الصحيح)، وعدا ذلك لا قيمة له. 6- يطلب الحبيب المفترض الكلام، ويذهب في حديث متعرج عن ذكورية المجتمع المشرقي، يقارنه بالمجتمع الغربي (في النص الليبرالي) ودائمًا تحت لواء الحب العذري وبعد أن يؤكد نفي المجتمع المشرقي لعقل المرأة القائم على نفي الحب يطالب بإعطائها حق المساواة مع الرجل كما هو عليه في المجتمع الغربي. 7- يعجب هذا المقطع الحبيبة المفترضة. 8- يواصل الحبيب المفترض مداخلته ضد الحب كسيطرة للرجل ومع الحب العذري. 9- ينصت المحاضر بلا مقاطعة أو إضافة ملاحظات بل يجلس مشدوهًا وكأنه طالب أمام أستاذه البارع. 10- يسر الحبيبة المفترضة عرض حبيبها المفترض، وتعتبر الأمر موجهًا إليها، ويفاجئها بتعبير عبثية الحب العذري. 11- يتوج كلامه بقصة عن العاشقين العذريين وكيف رائحة أنثى الحيوان تغدو أكثر من دال عن الحب بل دعوة ذكر الحيوان إلى ممارسته. 12- يختتم القصة بالجملة القصوى: إلا أنتم معشر الرجال مصابون بالزكام! والكلمة الجوهرية: الزكام، عنوان القصة. 13- يضحك الكل. 14- تتعمد الحبيبة المفترضة التحرش بالحبيب المفترض. 15- أمام التناقض الظاهر بين القول والفعل لديه تطرح عليه السؤال الجوهري "هل أنت مصاب بالزكام؟" نهايةً للسرد، لنلاحظ من هذه الوحدات الدلالية أن التطور البنيوي ذو حدين، تطور مرجعي حدثي (الانتقال من شخصية إلى أخرى)، وتطور مرجعي مفهومي (موضوعة الحب تحت كافة وجوهها وبشكل عام لا الحب العذري فقط)، وأن البعد المرجعي في خدمة البعدين الانفعالي (ردود فعل الأنا) والتعبيري (لغة ردود الفعل) واللذين يحبلان بالفكاهي، بالساخر، متمثلاً بالانقلاب الفجائي، أقصى ما يصل إليه التطوير السردي، المعبر عنه في الجملة الأخيرة التي قالتها الحبيبة لرجلها ليفهم كما تفهم الحيوانات النبيهة أنها تحبه "هل أنت مصاب بالزكام؟" وليبتسم القارئ، فينجح نبيل عودة مرتين، حتى النجاح لديه مزدوج، عندما قدم نصًا خفيفًا في شكله ومضمونه لا يمكن إلا ليد العارف المتمرس كتابته، وعندما أثبت كما هو دأب القصاصين الكبار بلزاك موباسان إدريس كويلو أن في الموضوع والشكل الخفيفين جسامة لا تصدق.


باريس الخميس 2011-12-22



المراجع

1) نبيل عودة: الزكام، مواقع 2011.

2) Daniel Briolet : Le langage poétique, édition Nathan, Paris 1984.


تحليل قصيدة صفد لسالم جبران نحويًا ومنطقيًا ودلاليًا


غريب أنا يا صفد
وأنت غريبة
تقول البيوت: هلا!
ويأمرني سكانها: ابتعد
علام تجوب الشوارع
يا عربي، علاما؟
إذا ما طرحت السلام
فلا من يرد السلاما
لقد كان أهلك يومًا هنا
وراحوا
فلم يبق منهم أحد
على شفتي جنازة "صبح"
وفي مقلتي
مرارة ذل الأسد
فوداعاً.
وداعاً صفد!


التحليل النحوي


تبدأ القصيدة بالبيت "غريبٌ أنا يا صفد"، ويبدأ البيت بصفة مفردة "غريب" تسبق الموصوف "أنا" ضمير متكلم للمفرد يُكنى به عن الشاعر، وصفة الغريب للشاعر هنا ذات صفتين، صفة حقيقية وصفة مشبهة، تغلب الحقيقية على المشبهة في هذا السياق كيلا تظهر مطلقة غير مقيدة بزمان، وكذلك مدينة صفد كما جاء في البيت الثاني "وأنت غريبة"، لأن الشاعر لا يسعى إلى التعبير عن أزلية الغربة أو الغربة الأزلية، فالمعبر عنه غريب عابر في لحظة عابرة، سواء أكان الشاعر أم المدينة، وهذا ما يشير إليه البيت الثالث "تقول البيوت: هلا!" لأن البيوت كفاعل ليس جامدًا ترحب بقادم لم تره منذ مدة، وهي لهذا ترحب. وتبعًا للنهج الشعري الحقيقي الواقعي نقرأ في الأبيات الرابع والخامس والسادس: "ويأمرني سكانها: ابتعد / علام تجوب الشوارع / يا عربي، علاما؟" ما يهمنا في هذا التعبير المعبر عنه، سكان صفد اليهود (نستعمل المصطلح العلمي ليهود مقابل عربي في النص)، "سكانها" كتركيب تعبيري مناقض لتركيب تعبيري آخر "بيوتها"، فالبيوت هي البيوت التي بناها الفلسطينيون قبل أن يتم ترحيلهم، وهي لهذا السبب ترحب بالشاعر، بينما السكان، السكان اليهود لصفد في الوقت الحاضر، سكانها، يأمرونه بالابتعاد، وهاء الغيبة، الضمير المتصل المبني على الفتح في محل جر بالإضافة، تتصل بها ألفُ التأنيث، وهي ألفٌ للإطلاق، لا ألفٌ للمطلق، لنعود إلى النهج الشعري الحقيقي الواقعي، ونحن لهذا من الطبيعي أن نقرأ في البيتين السابع والثامن "إذا ما طرحت السلام / فلا من يرد السلاما"، فالتاء في "طرحت" فاعل مستتر وجوبًا تقديره أنا، أي الشاعر، وليس الغريب الأزلي، على الرغم من كونه مستترًا، فيسعى إلى الظهور كمعبر عنه عن طريق انعطاف لغوي يذهب بصفد إلى الماضي مخاطبًا في الأبيات التاسع والعاشر والحادي عشر "لقد كان أهلكِ يومًا هنا / وراحوا / فلم يبق منهم أحد"، الكاف في "أهلكِ" ضمير متصل يلحق بالفعل كان، أي أهل صفد القدامى، الغائبون، والهاء في "منهم" هي دائمًا هاء الغيبة والميم حرف دال على الجمع، أهل صفد القدامى، الغائبون دائمًا، فالشاعر يعقد عن طريق الضمائر مخاطبًا أو متكلمًا بضمير الغائب ما يخص ماضي صفد الفلسطيني، وبنبرة النهج الشعري الحقيقي الواقعي، البطريركي هذه المرة، يقول "راحوا"، فواو الجماعة والضمير هم يطلقان على العاقل من الذكور، لينهي بتركيب تعبيري، التعبير فيه والمعبر عنه واحد، لأنه يلجأ إلى صيغة ياء المتكلم في الأبيات الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وليربط بالتالي لغته نحويًا بعلاقاتها الحقيقية الواقعية وعباراتها التي هي صورية هنا عندما يقول "على شفتي جنازة "صبح" / وفي مقلتي / مرارة ذل الأسد / فوداعًا." "جنازة صبح" علاقة حقيقية واقعية لمضاف ومضاف إليه ماديين، وكذلك "مرارة ذل الأسد"، فلو اكتفى بقول "مرارة الذل" لعارض نهجه الحقيقي الواقعي بنهج نفسي، لكنه سياقيًا لا يمكنه ذلك. النقطة بعد "فوداعًا" من وضع الشاعر، وهي النهاية النحوية الأولى، والبيت السادس عشر والأخير "وداعًا صفد!" النهاية النحوية الثانية، وذلك لفك ما عقده الشاعر بين صفد وأهلها الفلسطينيين القدامى، وفي الوداع المركب مرتين تسليم بعدم عودتهم.


التحليل المنطقي


يوجد في القصيدة منطق حقيقي واقعي يقوم على العقد والفك بين ماضي المدينة الفلسطيني وحاضرها الإسرائيلي، وبكلام آخر واقع يقوم على النفي والإثبات، لكني أفضل شخصيًا مصطلح "التعارض" بين واقعين، كيف يدركان، وكيف يتم تخيلهما شعريًا، وخاصة كيف يتم ابتكارهما، دون أن يكون هذا التعارض غرضًا لذاته، وهكذا تطرح الهوية الكونية نفسها بقوة كعلاقات تعبيرية للغة. والعكس كل العكس ما نجده في القصيدة، إذ هناك، تبعًا لهذا المنطق الحقيقي الواقعي، تعارض كلاسيكي تقليدي بين غربة تقريرية، غربة لغوية "غريب أنا يا صفد / وأنت غريبة" وغربة عابرة ظرفية ارتبطت بذهاب الشاعر إلى صفد، وبسبب هذا الظرف، كان الشعور بالغربة، وهناك تعارض كلاسيكي تقليدي بين الترحاب "تقول البيوت: هلا!" وعدمه "يأمرني سكانها: ابتعد"، وهو بالأحرى تعارض بين تركيبين تعبيريين، وكذلك الأمر بين طرح السلام وعدم الرد على السلام "إذا ما طرحت السلام / فلا من يرد السلاما"، فنبقى عند المستوى التقريري لا التشعيري للغة، ويستمر هذا التعارض التقليدي على مستويين آخرين، تاريخي عندما نقرأ "لقد كان أهلكِ يومًا هنا / وراحوا"، وصوري عندما نقرأ "على شفتي جنازة "صبح" / وفي مقلتي / مرارة ذل الأسد". مما أدى إلى تعاقب للإشارات المعبر عنها، الإشارة تلو الأخرى، كنهج للمنطق الحقيقي الواقعي طبعًا، دون بناء جديد للواقعي الحقيقي، بناء يعتمد قوة الخلق التخيلي والإعجاز الشعري. وعندما اقترب الشاعر من عقله الباطن -من البيت الثاني عشر إلى البيت الخامس عشر- لم يستغل ذلك نفسيًا أو استعاريًا أو ترميزيًا، "كلامحدودية ممكنة" كما تقول جوليا كريستيفا.


التحليل الدلالي


لا يوجد تطابق دلالي بين الصفة والموصوف في "غريب أنا"، بداية القصيدة، بل نحوي، فصفة الغريب كما سبق لنا وقلنا مرهونة بالظرف –كل شعر المقاومة هو شعر ظرفي- ووعي الأنا ليس وعيًا دلاليًا –كل شعر المقاومة هو شعر مزبلة الوعي الوطني- لهذا السبب يقدم النص الأنا (والأنتِ، والهي، والهم) تحت أشكال عدة للضمير المتصل: يأمرني، سكانها، أهلكِ، منهم، شفتي، مقلتي، ليحد الضمير المتصل من مدى الأنا (والأنتِ، والهي، والهم) كضمير يتجاوز البعد الشخصي أو الوطني إلى البعد الكوني أو الميتافيزيقي، ويربطها بدلالة غيرها، ففي "يأمرني" هناك دلالة للتسلط الذي تتكبده الأنا، وفي "سكانها" دلالة لمن اغتصب مدينة صفد، وفي "أهلكِ" دلالة لسكان مدينة صفد القدامى، وفي "منهم" دلالة دائمًا لسكان صفد القدامى، وفي "شفتي" (على شفتي جنازة "صبح"، يضع الشاعر صبحًا بين قوسين لتفيد بالتالي صبح الصباح وصبح الرجل الميت الذي ذهب سالم جبران إلى صفد ربما لحضور جنازته) دلالة لموت الزمن بالنسبة للأنا، وفي "مقلتي" (وفي مقلتي / مرارة ذل الأسد) دلالة لهوان الأنا... من أجل الدلالة إذن لا بد من المضي بوسيط للأنا كمعبر عنها، وسيط كابح للأنا، ليس تحت دلالة القمع العام وإنما القمع الخاص، القمع الذاتي، وفي هذا معنى مضاد لكل الادعاءات النقدوية حول ما يدعى بشعر المقاومة، وعند ذلك تتحدد دلالة الغربة في النص التي هي بالأحرى غرابة: صفد غريبة بأهلها الجدد، وهي تعامل الشاعر لا كما كانت في الماضي، فأمرها غريب، وهو غريب عنها بصفته العربي الوحيد فيها، وقس على ذلك كل النص تحت دلالة الغرابة / الوداع، النفي / التأكيد، كلاهما قاطع، وكلاهما يدلل على عدم عودة صفد إلى ما كانت عليه، بمعنى الخروج عن السائد من شعر المقاومة، ومن هذه الناحية يحقق سالم جبران "قفزة نوعية". أضف إلى ذلك، يخرج سالم جبران، في هذا النص بالذات، عن دائرة "العلاقات بين النصوص"، لأن نصه هذا عند قراءته لا يقترح نصوصًا أخرى للقاسم مثلاً أو لزيّاد أو لدرويش، فيفك القارئ من عقدة هذه النصوص المفرقعة، ويحرره من تراث مجاني يطارد ذاكرته. لكن القارئ الموجب يفرض على الشاعر، أي شاعر، أول ما يفرض، المعقد / اللامعقد في آن، والدلالي / اللادلالي المجبولين معًا، بين صفد المدينة وصفد الأصفاد مثلاً، صفد شِكال الجواد.


باريس الجمعة 2012.01.06



الخمار ليس الحجاب


في سورة النور نقرأ: "وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ". الخمار ما تغطي به المرأة رأسها والجيب هو صدرها وأن تضرب بخمارها على جيبها يعني أن ترميه على صدرها، وبكلام آخر على المرأة المؤمنة أن تخفي صدرها، هذا كل ما هنالك، لهذا السبب لم يقطع القرآن بالزينة أو عدمها، فالأمر يتوقف على ما يظهر منها، ولهذا السبب لم يدن الأخريات من النساء، فأنا لم أر امرأة في الشرق أو الغرب لا تغضض من بصرها عندما تمضي برجل ولا تحفظ فرجها ما عدا المومسات ومن لف لفهن وهن شريحة من المجتمع قليلة لا شأن لها. وهذا ما فهمه القرآن وما لم يفهمه المزايدون عليه من أتباع وأئمة، أو أنهم فهموه ولكنهم حرفوه من أجل الهيمنة ولصالح السياسة القائمة. وفي هذه الآية هناك تحذير غير مباشر من الرجل وعالمه الرجولي المهيمن بقضيبه تحت كل استعاراته، هذا العالم الذي يحيا بدافع المبالغة، وهكذا غطى كل جسد المرأة بدلاً من صدرها لأن بنية الأيمان لديه زئبقية، وروّع كل النساء بدلاً من بعضها لأن بنية الحكم لديه هيولية. ويمكن تمثيل المنطق الصوري للآية بالرمز عندما تصبح التربية القويمة معيارًا وحرية المرأة المبتغاة من حرية الرجل المتمثلة ليس بقضيبه ولكن بالمعرفة وسمو الأخلاق. هكذا أفهم رموز الدين على الأقل في وقتنا المعاصر ورموز الشعب، عربيًا كان أم غير عربي، كي "أتفضى" من أجل مواجهات أخرى وجودية في الصراع العالمي العولمي الدائر الساعي إلى تقديم اللا أساسي (الحجاب) على الأساسي الذي هو مستقبل أمة منهوبة مثكولة منكوبة بأرضها وإنسانها.


الضجة المفتعلة اليوم حول تصريحات ساركوزي تصب في هذا المصب علمًا بأن ساركوزي لم يقل بمنع الحجاب وإنما بمنع "البرقع" الحجاب الأفغاني المذل سيميائيًا، أي في رموزه وعلاماته، وكلنا نعلم أنه لا توجد هنا في كل فرنسا أكثر من مائة امرأة ترتديه. كما أن لموقف ساركوزي "المدافع عن حرية المرأة وإنسانيتها" غايات سياسية ليست خافية على أحد، وهو موقف من مواقف ذات أنغام نشاز لعازفي اوركسترا التدجين الإيديولوجي اليومي في بلد الرفق بالحيوان وحقوق الإنسان.

الضجة المفتعلة أمس حول كتاب سلمان رشدي "آيات شيطانية" صبت أيضًا في هذا المصب دون أن يقرأ أحد كتابه، والقارئ لكتابه سيجد أن رشدي قد قال عن نساء محمد ما كان يجري بالفعل في تلك الأيام من معاملة القريشيين لهن وخاصة الأثرياء منهم وأولي الحكم على اعتبار أن محمدًا عدوهم السياسي، وفتوى خميني ما كانت من أجل هذا، كانت الفتوى في ظاهرها من أجل هذا، وفي باطنها لأن رشدي قد شبهه بالبالع كالضفادع لشعبه، فتغطى السياسي الذي كانه بالديني.

باريس 2010


ردًا على سامي الذيب أبو ساحلية وقرآنه بالتسلسل التاريخي

الله وليس القرآن


لأول مرة تصدر نسخة بالعربية من القرآن بالتسلسل التاريخي لسوره وآياته، يكفي أن تتصفح هذا العمل لتقف على الجهد الجبار الذي بذله الباحث في سبيل تحقيق ذلك -الروابط في الحوار المتمدن- فما الغاية التي يرمي إليها الدكتور سامي الذيب أبو ساحلية؟ القرآن من تأليف شخص، وذلك عندما يقول "الوحي كلام البشر في الله وليس كلام الله للبشر"، وعندما يضيف، للتشابه بين القرآن والإنجيل والتوراة، أن هذا الشخص هو حاخام يهودي، وذلك باعتماده على "كل المراجع التي نُقل منها القرآن تقول إن مؤلفه كان ذا ثقافة دينية يهودية واسعة". طيب، وماذا بعد؟ وفيما يخص القرآن بالتسلسل التاريخي، هل يبرر عمل كهذا ما يدعيه الأستاذ أبو ساحليه عندما يصرخ: "إنه يقدم لثورة فكرية تفوق الربيع العربي والثورة الفرنسية وغيرها من الثورات التي عرفتها البشرية منذ بداية التاريخ إلى الآن"؟ هراء!

لا جديد فيما يخص مقولة بائدة "القرآن مخلوق أم منزل؟" ولا تحديد فيما يخص مؤلف القرآن، بينما للثورة الفكرية أسسها العلمية. وأكثر ما يلفت النظر في المشروع صاحبه، فهو يبقى داخل حدود الدين عندما يقول إنه "يعتبر نفسه مسيحيًا من تلاميذ السيد المسيح، ولكنه لا يعطي أية أهمية للاعتقادات الإلهية، الاعتقاد بالمسيح ابنًا لله، المهم لديه تعاليمه الأخلاقية"، وفي مكان آخر يقول إنه " لا يذهب إلى الكنيسة، ويعتبر كل مكان بيت الله"، وهو قد "اخترع دينًا جديدًا مع احتفاظه بالاسم الأصلي دينًا لا يقوم على الأباطيل والخرافات"... فأين الثورة والدين قديمه وجديده في كنهه الإبستمولوجي ضد الثورة؟ بسبب وجوده في الغرب (سويسرا) تعرّف أبو ساحلية على جماعة من المنادين إلى دين قائم على الحب والعقل والوعي الإلهُ فيه إلهُ الفلاسفة والعلماء وذلك للخلاص من النهلستية الغربية، وعندما نعرف أن النهلستية تنكر القيم الأخلاقية نجد مكانًا لهذا المنحى اليسوعي الأخلاقي لديه، دين فلسفي يأمل بانخراط ركام البشر فيه، مما يبرر ثورته الفكرية التي يراها، وبالتالي يرى نفسه، في ثوب ديني من الادعاء يضارع الاعتقاد الإلهي الذي يرفضه، ويلغو في مرايا عبث الخطاب.

لندقق في هذا الكتاب الذي يقدم لثورة فكرية لم تعرفها البشرية في التاريخ.

منذ العام 1874 أي منذ 138 عامًا قبل أن يخرج علينا الدكتور أبو ساحلية باكتشافه، قال أدولف فون هارناك، الأستاذ الروسي لعلم اللاهوت، بتأليف القرآن. وبعد بحوث دقيقة دامت أكثر من ثلاثين عامًا، أكد حنا زكرياس (مات عام 1959)، المؤسس الإيطالي للأرشيف العَقَدِيّ، أن مؤلف القرآن راهب يهودي مسيحي ينتمي إلى ملة الإبيونية، ملة تعتقد بالمسيح كالأستاذ أبي سماحة نبيًا وليس إلهًا. بعد ذلك، وسع الأب الفرنسي جوزيف بيرتويل ما قام به زكرياس من أعمال، وأكثر من هذا ما توصل إليه: "أن محمدًا هو كاتبها وهو حاخام مطرود من طرف هيراقليوس عام 628". بالطبع أنا هنا لا أؤكد شيئًا، فحياة محمد كان لها شواهدها العِيان منذ مولده إلى موته، لكني أريد إثبات أن ما جاء به أبو ساحلية عن بشرية القرآن ليس جديدًا، وأن تأويلات الحدث تتعدد حتى الوصول إلى تحديد هوية هذا الإبيوني في شخص ورقة بن نوفل. إذن لماذا لم يذكره صاحب القرآن بالتسلسل التاريخي حتى ولو بدافع الفرضية التي توجبها العلمية وأبقى الأمر مفتوحًا للتكهن والتأويل؟ علمًا بأن المهندس والكاتب الفرنسي جان-غاستون بارديه توصل إلى أن الحاخام الإبيوني ما هو سوى ورقة بن نوفل ذاته، من أبناء أعمام خديجة، زوجة محمد الأولى، يهودية اعتنقت مسيحية تحتفظ بالتلمود.

خلاصة أولى:
تزوج محمد من خديجة وعمره 25 عامًا، وبدأ دعوته وعمره 40 عامًا، وأنا على عكس ما يقوله النافون لتأثير ابن نوفل وخديجة على محمد، وذلك باعتمادهم على موتهما بعد الرسالة النبوية ليس بكثير، أرى أن خمسة عشر عامًا بين زواج محمد ودعوته كافية لتعليم هذا الأخير وتلقينه، علمًا بأن محمدًا لم يكن أميًا كما يشاع بالمعنى القاموسي (لا يقرأ ولا يكتب) وإنما بالمعنى المذهبي (غريب عن أهل الكتاب وبالتالي يجهل -مصطلح الجاهلية يأتي من هنا- ما جاء فيه بوصفه كان كأي واحد لا يؤمن بالله)، والتفسير الأقرب إلى الصحة للأمر "اقرأ" "ما أنا بقارئ"، التفسير اللغوي هذه المرة لا التوراتي كما يقدمه الدكتور أبو سماحة، "اقرأ باسم ربك الذي خلق" قيلت لمن سيغدو من أهل الكتاب، من المؤمنين بالله، ولو كان الأمر موجهًا لأميّ لتبدل القول إلى "اقرأ اسم ربك الذي خلق".

خلاصة ثانية:
ما قال اقرأ لمحمد ليس الوحي جبريل وإنما ورقة بن نوفل، عندما دمر عثمان بن عفان كل نسخ القرآن بعد 12 سنة من موت محمد، وأبقى فقط على نسخته التي اعتمدها المدونون حسب أوامر الخليفة ونواهيه، وبمعنى آخر على الدين الذي يريده، فهو سيحكم بالقرآن، وبمعنى آخر بالخطاب، وبالقرآن سيحمي كل مصالحه وما أكثرها لعثمان، وبمعنى آخر السلطة، غدا ورقة بن نوفل الوحي جبريل، واختلطت السور والآيات فيما بينها، ليكون قرآن النخبة لا قرآن الأمة، تفسره كما يحلو لها وللناس التلاوة والتسليم بكلام قيل عنه كلام الله. موقف القرآن من المسيح البشري لا المسيح الإلهي لهو موقف ورقة بن نوفل ومن خلاله ملته، ولكن أيضًا، وهذا هو الأهم برأيي لأنه سياسي، موقف ورقة بن نوفل من اليهود وأصله اليهودي لما يتأكله من حقد على أناس لم يتبعوا مذهبه، فالتفريق واضح بين اليهود وأنبياء اليهود الذين يجلهم القرآن أكثر مما هو عليه في العهد القديم، والشاهد على هذا كل قصصهم المبالغ فيها: داوود قاطع الطريق وسليمان المصروع بفروج النساء وخاصة جد اليهود والعرب إبراهيم المقدِّم لسارة أختًا له لا زوجة كي يجني الأموال والأغنام من فرعون وأبي مالك ملك جرار وأبي مالك ملك الفلسطينيين، كل هؤلاء الأنبياء هم في القرآن شيء آخر. أما الأهم من كل هذا، فهو القرآن كمصطلح لأنه الشيء ذاته لما يعنيه مصطلح التوراة باللغة الآرامية مع بعض التحريف في النطق، وعلاقة القرآن كمصطلح باقرأ كمصطلح بورقة (بن نوفل) كمصطلح شيء مذهل يؤدي إلى: اقرأ قرآن ورقة! والمذهل أكثر وأكثر في الأمر أن هذا القرآن هو من كان الحافظ للعربية لغة بني قريش، قرآن ورقة، فانتهت حروفها الأبجدية كما يعتقد الحاخام الذي كتب بها، أي ورقة بن نوفل، بثلاثة: الهاء والواو والياء، وهي معكوسة تعطي اسم إله اليهود "يهوه". لماذا معكوسة؟ للدلالة على أن الإله يهوه أرضي يهبط من السماء إلى الأرض قوانينَ وطقوسًا وعاداتٍ، وأن هذه القوانين والطقوس والعادات، التوراة في نهاية الأمر، من صنع بشري. ولماذا تكرار الهاء؟ الهاء الثانية هي الهاء الأخيرة من كلمة "الله"، ربط يهوه بالله جاء لنفس الغرض العملي الذي ذكرناه، ولنفس البرهان على صنعه البشري، ولكن أيضًا لغرض توحيدي، عندما نعلم أن الله كان إلهًا بين آلهة قبل الدعوة المحمدية، وأكبر دليل على هذا اسم محمد بن عبد الله، وتسمية آمنة أم محمد لمحمد تيمنًا بأحمد الذي كانه موسى كليم الله. بالطبع هذا لا يعني أن ورقة بن نوفل كان الكاتب الوحيد للقرآن، فهناك العديد ممن ساهموا في كتابته، وصاغوه أكثر من مرة لمتطلبات ظرفية مجتمعية وفكرية، عزاها محمد إلى جبريل. نذكر منهم باهرة النسطورية بالنسبة إلى المذهب المسيحي القادم من بلاد فارس، حسان بن ثابت الشاعر والصحابي المعروف، أُبَيّ بن كعب ناسخ القرآن، عبد الله بن الحارث يهودي اعتنق الإسلام، وبعض الصابئيين، وكل لجنة عثمان بن عفان، وغيرهم ممن لم أذكر.

ومن الناحية الأركيولوجية للعلاقة بين الدين والسلطة والخطاب، نحن لا نراها كما يراها فوكو، على عكس فوكو نحن نتساءل عن الأصول التي تجمع بين التوراة والقرآن مرورًا بالإنجيل وحتى باستباق التوراة إلى ما كان قبلها من معتقدات مصرية وكلدانية نسخت عنها، فنقترب بذلك من الحقائق الموضوعية للتشابه ما بينها، وليس لأن مصدرها كلها هو الله كما يدلل الرأي المناقض للدكتور سامي الذيب. وإذا تركنا مصدرها جانبًا، يكفي الوقوف على الصفة التي تُطْلَق للدلالة على سمو الله على المخلوقات ومفارقته لها، صفة واحدة في الأديان الثلاثة، تؤكد دون أن تقول على تشابهها، فالسمو من حيث الوجود ومن حيث المعرفة كما استعمله كانط ما هو سوى صفة للصور الفكرية السابقة على التجربة، تجربتنا، لهذا كان الله من بنات أفكارنا نحن البشر، وما فلسفة مدرسة أمرسون الأمريكية المتميزة بصوفية أحادية إلا من هذا النوع، لأنها تُبقي أقدامها على الأرض، وتجعل من التجربة البشرية شيئًا لاحقًا للخيالات البشرية التي منها الله، وكل هذا يصب في الأطروحة القائلة بالتكوين البشري للقرآن.

هل نفي القرآن ككتاب منزل سيؤدي إلى ثورة لم يشهدها التاريخ أم نفي الله؟

ما هو مفهومك لله؟ سأل الدكتور سامي الذيب أبا ساحلية سائل، فأجابه: "في الواقع، هذا الأمر لا يهمني لا من بعيد ولا من قريب، وليس هذا موضوع الحوار. المهم عندي هو عدم استغلال اسم الله لزجنا في ظلامية العصور الوسطى بذريعة تطبيق شرع الله معتمدين على أسطورة أن القرآن منزل من عند الله، بينما هو من تأليف حاخام يهودي. موقفي إذن من أسطورة القرآن هو بسبب عواقبها الوخيمة."

وفي مكان آخر يقول: "أعتبر مشروعي أهم من ثورة الربيع العربي وغيرها من الثورات لأنه سوف يقلب التفكير الديني رأسًا على عقب... ماذا قد تكون نتائج هذا التفكير الجديد على الأقل في العالم العربي الإسلامي؟"

نجيب حالاً لا شيء. بكل بساطة لأن التفكير الديني السائد يقول بتنزيل القرآن، وهذا التفكير لن يتغير حتى ولو قام أحدهم بإعطاء البرهان القاطع بصنع البشر له كما فعل الدكتور أبو سماحة، جمود هيكلي مرتبط "ببلاهة دينية" مُنغولية، أي بعدم إمعان العقل في أي شيء، وعلى الأخص في أمر ديني جسيم كهذا يتوقف عليه جوهر الإنسان ومعنى الوجود، هذا التفكير جزء من الفكر السائد الظلامي أي القمع الفكري، لهذا السبب جاءت الثورات بالإسلاميين، أنهت استبدادًا وأحلت محله آخر، وهي سعيدة بما تفعل. وموضوعة الله التي لا تهمك لا من قريب ولا من بعيد لهي قلب المشكل، مقاربتها ستؤدي إلى زجنا في ظلامية العصور الوسطى حتمًا، ومن هنا يجب البدء، لأن على الصراع أن يكون على أشده، وليس بمداعبة إليتي الدين نقضي على المتدينين ونؤسس لنهج جديد في التفكير ومجتمع جديد.

إذا تم نفي الله، سهل للفرد تقبل فكرة القرآن مكتوبًا بيد حاخام وحتى بيد شيطان، ودفع ذلك إلى فكر جديد وطريقة جديدة لرؤية العالم. لكن لهذا النفي شروطه الموضوعية إن لم تكن فلن يكون، وأهم هذه الشروط ترتبط بعلاقات الإنتاج: في الماضي كنا نرى، بشكل ميكانيكي، في انتقال المجتمع من طريقة في الإنتاج متدنية إلى أخرى أرقى ما يكفي لتغيير طريقة التفكير وشتى أنواع الممارسات دينية وغير دينية، لكن تجربة الاتحاد السوفيتي المفرغة للإنسان من جوهره ما عدا الدين الذي عاد بقوة في بلد لينين وغوركي وتروتسكي وبعد أكثر من ستين عامًا قال شيوعية جعلنا نربط هذا الانتقال ببرجزة الطبقات المسحوقة ودكتاتورية الدعاية كما يجري هنا في الغرب (تحت هذا الباب نضع كل أسلحة الأيديولوجيا السائدة) بمعنى إحلال دين محل آخر، عصري، لا يمكن الإفلات منه إلا شكليًا (التناوب في الغرب) بانتظار حدوث أزمة جذرية كما يحصل اليوم تدفع دون أن يشاء أصحابها من رؤوس الأموال إلى تغيير النظام نفسه، وبالتالي الإنهاء على كل ما تحويه بنية هذا النظام الفوقية الدين أول ما تحوي. لكن أبا سماحة لا يرى شيئًا من هذا، ولا يريد شيئًا من هذا، يعمل من داخل الدين الرسمي الإلهي تحت رداء بشري، لا يريد الخوض في غمار الغنوصية، أي إدراك كنه الأسرار الربانية، كما كان يفعل أجدادنا من المعتزلة والأباضية والأشعرية وغيرهم، الذين يبدون على الرغم من ضيق حججهم ومماحكاتهم أكثر تطورًا من صاحب القرآن بتسلسل تاريخي أعظم ثورة في التاريخ أعظم من أعظم ثورة في التاريخ الثورة الفرنسية، الثورة الفرنسية التي لولا عصر التنوير، الذي انتقد بشدة فكرة الوحي، لبقي الغرب في ظلمات العصور الوسطى. الدكتور أبو سماحة لأ، بدوش يزج نفسه في ظلامية العصور الوسطى لا من بعيد ولا من قريب –واخد بالك- ولا يريد أن يسمع إطلاقًا أن انتقاد فكرة الوحي يبدأ بانتقاد فكرة الله.

في كتابي "أربعون يومًا بانتظار الرئيس" الصادر منذ أكثر من عشرين عامًا والذي بيعت منه أكثر من مليون نسخة أنسنتُ المسيح بحيث راح يرفض كل قيمه، في سياق روائي يتطلب ذلك، دافعًا الرعاع إلى القيام بثورة في تونس كالتي حصلت في العام الماضي لم تنجح بعد أن أصابهم التعب وقد غدا أحد الملاذ الحسية، وجعلتُ من مريم عاهرة في شارع الحرية في سياق روائي آخر، وألبست إبراهيم "أبو رُهم في الرواية" لباس راسبوتين الضارب بعرض الحائط لكل القيم، فماذا فعل هذا الكلام من تغيير في الفكر الديني السائد؟

في كتابي "تراجيديات" أعدت كتابة غلغامش والنبي لجبران خليل جبران بعد أن قلبته وجعلته يقف على قدميه وجئت به من السماء إلى الأرض وكذلك الأوديسة وألف ليلة وليلة والملك لير، فماذا فعل هذا الكلام من تغيير في الفكر الديني السائد؟

في كتابي "كتب وأسفار" أعدت النظر في الكثير من قصص العهد القديم وابتكرت مثلها الكثير، فماذا فعل هذا الكلام من تغيير في الفكر الديني السائد؟

في كتابي "الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون" أعدت كتابة حي بن يقظان، وفصلت الطبيعة عن الله، فماذا فعل هذا الكلام من تغيير في الفكر الديني السائد؟

في كتابي "شيطان طرابلس" فهمت أخيرًا أن الله (الوجه الآخر لله الشيطان فكلاهما نتاج بشري الأول قضيبي والثاني شرجي) هو من يجدر بي الإجهاز عليه، وتم ذلك في القسم السادس عندما تعرضت "للبانتييزم"، الحلولية، ونفيت ما يقال إن الكون المادي والإنسان ليسا إلا مظهرين للذات الإلهية، فتحرر البطل مما ليس صحيحًا لأن الحرية هي التحرر من كل سلطان سلطان الله أول سلطان، وفي القسم التاسع أثبت أن الله ما هو سوى ظاهرة من ظواهر الطبيعة الطبيعة كل الحقيقة والله كل الوهم. كما أنني عرضت الله كغريزة جنسية لم تُشبع (في التوراة الوصايا العشر عشر طرق للجماع بين الله وموسى بعيدًا عن صفوريا، في الإنجيل الله ومريم يخترقها وتبقى عذراء دون أن تنال حق الأنوثة الذي هو اللذة أحد حقوقها، في القرآن قول محمد وهو في سرير عليّ "دثريني دثريني" بعد أن ينزل عليه الوحي جبريل له أكثر من مدلول جنسي مقموع في سرير الجميل عليّ، ومعذرة من الأصدقاء والإخوة الشيعة) عرضت الله إذن كغريزة جنسية في نواحٍ عديدة من الرواية، وأنصفت المرأة عندما وضعتها والرجل على قدم واحدة، فللمرأة أهليتها الربانية تمامًا كما للرجل أهليته الربانية.

لا يوجد مفكر عربي ولا يوجد ظرف موضوعي لثورة عربية إسلامية بالفعل، عزمي بشارة؟ هذه هي عينة من مفكري الثورات التي جاءت بالإخوان المسلمين أو الذين جاء الإخوان المسلمون بهم، عينة رثة، أي إفلاس كلي. مهدي عامل؟ أينه؟ الطيب تزيني؟ ربما لكنه مثلي يقع فريسة حصارين إعلامي وحياتي كليين. أما الظرف الموضوعي فهو شيء آخر لا يشبه الظرف الموضوعي الذي كان للثورة الفرنسية عند نهاية القرن الثامن عشر لما تنامى الدور الاقتصادي للبرجوازية، وغدت قادرة على الإفضاء إلى السلطة، وكانت أفكار مونتيسكيو وفولتير وديدرو وروسو (لن أقول لك فيصل دراج وجابر عصفور وكمال أبو ديب ومحمد حسنين هيكل وبرهان غليون يا حرام!) أولئك الفلاسفة الذين قاتلوا ضد الاستبداد والحكم المطلق، كانت أفكارهم قد انتشرت بسرعة، إلى جانب أزمة اقتصادية حادة وعجز مالي، كل هذا تطلب إصلاحات لن تقوم بها سوى ثورة تهيأت لها كل الشروط الموضوعية، فكانت الثورة الفرنسية، أول ثورة في التاريخ. الثورات العربية إذن دون فكر ثوري ودون قوى ثورية شروطها الموضوعية شروط موهمة لأنها مرتهنة بفكر لا ثوري وقوى لا ثورية على الرغم من كل الأزمات التي تعاني منها مجتمعاتنا.

وعلى العكس، كانت الديانات التوحيدية الثلاثة في بداياتها تمثل ثورة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية القائمة، قبل أن تتحول من دعوة إلى التغيير باسم الله إلى دعوة إلى الله باسم الله، لهذا حورب موسى من طرف العجول، وحورب عيسى من طرف الكهنة، وحورب محمد من طرف أرستقراطية بني قريش، وفي الحالات الثلاث لأن محمدًا وعيسى وموسى أرادوا تأسيس نظام جديد أكثر عدلاً وأكثر إنسانية، وجاءت ردود فعل أعداء التغيير شديدة لخوفهم على الامتيازات التي كانت لهم والمصالح التي كانوا ينتفعون منها، مما اضطر موسى إلى تسليم زمام الأمور إلى أخيه هارون، وتم صلب عيسى، وشنت الحروب الوحشية على محمد (أسرد من داخل النص الديني) ولهذا السبب في حالة محمد كانت السور المدنية جهنمية بالنسبة للسور المكية المبشرة بالعدل والمساواة والمحبة لجهنمية الأعداء، وهي صالحة لوقتها في القرن السابع، كما يقول محقًا الدكتور سامي الذيب، وليس لوقتنا، ففي وقتنا تبدو هذه السور، هذه "الأقوال" بالكلام الألسني، من خارج معطياتها المكانية والزمانية، ومن خارج السياق التاريخي الذي أنتجها، لا تتناسب ومتطلبات عصرنا، تنفي الآخر نفيًا قاطعًا، وتؤسس لفاشية جديدة.

أريد أن أنهي هذا العرض بأمنية غالية على قلبي بخصوص ليس القرآن فقط بل الإنجيل أيضًا والتوراة وكتب الهندوس وكتب الحكمة الصينية وكتب المجانين الحلمية وكل الكتب الدينية كل هذه الكتب الجميلة جد الجميلة كل هذه التحف الخالدة، أتمنى ألا تكون للباحث محل درس فقط وتأويل، فهذه الأمنية غدت بالية، وهي أقرب إلى تبرير ما لا يبرر خوفًا من ظلامية المتزمتين كما ردد الدكتور سامي الذيب أبو ساحلية أكثر من مرة، وإنما أن تكون كأي كتاب يُقرأ للاستمتاع به، ثم يُترك في المكتبة، ويُنسى، شأنه شأن الكتب الأخرى.


باريس الأربعاء في 06. 06. 2012


* سامي الذيب أبو سماحة منحدر من عائلة مزارعين مسيحيين في الزبابدة، قرب جنين، أتمم المدرسة الابتدائية في قريته (1956-1961) قبل الالتحاق بإكليريكية البطريركية اللاتينية في بيت جالا قرب بيت لحم (1961-1965)، وقد غادرها بعد أربع سنوات لدراسة مهنة الخياطة في المدرسة الفنية للآباء السالزيان في بيت لحم (1965-1968) ثم مارس الخياطة في جنين، وفي الوقت نفسه عمل لحساب اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وفي عام 1970 قدم امتحان التوجيهي أدبي دراسة خاصة في جنين، وحصل على منحة للدراسة في فريبورغ – سويسرا، حاز فيها على شهادة الليسانس في القانون في نيسان 1974، ثم في يناير 1976 تخرج في العلوم السياسية في جنيف وحصل على الدكتوراه من فريبورغ عام 1979 وكان عنوان أطروحته "تأثير الدين على النظام القانوني، الحالة في مصر، غير المسلمين في البلدان الإسلامية" وخلال إقامته في مصر (1976-1977) لبحث الدكتوراه، التقى بأربعين شخصية مصرية، ويعتزم نشر هذه المقابلات في المستقبل القريب. عمل كموظف فدرالي في المعهد السويسري للقانون المقارن في لوزان من 1 تشرين الثاني 1980 إلى 31 ديسمبر 2009 بصفته مسؤولاً عن القانون العربي والإسلامي، وقد حرر ضمن عمله مئات من الاستشارات القانونية للسلطات السويسرية والأجنبية، والمحاكم والمحامين والشركات والأفراد في مجالات قانون الأسرة وقانون الميراث والقانون الجنائي والقانون التجاري، وقد أنشأ من خلال رحلاته في البلدان العربية للمعهد السويسري للقانون المقارن أفضل مجموعة للقانون العربي والإسلامي في أوروبا الغربية. في مايو 2009أنشأ مركز القانون العربي والإسلامي الذي يقدم استشارات قانونية ومحاضرات وترجمات وأبحاث ودروس في القانون العربي والشريعة الإسلامية. في يونيو 2009 حصل على التأهيل للإشراف على البحوث (HDR) من جامعة بوردو، وفي فبراير 2010، حصل على لقب "أستاذ جامعات" من المركز القومي الفرنسي للجامعات. هذا وقد درّس الشريعة الإسلامية والقانون العربي في عدة جامعات إيطالية وفرنسية وسويسرية. ألقى مئات المحاضرات في جامعات مختلفة، وله أكثر من 30 كتابًا ومائتي مقال في هذا المجال، وقد ترجم القرآن إلى الفرنسية والإيطالية والإنكليزية، وأعد طبعة علمية جديدة للقرآن بالعربية بالتسلسل التاريخي مع إشارة للقراءات المختلفة والناسخ والمنسوخ والمراجع اليهودية والمسيحية وغريب اللغة، وهذه الطبعة هي الأولى من نوعها في التاريخ.

سامي الذيب هو مؤلف أوسع كتاب عن ختان الذكور والإناث وعنوانه: ختان الذكور والإناث عند اليهود والمسيحيّين والمسلمين: الجدل الديني والطبّي والاجتماعي والقانوني. صدر الجزء الأول منه (الجدل الديني) عن دار رياض الريس باللغة العربية، ولكن رفضت هذه الدار نشر الجزء الثاني المتعلق بالجدل الطبي والاجتماعي والقانوني.



فولتير والمثقفون العرب


هناك جملة لفولتير تلخص موقفه من غيره من الكُتّاب تقول: "قد أختلف معك في الرأي، ولكنني على استعداد أن أموت دفاعًا عن رأيك". أما بخصوص المثقفين العرب، فما يحصل العكس تمامًا، ولسان حالهم يقول " قد أختلف معك في الرأي، ولكنني على استعداد أن أموت دفاعًا عن رأيي". وهل لهم رأي المثقفون العرب؟ في الوقت الذي نريدهم فيه أن يقولوا رأيهم، يتيهون في سديم الكلمات، فلا نجدهم. ونحن نقول لهم، كما قال فولتير، بخصوص مقالي الأخير "الله وليس القرآن"، "إذا كانت الأفكار تصدم قليلاً أفكاركم، هذا إذا ما كانت أفكار لديكم، ولم يعجبكم ما جاء في المقال، فادحضوه". لكنهم من بين الناس أشطرهم على التبجح، وأكثرهم تبرمًا من وضعٍ هم أحد أسبابه الأوائل، ألا وهو نفوذ الإخوان المسلمين، ولما شخّص مقالي المرض وكيف نعالجه، لم نعد نسمع جعجعتهم ولا نعيبهم ولا جلبهم، مكثوا في أماكنهم ذاهلين.

ظاهرة الإخوان المسلمين ليس هم وإنما الإسلام، نعم، آن الأوان كي نقاومهم بدينهم، هذه الثُّلمة في الإسلام التي كنا ندعوها عن خطأ بالإسلام السياسي لهي من طبيعته، ولولا طبيعة الإسلام كدين لما كانت تلك الظاهرة، وللتحديد أكثر، لولا طبيعة الدين، أي دين، أيًا كانه. وهكذا كما يرى فولتير في الكتاب المقدس، القرآن استعارة لغوية تُعَلّمنا دروسًا كثيرة ولكن ليست كلها إيجابية، والبرهان وجود هذه الظاهرة النافية لزمنها، وكمؤسسة النافية لغيرها، وكمشروع النافية لنجاحها. كذلك كما يرى فولتير في الكتاب المقدس، القرآن مرجع قانوني وأخلاقي أكل الدهر عليه وشرب، والتقيد الحرفي أو المفرط بشرع ديني أو أخلاقي لهو بداية النهاية منذ قرون، لهذا نجده استقى، ونحن نعني فولتير، من الصينية مفاهيم فلسفية وسياسية قامت على العقل، فأضاء بعقله عصر التنوير. وكذلك كما يرى فولتير في الكتاب المقدس، القرآن من صنع الإنسان، وليس هبة إلهية، لأن الإنسان تصورات وأفكار قبل (أو بعد) أن يكون وجودًا واعيًا، فأينكم أيها المثقفون العرب لما يثبت كاتب مثلي ذلك بكل العلمية وكل الموضوعية؟

طالما أظهر فولتير غضبه من أشباه مثقفي عصره على الرغم من فهم الكثيرين له والتفافهم من حول فلسفته، وكأني به يقول في أشباه المثقفين العرب ما كان يقوله في أشباه المثقفين الفرنسيين: "تصرخون النجدة! هلموا إلى إطفاء الحريق لما يكون الكاتب من معسكر آخر غير معسكركم أو لا يكون من أي معسكر، يا للضجة! يا للفضيحة! يا للجلبة الكونية! بينا أنتم قابعون في زواياكم". لكنه يلقي باللوم على العامة التي أوجدتهم لما يصرخ: "يبقى الشعب غبيًا وبربريًا على الدوام"، العامة التائهة في سديم الدين سبب غبائها وبربريتها، فيقول: "تبقى الأديان ما بقي هناك نصابون وحمقى".

لكن فولتير ليس المثقفين العرب، لا يلقي بالأحكام جزافًا، يعرف ما يقول، وكيف يقول، ولماذا يقول، ولا تخفى عنه أسباب هذا الانحطاط الديني الذي يقضم البشر من عقولهم قبل أجسادهم، فيندد بمن هم يقفون من ورائه، رجال الدين ورجال الدولة، غاضبًا: "سحقًا لكل عمل شائن يَلحق بالأفراد من قِبَلِ رجال الدين والملكيين، سحقًا للخرافات، سحقًا لعدم التسامح الذي زرعوه في نفوس الناس".


باريس 2012.06.08





الإسلام دراسة أعراضية


سندرس الأركان الخمسة للإسلام دراسة تعتمد السيميولوجيا، علم الأعراض، وسنماثل –أو نكاد- اللساني كلود بريمون في دراسته "منطق الممكنات السردية" مجلة كومينيكاسيون 8.

1- الشهادتان (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)

تنقسم الدراسة الأعراضية لهذا القول إلى قسمين، الأول التحليل التقني: التقنية ذات حدين الشهادة بالله والشهادة بمحمد، الله ومحمد كعنصرين للإيمان أحدهما متوقف على الآخر، ودون أحدهما ينتفي الآخر، ولا يكون هناك مكان للإيمان. عند هذا المستوى هناك إقرار لفظي بالوحدانية (لا إله إلا الله) وبالرسولية (محمد رسول الله)، واللفظة "أشهد" غير المكررة تنهل من المنطق الممكن للإسلام، والذي موضوعه في هذا الركن الأول من الأركان الخمسة الإيمان وليس العبادة كما اعتادت بعض المراجع الدينية قوله.

الثاني البحث عن القوانين التي تحكم عالم الشهادتين: تعكس هذه القوانين الضغوطات المنطقية التي تتطلب الأخذ بعين الاعتبار كل الأحداث السابقة عليها وإلا كانت غامضة، ونقصد بالأحداث السابقة عليها ليس فقط الإيمان بأكثر من إله من آلهة مكة ولكن أيضًا إله المسيح في ثوبه الثلاثي (الأب والابن والروح القدس) وإله اليهود وحتى الآلهة القدامى الذين كانوا للرومان والإغريق والمصريين إلى آخره. إلى جانب أنها تضفي إلى هذه الضغوطات المنطقية الأعراف السائدة في عوالمها الخاصة، ثقافتها، زمنها، أدبها...

خلاصة

المنطق الممكن لقول الشهادتين، السردي، لا يلزم أحدًا، لهذا هو ممكن لا مؤكَّد، فكم من قائل للشهادتين لم يلتزم بهما، وكم من قائل للشهادتين أخفى بهما ما يضمر، عدم دفع الخراج مثلاً أو الحيلولة دون التهديد الإثني يهودي صابئي نصراني أو الوصول إلى المناصب العليا في الدولة إلى آخره، وهنا القائمة طويلة تبدأ بأهل الذمة وتمضي بإسبان الأندلس يهودًا ومسيحيين وغير مسيحيين ولا تنتهي "بملحدي" عصرنا الذين ولدوا مسلمين. كما أن ما يحكم عالم الشهادتين من قوانين ليس ثابتًا، فالضغوطات تتجدد ولن تنتهي، والإيمان وحده لا يكفي، لهذا جاء الركن الثاني، الركن العملي للإيمان، ألا وهو الصلاة، وهنا ننتقل من الإيمان إلى العبادة.

2- الصلاة (إقامة الصلاة)

تبعًا لخريطة الممكنات المنطقية يصبح بالإمكان دراسة عوالم ركن الصلاة حسب ترتيب يقوم على الخواص البنيوية، العبادة أهمها. هذه العبادة كخاصة بنيوية أساسية تتضمن أخرى: الحساب، لأن الصلاة أول ما يحاسب عليه الإنسان يوم القيامة. ولهذا كان التواشج البنيوي من أجل تضمين منطق المؤكَّد والإبقاء على منطق الممكن. وذلك لأسباب عديدة أهمها الفروض الخمسة، وهي كثيرة، وبوصفها الأساس الذي تقوم عليه العلاقة بين العابد والمعبود، فالمدلول، الذي هو الله، عليه أن يكون أقوى من الدال، الذي هو العابد، ولن يتحقق ذلك إلا بالإكثار من التعبد عن طريق صلوات تتالى من الفجر إلى العِشاء.

خلاصة

ارتبطت الصلوات الخمس بزمن الدعوة، خمس صلوات لا واحدة ولا اثنتان ولا ثلاثة، زمن مفتوح على بعضه لطوله، وليس كزمننا المنغلق على بعضه لقصره، من هنا يجيء الممكن في منطقها. لكن هناك غايات كثيرة ترمي إليها خمس صلوات كهذه، وأول هذه الغايات الربط المستمر بين العابد والمعبود خوفًا من الارتداد عنه، وهذا الأمر كان شائعًا في زمن الدعوة، أضف إلى ذلك ما كان يقوم به محمد (والصحابة) من توضيح الكثير من الآيات والإجابة على الكثير من الأسئلة، بينما تَجَمُّعُ المؤمنين في "الجامع"، الذي هو المسجد، في زمن يحتاجون فيه إلى التعاضد ورص الصفوف، كان شيئًا ضروريًا بل حياتيًا للمحيط العدائي محيطهم.

3- الزكاة (إيتاء الزكاة)

الإكثار من الصلاة جعل من أهم ركن برأيي من أركان الإسلام بوصفه اقتصاديًا ألا وهو الزكاة يدخل في إطار المنطق الممكن المشروط، فالمال لم يكن في يد كل الناس واحدًا، وكانت طبقة التجار والأغنياء وحدها من يتحمل هذا العبء الذي أخذوا عليه بالمقابل وعدًا إلهيًا بالطهارة والصفح عن الخطايا أكثر ما يمكن تقديمه الدعائي الديني: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها". من هذه الناحية تم التخفيف في الطريقة التي تُجنى بها الأموال والتي دونها لن تصمد رسالة محمد لدى الفقراء لدى العامة.

خلاصة

يبقى هذا الركن الوحدة القاعدة لكل الأركان التي عرضناها والتي سنعرضها، وهذه الوحدة كوظيفة بنيوية، لدى العالم الألسني بروب، تُطَبَّق على الأفعال والأحداث المجتمعة في مكان محدد وزمان محدد، وتُوَلِّد "الرفاه"، ما تَعِدُ به الرسالة: شيء قليل على الأرض اليوم مقابل شيء كثير في السماء غدًا.

4- الصوم (صوم رمضان)

في ركن الصوم تلتقي الأركان الثلاثة السابقة لتولِّد متتالية أساسية ذات وحدات ثلاث، فالصوم إيمان وعبادة وعطاء، وهذه الوحدات الثلاث لثلاث مراحل ملزمة لكل صيرورة: أ) وظيفة فاتحة للممكن في الصيرورة، الطاعة والغفران والثواب تلخيصًا للسلوك أو للحدث المتنبأ به. ب) وظيفة محققة لهذه الافتراضية تحت شكل السلوك والحدث الفعليين. ج) وظيفة تقفل الصيرورة تحت شكل النتيجة التي تم التوصل إليها: يصوم الفرد عن الطعام والشراب ويمتنع عن اللغو والنميمة والمعاشرة الزوجية وكل عمل سيء من شروق الشمس (أي من صلاة الفجر) إلى غروبها (إلى صلاة المغرب)، ويقضي طوال يومه في عبادة وذكر وتلاوة للقرآن ودروس علم تعطيه زاداً إيمانياً يكفيه بقية العام (عن ويكيبيديا أركان الإسلام). لنلاحظ أن لا ضامن هناك في العقد الذي يوقعه العابد مع المعبود تمامًا كما هو في مادة الإيمان خلال الدعوة، خلال الدعوة كان الاتفاق على خمس صلوات يوميًا لئلا يفك المعبود العقد من يوم إلى يوم، وعلى مر العصور كان الصوم ضمان الإيمان بالعابد لدى المعبود من عام إلى عام.

خلاصة

المنطق الممكن في كل ما يخص باب الصوم يحتاج إلى الامتثال للوظائف الثلاث كما يقول العالم الألسني بروب كل وظيفة تلي الأخرى وليست هناك حرية الذهاب من واحدة إلى ثالثة أو من ثانية إلى واحدة، إنها ضرورة فعل الصوم في صيرورته. لكن هذا لا يعني عدم إسقاط الصوم على من لا يستطيع عليه كالمريض والمجنون والمسافر، إلا إذا ما قرر هذا أو ذاك "تحيين" فعل الصوم، بمعنى العمل به لا كما يقال فيه. وفي هذا "انتهاك" لشبكة الممكنات، لأن هدف السلوك هنا هو إنجاز صيام ليس ضروريًا، وبكلام آخر إلغاء إفطار مسموح به، فبات الصيام قسريًا، وتعطل المنطق بعد تحوله من ممكن إلى ليس ممكنًا. سأشير تحت هذا الركن إلى أهمية ركن الزكاة، فلولا المال لما أمكن الإفطار. والأمر ذاته بخصوص ركن الحج، لولا المال لما كان للحج منطق الممكن. نؤكد ما قلناه، ركن الزكاة أهم أركان الإسلام، لأن كل هذه الأركان تتوقف بنيتها على الاقتصاد، وكل الرسالة المحمدية ما جاءت إلا بدافع الاقتصاد. الاقتصاد أولاً، والروحانيات ثانيًا، وإن بدت الأولى.

5- الحج (حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا)

لهذا الركن، ركن الحج، منطق الممكن كحدث تحت شرط واضح ألا وهو الاستطاعة تبعًا لوسائل المرء المادية، بمعنى أن للحدث احتمال تحققه وعدم احتماله، وبالتالي كل ما يقال عن فرض الله له على كل مسلم بالغ يوصف تحت أفق يغلق صيرورة الحج الذي يلعب الحاج فيها دورًا سلبيًا، وبذلك تُفرغ مصطلحات مثل العبودية والطاعة والصبر من معانيها.

خلاصة

للوصول إلى هدف الحج في صيرورة الحج يجب المضي بصيرورة ثانية تكون للحاج بمثابة وسيلة لتحقيقه، هذه الصيرورة بالطبع هي المال، وأيضًا من أجل هذا يجب المضي بصيرورة ثالثة، هذه الصيرورة بالطبع هي الاستدانة، وهكذا إلى ما لا نهاية، فالحجاج اليوم في معظمهم ليسوا أغنياء، وهم يفعلون كل ما بوسعهم ليحجوا رغم كل النتائج، ليتحول العامل التعويضي (جزائي) إلى عامل عدائي (عقابي).

خاتمة

تتعدد الممكنات المنطقية من ركن إلى آخر كما تتعدد الأعراض، فالشهادتان كركن لا تؤسسان للإسلام دون غيرها من الأركان، وحدها تبدو عليلة، ومع غيرها تتمتع بكل صحتها، لهذا تتنافى الأعراض، وتظل الممكنات. لكن لكل نظام بنيوي منطقه الخاص، والإسلام نظام بنيوي له منطقه، هذا المنطق، كما رأينا، يخضع لارتداد نسقي بين مكوناته أو بين مكوناته ومكونات غيره من الأديان أو الأشكال إذا ما اعتبرنا القصيدة الجاهلية شكلاً من الأشكال الدينية وحكايا ألف ليلة وليلة شكلاً من الأشكال الدينية والتمائم السحرية شكلاً من الأشكال الدينية والابتهالات الوثنية شكلاً من الأشكال الدينية والأغاني للأطفال، أنا لا أقول أغاني الأطفال وإنما الأغاني للأطفال، شكلاً من الأشكال الدينية، وكلها لا بد أن تمضي بعبارة هي دومًا واحدة كالشهادتين، إذن الأمر ليس جديدًا، لكنه يحدد أفلاك الفعل الموائمة للأدوار العديدة المتوخاة، غير المضمونة، لأنها تدور بين قائل الشهادتين وبين نفسه، أي في الحيز الخفي للضمير، وهذا الأمر لا يكلف شيئًا. أنا ألغي هنا مقولة الكذب، فالصدق جائز لدى معظم الذين يؤمنون بالإسلام، ولكني لا ألغي مقولة عدم الصدق، مما يقلل من أهمية الشهادتين، إذ بهما أو بغيرهما الإيمان ممكن كعدم الإيمان. كما أنني ألغي مقولة الإكراه، فالاختيار جائز لدى معظم الذين يؤمنون بكل الأديان، ولكني لا ألغي مقولة عدم الاختيار، مما يشكك بقيمة الشهادتين، إذ بهما أو بغيرهما يلعب الوعي دورًا هامًا، والدين كاختيار شخصي لهو اختيار ليس واعيًا.

الصلاة خمس مرات في اليوم خمس مرات كثيرة في اليوم خمس مرات متتالية في اليوم، في عصر التكنولوجيا والزمن المفقود، الصلاة خمس مرات في اليوم شيء آخر، هنا تتعدى أعراضُها فَلَكَ فعل المصلي إلى المصلى له، تحت منظور تصبح فيه الصلاة نوعًا من الترف الروحي واللاجدوى المريحة، نوعًا من مجانية الفعل. لِمَ كل هذا الخضوع الذي لا يني من طرف العابد للمعبود؟ لرشوة الله، الإله القديم بين آلهة مكة، ثم الإله الوحيد بعد أن انتفت عنه الصفة الوثنية التعددية، وأُبقيت له الصفة الأحادية تحت المفهوم البطريركي الشمولي كخالق مفترض للعباد، والعابد أحدها، الراشيهِ بصلواته، ليرضى عنه، ويحقق مطالبه، لأن ما يدعيه العابد من روحية إلى درجة يتزوج فيها الله، شيء ليس صحيحًا، وإن كان صحيحًا، فالروحية هذه تجيء فيما بعد، في المستوى الأدنى من البنية الفوقية للدين، الأدنى جدًا، فكل هذه الصلوات لا فائدة منها في نهاية المطاف بما أن الله لا يستجيب ولن يستجيب كما يردد الشيوخ ليل نهار منذ مولد المرء إلى مماته لدرجة تجعله يأمل –من يأسه- باستجابته فوق، فيكون مسكنه الجنة.

في ركن الزكاة هناك إعادة تشكيل منطقية لشبكة تشكيل المال الحديثة بنسب وفوائد (في هذا السياق روحية وربانية) وخاصة في كونها ضرائب تؤدَّى كل عام عن دخل محدد بالأرقام. لكن الاقتصاد الرباني هذا يظل بدائيًا، يعتمد على جهاز وقائي، من أعراضه الحيلولة دون الدور الذي من الواجب على الاقتصاديين لعبه في نظام العولمة، جهاز وقائي لنظام رأسمالي رث، أي يعاد به إلى وضعه السابق على الدعوة المحمدية، الوضع الوثني، حيث كانت الأموال تدخل في أيدي تجار قريش ولا تخرج منها –من هنا تأتي تسمية وقائي- وتبقى دائرة بين تجار كبار وتجار صغار (في عصرنا بين الرأسماليين الغربيين والرأسماليين العرب) لاستغلال كل أفراد المجتمع. بسبب هذا الجهاز الوقائي أَحْرَقت في جهنم وبئس المصير السعودية وبلدان الخليج خلال الأزمة المالية السابقة مئات بليونات الدولارات، ولكونها بلدان متوقفة على غيرها مستوردة لا منتجة، من الإبرة حتى المشخخة.

الصوم وحدة الفعل الواحد، دون أعراض مرضية، ربما كانت فيه فائدة من الناحية الجسدية في النهار والروحية في المساء، ولكن يمكن أن يكون في أي يوم رمضان، مع الاحتفاظ بيوم السابع والعشرين تاجًا على رأس كل أيام السنة. أضف إلى ذلك أن الصوم كغيره من أركان الإسلام عادة وثنية، عندما نعرف أن الناس في عهد ما قبل الدعوة المحمدية كانوا يصنعون من التمر أصنام آلهة فيزيقية يعبدونها ويأكلونها عندما يجوعون، وبهذا الفعل كانوا عمليين وواقعيين أكثر من المسلمين اليوم، فالمسلمون اليوم يعبدون إلهًا ميتافيزيقيًا لا يمكنهم أكله، وبدل أكلهم الهواء ينصبون موائد الإفطار كما كانت تنصب في قصور روما الخليعة التي تكلفهم ما لا طاقة لهم عليه والتي تتنافى مع أخلاقيات خادعة في العطاء والتسامح والشعور مع الفقراء. هذا الركن يمثل عبئًا كبيرًا على كل المتدينين من كل الأديان وليس فقط الإسلام عبئًا ماديًا وروحيًا على الرغم من كل المظاهر الكذوبة، أقول كل الأديان، فهناك تماس فضائي وآخر زماني ما بينها كلها، وهناك استتباع تضميني ما بينها كلها، وهناك استدعاء استعاري ما بينها كلها.

أما الحج سيميولوجيًا فأعراضه تشير إلى كونه من أقدم العادات الوثنية قدم الأديان نفسها، الأكروبول شاهد على ذلك، وقبل الأكروبول كل الهياكل قاطبة منذ ما قبل الكلدان، وفي كل الحضارات بما فيها حضارة مايا البدائية، حضارة من فجر التاريخ في أمريكا الجنوبية. والحجُّ سيميائًيا وَحْدَةٌ لفعلٍ متماثل، متكون من عدة أفعال متكاملة، لكنها تدور على نفسها دون توقف، من هنا جاء الطواف حول الكعبة، طواف مدفوع بأعراض حمى الطواف هدف الطواف من أجل الطواف فقط لا غير، والحجر الأسود (حجر نيزكي) ينظر إلى الجميع بحنق دفين، فليس هناك في فعل الطواف أية علاقة تضمينية للنفع الإنساني –كما يقول كلود بريمون- حيث الأحداث التي تجري ليست منتجة، وليست ذات معنى، لأن الأحداث لا تأخذ معناها ولا تنتظم زمنيًا إلا بالنسبة لمشروع إنساني تغوص جذوره في أعماق الأرض لا في أعماق السماء.


باريس الأحد 2012.06.10





الكون لم يخلقه الله


يستند قول ماركس "الإنسان يصنع الدين والدين لا يصنع الإنسان" إلى كون عالم الإنسان كمجتمع ودولة يُنتجان الدين، هذا الوعي المغلوط للعالم، ونتساءل مع ماركس المغلوط لماذا؟ لزيف المجتمع والدولة. وهو يرى أن الصراع ضد الدين لهو صراع ضد هذا العالم، صراع مهول انتصار الشغيلة فيه حتمي، يقول حتمي ودأبه الغُلواء، وما اغتراب الإنسان سوى نتيجة لشروط اجتماعية محددة يزول بزوالها، وكأن زوالها أمر سحري. هذا الغُلواء لدى ماركس على علاقة باللفظ وبالمعنى، وبلغة اللسانيين بالقول، ودراسة عملية القول لدى ماركس ستكون بمثابة قراءة جديدة لفكره تزيل الناحية "الدينية" في هذا الفكر، وتنفحه بنفس جديد يتواءم وعصرنا.

هناك الكثير من الميكانيكية فيما يتوهمه ماركس، إذ ليس بزوال شروط الاغتراب يزول الاغتراب في مجتمع ودولة لا يتوقفان عن أن يكونا زائفين منذ ما قبل ماركس إلى ما بعد ماركس، إلى اليوم، وإلى الغد، فالدين على كافة أشكاله الرباني منها والدعائي إنتاج يومي للدولة والمجتمع، ولهذا أخذ الزيف خاصية الثبات. صحيح كما يرى ماركس في أن الثورة العلمية والتنوير ونقد الكتاب المقدس كل هذا كشف عن عقم محاولات المسيحية في تقديم صيغة واقعية ودقيقة للتاريخ، لكنه يذهب في تحليله، ودأبه الغُلواء دومًا، إلى أن ذلك كان ضروريًا لاستحالة القيام بتحليل نقدي حقيقي ما لم يتحرر الفكر البشري من غشاوة العقائد الدينية، فهل تحرر الفكر البشري من هذه الغشاوة بالفعل أم بعض الفكر البشري، وهذا البعض هل تم له التحرر بفضل معرفة العالم الواقعي حتى ولو لم تكن معرفة كاملة أو مطلقة كما يطلق التحليل المادي حكمه غير القاطع (حتى ولو لم تكن) في زمن ماركس؟ بينما على التحليل المادي أن يكون قاطعًا ومطلقًا أيًا كان مستوى المعرفة ودرجة التطور لتحكيم العقل والعلم لا الدلالة والاستعارة كما هو في الأدب.

الصراع الطبقي كمولِّد تثويري للوعي وبالتالي لتأصيل (عكس تزييف) الدولة والمجتمع لهو صراع هلامي اليوم، يكفي أن ننظر إلى الثورات العربية (حتى هنا في الغرب ومجتمعاته المتطورة بعد صيرورة البرجزة)، لنرى أننا نرمي كل شيء على عاتق الطبقة المتوسطة، ولا تحديد لمعالم هذه الطبقة، تمامًا كأداتها "الثورية" التي هي الشبكات الاجتماعية، دون تحالفات إستراتيجية مع غيرها من الطبقات، ودون دينامية هي بالفعل ثورية بل دينية، بمعنى أن الصراع الطبقي الذي من المفترض أن يكون ضد الدين ولو على المدى البعيد لهو مع الدين، وهذا ما لم يقله ماركس في كل أدبياته العلمية، ربما بسبب القصور العلمي في زمنه بالنسبة لزمننا، وربما لتشبثه بمقولة أن العالم المادي موجود بشكل مستقل عن الوعي الإنساني، وهذا صحيح لدرجة وصل تأكيده إلى حد نفيه دلاليًا، فالرفض على الثبات أو الثبات على الرفض هما في نهاية الأمر واحد، من هنا كانت أدبياته ناقصة، لا الدقة ما ينقصها، ولا الترابط المنطقي، وإنما الخيال، وفي العلم كل شيء يبدأ من هنا، من الخيال، ومع ذلك سأثبت ظاهرة الوجود علميًا، وسأصل إلى معرفة كاملة ومطلقة للعالم الواقعي، ولولا الخيال لما تمكنت من ذلك.

تجمع الأديان التوحيدية الثلاثة على أن الكون من صنع الله بعد أن تناقلت هذه الصورة الماورائية للوجود عن بعضها، وقبل ذلك نقلتها التوراة عن قصيدة الألف ومائة بيت الملحمة الأكّادية "الأنوما إليش" في بلاد ما بين النهرين مع بعض الاختلاف لكن الفكرة تبقى واحدة، ولا ننس أن هناك كتابات عديدة للتوراة كان كُتّابها يكتبون عن شخصية الله تبعًا لفكرة كونوها عن خلق الكون، فكرة لن تصمد طويلاً أمام بعض التساؤلات حول مفهوم الزمن مثل: لماذا خلق الله الكون في ستة أيام وليس في سبعة أو خمسة أو ثلاثة أو حتى في يوم في دقيقة في ست ثوان أليسه من يقول كن فيكون بفضل كلام الله كما يقول القرآن؟ أو الخلق من عدم كما يقول الإنجيل؟ وكيف عرف كُتّاب التوراة أن أيام الخلق كأيامنا بطول زمني قدره 24 ساعة؟ وهل كانت هناك شمس ليكون هناك يوم شطراه النهار والليل كما هو يومنا؟ ولماذا لم يستعمل كُتّاب التوراة المفردة "مراحل" بدلاً من المفردة "أيام"، وهي أقرب إلى المنطق؟ وإذا ما تم خلق الكون في أيام ستة كان للأرض والشمس والنجوم عمر واحد بينما علم الفلك يحكي عن نجوم شيخة ونجوم شابة ونجوم وليدة أو لم تولد بعد؟ كيف عرف كاتب التوراة أن لا شمس هناك وبالتالي أن لا ضوء هناك وأن الأرض مغطاة بالماء (نقل حرفي عن الملحمة الأكّادية) وأن الله خلق النبات فالحيوان فالبشر وليس البشر فالحيوان فالنبات، وعلى الخصوص مفهوم الفضاء، أن هناك بداية: "في البدء خلق الله السموات والأرض" يقال في التوراة، الشيء نفسه في القرآن والشيء نفسه في الإنجيل مع فارق لفظي: "في البدء كانت الكلمة"؟ إلى آخره... إلى آخره...

رؤية ثانية لخلق الكون، ماركسية، أي من بنات أفكار أواسط القرن التاسع عشر، تجيء في خضم الثورة الصناعية لا الثورة التكنولوجية كما هي عليه اليوم، وهي لهذا رؤية ناقصة، عندما تعجز عن تفسير ما لا تعرف تفسيره علميًا تنهج النهج الديني نفسه، فالكون لديها كان هكذا ولم يزل منذ الأزل، هكذا تحل مسألة خلق الكون دونما حاجة إلى تحطيم رأسها في أمور من العبث الدخول في طياتها والبحث عن أسرارها، وهي محقة في هذا لولا أن الفكر الديني السائد في عصر التعتيم المجتاح للعالمين العربي والإسلامي يبقى ها هنا منتظرًا الجواب، ولن يقبل بالجواب الهيغلي الممكن صوغه من خلال السياق الذي ندرسه قائلاً بوجود الكون في ذكائنا، وفي هذا مؤشرات مدلولية لاستباق الوعي على الواقع في الفلسفة المثالية أنا لا أراه من ناحيته السلبية، ولكنه كجواب مقنع أرقى بكثير مما تقدمه الماركسية وكل الفلسفة المادية في هذا الموضوع.

رؤية ثالثة لخلق الكون، داروينية، هذه المرة، تنظر إلى الخلق كفبركة أرضية، بمعنى أن الأرض تخلق نفسها كصيرورة متواصلة، والخلق هنا يجري تفسيره على أساس ميكانيزمات مادية بحتة تكون عمادًا للتطور ذي القفزات النوعية تتمثل أول ما تتمثل بظهور البكتيريا فالأعضاء التي تتغذى وتتناسل وتتحول تبعًا لوسطها، فالتحولات الجينية هي من وراء عالمنا اليوم عالم يخضع للانتقاء الطبيعي، وهذا هو جوهر النظرية التي اعتمدها الغرب الرسمي والفلسفة النيتشوية في اختيار الوسط أحسن ما يتكيف معه، وتبرير كل العَسْف الذي ألحقه الغرب البربري بالبشرية.

رؤيتي لوجود الكون

أعطت قوانين النسبية التي توصل إليها اينشتاين مفهومًا يحاول تفسير المفهوم التوراتي (الديني) للزمن، بمعنى أنه يمكن لليوم ألا يكون اليوم بساعاته كما هو في المفهوم الشائع وإنما بأجياله، لأن دَفْقَ الزمن يختلف من مكان إلى آخر، لكن على عكس ما ارتأى اينشتاين مجرى الزمن ينفي التزامن كمفهوم مطلق، ويؤدي بالتالي إلى استنتاج أن أيام خلق العالم الستة لهي مليارات الأعوام. وبفضل القمر الصناعي هيباركوس عام 1997 تمكن العلماء بيقين لا ريب فيه وبدقة لا زلّ فيها من قياس الأبعاد بين المجرات الكوكبية، ووجدوا أن العالم أصغر مما كانوا يظنون، وأن عمره 13 مليار عام، وليس 5700 عام كما تقول التوراة (كتبت التوراة لأول مرة منذ 3300 عام). ما أعرضه هنا ثابتة كوزمولوجية وليس نظرية مجردة، وهذه الثابتة تعارض ما توصل إليه اينشتاين من سكون الكون عندما تراه في حركة دائمة، والكون تبعًا لذلك في توسع دائم. هذا لا يعني أن حركته لانهائية، فحدّا الكون المتمثلان بالكبر غير المحدود والصغر غير المحدود يصطدمان بالأفق، وما وراء الأفق لا يوجد فضاء. يكبر الكون ويتسع باتجاه الكبر غير المحدود والصغر غير المحدود أي ما بينهما وعلى الإطلاق لا يتجاوزهما، وما دفق الزمن في تغيره سوى نتيجة لسرعة جريانه تبعًا لتساوق الاتساع، وهكذا تم حل معضلة عمر الكون.

إذن الكون ليس ساكنًا، ليس جامدًا، و "البغ-بانغ" من أعطى للمادة الذبذبات الإلكترونية. وليعرف القارئ ما هو البغ-بانغ نقول: البغ-بانغ هو نموذج كوزمولوجي لوصف أصل الكون وتطوره، والذي حَسْبَهُ انبثق العالم من حالة شديدة الكثافة والسخونة. وأنا هنا لن أدخل في تفاصيل هذا النموذج إذ يمكن للقارئ العودة إليه في الكتب المختصة وعلى إنترنت، لكنني سأحاول الإجابة على سؤال المتدين الأول، والأخير برأيي، في هذا الأمر: أليس من وراء هذه الحالة الشديدة السخونة والكثافة لا أحد آخر غير الله؟

ما سأعطيه من تفسير لهو الأول من نوعه، فلا العلماء أعطوه من قبل ولا الفقهاء، وهو يعتمد على نظرية اينشتاين في الكمّات، والكمّ هو أصغر مقدار من الطاقة. الإشعاع الكمّي لدى اينشتاين هو إشعاع واقف ينقسم تيار جزيئاته إلى مجموعات طاقة، ويسمى هذا الإشعاع الكمّ، وبما أن الكمّ لا وجود حقيقي له (واقف) يتحرك الضوء كموجة وكدفق للجزيئات التي تأخذ طاقتها من الحرارة، لكن الضوء يحتاج إلى وسط، والوسط هو الأثير، والأثير شيء غير موجود بينما الزمان والمكان شيئان نسبيان، ليصل في الأخير إلى أن كل جسم جامد يتوقف على ما يحوي من طاقة.

الطاقة في الجسم الجامد، في المادة، هي الإلكترونات، يسقط الضوء على المادة، فتتحرر بعض الإلكترونات منها، وهكذا يمكن تلخيص المعادلة بضوء-مادة-إلكترونات. الضوء كما أوضحنا هو مجموعة من الكمّات التي لا وجود حقيقي لها، والمادة هي مجموعة من الإلكترونات التي هي الأخرى لا وجود حقيقي لها، في تلك المرحلة الأولى من مراحل الكون الجسيمات كالذرات هي إلكترونات لا وجود حقيقي لها، إنه العدم، فالعدم لا وجود حقيقي له، إنه اللاشيء، واللاشيء لا وجود حقيقي له، إذن ما أن نقلب المعادلة إلكترونات-مادة-ضوء حتى نصل إلى تفسير الوضع السابق للبغ-بانغ، إذ عن طريق الإلكترونات غير الموجودة بالفعل تشكلت المادة، وعن طريق المادة تشكلت الكمّات غير الموجودة بالفعل، تشكلت الطاقة، تشكل الضوء، الضوء الأوّلي الذي اكتشفه علم الفيزياء الفلكي في العام الماضي، وهذا الاكتشاف ليس لعبة الغميضة مع الله يؤكد مائة بالمائة ما توصلنا إليه، تشكلت الحالة الشديدة السخونة والكثافة التي انبثق منها العالم. معادلة أوجزناها بسطور، ولكنها في الواقع ربما أخذت عشرات المليارات من الأعوام لزمن لم يولد قبل أن يكون الكون.


الأربعاء في 2012.06.13



الجنس والله

في هذه الحلقة الخامسة والأخيرة من سلسلة المقالات التي أكتبها عن نقد الفكر الديني، لن أتعرض للجنس في الدين، لن أكتب عن عاهرات المعابد ابتداء من العصر البابلي مرورًا بعصر التوراة وانتهاء بعصر الحجاب، ولا عن الحبل بلا دنس في مصر وفارس والهند قبل أن ينسخ الحواريون عن هذه البلدان أهم ما جاء في عقيدتهم من الزواج الأيقوني للعذراء، أو لماذا الزوجات أربع في بداية عصر الإسلام، عصر كانت المرأة فيه مستلبة لا اعتبار لها كإنسانة بحاجة إلى سقف تعيش تحت كنفه، هذا الإجراء الثوري في زمنه الزجري في زمننا، لن أسوق الجينز دليلاً ولا الهامبرغر أو مادونا على العولمة دينًا للاستهلاك الخصائي، ولكنني سأعرض للجنس كعلاقة شهوانية بين المتدين والله.

يعزو علماء النفس صورة الشيطان إلى الخيال الشعبي الذي يرى فيه تمثيل الفضلات له، وعندما ربط هذا الخيالُ الشهوةَ وإرضاءَها عن طريق آخر غير الزواج الديني بالقذارة، توصل هؤلاء العلماء إلى أن الشيطان من بنات نزوة شرجية لم تُشبع، وأن الشيطان هو الجنس لمن يرى في الجنس شيئًا قذرًا.

لهذا تجدني أعتبر أن للجنس في الدين مكانًا هامًا على الرغم من الشيطانية التي وُصف بها، فبسبب هذه الشيطانية الكامنة في الجنس كانت الروحانية الكامنة في النفس، وكان السعي الحثيث إلى نوع من التوازن بين متطلبات الجسد ومتطلبات الروح. ولكن بالنسبة للمتدين ليس من توازن هناك عندما يعجز أمام السيقان الجميلة تحت التنانير القصيرة عن تلبية متطلبات الجسد، فيغدو الجنس وسواسًا فكريًا بدلاً من كونه وسواسًا شهوانيًا، ويقضم الجنس بذلك كل أناه، وكمتدين نجده يسعى إلى علاقة جنسية بالله.

لا ينجو المتدين من النار الشيطانية للشهوة بسهولة كما قيل للنار في وضع إبراهيم الإباحي "يا نار كوني بردًا وسلامًا" لأن لا حدود تقوم بين النزوات، جنسية أم دينية، ولأن التعبد، وبكلام آخر ممارسة الجنس مع الله، لا تطفئ نار الشهوة الجسدية.

لهذا يحاول المتدين إطفاء شهوته بقطع علاقته بالله، وليس بقطع علاقة الله به. بمعنى أن يكون كما يريد الله أن يكون في علاقته به لا كما يريد هو أن يكون في علاقته بالله، وفي هذه الحالة نوجز كل اليهودية تحت الوعد الإبراهيمي والوصايا العشر وانتصارات الجيش الإسرائيلي، وكل المسيحية بمؤسساتها الكهنوتية ومراتبها الإكليركية وسلطتها البابوية، وكل الإسلام بشرائعه وخلفائه وأئمته وجماعاته الذكورية الممارسة للنُّعوظ الجمعي تحت غطاء الدين وصرخات الله أكبر الشبقية، وهذا ما غاب عن أنطونيو غرامشي عندما طرح الاشتراكية كدين استبدال، وكذلك نوجز كل الدِّعاية بأجهزتها الإعلامية وأبواقها الرسمية ووسائلها الكونية الموازية للعولمة في غزو العقل. هكذا يولد الرباني فيه، فيكون الاتحاد بينه (الله) وبينه (المتدين)، اتحاد النحن، وخارج النحن يُلقى باقي البشر كما يُلقون في الجحيم، بينما هم ها هنا شواهد بأجسادهم على الاتحاد ما بين المتدين والله، شواهد بشهواتهم التي تتحول إلى استعارة لأنهار مني ودم تجرف الكون، فيكون الاغتراب، ويكون ضياع الهُم، وتكون الآلام من مآلها، لأن الهُم التي هي في غاية العزلة، هذه العزلة التي غدت مصيرها، لا تجد من طريق آخر لاحتمال هذا المصير إلا بممارسة الاستمناء الديني تحت غطاء الإيمان، وذلك بِشِقّ الأنفس، ولأن الهُم، لأن الأجساد، بالألم تَخترق أو تُخترق طالما بقيت خاضعة للنحن، ولا سلوى لها تكون بشمبانيا الدين أو بدون شمبانيا الدين، والنحن في السياق العلائقي هي الله والمتدين، الله والأنا، فتقذف الأنا الدين كما تقذف المني، وتسن قوانينها التعسفية لتلتذ بالله. وكلما ابتردت الأنا عادت إلى ملء نفسها بالله، والاتحاد به، الاتحاد بأمره لتأتمر بها الهُم، وتمارس سلطتها عليها.

وفي الواقع، يخترق الجسد الجسد كما تخترق الروح الروح، وليست هناك أية علاقة للفعل الأول كالفعل الثاني بالدين، فالجسد هو هذا النظام العضوي الذي يعمل بإملاء ذاته، والروح هي هذه النفسية الحسية التي تتغذى بالوهم كما تتغذى بالجمال بإملاء ذاتها، لهذا ما يدعى بالخطيئة لهو الجنس دون الله، وقد انتهت العلاقة كما يريد الله، وبدأت العلاقة كما تريد الأنا، كما يريد الجسد، كما يريد الإنسان في علاقته بالإنسان.


السبت في 2012.06.16


لوشيانو بافاروتّي طعم النجاح والمال

رونو ماشار

ابتداء من الثمانينات، مارس لوشيانو بافاروتّي عادة سيئة، ألا وهي الغناء أمام الجمهور في الهواء الطلق، برفقة فنانين مشهورين من فناني المتنوعات، وكل هذا تحت أعين الكاميرات التلفزيونية، وما يشتق عنها من منتجات سمعية بصرية


في عام 1993 يعترف لمجلة "جمعة سبت أجد" من كان غالبًا ما يقول عن نفسه إنه لا يحسن فن التواضع: "يقال إني في حفلتي الموسيقية بالهايد بارك قد جذبت من المشاهدين أكثر من الرولنج ستونز، ولكني أعتقد أني في بيونس آيرس كنت الأكثر مشاهدة: 300 ألف مشاهد. لهذا السبب، أجدني بحاجة إلى الخروج من مخمل المسرح الأحمر. أحب أن أعطي نفسي للجمهور، فالجمهور يجعلني أهتز، وأنتفض".

لكن حفل وداعه الموسيقي في باريس بتاريخ 17 مايو 2005 المقام في قصر باري-بيرسي الرياضي لم يجذب أكثر من عشرة آلاف شخص على خمس عشرة ألف مقعد. وربما يذكر الكثيرون حفله الحزيراني عام 1989 في المكان نفسه، وكل التذاكر بيعت في يوم واحد… ولم يبق للفنان غير الظهور فاتحًا ذراعيه العريضتين، والمنديل التقليدي الأبيض يتدلى من يده اليسرى ليقبّل كل أولئك الناس الكرماء تاركًا الملايين تأتي إلى جيبه.

طعم النجاح والمال هذا بتشجيع الذين هم من حوله سيدفع بافاروتّي سنة 1990 إلى خوض مغامرة "الصادحين الثلاثة" التي بدأت بمناسبة كأس العالم لكرة القدم، وما جرى في البداية تقديمه من طرف لوشيانو بافاروتّي وبلاسيدو دومنجو كطريقة ودية لوضع زميلهما جوزيه كاريراس من جديد على طريق المسارح والنجاح بعد مرض عضال قام منه معافى قد تبين بسرعة أنه ما كان سوى مشروع مربح وذوق موسيقي مشكوك فيه.

بصحبة رئيسهم الهندي زوبين ميهتا، أصبح "الصادحون الثلاثة" ماركة مسجلة تثير التقليد أو التحريف. وبعد سنوات عديدة من الربح وبيع الأسطوانات على اعتبار أنها أعظم سنوات سوق الأسطوانة الكلاسيكية إطلاقًا، يتوقف "الصادحون الثلاثة" عن الغناء معا مع وعد بالعودة من جديد سنة 2005لم يتحقق بسبب مرض بافاروتّي.

بالطبع، لوثت الهموم الضريبية المشروع، ففي مارس 1998 قدرت العدالة الألمانية أن الحفلات العملاقة التي يقيمها الصادحون جوزيه كاريراس وبلاسيدو دومنجو ولوشيانو بافاروتّي لا تنتمي إلى الموسيقى الجادة، وقد حكمت على منظمها هوفمان بدفع غرامة تزيد عن خمسة مليون فرنك.

هذا وبعد سنوات من توقف المشروع الموسيقي الثلاثي يتواصل طبع الأسطوانات والديفيدات، وبيعها.


ترجمة أفنان القاسم عن جريدة لوموند، بمناسبة وفاة بافاروتّي، الجمعة 7 سبتمبر 2007





الكوارث في العام 2050

جاك آتالي، مستشار الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، الكاشف عن طالع الإنسانية في كتابه الأخير "حكاية موجزة عن المستقبل"، صوت يضاف إلى أصوات أخرى عديدة، لا تكف عن الصراخ في الآونة الأخيرة منذرة بنهاية العالم إذا لم تتخذ خطوات سريعة وحاسمة للحيلولة دون ذلك: سدس سكان العالم لا ماء زلال يرويهم، اصطلاء كوكبنا الذي أصبحنا ننسى أنه كوكبنا، وأننا نعيش فيه له ما لنا وعليه ما علينا، وذلك بسبب تآكل طبقة الأوزون رحم الحياة، لتتحول الأرض إلى قبر ضخم، اجتياح المنتجات الكيماوية للزرع والضرع، وخطرها على الأرض، وكل من يعيش على الأرض، ويأكل منها، وكأننا نأكل ذواتنا، بعد أن تحولت هذه المواد الكيماوية من مقاومة للطفيليات إلى مكرسة لها في أجسادنا، ومقاومة لكل مقاومة ومناعة. انتشار الأسلحة النووية التي لم تعد حكرًا على قوة عظمى أو قوة صغرى أو أصغر من صغرى، بمعنى أن تحصل عليها عصابة أو تقع في يد معتوه، التلاعب بالجينات، وكأنما ينقص الإنسان أن يصنع إنسانًا آخر أكثر منه سوءًا!

الهاويتان

يضعنا جاك آتالي في هذا المنطق المهووس لخمسين سنة قادمة، ويحذرنا من خطر سقوط الإنسانية في هاوية النمو الاقتصادي غير الخاضع للعقل، وانتصار العارض، ونهب الموارد الطبيعية، وتدمير الإنسان الذي أصبح آلة صنعها الإنسان، أما الهاوية الثانية، فتندرج تحت شكل تطور سيودي بنا إلى ولادة اقتصاد مجرم، غير شرعي، يقف من ورائه مرتزقة وقراصنة يتزامنون وظاهرة انتشار الأسلحة النووية انتشارًا يتزايد كل يوم. عند ذلك، ستكون الخشية كبيرة مما يدعوه جاك آتالي ب "فرط الصراع"، بمعنى احتدام المعارك التي ستؤدي إلى أفول الإنسانية. ولا يلبث صاحب الرؤى غير بنات الأحلام، المرتبط بعصره، والمؤمن بقوة الإنسان الخلاقة وإرادته البناءة على الرغم من كل شيء، لا يلبث أن يستدرك ذاته عندما يرى أن بالإمكان أن يكون هناك مستقبل زاه إن أمكن الخلاص من هاتين الهاويتين.

الأخطار العظمى الثلاثة

وأكبر تهديد سنواجهه إن كان عسكريًا أم مناخيًا، يقر جاك آتالي بأن الخطر الأعظم لهو حتما بيئي على الرغم من أن إمكانية التحكم الكامل بأسبابه وبالوضع الذي نحن فيه الآن، وبعد ذلك يأتي خطر الأسلحة البكتيرية التي بإمكانها أن تزرع ويلات تصيب مئات الملايين من البشر: فيروس أنفلونزا الطيور وغيره من الفيروسات يمكن أن يجري انتشارها طوعا وعن سابق قصد. أما مصدر تهديد الإنسانية الأعظم الثالث، فهو ما يدعى ب " النانو تكنولوجيا"، بمعنى تصميم أسلحة خطرة بحجم صغير إلى أقصى حد، آليين بحجم واحد على مليار من المليمتر، حبة الغبار هذه ستغدو آلة ذكية. يمكننا أن نتخيل استعمال هذه الآلات الدقيقة، كما يقول جاك آتالي، بشكل إيجابي، ويمكننا أن نضعها في خدمة الهدم والدمار مثل الذي ندعوه ب "الخثيرة الرمادية"، يكفي أن نبتلع حبة من الغبار لينفجر جسدنا.

التهديد النووي

وفيما يخص التهديد النووي، يرى جاك آتالي أنه يشكل خطرًا كبيرًا. في العام 2050، سيكون بحوزة خمس عشرة دولة على الأقل، إضافة إلى ظهور قوى نووية من خارج هذه الدول تتشكل من مجموعات إيديولوجية، دينية أو مافياوية من أجل أهداف إجرامية. سيكون السلاح النووي بمقدور الجميع. وباعتقاده أن الخطر أكبر إن أتى من القوى الإجرامية لا ممن يدعوهم بالإرهابيين. أما الصعوبة التي سيواجهونها، فهي نقل هذه الأسلحة، إذ لا يمكن وضع سلاح نووي في إحدى محطات المترو، ويحتاج سلاح كهذا إلى صاروخ. عشرة ملايين من القتلى! هذه هي "أعجوبة" سلاح مثل هذا إذا ما أطلق، وهذه أضرار أقل بكثير مما ستسببه الكوارث المناخية أو الأسلحة البكتيرية. في سنة 1918، سببت الأنفلونزا الإسبانية من الموتى أكثر من الحرب العالمية الأولى، نحو خمس عشرة مليون إصابة.

السوق يجتاح كل شيء

من الملاحظ أن الأولوية في مجتمعات اليوم تعود إلى السوق، التنافس، الربح. هذه الليبرالية المتوحشة، كما يدعوها جان-ماري روار، من الأكاديمية الفرنسية، تهدد بأن تكون مدمرة للقيم الاجتماعية والعائلية والسياسية، عكس الحرية مثلما نحلم بها. يحاول جاك آتالي تحليل ذلك عندما يرى أن الديمقراطية والسوق يدعم أحدهما الآخر إلى حد أن لدينا انطباع بأن كل شيء على ما يرام، لأن اقتصاد العرض والطلب ينتشر من بلد إلى آخر، وكذلك الديمقراطية في أرجاء العالم ما عدا في الشرق الأوسط والصين. هناك إذن تناقض بين الديمقراطية والسوق، السوق قد أصبح عالميًا أما الديمقراطية فلا.

لقد اجتاح السوق كل شيء حتى القطاعات التي كانت وقفا على الدولة مثل الطاقة والمؤسسات العامة وقطاعات أكثر إشكالية مثل قطاع الصحة والتعليم، وأكثر إشكالية من جوازات السفر والجيش والشرطة والسجون، ويرى جاك آتالي أننا نوشك أن نصل إلى حالة تكون فيها الدولة دمية متحركة. سيسيطر على السوق نوعان من الشركات التي تحتل الآن مكانًا عالميًا واسعًا: شركات التسلية التكنولوجية على كافة أنواعها من تلفزيونات وكمبيوترات وبوصلات وغيرها، وشركات التأمين، هذه الشركات التي تسعى إلى الحلول محل الدول في وظيفتها المدركة لعواقب الأمور. وليس اليوم من الصدفة في شيء إذا كانت المهن الأفضل دخلاً في ميداني التأمين والتسلية.

التنظيمات غير الحكومية

وعلى سؤال حول بروز قوى-مضادة لقوى الشركات، يرى جاك آتالي احتمال رفض العولمة من طرف دعاة ما يمكن أن نطلق عليه اسم " الحمائية"، وهو مذهب حماية الزراعة أو التجارة أو الصناعة من المنافسة الأجنبية أو من طرف الآخرين الذين يسعون إلى عودة لسلطة محلية، سلطة المدن مثلا، كما أن المحلل يعتقد بصعود المنظمات اللاحكومية بقوة كسلطة-مضادة. فالغيرية المأخوذة بمصالح الغير، العقلانية، ستغدو قوة مسيطرة: إن لم نكن غيريين تصبح حريتنا مهددة. ويعطي جاك آتالي التلفون مثلاً عندما يقول: لا يهمني أن يكون عندي تلفون وحدي وإلا ما استطعت التحدث إلى أحد! هناك أشياء كثيرة كالتلفون، يهمنا أن يمتلكها كل الناس. الشيء ذاته فيما يخص الفقر، ليس في مصلحة أحد أن يكون هناك فقراء. نحن إذن بصدد ولادة منظمات لاحكومية للبر والإحسان يحركها النفع المادي والتي تصطف إلى جانب الشركات متعددة الجنسيات، فان لم تكن مربحة هي على الأقل متوازنة، وما تختلف فيه كليا عن الشركات والمؤسسات الأخرى أن ليس لها مساهمون. إن حققت أرباحًا سيعود توزيعها في المنظمة نفسها، عندئذ تطرح شرعية القائمين عليها، وهذا برأي الكاتب مشكل عويص.

خطر هيمنة الشركات متعددة الجنسيات

يرى جاك آتالي في كتابه الخطر المحدق بنا الذي تقف من ورائه الشركات متعددة الجنسيات، ويدعوه ب "خطر الفاشية الجديدة". فهذه الشركات لا تخضع لقانون محلي، تسخر من كل تشريع، ولا تخضع إلا للفوائد الخاصة بها. ويسأل الأكاديمي جان-ماري روار إذا ما كانت الفاشية التي عرفها الناس على مستوى الدول سوف تنمو وتتطور في الشركات الكبرى لتخلق لها مناطق اللا-حق والاعتداء على الشخصية الإنسانية؟ هذا ما رأيناه بخصوص شركات البترول في بيرمانيا ونيجريا.

يجيب جاك آتالي بما هو مذهل حقا: الشركات في طريقها نحو السيطرة على الأمم، فهي أكثر قوة واستطاعة منها. تترجم هذه القوة ببعدين يهددان بتحويلها إلى شركات توتاليتارية. إنها تصنع قانونها لنفسها: وبما أنها من غير مكان، فستحدد أنظمتها الخاصة بها، والتي ليست أنظمة الدولة الأقل حماية لنفسها ولا قواعدها. إن انتقالها دائم، وهي في حالة تمكنها من التصرف بشكل تعسفي. ويرى جاك آتالي أن هناك تهديدا كبيرا آخر على مستقبل مجتمع دخل في عصر الأسواق الكبيرة التي ستدور حول الرقابة، فالشركات ستراقب كل شيء، حياة العاملين لديها وحياة زبائنها. ستبحث شركات التأمين عن أقصى المعلومات الخاصة بزبائنها لحساب علاوات الزبون تبعا لعاداته ولأمزجته، لصحته ولحياته الجنسية. لن تكون مجتمعات الرقابة فيما يعد المغالى بها، وإنما الرقابة الذاتية، سيكون كل واحد رقيب ذاته من الخوف ألا يتوافق مع المعايير، مما يزيد من الخداع والخسة، لأن الرقابة صنوها النميمة. وللهرب من هذه المؤسسات، سيصبح الناس موظفين أو عمالاً لدى أنفسهم، أي أرباب أعمالهم، فرب العمل الوحيد الخليق بهم هو هم، وسوف يقدمون الخدمات التي يقدرون عليها لأكثر من شخص، ولن يغدو العمل المؤقت الاستثناء بل القاعدة.

دكتاتورية السوق

خلال الخمسين سنة القادمة، توشك الدول أن تكون المهزومة الكبرى من أمام العولمة، سينسف التبضيع القيم الاجتماعية والعائلية والدينية التي تقوم عليها، فمصيرها معروف: من أستاذ اللعبة إلى لعبة في أيدي الشركات متعددة الجنسيات، ما عدا تلك المجتمعات المدنية القوية لبلدان ستقاوم بشكل أفضل دكتاتورية السوق. وقد أعطى جاك آتالي بلدان شمال أوروبا نموذجًا لمقاومة "الجمللة". فعلى الرغم من الضغط الضريبي الفادح، يعرف أصحاب الحل والربط كيف يحافظون على حرية الخلق وعقلية المغامرة اللتين هما من وراء عدم رحيل نخبة البلد، هؤلاء الذين يعتبرون أن الفضيحة، كل الفضيحة، حسب البروتستانتينية، ليست الغنى بل الفقر، على عكس ما هو عليه في الكاثولوكية التي تعتبر أن الفضيحة هي الغنى، وعلى الكل أن يكونوا فقراء! فالعالم البروتستانتي الذي هو فردي ومادح للنجاح لهو الأفضل للمستقبل.

الأمة لغتها وثقافتها

أما الأمم التي هي ثقافات ولغات، فستكون الأكثر ثباتًا، وان لم تكن فرنسا قادرة على الإبقاء على وحدتها اللغوية وكل ما تحمله لغتها من ثقافة، فستندثر. إذن، الدفاع عن الوحدة اللغوية مهم جدًا. ويبدي جاك آتالي قلقه مما يدعوه البعض "لغات فرنسا" التي يمكن أن تهدد اللغة الفرنسية، ففرنسا لغة أولاً وقبل كل شيء، لغة، ثقافة، ولن يكتب لفرنسا البقاء إلا شرط ألا تغدو برجا لبابل. ليس للفرنسيين جميعًا أجداد غوليون، ولهم جميعا بليز باسكال مفكرًا من بين عظام مفكريهم. ويرى الكاتب أن فرنسا أقل تهديدًا من غيرها، لأن لها وإنجلترا وروسيا تقليدًا دَوْليًا (من دولة) منذ ألف عام.

أوروبا ضد دولها

يرى جاك آتالي أن أوروبا اليوم في وضع جد خطير، فهي تحطم الدول دون بناء دولة أوروبية. ويشبه ذلك ب "منطقة حرام"، معتبرًا إياه خطرًا على فرنسا. أما الخطر الكبير الآخر، فيكمن في أن أحفاد اليوم يدفعون نفقات صحة الآباء والأجداد، لأن من ضرائبهم خلال خمسين سنة تدفع النفقات الصحية اليوم ومعاشات المتقاعدين. انه إفلاس الصغار على أيدي الكبار! وفي مستقبل تصبح فيه صناعات التسلية الصناعات في أغلبيتها، فان رحم الجيل الذي لا يوجد إلا في قليل من البلدان، يصبح قيمة فريدة من نوعها.

للإسلام جذور في الفكر الأوروبي

ستتزايد الأديان، أديان بملء اليد، مع قليل من المسيحية، وقليل من البوذية، حسب الحاجة. ستكون هناك أديان مختلطة، وأخرى عابرة.

ويرى جاك آتالي أن الإسلام سهل الاعتناق، وهو يتكيف بدرجة جيدة جدًا مع عوالم جد مختلفة، انه دين جد مجرد وجد متناغم مع المزج والتكيف مع ثقافات مختلفة، ونحن نرى شيئا من الإسلام في كل مكان. انه حال البوذية أيضًا، وهذان الدينان هما اللذان سيتطوران. سيكون للإسلام عام 2050 ملياران من المسلمين وللمسيحية أقل من هذا العدد بقليل. وفيما يخص حظ الإسلام من إصلاح يجعله قادرًا على التكيف مع قيم المجتمع الحديث، ينوه جاك آتالي بما للإسلام من جذور في الفكر الأوروبي وبحضور الإسلام في أوروبا اليوم. فالطريق المتسامح للإسلام قد انغلق في قرطبة بعد العام 1148 مع أخذ الموحدين للسلطة، ويقصد الكاتب هنا ما أدت إليه الهيمنة السياسية على الإسلام، فالإسلام لم يفقد شيئا من طبيعته المتسامحة، وإنما أفقده إياها النظام السياسي منذ سقوط قرطبة إلى اليوم. ومن وجهة نظر الكاتب المتطورة والمنفتحة، على أوروبا واجب أن تمد يد العون للإسلام -لا أن تمنعها عنه أو تعطيها لدعم أعدائه- ليولد من حداثته. دور كبير لأوروبا المتسامحة والمتصالحة مع قيمها لا ضدها وضد قيم غيرها.

أوروبا الغد كأفريقيا اليوم

لن تتعلم مجتمعات الغد من أخطائها كما يلاحظ الكاتب الأكاديمي جان-ماري روار، وهي ستكون شبيهة بمجتمعات اليوم بعنف أكثر ولاعدالة أكبر. ويعلق جاك آتالي بلغة المنذر المحذر عندما يقول إن أفريقيا لن تشبه أوروبا وإنما أوروبا التي ستشبه أفريقيا البؤس واليأس بعد خمسين سنة: الفوضى الدولية (من دولة) ذاتها، المدينية، السياسية. ويعطي مدينة نابولي مثلاً مفحمًا لما سيؤول إليه العالم المتطور.

ويحاول جاك آتالي أن يذهب من موقف المشاهد إلى موقف الفاعل ليستدرج تفاؤله، فيرى أن اللعبة لم يخسرها الناس بعد، لأن الخوف من المستقبل شيء جد إيجابي، بشعور الخوف يحاول المرء ويحاول، والخطر اليوم يأتي من عدم شعورنا بالخوف. أما العدو الثاني إلى جانب الخوف، فهو الشعور بالعجز، الاعتقاد بأن كل شيء قد فات أوانه. لهذا، يجب العمل على تنامي الشعور بالغيرية المهتمة بمصائر الغير ومشاكله. وفي كل لحظة، على كل واحد أن يسأل نفسه عما باستطاعته أن بفعل للآخر، لعدم إتلاف الوسط الذي يعيش فيه.

كيف سيكون العالم خلال خمسين سنة؟

يجيب آتالي بأن العالم سيكون مدينيًا، أكثر يسرًا للأغنياء وأكثر عسرًا للفقراء. أما الإنسان، وبالأحرى الإنساني في الإنسان، فسيخضع للتحولات الناجمة عن التعديلات الجينية وتهريب الأعضاء الإنسانية: ألف مليار دولار قيمة تهريب هذه الأعضاء. ومن وراء التعديلات الجينية، سيكون الفصل بين الفعل الجنسي وإنتاج النسل الذي سيتحول إلى فعل اصطناعي. غدا وبعد غد، سيكون بالإمكان استيلاد "كلونات" كنسخ عن أنفسنا. من هنا يأتي خطر أن يفبرك الإنسان أشياء اصطناعية سيسميها كائنات إنسانية.

1. جاك آتالي: حكاية موجزة عن المستقبل، دار فايار، باريس.
2. مجلة باري ماتش، عدد 3000






المسرح


في بداية الأمر، كان المسرح في فرنسا مسيحيًا، وتمت ولادته، كما في سالف الزمان في اليونان، من العبادة نفسها، وقد قدم الشكل الدرامي للقداس ونصوص العهد الجديد مادة أولية محفوظة حية بفضل تغيرات السنة الطقسية، وقليلاً قليلاً وسع رجال الدين هذه القاعدة اعتمادا منهم على الاستعارات ثم على الدراسات الشعائرية، وقاموا بكتابات كانت أولاً باللاتينية، ابتعدت بالتدريج عن الأحداث الطقسية الخالصة، واستقبلت اللغة الشعبية (الزوج أو العذارى، المجنونان، الثلث الثاني من القرن الثاني عشر)، وفي الأخير، خرجت إلى الساحة العامة. توقفت المسرحة عن أن تكون إكليركية لتتركز على هم اللعب والإخراج (لعبة آدم، القرن الثاني عشر): في هذه الأعمال الأولى، التي لها كل صرامة الولادات الجديدة، كان الاستلهام الأدبي أكثر قوة من استيحاء الأحاجي والألغاز كما سيأتي. في القرن الثالث عشر، وفي الخط ذاته، أعطى ريتبيف معجزة تيوفيل، وفي القرن الرابع عشر، جرى تقديم معجزات العذراء الاثنتين والأربعين (معجزات نوتر-دام). ولم يلحظ أي تقدم -إن لم يكن في بناء النبرة وتهافت البناء- يفصل بين هذه الأعمال وسابقاتها، فلم يمكن للمسرح الذي ينهل من نبع المسيحية أن يعيش أيامًا كبرى إلا في القرن الخامس عشر. ولكن إلى جانبه، ومنذ نهاية القرن الثاني عشر، قد تطور أيضا المسرح الهزلي، وليد الخلط بين الأدب اللاتيني الهابط (تمثيليات مضحكة) وعروض المشعوذين، ولاعبي المعارض، والمكتسبات التقنية للدراما الطقسية. سيترك القرن الخامس عشر –عصر سلام نسبي- للبرجوازية متسعا من الوقت للولع بالمسرح. أولاً وقبل كل شيء الغرائب: أعمال دورية، كتابها غالبا ما يكونوا عديدين، ويبقى هدفهم الأساسي البناء معنويا، ويترك الممثلون، برجوازيون أو حرفيون، دور المسيح لأحد القساوسة، بينا لا يقوم النبلاء والنساء بأي دور. مشروعات جماعية ليس لدينا أية فكرة عنها، ويمكن للمسرحيات التي تقوم على الأحاجي والألغاز أن تجمع خمسمائة شخصية، وأن تدور عدة أسابيع. بعد انتشارها (غريبان)، ونجاحها، فإن واقعيتها، شديدة التدقيق في التفاصيل وساذجة، قد انحطت، وضعفت تدريجيا. زد على ذلك، فإن القيمة الأدبية لهذه المسرحيات غالبًا ما كانت رديئة. هذا وقد عجل من نهاية هذا النوع الذي انحط ابتداء من أواخر القرن الخامس عشر قانون 1548 الذي منع عن رفقاء العاطفة، أصحاب الأدوار منذ قرنين، أن يقوموا بتمثيل مسرحيات مقدسة.

خلال هذا القرن الخامس عشر نفسه، لم يكن المسرح الدنيوي والهزلي أقل حيوية. جماعتان تقاسمتا المسرح: "رجال القضاء" (تجمع رجال الدين التابعين لوكلاء الرهبانية) الذين كانوا يقدمون تمثيليات أخلاقية وأخرى مضحكة، و"الأغبياء" أو "أطفال دون هم" (أخوية تتوقف على الظروف، من المحتمل أن تكون المحاكاة الساخرة، الاحتفالات الدينية من ورائها) الذين كانوا يقومون بتمثيل نوع من الدراما النقدية. ونحو أواسط القرن، أصبحت المسرحيات مشتركة. المسرحية الأخلاقية كنوع درامي غالبًا ما تكون نجعية مؤثرة ومحزنة، كانت تهدف إلى العبرة الأخلاقية، وقد تطورت شيئًا فشيئًا نحو التراجيكوميديا السابقة لكورنيي، ومع ذلك، كانت هناك مسرحيات أخلاقية هزلية وأخرى جدلية تعالج مسائل سياسية-دينية يطرحها الإصلاح. وقد صفت الدراما النقدية التي بلغت أوجها في أوائل القرن السادس عشر هذا النوع الجدلي لتحريض الجمهور ضد طموح الكنيسة الرومانية (غرينغور). أما ميدان التمثيليات المضحكة، فهو أكثر غموضًا، زد على ذلك أنه جد واسع. نحن لا نعرف سوى نتف من إنتاج هو أكثر شعبية منه أدبية، ومن هنا أيضًا تأتي صفة الفظاظة التي له، حيث تهيمن الموضوعات الأزلية للجبن والسرقة والزواج المخدوع. العمل الوحيد الذي يرتفع فوق كل هذا تمثيلية السيد باتلان المضحكة (بين 1470 و1490)، وهو يقترب من الكوميديا لتماسك خواصه ومعالجة حالاته. مع القرن السادس عشر، تتم ولادة التراجيديا حسب صيرورة تشبه تلك التي في إيطاليا: كان الأنسيون يحاكون باللاتينية روائع الأقدمين. وكانت هذه الأعمال التي يجري تمثيلها في الكليات اليسوعية – بقي هذا التقليد المدرسي حتى أواسط القرن الثامن عشر – تحظى غالبا بالنجاح المتواصل (جيفتيه لبوشانان، يوليوس قيصر لميريه). وفي الوقت نفسه، ظهرت ترجمات لنفس هذه الأعمال القديمة باللغة العامية. وأخيرًا، تم إعداد مسرحية كليوباترا أسيرة لجوديل (1552)، واعتبر ظهورها كتاريخ محوري، وقد كان غارنييه ومونكريستيان الخليفين الأكثر لفتًا للنظر لجوديل. وعلى دهشة ما يبقى هذا المسرح أقل درامية، وينحصر على التزويق الجامد للموضوعات. أما الأعمال التي تثير اهتماما أكبر، فهي التي تم فيها اختيار موضوع حديث أو توراتي (وليس يوناني أو لاتيني) يطلق النبرة قليلاً، ويجبر على الجدّة والابتكار(جان دو لا تاي). أخيرًا، أفضت الرعوية (مسرحية أبطالها من الرعاة، نوع آت من إيطاليا) إلى ميلاد أعمال هجينة أكثر وبلاغية أكثر: فقط برادامانت لغارنييه تخرج عن المألوف. وفضلاً لهاردي تم إحلال فعل درامي حقيقي محل ما هو نجعي ساكن لهؤلاء الرواد. ومن الآن فصاعدا صار الترفيه والتسلية وقفا على نوعين جد مميزين، التراجيكوميديا والرعوية (بيرام وتيسبيه لتيوفيل، القصائد الرعوية لراكان، سيلفي لميريه، آمارانت لجومبو). ثم، في اللحظة التي بدت فيها التراجيكوميديا، بسبب تجاوزاتها، تحتل وحدها المسرح الفرنسي، سمح إدخال الوحدات من طرف ميريه للتراجيديا الموزونة أن تولد فجأة مع سوفونيسب (1634)، وقد أقنع شابلان ريشيليو بصواب المعايير. أما بالنسبة للجمهور، فلم يقبل هيمنة المسرح الشعري إلا حوالي 1640 – مع تذوقه القوي مثلا لمسرحيات غير موزونة لواحد مثل سكيديري في الوقت ذاته. وقد أثر التأسيس التدريجي للوحدات في بحث المؤلفين عن الاحتمال (القريب من الحقيقة): مفهوم أساسي لفهم وموقعة المسرحية الهامة مكانة وأثرا التي هي السيد. أما التراجيديا التي عبرت عنها سنة 1636 مسرحيتا موت يوليوس قيصر لسكيديري وماريان لتريستان، فقد جمدت من البلاغة والتقعر. وسط هذا الركود أو هذه السوقية، سطعت مسرحية السيد، وأثار نجاحها غيرة الجميع، لكن المشاكل الباطلة لخصام السيد قد سمحت بحل المشاكل الحقيقية. أما عن طول العمل، فهو يؤكد غناه المؤسس له. والمعاصرون الذين لم تسحقهم عبقرية كورنيي هم دي رييير، تريستان، وعلى الخصوص المبتكر روترو، الوحيد في عصره الذي ذكر شكسبير. عندما دفع الفشل الذي لحق بمسرحية بيرتاريت (1651) كورنيي إلى التقاعد مؤقتا، رأينا كينو وتوما كورنيي (شقيق بيير كورنيي) يتواجهان، فاحتلت نجاحاتهما مرحلة ما بين 1650 و1665، وهيأت لمجيء راسين الذي عملت مسرحيته آندروماك (1667) الضجة نفسها التي حصلت للسيد قبل ثلاثين عاما. وقد ترك في الظل الإنتاج المعاصر واللاحق الجديد الشعري الراديكالي للعمل الراسيني والحساسية المضطرمة لعبقري التي جعلت من العاطفة الإنسانية الحافز الأوحد للحقيقة الدرامية: روائع عقد تلمع وحيدة. الوحيد الذي صمد هو كورنيي، والذي كانت سيرينا (1674) ذات جزالة ورفعة عظيمتين، ولكنها أهملت عن غير حق، فلم يكن برادون وكامبسترون إلا تفه ومسوخة.

خلال هذا القرن السابع عشر، أغنى قرن للمسرح الفرنسي، ازدهرت الكوميديا بشكل نهائي. هي أيضًا، التي رسم خطوطها الأولى جوديل (يوجين أو اللقاء 1552)، لم تفعل، خلال كل القرن السادس عشر، غير أتباع إيطاليا: حبكات معقدة، تعبيرات عن عمد ماجنة، تقليد مصطنع، كل هذا ميز إنتاجًا هيمن عليه لاريثي (1540-1611). وبعد أن ظلت شبه غائبة خلال ربع القرن السابع عشر الأول، ولدت الكوميديا من جديد بفضل روترو، كورنيي، ميريه. وبوصفها متحررة بتحديد منتظم للنوع التراجيدي، حققت الكوميديا قليلا قليلا استقلالها بفضل ديماريه، سكارون، بواروبير، توما كورنيي، كينو، سيرانو دو بيرجيراك، تريستان، حتى أن نجاحاتها ستذهب في سنوات الخمسين إلى حد إحلالها محل نجاحات التراجيديا. هذا ولا يمكن إهمال إسهامات كورنيي، مؤلف عدة كوميديات قبل السيد (رواق القصر، الساحة الملكية)، في سجل الواقعية الروحية. أما المسرحيات الأخرى لتلك السنوات، فهي تنهل بالأحرى من الذخيرة الإسبانية. ولم يظهر تحليل سجايا الأبطال كموضوع أساسي للكوميديا إلا مع أصحاب الرؤى لديماريه (1637). وسواء أكانت ابتكارًا أم تقليدًا تظل كل المسرحيات من صنف هزلي جد كبير (المتحذلق لسيرانو 1654). ومرة أخرى، يعرف العظيم كورنيي كيف يبقى مستقلاً وحاذقًا (الوهم الهزلي 1635). لكن الأساسي في هذا يعود إلى التمثيلية المضحكة التي كانت تهيمن عندما بزغ نجم موليير، الذي جاء من نفس الوتين. وبسرعة ما أصبح التفاوت عظيما بين عبقرية كاتب طارطوف ومذهبة معاصريه و-غالبا- منافسيه: بين الكوميديات المعاصرة، لا يمكن ذكر إلا محبي الدعاوى لراسين، الأم المتظرفة لكينو، وقليلا فيما بعد رجل السّرّاء لبارون. على أي حال، ستشاهد نهاية عهد لويس الرابع عشر ميلاد ثلاثة مواهب هزلية حقة، موهية رينيار، الذي كان قصده أولاً التسلية – تسلية المشاهدين وتسلية نفسه، ثم دانكور، دون موهبة حقة لكنه كان يحقق انتقالاً أساسيًا مع ماريفو، وأخيرًا موهبة لوساج، الذي كتب تيركاريه 1709، رائعة الواقعية. ولولا ماريفو وبومارشيه اللذين أضاءا القرن الثامن عشر، لكانت المرحلة الأقل عطاء في حياة المسرح الفرنسي، فقد انحطت فيه التراجيديا تمامًا (رادامست وزنوبيا لكريبيون، أوديب لفولتير). لم يكن أحد من حول فولتير ولا من بعده قد اقتبس عن شكسبير غيره، وكانت محاولات ديسي مرحلة هامة في إدخال العبقرية الإنجليزية الكبرى إلى فرنسا، أما الكوميديا في توجهاتها المختلفة، فقد كانت أكثر خصوبة. وبالتأكيد نضع في الصف الأول ماريفو: كان التحليل السيكولوجي لمولد المشاعر من وراء الازدهار الأساسي لهزلي جرى تهذيبه أكثر فأكثر، وأقرب ما يكون غالبا من نجعي يلفه الحذر على التقريب. ويعود الفضل الحالي لمسرح ماريفو إلى تركه في الظل اتجاهات أخرى لا يستهان بها من الكوميديا: يمثل ديتوش (المجيد 1732) بقاء مثيرًا للضجر لكوميديا السجايا، لكن الطائل في رداءة أعماله أقل من تطور الذوق الذي كرسته جزئيا. وشيئًا فشيئًا، أصبح الضحك من عدم الحشمة والبكاء من اللياقة: لقد عادت الهيمنة المسرحية للإحساس والتأثر إلى أنواع الكوميديا البكائية والدراما. تمثل الأولى أعمال نيفيل دو لا شوسيه (ميلانيد 1741)، أما الدراما، فقد كتب فيها خاصة سيدين الذي يقوم موقع مسرحيته فيلسوف دون كلمة (1765) -عمل أساسي من أعمال القرن الثامن عشر- كثيرًا فوق مسرحية ديدرو المملة ابن طبيعي (1771) والعديد من مسرحيات بومارشيه. أخيرا، يجب ألا نهمل التيارات الهامشية مثل مسارح الأعياد الشعبية التي عني بها بيرون، فاديه، فافير، وغالبًا ما كان يجري توجيهها نحو الأوبرا الهزلية أو الكوميديا الهجائية لواحد مثل غرييه ولواحد مثل بوانسينيه. يبقى أن الاتجاه العام لكوميديا القرن الثامن عشر الجادة كان يسعى إلى أن يحل رسم "الشروط" محل رسم السجايا (ديدرو، بومارشيه).

بعد نجاح بومارشيه وإحياء عابر للتراجيديا تحت الثورة (شينييه)، أطفأت الإمبراطورية المسرح الذي لم يبق على قيد الحياة منه غير الأشكال الرسمية (دراما وتراجيديا شعرية) أو الأشكال الأكثر شعبية (كباريه، ميلودراما). لم يكن لانفجار الرومنطيقيين الذي يؤرخ له في العام 1820، العام الذي نشرت فيه تأملات، أي أثر فعلي على المسرح إلا بعد عشر سنوات (معركة هرناني في 52 فيفريه/شباط 1830). لقد اعتمدت "الدراما الرومنطيقية" على مبادئ غير ذات جديد كبير: إلغاء الوحدات (سبق وأن تم ذلك بالفعل عند بومارشيه)، خلط الأنواع (سبق وأن كان حاضرًا في الدراما البرجوازية)، ترك الأسلوب النبيل، البحث عن اللون المحلي، وقد عبر عن هذه النظرية التي عرض لها هيغو في مقدمة كرومويل (1827) أربعة كتّاب. عند ألكسندر ديما ، لقد ساد النجعي الفظ والفعل المغامراتي العنيف (أنطوني 1831، برج نيل 1832). هذا وقد تكيفت عبقرية هيغو مع المسرح دونما تكافؤ: تطور أبطاله البيرونيين (نسبة إلى بيرون) في عالم مستبعد الحدوث دراميًا وسريع سيكولوجيًا. تبقى المعرفة التاريخية، القوة، وأحيانا الدعابة. لفينيي لم تكن ذات قيمة غير شاطرتون (1835)، واحدة من "الدرامات الرومنطيقية" النادرة، والتي تستأهل البقاء لنبل نبرتها الذي يميز هذه الصورة المثالية للشاعر. أخيرًا، يجري التنبه بشكل متأخر جدًا إلى المسرحية المثيرة لورنزاسيو (1834 وتمت مسرحتها سنة 1896) التي لمعت، والتي تفوقت على كل التجارب الغامضة. وكانت النتيجة الملموسة الوحيدة التي تحققت للمسرح بفعل الرومنطيقية حين تم خنق التراجيديا "الكلاسيكية": لقد وجب على دولافيني بعد صلاة العصر الصقلية (1819) أن يلبس أولاد ادوار بالبهارج الرومنطيقية لكي يصفّق لها (1833). وفيما بعد، عاد بونسار، الذي بدا أن مسرحيته ليكريس قد دفنت حامي القلعة الألمان لهيغو (1843)، إلى المواضيع الحديثة مع شارلوت كوردي (1850 والأسد العاشق (1866). في الواقع، النوع المسرحي الوحيد الذي كان ازدهاره حقيقيا ودائمًا خلال سنوات 1800-1850 هو الميلودراما. وإذا نظرنا إلى المسرح من وجهة نظر نجاحه الشعبي - وهذا ما يعود في الحقيقة إلى التاريخ – فان اسم بيكسيريكور الذي يجب إبرازه مصاحبا للممثلين فريديريك-لوميتر وماري دورفال، وكلاهما قد تكوّن في مسرحيات ديكانج. وعلى العكس، فان ممثلة مثل راشيل من الكوميديا الفرنسية، قد عرفت، ابتداء من عام 1845، أن تعيد للتراجيديات الحقيقية، تراجيديات القرن السابع عشر، نجاحها الباهر من جديد.



كوميديا القرن التاسع عشر هي كوميديا متنوعة، لم تعد موجودة تحت الإمبراطورية أو أنها تتسرب في أنواع ملحقة مثل الدراما التاريخية ( بنتو للوميرسييه 1800). لقد تركها الرومنطيقيون: كتب ديما بالأحرى مسرحيات هزلية خفيفة، أما مسرح ميسيه، فغالبا ما كان يجري تمثيله سنوات بعد كتابته، وقد وضعته عبقريته الفانتازية، المرة والشعرية، في مكان خاص تمامًا. كان الاسم الكبير للمسرح الهزلي من سنة 1815 إلى سنة 1850، وهذا ما يحدد فقره، اسم سكريب. الدراما الرومنطيقية ميتة، الكوميديا محتضرة، كان من اللازم فتح طرق أخرى. اكتفى البعض بتقديم المسرحيات الهزلية الخفيفة بكل موهبة، إما في المسرح مثل لابيش (رحلة السيد بيريشون 1860) وساردو، وإما في قيادة الاوركسترا مثل ميياك وهاليفي، اللذين حققا نجاحا لأوفنباخ تحت الإمبراطورية الثانية. ولكن حاول كاتبان تأسيس "مدرسة الرشاد": أوجييه مع غابرييل ( 1849)، وديما الابن مع سيدة الكاميليا (1852) ودراماته "الاجتماعية" الأخرى. وبعد ذلك، سيكون فشل المسرح الطبيعي الذي حاول زولا التأسيس له ابتداء من العام 1880: كان يمكن لجبلة الروائي الملحمية التي له أن تحيي أطروحة، ولكن التحديد الضروري للغة المشهدية لم تترك من روغون-ماكار أن يبقى غير هيكل عظمي يرثى له. الوحيد الذي نجح في رهانه على حمل الطبيعية إلى المسرح كان في الوقت ذاته الأقل انقيادًا لنظريات زولا: انه بيك. لقد أعطى نظامه الدرامي ميلادا لمسرح أنطوان-الحر (1887)، ثم، كرد فعل، لمسرح مور الفني (1890)، الذي أصبح في العام 1893 مسرح أعمال لونييه-بو. وهكذا شجع أولئك الطليعيون تطور الاتجاهين المتوازيين، الأول موروث عن الطبيعة، الثاني مرافق للرمزية. وبمكن أن نميز ما ندعوهم ب"الملاحظين" حتى الحرب العظمى: كيريل وبورتو-ريش اللذان سيخلفهما عما قريب باتاي وبيرنشتين، وب"الشاعرين" ماتيرلنك والشاب كلوديل. وبالتوازي مع هاتين القريحتين "الجادتين" (الثانية فقط التي سيكتب لها البقاء) استمرت الكوميديا الخفيفة (المؤلفان فلير وكايافيه) والمسرحيات الهزلية الخفيفة (المؤلف فيدو) في مقاومتها، حتى أن موهبة واحد اسمه كورتولين قد فاقت المستوى المعتاد لهذا النوع. أخيرًا تفسر جزئيًا الروح الوطنية المغذاة في فرنسا منذ هزيمة 1871 نجاحات روستان المتعذر تصنيفه.

بعد حرب 1914، تأكد انتشار المسرح تحت أشكاله المتعددة، وقد سمح عدد المنشطين (كوبو، بيتويف، دولان، جوفيه، باتي) للمحاولات الجديدة أن تجد مكانها إلى جانب المسرح التقليدي. بحث بعض المؤلفين عن نماذج نادرة، وبنوا المسرح اللاإنساني أو فوق الإنساني (لونورمان، باسير، رينال). وتواصل النوع الخفيف الذي عبر عنه غيتري وسارمن حتى أيامنا هذه في أعمال آشار الغزيرة، وتبدل إلى دراما عند كروملانك، إلى تمثيلية مضحكة سريالية عند فيتراك. وجمع المسرح المسمى "حميمي" كتّاب مثل فيلدراك، جيرالدي، برنار، كرد فعل ضد تفخيم الكلام. وعرف الهجاء نجاحات جميلة، إما في الجرأة الأدبية مع بورديه، وإما في التمثيلية المضحكة المبتكرة مع رومان وباتيول، واتحد النوعان في أعمال واحد اسمه سالاكرو. وسيطرت إلى سنوات الثلاثين إنتاجات جيرودو التي أخذ تنوعها الأقصى الذكاء قاسمًا مشتركًا.

بينما كتب كلوديل في الأخير سنة 1943 حذاء الساتان وسنة 1948 توزيع منتصف النهار، وجاء الروائيون إلى المسرح (مورياك، غرين)، فرض اسمان نفسيهما بشكل نهائي: آنوي ومونتيرلان، اللذان بحثا بوسائل متعارضة عن طرق العظمة الإنسانية في وجه القدر، لكنهما لم يتهما بشيء التقاليد المسرحية. أيضًا أبدى نجاح سارتر أو كامو أفكارًا أكثر منها تجديدًا للتقنيات، وعلى العكس، ساهم العديد من الدراميين الآخرين في العمل على أن تتسم مرحلة ما بعد الحرب بجدّة خصبة. وبعد الطليعيين الذين هم في الأساس غيلديرود، فيان، والى جانب الشعراء المستقلين أمثال أوديبيرتي وشيهاديه: إنهم يونيسكو، جينيه، وخاصة بيكيت الذي صارت تمثيلياته المنتمية إلى مسرح العبث كلاسيكية. أخيرا، بين الأسماء قريبة العهد، سنلاحظ أسماء أوبالديا، فوتييه، ديبيّار، آداموف، بييهدوو، آرّابال. لقد بحث كل هؤلاء المؤلفين إما عن طريق الفنتازيا أو التحريض، إن كان يمكن في أيامنا هذه، عن لعبة مسرحية، مسألة طرحها آرتو بكل حدتها. أخيرًا، لنذكر أن تاريخًا للمسرح لن يكون شاملاً إلا عندما نسجل عن وعي استمرار المسرح "السهل" في كل زمن: لم يزل مسرح "البولفار" موجودًا (جادّيّة، مسرحية هزلية وشعبية كانت أصلاً تعرض في الجادّات)، وهو يجتذب الجماهير التي ليس من السهل أن تجدها.

* عن قاموس الأدب الفرنسي والفرانكفوني، تأليف هنري لوميتر، دار بورداس، باريس.






الرواية


مثلما هي تدعى لغاية اليوم: اللغة الأدبية لشمال فرنسا، وابتداء من العام 1066 لإنجلترا. والحال هذه نعلم أن إنجلترا وفرنسا الشمالية كانتا ستغدوان منطقة لتطور حضارة كان التعبير الأدبي ذو الامتياز فيها يتخذ شكل السرد. وهكذا تمت ولادة النوع الأدبي للرواية وشخصية الروائي كما تشهد على ذلك ديباجة رواية الفظ لجرسيه واس (حوالي 1150).

لنلاحظ أنه مع ظهور الرواية قد انتهت الغفلية الأدبية، صفة الشكل الملحمي للأدب السردي. ومع روائيي القرن الثاني عشر الكبار الذين في مقدمتهم كريتيان دو تروا، بسطت الرواية ما يعتبر جوهرها تمامًا: القص السردي -عدد من الروايات روايات "نهرية" – الغزارة، اللامتوقع واللامألوف من الأحداث والمغامرات، تميز الشخصيات الأساسية بالوصف والتحليل النفسي، تفضيل تقلبات القلب والحساسية والعاطفة -الحب على الخصوص، ولكن أيضا الطموح والشرف – وأخيرا التوجه إلى تنظيم العالم الروائي المعقد من حول شخصيات مركزية، البطل كما في بيرسفال لكريتيان دو تروا، أو الزوجان كما في تريستان وايزوت. وليس هناك ما يصل إلى لعبة الواقع والخيال، لعبة بارعة في الغالب، كما في الرواية القروسطية.

فيما يخص الواقعية، بحصر المعنى التي ستلعب فيما بعد دورًا جد هام في تطور الرواية، وعلى الخصوص ابتداء من القرن الثامن عشر ، وبالأحرى في الأدب القروسطوي، كان اختصاص هذا الشكل الآخر للسرد هو القصة، من الحكايات الشعبية المنظومة للقرنين الثاني عشر والثالث عشر إلى المائة قصة جديدة للقرن الخامس عشر، رواية الثعلب نفسها، على الرغم من عنوانها وحضور بطل مركزي، ليست رواية حقيقية، بل بالأحرى سلسلة من الوقائع المرتبط بعضها ببعض بواسطة تقنية تركيب على طريقة "الجوارير"، في القرن السادس عشر سيعمد رابليه إلى شكل الرواية-النهر ليترجم بشكل ملموس رؤيته الساخرة للواقع ومفاهيمه البيداغوجية والاجتماعية. ولكن يجب انتظار القرن السابع عشر لنرى ظهور عصر ذهبي آخر للرواية. أولاً انتشار الرواية المتحذلقة (الآنسة دو سكوديري): تسترجع هذه الرواية المعطيات التقليدية للامألوف والمغامرة وشكل الرواية النهر، وهي أيضًا مرآة لمثالية نفسية، خلقية، واجتماعية، وهي تشخص في الحبكة وتقاليد الرواية (خاصة الرعوية) ميثولوجيا أحد مشاريع الكمال الإنساني. سنلاحظ أخيرًا بين سمات الرواية المتحذلقة بروز أنثوية اجتماعية وأحيانا مناضلة، سبق لها وأن كانت حاضرة في الرواية القروسطوية، ستعود إلى الظهور بشكل منتظم في التاريخ اللاحق لهذا النوع. هكذا يتشكل، في النصف الأول من القرن السابع عشر، ما سيدعى فيما بعد بمصطلح روائي (من رواية)، خيالي إن أردت أو وهمي. وتبعًا لهذا الروائي سيفسر التيار الكبير الآخر لرواية القرن السابع عشر، المدعو "بالواقعي"، والذي سيتوزع بين ضد الرواية لشارل سوريل، في نقض مطلق للروايات المتحذلقة والواقعية المدققة "البورجوازية" لفورتيير. هكذا يظهر في تاريخ الرواية الأدبي هذان الزوجان المتضادان للروائي ولضد الروائي، واللذان سيبنيان في جزء منهما تطور الرواية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

لكن القرن السابع عشر في مرحلته الكلاسيكية مع مدام لافايت وأميرة الكليف لهو أيضا عصر ولادة الرواية التحليلية المقاومة لإغراءات الرواية النهرية التي ستجري استنباطا للرواية، وستقيم الشخصية بوصفها سمة واقعة تحت ضغط المعاناة الكاشفة لأزمة، وبالتالي ستحيل دور الحدث إلى دعامة بسيطة لتشخيص الأزمة النفسية. أما تقنيتها، فرواية التحليل ستلجأ إلى السرد والوصف رمزيًا، وتستعمل طرائق التحليل النفسي المختلفة مباشرا أو غير مباشر: وصف تقلبات النفس وتطوراتها، الحوارات والحوارات الداخلية. وبدءا من ذلك، ستبقى الرواية التحليلية، تحت أشكالها الأكثر تنوعًا، من غييراغ إلى لا كلو، بنيامين كونستان، فورنتان، مورياك، آرلان أو شاردون، وحتى يومنا هذا، إحدى كبريات ثوابت الرواية الفرنسية.

ومما لا شك فيه، يسجل القرن الثامن عشر تحولاً في تاريخ الرواية: هذا القرن سيبدأ أولاً بانتشار الرواية ذات ضمير المتكلم، وسيؤسس أيضًا للرواية القائمة على التخيل السير ذاتي (مانون ليسكو للقس بريفو كما الفلاح المحدث النعمة لماريفو)، والتي ستسمح للرواية بامتلاك وظيفة جديدة، وذلك باستعمالها قناعًا لسيرة ذاتية خيالية قام بتدشينها روسو تحت شكل رواية الرسائل (جولي أو هيلويز الجديدة)، الرواية السير ذاتية، تحت هذا الشكل أو تحت شكل السرد بضمير المتكلم، سيكون شكلها الشكل ذا الامتياز لرواية العصر الرومنطيقي (شاتوبريان، كونستبن، ساند، فرومنتان).

من ناحية أخرى، وفي جزء منه تحت تأثير رواية التشرد والمغامرة الإسبانية (لوساج في ترجمته لغوزمان والفاراش وجيل بلاس) وأيضًا الرواية الإنجليزية لريتشاردسون أو لفيلدنغ، سيستعمل القرن الثامن عشر البنية التقليدية للمغامرة، ولكن للمغامرة الواقعية، من أجل عرض، بطريقة بارزة تقريبًا، لعلاقة الصراع، للهيمنة أو للتحدي الذي سينشأ بين الفرد والمجتمع (من ماريفو إلى ريستيف دو لا بروتون): كذلك توجيه عمل ليس رواية إلا نصفه مثل ابن أخ رامو لديدرو. حسب هذا المنظور، يمتلك النوع الروائي في الواقع أكثر ليونة وأقل انتظامية، وعند ذلك، ترنو الرواية إلى أن تصبح النوع الأكثر حرية بين كل الأنواع الأدبية، حتى أنها تتوقف ربما عن أن تكون "نوعًا" حقًا وحقيقة.

وهكذا فتحت الطريق لما سيكون الطموح الكبير للقرن التاسع عشر، الرواية الشمولية، حيث سيجتمع بشكل مكثف عالم اجتماعي وإنساني بكليته: وهذا ما سبق أن كان مرمى رواية الكونت مونت-كريستو لدوماس، الكونسويلا لساند، البؤساء لهيغو، ولكن بالتأكيد اكتملت الشمولية الروائية في البناء العملاق للكوميديا الإنسانية لبلزاك، مشروع سيخوض في غماره زولا في نهاية القرن مع روغون-ماكار في الحدود الأكثر ضيقا للطبيعية والإيديولوجيا العلموية. لكن الفرادة الإنسانية لهذا، لطموح الرواية الشمولية هذا، يعتمد بلا شك على أن تغدو الرواية الشكل الحديث للملحمة، وذلك بفضل عبقري اسمه بلزاك أو آخر اسمه هيغو أو ثالث اسمه زولا، لأنه حتى في إطار الواقعية أو الطبيعية، فان الشمولية الروائية تحتم تضخيم الأحجام والأبعاد الذي هو من طبيعة الملحمة. وأخيرًا في هذا المنظور نفسه، تأخذ الرواية التاريخية لدوماس أو لهيغو مكانها تحت تأثير سكوت، وهي أيضًا محاولة لإعادة إحياء حضارة ومجتمع، والتي اصطدمت من ناحية أخرى بصعوبات تقنية لم تعرف إلى اليوم التغلب عليها.

لكن سجل العصر الرومنطيقي في الرواية موضوعات روائيته الخاصة: امتداح الحب-العاطفة، نشوة أحلام السعادة بواسطة هيجان الأحاسيس، كل الموضوعات التي يجري التعبير عنها بكثير من الحدة في روايات ساند الوجدانية (انديانا، ليليا)، روائية ستتشكل مع بعض الواقعية في مشاهد من حياة بوهيمي لميرجيه. وحوالي العام 1850ستثير هذه الروايات "الروائية" التي عمت أدب الدرجة الثانية -كما حصل في القرن السابع عشر- رد فعل واقعي من طرف المعارضين للرواية (كلب-حصى لشانفليري، تعاسة هنرييت جيرار لديرانتي، وعلى الخصوص مدام بوفاري لفلوبير). لكن فلوبير لهو أيضا ممثل اتجاه جمالي للرواية يرتبط بمذهب الفن للفن، يكشف عمله عن موقف مزدوج لمعارضة الرواية، حتى أنه يعلن عن قيام "الرواية الجديدة" للقرن العشرين، بالقياس إلى أن عمله يسعى إلى الإنقاص من قيمة مادة الرواية، وعلى العكس من أجل تقييم الكتابة الروائية. وبهذا الخصوص يتقدم مؤلف مدام بوفاري حوالي القرن عن زمنه.

لأن الهيمنة الكبرى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ستكون للطبيعية، كانعكاس أدبي للوضعية والعلموية مثلما يظهر مرجع زولا لعمل كلود برنار (الرواية التجريبية) والنظريات البيولوجية للوراثة: يفسر أيضًا التركيب القائم بين الإلهام العلمي وجمال الشمولية الروائية الموروثة عن بلزاك غموض الطبيعية على العموم وعمل زولا على الخصوص. فالمبدأ العلمي للطبيعية يهدد بحرمان الخيال الروائي من كل شرعية، إذ على الرغم من كل شيء، فان الرواية عند زولا تبقى أيضًا خيالاً.

ستنفجر أزمة الطبيعية في السنوات الأخيرة من نهاية القرن، فإما أن تفقدها مبالغاتها كل قيمة (بيان الخمسة بعد صدور الأرض لزولا سنة 1887 وتطور ويسمان) وأما -وهذا الأمر كان أكثر حسما- أن يجري ربط أزمة الرواية الطبيعية بالأزمة العامة للوضعية والعلموية التي أظهرتها في العام 1888 دراسة بيرغسون حول المعطيات الحالية للوعي. والواقع أن أول تجديد كبير لرواية القرن العشرين مع بروست سيكون تجديدا بيرغسوني: في إطار رواية كتبت كلها على التقريب بضمير المتكلم، وهذا ما يشكل جوهر البحث عن الزمن الضائع نفسه. إنها مغامرات الذاكرة وأحداث الوعي، الواقعية نفسها الاجتماعية والنفسية -لأن هناك أيضًا بعدًا بلزاكي المنحى في البحث عن الزمن الضائع- تجد نفسها قد استبطنت كليا. أيضا يلتصق روائيو الأنا برواية الوعي، وان كان ذلك بطريقة أقل بيرغسونية، الأنا الحية والخلاقة، مثل الكتابات الأولى لبارس، وأندريه جيد في كتابه المزورون (العمل الوحيد الذي عنونه ب "رواية") وفيه يثبت نمط الرواية في وعي الروائي (شخصية الروائي كاتب المذكرات في المزورين).

هكذا سينفتح في النصف الأول للقرن العشرين وسيزدهر عهد ذهبي جديد للرواية: ستغدو الشكل المهيمن للتعبير الأدبي، ستغزو كل مواضيع الريادة الممكنة، الوصف أو التحليل، واليها ستذهب كل الجوائز الأدبية مثل عونكور في البداية ثم رونودو، فيمينا، انترآليه، وكذلك تفضيل الجمهور. عندئذ تظهر الرواية كمرآة للإنسان والعالم، وتعيد لحسابها، تحت أشكال متعددة، طموح الشمولية إرث القرن التاسع عشر: إنها الرواية النهرية لرومان رولان، لمارتن دي غار. قي عصر أزمة روحية ومولد جديد للقلق المسيحي، بالرواية يعبر كبار الناطقين باسم هذه الأزمة وهذا القلق: مورياك، برنانوس، غرين، مالغ. أخيرًا ستجد كل الموضوعات الأدبية الكبرى في الرواية أفضل تعبير: المغامرة واللهو مع ماك أورلان، فاليري لاربو أو آلان فورنييه، التحليل النفسي مع راديغيه، آرلان أو شاردون، المجتمع مع آراغون أو سيلين، الطبيعة مع كوليت، جيونو، راموز، بوسكو أو جينفوا.

هذا وقد حدث في الثلاثينات من القرن الماضي (الشرط الإنساني لمالرو سنة 1933) نوع من القطيعة: ها هو الإنسان الفريد يتصدر المشهد الأدبي، الشخصية المتميزة بعظمتها أو باستثنائيتها، وبكلمة واحدة البطل، والذي هو في تعريفه ملتزم في فعل يحاول من خلاله تحقيق إنسانية كاملة بمواجهته للقدر، سواء أكانت الأنانية دافعه مثلما هو عند مونترلان، التفاني مثلما هو عند سانت-ايكزيبيري أو الالتزام مثلما هو عند مالرو. قطيعة لم تكن دون علاقة مع عودة الوعي المأسوي في سنوات الثلاثين نفسها، والذي أخذ يظهر من ناحية أخرى في المسرح. وصحيح أن الرواية البطولية هي أيضًا الشكل الحديث للمأساة، لأنها تركز على الصراع بين القدر والإنسان. بمعنى أنها باستنادها إلى القدر، تضطلع، ببعد ميتا فيزيقي، وباستنادها إلى الفعل الحدثي، أي إلى التاريخ، تستخدم ما سيدعى قريبا الالتزام. ومما لا شك فيه أن أعمال كامو أكثر من أعمال سارتر–على الأقل فيما يخص الرواية- التي تجيب بشكل أفضل على هذا التوجه المزدوج للرواية، ومن الجدير بالملاحظة انه يوجد عند كامو نوع من التضامن بين الرواية والدراسة: أسطورة سيزيف (دراسة) تصاحب الغريب (رواية)، كما تصاحب دراسة الإنسان المتمرد رواية الطاعون. وهكذا كان الانطباع في سنوات الخمسين أن الرواية التي بدأ النقاد ينعتونها "بالتقليدية"، قد استهلكت قي نصف قرن كل الافتراضات التي تحتوي عليها التصورات التقنية والجمالية الموروثة عن القرن التاسع عشر. وفي العام 1953 ظهرت أول رواية لروب-غرييه، الممحاة، بينما نشرت سنتين من قبل أول رواية فرنسية لبيكيت، مولوا، كانت الإشارة إلى ما سيدعى بالرواية الجديدة، التي تتميز برفض كل بنى وكل أهداف الرواية التقليدية، وبالتركيز المطلق على تسجيل العالم كمجموع من العناصر-الأشياء، وترجمة هذا التسجيل "بكتابة خالصة"، وما أدل على ذلك إحلال مفهوم الكتابة ذاته محل الأسلوب.

لكن الرواية الجديدة لم يمكنها مع ذلك إلغاء الرواية التقليدية التي استمرت في حال قوية جدا، وذلك عندما امتلأت صفحاتها بشخصيات وأفعال وديكورات تقترحها تجربة الإنسان المعاصر. ولربما سوف نحفظ على الخصوص، كخاصية من خواص الزمن المعاصر، انتشار الرواية السير ذاتية، سواء أكانت مباشرة أو خيالية. ودون شك، من المهم أن نلاحظ تحول روائيين إلى السيرة الذاتية مثل غرين أو مورياك، مالرو، سارتر أو آراغون، وعلى دربهم سار العديد من الروائيين. ويبدو أنه مقابل موضوعية الرواية الجديدة الكاملة هناك انفتاح آخر يدعو الرواية إليه، انفتاح على الذاتانية، التي أكثر ما يناسبها من شكل أدبي هو السيرة الذاتية.

وهكذا يتطور نوعان أدبيان متعارضان ومتوازيان تربطهما بالرواية أربطة رخوة نسبيا، "الرواية الجديدة" (التي ربما يجدر البحث عن مصطلح آخر لها) والرواية السير ذاتية، مع العديد من النصوص المختلفة التي يمكن إضفاؤها للواحدة أو للأخرى.


* عن قاموس الأدب الفرنسي والفرانكوفوني، تأليف هنري لوميتر، منشورات بورداس، باريس.





الشعر


شعر باليونانية يعني فعل الخلق، فمنذ العصور القديمة يشير الشعر إلى الخلق الأدبي، وقد عارض أرسطو في شعريته الشعر بالتاريخ، ووفقًا لما يقول، فان الشعر إبداع وخلق بالقدر نفسه الذي يتخذ فيه مادة له ليس الواقعي أو التاريخي وإنما الخيالي، بشرط أن يكون من نسق الممكن والمحتمل. أما بخصوص الأنواع الشعرية، فقد اعترفت العصور القديمة بثلاثة منها أساسية: الملحمي، الغنائي، والدرامي.

وهكذا بتميزه عن الأدب التاريخي، السياسي، الخطابي أو الفلسفي، يتجلى الشعر بخصوصية لغته، حتى أنه يحصل أن يستعمل لغة خاصة، أدبية خالصة، كما هو الحال في الأدب اليوناني، بالنسبة لهوميروس أو لجوقات التراجيديا. ويكمن تفرد اللغة الشعرية باستعمالها البنى الصوتية والموسيقية وخاصة إيقاعات اللغة وذلك بمنهجتها وتنظيمها (إدخالها في منهاج ونظام): إنها أولاً وقبل كل شيء لغة إيقاعية. ويعطي التنظيم الإيقاعي ميلادا، حسب الطبيعة الخاصة بكل لغة، لنماذج مختلفة من "نظم الشعر"، وذلك بوصف بيت الشعر الوحدة الأساسية للغة الشعرية: نظم بحري (مختص بوزن الشعر)، عندما يقام الإيقاع على أساس كمية المقاطع إن كانت طويلة أم مختصرة ( حال الشعر اليوناني والشعر اللاتيني). نظم شعر نبري، عندما يقام الإيقاع على توزيع الأصوات في البيت الشعري (حال الشعر الإنجليزي). نظم شعر رقمي، عندما يقام الإيقاع على عدد المقاطع اللفظية (حال الشعر الفرنسي). سنلاحظ أنه حتى لو تحررت اللغة الشعرية من قواعد نظم الشعر العامة، كما هي خال قسم كبير من شعر القرن العشرين - أقصى أشكال هذا التحرر "قصيدة النثر" (موريس دو غيران، بودلير، رامبو، ماكس جاكوب) -، لم تلغ مع ذلك المبادئ التي تحدد نظم الشعر، لكن تكيف تطبيقها مع متطلبات الإلهام الخاصة ليس في إطار الشعر بشكل عام بل القصيدة التي كانت تعتبر وحدة تعبير مستقلة. وتندمج في هذه البنية الإيقاعية، أيًا كان شكلها الخاص، لتلعب فيها دورًا مهمًا تقريبًا، عناصر صوتية، صفة ما هو رنان، مجانسة صوتية، سجع، قافية. أخيرًا من الجدير أن نذكر أن الشعر غالبا ما ارتبط بالموسيقى، وهذا الربط بالذات هو ما يحدد منذ الأصل الغنائية.

وهكذا تبدو اللغة الشعرية كطريقة تعبير خاصة للعمل الأدبي.وهذا ما يفسر، في العصور الوسطى مثلا، أن الأدب، أيا كان نوعه، يستخدم أشكال التعبير الشعرية ذاتها. وهذه حال الأنواع الأساسية الثلاثة للأدب الفرنسي: ملحمة أغاني الحركة، الرواية، برجوازية (رواية الثعلب) أو غزلية (كريتيان دو تروا)، وغنائية الشعراء الجوالين والغنائيين، وكأن ذلك من أجل إظهار أطروحة أرسطو وإشهارها ستكون أولى آثار النثر الفرنسي أعمالا تاريخية (فيلهاردوان)، بينما ستلجأ الرواية والقصة أيضًا إلى النثر لصلتهما بتطورات الواقعية. وينتج عن ذلك، ابتداء من القرن الثالث عشر، اتجاه الشعر نحو الاقتصار على الغنائية، وأحيانًا على الشكلية: ستعمل الغنائية التي بدأت بالتغني بكبريات ثيمات المثالية المشتركة، خلال تطورها، على إيجاد مكان أكبر للتعبير عن شخصية الشاعر، وذلك من روتبيف إلى فيلون. ومن ناحية أخرى، شجع تقنين وممارسة "الأشكال الثابتة" في القرن الرابع عشر(غيوم دو ماشو) تطور شعر اللعب والمهارة الشكلية التي ستصل إلى أعلى درجاتها في أعمال الشعراء الفصيحين البورغينيونيين للقرن الخامس عشر. وقد عارض الشعراء الأنسيين للثريا ( البلياد) ( من أعمال بيلي: الدفاع عن اللغة الفرنسية وإشهارها) هذا التقليد الشكلي "للأشكال الثابتة" في العصور الوسطى. لكن الإنسية تحدد على الخصوص ثورة شعرية أكثر عمقًا وإيجابية، يرمز إليها اسم رونار وحده، ثورة تخص الإلهام والأشكال في آن. أما الإلهام، فيراد به أن يكون شخصي وثقافي معا، وعبر الصور، الأساطير، وأماكن ثقافتهم المشتركة المشبع بشعر القدامى، يترجم الشعراء الأنسيين ردود فعل حساسيتهم. وبالنسبة للأشكال، استعار الشعر الإنسي من إيطاليا السونية (قصيدة من 14 بيتا)، والتي ستعرف في الشعر الفرنسي طوال قرون ثروة مثيرة للدهشة، ومن العصور القديمة النشيد بشكل رئيسي، وخاصة القصيدة الغنائية (الأود تحت شكليها الرئيسيين التفخيمي والكريوني (بالنسبة إلى كريون ملك طيبة). وفي الأخير، فان شعراء الثريا هم الذين كانوا من وراء الانتشار النهائي للبيت المؤلف من 12 مقطع صوتي، البحر السكندري الذي لم تتجاهله العصور الوسطى، ولكن الذي فضل عليه بشكل عام عشري المقاطع، بيت الشعر المؤلف من عشرة مقاطع.

بعد النجاح الشعري الباهر الذي حققه شعر الثريا عامة ورونار خاصة، ستعبر الثقافة الإنسية في نهاية القرن السابع عشر أزمة عميقة، والتي لا بد أن تترك صدى في الشعر، فهي لحظة اللجوء إلى الخيالي تحت أشكال عدة، عجيبة، حلمية، استعارية عنيفة، حماسية صوفية، الهام يحدد هيجانًا يتواءم مع الصورة الفعلية والدينامية الإيقاعية، عصر شعري اعتبر خطأ لمدة طويلة كما لو كان "انتقالاً" بسيطًا، بينا هو في الواقع قد عبر عن أعظم أصالة. انه زمن الشعر "الباروكي" (أسلوب فني تميز بالزخارف والحركية والحرية في الشكل)، عبر عنه أغريبا دوبينييه أو لا سيبيد، زمن هيمن فيه الإلهام الباروكي على المسرح أيضًا، من غارنييه إلى روترو وكورنيي في أولى أعماله. لأن العصر الإنسي قد أعطى ميلادا لشعر درامي جديد باحثا عن إعادة إحياء دمج الغنائية في الدراما عن طريق الجوقات، وخاصة عن الترجمة شعريًا بواسطة الصور والإيقاع السكندري المتعدد في المقاطع للحركات الدرامية المقامة في روح الشخصيات عن طريق سياق الفعل. أضف إلى ذلك أن القرن السابع عشر سيكون عن حق العصر الذهبي للشعر الدرامي مع روترو، كورنيي، وراسين: لم يمر في أي وقت من تاريخ الأدب الفرنسي بشكل تام تحقيق الذوبان المتبادل بين الشعري والدرامي، في وحدة التراجيديا: لأن التراجيديا كما ابتكرها كورنيي أولاً وراسين من بعده لا تلجأ إلى الشعر بوصفه شكلاً بسيطًا: التراجيديا هي نفسها من طبيعة شعرية متمثلة بالأفعال والشخصيات التي تشخصها، ومن المتداول، من ناحية أخرى، أن تسمى كما لو كانت "قصيدة درامية" (خطب كورنيي الثلاثة عام 1660) أو "قصيدة تراجيدية" (سجايا لا بريير). لهذا يجب عدم إهمال أشكال الشعر الكلاسيكي الأخرى: في كل الميادين، عمل القرن السابع عشر، حسب الإصلاح الذي قام به ماليرب، على خضوع اللغة الشعرية الفني لمبدأ التناسق والانسجام. وقد عادت إلى الظهور محاولة البراعة الشكلية في ممارسة "الأنواع الصغيرة" (قصيدة الهجاء، القصيدة الغزلية، قصيدة الأربعة عشر بيتًا) الغالية على شعر الحذلقة (التكلف والتصنع في اللغة والأسلوب)، التي، مع ذلك، اندمجت بعناصر الإرث الباروكي. ويبدو أن الغنائية الشخصية قد عرفت لحظة تراجع، على الرغم من عدم غيابها في أعمال بعض الشعراء الهامشيين (تيوفيل، سانت-أمان) أو بعض الشعراء المتحذلقين (تريستان ليرميت). أخيرًا لن يسعنا الحديث عن الشعر الكلاسيكي دون أن نشدد على الأصالة المتعذر التقليل منها لمن كان في آن واحد الأكثر كلاسيكية والأكثر حرية بين الشعراء: جان دو لا فونتين.

مع القرن الثامن عشر، دخل الشعر الفرنسي في أزمة: أولاً طرحت شرعيته للمناقشة، وذلك من طرف عقلانية الروح الحديثة (هودار دو لا موت) التي تعترف بالشعر مبشرًا بحقيقة روحية مبتكرة. يحتفظ الشكل بقيمة ما اجتماعية، وفي أفضل حالاته يلعب، في التعبير الأدبي، دور الديكور والزخرفة: هذه دون شك الفكرة الني كانت لفولتير عنه، والذي استمر بكتابة تراجيديات شعرًا، دون أن يتمكن من الوقوف على سر الشعر الدرامي، وبعد بوالو مارس كتابة الرسائل الشعرية حيث يقوم شكل أبياته مقام اللباس الأنيق لمادة أدبية ليس فيها ما هو شعري. ورغم ذلك، كان من الخطأ إهمال بقاء القصيدة الغنائية في القرن الثامن عشر، التي أدخلها الشعراء الأنسيين في الشعر الفرنسي، والتي نظّمها ماليرب: لقد مارس بوالو كتابتها عرضًا، وفي فنه الشعري، اصطفى لها مكانا هاما، فعرفت في القرن الثامن عشر بعض العافية لدى شعراء ربما جرى نسيانهم عن غير حق مثل جان-باتيست روسو ولوبران (الملقب ب لوبران-فخم الإنشاد). وبقصيدة غنائية (إلى لعبة الكف) مهداة إلى الرسام دافيد، وفيها يحاكي لوبران، سيبدأ أندريه شينييه حرفته الشعرية القصيرة السريعة، وتحت هذا الشكل ستكتب البعض من أجمل قصائده (لفاني، الأسيرة الشابة).

لكن أندريه شينييه، شاعر الكلاسيكية الجديدة، لهو أيضًا أول أعظم شاعر فرنسي حديث، ويكمن الجديد لديه في هذا التركيب، فهو يستخدم القصيد ة الغنائية من أجل التضرع للروح وتعظيمها، بالمعنى الذي يتفاهم عليه فلاسفة القرن الثامن عشر. وفي الحقيقة، تبنى أعماله المقطعة وغير الكاملة، والتي لم تعرف إلا في العام 1819، من حول قطبين: القطب الهيليني والقطب الحديث. من حول الأول يمكن جمع القصائد الغنائية، المراثي، وخاصة الغزليات (التارانتينية الشابة)، وفيها يعيد الشاعر الحياة لكل الخيالي في الثقافة القديمة: وهكذا يقيم الصلة بين هيلينية البلياد وهيلينية البرناس، بين رونار ولوكونت دو ليل. ومن حول القطب الثاني، كان شينييه قد ابتكر بناء ملحمة إيديولوجية عريضة لم يترك لنا منها إلا أجزاء من هرمس وأمريكا: هذه القصيدة الأخيرة تبدأ باكتشاف أمريكا على يد كريستوفر كولومبس، وتحدد لنفسها غاية تعظيم تقدم الروح بدمج تجل عجيب حلولي (مذهب قائل بوحدة الوجود) كوني: المشروع الذي سيكمله هيغو في أسطورة الدهور.

هكذا تم الإعلان عن بوادر عصر الشعر الرومنطيقي الذهبي الذي سيدشن انفجاره الغنائي خصوبته مع تأملات لامارتين في العام 1820. وفي الحقيقة، تعود الرومنطيقية الأولى إلى الغنائية الشخصية (هيغو في أصوات داخلية، موسيه في الليالي). ولكن ابتداء من العام 1830 على التقريب بينا تحاول الدراما توليفًا جديدًا بين المسرح والشعر (هيرناني)، امتدت الغنائية لتصبح شعر الإنسانية، شعر الروح، شعر المجهول (لامارتين، فينيي، هيغو)، وراح الرومنطيقيون بالتدريج يتجهون إلى إحياء الملحمة تحت شكل يتناسب والروح الحديثة: فينيي (ايلوا) ولامارتين (جوسلين، سقوط الملاك) لم يكتب منها إلا مقاطع. فقط هيغو مع ثلاثية أسطورة الدهور، الله، ونهاية الشيطان، سيكتب الملحمة العظمى للصراع بين الخير والشر، لسقوط وانبعاث الإنسان.

لكن الرومنطيقي هو أيضًا "شخص العالم الخارجي له موجود" (تيودور غوتييه)، لقد أوفى للرسم حقه، وعن سابق إصرار أكد على القيم الجمالية والبصرية. في سنوات 1840-1850، عندما بدأ الجمهور والشعراء يملون من فيض الوجدان والمسارات، نتج عن ذلك رد فعل ضد غنائي: منذ الآن فصاعدًا، سيسعى الشعر إلى تفضيل عبادة الشكل وجمالية الفن للفن. يعبر غوتييه عن هذه الاستمرارية التي هي في الظاهر متناقضة، من الرومنطيقية إلى "الشعر الجمالي" (بودلير)، وفي الوقت ذاته، إنه الانتصار المتنامي للإيديولوجيا الوضعية، وسينتج عن التقاء جمال الفن للفن مع البحث عن موضوعية مستوحاة من الوضعية، سينتج الشعر البرناسي: شعر يريد أن يكون واقعيًا، ويتحدد حصرا، من لوكونت دو ليل إلى هيريديا، بفن الوصف واللوحة، جرى تأسيسه على الصرامة الكاملة والكمال الشكلي. لكن يخاطر الشر حسب الاتجاه البرناسي بفقدان جوهره الروحي، بينما يخاطر الرجوع إلى الإيديولوجية الوضعية كما هو الحال في عقلانية القرن الثامن عشر في حرمان الشعر من شرعيته. لقد رأت الرومنطيقية الأكثر عمقا، رومنطيقية موريس دو غيران أو جيرار دو نيرفال في الشعر طريقة مميزة للدخول إلى عالم سام، نعته بودلير بما فوق الطبيعة، وقد حاولت هذه الرومنطيقية العميقة أن توافق بين اللغة الشعرية وحرية الإيقاع والرؤية، وقد ابتكرت القصيدة النثرية (غيران). هكذا تم تحضير رد الفعل السريالي، ميزة منعطف 1860 مع زهور الشر وقصائد نثرية لبودلير: شعر التماثل والتوافق الذي تم تأسيسه على استغلال الطاقات الرمزية للغة. وأيضا سيتم إنجاز ما فوق الطبيعية الشعرية في الحركة الرمزية التي أثارها الطليعيون الكبار الأربعة: فيرلين، رامبو، لوتريامون، مالارميه.

ومما لا شك فيه، فان الكشف عن السريالية هو الذي كان من وراء انتصارات الشعر في أدب الربع الأول من القرن العشرين: يكفي أن نذكر أسماء بيغي، كلوديل، فالبري، لنلاحظ الازدهار الكامل الذي تمثله الأعمال الشعرية لكل واحد من هؤلاء الكتاب الثلاثة.

لكن هذه الانتصارات لهي أيضًا نوع من الطريق المسدود: في هذه الأعمال المهمة، يصل الشعر إلى حد أقصى، وقد كان الجيل الجديد من الشعراء الذين ولدوا حوالي 1880 يعرف هذا جيدًا: يجب اللجوء إلى استلهام "روح جديدة" (أبوللينير). وعند ذلك، بدأت المغامرة الكبرى – والتي لم تنته بعد – للشعر المعاصر، في إطار أزمة عميقة للغة الشعرية نفسها، ويعني ذلك إعادة الابتكار: يصبح الفعل الشعري أولاً وقبل كل شيء تجربة تدور حول اللغة. وكان أبوللينير يتأرجح بين إحياء الغنائية (أغنية سيء الحب) وتجليات لغة غريبة (طوق)، وعلى شاكلة سندرار، راح يبحث عن أسرار هذه "الحداثة" التي كان قد بشر بخصوبتها بودلير. وهكذا يتجه الشعر نحو تجارب قطع اللغة التي ستميز بداية الحركة الدادائية ثم، وخاصة، السريالية: "إملاء نفسي"، "كتابة آلية"، السعي من وراء صور واستيهامات الحلم واللاوعي. مادة شعرية جديدة تولّد من ذاتها لغتها الخاصة بها قد بررت، ومنها سينهل بشكل مباشر أو غير مباشر كل الشعر المعاصر.

لكن السؤال الذي يبقى مطروحًا لهو اكتشاف شعر يمكنه، ما وراء قطع اللغة، أن يتوافق مع تجلي أو بناء عالم يؤسسه الشعر، ويضمن وجوده، أيًا كانت مادته الأصلية: أحيانًا الصورة المجمّلة (سان-جون بيرس) وأحيانًا الرؤية الأسطورية والتنبؤية (جوف، ايمانويل) وأحيانًا الإثارة الصوفية (لا تور دي بان، رونار) وأحيانًا الوضوح الغامض للأشياء (بونج) أو للكائنات (شار)، وأحيانًا البحث الذي لا يتوقف أبدا عن هوية شخصية في حالة هرب دائم (ميشو).

وهكذا عبر أزماته المتواردة المستمرة وازدهاراته، حسب إيقاع تجدد لا ينقطع، وذلك منذ أصوله إلى يومنا هذا، لم يتخلف الشعر الفرنسي عن تأكيد استمراريته.

*عن قاموس الأدب الفرنسي والفرانكفوني، تأليف هنري لوميتر، دار بورداس، باريس.




حلم باريسي

بودلير

I

من هذا المنظر المهول،
كما لم يره إنسان أبدا،
هذا الصباح الصورة ذاتها،
نائية وغامضة تفتنني.


النوم مليء بالعجائب!
لنزوة شاذة
كنت قد أقصيت من هذه الرؤى
النبات اللامتسق،


وبوصفي رسامًا فخورًا بعبقريته،
كنت أستمتع في لوحتي
برتابة المعدن المخدِّرة
والرخام والماء.

بابل من السلالم والأروقة،
كان قصرا لا حدود له،
مليئًا بالبرك والشلالات
المتساقطة في الذهب الكامد أو المصقولِ؛


وسيول متثاقلة،
كستائر من الكريستال،
كانت تتعلق، فتّانة،
على أسوار من معدن.


لم تكن تحيط بالأشجار وإنما بصفوف الأعمدة
المستنقعات الراكدة،
حيث كانت تتمرّى فيها حوريات عملاقة،
كالنساء.


وكانت تتدفق طبقات مائية، زرقاء،
بين أرصفة زهرية وخضراء،
عبر ملايين الفراسخ،
إلى نهايات العالم؛


صخور غريبة كانت
وأمواج سحرية؛ كانت
كتل من الجليد هائلة مبهورة
بكل ما كان يرتد عنها!


لامبالية وصموتة،
أنهار مثل ألف غانج، تحت القبة الزرقاء،
كانت تريق كنز جرارها
في لجج الماس.


مهندس للروائع التي لي،
كنت أجعل، كما أشاء،
محيطًا كبحته يمضي
تحت قنطرة من الأحجار الكريمة؛


وكل شيء، حتى اللون الأسود،
كان يبدو مصقولاً، واضحًا، بلون قوس قزح؛
كان المائع يرصّع عظمته
في شعاع الكريستال.


ومن ناحية أخرى لا كوكب، لا آثار
شمس، حتى ولا حضيض السماء،
يمكن له أن يضيء هذه الآيات،
التي كانت تتألق من نار الذات!


وعلى هذه العجائب الوعْسة
كان يحوّم (طُرفة مهولة!
كل شيء للعينين، ولا شيء للأذنين!)
صمت خالد.


II


عندما فتحت عينيّ المفعمتين باللهب
استفظعت مرأى كوخي القذر،
وأحسست، وأنا أعود إلى نفسي،
بسنان همومي اللعينة؛


رقاص الساعة ذو النبرات المأتمية
كان يعلن الثانية عشرة بشراسة،
وكانت السماء تصب الظلام
على العالم الحزين الفاتر الهمة.


* نشرت في قسم "لوحات باريسية" من زهور الشر.
ترجمها أفنان القاسم
فيفريه 2008




Rêve parisien
A Constantin Guys

I

De ce terrible paysage,
Tel que jamais mortel n en vit,
Ce matin encore l image,
Vague et lointaine, me ravit.

Le sommeil est plein de miracles !
Par un caprice singulier,
J avais banni de ces spectacles
Le végétal irrégulier,

Et, peintre fier de mon génie,
Je savourais dans mon tableau
L enivrante monotonie
Du métal, du marbre et de l eau.

Babel d escaliers et d arcades,
C était un palais infini,
Plein de bassins et de cascades
Tombant dans l or mat ou bruni ;

Et des cataractes pesantes,
Comme des rideaux de cristal,
Se suspendaient, éblouissantes,
A des murailles de métal.

Non d arbres, mais de colonnades
Les étangs dormants s entouraient,
Où de gigantesques naïades,
Comme des femmes, se miraient.

Des nappes d eau s épanchaient, bleues,
Entre des quais roses et verts,
Pendant des millions de lieues,
Vers les confins de l univers ;

C étaient des pierres inouïes
Et des flots magiques ; c étaient
D immenses glaces éblouies
Par tout ce qu elles reflétaient !

Insouciants et taciturnes,
Des Ganges, dans le firmament,
Versaient le trésor de leurs urnes
Dans des gouffres de diamant.

Architecte de mes féeries,
Je faisais, à ma volonté,
Sous un tunnel de pierreries
Passer un océan dompté ;

Et tout, même la couleur noire,
Semblait fourbi, clair, irisé ;
Le liquide enchâssait sa gloire
Dans le rayon cristallisé.

Nul astre d ailleurs, nuls vestiges
De soleil, même au bas du ciel,
Pour illuminer ces prodiges,
Qui brillaient d un feu personnel !

Et sur ces mouvantes merveilles
Planait (terrible nouveauté !
Tout pour l oeil, rien pour les oreilles !)
Un silence d éternité.

II

En rouvrant mes yeux pleins de flamme
J ai vu l horreur de mon taudis,
Et senti, rentrant dans mon âme,
La pointe des soucis maudits ;

La pendule aux accents funèbres
Sonnait brutalement midi,
Et le ciel versait des ténèbres
Sur le triste monde engourdi.






الزورق الثمل


رامبو


بينا كنت أهبط الأنهار الهادئة
لم أعد أشعر أن جرّارات المركب تقودني:
فقد جعل منها هنودٌ حمرٌ صيّاحون هدفا،
وقد ثبّتوها عارية على أوتاد ملونة.


كنت خليَّ البالِ من كل الطواقم،
حامل قمحٍ فَلَمَنْديّ أو قطنٍ إنجليزيّ.
عندما أنهوا هذه الضوضاء مع جرّاراتي،
تركتني الأنهار أهبط إلى حيثما كنت أشاء.


في التلاطم الساخط للمد والجزر
أنا في الشتاء الآخر أكثر صممًا من أدمغة الأطفال،
ركضت! وأشباه الجزر التي فكت القَلْسَ
لم تكابد فوضى أكثر منها احتفاء.

باركت العاصفة حذري البحري.
أكثر خفة من طوافة رقصت على الموج
الذي يدعى سفنًا ميالة خالدة للضحايا،
عشر ليال، دون أن آسف على عين الموج البلهاء.

أكثر حلاوة للأطفال من لحم التفاح الحامض،
اخترق الماء الأخضر هيكل سفينتي الذي من خشب الصنوبر
ولطخاتِ نبيذٍ أزرقَ وقيئا
غسلني الماء، مفرقًا دفة المركب والمرساة.

ومنذ ذلك الوقت، سبحت في قصيدة
البحر، تنفث الكواكب فيّ، لبنيّ القوام،
ملتهما زرقة البحار الخضراء؛ عوم شاحب
وخلاب، حيث يهبط غريق متأمل أحيانا؛

حيث يصبغ فجأة ازرقاقات، هذيانات
وإيقاعات بطيئة تحت توهج النهار،
أقوى من الكحول، أوسع من قيثاراتنا،
تُهيّح صهب الحب المر!

أعرف السموات المتصدعة في بروق، والأعاصير
وارتدادات الأمواج والتيارات: أعرف المساء،
والسَّحر المتهيّج كَشَعبٍ من الحمائم،
ورأيت أحيانا ما اعتقد الإنسان رؤيته!

رأيت الشمس الواطئة، الملطخة بفظاعات متزهدة،
منيرةً تخثرات طويلة بنفسجية،
أشبه بممثلي دراما جِد قديمة
الموج يطوي من بعيد ارتعاشات مصاريعِهِ!

تخيلت الليل الأخضر بثلوج مفتتنة،
قبلة صاعدة إلى عيني البحار ببطء،
جريان النسغ الحارق،
والتيقظ الأصفر والأزرق للفسفور المغرد.

تابعت، شهورًا بأكملها، أشبه بزرائب البقر
الهستيرية، الأمواجَ الصاخبة في هجومها على الصخور،
دون أن يخطر ببالي أن أقدام الزوارق المضيئة
يمكنها أن تقسر خطم المحيطات البهيرة!

اصطدمت، هلا عرفتم، بطحالب حمراء مذهلة
امتزجت بزهور أعين نمورٍ بجلد
البشر! أقواس قزح شُدّت كالأعنة
تحت أفق البحار، على قطعان خضراء مزرقة!

رأيت مستنقعات ضخمة تهيج، قففا
يتعفن في عصيّ الأسَل التي لها كتاب Léviathan!
تساقطات مياه في وسط هدوء البحر،
والنائيات نحو اللجج الشلالة!

ركامات ثلج مجلّدة، شموس فضية، أمواج صَدَفية اللمعان، سماوات جمرية!
جنوحات سفن شنيعة في أعماق خلجان بنية
الأفاعي العملاقة التي تلتهمها عقارب الماء
تسقط منها، وأشجار ملوية، مع عطور سوداء!

أردت أن أُري الأطفالَ مَرْجانات
الموج الأزرق هذه، الأسماك الذهبية هذه، الأسماك المغنية هذه.
- زبد الزهر هدهد مكلأي
ورياح لا توصف جنّحتني في لحظات.

أحيانًا، شهيد أتعبته أقطابٌ ومناطق،
البحر الذي نشيجه يُجري ترنحي الوديع
كان يُصَعّد نحوي زهورَ ظلِّهِ ذات الأفواه الصفراء
وكنت أبقى، هكذا كامرأة راكعة...

شبه جزيرة، تتقاذف على شواطئي الخصومات
وذرق العصافير الصيّاحة ذات الأعين الشقر.
وكنت أندفع على الماء، عندما، عَبْرَ روابطي الواهية،
كان الغرقى ينزلون للنوم، القهقرى!

والحال أني، زورق ضائع تحت شعر العُروات
رماه الإعصار في الهواء دون طائر،
أنا مراكب المونيتور ومراكب المحالفات التجارية الشراعية
لم تنتشل هيكلي الذي أثمله الماء؛

حرٌ، مدخنٌ، صاعدٌ من ضباب بنفسجيّ،
أنا الذي كنت أثقب السماء المحمرّة كجدار،
يحمل، مُربى جيدًا للشعراء الجيدين،
بهقَ الشمس ورغامَ زرقة البحار؛

أنا الذي كنت أركض، ملطخًا بهلاليات كهربائية،
لوحة خشب مجنونة، تواكبها أحصنة البحر السوداء،
عندما تعمل شهور تموز بضربات هِراوة
على إسقاط السموات البحرية الفوقية ذات حفر الألغام المضطرمة؛

أنا الذي كنت أرتعش، وأنا أحس على بعد خمسين فرسخ بنواح
ضَبَع "البِهِِمو" والممرات المائية الخثرة في بحر النرويج،
غزّال الجمودات الزرقاء الأبدي،
أتحسر على الأوروبا ذات الدرابزين والحاجز والمتراس القديمة!

رأيت أرخبيلات نجمية! وجزرا
سماواتها الهادئة مفتوحة للمندفع على الماء:
أفي هذه الليالي التي لا عمق لها تنامُ وتتغربُ،
مليون طائر مذهّب، أيها البأس القادم؟

ولكن، حقًا، لقد بكيت كثيرًا! الأشجار محزنة.
كل قمر هو فظيع وكل شمس هي عنيفة:
الحب الحِرّيف نفخني بخدرات مسكرة.
فليتشظّ صالبي! فلأذهب إلى البحر!

إن كنت أرغب في ماء أوروبا، فهي المُرْهَةُ
السوداء والباردة التي عند الغروب الفائح بالعطر
طفل مقعٍ يملأه الحزن، سيطلق فيها
زورقا خفيفا كفراشة أيار.

لم يعد يمكنني، أنا المستحم في سُقامك، أيتها الأنصال،
أن أنتزع آثار سفن حاملي القطن، ولا أن أقطع شموخ الأعلام والمشاعل،
ولا أن أعوم تحت أعين زوارق التجسير الفظيعة.

ترجمة أفنان القاسم
مارس 2008





Le bateau ivre
Comme je descendais des Fleuves impassibles,
Je ne me sentis plus guidé par les haleurs :
Des Peaux-Rouges criards les avaient pris pour cibles,
Les ayant cloués nus aux poteaux de couleurs.

J étais insoucieux de tous les équipages,
Porteur de blés flamands ou de cotons anglais.
Quand avec mes haleurs ont fini ces tapages,
Les Fleuves m ont laissé descendre où je voulais.

Dans les clapotements furieux des marées,
Moi, l autre hiver, plus sourd que les cerveaux d enfants,
Je courus ! Et les Péninsules démarrées
N ont pas subi tohu-bohus plus triomphants.

La tempête a béni mes éveils maritimes.
Plus léger qu un bouchon j ai dansé sur les flots
Qu on appelle rouleurs éternels de victimes,
Dix nuits, sans regretter l oeil niais des falots !

Plus douce qu aux enfants la chair des pommes sûres,
L eau verte pénétra ma coque de sapin
Et des taches de vins bleus et des vomissures
Me lava, dispersant gouvernail et grappin.

Et dès lors, je me suis baigné dans le Poème
De la Mer, infusé d astres, et lactescent,
Dévorant les azurs verts ; où, flottaison blême
Et ravie, un noyé pensif parfois descend ;

Où, teignant tout à coup les bleuités, délires
Et rhythmes lents sous les rutilements du jour,
Plus fortes que l alcool, plus vastes que nos lyres,
Fermentent les rousseurs amères de l amour !

Je sais les cieux crevant en éclairs, et les trombes
Et les ressacs et les courants : je sais le soir,
L Aube exaltée ainsi qu un peuple de colombes,
Et j ai vu quelquefois ce que l homme a cru voir !

J ai vu le soleil bas, taché d horreurs mystiques,
Illuminant de longs figements violets,
Pareils à des acteurs de drames très antiques
Les flots roulant au loin leurs frissons de volets !

J ai rêvé la nuit verte aux neiges éblouies,
Baiser montant aux yeux des mers avec lenteurs,
La circulation des sèves inouïes,
Et l éveil jaune et bleu des phosphores chanteurs !

J ai suivi, des mois pleins, pareille aux vacheries
Hystériques, la houle à l assaut des récifs,
Sans songer que les pieds lumineux des Maries
Pussent forcer le mufle aux Océans poussifs !

J ai heurté, savez-vous, d incroyables Florides
Mêlant aux fleurs des yeux de panthères à peaux
D hommes ! Des arcs-en-ciel tendus comme des brides
Sous l horizon des mers, à de glauques troupeaux !

J ai vu fermenter les marais énormes, nasses
Où pourrit dans les joncs tout un Léviathan !
Des écroulements d eaux au milieu des bonaces,
Et les lointains vers les gouffres cataractant !

Glaciers, soleils d argent, flots nacreux, cieux de braises !
Échouages hideux au fond des golfes bruns
Où les serpents géants dévorés des punaises
Choient, des arbres tordus, avec de noirs parfums !

J aurais voulu montrer aux enfants ces dorades
Du flot bleu, ces poissons d or, ces poissons chantants.
- Des écumes de fleurs ont bercé mes dérades
Et d ineffables vents m ont ailé par instants.

Parfois, martyr lassé des pôles et des zones,
La mer dont le sanglot faisait mon roulis doux
Montait vers moi ses fleurs d ombre aux ventouses jaunes
Et je restais, ainsi qu une femme à genoux...

Presque île, ballottant sur mes bords les querelles
Et les fientes d oiseaux clabaudeurs aux yeux blonds.
Et je voguais, lorsqu à travers mes liens frêles
Des noyés descendaient dormir, à reculons !

Or moi, bateau perdu sous les cheveux des anses,
Jeté par l ouragan dans l éther sans oiseau,
Moi dont les Monitors et les voiliers des Hanses
N auraient pas repêché la carcasse ivre d eau ;

Libre, fumant, monté de brumes violettes,
Moi qui trouais le ciel rougeoyant comme un mur
Qui porte, confiture exquise aux bons poètes,
Des lichens de soleil et des morves d azur ;

Qui courais, taché de lunules électriques,
Planche folle, escorté des hippocampes noirs,
Quand les juillets faisaient crouler à coups de triques
Les cieux ultramarins aux ardents entonnoirs ;

Moi qui tremblais, sentant geindre à cinquante lieues
Le rut des Béhémots et les Maelstroms épais,
Fileur éternel des immobilités bleues,
Je regrette l Europe aux anciens parapets !

J ai vu des archipels sidéraux ! et des îles
Dont les cieux délirants sont ouverts au vogueur :
- Est-ce en ces nuits sans fonds que tu dors et t exiles,
Million d oiseaux d or, ô future Vigueur ?

Mais, vrai, j ai trop pleuré ! Les Aubes sont navrantes.
Toute lune est atroce et tout soleil amer :
L âcre amour m a gonflé de torpeurs enivrantes.
Ô que ma quille éclate ! Ô que j aille à la mer !

Si je désire une eau d Europe, c est la flache
Noire et froide où vers le crépuscule embaumé
Un enfant accroupi plein de tristesse, lâche
Un bateau frêle comme un papillon de mai.

Je ne puis plus, baigné de vos langueurs, ô lames,
Enlever leur sillage aux porteurs de cotons,
Ni traverser l orgueil des drapeaux et des flammes,
Ni nager sous les yeux horribles des pontons.










نار الكلمات


أوكتافيو باث


كلمات في اللهب
حتى الماس
حتى الرماد

بين الذاكرة والوعد
كلمات الحضور المضطرم
لقاءات
ممرات
صور متبادلة
قابلة للسُكنى

بحث عن زمن مندفن
في المنظر المدَمَّر للتاريخ

نسر أم شمس؟ كنتَ تسأل القدر
وفي أنفاق سوق الهال
كنتُ أعمل على ترجمتك
على لمس الذي لا يدرك باللمس
سامعا تموج الصمت
والجذب
نحو الثلج والأرجوان المغطى بالثلج


أخوّة التشرد
حدائق
الإكسوشيميلكو وقواربه المزهرة
حدائق المونسوري من أجل ابتسامنا المتواطئ
حديقة بور-روايال الصغيرة في حي الماريه
سمندرها المزدوج تحت عَقْدِ جسرٍ حجريّ
قيثارات دلهي وشجرة نيم
شجرة الزفاف

حدائق متشردة
حدائق حب متشرد
وشوارع كثيرة
في مدن كثيرة!

مكسيكو ألف ريفورما دو لانجيل أوكابالليتو
بيلاس آرتيس فندق ريتس لو زوكالو الموسوم بالمَغنَطيسية
باريس شارع سيغير لما يزل قليلاً بعد ممر الخيالة
الدورات المعتمة لبيرن الجادة
قنوات أمستردام
ستوكهولم في مرآة أرخبيلها
وطوباوية الفجر عند منتصف الليل
ما أكثر المواعيد العامة عبر القرن!

مُصَلّى سانت كلير في مدينة أفينيون
وزيارة مياه سورغ الخضراء
حتى نافورة فوكليز
لتحية شار وبترارك
في نسيم اللور المهموس
لورا أورا
ماري جوزيه آليس

روما لو جيانيكولو تحت أعاصير الصيف
لو تمبييتو وبلوط التاس
لاكّاديميا سبانيولا
نوافير مقاطعها اللفظية

روتردام لو دويلين والشعراء البابليون
مالمو في أضواء الشمال اللاحقيقية
وجزيرة العذراء الزرقاء
في عرض بحر سمائنا الخيالية الأعظم

حدائقُ غيرُ مُهَدّأة
حدائق متاهات
الحب متاهتي
كان يقول سور خوانا وأنتَ
المتاهة عزلة
شفافية
حب يقودنا
حتى لمس الذي لا يدرك باللمس
للوصول إلى القصيدة

بمناسبة مضي عشر سنوات على وفاة أوكتافيو باث
ترجمة أفنان القاسم
24 أفريل 2008




LE FEU DES MOTS / OCTAVIO PAZ
Mots en flammes
jusqu au diamant
jusqu à la cendre

Entre mémoire et promesse
mots de la présence ardente
rencontres
passages
images partagées
habitables

Quête d un temps enseveli
dans le paysage dévasté de l histoire

Aigle ou soleil ? tu interrogeais le sort
et dans les souterrains des Halles
je travaillais à te traduire
à toucher l’impalpable
écoutant la houle du silence
l aimance
vers la neige et la pourpre enneigée

Fraternité des errances
des jardins
Xochimilco et ses barques fleuries
Montsouris pour nos sourires complices
Le square de Port-Royal dans le Marais
sa double salamandre sous une arche de pierre
Les cithares de Delhi et l’arbre Nim
l arbre nuptial

Jardins errants
jardins d amour errant
et tant de rues
dans tant de villes !

Mexico mille fois Reforma de 1 Angel au Caballito
Bellas Artes l hôtel Ritz le Zócalo marqué de magnétisme
Paris l avenue de Ségur encore un peu allée cavalière
Les détours sombres de Berne la sérieuse
Les canaux d Amsterdam
Stockholm au miroir de son archipel
Et l’utopie des aubes à minuit
Tant de rendez-vous publics à travers le siècle !

La chapelle Sainte Claire en Avignon
et la visite aux eaux vertes de la Sorgue
jusqu à la Fontaine de Vaucluse
saluer Char et Pétrarque
dans la brise murmurée de Laure
Laura Aura
Marie José Alice

Rome le Gianicolo sous les orages d’été
le Tempietto et le chêne du Tasse
l Accademia Spagnola
ses fontaines de syllabes

Rotterdam le Doelen et les poètes babéliens
Malmö dans l’irréelle lumière du nord
Et l’île de la Vierge Bleue
au grand large de notre ciel imaginal

Jardins inapaisés
jardins labyrinthes
Amor est mas laberinto
disait Sor Juana et toi
Le labyrinthe est solitude
est transparence
Amour nous guide
jusqu à toucher l impalpable
atteindre le poème.


Les Sureaux, Bougival, 28 avril 1998
(Jean-Clarence Lambert, n° 22, mai 1998)










فهرس

ملاحظات سريعة حول رواية لا تقرأ بسرعة
(1) ثلاث أميرات في مملكة الكلمة هيام بسيسو
(2) ثلاث أميرات في مملكة الكلمة فرانسواز كيستمان
(3) ثلاث أميرات في مملكة الكلمة سعاد العامري
صراع العمالقة والأقزام
عندما تخيف الكُتّاب العرب الحرية
فلسطين هذه التي هم يحبونها أنا أكرهها
مات لأنه كان يعشق شقائق النعمان
حفيد سندباد
659 رواية فقط لبداية سنة النشر في فرنسا
الريح لا تعرف القراءة
ألف مرحى بالنرجسية
أساتذة المخابرات
من نابلس إلى باريس
الكلام الشعري والكلام العملي العالم الخيالي والعالم اليومي في بوهيميا الخراب
السندباد بين خيال الشاعر وعقل الفيلسوف
659 رواية فقط لبداية سنة النشر في فرنسا
عندما يكون القارئ رائعًا والكاتب أروع
الدين السياسي سرطان الشعوب
(1) أيقونات توت العليق إلياس لحود
(2) أيقونات توت العليق إلياس لحود
(3) أيقونات توت العليق إلياس لحود
تعليق على أطفال الندى
محمد حلمي الريشة وعلبة أسبرين
وظائف الكلام في قصة الزكام لنبيل عودة
تحليل قصيدة صفد لسالم جبران نحويًا ومنطقيًا ودلاليًا
الخمار ليس الحجاب
الله وليس القرآن
فولتير ورجال الدين
الإسلام دراسة أعراضية
الكون لم يخلقه الله
الجنس والله
لوشيانو بافاروتّي طعم النجاح والمال
الكوارث في العام 2050
المسرح
الرواية
الشعر
حلم باريس بودلير
الزورق الثمل رامبو
نار الكلمات أوكتافيو باث



















أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004



[email protected]



صلاح صلاح. هيام بسيسو. فرانسواز كيستمان. سعاد العامري. عبد اللطيف اللعبي. سلمى الجيوسي. فاروق مردم بك. جان بول سارتر. علي الخليلي. محمود موعد. دانيال ريغ. سيلين. هانز روبرت جوس. محمد الغزالي. إلياس لحود. محمد الأسعد. محمد حلمي الريشة. نبيل خوري. سالم جبران. سامي الذيب أبو ساحلية. ميشيل فوكو. كلود بريمون. فولتير. ماركس. هيغل. داروين. اينشتاين. أنطونيو غرامشي. لوشيانو بافاروتّي. رونو ماشار. جاك آتالي. بودلير. رامبو. أوكتافيو باث... وعشرات الأسماء العربية والأجنبية.



* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...





#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجنس والله
- الكون لم يخلقه الله
- الإسلام دراسة أعراضية
- فولتير والمثقفون العرب
- ردًا على سامي أبي الذيب الله وليس القرآن
- شعراء الانحطاط الجميل
- البؤساء فكتور هيغو الجزء الأول
- شيطان طرابلس
- ستوكهولم
- تراجيديا النعامة
- الشيخ والحاسوب
- وصول غودو
- مؤتمر بال الفلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم في كتاب
- أمين القاسم الأيام الفلسطينية
- خطتي للسلام الاتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين
- البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثالث
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثاني
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الأول
- أنفاس الديوان الثالث


المزيد.....




- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...
- فيلم -حرب أهلية- يواصل تصدّر شباك التذاكر الأميركي ويحقق 11 ...
- الجامعة العربية تشهد انطلاق مؤتمر الثقافة الإعلامية والمعلوم ...
- مسلسل طائر الرفراف الحلقة 67 مترجمة على موقع قصة عشق.. تردد ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الله وليس القرآن الأعمال الكاملة