أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - هنا العالم رواية الثورة الإعلامية















المزيد.....



هنا العالم رواية الثورة الإعلامية


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3857 - 2012 / 9 / 21 - 20:50
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الأعمال الروائية (35)


د. أفنان القاسم



هنا العالم
ICI LE MONDE





رواية


















































إلى ذكرى فرانك لانج وأبولين دوفيل



































القسم الأول

كانت الكاميرات وآلات التصوير تحيط بفيلا الممثل القديم ميشيل سيمون في شارع مالنو، شارع من شوارع مدينة الضاحية الشرقية لباريس "نوازي لو غران". لم تكن كل تلك الحركة لأدوات الإعلام لأن الممثل الكبير كان جاسوسًا للروس، كان كل ذلك من مخلفات الماضي، ولأن الجوسسة لحساب الروس ضد النازية في الحرب العالمية الثانية كانت عملاً وطنيًا. كانت الفيلا لرجل التحري الخاص السابق فرانك لانج ولضابطة الدي جي إس إي السابقة أبولين دوفيل التي اشترياها بعد زواجهما، وكان من المنتظر أن يخرجا بين لحظة وأخرى لافتتاح القناة الإعلامية العالمية التي أسساها بعد أن تركا عملهما الغالي على قلبهما نهائيًا. نهائيًا؟ ليس تمامًا، وربما ليست الكلمة في موضعها الصحيح، فما يسري معَ الدمِ في العروق لا يمكن نزعه بسهولة. أضف إلى ذلك، من شب على شيء شاب عليه، كما يقول المثل المعروف.
- حبيبي، صاحت أبولين دوفيل، وهي تتزوق في غرفة النوم، هل تسمعني؟
- أسمعك، أجاب فرانك لانج، وهو يحلق في قاعة الحمام التابعة لغرفة النوم.
- في نهاية المطاف، قالت ضابطة المخابرات الخارجية السابقة، في الممثل الهزلي ميشيل سيمون كان ممثل ثان لا أكثر منه جِدًا.
- مثل كل واحد منا، قال رجل التحري الخاص السابق.
- لماذا إذن كل هذا اللف والدوران؟
- لنخفي أشياء، ونبدي أشياء.
انتهى فرانك لانج من الحلاقة، فتعطر، وخرج من قاعة الحمام.
- نحن لن نخفي شيئًا، همهم رجل التحري الخاص السابق، وهو يقترب من زوجته، سنبدي كل شيء، وسنعمل كل ما بوسعنا من أجل البحث عن الحقيقة، تمامًا كما كنا نفعل.
- ما سنفعله أقرب إلى الرهان منه إلى الثورة الإعلامية، قالت أبولين دوفيل، وهي تقف في فستانها الأحمر بعد أن انتهت من وضع المساحيق على وجهها، فبان بطنها المنتفخ.
- ربما كان أقرب إلى رهان باسكال على وجود الله، همهم فرانك لانج، وهو يضمها، هكذا تبدأ كل ثورة، وقبّلها قبلة خفيفة، ثم وهو يضع يده على بطنها المنتفخ: وهما؟ كيف حالهما؟
- موسيو ومدام جيد جدًا جدًا، أجابت، وهي تقهقه. شهران أيضًا.
- شهران أيضًا، لم يزل الأمر بعيدًا، همهم، وهو يضمها من جديد، ويقبّلها من جديد قبلة خفيفة.
- لقد تأخرنا، فرانك.
- سنذهب.
- وأولئك الذين ينتظرون كالذئاب في الخارج؟
- أهلاً وسهلاً بالذئاب الذين هم مثلنا والذئاب الذين هم ليسوا مثلنا.
- لأننا نحن ذئاب الآن؟
- لأننا نحن ذئاب، ولكننا ذئاب من طينة أخرى.
أكملا ارتداء ثيابهما، وفي المستودع، ركبا سيارة الفيراري الحمراء، ومجرد أن انفتح الباب الأوتوماتيكي حتى تساقطت الومضات عليهما كالشلال. ابتسما لآلات التصوير، وحيا الكاميرات، وغادرا، ورَكْبُ المصورين من سيارات ودراجات نارية يحاول اللحاق بهما، لكن الجوهرة الصغيرة كانت أسرع من الجميع. وهما ينطلقان في شارع البافيه نيف، أطرى فرانك لانج المدينة الصغيرة:
- في مدينة صغيرة كنوازي لو غران صعوبات السير قليلة أو غير موجودة، حسنًا كان اختيارنا للسكنى ولمكان العمل.
- أحب نوازي لو غران، علقت أبولين دوفيل، إنها مدينتي المفضلة.
- وأنا أحبك أنت، هتف المغرم المجنون، وهو يأخذ يدها، ويقبلها.
- هل كان علينا أن نفعل كل هذا، فرانك؟ همهمت المرأة الحبلى ذات الرداء الأحمر بوجل.
- لا تخافي، حبيبتي، همهم رجل التحري الخاص السابق، طوال عمرنا، ونحن نبحث عن المتاعب، سيكون كل شيء على ما يرام.
- أنا لست متأكدة، همهمت أبولين دوفيل من جديد، وهي ترفع بيدها بطنها.
- سيكون كل شيء كما تريدين، عاد فرانك لانج يهمهم، وهو يمسك يدها لما فجأة ضغط على الفرامل في شارع مون ديست.
- هل هذه هي صعوبات السير القليلة أو الغير الموجودة؟ ألقت الشقراء الساحرة ضاحكة.
- إنهم المدعوون، برر صاحب القناة الإعلامية العالمية في الوقت الذي وصل فيه ركب الكاميرات وآلات التصوير، وشلال الومضات عاد يتساقط عليهما حتى عمارة ميكيل آنج حيث تحتل القناة الطوابق الثلاثة الأخيرة منها.
ترك فرانك لانج سيارته على الرصيف، وغادرها، هو وأبولين دوفيل، تحت عاصفة من أسئلة الصحفيين الذين كانوا يتواجدون على باب عمارة ميكيل آنج، وشريط من أعلى العمارة إلى أدناها كُتب عليه "هنا العالم... قناتكم العالمية": من يمول القناة الإعلامية العالمية، فرانك؟ لماذا القناة الإعلامية العالمية، فرانك؟ لماذا هنا العالم، فرانك؟ هل العالم صغير إلى هذه الدرجة، أبولين؟ أبولين، فرانك، هل تركتما نهائيًا مهنة التحري التي لكما؟ فرانك، أبولين، هل سنراكما أنتما أيضًا على الشاشة الصغيرة؟ ما هي أخبار الصغيرين، أبولين؟ أبولين، فرانك الصغير وأبولين الصغيرة، ما هي أخبارهما؟ فرانك، هل سنراهما هما أيضًا على الشاشة الصغيرة؟ فرخ البط عوام، فرانك؟ فرانك... أبولين... أبولين... اخترقا العمارة بينما منع الحراس الخاصون دخول إلا المدعوين بعد فحص بطاقاتهم غير بعيد من صفيحة نحاسية نُقش عليها "القناة الإعلامية العالمية هنا العالم". أخذا المصعد إلى الطابق السابع والأخير حيث مكتب رئيس القناة، وسارع المعاونون إلى اللحاق بهما، وفي مقدمتهم أوديت لانغاج، مديرتهم كلهم.
- كل شيء على ما يرام، أوديت؟ سأل فرانك لانج.
- كل شيء على ما يرام، فرانك، أجابت مديرة المعاونين.
- سيكون البث لأول مرة على الثانية عشرة تمامًا، تدخل أحد المعاونين بنبرة سريعة، أي بعد ثلاث عشرة دقيقة وثلاثين ثانية... خمس وعشرين ثانية... عشرين ثانية...
- قاعة الطابق الخامس تكتظ بالمدعوين الذين في مقدمتهم كل رؤساء القنوات العالمية، رؤساء القنوات الفرنسية كلهم قاطعونا، قال معاون ثان بذات النبرة السريعة.
- يجب أن تبدأ كلمتك خمس دقائق قبل البث الأول، قال معاون ثالث بذات النبرة السريعة.
- أنت من سيلفظ العد العكسي، قال معاون رابع بذات النبرة السريعة.
- يجب النزول إلى الطابق الخامس حالاً، قال معاون خامس بذات النبرة السريعة.
- نعم، يجب النزول إلى الطابق الخامس حالاً، أكدت أوديت لانغاج.
- هيا بنا، فرانك، طلبت أبولين دوفيل.
- هيا بنا، استجاب فرانك لانج، وهو يغادر المكتب وكل من معه.
دخل فرانك لانج القاعة الكبرى تحت تصفيق الحاضرين، واعتلى المنصة الواسعة في الحال، وأبولين دوفيل وأوديت لانغاج وكل معاونيه يحيطون به تحت أعين الكاميرات التي تسجل كل صغيرة وكبيرة، وفي الحال، قال، وهو ينظر إلى ساعته:
- سيداتي سادتي، بعد خمس دقائق من الآن، سيبدأ عصر جديد للإعلام في العالم!
دوى التصفيق، فترك رئيس القناة العالمية مضيفيه يتذوقون متعة تلك اللحظة الاستثنائية، ثم بإشارة من يده، رجاهم الصمت.
- انتهى عهد الكسالى، عاد فرانك لانج إلى القول، عهد المومياءات، عهد النبرات التفخيمية، "ميرسيه شارل أندرلان"، "ميرسيه لكل هذه الشروحات" "ميرسيه لكل هذه الإيضاحات"، "ميرسيه لكل هذه الخراءات" (انفجر الحاضرون ضاحكين)، ميرسيه، ميرسيه، ميرسيه، إلى ما لا نهاية، فالمقدم الخرع الجالس على كرسيه المريح في الأستوديو منذ عشرين عامًا، ثلاثين عامًا، لا بل أربعين، التارك لشبابه ثم لشيخوخته تذوب كالشمع بإصرار لا يصدق تحت أعين المشاهدين، الموزع لآيات الشكر الكاذب دون أن يكلفه ذلك شيئًا، هذا المقدم ضربناه بقدمنا في قفاه، وطردناه كما تطرد الكلاب (صفق البعض)، كالآخر، (صفق الكثير) كالآخر، الإنسان الآلي، المكرر دون تعب للشيء نفسه كل ربع ساعة في قنوات الأربعة فلوس (صفقوا كلهم). اليوم الأستوديو ليس باريس، وليس لندن، وليس نيويورك، وليس نيودلهي، وليس طهران، وليس الكويت، وليس بغداد، وليس داكا، وليس ريو، وليس ملبورن، وليس الجحيم، وليس النعيم، الأستوديو هو العالم... عاد كل المدعوين إلى التصفيق بينما استمر فرانك لانج يخطب: والشكر، إذا ما كنا نستحق الشكر، لهو شكر المشاهد لنا.
تعالى التصفيق إلى أن وصل أقصاه، ورافقت التصفيق صيحات "برافو"، "فرانك لانج أنت الأحسن". عندما هدأت عاصفة التصفيق، أضاف رئيس القناة الإعلامية العالمية:
- وانتهى عهد الثرثارين، عهد المحللين، عهد مبتلعي كل الحقيقة، لا ثرثرة بعد اليوم، ولا تضييع للوقت، هذا الوقت الذهبي وقتنا، فالمشاهد هو محلل نفسه بعد أن نجعله يصنع الحدث معنا، ويشارك في توصيله إلى العالم أجمع، والمشاهد، أريد القول المشارك، هو مقرر ما يشاهد، يختار مادته، ويكتبها معنا، لأن إعلامنا هو إعلام المشاهد، من أجله ولأجله نحن هنا، ولن نمرر أية مادة دون أن يدقق معنا في صحتها. كل وكالات الأنباء تنقل ولا تدقق، والنقل عن النقل حتى ولو كان كذبًا يصبح حقيقة واقعة، وكل القنوات الببغاوات تعيد نفس الخبر دون التأكد من صحته، لأننا نحن لا نريد لأحد أن يبتلع كل ما نقول، ولا نريد لأحد أن يسيطر على أحد لأهداف إيديولوجية خسيسية، فالحرية الإعلامية كما نفهمها ليست حرية المقدم بل حرية المشاهد... تعالى التصفيق إلى أن وصل أقصاه، فرفع فرانك لانج إصبعًا، وهو يشير إلى العقرب الضخمة الزاحفة بإصرار نحو الثانية عشرة: بعد عدة ثوان سنبدأ بإطلاق النار مع العد العكسي لقناتنا التي ستنطلق، كما ينطلق المارد من قمقمه، ولن تتوقف حتى نهاية الزمان... عشرة، قال والحاضرون بصوت واحد، تسعة، ثمانية، سبعة، ستة، خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد، ثم صاح بأعلى صوته، والكاميرات تنقل الحدث مباشرة، وصورته تتصدر الشاشات العملاقة المرفوعة في القاعة: هنا العالم، هنا فرنسا، هنا نوازي لو غران! وعلى إيقاع موسيقى الفرنش كان كان، اعتلت راقصات الطاحونة الحمراء المنصة الواسعة، وتساقطت على المدعوين آلاف البلالين والشرائط الملونة والأقمار الفضية والنجوم الذهبية، وأُهرقت الشمبانيا، وصاح من صاح مع البنات الساحرات أو رقص من رقص، بينما أبولين دوفيل أسعد امرأة في الوجود، وهي تتمايل خدرة بين ذراعي زوجها.

*

صعد فرانك لانج على السطح ليمتطي طائرة الهيلوكبتر، بينما نزلت أبولين دوفيل إلى الطابق الأرضي، فالرصيف، لتمتطي سيارة الفيراري. كانت وجهة رجل التحري الخاص السابق قرية شوفالين في أعالي السافوا، بينما وجهة ضابطة الدي جي إس إي السابقة قصر الإليزيه في مركز العالم. كان على كل منهما أن يدير التحقيق أمام أعين عشرات ملايين الناس مباشرة، فرانك لانج في الجريمة الرباعية التي ارتكبت ليس بعيدًا عن البحيرة الزرقاء، بحيرة آنسي، وأبولين دوفيل في الثروة التي تنكر امتلاكها الصديقة الصغيرة للرئيس.

طوال الطريق، وهو في الجو، كان فرانك لانج يريد أن يجد جوابًا على السؤال التالي: ما العلاقة التي تربط سعيد الموصلي، المهندس العراقي، براكب الدراجة، ديلان مورتييه، بالقاتل، المجهول الهوية؟
- غريغوري، رفع فرانك لانج عقيرته بسبب ضجيج المروحية مناديًا معاونه الصحفي المرافق له، ما هو آخر تقرير لرجال الدرك؟
- آخر تقرير لرجال الدرك هو آخر تقرير لرجال الدرك، تهكم غريغوري ريش، وهو يقلب أوراقه، أتمنى أن يكون ذلك حتى هذه اللحظة.
- والبنت البكر، عزيزة؟
- في السُّبات دومًا. أما البنت الأصغر منها سنًا، عالية، فهي في القسم النفسي.
- هل من شاهد آخر غير راكب الدراجة الإنجليزي؟
- هناك بعض الجوالين.
- بعض الجوالين؟
- رجل وثلاث نساء.
- هؤلاء هم الشهود فقط؟
- فقط.
- ورجل الغابات الذي من المفترض أنه رأى سيارة القاتل؟
- ما قاله للقنوات الأخرى كاف عن السيارة البيجو السوداء، إلا إذا...
- إلا إذا؟
- إلا إذا كنت تريد...
- إلا إذا كنت أريد؟
- إلا إذا كنت تريد أن تستجوب...
- إلا إذا كنت أريد أن أستجوب؟
- طيور الألب.
- طيور الألب؟
- طيور الألب تعرف من هو القاتل.
- سأستجوب إذن طيور الألب، همهم رئيس قناة هنا العالم، وهو يبتسم.

عندما وصلت أبولين دوفيل قصر الإليزيه، تركها الحراس تدخل بعد أن أبرزت بطاقتها الصحفية وإذنًا بالمرور. حالما رأتها كاترين دوما، الصحفية المعاونة، أشارت إليها بيدها. تركت الكاميراوُمَن، وجاءت لاستقبالها.
- كل شيء جاهز، كاترين؟ طلبت أبولين دوفيل أول ما نزلت من الفيراري الحمراء.
- الشاحنة الأستوديو لم يسمحوا لها بالدخول، قالت كاترين دوما، بقيت في فوبورغ سانت هونوريه.
- لسنا بحاجة إليها.
- الكاميرا جاهزة.
- هذا كل ما نحن بحاجة إليه.
- وروز-ماري تيرلير، الصديقة الصغيرة للرئيس؟
- ترفض استقبالك.
- سنرى إذا ما بقيت ترفض استقبالي إلى الأبد.
- حذار، أبولين.
- حذار ماذا؟
- إنها شيطانية.
- أكثر مني؟
- حذار.
- أكثر مني، كاترين؟
- أكثر منك.
- سأقف هناك، صاحت أبولين دوفيل بالكاميراوُمَن دون أن تنتبه إلى ما قالته كاترين دوما، ضعي كل الإليزيه في عدستك.

أنزلت طائرة الهيلوكبتر فرانك لانج وغريغوري ريش قرب الشاحنة الأستوديو في مكان الجريمة، وغادرت في الحال، فصوَّرَ صاحبَ هنا العالم عددٌ من المصورين، وتقدم منه عددٌ من الصحفيين: "إذن أنت هو مقدم الإرسال الأول، فرانك؟" "الأول إذا أراد المشاهدون ذلك" "وهل ستمارس مهنتك أمام ملايين المشاهدين، فرانك؟" "سأمارسها، من يمنعني من ممارستها؟ البابا برأيك؟" "لماذا تركتك أبولين دوفيل وحدك، فرانك؟" "لترضع طفليها" "لا، بجد، فرانك" "لم تتركني، سألتقي وإياها على الشاشة الصغيرة" "هي أيضًا؟" "هي أيضًا" "فرانك! من القاتل، فرانك؟" "لن أقول لك من هو" "هل تعرف من هو، فرانك؟" "لدي فكرتي الصغيرة" "وإذا ما..." "كونوا لطفاء، لم تبق سوى بضع دقائق على بدء الإرسال" "حظ طيب، فرانك" "ميرسيه" "حظ طيب" "ميرسيه، ميرسيه" "حظ طيب" "ميرسيه، ألف ميرسيه". كانت على الأرض علامات حول جسد راكب الدراجة الفرنسي وجسد الصغيرة عزيزة، ولكن على الخصوص علامات العجلات الخلفية للسيارة البي إم دوبليو بريك، وكان رجال الدرك يحرسون المكان، وكاميرات العديد من القنوات تقف غير بعيد، والصحفيون ينقلون أخبارهم المملة المعتادة: وقال فلان، وقال علان، وكما صرح رئيس الشرطة، وكما رأى نائب الجمهورية، ويقال إن، ويحكى أن... كانت الكاميرا الأولى للقناة العالمية هنا العالم بانتظار البدء بالإرسال، كاميرا جانبية للقطات الشمولية، وكذلك الكاميرا الثانية، كاميرا تواجه عدستها المقدم، لباقي اللقطات. رفع المصوران إصبعيهما تحية لرئيسهما، ولم يتحركا عن الكرسيين القابلين للطي اللذين يجلسان عليهما. حركت ناديا راضي، الصحفية المسئولة عن المقابلات المباشرة، يدها الحاملة لميكروفون، وابتسمت دون أن تتحرك، هي أيضًا، عن الكرسي القابل للطي الذي تجلس عليه. أشارت بإصبعها إلى رجل إلى جانبها، وهي تحرك شفتيها هامسة: "إنه راكب الدراجة الإنجليزي مكتشف الجريمة". فتح أحدهم باب سيارة توينغو قديمة مدقدقة من كل جهة، وقدم نفسه بوصفه نائب الجمهورية. "لن تكون أسئلتي كثيرة"، قال فرانك لانج. "وأنا لن تكون أجوبتي طويلة"، قال ممثل العدالة. ابتسما لبعضهما، فاندفعت ثلاث نساء في الأربعين من العمر، ورحن يعانقن فرانك لانج، وهن يكركرن، ويقلن إنه لشرف عظيم لهن أن يقدمن شهادتهن لأعظم رجل تحر خاص في الكون.
- الحقني غريعوري، ما هذا الخراء؟ طلب فرانك لانج من معاونه الصحفي.
- كما سبق وقلت لك، إنهن الجوالات، الشاهدات على الشاهد، أوضح غريغوري ريش.
- الشاهدات على الشاهد؟
- نحن من التقينا راكب الدراجة الإنجليزي الأهبل، قلن، وهن يقلدنه، ويتهتهن مثله، نحن الجوالات، وهذا... قلن، وهن يدفعن أمامهن أحدهم كان يعرق من شدة الخجل، هذا الجوال كان معنا.
- طيب، طيب، إلى اللقاء بعد قليل، سارع فرانك لانج إلى القول، وهو يسعى إلى التخلص منهن بأية وسيلة، وكن بنات شاطرات يحفظن درسهن عن ظهر قلب، والنساء الثلاث يكركرن.
- على تمام الساعة الرابعة عشرة سيكون افتتاح أول تحقيق لهنا العالم، همهم صاحب القناة التي ستغزو العالم لمعاونه الصحفي، أي بعد ربع ساعة من الآن، ودفع باب الشاحنة الأستوديو المكتوب عليه من أعلاه إلى أدناه "القناة الإعلامية العالمية هنا العالم". كانت في الداخل صحفية، صحفية من كله، سيلين كاديه، وثلاثة تقنيين، هاري بوتر وهتشكوك وجاك الخانق، ومخرج، جان ستيفان، ومُطَرِّية، كاهنا بن داوود، وعلى الشاشات الصغيرة حفل الافتتاح المسجل يعاد دون توقف، والشعار هنا العالم القناة الإعلامية العالمية يتفجر من قمر صناعي بآلاف النجوم. سيلين، كل شيء جاهز؟ سأل فرانك لانج الصحفية من كله بعد أن حيا هذا وذاك، وأخذ مكانًا أمام مرآة في قاع الشاحنة بينما راح غريغوري ريش يقرأ على الحاسوب آخر المستجدات.
- يجب أن تبدأ مداخلتك بتلخيص ما حصل، قالت سيلين كاديه، السمراء الساحرة، وعلى محياها تبدو أمارات القلق.
- أعرف هذا، قال رجل التحري الخاص السابق مبتسمًا، وكاهنا بن داوود بدأت شغلها، لا داعي للقلق، سيلين.
- القلق جزء من حياتي المهنية.
- أعطني يدك، سيلين.
- أكاد أنهار، فرانك، همهمت سيلين كاديه، وهي تعطيه يدها، وتمنع نفسها من البكاء.
- سيكون كل شيء على ما يرام، طيب؟ أقول طيب؟
- ...
- سيكون كل شيء على ما يرام.
-...
- طيب؟
- القلق جزء من...
- أقول طيب؟
- ...
- أقول طيب، سيلين؟
- ...
- هل اتفقتم على الإخراج، على اللقطات، على كل شيء، جان؟ توجه رئيس هنا العالم إلى المخرج.
- كن مطمئنًا، قال جان ستيفان المخرج.
- هل اتفقتم؟
- كل شيء كما تريد، فرانك.
- خاصة اللقطات الكبيرة. هل اتفقتم؟
- اتفقنا.
- أردت أن أسمعها من فمك.
- اتفقنا. اتفقنا.
- أقول طيب، سيلين؟
-...
- سيلين، أقول طيب؟ أقول طيب؟
- طيب.
- قلنا طيب، سيلين.
- قلنا طيب، فرانك.
- أعتمد عليكم، يا أولاد، نريد أن نكسر العداد.
- سنكسره، قال التقني هاري بوتر مبتسمًا. تريد أن نكسره كيف؟ أضاف ممازحًا، بيدنا؟
- بالأرقام، بملايين الأرقام، بعشرات ملايين الأرقام.
- أعرف بعشرات ملايين الأرقام، ولكن كيف إن لم يكن بيدنا؟ بنفخه حتى ينفجر أم بثقبه بعد أن يمتلئ حتى يبهدل الحالمين في الششم؟
- أم بخنقه، تدخل جاك الخانق، وهو يتظاهر بخنق نفسه، حتى تفرقع خُصاه؟ بُم! بُم!
- هتشكوك، تعال لعوني، كل هذه الأسئلة، ولم نبدأ التحقيق بعد.
- سأكون إلى جانبك، فرانك، همهم التقني هتشكوك، فلا تخش شيئًا. أنا خادم قدميك. أنا وجاك الخانق وهاري بوتر، نحن خدم قدميك. أنا وجاك الخانق وهاري بوتر مع عصاه السحرية، عصاه السحرية، فرانك، نحن كلنا خدم قدميك.
- يقولون لي في نوازي لو غران إن مئات آلاف الرسائل الإلكترونية والأخرى القصيرة تصل تباعًا منذ الإعلان عن افتتاح القناة، قال جان ستيفان، وهو يشير بسبابته إلى سماعته الرأسية.
- سيقومون بعملهم الرائع في نوازي لو غران، اكتفى فرانك لانج بالقول.
- لم تقل، فرانك، نكسره كيف؟ عاد هاري بوتر إلى المزاح، وهو يبتسم.
- بعصاك السحرية، هاري بوتر، هل فهمت خراء؟ نبر فرانك لانج، لم تبق لأمك سوى بضع لحظات قبل أن تكشف عن قفاها للعالم بقوة عصاك السحرية.
- لا تنس أن تبدأ بتلخيص ما حصل، فرانك، عادت سيلين كاديه إلى القول بشفتين مرتعشتين.
- يا لهم من محظوظين، همهم هاري بوتر.
- من؟ سأل جاك الخانق.
- المشاهدون لقفا أمي، أجاب هاري بوتر، وهو يضحك، وفرانك لانج يضحك، وهم يضحكون.
- لا تنس أن تبدأ بتلخيص ما حصل، فرانك، قالت سيلين كاديه مرة أخرى وأخرى بشفتين مرتعشتين. هل تسمعني، فرانك؟
تناول فرانك لانج يدها، وقبلها، كانت المطرية قد طرت له وجهه، وصففت له شعره.
- لماذا يدك ناعمة إلى هذه الدرجة، كاهنا بن داوود؟ أطرى فرانك لانج المطرية التي اكتفت بالضحك والميلان لسعادتها.
- يدي أم يدها؟ همهت سيلين كاديه قلقة، وصاحب هنا العالم لم يزل يحتفط بيدها بين أصابعه.
- يدك أنت أيضًا ناعمة، سيلين كاديه، قال فرانك لانج، وهو يترك يدها.
- شكرًا للمجاملة، عادت سيلين كاديه تهمهم قلقة.
وهو على وشك الخروج، أوقفه غريغوري ريش:
- يقولون إن هناك خلافًا بين سعيد الموصلي وأخيه حميد الموصلي حول إرث والدهما.
- خذي لي موعدًا مع حميد الموصلي، قال فرانك لانج لصحفية من كله المضطربة.
- أخذت لك موعدًا مفتوحًا مع زوجة ديلان مورتييه، قالت سيلين كاديه، دون أن يزايلها قلقها. بخصوص حميد الموصلي، اتصلت بكيت سثرلاند، مديرة مكتبنا في لندن، وطلبت منها أن تحدد لك موعدًا معه.
- هذا حسن، قال فرانك لانج، وهو ينظر إلى ساعته. ثم: خراء! وهو يلاحظ أنه لم يضع السماعة في أذنه، ولا الميكروفون على صدره، هلا وضع لي أحدكم سماعتي وميكروفوني؟
نهض هتشكوك، ووضع له السماعة والميكروفون، وربط جهاز الاتصال بحزامه على ظهره. أدنى فرانك لانج فمه من الميكروفون، وهو يرفع قبته، وقال "آلو" ليجربه، فتحركت عشرات العقارب على أجهزة الإرسال. قال المخرج "آلو" في ميكروفونه هو، وتطلع إلى فرانك لانج ليعرف إذا كان قد سمعه، فرفع هذا سبابته مؤكدًا ذلك.
- هيا بنا، قال فرانك لانج لمعاونه الصحفي.
- لا تنس أن تبدأ... سارعت سيلين كاديه إلى القول، لكن المحقق/المقدم كان أسرع منها. قفز من الشاحنة الأستوديو، وراح يركض ليأخذ مكانه أمام الكاميرا في قلب مسرح الجريمة.

*

على موسيقى السيمفونية التاسعة لبتهوفن والإعلان عن نشرة الأخبار الدائمة: الأخبار حتى نهاية الزمان، كان المخرج يقوم، في أذن فرانك لانج، بالعد العكسي: عشرة، تسعة، ثمانية، سبعة، ستة، خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد، لك فرانك. ظهر فرانك لانج على الشاشة الصغيرة، وقال بصوت جسور:
- هنا العالم، هنا فرنسا، هنا شوفالين، المجزرة التي هزت الكون. فرانك لانج.
ثم تتابع الصحفيون المنتشرون في أنحاء العالم، وكل منهم يقول مع حاشية مترجمة بالإنجليزية لمن لا ينطق غير الإنجليزية:
- هنا العالم، هنا فرنسا، هنا باريس، مليونيرة في الإليزيه. أبولين دوفيل.
- هنا العالم، هنا أمريكا، هنا واشنطن، أول رئيسة للولايات المتحدة الأمريكية غدًا ربما. بيل جون.
- هنا العالم، هنا ليبيا، هنا بنغازي، السلفيون يقتلون القنصل الأمريكي. محمد الكوني.
- هنا العالم، هنا إسبانيا، هنا مدريد، انهيار البورصة. خوليو ثاباتيرو.
- هنا العالم، هنا اليابان، هنا طوكيو، الحيتان التي تأكلها الجرذان. هيرودوتو كازاواكي.
- هنا العالم، هنا جزيرة العرب، هنا الرياض، هل هي بداية ربيع عربي في بلد الألف بئر نفط وبئر؟ خليفة عبد الرحمن.
- هنا العالم، هنا أمريكا، هنا نيويورك، الساخطون يهاجمون العم سام في الوول ستريت. سوزان فورد.
- هنا العالم، هنا قطاع غزة، هنا غزة، غزة تختنق بأنفاقها. حسن سويلم.
- هنا العالم، هنا ألمانيا، هنا برلين، احتفالات البي كي كي: الأكراد إلى متى دون دولة؟ كاتارينا فاسبندر.
- هنا العالم، هنا الهند، هنا بومباي، أكبر سوق سوداء لبيع الإلهة الهندية، البقرة، للباكستانيين. إنديرا نهرو.
- هنا العالم، هنا البرازيل، هنا ريو دو جانيرو، صعود نجم الكرة العالمي سلفادور كابو. فالنتينا دو باهيا.
- هنا العالم، هنا جنوب أفريقيا، هنا بريتوريا، لقاء مع أبي الإفريقيين نلسون مانديلا. فاني تامبو.
- هنا العالم، هنا روسيا، هنا موسكو، "أحب روسيا وأكره بوتين" باسي رايوت. جوزيف فلاديمير.
- هنا العالم، هنا كندا، هنا مونتريال، البدء بترقيع سماء بلد "من محيط إلى آخر". جوانا ماكجيل.
اجتمعت صور المراسلين الخمسة العشرة على الشاشة، تحت أرقام من واحد إلى خمسة عشرة، وكل صورة لها عدادها بأعداد تتزايد أو تتناقص حسب اختيار المشاهدين الذين كبسوا على أزرار أجهزتهم الرقمية من أجل هذا الحدث أو ذاك، والتي كان أكثرها، ما يزيد عن المائة مليون مشاهد في كافة أنحاء العالم، من نصيب فرانك لانج الذي عاد ليتصدر الشاشة.
- تحية للمائة مليون مشاهد الذين اختارونا على رأس إرسالاتنا في العالم، أود أن أذكرهم أن باستطاعتهم التدخل عن طريق إنترنت، فيسبوك، تويتر، التلفون المحمول، التلفون الأرضي، القائمة بكل هذا على الشاشة تحت، كما أن باستطاعتهم الانتقال من إرسال إلى آخر بالضغط على أزرار أجهزتهم الرقمية في صالح هذا الإرسال أو ذاك. أتمنى أن نبقى معًا حتى نقف على سر الأمر: القاتل. من هو القاتل؟ ونحن عندما نطرح هذا السؤال ندشن عصرًا جديدًا في الإعلام، لأننا سنكون جزءًا آخذًا من التحقيق، فنشطب بجرة قلم "الحيادية"، و ندوس بقدمنا "الموضوعية"، ونترك للمشاهدين وحدهم الحكم على موقفنا، وللأيام قول إذا ما كنا مخطئين أم مصيبين. نعم، من هو القاتل؟ كل قنوات العالم تنقل ما يلي دون أي تدقيق: عائلة عراقية من خمسة أنفار تقضي عطلتها في جبال الألب ككل عام، قرب بحيرة آنسي التي وصفها يوجين سو بالبحيرة الساحرة، وعلى التحديد في مخيم بقرية شوفالين، مصرع ثلاثة من أفراد أسرة إنجليزية أصلها عراقي، الأب والأم والجدة، بينما الابنة الكبرى، وعمرها سبع سنين، في غيبوبة، والابنة الصغرى، وعمرها أربع سنوات، ظلت دون حراك تحت تنورة أمها طوال ثماني ساعات، الوقت الذي وصل فيه السادة محققونا ذوو الخُصى الثقيلة، وكل قنوات العالم تقول ما قيل لها كحقيقة نهائية: إن راكب دراجة فرنسي الخصيتين كان يمر بالصدفة من هناك بعد أن عنّ له تبديل الطريق المعتاد على أخذها في نزهته اليومية، فوقع على المجرم، وهو في عز شغله، مما دفع الوحش إلى إردائه قتيلاً. ثم كل قنوات العالم تصف ما وُصف لها كلوحة رومنسية: إن راكب دراجة آخر إنجليزي الخصيتين هذه المرة كان يمر بالصدفة من هناك (كنت أمر بالصدفة، بالصدفة، بماذا أقسم لك؟ صاح راكب الدراجة الإنجليزي بلكنة إنجليزية خارج الكاميرا) هذا صوت راكب الدراجة الإنجليزي الذي سنستقبله بعد قليل، ولنذكّر صاحبنا وكل المشاهدين أننا نعرض لما تناولته قنوات ووكالات أنباء العالم دون أن ندين أحدًا. حتى اللحظة يجب القول. إذن كان راكب الدراجة الثاني يمر بالصدفة من هناك بعد أن انتهى كل شيء، فوقع على البنت ذات السنوات السبع إلى جانب السيارة البي إم دوبليو الحمراء البنفسجية والباب الخلفي المفتوح، جعلها تنام على جنبها الأيمن مفترضًا أنها لم تزل على قيد الحياة مما يسهل عمل القلب، واكتشف جثة زميله الفرنسي (ليس زميلي، أنا لا أعرفه، وهو لا يعرفني، بماذا أقسم لك؟ عاد راكب الدراجة الإنجليزي إلى الصياح بلكنته الإنجليزية خارج الكاميرا) بطبيعة الحال، وأنا أقول "زميله" في هذا السياق تحت معنى أن الاثنين راكبا دراجة فقط لا غير. كسر راكب الدراجة الإنجليزي زجاج النافذة المحاذية للسائق –كيف كسره؟ بيده؟ بحجر؟ بشيء آخر؟- (بحجر، بحجر...) وأوقف المحرك، وبعد أن تأكد بعينيه من مصرعه ومصرع الأم والجدة في الكرسي الخلفي (أنا لم أكن أعرف عن المرأتين شيئًا، من هما؟ أم؟ جدة؟ لا شيء، بماذا أقسم لك؟) تعال... ناديا راضي، أعطيه الميكروفون. دخل الإنجليزي في حقل الكاميرا بعد عدة ثوان، وفرانك لانج يقول له: اقترب، قل لنا ما حصل معك.
- أنا لا أعرف عن المرأتين شيئًا كما قلت، همهم راكب الدراجة الإنجليزي بلكنته الإنجليزية مرتبكًا، ولا عن الرجل، ولا عن كل معركة واترلو هذه. أريد فقط أن أؤكد هذا، الباقي كله كما ذكرت. بعد ذلك، ذهبت في طلب النجدة.
- ما اسمك؟
- شارل بكنغهام كبكنغهام.
- شكرًا لك. ستجيء حتمًا فيما بعد للرد على أسئلتي، قال فرانك لانج، والرجل الإنجليزي الخمسيني يخرج من حقل الكاميرا معيدًا الميكروفون لناديا راضي. بعد ذلك، أيها المشاهدون عبر العالم، تناقلت القنوات ما نعرفه جميعًا، سعيد الموصلي، رب العائلة المغدورة، مهندس، له علبته الخاصة لبيع الأقمار الصناعية، وقبل ذلك عمل لدى "ايدز"، العملاق الأوروبي الصانع للطائرات المدنية والعسكرية، وسعيد الموصلي هذا، منذ حرب العراق 2003، وهو تحت رقابة سكوتلانديارد... (التفاصيل كفانا منها، فرانك، همس المخرج جان ستيفان في أذنه، في نوازي لو غران يقولون بدأ عدد المشاهدين بالانخفاض) ثم تناقلت القنوات ووكالات الأنباء ما يبعدنا مئات الكيلومترات عن مرتكب هذه الجريمة الشنعاء، عندما راحت تتكلم عن نزاع بين الأخوين الموصلي، سعيد وحميد، حول الفيلا التي تركها لهما أبوهما بعد وفاته، والتي يحتلها سعيد، وكأن هناك من يتعمد إخفاء هوية القاتل، وجعلنا نأخذ دربًا يبعدنا عن اقتفاء أثره. سيداتي، سادتي، حتى هذه اللحظة، أنا لا أعرف من هو القاتل، ولكنني أعرف كيف تم القتل. نعم، أعرف كيف وقعت هذه الجريمة الشنعاء. أعرف بدقة، بعد أن كرست كل موهبتي في هذا الميدان، ميدان التقصي (ابق على الخط نفسه، همس المخرج جان ستيفان في أذنه، بدأ عدد المشاهدين بازدياد مُدَوِّخ) أعرف ولا أقول أحزر، أعرف كما لم يعرف أحد منكم. ابقوا معنا، سأكشف لكم كل شيء بعد هذا الفاصل الدعائي. عندما تتوقف الدعاية تتوقف الحياة! (برافو... صاح المخرج جان ستيفان في أذنه بأعلى صوته حتى كاد يثقبها مما اضطره لنزع السماعة).
غادر فرانك لانج مسرح الجريمة بسرعة بعد أن سلمت عليه ناديا راضي، المسئولة عن المقابلات المباشرة، بحرارة، ولم يرد على عشرات الأسئلة التي طرحها الصحفيون المتواجدون: "كيف تعرف، فرانك؟" "حاسة الشم التي لدي" "كالكلاب، فرانك؟" "كالكلاب" "كيف تم القتل، فرانك؟" "لن أقوله لك قبل أن أقوله للعالم" "كيف تم إذن امتطاء أمك، فرانك؟" وانفجر الكل ضاحكًا "تمامًا كما تم امتطاء أمك، هل أشرح لك كيف؟" "بجد، فرانك، من قال لك؟" "اسأل من امتطى أمي" فضحك الكل ضحكًا أقل "هل كنت حاضرًا لتعرف، فرانك؟" "وهل من الضروري أن أكون حاضرًا لأعرف؟" "نائب الجمهورية لم يعرف لتعرف أنت، فرانك!" "لأن نائب الجمهورية فجلة" "لماذا هذه الضربة الإعلامية، فرانك، لماذا كل هذه الضجة؟" "إنه عرس أختك ولا تعرف لماذا؟" عاد الكل إلى الضحك "أنت تلعب لعبة خطرة، فرانك!" "هذا أفضل من الجلوس بين أربعة جدران وممارسة العادة السرية"... وأول ما فتح باب الشاحنة الأستوديو، وصعد فيها، أخذته سيلين كاديه بين ذراعيها، ومن شدة الحماس قبلته من فمه تحت شلال من الومضات.
- أوه، معذرة، فرانك، همهمت الصحفية من كله، كان ذلك فوق إرادتي.
- ليس أمام كل هذا الجيش من الذئاب، خراء، همهم فرانك لانج، يجدر بنا التصرف بكِتمان.
- في المرة القادمة سأكون أكثر حذرًا.
- لأنه ستكون هناك مرة قادمة؟
ضحك الموجودون، وجان ستيفان المخرج يقول:
- ابق على نفس الخط، فرانك، ولا تطل كثيرًا من مقدماتك.
- كاهنا بن داوود بسرعة، طلب غريغوري ريش من المطرّية التي راحت تمسح وجه المقدم/المحقق العالمي، ومعاونه ينظر إلى الحاسوب، ويقول: آلاف الرسائل الإلكترونية تطالب بالكشف عن كل شيء في الحال، وأنت ستعمل العكس تمامًا.
- ليس العكس تمامًا تمامًا، تدخل جان ستيفان.
- ليس العكس تمامًا تمامًا، ولكن العكس تمامًا، عاد غريغوري ريش إلى القول.
- إذن العكس تمامًا، وليس العكس تمامًا تمامًا، همهم رجل التحري الخاص السابق.
- نعم، العكس تمامًا...
- ...وليس العكس تمامًا تمامًا.
- سأستجوب نائب الجمهورية، همهم فرانك لانج، وسأهزئه على طريقتي، وبعد ذلك، سأقول كيف وقعت الجريمة.
- حذار أن تقول في هذه المرحلة لماذا، فرانك، تدخلت سيلين كاديه، وقد عادت أمارات القلق تغزو محياها.
- لا تقلقي رجاء سيلين، خراء، نرفز فرانك لانج، أنا أخاف من العدوى. طيب، سيلين؟ طيب؟ طيب؟ وهو يمسك يدها، ويجذبها إليه، أنا أفضل قبلاتك.
- دقيقة واحدة، فرانك، قال التقني هتشكوك.
نهض رجل التحري الخاص السابق، وكاهنا بن داوود لم تنته بعد. أعاد وضع السماعة في أذنه، وقال "آلو" في الميكروفون، وقال المخرج "آلو" في السماعة.
- كل شيء على ما يرام، فرانك، همهم جان ستيفان.
- كما قلت لك، فرانك، سارعت سيلين كاديه إلى القول بشفتين مرتعشتين، وهو على باب الشاحنة الأستوديو، حذار أن تقول في هذه المرحلة لماذا وقعت الجريمة.
حيا الجميع بإصبعين على جبهته، وغادرهم إلى مسرح الجريمة: عشرة، تسعة، ثمانية، سبعة، ستة، خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد، لك فرانك، قال المخرج في أذنه.
- تحية إلى ملايين المشاهدين عبر العالم! سأدخل في الموضوع مباشرة. ناديا راضي، أعطي الميكروفون لنائب الجمهورية، يرى المشاهدون نصفها، وهي تعطي الميكروفون لنائب الجمهورية، ونصف نائب الجمهورية، ثم كله. تقدم، طلب إليه المقدم/المحقق العالمي، اخترق مسرح الجريمة. هكذا... قل لنا بسرعة سيد نائب الجمهورية كيف تم وقوع المذبحة برأيك، وما هي الدروب، أهم الدروب برأيك من أجل حل هذا اللغز.
- كيف حصلت المذبحة؟ هناك كمين في كل الأحوال، نصبه القاتل، وكل الدلائل تشير إلى أن الأمر لم يقع صدفة. المجرم أطلق على السيارة التي حاول سائقها الهرب رجوعًا، رُطم الطلقات على الزجاج الأمامي يثبت ذلك، ولم يستطع سائقها الهرب لوقوع العجلات في حفرة. مما سمح للقاتل بإطلاق النار على الركاب ابتداء من السائق سعيد الموصلي، مرورًا بزوجته وأمها، وانتهاء بالبنت عزيزة، الابنة الكبرى. أقول انتهاء حتى ما قبل وصول راكب الدراجة ديلان مورتييه، آخر من قُتل بالفعل.
- وبنت الأعوام الأربعة التي كانت مختبئة بين قدمي أمها، لماذا لم تُقتل؟
- بكل بساطة لأن القاتل لا يعلم أن هناك ابنة ثانية.
- إذا كان كمينًا كما قلت، فالقاتل يعلم أن هناك ابنة ثانية.
- لنقل إنه يعلم أن هناك ابنة ثانية، ولكنه لا يعلم أن الصغيرة عالية كانت مختبئة في تنورة أمها.
- هل هذا رأي المحققين، كل المحققين؟
- هذا رأيهم.
- ودروب التقصي؟
- كل الدروب.
- أهمها رجاء، والأكثر قابلية للتصديق.
- ثلاثة: مهنة القتيل، عائلته، بلده الأصلي.
- شكرًا سيد نائب الجمهورية، خذيه ناديا راضي، لتظهر ناديا راضي من ظهرها، ثم، وهي تستعيد الميكروفون، وتخرج بالضيف من حقل الكاميرا. سيداتي، سادتي، عبر العالم، هذه الدروب الثلاثة غلط، والرواية فيما يخص كيف حصلت المذبحة غلط (أكمل على نفس الخط فرانك، همس المخرج في أذنه، على نفس الخط) نائب الجمهورية غلط، المحققون غلط، العدالة إذن غلط (أنا أحتج، جاءت صرخة نائب الجمهورية من خارج الكاميرا، ما تقوله يسيء إلى من هم في خدمة العدالة، ويعيق مجرى التحقيق) أكرر كل هذا غلط، غلط، غلط ( ممتاز فرانك، ممتاز، أكمل على نفس الخط، العداد في ارتفاع متواصل) لأن ما وقع هو التالي، أقول ما وقع، ولا أقول أفترض أن ما وقع: لم يكن هناك كمين، كان هناك موعد بين سعيد الموصلي، القتيل العراقي، وديلان مورتييه، راكب الدراجة الفرنسي، والقاتل (خزعبلات، عاد نائب الجمهورية إلى الصراخ، كل هذا خزعبلات، وأنا سأعمل على مقاضاتك) ناديا راضي، اعملي على أن يترك السيد نائب الجمهورية المكان في الحال، وإلا عملت على مقاضاته أنا بسبب التعدي على تلفزيون هنا العالم (سنلتقي فرانك لانج، وسترى، والله سترى، هدد نائب الجمهورية قبل أن يشغل محرك سيارته، ويذهب) ديلان مورتييه، راكب الدراجة الفرنسي، أول القتلى لا آخرهم، لهذا وجد شارل بكنغهام، راكب الدراجة الإنجليزي، جثته عند مؤخرة السيارة البريك التي رجع بها سائقها إلى الوراء بعد مصرع ديلان مورتييه ليهرب من المصير ذاته، فوقع في حفرة، لم يستطع الهرب إلى الأمام للشجرة التي كان بوز السيارة يقابل جذعها. الضحية الثانية عزيزة بنت السبع السنين التي كانت تلعب قرب الشجرة، وعندما حاول القاتل فتح الباب على سعيد الموصلي ليصفيه وجده موصدًا، فاستدار حيث الباب المفتوح من الناحية الثانية. وهو عند بوز البريك، حاول المهندس العراقي الهرب من جديد، فلم تسعفه العجلات الخلفية التي ظلت تدور في الحفرة مما دفع القاتل إلى إطلاق النار على الزجاج الأمامي. خلال ذلك، قالت الأم لابنتها الصغرى عالية أن تختبئ بين قدميها، وألا تتحرك مهما يحصل، لهذا بقيت الصغيرة المسكينة ثماني ساعات دون حراك، وكانت مستعدة على البقاء أكثر من ثماني ساعات، عشر ساعات، أو عشرين، أو ثلاثين، ماما قالت لا تتحركي مهما يحصل! بعد مقتل ديلان مورتييه، راكب الدراجة الفرنسي، فعزيزة، بنت السبعة الأعوام، تم قتل الأم، فالجدة، من الباب المفتوح، والذي لهلع الأم على عزيزة لم تغلقه، وظلت تأمل في زحفها على الأرض، وصعودها في السيارة. أخيرًا، سدد القاتل بمسدسه رأس سعيد الموصلي، وبالنسبة له انتهت المهمة. السرعة التي تم فيها كل هذا جعله يغفل عن الصغيرة عالية، لقد نسيها تمامًا، وعلى العكس، لم ينس عزيزة الغارقة في دمها، والتي كانت تبذل حركات متشنجة تعني أنها لم تكن ميتة. أطلق عليها من جديد، فكان مسدسه الأوتوماتيكي فارغًا. عندئذ، تناول رأسها، وحطمه قبل أن يركب سيارته البيجو السوداء التي رآها رجل الغابات، وهي تشق الألب غير آبه سائقها إلا بالنفاد بجلده. انظروا إلى الرسم المتحرك: القاتل يتوسط راكب الدراجة الفرنسي، ديلان مورتييه، والمهندس العراقي، سعيد الموصلي، وثلاثتهم يقفون على بعد قليل من ظهر البريك، يرفع القاتل مسدسه ليقتل ديلان مورتييه في اللحظة التي يخف فيها سعيد الموصلي إلى ركوب السيارة وإيصادها وتشغيلها، يستدير القاتل ليقتل الطفلة عزيزة التي تلعب في الناحية الأخرى من السيارة –نقول تلعب لأنها تعرف القاتل جيدًا ولا تشك لا هي ولا غيرها ممن هم هنا لحظة واحدة فيما سيفعل- دون أن تتمكن من الصعود فيها كما يعبر عن هذا فتح الأم الباب لها، وذلك لإصابتها بطلقة في كتفها، يتراجع سعيد الموصلي بالسيارة ليهرب، ويغطي بجناح السيارة الخلفي جثة ديلان مورتييه، لكنه يسقط في حفرة تدور فيها العجلات الخلفية. يحاول القاتل فتح باب السائق الموصد دون فائدة، فيدور من حول السيارة بينما المهندس العراقي يحاول الفرار من جديد، فيطلق القاتل النار على الزجاج الأمامي، الآن يطلق القاتل ناره على الأم، فالجدة، فالأب، من الباب المفتوح، وقبل ذلك تأمر الأم ابنتها الصغرى عالية بالاختباء بين قدميها على أن تبقى كذلك دون حراك مما حال دون قتل القاتل لها. وعندما استدار من أجل الذهاب بعد أن أنهى مهمته، لاحظ أن البنت عزيزة تختلج، فصوب نحوها مسدسه، وأطلق، لكن مسدسه كان فارغًا، تقدم من رأس الصغيرة، وحاول كسره، وذلك بخبطه بالأرض، كان هذا آخر فعل قام القاتل به قبل أن يمتطي سيارته، ويخترق غابات الألب. ها هي الوقائع كلها كما تمت، أيها السيدات المشاهدات، أيها السادة المشاهدون، عبر العالم. فاصل دعائي، وسنعود من جديد، عندما تتوقف الدعاية قل إن هناك أزمة بالفعل، ابقوا معنا... (برافو! صاح المخرج جان ستيفان في أذنه بأعلى صوته، فرانك أنت الأحسن!) ناديا راضي أريد الجوالات الثلاث والجوال رفيقهم في الحال، وبعد ذلك، راكب الدراجة الإنجليزي، طيب؟ طلب فرانك لانج بينما الصحفيون يحيطون به وآلات تصويرهم تنهال عليه مع أسئلتهم: "لماذا أنت قاطع في حكمك إلى هذا الحد، فرانك؟" "لا تعليق" قالها بالإنجليزية، "هل لديك معلومات لا يعرفها البوليس؟" "لا تعليق" "ومن أين لك كل هذه المعلومات؟" "لا تعليق" "فرانك، أنت مقنع في عرضك، فهل ستصمد حتى النهاية؟" "لا تعليق" "متى الباقي، فرانك؟" "لا تعليق" "كل هذا يدل على أنك تعرف من هو القاتل؟" "لا تعليق" "من هو القاتل، فرانك؟ فرانك، لا تهرب، لا تتهرب من الجواب، يلعن دين، فرانك، فرانك... فرانك لانج...
- لا، ليس أنتِ، قال فرانك لانج، وهو يتحاشى سيلين كاديه.
- لا تخف، فرانك، همهمت الصحفية من كله، لما نكون وحدنا.
- هل وقعت في غرامي، سيلين كاديه؟
- لم تعرف بعد.
- تنسين أبولين دوفيل، وأنا أحبها.
- أنا لم أطلب منك أن تحبني.
ترك وجهه بين أصابع المطرّية كاهنا بن داوود، والتقني جان الخانق يهنئه، وهو يشده من خناقه، وكذلك فعل زميلاه هتشكوك وهاري بوتر، التقنيان الآخران، دون أن يشداه من خناقه.
- أكمل على نفس الخط، فرانك، همهم جان ستيفان المخرج، فَنِّد دروب التقصي الثلاثة، واكشف عن العلاقة بين القاتل وسعيد الموصلي وديلان مورتييه.
- سأستجوب رجل الدراجة الإنجليزي أولاً، فالنساء المهبولات الثلاث ورفيقهن ثانيًا، وسأرد على بعض التلفونات، وبعض الرسائل القصيرة والإلكترونية، فأثير انتباه المشاهدين أكثر فأكثر.
- سأقول لنوازي لو غران أن يفرزوا ثلاثة أسئلة تتكرر من طرف المشاهدين، قال غريغوري ريش الصحفي المعاون، وهو يضرب على الحاسوب.
- أريد أيضًا ثلاثة تلفونات على الهواء، طلب فرانك لانج، والصحفي معاونه يهز رأسه.
- دقيقة واحدة، قال هاري بوتر، وهو يضع على رأسه قبعة الساحر، ويهز عصا بيده، ولا أحد يعرف من أين جاء بهما.
نهض رجل التحري الخاص السابق، وهتشكوك يساعده على وضع السماعة والميكروفون، وهو يهمهم: "لو لم أكن هتشكوك لما فعل أحد كل هذا؟" وكاهنا بن داوود تصفف له شعره، وتداعبه من وجنته.
- لا أدري ماذا أقول لك، فرانك، همهمت سيلين كاديه بشفتين مرتعشتين.
- لا تقولي لي شيئًا، من فضلك.
- كان من اللازم أن أقول لك شيئًا، ولا أذكر ما هو، فرانك.
- هذا أفضل.
- تذكرت، فرانك.
- ماذا؟
- سأفعل دومًا كل ما تطلبه مني.
قفز من الشاحنة الأستوديو، وسيلين كاديه تنادي عليه، وكلها ترتعش من القلق:
- فرانك...
لكنه دخل مسرح الجريمة، وجان ستيفان يعد في أذنه: عشرة، تسعة، ثمانية، سبعة، ستة، خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد، لك فرانك.
- هنا العالم، مرحى بالعالم! تذكرون سيداتي المشاهدات، سادتي المشاهدين، عبر العالم، ما قاله نائب الجمهورية بخصوص الدروب الثلاثة التي في ظنه ستؤدي إلى القاتل، اسمعوا لما قال: نعود إلى الوراء، وفي "بليباك":
- ودروب التقصي؟
- كل الدروب.
- أهمها رجاء، والأكثر قابلية للتصديق.
- ثلاثة: مهنة القتيل، عائلته، بلده الأصلي.
- شكرًا سيد نائب الجمهورية، خذيه ناديا...
- لكن مهنة القتيل، يعلق فرانك لانج، كمهندس سابق لدى "إيدز"، العملاق الطيراني، لا تحيل إلى أسرار حربية أو مدنية كصفقة طائرات مدنية أو حربية للعراق أو لدولة أخرى من دول المنطقة، مثل هذه الصفقات دارجة، وهي إن لم تكن مع فرنسا كانت مع أمريكا أو روسيا أو بريطانيا... إلى آخره. وكبائع للأقمار الصناعية لا تحيل هذه الأقمار إلى أسرار حربية أو مدنية تهدد هذا البلد أو ذاك، لأن أقمار الدول العظمى تغطي كل شيء، وتستطيع هذه الأقمار التعتيم على أخرى إذا جاء أقل خطر منها. أما عائلته، فالخلاف على الإرث ليس خلافًا كبيرًا كما ذكر الأخ حميد الموصلي عندما ذهب بنفسه إلى السلطات البريطانية لينفي ذلك، وبخصوص البلد الأصلي، أمريكا كل شيء للعراق قبل انسحابها وبعد انسحابها، وهي تعرف كل صغيرة وكبيرة تجري فيه، أي تعرف كافة أسراره. لهذا قلنا غلط كل ما يراه المحققون الفرنسيون، غلط، غلط، غلط، وهم بهذا يبعدوننا والقضية عن الطريق الصواب. هنا يقرع تلفونه النقال، فيخرجه من جيبه، ويقول: "آلو!" "آلو!" والكل يسمع "أنت على الهواء، من معي؟" "شكرًا لهنا العالم، شكرًا لفرانك لانج، شكرًا ل..." "ما اسمك؟ ومن أين تهاتفنا؟" "اسمي جيمس نيومان، وأهاتف من ملبورن" "اطرح سؤالك أو قل تعليقك" "إنه سؤالي" "ما هو؟" "راكب الدراجة الثاني" "شارل بكنغهام؟" "شارل بكنغهام، هو القاتل، لماذا لم يُلقَ القبض عليه؟" وصرخات شارل بكنغهام من خارج الكاميرا: حلوه هادي! أنا القاتل! لست القاتل، يا ابن القحبة! بماذا أقسم لك؟ "ابن القحبة أنت" "رجاء جيمس نيومان" "يسبني وتريدني أن أسكت، فرانك لانج؟ ماذا ستفعل لو قال لك أحدهم يا ابن القحبة؟" "أقول له يا ابن القحبتين"، وانقطع الخط. مكالمة أخرى، نوازي لو غران. رن هاتفه المحمول، فقال "آلو!" "آلو! هنا العالم؟" "هنا العالم، ما اسمك؟ ومن أين تهاتفنا؟" "اسمي فادي الربيعي، وأهاتف من الناصرية" "من العراق" "من الناصرية" "اطرح سؤالك أو قل تعليقك" "تعليقي" "ما هو؟" "القاتل ليس هذا المسكين راكب الدراجة شارل قصر ملكة الإنجليز، فنسمع هتاف الرجل: الله يحمي الملكة، القاتل هو من قتل عن سابق عمد وإصرار سعيد الموصلي وعائلته ما عدا الطفيلة عالية التي لو قتلها لكان أحسن لها إذ كيف ستعيش باقي حياتها دون أختها ووالديها؟" "أختها لم تمت وهي في حالة سبات" "شفاها الله" "من هو القاتل برأيك؟" "الله أعلم" "طيب، شكرًا، مكالمة أخيرة نوازي لو غران". رن هاتف فرانك لانج المحمول، فقال "آلو" "آلو، أنا على الهواء؟" "أنت على الهواء، ما اسمك ومن أين تهاتفنا؟" "اسمي ويليام شكسبير، هذا ليس مزاحًا، وأهاتف من كامبردج" "ويليام شكسبير، اطرح سؤالك أو قل تعليقك" "تعليقي" "ما هو تعليقك" "لو كنت ويليام شكسبير الحقيقي لاعتبرت الجريمة جريمة غيرة، ولبحثت عن العشيق لأعرف من هو" "شكرًا" انقطع الخط، وأعاد فرانك لانج تلفونه إلى جيبه. لنقرأ معًا بعض الرسائل الإلكترونية والقصيرة: القاتل هو راكب الدراجة الثاني، الإنجليزي شارل بكنغهام، القاتل هو شارل بكنغهام راكب الدراجة الإنجليزي، القاتل هو الإنجليزي شارل بكنغهام، راكب الدراجة الثاني... وشارل بكنغهام يصرخ احتجاجًا خارج الكاميرا. ناديا راضي، أعطي الميكروفون لشارل بكنغهام من جديد، ورافقيه حتى مستواي، وأنت تمسكينه من ذراعه، فهو يبدو على وشك الانهيار.
- تسمع وتقرأ كل هذا ولا تنهار، يا سيدي؟ همهم راكب الدراجة الثاني، وهو يترك ذراعه للصحفية المسئولة عن المقابلات المباشرة.
- ابقي معنا، ناديا راضي.
- هل أحضر كرسيًا، فرانك لانج.
- لا، فلن أطيل. شارل بكنغهام، لماذا حطمت الزجاج الجانبي للسائق الذي هو سعيد الموصلي بدلاً من اختراق البريك من بابها المفتوح وإطفاء المحرك.
- لم أفكر في الأمر، تلعثم راكب الدراجة الثاني.
- وهل فكرت في الأمر عندما أنمت الطفلة عزيزة على جانبها الأيسر بدل الأيمن.
- لم أفكر في الأمر، تلعثم شارل بكنغهام من جديد.
- هل سمعتني جيدًا؟ قلت جانبها الأيسر بدل الأيمن.
- سمعتك.
- لكنك أنمتها على جانبها الأيمن بدل الأيسر.
- آه، يا إلهي، لم أعد أفقه شيئًا مع كل هذا المصاب.
- هذا يعني أنك أردت إكمال الإجهاز عليها، ودون إرادة منك لم تفعل.
- آه، يا إلهي، أنت أيضًا تعتقد بكوني القاتل؟
- أنا لا أعتقد بشيء.
- هل سمعتِ؟ همس راكب الدراجة الإنجليزي في أذن ناديا راضي، هو لا يعتقد بشيء.
- ثم لماذا لم تترك المحرك شغالاً؟ خوفًا على البنزين؟
- لست أدري لماذا؟
- ليس في صالحك تمويه الجريمة.
- بماذا أقسم لك؟
- ناديا راضي، أنت مشغولة بمنع شارل بكنغهام من السقوط، حرك فرانك لانج رأسه يمنة ويسرة، ونادى: تعالي سيداتي، تعال سيدي، فدخلت النساء الجوالات الثلاث، وهن يغنجن، ويحيين أقرباءهن عبر الكاميرا، بينما كان العرق يتصبب من جبين الجوال مرافقهن لشديد خجله.
- ها نحن ذا، فرانك، قالت النساء الثلاث، وهن يغنجن دومًا، وللكاميرا: هذه نحن! مرحبًا سيمون، سيمون حبيبتي، مرحبًا إين وَدِين، كونا عاقلتين، مرحبًا أيتها العجوز، أمي مرحبًا، مرحبًا، هذه أنا، هذه أنا، هذه أنا، أنا، أنا، أنا، هل العالم كله يرانا؟
- العالم كله يراكن.
- أوه، يا للحظ! ما هي أسئلتك، فرانك؟
- كيف كانت حال شارل بكنغهام عندما صادفتنه؟
- أوه، مزرية، فرانك، قالت الأولى.
- لم يكن يستطيع التكلم، قالت الثانية.
- قال إنه ذاهب في طلب نجدة، قالت الثالثة، وهو لا يعرف كيف، ونحن لا نعرف إذا كان لديه هاتف محمول أم لا، وكيف ومن أين يطلب نجدة؟ كان يبدو عليه الرعب، من ماذا؟
- من الجريمة التي ارتكبها طبعًا، هتفت المرأتان الأولى والثانية، وهما تقهقهان بينما انهار شارل بكنغهام تمامًا بين ذراعي ناديا راضي. هل ما زلنا على الهواء، فرانك؟ سألتا، وهما تصففان شعرهما، وتقبلان شخصًا وهميًا، وتغنجان قبل أن تدفعهما الثالثة، وتتصدر الشاشة وحدها.
- وأنتَ، ماذا تقول؟ توجه فرانك لانج بالسؤال إلى الجوال، مرافق النساء الثلاث، فلم يجب لارتعاش شفتيه وضرب أسنانه. شكرًا للجميع، أكمل رجل التحري الخاص السابق مع مضيفيه، والنساء الثلاث يواصلن غنجهن إلى أن خرجن من حقل الكاميرا. أعطيه كرسيًا، قال فرانك لانج لناديا راضي، وهي تخرج براكب الدراجة الإنجليزي. هل تريدون الصدق، مشاهديّ الأعزاء عبر العالم، لا، شارل بكنغهام ليس القاتل، وفي الوقت ذاته ندت عن "المتهم" صيحة فرح، من القاتل إذن؟ ابقوا معنا لتعرفوا من هو بعد هذا الفاصل الدعائي. سنبقى ما بقيت الدعاية!
صبت ناديا راضي من ترموسها بعض القهوة في كأس كرتون، وأعطتها لنجم التلفزة العالمي، فراح يجرعها بسرعة، والنساء الثلاث يتحلقن به، وهن يقلن: كيف كنا، فرانك؟ وهو يصيح بهن، ويقول: كنتن خراء، هل أنتن سعيدات؟ فيجبن: جدًا. فيسب: أنتن تخرينني! ولغريغوري ريش: هذه القردات، ابعدهن عني باسم القرد! فأبعدهن، وهن لا يتوقفن عن مناداته: فرانك، فرانك، فرانك. وكالعادة عند كل وقفة، أحاط به الصحفيون، وهو يتابع جرع قهوته بسرعة: من القاتل إذن، فرانك؟ لن نعمم الخبر قبلك؟ ألا تثق بزملائك؟ ثق أننا سنعممه في اللحظة التي تقول فيها من هو ليعلم حتى من هم في القمر من هو، فانفجر الكل ضاحكًا، وقد أنهى المقدم/المحقق قهوته، وقذف كأس الكرتون بأقصى قوة.
أول ما اخترق فرانك لانج الشاحنة الأستوديو حتى طلع عليه صوت أوديت لانغاج، كبيرة المعاونين في نوازي لو غران، والكل يسمع:
- هذه أوديت لانغاج، فرانك.
- أخيرًا تحركين ردفيك، تهكم رئيس قناة هنا العالم.
- كنت مشغولة جدًا، بررت أوديت لانغاج بصوت مدو، ثم بصوت غير مدو بعد أن عدّله هتشكوك من آلة: أريد فقط أن أهنئك.
- لا تهنئيني، رشق فرانك لانج، وهي يسلم وجهه لأصابع كاهنا بن داوود.
- أهنئك على الرغم من كل شيء، وأقول لك...
- لا تهنئيني، فلم ننه عملنا بعد.
- أهنئك على الرغم من... لكن فرانك لانج أشار إلى هتشكوك بقطع الاتصال، فقطعه.
- سيلين كاديه، صاح المقدم/المحقق، فتقدمت منه بملفها، أريد معلومات عن العائلة مورتييه، ديلان مورتييه، راكب الدراجة الفرنسي، فزلقت سيلين كاديه بين ساقيه، وهي تستند بنصفها الأسفل على خزانة التجميل، والمطرّية تواصل عملها. عاد صوت أوديت لانغاج يدوي: فرانك، انقطعنا، أهنئك على... وعاد هتشكوك إلى إخراسها دون إشارة من معلمه.
- ديلان مورتييه له زوجة وثلاثة أطفال، قالت سيلين كاديه، وهي تنحني بملفها لتُري فرانك لانج صور أفراد العائلة، فيبين ثدياها من تحت قميصها. الزوجة لا تعمل، والأطفال الثلاثة، وكلهم صبيان، لهم من العمر ثلاث سنين، خمس سنين، وسبع سنين. زلق فرانك لانج بيديه من تحت تنورتها، وراح يداعبها من فخذيها، ومن ردفيها، على ابتسامة كاهنا بن داوود، والصحفية من كله تواصل: ديلان مورتييه، كما تعلم، يعمل كتقني مؤهل لدى آريفا، العملاق النووي، وعلى التحديد... أوه، فرانك! همهمت لاهثة لمداعبته، ثم تماسكت: وعلى التحديد في مصنعهم سيزوس لتحويل المعادن من أجل فبركة المحروقات النووية هناك غير بعيد في قرية يوجين... أوه، فرانك! سقطت على شفتيه، وقبلته، وكل من في الشاحنة الأستوديو يبتسم.
- عجلي، خراء! نبر فرانك لانج، وهو يبعدها، فاعتدلت، وهي تستعيد جديتها، وتلفون رجل التحري المحمول يقرع. هذه أنت أبولين؟ قال، وهو يمسك تلفونه المحمول بذقنه، بينما يواصل مداعبة سيلين كاديه من فخذيها، ومن ردفيها، وهذه تواصل عرضها عن العائلة مورتييه، كسرنا العداد، يا حبيبتي، حطمنا كل الأرقام القياسية منذ كان هناك تلفزيون في العالم. نعم، نعم، سيجيء دورك. أتمنى أن يرأف بك المشاهدون، فهذا متعب لفرانك الصغير وأبولين الصغيرة... مد غريغوري ريش يده، وراح بفخذ سيلين كاديه مداعبًا، وهو يبتسم، فضربه فرانك لانج عليها. سأمارس التشويق من جديد خلال عدة ثوان، أقبلك، يا حبيبتي، وأقفل بينما عادت سيلين كاديه إلى تقبيله، وهو يصيح: هلا خلصني أحدكم من كل هذا النعيم! جعلوه ينهض، والكل يُعنى به، ويقول، تشجع فرانك، أنت الأحسن!
- هنا العالم! هنا فرنسا! هنا شوفالين! هنا مركز الأخبار في الكون! هنا صناعة الأخبار مباشرة معكم، يا مشاهديّ الأعزاء! طن فرانك لانج أمام الكاميرا. سنفك اللغز ابتداء من الآن، فهذه الجريمة النكراء لغز من الألغاز التي يصعب فكها. لكنني بحدس رجل التحري الخاص الذي كنته، وبحاسة الشم التي لدي، وكذلك بالقدرة التي اكتسبتها على تجميع قطع المُرْبِكَة، لن أتأخر كثيرًا، كما أرجو، عن معرفة من هو القاتل. هذا لا يعني ألا حاجة بي إلى دعمكم، وعونكم، لأنني عيونكم قبل أن أكون عينيّ. نعم، أوديت لانغاج، قطع فرانك لانج كلامه، وهو يرفع يده إلى سماعته، إنها كبيرة معاونيّ في نوازي لو غران، وهي لن تطلبني، ونحن على الهواء، إلا لأن الأمر هام جدًا وعاجل جدًا. يريد المشاهدون في بانغلاديش والبيرو والصومال ترجمة فورية إلى لغتهم؟ لا يقرأون الحاشية المترجمة إلى الإنجليزية؟ فليكن ما يريدون. اطلبي من مكاتبنا في كل بلدان العالم، وليس فقط في بانغلاديش والبيرو والصومال، القيام بترجمة فورية إلى اللغة الأصلية لكل بلد. حظ طيب، أوديت لانغاج. كما سبق لي وقلت، كان هناك موعد بين راكب الدراجة الفرنسي، ديلان مورتييه، وسائق البريك، سعيد الموصلي، والقاتل. سعيد الموصلي البريطاني العراقي الأصل، كان يعمل لدى العملاق الطيراني إيدز، وبعد ذلك عمل لحسابه الشخصي كبائع للأقمار الصناعية، السماء بقيت ميدانه، وما ذلك إلا ليبعد الأنظار عن ميدانه الآخر، الأرض، النشاط النووي. لهذا تعرّف على صديق كتوم، ديلان مورتييه، العالِم في هذا الميدان، وذلك منذ زمن بعيد، علاقاته المرتبطة بعمله سمحت له بذلك، ولهذا كان يجيء كل عام، ربما أكثر من مرة، إلى جبال الألب تحت ذريعة طلب الراحة والاستجمام، وفي الواقع للقاء ديلان مورتييه، والحصول على معلومات سرية باهظة الثمن حتمًا. في الجوسسة، على الأمور أن تمضي بشكل طبيعي، وإلا ما الفائدة؟ ستكون التصفية في الحال. فهل تمت التصفية لأن الأمور لم تكن لتمضي بشكل طبيعي؟ على العكس، في قضية الموصلي-مورتييه كل شيء كان يمضي بشكل طبيعي، أحدهما في عطلة، والثاني يتنزه على دراجه ليس بعيدًا، يتلاقيان لثوان، وينهيان كل شيء. لماذا هذه الجريمة الشنيعة إذن، وكل شيء يتم بشكل طبيعي؟ المعلومات. أو الأسرار بلغة الجوسسة الخاصة. في البداية، كانت المعلومات ليست خطرة إلى هذه الدرجة: سبك، تصفيح، أنببة. سبك ماذا؟ وتصفيح ماذا؟ وأنببة ماذا؟ الزركونيوم. هذا العنصر الفلزيّ النادر، والذي دونه لن تكون هناك محروقات نووية، لن تكون هناك مفاعلات نووية، وباختصار، لن تكون هناك صناعة نووية. سبك الزركونيوم، وتصفيحه، وأنببته، ليس بذي بال، روسيا مثلاً تبيعه لإيران، ولكن عندما تدخل النانوتكنولوجيا على الخط، وتصبح كمية أقل من قليلة من هذا المعدن النادر كافية لتشغيل عدة مصانع نووية بأقل الأثمان، عند ذلك، تتدخل أجهزة المخابرات، وتنهي الأمر على طريقتها، وهذا ما حصل في شوفالين. (وفي أذن فرانك لانج صوت المخرج جان ستيفان: أرقام العداد في تزايد مستمر فرانك، أكمل على نفس الخط، ابق عقلانيًا في استنتاجاتك، ولا تطل كثيرًا) القاتل هو عميل لجهاز من أجهزة، أي جهاز هو؟ أنا لدي فكرتي الصغيرة. وإذا بتلفونه المحمول يقرع: "آلو!" "آلو! أنا على الهواء؟" "أنت على الهواء. قل اسمك واسم بلدك ثم ما تريد" "أنا على الهواء؟" "أنت على الهواء، والعالم قاطبة يستمع إليك، قل اسمك واسم بلدك ثم ما تريد" "أنا على الهواء إذن" "أنت على الهواء، ما هو اسمك؟ من أين تتلفن؟ وماذا تريد أن تقول للعالم؟" "اسمي موبوتو موبوتو من الكونغو، وأريد تأكيد كل ما تقوله فرانك لانج، فأنا رجل تحر خاص مثلك، أريد القول مثلك قبل أن تصبح رئيسًا لأعظم قناة في العالم..." "اختصر رجاء" "هذا كل ما أردت قوله" "شُك..." "وباعتقادي الروس هم من وراء ذلك" "شُك..." "كلمة أخ..." "انقطع الخط، وتلفون فرانك لانج المحمول يقرع من جديد. "آلو!" "آلو! اسمي سلفادور كارلوس، أهاتفكم من الشيلي" "أهلاً سلفادور كارلوس" "ليسهم الروس وإنما الفرنسيون، مخابراتكم فرانك لانج، اسأل زوجتك أبولين دوفيل ضابطة الدي جي إس إي السابقة، هي أعلم مني بكل هذا الخراء الثلاثي الألوان" "طيب..." "معذرة، لكنه بالفعل خراء ثلاثي الألوان، وسلم لي عليها" "تلفون ثالث نوازي لو غران وبس. التلفون يقرع، "آلو، آلو، لا أحد، آلو!" انقطع الخط، يقولون لي في نوازي لو غران كانت المكالمة من قرية نائية من قرى الأمازون، لهذا انقطع الخط. والحال هذه نوازي لو غران، بعض الرسائل القصيرة، سنقرأ معًا على الشاشة: إنهم العراقيون، فالقتيل الرئيسي عراقي، وهم الذين صفوه لخيانة، أو لغير ذلك. إنهم العراقيون، يكفي أن ننظر إلى الطريقة البربرية التي تمت فيها تصفيتهم، فهم مجرمون بطبعهم. ابحثوا عن القاتل لدى سكوتلانديارد تجدوه للمنافسة بين الإنجليز والفرنسيين. إنهم الأمريكان، الأمريكان لا يحبون من يتجاوزهم. الأمريكان من وراء المجزرة، فلا تنسوا ما كانوا يفعلونه في زمن الحرب الباردة. إنهم الأمريكان... خلاص نوازي لو غران. هل هم الأمريكان؟ هل هم الإنجليز؟ هل هم الفرنسيون؟ هل هم تماسيح الأمازون؟ نحن لا نعلم. ما نعلمه أن القاتل يعرف جيدًا القتيل وعائلته، لهذا كانت كل العائلة هناك، وكانت الطفلة الكبيرة عزيزة تلعب خارج السيارة، وما نعلمه أن القتيل العراقي الأصل كان تحت الرقابة المخابراتية البريطانية لفترة ما بعد حرب العراق، فهل يكون السكوتلانديارد؟ للتأكد من ذلك، يجب التأكد أولاً من صحة استنتاجاتنا بخصوص ديلان مورتييه، وبعد ذلك التأكد من صحة استنتاجاتنا بخصوص سعيد الموصلي. سنذهب في الحال إلى قرية يوجين حيث لدينا موعد مفتوح مع زوجة راكب الدراجة المغدور. بانتظار ذلك، اختاروا أعزائي المشاهدين الإرسال الذي تريدونه عبر العالم، فإلى أزراركم الرقمية بعد هذا الفاصل الدعائي. الدعاية ديننا الجديد!

*

ظهرت على الشاشة كل الإرسالات وعداداتها تعمل ما عدا إرسال فرانك لانج الثابت الحركة والصورة، وبينما العدادات تعمل زيادةً أو نقصانًا اتسع إرسال أبولين دوفيل في زوم حتى احتل كل الشاشة الصغيرة.
- هنا العالم، قالت أبولين دوفيل بصوت جهوري، هنا فرنسا، هنا باريس، هنا قصر الإليزيه. كل الشكر لعشرات الملايين الذين اختارونا. الواقع أن الصديقة الصغيرة للرئيس، روز-ماري تيرلير، ترفض استقبالنا. سيكون معنا بعد قليل أحد المستشارين ليرد على أسئلتنا، لكننا سنعرف كيف نصل إلى السيدة الأولى، لقب ترفضه المعنية. أولاً وقبل كل شيء، إليكم هذا الفيديو القصير "لمليونيرة في الإليزيه".
يقول مقدم الفيديو مع صور قديمة سوداء وبيضاء يبدأ بها وينتهي بصور حديثة ملونة: لم يكن الجد امرأ عاديًا ككل الناس، كان صاحب بنك، والبنك لم يكن صغيرًا، "البنك الفرنسي الأوروبي"، هدفه كان كل أوروبا، وكأنه كان يحدس عن طريق الحاسة النقدية التي لديه ما سيجري على مستوى الاتحاد الأوروبي سنوات كثيرة فيما بعد. بِيع البنك لبنك الغرب قبل أن يندمج في البنك الصناعي، ويأخذ اليوم اسم البنك الصناعي والتجاري، مع أسهم للعائلة تصل قيمتها إلى 15 بالمائة. روز-ماري تيرلير، وأسهمها الأخرى هنا وهناك، مجموع دخلها السنوي يزيد عن الثلاثة ملايين يورو.
- ثلاثة ملايين يورو، سيداتي المشاهدات، سادتي المشاهدين، في العالم أجمع، عادت أبولين دوفيل إلى القول، وصورتها تتصدر الشاشة، فهل سيُطبق عليها القانون الرئاسي الجديد؟ 75 بالمائة ضريبة على الثروات الكبيرة؟ ولا ننس أن هذه المرأة مبذرة أكبر من كبيرة، لقد أنفقت من أموال الفرنسيين 200 ألف يورو، فقط لأجل كراسي وطاولات حديقة القصر الذي قضت فيه عطلتها الصيفية، ولأسبوعين فقط، لخمسة عشر يومًا هي قليلة في عرف المصطافين، وكثيرة، كثيرة جدًا، خلال أزمة تعصف بكل فرنسا وكل أوروبا وكل العالم. لكن رئيسًا له كهذه عشيقة ليس برئيس، ولو كان هذا الرئيس رئيسًا حقًا لما ذهب للراحة والاستجمام والإنفاق يومًا واحدًا...
فجأة، إذا بفردة حذاء نسائي تُلقى على رأس أبولين دوفيل، وإذا بروز-ماري تيرلير تنزل درج مدخل الإليزيه كالمهووسة، وتأخذ بضرب المقدمة/المحققة بالفردة الثانية دون أن ينفع تدخل الصحفيين الذين كانوا كعادتهم يقفون على طرف، والعالم كله يشاهد، على صرخات كاترين دوما، الصحفية المعاونة. سقطت أبولين دوفيل الحبلى غائبة عن الوعي، والعداد يزداد ارتفاعًا، وهذه الصرخات: سيارة إسعاف! سيارة إسعاف! وانقطع الإرسال.
عادت كل الإرسالات إلى الظهور مع عداداتها، بينما جمد إرسال فرانك لانج وإرسال أبولين دوفيل، وكلمة تدور بالشاشة تحت تقول: سنعود إلى باريس عندما نتمكن من ذلك... حتى احتل خليفة عبد الرحمن، مراسل هنا العالم في الرياض، الشاشة الصغيرة.
- سيداتي سادتي في كافة أنحاء العالم أهلاً بكم، وأشكركم، وأنا لا يسعني سوى التعبير عن سخطكم لما جرى للزميلة أبولين دوفيل في قصر الإليزيه، يقولون لي في نوازي لو غران إن عددكم يتجاوز المائة مليون، فهذه هي السلطة المجنونة على أحسن صورها، وهؤلاء هم المتحضرون الذين يحترمون الرأي والرأي الآخر على أحسن صورهم! ماذا عن ربيع عربي في بلاد الحجاز، في العربية السعودية، في الرياض العاصمة؟ نحن الآن في حي الجبس، أفقر أحياء الرياض، انظروا إلى مليارات أرض الحجاز (كاميرا ثانية تلتقط صورًا كارثية للحي: الأبواب مشرعة، الجدران مشققة، المرافق الصحية متفجرة، السكان كالبهائم...) لهذا كان قرار أهل الحي: الاحتجاج، فالصمت كل هذه السنوات لم يكن يجدي نفعًا، والحركة حركة اجتماعية أولاً وقبل كل شيء، لكن كل المؤشرات تحكي عن انبثاق الحركة السياسية منها، لأن لا أحد ممن هم في السلطة يستجيب لمطالبها. تعالوا يا إخوان –هنا تظهر الصور مع الترجمة الفورية من كل تلفزيونات العالم: هندية، باكستانية، أفغانية، إيرانية، مصرية، حبشية، مالية، إسبانية، برتغالية، برازيلية، عبرية... هؤلاء الملثمون هم من شباب هذا الحي، يخافون على أنفسهم، لهذا هم ملثمون، وهم ليسوا قاعدة أو غيره، لأن هذه هي التهمة الأولى التي يوجهها النظام إلى من يعارضه. إنهم فقراء وبسطاء ولا أحد يسيرهم ما عدا غضبهم من الوضع المزري الذي هم فيه. هذا واحد منهم. ماذا تقول لمشاهدي هنا العالم؟ "أقول نريد حياة كريمة، وكل ما نفعله لأننا نريد حياة كريمة"، وأنت؟ "لن تتوقف هذه المرة حركتنا إلا بعد أن نحصل على ما نريد"، لأن هذه ليست المرة الأولى؟ "لا، ليست هذه المرة الأولى، فلم تستجب الدولة لمطالبنا. وهذه المرة، نحن لسنا وحدنا، معنا كل فقراء الرياض، وكل أحيائها القديمة، معكال الشميسي، المرقب، النظيم، الفيصلية القديمة، كل أحياء الرياض البائسة في جنة النفط". وأنت؟ "نحن واثقون من..." يقولون لي في نوازي لو غران، المشاهدون يريدون الانتقال إلى واشنطن، سيكون الانتقال إلى واشنطن بعد هذا الفاصل الدعائي، فالدعاية روح الموهومين الذين نرجو ألا تكونوا منهم، ونحن، سنعود حتمًا مع المنتفضين ضد البؤس في أرض الذهبين الأسود والأبيض.

*

طلب فرانك لانج من سيلين كاديه التوقف بسيارتها حالما سمع على هاتفه المحمول بما وقع لزوجته أبولين دوفيل، فتوقفت على طرف الطريق، وأشارت إلى باقي الركب التلفزي بالمرور أمامهما، وأفراد الركب التلفزي يرسلون ابتساماتهم الثقيلة ظنًا منهم أن العاشقين العابرين يريدان أن يتضاجعا قبل الوصول إلى قرية يوجين لاستجواب زوجة راكب الدراجة المغدور ديلان مورتييه.
- أوديت لانغاج، لا تكذبي عليّ، قال فرانك لانج على هاتفه المحمول، وهو مشغول البال.
- أنا لا أكذب عليك، فرانك لانج، قالت كبيرة المعاونين على هاتفها المحمول.
- لماذا لم تكلمني هي، أبولين؟
- بكل بساطة لأن وضعها لا يسمح لها بذلك.
- أرأيتِ؟
- أرأيتُ ماذا؟
- هي إذن في خطر.
- لكن لا.
- والطفلان؟
- يريدان أن يخرجا.
- أرأيتِ؟
- أرأيتُ ماذا؟
- هي إذن في خطر.
- لكن لا، لكن لا.
- يريدان أن يخرجا في شهرهما السابع، هي إذن في خطر.
- الكثير من الأطفال يفضلون أن يأتوا إلى العالم في شهرهم السابع، وهم وأمهم على أحسن ما يرام.
- هم ربما أما أمهم.
- أقول لك هم وأمهم.
- فلتكلمني أول ما يسمح لها الطبيب بذلك.
- اعتمد عليّ، فرانك.
- في أي مستشفى هي؟
- المستشفى الأمريكي.
- طيب.
وأقفل.
- ماذا، فرانك؟ سألت سيلين كاديه قلقة.
- أبولين في المستشفى بعد اعتداء السيدة الأولى عليها، والطبيب لا يسمح لها بمكالمتي، ليست في وضع يسمح بمكالمتي، فالطفلان يريدان أن يخرجا.
- الطفلان يريدان أن يخرجا، أعادت سيلين كاديه، وهي تأخذ يديه، وتقبلهما، وتقول لا تقلق، فرانك. جلست في حضنه، وبدأت تقبله من كل مكان في وجهه، وهي تردد: لا تقلق، فرانك. كانا وحدهما في السيارة، على طريق السفر، ولا أحد يراهما غير طيور الألب. لا تقلق، يا حبيبي. نزلت بين قدميه، وراحت تفك سرواله بعصبية، فرفعها إليه، وقبلها قبلة طويلة، وبعد ذلك، أبعدها بهدوء.
- عودي إلى المقود، سيلين.
- ولكن، فرانك.
- الآخرون بانتظارنا.
- ولكننا وحدنا، فرانك، وأنت بحاجة إلى هذا. أنت قلق على أبولين فرانك، وأنت بحاجة إلى هذا. هل تسمعني، فرانك؟ أنت في حال نفسية صعبة، وأنت بحاجة إلى هذا، وقبلته بعنف، لكنه انتزع شفتيه من ثغرها.
- عودي إلى المقود، خراء، سيلين.
وبعد بعض الحرد، والدلع، عادت إلى المقود، وأدارت المحرك. شقت الطريق حتى لحقت بالركب التلفزي الذي عاد أفراده إلى الابتسام الثقيل، وتجاوزته، وهي تُخرج لهم لسانها.

*

- هنا العالم، هنا الولايات المتحدة الأمريكية، هنا واشنطن، هنا فيلا سوزان ماك كوفر، مرشحة الجمهوريين إلى البيت الأبيض، هنا بيل جون، أنا! سوزان ماك كوفر، هل ستكون المرأة الأقوى في العالم؟ هذه الشقراء الجميلة التي في الخمسين من عمرها كانت ترغب في تحطيم عدادات الشوبيز في فترة ليست بعيدة من حياتها، وعندما لم يحالفها الحظ استدارت نحو السياسة. مشاهدو هنا العالم في العالم، هذه هي قصتها.
يبدأ فيديو عنها بصوت نسائي يقول: لم يكن صوتها الأجمل، ولكنها كانت الأجمل! تُرافق الكلام صور سوزان ماك كوفر، فبركتها... لا، ليست المافيا، وإنما أرباب الإف بي آي. كانوا يريدون أن تحتل أغانيها الجنسية أمخاخ الشبان في العالم بأية وسيلة، فلم يتوانوا عن تهديد أساطين الشوبيز، ووصل الأمر بهم إلى قتل فلانتينو ماكويل، صاحب أكبر شركة أسطوانات في العالم، في بركته، كما أنهم أحرقوا أكبر علبة ليلية في العالم صاحبها ملك الليل مارلون دي كابريو، تُرافق الكلام صور سوزان ماك كوفر دومًا، لم يترددوا عن تهديد منافسات سوزان ماك كوفر في تجارب الأداء الغنائي، وفي الأخير، تمكنوا من افتكاك عقد لها. أغنيتها الأولى "أحبك في الفراش" كانت خراء أسود، الثانية "أحبك في الحمام" كانت خراء أبيض، الثالثة "أحبك في البحر"، لم تكن لا هذا ولا ذاك، خراء ذهبي كلون شعرها الذهبي، باعت منها عدة ملايين، وحازت على الأسطوانة الفضية، فالذهبية، فالماسية، تكلم عنها العالم، والشهرة العظيمة تلك دفعتها إلى محاولة الانتحار إلا أن الإف بي آي الحريصة على نجمتها كل الحرص أنقذتها. غابت سوزان ماك كوفر سنوات طويلة، خمسة عشر عامًا، فإذا بها سيناتور لواشنطن، وليس لأية مدينة، وإذا بها مرشحة الجمهوريين للانتخابات الرئاسية.
- سنطرق الباب على سوزان ماك كوفر، قال بيل جون، وهو يقترب من الباب. طرقه، ونادى: سوزان ماك كوفر، هنا العالم، أكبر تلفزيون في العالم.
- أكبر خراء في العالم تريد القول، قالت سوزان ماك كوفر، وهي تفتح الباب باسمة.
- هذه تهنئة من طرفك، سوزان ماك كوفر، فالخراء من بين شفتيك حلوى. شكرًا جزيلاً
- لا شكر على واجب.
- كيف ترين الطريق إلى البيت الأبيض، سوزان ماك كوفر؟
- مزروعة بالورود.
- هل أنت واثقة من الأمر إلى هذه الدرجة، سوزان ماك كوفر؟
- مثلما أنا واثقة من أنك أكبر قذر.
- هذه تهنئة ثانية من طرفك، سوزان ماك كوفر. شكرًا جزيلاً.
- لا شكر على واجب.
- تعرفين أننا لن نقف خلال حملتك الإعلامية إلى جانبك، سوزان ماك كوفر.
- أعرف، وأنا لهذا أستقبلكم.
- سنكون مع خصمك، بركاتي كاراكوما.
- بركاتي قضيبي، لهذا سيكون لي الظفر وستكون له الهزيمة.
- ما هو أول فعل ستقومين به كرئيسة وأول رئيسة للولايات المتحدة الأمريكية، سوزان ماك كوفر.
- النوم مع كاسترو كي أخصي كل خصومي وأنتم أولهم.
- شكرًا جزيلاً.
- لا شكر على واجب. هل تسمح لي بضرب الباب في وجهك؟
- عفوًا، سوزان ماك كوفر، سأضربه أنا في وجهي بدلك.
وأغلق بيل جون باب الرئيسة القادمة للولايات المتحدة، وهو يضربه بقوة في وجهه، فسمع المشاهدون والمشاهدات عبر العالم صرخة حادة كنغمة شاذة في أغنية: أيها القذر!

*

توقف الركب التلفزي أمام بيت ديلان مورتييه في قرية يوجين، فجاء فرانك لانج أول من جاء المخرج جان ستيفان مبديًا أسفه لما لحق بأبولين دوفيل، تبعه غريغوري ريش المعاون الصحفي، فناديا راضي الصحفية المسئولة عن المقابلات المباشرة، فكل الباقين واحدًا واحدًا، التقنيون هاري بوتر وهتشكوك وجاك الخانق، وكل الباقين، المطريّة كاهنا بن داوود والمصوران، وبقيت سيلين كاديه في السيارة وحدها، وهي تذرف دمعها.
- لماذا تبكين؟ سألها فرانك لانج.
- لا لشيء، أجابت الصحفية من كله.
- توقفي عن البكاء.
- لا أستطيع.
- هي تخريني، همهم صاحب هنا العالم، وهو يتوجه إلى الآخرين بالكلام.
- أعرف أنني أُخريك.
- هل ترون؟
- نرى.
- هي تخريني، هي تخريني.
- أعرف أنني أخريك، أنني أخريك.
- أنا أعتذر.
- لا تعتذر. أعرف أنني أُضجر الجميع.
- سيلين كاديه، توقفي عن البكاء لأننا سنبدأ، بين لحظة وأخرى.
- ابدأ فرانك، موعدك مفتوح مع مدام مورتييه، ما عليك سوى أن تطرق عليها الباب.
- توقفي عن البكاء قلت.
- لا أستطيع.
- هي تخريني، هي تخريني.
- هل أنتَ مستعد للبدء من جديد، فرانك، أم أنك تفضل... أقصد حالك النفسية؟ سأل جان ستيفان.
- أبولين بين أيدي حسنة في المستشفى الأمريكي، همهم فرانك لانج.
- لا تخش شيئًا، فرانك، همهم غريغوري ريش.
- الطفلان يريدان أن يخرجا ولهما من العمر سبعة شهور في بطن أمهما، خراء الخراء كل هذا، عاد فرانك لانج يهمهم.
- في الفيسبوك كلهم يدعون لها، عاد غريغوري ريش يهمهم.
- فيسبوك قفاي، غريغوري.
- أنا خائف على أبولين مثلك، فرانك.
- فيسبوك قفاي، وتويتر قفاي، ماذا لو خسرتُ أبولين؟
- لن تخسرها.
- فيسبوك قفاي، وتويتر قفاي، وهنا العالم قفاي.
- لنبدأ من جديد، فرانك، قال المخرج.
- فيسبوك قفاي، وتويتر قفاي، وهنا العالم قفاي، والعالم أجمع قفاي.
- وتلك التي تنشج؟
- قفاي.
- تهيأوا، يا أولاد، صاح المخرج، فأخذ كل واحد منهم مكانه، بينما راحت كاهنا بن داوود تبودر فرانك لانج وهتشكوك يربطه بأجهزة الإرسال.
- كل هذا قفاي، وسيلين كاديه يتضاعف بكاؤها.
- سأبدأ العد العكسي، فرانك، قال جان ستيفان في أذنه: عشرة، تسعة، ثمانية، سبعة، ستة، خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد، لك فرانك.
- سيداتي سادتي، ها نحن نعود إلى جريمة العصر التي راح ضحيتها المهندس العراقي الأصل سعيد الموصلي وزوجته وأم زوجته وراكب الدراجة الفرنسي ديلان مورتييه، أوضحنا أن مصرعه لم يكن محض صدفة، وإنما لأنه كان على موعد من أجل توصيل بعض المعلومات النووية السرية. ها أنا أقترب من باب هذا الأخير، وأطرقه. مدام مورتييه! فتحت الباب امرأة شبه منهارة، وهي تحمل صبيها الصغير بين ذراعيها. مدام مورتييه، هنا العالم على موعد مفتوح معك. أوه، هذان هما الصغيران الآخران، هلا سلمتما عليّ، أيها الرجلان الصغيران. لم يسلما عليه، بل ازدادا بأمهما التصاقًا. مدام مورتييه، اسمحي لي أن أطرح عليك بعض الأسئلة بخصوص زوجك المرحوم موسيو مورتييه. وإذا ببصقة كبيرة في صميم وجهه، وإذا بالباب يُطرق طرقة كادت تحطمه. استدار فرانك لانج نحو الكاميرا، وهو يمسح البصاق بأطراف أصابعه، ويهمهم: هذه المكافأة لمن لهم مثل مهنتنا. فلنهدأ، يا أولاد، طلب، وهو يتنظف بمنديله، ولنطرح أسئلتنا على سكان قرية يوجين. كان بعض السكان قد جاء مع وصول الركب التلفزي ليرى، فاقترب صاحب أكبر قناة تلفزية في العالم من رجل في الأربعين من عمره: ماذا تعرف عن ديلان مورتييه؟
- غالبًا ما كان يركب دراجته، ويذهب في أعماق الألب، كان يذهب حتى ألبيرفيل أحيانًا، ألبيرفيل، المدينة الأولمبية، على بعد عشرة كيلومترات من هنا. كان يبسكل أكثر من عشرة كيلومترات، كان يبسكل عشرين، ثلاثين...
- وماذا عنه؟ ماذا عنه كشخص؟ سأل فرانك لانج آخر.
- ولد خدوم ولطيف جدًا.
- كان من أعذب الآباء وألطفهم، تدخلت امرأة، كان يعطف على صغاره، ويدللهم.
- كان حذرًا على الخصوص وكتومًا، قال امرأة أخرى.
- هذا لأنه كان يخفي تحت لطفه وحذره وبساطته شخصًا آخر... رشق فرانك لانج بلهجة جافة.
- هذه الفظاظة لم أعهدها من قبل، رشقت المرأة بدورها بلهجة جافة، وقبل أن تنسحب غاضبة، فظاظة وفظاعة لم أعهدهما من قبل، وكل من كان هناك من سكان يوجين ينسحب من ورائها.
- ...شخصًا آخر جهنميًا، صاح رجل التحري الخاص في ظهورهم، بينما راحوا يجمجمون شتائمهم. سنترك هذه القرية التي تجهل كل شيء عن شخصية ديلان مورتييه الحقيقية، وسنركب الهيلوكبتر لنذهب إلى مستشفى غرونوبل هناك حيث ترقد الصغيرة عزيزة الموصلي بين الحياة والموت. إليكم هذا الفاصل الدعائي، ولتتذكروا: عندما تتوقف الدعاية قل إن هناك أزمة بالفعل. وبعد ذلك، إرسال آخر تختارونه أيها المشاهدون الكرام، أيتها المشاهدات الكريمات، الوقت الذي نصل فيه إلى مدينة غرونوبل، عاصمة الألب.
- الهيلوكبتر في الطريق، فرانك، قالت سيلين كاديه بصوت متماسك.
- شكرًا لتوقفك عن البكاء، همهم فرانك لانج.
- لا تذكرني، فرانك، وإلا عدت إلى البكاء من جديد، قالت الصحفية من كله، وهي تعصر بمنديلها عينها.
- سيتحرك ركبنا في الحال، فرانك، قال غريغوري ريش.
- إلى اللقاء بعد ساعة إذن في الفندق.
- فندق غرونوبل.
- والمطعم؟
- مطعم غرونوبل.
- والماخور؟
- ماخور غرونوبل.
- هل انعدمت الأسماء لديهم إلى هذه الدرجة؟
- أسمعُ محرك الهيلوكبتر.
- الهيلوكبتر، فرانك، قالت سيلين كاديه، وهي تشير إلى المروحية.
- أوكي، بعد ساعة فندق غرونوبل.
- انتبه، فرانك، طلبت سيلين كاديه، وهي تمسك فستانها الذي طيره محرك الهيلوكبتر، وأبان فخذيها.
- تعالي معي، سيلين.
- وسيارتي؟
- اركبها غريغوري، وراح يجري، وهو يجرّها من يدها، أصعَدَها وراء السائق، وصعد إلى جانبها، وبدأ يمارس العناق معها في الجو، والسائق كالتمثال لا يبالي بشيء.

*

أول ما وصل فندق غرونوبل، طلب فرانك لانج المستشفى الأمريكي في باريس.
- لا تستطيع التحدث إليها، قالت الممرضة الدميمة.
- أنا زوجها فرانك لانج.
- مرحى فرانك لانج، مرحى هنا العالم، صاحت الممرضة السمينة.
- هل أستطيع التحدث إليها؟
- لم لا تأتون لتصويرها، فرانك لانج؟
- تصويرها؟
- عندما تلد، لم لا تأتون لتصويرها؟ سيكون أعظم حدث، سيراها العالم، وسيرانا. فيما يخصني أنا، سأعمل على أن أبدو أجمل ممرضة على وجه الأرض، قالت الممرضة السمينة الدميمة، لا تقل لا، فرانك لانج.
- وهل أستطيع التحدث إليها؟
- تستطيع، ولكن لا تقل لأحد، سأمرر لها هاتفي المحمول، فلا تطل. إلى اللقاء مع كل كاميراتك، قبلات كبيرة، فرانك لانج.
تناولت الممرضة الدميمة السمينة جرائد المساء، واخترقت الحجرة التي تحتلها أبولين دوفيل.
- إنه فرانك لانج، فلا تطيلي معه، وكوني عاقلة، أوامر الطبيب، لكنه وعد بإرسال الكاميرات عندما تضعين، سأكون أجمل الممرضات في العالم، خذي، أعطتها التلفون المحمول، وهذه جرائد المساء. كما قلت لك، كوني عاقلة، ولا تطيلي معه، ثلاث دقائق فقط لئلا تجهدي نفسك.
- فرانك، همهمت أبولين دوفيل، لا، لست على ما يرام. أنا خائفة، فرانك، وبدأت بالبكاء، سأموت، فرانك. تعال إلى جانبي، فرانك. تعال إلى... فاختطفت الممرضة الدميمة السمينة التلفون المحمول منها.
- ليس هذا ما اتفقنا عليه، همهمت الممرضة الدميمة السمينة، وهي تغادر الحجرة، ستأتي الكاميرات، وهي لا تمنع نفسها من القهقهة، أي حظ!
عندما ذهبت الممرضة الدميمة السمينة، لفت انتباه أبولين دوفيل صورة زوجها، وهو يقبل سيلين كاديه، على طول الصفحة الأولى من إحدى الجرائد المسائية، فتناولتها بهدوء، وراحت تقرأ غير مصدقة ما تقرأ.

*

- سأخترق هذا المستشفى المحروس من طرف فرقة بأكملها من رجال الدرك متخفيًا تحت رداء طبيب، همس فرانك لانج للكاميرا داخل الشاحنة الأستوديو، وسأحمل كاميرا مخفية، تنقل لكم كل شيء، مشاهديّ الأعزاء عبر العالم. يجب أن أنهي كل شيء بسرعة، اختراقي للمستشفى، ثم لحجرة الطفلة عزيزة. إنها في سبات عميق كما قيل، وأنا شخصيًا أراهن، كما هي عادتي كرجل تحر خاص، على ما هو غير متوقع وغير مأمول منه. يجب أن أنهي كل شيء بسرعة خوفًا من أن يُكتشف أمري. كاهنا بن داوود المطرية أنهت تطرية وجهي، وهتشكوك التقني ربطني بكل ما يلزم، وسيلين كاديه الصحفية من كله على وشك الانهيار، كل هذه إشارات حسنة. ابتداء من الآن، الكاميرا المخفية هي عين العالم. غادر فرانك لانج الشاحنة الأستوديو، وهو يرتدي لباسه الأبيض، ويرمي على كتفه سماعة الطبيب، واجتاز خط الحراس دون أدنى صعوبة. أخذ المصعد إلى قسم العناية الخاصة في الطابق التحت الأرضي الثاني، وسار في ممر طويل يوجد عند نهايته اثنان من رجال الدرك عرف منهما أنها غرفة الصبورة الغير العادية. اخترق غرفتها دون أي سؤال من طرف الحارسين، حتى أن أحدهما أطلق تثاؤبًا كبيرًا. هذا يعني، مشاهديّ الأعزاء، همس فرانك لانج للكاميرا المخفية، أن الصغيرة الموصلي معرضة للقتل في أية لحظة، وأن القاتل لو أراد الوصول إليها لكان هنا قبلي منذ زمن طويل. الصغيرة تنام بالفعل نومًا عميقًا، والأجهزة من حولها تعمل كلها. سأقترب منها علها تشعر بوجودي: عزيزة! عزيزة! هل تسمعينني؟ قلت بالإنجليزية، أنا أحبك، يا عزيزة! أنا هنا من أجلك، من أجل حمايتك، أنا أحبك كثيرًا، يا عزيزة! لم تصدر عنها أية حركة. يجب عليّ المغادرة في الحال. عزيزة...
في غرفة الرقابة، اكتشف المراقب كل شيء فجأة من التلفزيون، وتابع بذهول ما يهمس به فرانك لانج في أذن الصبورة النائمة نومًا عميقًا، فأطلق صفارات الإنذار، وراح يركض. في تلك اللحظة، فتحت عزيزة عينيها، وحدقت، والرعب يرتسم على محياها، همهمت، فلم يسمع فرانك لانج شيئًا، اقترب بأذنه من شفتيها، واستطاع أن يلتقط كلمة واحدة قبل أن تغرق عزيزة في الغيبوبة من جديد.

*

- هنا العالم، هنا فرنسا، هنا باريس، إيزابيل موندي معكم من المستشفى الأمريكي لمتابعة ولادة أبولين الصغيرة وفرانك الصغير، وهما في الشهر السابع. الحدث أمهما أبولين دوفيل ضابطة الدي جي إس إي المعروفة السابقة، وزوجة الأشهر من نار على علم فرانك لانج رجل التحري الخاص السابق وصاحب أكبر قناة في العالم "هنا العالم"، أبولين دوفيل التي اضطر الأطباء بشأنها إلى مثل هذا القرار القسري بعد الحادث الذي حصل معها في قصر الإليزيه، وهي تقدم إرسالها عن سيدة فرنسا الأولى، تُعاد صور الحادث، بينما تتابع إيزابيل موندي قائلة: لست أدري إذا كانت بعد كل ما فعلت تستحق هذا اللقب. كانت روز-ماري تيرلير من الوحشية بحيث أوقعت أبولين دوفيل أرضًا بعد أن ضربتها بحذائها، فغابت هذه عن الوعي، وحملتها سيارة الإسعاف إلى المستشفى الأمريكي. ها هم ينقلون أبولين دوفيل على عربة، وها هي الشقراء الساحرة، كما يسمونها، تبدو واثقة من نفسها، حتى أنها أشارت إلينا، وابتسمت. أبولين دوفيل، هل بإمكانك أن تقولي شيئًا لعشرات الملايين الذين يشاهدونك في كل أنحاء العالم؟ لكن الممرضات والممرضين والشغالات والشغالين يمنعوننا من التحدث إليها. إنها مناسبة جيدة لبعضهم كي يقتربوا من الكاميرا، سيداتي سادتي، ويقوموا بحركاتهم البهلوانية في لقطات كبيرة. تظهر على الشاشة الممرضة السمينة الدميمة، وهي تبتسم، وتحرك رأسها، وتحشو إصبعها في أنفها، وثانية، نحيفة دميمة، وهي تتظاهر بالحول، وثالثة، ليست نحيفة ولا سمينة ولا دميمة، وهي تتظاهر بالغضب مهددة بسبابتها، بينما إيزابيل موندي تواصل: هذه الحركات كلها مطمئنة، أبولين دوفيل ليست في خطر، وطفلاها ليسا في خطر.

- قنينة بوردو، وأشياء صغيرة معها، قالت سيلين كاديه على هاتف الفندق.
- أية أشياء صغيرة؟ سأل خادم الغرف من الطرف الآخر للخط.
- فرانك، صاحت سيلين كاديه بفرانك لانج المتابع على التلفزيون أخبار زوجته، يسأل أية أشياء صغيرة؟
- أية أشياء صغيرة ماذا؟ سأل صاحب هنا العالم، وهو مشغول البال.
- أية أشياء صغيرة مع قنينة النبيذ.
- أشياء صغيرة.
- أشياء صغيرة، أعادت سيلين كاديه، وأقفلت الهاتف. لا يعلم أية أشياء صغيرة، ألقت، وهي تجلس على الكنبة، إلى جانب فرانك لانج.
- أشياء صغيرة.
- قلت له، لكنه سأل أية أشياء صغيرة؟
- أشياء صغيرة وكفى.
- هذا ما يجب عليه أن يعرف. أشياء صغيرة.
- وكفى.
- وكفى.
- ها هي في قاعة الولادة أبولين.
- أوه، فرانك.
- لا تبدأي، سيلين، أرجوك.
- لكن فرانك، ماذا يفعل، هذا البربري؟
- يدقها في ظهرها ليخدر نصفها السفلي.
- لماذا، فرانك؟
- برأيك لماذا، خراء؟
- أوه، أبولين! وبدأت سيلين كاديه تبكي.
- سيلين، اسمعيني، إذا لم تسكتي اذهبي إلى غرفتك في الحال.
- أوه، أبولين، يا حبيبتي!
- سيلين...
- وهل سيشقونها هكذا كالحيوانات، فرانك؟
- لا، سيدغدغونها.
- أوه، أبولين!
- ماذا قلت لك؟
- عملية قيصرية، فرانك.
- ماذا قلت لك؟
- فرانك، عملية قيصرية.
- ماذا قلت لك؟
- عملية قيصرية، فرانك.
- عملية قيصرية، خراء!
- خادم الغرف يدقدق.
- افتحي له.
- الباب مفتوح.
- ادخل، صاح فرانك لانج، فدخل خادم الغرف بعربة، ضع هذا هنا، قال، وهو يشير إلى ناحية أمامه.
- الأشياء الصغيرة لم أعرف تمامًا.
- طيب، طيب، اذهب.
- انتظر، طلبت سيلين كاديه، وهي تنهض، وتفتح حقيبة يدها، وتعطيه قطعة. شكرًا!
- انظري، الأشياء الصغيرة، خراء!
- خراء! همهمت الصحفية من كله، وهي تضحك، ستيك فريت، وسلطة ألبيّة، وجاتو بالشوكولاطة.
- كُلي، همهم فرانك لانج، وهو يفتح قنينة البوردو، ويصب لنفسه كأسًا كبيرة.
- وأنت؟
- سآكل فيما بعد.
بدأت بالأكل، وبدأ الطبيب بشق بطن أبولين دوفيل، وأبولين دوفيل لا ترى شيئًا، بسبب ستارة تحجب عنها بطنها. كانت تبدو هادئة، وكانت تنظر إلى الكاميرا، كلما اقتربت من وجهها، نظرة شبه ميتة، لكنها نظرة شبه أسطورية، كنظرة كل عظيم يودع الحياة. ألقت سيلين كاديه شوكتها وسكينها، وبصقت ما في فمها في صحنها.
- أوه، فرانك.
- خذي، قال فرانك لانج بعد أن صب لها كأسًا من النبيذ. لا بد من الدم الغزير.
- ليس هذا، قالت الصحفية من كله، وهي ترتعش كلها.
- ماذا؟
- نظرة أبولين.
- ما لها، نظرة أبولين؟
- كأنها كانت تريد أن تقول لي شيئًا.
- لك!
- لي.
وإذا بصرخات طفل أو نصف طفل تُسمع، فيعطيه الطبيب للممرضة السمينة الدميمة التي تلفه بغطاء، وتعرضه لعدسة الكاميرا مع حركاتها البهلوانية قبل أن تضعه بوسخه في حاضنة اصطناعية. تبعت الصرخات الأولى صرخات ثانية، وحملت الممرضة النحيفة الدميمة طفلة أو نصف طفلة عرضتها لعدسة الكاميرا، وهي تقوم بحركات بهلوانية، هي الأخرى، ثم وضعتها بوسخها في حاضنة اصطناعية. أخذت سيلين كاديه تنشج، وفرانك لانج، يجرع الكأس تلو الكأس. دارت الكاميرا حول كل من كان في قاعة التوليد، واستقرت على الوجه الملائكي لأبولين دوفيل، وهي تغلق إلى الأبد عينيها. أطلق فرانك لانج صرخة مهولة، وبعربة الأكل حطم جهاز التلفزيون. أخذته سيلين كاديه بين ذراعيها، وهي تذرف مر الدمع، فانهال على السمراء الساحرة ضربًا. مزقها، وبمخالبه أدماها، ودخل فيها، وهو يذرف مر الدمع مثلها، كما يدخل الجبناء.

*

في كليغيت، ضاحية لندن الجنوبية ذات الفلل الفخمة، كان رجال الشرطة ورجال السكوتلانديارد يبحثون في فيلا سعيد الموصلي عما يرشدهم إلى معرفة القاتل. لم يبح فرانك لانج لهم بما همست الطفلة عزيزة الموصلي ذلك اليوم في أذنه، كلمة واحدة همست في أذنه لم يبح بها لأحد، وكأنها كانت رغبة الغائبة عن الوعي، فهي بعد أن أودعت كلمة السر لمن وثقت به عادت تغرق في سباتها العميق، فلم يشكّ أحد في الأمر، لهذا عادت تغرق في سباتها العميق، كيلا يشكّ أحد في الأمر. كان فرانك لانج في فيلا سعيد الموصلي مع كل رجال الشرطة هؤلاء، وكل رجال السكوتلانديارد أولئك، وكان ينقل لمشاهدي هنا العالم ما يحويه المكان، فانتقلت الكاميرا من هنا إلى هناك، وظهرت على الشاشة أشياء مقلوبة، وأشياء ملفوفة، وأشياء مهملة ملقية دون أن يبالي أحد بها، ألعاب للأطفال من بينها أُرْغُن كهربائي صغير لم يلتفت أحد إليه.
في الخارج، كان كل طاقم مكتب هنا العالم اللندني. وكانت كيت سثرلاند، المقدمة/المحققة، تستقبل بنفسها حميد الموصلي، أخي القتيل سعيد الموصلي، لما خرج فرانك لانج من مسكن هذا الأخير، وهو يقول:
- موعدنا الآن، مشاهديّ الأعزاء، مع أخي المهندس القتيل، حميد الموصلي، سنسأله عما يمكنه أن يقول لنا بخصوص كلمة السر التي باحت الصغيرة عزيزة بها في أذني. الطاقم هنا يعرف هذه الكلمة منذ بضع دقائق، لكننا اتفقنا على ألا نكشفها لأحد، وعند النطق بها أن نبدلها بنغمة من أنغام الأُرْغُن. أشكرك على الحضور، أستاذ حميد الموصلي، حيا صاحب هنا العالم ضيفه، وهو قربه.
- الحقيقة أن الأستاذ حميد الموصلي مشغول جدًا بأمر أخيه سعيد الموصلي، قالت كيت سثرلاند، وكان من الصعب عليه الحضور، لكنه ضحى بكل مواعيده من أجل اللقاء بك، فرانك لانج.
- هذا شرف لي ولعشرات الملايين لمشاهدي هنا العالم، رد رجل التحري الخاص السابق. الكل عرف أن لا مشكل هناك بينك وبين أخيك، أستاذ حميد الموصلي.
- أبدًا. كان سعيد صديقي قبل أن يكون أخي، وإرث أبي كنا قد تفاهمنا بخصوصه حول طبق دجاج بالتُّمَّن خير من تعده الراحلة أم عزيزة رحمها الله وأسكنها فسيح جناته.
- تفاهمتما بخصوص الإرث؟ تدخلت كيت سثرلاند.
- قلنا باحتفاظه بالفيلا على أن يدفع لي ما يعود علي منها.
- على أن يدفع لك كيف؟ سأل فرانك لانج.
- كان أخي سعيد رحمه الله وأسكنه فسيح جناته بصدد إنهاء صفقة ستدر عليه مالاً وفيرًا.
- ما هي هذه الصفقة؟
- الله أعلم.
- لم يقل لك أية صفقة هي؟
- لم يقل لي.
- ألهذا السبب كان يبدو مشغول البال في الأيام السابقة لمصرعه؟
- لهذا السبب.
- وكلمة (عزف على الأرغن) هل تقول لك شيئًا؟
- (عزف على الأرغن)؟
- نعم، (عزف على الأرغن). هذه الكلمة همستها في أذني ابنة أخيكم عزيزة قبل أن تعود إلى الغرق في الغيبوبة.
- (عزف على الأرغن). دعني أفكر.
- فكر ولا تطل، تدخلت كيت سثرلاند، عشرات الملايين من المشاهدين ينتظرونك.
- إنها الكلمة المفتاح لحل لغز الجريمة، أوضح فرانك لانج، وبالتالي لمعرفة القاتل.
- (عزف على الأرغن).
- نعم، (عزف على الأرغن)، قالت كيت سثرلاند بحماس كي تدفعه إلى التذكر.
- (عزف على الأرغن)، ردد أخو القتيل مفكرًا.
- (عزف على الأرغن)، نبر صاحب أكبر قناة تلفزية في العالم.
- آسف، هذه الكلمة لا تعني لي شيئًا.
- شكرًا لك، أستاذ حميد الموصلي، همهم فرانك لانج يائسًا.
- شكرًا لك، أستاذ حميد الموصلي، همهمت كيت سثرلاند باسمة.
- فاصل خرائي، وإرسال آخر، فإلى أزراركم الرقمية.

*

وحميد الموصلي في الطريق إلى لندن، كان يُعمل فكره في كلمة السر لما داس فجأة دواسة الكابحة، وصنع نصف دورة عائدًا إلى فيلا أخيه القتيل. عندما رآه فرانك لانج من بعيد، فهم كل شيء، وابتسم، وتقدم وحده لملاقاته، دون الكاميرا.
- ستيوارت ماكليليه، قال حميد الموصلي أول ما قال، حانوتي لبيع الأدوات الموسيقية.
- ماكليليه؟
- لكنه صديق العائلة.
- صديق أخيك سعيد الموصلي؟
- أحد الذين كانوا يراقبون أخي خلال وبعد حرب العراق.
- ستيوارت ماكليليه من المخابرات البريطانية؟
- لم يكن سعيد أخي يخفي عنه خافية حماية لشخصه، فتوطدت العلاقة بينهما، وكثيرًا ما كان هنا لهذه المناسبة أو تلك، وحتى دون مناسبة.
- كنت تعرف أنه سكوتلانديارد؟
- كنت أعرف، كنا كلنا نعرف، ولا نبالي بذلك، كان صديقًا لأخي.
- أرى ذلك، أدواته الموسيقية ليست سوى غطاء، همهم فرانك لانج.
- هل هو القاتل؟ ستيوارت ماكليليه؟
- سنرى إذا ما كان هو القاتل بالفعل، على أي حال عزيزة، ابنة أخيكم، متأكدة من أنه هو.
- هل نخبر السكوتلانديارد؟
- أنت مجنون! نخبر السكوتلانديارد وهو من السكوتلانديارد!
- ماذا سنفعل؟
- تعرف أين حانوته؟
- أعرف.
- الحقني بعد ساعة.
- بعد ساعة.
- الحقني بعد ساعة، أنت ورجال الشرطة.

*

اقترب فرانك لانج بالكاميرا المخفية من واجهة متواضعة تُعرض فيها بعض الأدوات الموسيقية، في أرقى أحياء لندن، ميفير. دفع باب الحانوت، فقرعت أجراسه البدائية المعلقة عليه، وما لبث أن خرج من وراء ستار من الدنادش البلاستيكية رجل أسود في الثلاثين من العمر، بوجه دقيق الملامح، وهو يبتسم ابتسامة ملائكية.
- ماذا أستطيع من أجلك، بادر الرجل الأسود إلى القول.
- هل هذا هو حانوت ستيوارت ماكليليه أم أنني مخطئ في العنوان؟ سأل فرانك لانج، وهو يبتسم ملء فيه.
- هذا هو، يا سيدي، وستيوارت ماكليليه بنفسه في خدمتك.
- أوه، هتف المقدم/المحقق، وهو يسلم عليه بحرارة.
- لقد أوصوني إياك، فأنت...
- من هم أولئك الذين أوصوك إياي؟ سأل ستيوارت ماكليليه، وقد اختفت ابتسامته الملائكية.
- أناس في "البب" المجاور، كنت أريد شراء آلة موسيقية لابنتي في باريس، فما أنا سوى عابر.
- أية آلة موسيقية تريد، يا سيدي؟ سأل بائع الموسيقى، وقد عاد يرسم ابتسامته الملائكية على ثغره.
- أُرْغُن.
- هناك، قال ستيوارت ماكليليه، وهو يشير إلى زاوية. لدي موديلات مختلفة، وسار أمام فرانك لانج، وفرانك لانج يرسل نظراته المختلسة، وعندما مر بجهاز تلفزي "ليد" موضوع قرب الصندوق لمسه بأصابعه. لدي الأرغن الكهربائي، والأرغن الميكانيكي، وكذلك لدي الأرغن الكبير، والأرغن الصغير.
- هذا، أشار رجل التحري الخاص السابق إلى نفس الأرغن الذي كان ملقيًا في فيلا سعيد الموصلي بين ألعاب أخرى.
- إنه اختيار حسن، ألقى الرجل الأسود، وهو يحمل الأرغن، ويتقدم به من فرانك لانج.
- لحساب أية مخابرات غير السكوتلانديارد تعمل، ستيوارت ماكليليه؟ فاجأ صاحب أكبر قناة تلفزية في العالم جرذه، وهو يلقي به في المصيدة، فجمد بائع الموسيقى المزيف جمود التماثيل قبل أن يترك الأرغن يسقط من يده، ويسارع إلى فتح جارور الصندوق مخرجًا منه مسدسًا، صوبه إلى قلب المقدم المحقق العالمي. مد فرانك لانج يده إلى الجهاز التلفزي، وبإصبع خفيفة أشعله، وتحت النظرات المنذهلة لمرتكب جريمة شوفالين البشعة، أدار القنوات إلى أن وقع المجرم على صورته. الكاميرا المخفية أنا، همهم فرانك لانج، والعالم كله يراك، لهذا أجب على سؤالي، ستيوارت ماكليليه، لحساب أية مخابرات تعمل غير المخابرات البريطانية؟ ولم هذه الجريمة النكراء؟
وبسرعة البرق، وضع القاتل فوهة المسدس في فمه، وأطلق، في اللحظة التي وصل فيها حميد الموصلي مع رجال الشرطة.

*

لم يكشف فرانك لانج عن جهاز المخابرات الذي كان يعمل ستيوارت ماكليليه لصالحه كعميل مزدوج، خوفًا منه على طفله وطفلته بعد أن فقد زوجته أبولين دوفيل، وترك الأمر للمشاهدين يقولون ما يشاءون. حال عودته إلى باريس، ذهب بصحبة سيلين كاديه إلى حيث يسكن في نوازي لو غران، وحمل فستان أبولين دوفيل الأحمر ليفرشه على قبرها، في مقبرة بير-لاشيز، وليذرف، هو والصحفية من كله، أحر الدموع. ومن المقبرة، ذهب بصحبة سيلين كاديه دومًا إلى المستشفى الأمريكي لرؤية أبولين الصغيرة وفرانك الصغير. كان وقت شرب الحليب، فشرحت لهما الممرضة السمينة الدميمة كيف يعطيان الرضاعة لنزيلي الحاضنة الاصطناعية، فأدخلا يديهما في القفازات، قفازات تذكّر بعالم كائنات الفضاء، وكانا أسعد مخلوقين على وجه الأرض.






























القسم الثاني

حطت الطائرة الخاصة بفرانك لانج في مطار الدوحة، وجاءت سيارة أميرية حتى سلم الطائرة لحمله إلى قصر الشيخة لوزة، زوجة شيخ قطر. وهو في الطريق، كان ينظر من النافذة المموه زجاجها للحقيقة، فيرى جِمالاً تسير على أرصفة ناطحات السحاب، وبدوًا يسوقون سيارات الفيراري والبوغاتي والرولس رويس. رأى المصلين خارج المساجد عراة، الرجال من جهة، والنساء من جهة. مدينة فاحشة كانت الدوحة، مخلة بالحياء، للوراعة فيها رائحة الدعارة. وكانت تصل إلى الأذن، من ناحية البحر، صرخات أناس تقضم أجسادهم أسماك القرش. لم يكن يبدو على السائق أنه يسمع شيئًا، كان مكفنًا بكوفيته البيضاء وثوبه الأبيض. كان كل شيء في الدوحة مكفنًا بالأبيض، كل شيء حي، وكانت أضخم المراكز التجارية في العالم تبدو كالمقابر. قطب رجل التحري الخاص السابق، وفكر في أبولين دوفيل، ماذا كانت ستقول لو لم تزل على قيد الحياة؟ يلعن دين، فرانك. كانت السيارة الرسمية تخترق به الواقع، وكأنه كابوس من الكوابيس، على عكس ما اعتاد المرء عليه. كل ذلك بإرادة النقود، قال فرانك لانج لنفسه، لم يقل بإرادة الذهب الأسود، فالذهب الأسود بعد أن يتحول إلى نقود يصبح شيئًا آخر، وما كان يراه فرانك لانح هو هذا الشيء الآخر. كأثرى الواجهات في العالم. شانيل وإيف-سان لوران وكارتييه. هذا الشيء الآخر الفاحش على طريقته. كأكبر البنوك في العالم. كأهم الشركات في العالم. كأضخم الوكالات في العالم. كأعظم المؤسسات في العالم. كأرقى الجمعيات في العالم. كأرفع النوادي في العالم. كأندر البارات في العالم. كأفرد الملاهي في العالم. كأحمم الكرخانات في العالم. ككل أفعل تفضيل لهذا الشيء الآخر في العالم. رفع فرانك لانج رأسه إلى إعلانات دعائية عملاقة، وقرأ: لعبة الموت. خيول تعدو، وملء أعينها الرعب، وسيارات تطارد الخيول، ورمال تتهدم أعمدتها الرافعة للكون.
عندما دخل فرانك لانج قصر الأميرة لوزة، كاد ينسحق لفخامته. كان قصرًا من قصور بابل، بطوابقه المتداخلة، وأدراجه المتلولبة، وتماثيله المتتالية. ظن التماثيل لا تقف، والأدراج لا تتوقف، والطوابق لا تتطابق. كان كل شيء يتحرك بدقة عقرب ما فوق الحياة، فكل شيء في القصر لم يكن عصرًا، كل شيء في القصر كان لوثًا. حتى الأرائك، حتى الستائر، حتى الثريات. كل شيء في القصر كان طيشًا. حتى اللوحات، حتى السجاجد، حتى الزخارف. كل شيء في القصر كان خرقًا.
دخل فرانك لانج على الشيخة لوزة، والكُتاب العرب يقبلون باطن قدميها، ويكتبون بألسنتهم القصائد عنها والقصص. طردتهم لما رأته، ونادته ليجلس إلى جانبها. كانت امرأة في الخمسين ذات جمال امرأة في العشرين، الشيخة لوزة، وكانت ضحكتها ترن رنين المعادن الثمينة.
- هذا لطف منك، فرانك، همهمت الأميرة، وفرانك لانج يقبل يدها.
- كل الشرف لي، سموك، همهم صاحب أكبر قناة في العالم.
- تعال، قالت الشيخة لوزة، وهي تسحبه من يده.
- لولا وجودك في هذا القصر لما كان القصر قصرًا، همهم فرانك لانج من جديد.
- أنت رجل غَزِل ككل فرنسي، همهمت الأميرة من جديد، وهي تقهقه.
- شكرًا، سموك.
- لهذا أنا فخورة بك، أنا فخورة بكل ما تفعل.
- ما أفعل؟ "هنا العالم" بفضل سموك.
- وأنا أيضًا فخور بكل ما تفعل، فرانك، ألقى شيخ قطر، وهو يخترق الصالون الحلمي من باب جانبي.
- سموك يغدق عليّ من عطفه ما لا يقدر بثمن، قال رجل التحري السابق، وهو ينهض.
- ابق جالسًا، فرانك، طلب الأمير، فعاد فرانك لانج إلى الجلوس. تعازيّ الحارة بخصوص أبولين.
- وأنا أيضًا، تعازي الحارة، فرانك، سارعت الأميرة إلى القول.
- هل ستقيم دعوى؟ سأل القطري الأول.
- ضد من؟ السلطة؟
- لا أحد فوق القانون.
- لا أحد فوق السلطة.
- حتى عندكم؟
- حتى عندنا. ما عدا...
- ما عدا ماذا؟
- الثورة أو الجحيم.
- حتى عندكم؟
- حتى عندنا. ما عدا...
- ما عدا ماذا؟
- الإعداد لكل شيء.
- هذا ما ينقصنا، ومع هذا...
- هذا ما ينقصنا دون "ومع هذا".
- لأنكم ذوو باع طويل، علمتكم أول ثورة في التاريخ ما لم تعلمنا. ثم لزوجته: لوزة، هل نسيت لعبة الموت؟ سأل الأمير، وهو يشعل الجهاز التلفزي الضخم.
- لم أنس.
- لعبة الموت؟ سأل فرانك لانج.
- إنها إحدى ألعابنا الشعبية هنا في قطر، أجاب الأمير، ألم تسمع عنها؟ رئيس هنا العالم لم يسمع عنها؟
- لأن لا أهمية لها عندهم، "أول"، بررت الأميرة جهل فرانك لانج باللعبة.
- كل شيء عندنا لا أهمية له عندهم. ما عدا...
- سموك يبالغ بعض الشيء.
- فعلاً، أنت تبالغ، "أول"، قطر اليوم على ثغر القريب والبعيد.
- وغدًا؟
- فرانك لانج هنا من أجل هذا، "أول".
- سموك لن يقلق ابتداء من هذه اللحظة، قال فرانك لانج، وهو يخرج شيكًا من جيبه. العشرة المليارات أعيدها شاكرًا بعد النجاح المهول لقناتي.
وفي نفس اللحظة، دخل شاب في الخامسة والعشرين من عمره، كئيب الطلعة، ممرور الفؤاد، نحيل القوام، وقال:
- بابا، لم أعد أحتمل البقاء في هذا البلد يومًا واحدًا أكثر.
- تعال، يا حبيبي، تدخلت الشيخة لوزة، تعال أقدمك لأعظم رجل تحر خاص في الوجود.
- أعظم رجل تحر خاص في الوجود سابق، صحح فرانك لانج، وهو يبتسم، ويعيد الشيك إلى جيبه.
- ستبقى أعظم تحر خاص في الوجود بالنسبة لي، فرانك، أكدت أميرة قطر. هذا فرانك لانج، وهذا ابننا حمد.
- بابا، هل تسمعني؟ عاد الشاب إلى القول متجاهلاً فرانك لانج.
- أسمعك.
- متى ستسمح لي بالسفر؟
- كل ما أفعله لك، وتريد...
- بابا، اسمح لي بالسفر.
- أسمح لك بالسفر.
- شكرًا بابا، همهم حمد قبل أن يخرج.
- حمد ابننا مشكل آخر سنتكلم عنه فيما بعد، فرانك.
- لا تشركه في همومنا الشخصية، "أول".
- إذا كان باستطاعتي أن أفعل شيئًا، فلن أتأخر لحظة واحدة.
- لعبة الموت بدأت، هتف أمير قطر، وهو يرفع الصوت، والمعلق يصف بحماس ما يجري: الرهانات وصلت المليار على هذا الحصان أو ذاك، وها هي السيارات تعدو من وراء الأحصنة. بدر البدور سيكون الفائز على التأكيد... إنه حصاني المفضل، عاد القطري الأول يهتف.
- كم كان رهانك، "أول"؟
- مليون، "أولى".
- أنت مجنون ما في شك، "أول"!
- بدر البدور، صاح شيخ قطر، وبعد أن تفادى بدر البدور صدم السيارة له: هذا هو الحصان العربي الأصيل! لكن حصانًا آخر تمزق تحت عجلات سيارة أخرى ترافقه صرخات المقدّم الهائلة. بدر البدور، بدر البدور، صاح شيخ قطر من جديد، آه، كاد قلبي يسقط من الخوف. هذا هو الحصان العربي الأصيل! وفي الوقت ذاته، حطمت إحدى السيارات ساقي أحد الخيول. بدر البدور، بدر البدور، بدر البدور، كان "أول" يصرخ دون أن يمسك نفسه لما حاصرت سيارتان الحيوان المسكين، واخترقتاه، وهما تصطدمان، والدخان ينبعث من محركيهما. بدر البدور، بدر البدور، بدر البدور، بدر البدور، كرر أمير قطر محزنًا، والدمع يكاد ينبثق من عينيه. خلصته الشيخة لوزة "التيليكوماند"، وأطفأت الجهاز التلفزي.
- وتريد لهذه لعبة بربرية أن يهتموا بها عندهم، "أول"؟
- بدر البدور، "أولى"!
- المليون، "أول"!
- على كل حال... ماذا كنا نقول، فرانك؟
- ابنكم حمد، سموك.
- لا، ليس هذا.
- العشرة المليارات، قرضكم من أجل تأسيس "هنا العالم"، قال فرانك لانج، وهو يعيد إخراج الشيك من جيبه، ويعطيه للقطري الأول.
- لا، ليس هذا.
- لم نقل بعد شيئًا، "أول".
- فرانك، باختصار، نفط قطر يعاني من نقص مضطرد، قال أمير قطر بلهجة جسيمة، عشر سنين، خمس عشرة، وستجف آبار نفطنا كما جفت آبار مائنا. مع "هنا العالم" وتأثيرك العالمي، نريدك أن تضغط على أهم بنك في العالم "غولدمان ساكس" ليقول بنقص النفط عامة كما قال بنقص الزنك والألمنيوم، فترتفع الأسعار، ونجنى المنافع لخمسين عامًا. خمسون عامًا أفضل بكثير من عشرة أو خمسة عشر، فرانك.
- ولكن هناك نقص نفطي بالفعل، عارض فرانك لانج، إذن لماذا نضغط؟
- هناك نقص نفطي بالفعل في قطر، أوضحت الشيخة لوزة، وليس في باقي البلدان المصدرة لهذه الثروة السوداء.
- الكشف عن نقص نفطي في قطر وحدها لن يرفع الأسعار، شرح أمير قطر، وعلى العكس سيكون من وراء خفضها، لأن البلدان النفطية الأخرى ستضاعف من إنتاجها لتعوض هذا النقص، أو على الأقل سيكون من وراء ثبات هذه الأسعار، وهذا ما ليس في صالحنا.
- وماذا في صالح غولدمان ساكس؟ همهم رجل التحري الخاص السابق.
- غولدمان ساكس يمتلك من النفط في خزاناته ما يغرق العالم لعشرين ثلاثين عامًا على الأقل، إنها المادة الأولية الأولى التي تدر عليه من المال ما لا يقدر.
- هذا يعني أنكم تريدون من غولدمان ساكس أن يقوم بكذبة حقيقية.
- فيما يخص قطر، وليس فيما يخص باقي البلدان.
- وما الذي يضمن ألا تُكذب باقي البلدان الكذبة؟
- ارتفاع الأسعار، من مصلحة باقي البلدان ألا تُكذب الكذبة.
- الأسعار مرتفعة، وتريدون أن ترتفع أكثر، ستكون النتائج وخيمة علينا وعلى العالم.
- سياسيوكم دومًا ما وجدوا الحل المناسب لكل شيء.
- هذه المرة لن يجدوا، وسيخسر بركاتي كاراكوما الانتخابات الرئاسية القادمة لصالح سوزان ماك كوفر. بركاتي كاراكوما الذي تدعمه "هنا العالم".
- قطر أم العالم؟ إنه السؤال.
- خراء هذا السؤال، سموك. خراء لأنه يعارض كل مبادئي، كل مبادئ قناتي، كل مواقفي، إذ بدلاً من مواجهتي لأكبر بنك أخطبوطي في العالم، غولدمان ساكس، بدلاً من العمل على إسقاط مرشحة الإف بي آي، تريدون مني أن أعمل على نجاحها وضخ الأموال في خزائن بنك مليئة بالأموال.
- لعبة الموت هي هذا، فرانك. وأنت، ستكون الرابح الأول، أنهى القطري الأول الحديث، وهو يمزق شيك العشرة المليارات الذي أعطاه إياه رجل التحري الخاص السابق منذ قليل. كان ذلك بمثابة اتفاق ما بينهما. أسدل أمير قطر الستائر، وأشعل الأضواء الخافتة الملونة. أخرج مفتاحًا ذهبيًا صغيرًا من جيب صدارة تحت عباءته، وجعل أميرة قطر تراه، وقبل أن يغادر الصالون، أعاد المفتاح الذهبي إلى جيب الصدارة، وهو يطبطب عليه، ويبتسم ابتسامة ماكرة، بينما فرانك لانج لا يفهم شيئًا.
قبلته "الأولى" من كل وجهه، ومن كل جسده، وهي تخلع له ثيابه، وتخلع لها ثيابها، لكنه فوجئ بقفل ذهبي بين فخذيها، ومرة ثانية، فوجئ بنسخة من المفتاح الذهبي مخبأة في رافعة نهديها.
في المساء، خصه "الأول" بلعبة للموت من نوع خاص، كان عدد من الخدم الباكستانيين يقومون بدور الخيول. اندمج فرانك لانج باللعبة كغيره ممن كان معه، وراهن بمليون على أحدهم استطاع أن يركض كأحسن حصان، فكان الفائز.

*

اصطحب فرانك لانج حمد، ولي العهد القطري، إلى نيويورك، دون أن يبدل ذلك من كآبته. جعله يرافقه إلى أرباب البنك الذي يحكم العالم، فكان حضوره برهانًا على مصداقية ما يطلب. استمع غيلان غولدمان ساكس إليه، وكلهم آذان صاغية، ورأوا أن عشرات المليارات بل مئاتها ستضاف بالفعل إلى مئات المليارات التي لديهم إذا ما ارتفعت أسعار النفط بعد بيع ما في خزاناتهم منه، لكنهم اشترطوا أن تكون لهم ربع أرباح قطر لعشر سنين، وبعد أخذ ورد مع القطري الأول على الهاتف المحمول، تم الاتفاق على عشرين بالمائة منها لخمس سنين. قالوا لا بد من ظروف تبرر إجراء كهذا، وانتظروا أن تلعب قناة هنا العالم الدور المطلوب لدى العامة في أركان المعمورة لتسويغ ذلك.
للاحتفال بما تم الاتفاق عليه، دعا فرانك لانج الشاب القطري إلى أفخم مطعم في نيويورك، "السعدان الجائع"، فلم تسعد الحزين المكتئب أشهى الأطباق وأغلاها. ذهب به إلى أكبر علبة ليل في العالم، "هكذا ترقص النجوم"، فلم يرفع ذلك من معنوياته، على الرغم من مراقصته لأجمل شقراء أمريكية. اصطحبه وخمس شقراوات أخريات في الليموزين التي اكتراها إلى كازينو "الدبين الأبيضين"، كازينو لا يدخله سوى أكبر أثرياء الكون، وخسر من أجله الملايين دون أن يؤثر ذلك في لونه الباهت. في فندق الخمس النجوم، "سوفيتيل"، الذي ينزلان في أحد أجنحته، أقام من أجله مع الشقراوات حفل سكر وعربدة كان من نتائجه السيئة لم يكن يدري أم الحسنة أن ابن "الأول" و "الأولى" قد تناول في الحمام جرعة مخدرات أكبر مما يجب أودت بحياته. غطت هنا العالم الحدث على اعتبار أنه انتحار، وكانت مناسبة غير منتظرة لتعميم على مستوى العالم أن للانتحار سببًا، وسببه عجز أمير قطر عن تسديد فواتير ابنه أثناء إقاماته السابقة في أوروبا واللاحقة في أمريكا: قطر تعاني من نقص نفطها.
بعد عدة أيام من موت ابن أغنى دولة في العالم، لأن هذه الدولة كانت بصدد الإفلاس لتناقص ثروتها الوحيدة، كما توجب الكذبة الصحيحة، رتب غيلان غولدمان ساكس مصرع القنصل السعودي، ودائمًا السبب، حسب هنا العالم، النقص النفطي. وقبل نهاية الشهر، لم تعمل كوابح سيارة السفير الإماراتي، وهو يتجول في شوارع ميامي، فاكتملت كل شروط الإعلان عن نقص النفط في العالم، وإذا بأسعاره تلتهب محرقة العالم.

*

- هنا العالم، هنا فرنسا، هنا باريس، النفط الذي سيحرق الكون. إيزابيل موندي.
- هنا العالم، هنا قطر، هنا الدوحة، بلد صغير يهدد العالم. عبد الواحد المطلق.
- هنا العالم، هنا أمريكا، هنا واشنطن، على خلفية جنون أسعار النفط، سوزان ماك كوفر إلى البيت الأبيض؟ بيل جون.
- هنا العالم، هنا ليبيا، هنا طرابلس، النفط الليبي أجود نفط وأغلى نفط في العالم. محمد الكوني.
- هنا العالم، هنا إسبانيا، هنا مدريد، الناس يتركون سياراتهم في قلب الشوارع. خوليو ثاباتيرو.
- هنا العالم، هنا نيجيريا، هنا أبوجا، الدولة الإفريقية السوداء العظمى بفضل ذهبها الأسود. جوزيف تيف.
- هنا العالم، هنا اليابان، هنا طوكيو، للتكنولوجيا ثمن فادح: النفط. هيرودوتو كازاواكي.
- هنا العالم، هنا جزيرة العرب، هنا الرياض، المنتفضون يطالبون بحصتهم من أرباح النفط الخيالية. خليفة عبد الرحمن.
- هنا العالم، هنا أمريكا، هنا نيويورك، غولدمان ساكس يتجاوز البيت الأبيض ويهدد "بكراش" لم يعهده العالم من قبل. سوزان فورد.
- هنا العالم، هنا ألمانيا، هنا برلين، ألمانيا كاليونان عجز مالي بسبب ارتفاع أسعار النفط. كاتارينا فاسبندر.
- هنا العالم، هنا الهند، هنا بومباي، استخلاص النفط من الشمندر للتحكم بالنفط. إنديرا نهرو.
- هنا العالم، هنا البرازيل، هنا ريو دو جانيرو، النفط ثم النفط ثم النفط. فالنتينا دو باهيا.
- هنا العالم، هنا قطاع غزة، هنا غزة، ينابيع غزيرة للثروة النفطية تحت أنفاق البؤس. حسن سويلم.
- هنا العالم، هنا روسيا، هنا موسكو، سيبيريا بئر نفط لا تنضب. جوزيف فلاديمير.
- هنا العالم، هنا كندا، هنا مونتريال، على طريق النفط القطري. جوانا ماكجيل.
اجتمعت صور المراسلين الخمسة العشر على الشاشة، تحت أرقام من واحد إلى خمسة عشر، وكل صورة لها عدادها بأعداد تتزايد أو تتناقص حسب اختيار المشاهدين الذين كبسوا على أزرار أجهزتهم الرقمية من أجل هذا الحدث أو ذاك، والتي كان أكثرها، ما يزيد عن المائة مليون مشاهد في كافة أنحاء العالم، من نصيب بيل جون الذي عاد ليتصدر الشاشة.
- شكرًا لاختيار أكثر من مائة مليون مشاهد لنا، النفط إذا كانت أسعاره تلتهب في قطر والعربية السعودية ونيجيريا وإيران، فالفاتورتين السياسية والاقتصادية، وخاصة السياسية هنا في أمريكا، يتم دفعهما على حساب عشرات الملايين من العاطلين عن العمل وعشرات الملايين الآخرين من ذوي الدخل المتواضع. أما النتائج فيما يخص الانتخابات الرئاسية، فستكون لصالح مرشحة الجمهوريين، سوزان ماك كوفر، وللحقيقة مرشحة الإف بي آي، هذا الجهاز الذي لم يتردد لحظة واحدة عن تعريض الولايات المتحدة لخطر "الكراش" من أجل المجيء بالغبية في السياسة والاقتصاد، سوزان ماك كوفر. وهكذا ستكون له اليد الطولى في البيت الأبيض، ومن يقول البيت الأبيض يقول مصالح اللوبيّات التي تحكم بالفعل أمريكا، والتي يريد المكتب الفدرالي التحكم بها ليقدر على مواجهة غولدمان ساكس. سنطرق الباب على سوزان ماك كوفر. يطرق، وينادي: سوزان ماك كوفر! وإذا بالباب ينفتح، وتقفز منه ثلاثة كلاب شرسة، تأخذ بعض بيل جون، وبيل جون يحاول الهرب منها دون أن ينجح. لم يجرؤ أحد من الطاقم المرافق على التدخل لوحشية الحيوانات التي نهشت المقدم/المحقق تحت بصر العالم وسمعه، وأدمته حتى أسلم الروح.

*

انتخبت سوزان ماك كوفر رئيسة للولايات المتحدة الأمريكية في وضع اقتصادي دولي متدهور جعل دولة صغيرة كقطر تملي شروطها الاستراتيجية على عملاق كبير كأمريكا: الحد من التسلح النووي، الحد من التدخل العسكري، الحد من نهب الثروات، الحد من التلاعب بأقدار الشعوب، الحد من التآمر وتمرير سياسة فرق تسد أو سياسة اللغة المزدوجة، الحد من تصدير الثقافة المزبلة، الحد من فبركة الإرهاب، الحد من الادعاء الآخر: القاعدة، الحد من فبركة البؤر الساخنة، الحد من الدعم المباشر واللامباشر للإسلاميين، الحد من الدعم المباشر واللامباشر للإسرائيليين، الحد من الدعم المباشر واللامباشر للصائدين، الحد من... الحد من... وبالمقابل، وَعَدَ القوي الجديد بدعم أمريكا اقتصاديًا على حساب دعم أوروبا اقتصاديًا، أوروبا التي عاد إليها صاحب أكبر قناة في العالم، وهي تحتضر. ذهب في سيارة سيلين كاديه لإخراج فرانك الصغير وأبولين الصغيرة من المستشفى الأمريكي، كان من أسعد الرجال، وهو يحمل ابنته، وكانت الصحفية من كله من أسعد النساء، وهي تحمل ابن حبيبها. مرا على مقبرة بير-لاشيز لوضع باقة من الزهور الحمر على ضريح المرحومة، ضابطة الدي جي إس إي السابقة. ذهب فرانك لانج بالباقة وحده، بكى على الضريح، وعندما عاد، وجد سيلين كاديه، وهي تلقم نهدًا لكل طفل. ابتسم للسمراء الساحرة، وقبلها من فمها، ثم همس في أذنها:
- سنتزوج، سيلين.
تفجرت دموع سيلين، فلم يعرف من الفرح تفجرت أم من الترح.
بعد أسبوعين، كان العالم أجمع يرقص على أنغام الهيب هوب، كانت فرصة من الفرص النادرة في حياة شعوب النفط الناقص حسب بنك غولدمان ساكس ومحطة هنا العالم.

















































القسم الثالث

للتغطية على الانتفاضة، والتقليل من أهميتها، أقام الوهابيون عرض موضة للملابس النسائية، الأول من نوعه في العربية السعودية. كان الأمراء من بين أوائل المدعوين والموظفون الكبار، وكانت المفارقة أنهم لم يصطحبوا نساءهم. كان عرض الموضة للنساء، ولم تكن أية امرأة موجودة في القاعة. كان كل الحاضرين من الرجال، كلهم كانوا رجالاً، وكانوا ينتظرون بفارغ الصبر ظهور العارضات لأول مرة في تاريخ جزيرة العرب. الحدث كان مهولاً، وكل قنوات العالم تركت المنتفضين ينتفضون ما شاء لهم الانتفاض، وجاءت لتغطي الثورة النسائية في بلد يطالب رجال الدين فيه المرأة بالتزلج على الويب مع محرم. خفف تقني الحفل الأضواء في الوقت الذي انطلقت فيه الموسيقى، موسيقى جنائزية إذا لم تخطئ الآذان، وبدأت العارضات الملتفات بأحجبة سوداء، كلها سوداء، تضيق أو تتسع، تطول او تقصر، تنغلق أو تنفتح، بدأت العارضات الملتفات بالأحجبة السوداء يتواردن تباعًا. كان خليفة عبد الرحمن، مدير مكتب هنا العالم في العربية السعودية يعلق على المشهد همسًا، وكأنه في معبد، والكاميرا الذكية للمصور المرافق له تنقل كل شيء بأدق التفاصيل، وتلح على حركة الردفين لدى العارضات، والابتسامات الرجولية، ابتسامات تتراوح بين التعجب والتمتع. وفي لحظة من اللحظات، توقفت الموسيقى الجنائزية لتحل محلها موسيقى الهيب هوب، وإذا بالعارضات يأخذن بالرقص، وشيئًا فشيئًا يخلعن أحجبتهن ليظهرن كلهن شقراوات من أوكرانيا، وكانت قمة قمم العرض لما أخذن يخلعن ثيابهن الداخلية، ليكتشف الحاضرون ومشاهدو هنا العالم كتابات على أجمل أجساد نساء العالم تندد بعبودية المرأة السعودية، وتطالب بتحررها. اقتحم رجال الشرطة القاعة، ورموا الكل، أمراء وغير أمراء، بين القضبان.
لكن فعلاً ناريًا كهذا ضاعف من تأجيج الانتفاضة التي انتقلت من حي الجبس في الرياض، هذا الحي الفقير، إلى باقي أحياء عاصمة بلد الألف بئر نفط وبئر، وبعد عرض الموضة الجريء، بلد الألف نهد دم ونهد، فجاء فرانك لانج ليشارك في صنع الحدث بشخصه، وليس فقط بصوته أو بصورته. كان الحدث من الجسامة بقدر ما يستحقه من اهتمام، وكان من الأصالة بقدر ما يفرضه من خَلق. في بلد توقف التاريخ على أردافه منذ عشرات السنين بل مئاتها، كان للشمس ضوء آخر، وكان لليل قمر آخر، وكان الرمل يتنفس كالجسد الذي مات، وعادت تنبض في عروقه الحياة. هل نقول للأنبياء ما لم يقولوه، وللآلهة أن ينزلوا بيننا؟ هل نشرب الماء من أكف جبال السراة، ونسقي القوافل؟ ماذا لو عادت البحار إلى بطونها لتولد بين أذرعنا؟ هل الغضب غضبنا أم غضب العواصف؟ وكل الماضي، مذ كان هناك ماض، كيف نتركه يمضي في سبيله؟ سنحتفل بدين جديد نصنعه بأيدينا، دين ليس وهمًا. سيكون دين الحق لا دين الوهم، سيكون دين الحق والحقيقة، الحقيقة بين حقائق، ولن نحلق وحدنا تحت سماء لنا، ولكن مع غيرنا، تحت سماء لنا ولغيرنا. سنحلق كالطير، وننصت إلى خفق أجنحتنا وأجنحة السنونو. لِمَ الهرب من الرغبات، والأسماك لا تهرب؟ ولِمَ قمع الرغبات غير المستحيلة يوم تستحيل كل رغبة؟ سنبكي بعد أن نضحك، لأننا نخاف من الضحك كثيرًا، هكذا نمارس حرية البكاء، ونفهم معنى الحرية. لن نتركهم يمارسون علينا حرية الاستفزاز، فمن خارج التهويم نسعى، بعد أن كان الحلم هاجس كل يوم. كالمرضى كنا بأحلامنا، في أحلامنا، لا نحتمل من خارجها غيرها، منذ احتلم الصبي والصبية، وهما بين يدي الله لأول مرة، ورأيا في عجزهما قوة الآيات. لم نخرج عن الآيات، فهل كنا نستطيع الخروج؟ لنخرج من جوف البحر كان علينا الدخول من الشواطئ، دخلنا، ولم نستطع الخروج. لهذا كان من الصعب علينا الغرق في قطرة ماء جعلناها تكبر حتى غطت الكون. لف الكون الظلام، وكان الظلام سعادتنا. الظلام سعادتنا كان. كان الظلام سعادتنا، وكانت سعادتنا الظلام. إلى الأبد. كانت سعادتنا الظلام. رفضنا كل سعادة أخرى. رفضنا حتى سعادة الضوء. كانت سعادتنا الظلام، لأننا لم نفهم سواها. سعادة الظلام. لم نشأ سواها. قاومنا كل سعادة غيرها. كل سعادة غير سعادتنا. كل من لهم سعادة غير سعادة الظلام، فتحاشانا الفلاسفة والمجانين والأنبياء. سعادة الظلام، حرية الظلام، متعة الظلام. الظلام. الظلام. الظلام. هل نهمل الاستفزاز لِنَهَمٍ في نفوسنا إلى شيء آخر غير التقوى؟ النور ليس خبزنا، ولا أفخاذ النساء. فاغنر ليس نبينا، ولا موزارت. المريخ ليس بيتنا، ولا القمر المحاق. كان علينا أن نبدأ من هنا، أن تكون البداية على أعتاب قصر متروك للرمال. كان علينا أن نموت، فما الحياة، والحياة ثعبان الجهل، وثدي بين أنياب الذئاب؟ كان علينا أن ندخل على أختنا عارية في الحمام، ونرفع ما بين فخذيها على أسنة الرماح. كان علينا أن نغزو أجسادنا بعقولنا ونقيم لها قوانين أخرى غير قوانين الاستمناء. كان علينا أن نؤسس لمكة ثانية كلندن باريس نيويورك أو شتوتغارت. كان علينا أن نبدأ بمحو صورنا كاريكاتورات للعبث في كل مكان وزمان، وكان علينا... وكان علينا... وكان علينا...
قال فرانك لانج لأحد الشبان المنتفضين، النازعين لألثمتهم، تحت أسوار القصر الملكي، والعالم كله يسمع:
- ليس التعصب حافزًا على التغيير.
- التعصب الأعمى تعني.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الديني.
- التعصب الأعمى.
- التعصب السياسي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الرياضي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الطائفي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب النسائي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الدعائي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الذئابي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الكلابي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الملائكي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الشيطاني.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الأعمى ضروري لحركتنا، في هذه المرحلة على الأقل، مقابل التعصب الوهابي.
- وهل ستتركون الأمور لغيركم كما ترك زملاؤكم المصريون مثلاً الأمور لغيرهم؟
- نحن لا يوجد غيرنا.
- أنتم قيادة أنفسكم؟
- نحن قيادة أنفسنا، نعرفنا قبل كل شيء كما يقول الفيلسوف: اعرف نفسك بنفسك تعرف الله والكون.
- الحكام السعوديون لم يعرفوا أنفسهم بأنفسهم؟
- ولم يعرفوا الله والكون. كل حركتنا لنجعلهم يعرفون أنفسهم، فتكون نهايتهم.
- الأرباح النفطية الأخيرة التي لا تقدر أبعدتهم إذن عن معرفة أنفسهم، وأنتم، ألا تخشون من جهل أنفسكم لما يصبح الحكم بين أيديكم؟
- نحن لسنا قططًا سمينة. القطط السمينة في الليل تبدو أُسودًا، كما هي عليه في السعودية أو في الأراضي المحتلة.
- في السعودية أو في الأراضي المحتلة؟ ما العلاقة؟
- العلاقة هي الاحتلال.
حصلت انفجارات مفاجئة مزقت أجساد العديد من المنتفضين، فذهب محدث فرانك لانج ليرى، وضاع في الدخان. على الرغم من وحشية الحرس الملكي، تمكن الشبان من تحطيم بوابة القصر، واختراقه، فترك صاحب هنا العالم الميكروفون لزميله خليفة عبد الرحمن. زوده الطاقم التلفزي بكاميرا مخفية، وعجل الدخول إلى عالم الحاكم السعودي، عالم الحاكم الأبدي، كما كان القابضون من الأئمة يتشدقون، وأفراد مجلس الشورى الذين لا شورى بينهم يشيرون، واللوطيون ممن يمارسون المتعة على أجهزة تحركها الحركات الاهتزازية يدللون. كان القصر يبدو متروكًا من حراسه، وكلما توغل رجل التحري الخاص السابق في ثناياه كلما تبدى مفتوحًا لكل من يريد الدخول فيه. أخذ بعض الشبان يعودون بسرقاتهم الثمينة، وكأنهم يعودون بأعمارهم. وفي القاعة الملكية لم يكن أحد هناك، أو هكذا خُيل لفرانك لانج، إذ ما لبث أن سمع صوتًا لكهل يوبخ رجلاً، وهو يعطيه ظهره، لأنه لم يقاتل في سبيله. خاف فرانك لانج على نفسه، لمّا أخذ الكهل يهدد بمسدس، ويتوعد، فأخرج مسدسه من صدره، وفي اللحظة ذاتها، جاءت عيناه في عيني الرجل الذي خر راكعًا على قدمي الكهل مرددًا: عفوك، يا مولاي! مغفرتك، يا سيدي! رحمتك، يا ملك الإنسانية! خادمك إلى الأبد يرجو عفوك ومغفرتك ورحمتك! وليحول صاحب أكبر محطة تلفزية في العالم دون ارتكاب ملك الإنسانية لجريمته الإنسانية، أطلق الرصاص عليه، وقتله. مات الملك، وفي الحال، تناول الخادم مسدس جلالته، وأطلق الرصاص على فرانك لانج، وقتله. مات فرانك لانج، والعالم أجمع يتابع من الكاميرا المخفية باقي المشهد لمّا قَلَب الخادم الملك بحذائه، وبصق عليه، ثم غادر المكان بخطى ثقيلة.



باريس الخميس في 2012.09.20





































أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011
33) تراجيديا النعامة 2011
34) ستوكهولم 2012
35) شيطان طرابلس 2012
36) زرافة دمشق 2012
37) البحث عن أبولين دوفيل 2012
38) قصر رغدان 2012
39) الصلاة السادسة 2012
40) مدينة الشيطان 2012
41) هنا العالم 2012

الأعمال المسرحية النثرية

42) مأساة الثريا 1976
43) سقوط جوبتر 1977
44) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

45) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
46) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
47) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
48) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
49) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
50) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
51) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
52) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

53) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
54) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
55) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
56) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
57) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
58) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
59) خطتي للسلام 2004
60) شعراء الانحطاط الجميل 2007 – 2008
61) نحو مؤتمر بال فلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم 2009
62) حوارات بالقوة أو بالفعل 2007 – 2010
63) الله وليس القرآن 2008 - 2012
64) نافذة على الحدث 2008 - 2012



[email protected]



















هنا العالم رواية الثورة الإعلامية، رواية يضع كاتبها الأسس لبناء تلفزي جديد عماده المقدم/المحقق الذي يساهم في صنع الحدث بنفسه سلبًا أم إيجابًا، والمقدم/المحقق بذلك ينزل من برجه العاجي إلى الشارع، ولا يتردد عن تعريض حياته للخطر، ليس بنقل ما يقال من أحاديث أو ما يدور من وقائع، ولكن بالمشاركة الفعلية فيها.

الثورة الإعلامية ثورة الثورات، تبدأها هي، وتنهيها هي، تجعل منها مادتها، ومن مادتها تتشكل، فتغدو ملموسة بعد تجريد، لهذا رافقتها الكثير من القصص الجانبية، والحكايات الشخصية، وارتبط الداخلي بالخارجي، والهزلي بالجِدي، عبر محطات ثلاث: مجزرة شوفالين في جبال الألب، نقص النفط كفبركة بين قطر وبنك غولدمان ساكس، انتفاضة الفقراء في السعودية.

هذه الرواية هي السابعة والأخيرة من السلسلة التي يكتبها أفنان القاسم مع بطليه التيميين فرانك لانج رجل التحري الخاص وأبولين دوفيل ضابطة الدي جي إس إي، فيها يلقى فرانك لانج حتفه، وكذلك أبولين دوفيل تلقى حتفها.





* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدينة الشيطان رواية الثورة الإسرائيلية
- الصلاة السادسة رواية الثورة التونسية
- قصر رغدان رواية الثورة الأردنية
- زرافة دمشق رواية الثورة السورية
- البحث عن أبولين دوفيل رواية الثورة المصرية
- نافذة على الحدث الأعمال الكاملة
- حوارات بالقوة أو بالفعل
- دمشق كروما فاشية فأينهم مقاتلو الظل؟
- الله وليس القرآن الأعمال الكاملة
- الجنس والله
- الكون لم يخلقه الله
- الإسلام دراسة أعراضية
- فولتير والمثقفون العرب
- ردًا على سامي أبي الذيب الله وليس القرآن
- شعراء الانحطاط الجميل
- البؤساء فكتور هيغو الجزء الأول
- شيطان طرابلس
- ستوكهولم
- تراجيديا النعامة
- الشيخ والحاسوب


المزيد.....




- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - هنا العالم رواية الثورة الإعلامية