أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد قنوت - مازال البحث مستمراً.. -حدثت في الصحراء العمانية, ربيع سنة 2000-















المزيد.....



مازال البحث مستمراً.. -حدثت في الصحراء العمانية, ربيع سنة 2000-


خالد قنوت

الحوار المتمدن-العدد: 3820 - 2012 / 8 / 15 - 10:55
المحور: الادب والفن
    


عندما فتح باب الكبين, لفح وجهه ضباب غريب, لم يدرك في البداية كيف تجتمع كل هذه المتناقضات في مكان واحد كهذا؟ الساعة الخامسة صباحاً في صحراء قفراء أحادية اللون أكثر الأوقات, ليس للرمال حدود و الطرقات الترابية لا نهايات لها و شمس النهار لا تترك للكائنات خيارات سوى الجنون, الرمال تدخل في أدق التفاصيل, حتى ترى نفسك سابحاً فيها, و تراك تلوكها من دون مناسبة.
لقد شعر طوال الليل ببرد فأقفل جهاز التكييف المزعج و نام حتى خيوط الصباح الأولى تعتصره أحلامه و هواجسه اليومية, و بين رؤى و أخرى يفيق مبسملاً متعوذاً راوياً جفاف حلقه بماء القارورة البلاستيكية المجاورة, ماء بلا طعم ليس كماء صنبور بيته في المدينة القديمة.
قام خلع ملابسه الداخلية و وقف تحت الدوش يطهر روحه, كان للمياه المتساقطة رائحة نتنة قليلاً و قد تذكر أنها تنهمر صفراء في بداية كل انهمار لكن ما النفع الآن, جفف جسده و جلس عارياً كعادته و غاب في فضاءات لم يرجع منها إلا و صوت المنبه, أقفله و توجه إلى الحمام, حلق ذقنه أمام المرآة,
- آه, كم أشتاق لإطلاقها ثانية كما كانت طوال فترة دراسته الجامعية, لكن العمل في حقول النفط يفرض الحلاقة اليومية رغم وجود الكثيرين من الملتحين الذين يرفضون المساس بمعتقداتهم الدينية رغم الخطر..
أنهى نصف وجهه, توقف:
- لماذا لا أحلق شاربي؟ لا إنها فكرة غبية هنا, فالتغيير هنا مثير للكلام و التأويلات..
تابع الحلاقة بروتين و بلاهة.
ارتدى ثوب العمل و وضع أغراضه في جيوبه العديدة و اتجه صوب باب الغرفة قائلاً على رأي المصريين ( استعنا على الشقا بالله).
كان الليل ما يزال متربعاً في الأجواء لكن ذاك الضباب الذي اقتحم الغرفة عندما فتح الباب أعاد إليه ذكرى ذاك البيت القروي العتيق على قمة الجبل من جبال الساحل السوري في قرية صديقه و قريبه عندما فتح الباب و اقتحمت الغيوم المكان, يومها لم يعد أحدٌ يرى الآخر فامسك بيدها و قبلها بين كل أفراد عائلتها لكن أحداً لم يرى شيئاً, كان مشهداً سينمائياً متكاملا ًلكنه حقيقة, الصراخ و الضحكات و الهرج بدد اللون الأبيض لتظهر باقي الألوان و ليشع لون عينيها اللتان أخذتا روحه.
تكسر الحلم مع صوت ( Bonjour ) كان صوت ذاك الفرنسي الخمسيني الذي يعمل كهربائي في الحقل, ابتسم ثم تحدث بالإنكليزية:(Strange world), صحا من أحلامه الدائمة, أجاب:
( فعلاً, عالم غريب).
كانت رؤية الأشياء صعبة لولا تلك المصابيح الوهاجة فوق كل كبين, وقف وسط الساحة التي شكلتها الكبائن, تلقى بوجهه هواءً منعشاً طرياً ممتزجاً بتلك الغيوم المتسارعة القادمة من الجنوب الغارق بالظلمة, كم تمنى أن يظل واقفاً حتى تتشقق تلك الظلمة بخيوط الشمس الصاحية للتو رويداً رويداً, لكن الوقت لا يرحم فالإفطار في الانتظار و الحافلة بعدها أيضاً.
عبر الطريق بين المعسكر ( الكامب) و موقع العمل ( الحقل) غير البعيد نسبياً لم تظهر الشمس كعادتها من الناحية الشرقية للحافلة, الغيوم تحجب معالم الصحراء و الطريق الترابي, حتى برج الحفارة لم يظهر رغم الإضاءة القوية فيه, كل شيء رطب يذكر بندى أشجار الحديقة الخلفية لبيته في دمشق و على الأكثر شجرة النارنج العتيقة, لطالما أحب أن يجمع قطرات الندى تلك في كأس ثم يشربها فكل ما تهبه الطبيعة لا يضر.
توقفت الحافلة في مكانها المخصص, نزلت منها رجال بجنسياتهم المختلفة. كلٍ يغير بطاقة دخوله إشارةً لبدء يومه, العمل لا يتوقف 24 ساعة متواصلة, العمال يعالجون الأرض من خلال حفارة ضخمة صاخبة و كأنها أنين متبادل بين أسنان رأس الحفر و صخور العمق الذي يصل إلى غور أحشائها أو لعله صوت توجع العفاريت و الشياطين التي تسكن الأعماق فيدخل الإنسان بآلاته الحديدية حرمة أماكنها من غير استئذان و يمتص منها ما أراد من ذهب أسود أو غاز فلم تسلم منه بعد أن كانت تسيطر على مصائره و عقله فاكتفت هذه الأيام بعقولنا نحن و مصائرنا فقط.
انتشر الضوء في المكان من غير أن تظهر الشمس, الحركة و الجلبة في كل الزوايا, بدأ يصعد الحفارة عندما تكشفت الغيوم و ظهرت الشمس قرصاً غير مكتمل, توقف على السلم الحديدي و أمعن النظر أهو كسوف جزئي للشمس أم أن الحوت قضم ذاك الجزء؟.
غابت الشمس بين الغيوم, تابع صعوده, كان هناك أحد الأجانب يقف في الأعلى أراد أن يسأله هل هذا كسوف أم ماذا؟ لكن الشمس غابت و هو لا يعرف كلمة كسوف بالإنكليزية فعزف عن السؤال و اكتفى بالقول ( Good morning ).
كان هناك فرح ما في داخله لم يشعر به منذ مدة, كأن ذاك الطفل قد أفاق في داخله متسائلاً متعجباً عن كل الظواهر التي لم يعرفها بعد. فتراه يعبر عن روح الفضول فيه بنوع من الفرح و الدهشة الصبيانية, الصوت الهادر و ارتجاجات المكان أغرقاه في العمل المجبول بالرطوبة و العرق و النفط و الشحم و الصيحات, مزيج من عرس أممي لمختلف الجنسيات, عرب, هنود, باكستان, أنصاف عرب و أجانب غربيين في غرف التحكم المكيفة و السيارات القوية.
شخصياً ليس لديه أي مشكلة مع الأجانب على العكس فقد كانت متعة كبيرة تنتابه عندما يقتحم مع صديقه أيام المدرسة الثانوية غربة أحد السياح في مدينته ليسأله: هل تريد مساعدة؟ فكانت نوعاً من الاكتشاف و نوعاً من تحسين اللغة الإنكليزية, كان السياح لا يصدقون ما يحدث, كانا يعرضان خدماتهما دون مقابل, فيذهبان معه إلى السوق و يحذرانه من الغشاشين و يزورون المتحف و المساجد و الكنائس القديمة و حتى يدعوانه إلى تناول الغداء أو العشاء في المنزل و أحياناً يعرفونهما على أهلهم و كثيراً ما تبادلا معه الرسائل لفترة بعد الرحيل.
كانت الأحاديث معهم تتناول التاريخ لتمر بالاشمئزاز من الحاضر و التخلف و الوساخة في الطرقات و المظاهر البوليسية و العنف التي يعيشها العامة فتنتقل المحادثة إلى الحضارة الغربية و النظافة و التقدم و قد تتناول الجنس و النساء لتحط بالصراع مع إسرائيل.
كان هو و صديقه شابين مفتولي العضلات يعيشان في منطقة راقية نسبياً في دمشق, منفتحين على العالم و الحياة, يحلمان بالمستقبل و الحب والجنس, يعلمان أن الظروف القاهرة تؤخر ارتقاء الوطن و أهمها حالة الحرب و بعض المتنفذين في السلطة.
لم يكن الوقت مشكلة لهم خاصة أيام الصيف, الزقاق بيتهم حتى ساعات الصباح و الرفقة و الأصدقاء كثر.
مع أيام تخرجهم من الشهادة الثانوية بدأت الأمور تأخذ منحاً غير طبيعي, الشلة التي كانت تضم عدداً من الشباب الأصدقاء بدأت تصغر, عدد منهم رحل مهاجراً للدراسة أو للعمل, ربما كان الوحيد الذي استطاع دخول الجامعة في فرع لم يطمح للدراسة فيه و غاب الأصدقاء و ضاعت اللقاءات بينهم حتى الرسائل, و ما زال يذكر صديقه عندما وقع بين أيدي رجال الأمن و جعلوه يركع على الأرض وسط الركلات و الصفعات و الإهانات من أجل حادثة بسيطة عنوانها المغامرة التي لم تشكل ضرراً.
يتحدث قائلاً: ( كنا نحاول البحث على غرفة ليستأجرها أحد أصدقائنا في الشلة هرباً من بطش أبيه المتخلف و دخلنا أحدى البنايات حسب وصف مسبق لكن سيدة شيطانية خرجت مستنكرةً صعودنا البناية شرحنا لها فلم تقتنع و أخذت تطردنا لم يتحمل صديقي الموقف فبادلها السباب, خرجت السيدة من البناء بثوب نومها و صرخت لرجال الأمن الموجودين في الخارج, أصابت النخوة الخرقاء منهم مقتلاً, أمسكوا بنا و بدأوا بضربنا دون أي سؤال و عندها بادلناهم الصراخ بردت نخوتهم و سأل أحدهم السيدة عن السبب فأشارت لصديقنا بأنه سبها, تحول الأشاوس إلى ملاكمين و مقاتلين بواسل و الضحية صديقنا الذي ركع على الأرض و أجبر على وضع يديه في الخلف متلقياً وابلاً من الضرب ة اللكم و الركل, صرخت بهم بأنه لم يفعل شيئاً و أن السيدة هي التي أثارته بالسباب أولاً لكن صفعة أسكتتني....
لا أدري متى انتهى هذا الموقف و لا كيف, كل ما أذكره أننا عدنا منكسرين أذلاء إلى الحارة, الدموع في عيوننا, صحونا على تدحرج صناديق الخشب على الأرض عندما ركلها صديقنا باكياً صارخاً.
في تلك الليلة تناولت أول قدح من الخمر في حياتي, أذكر صديقي في نهاية الليلة تلك يرقص و هو متمدد على الأرض و دموعه تختلط بالخمر و القيء.
بعد شهرين هاجر صديقنا و لم يعد).

تناثرت الغيوم و ظهرت الشمس فجأة في كبد السماء و تحولت الرطوبة إلى دبق لزج, ثياب العمل (الأفرول) التصق بجسده, الخوذة الواقية تحولت لكرة ثقيلة على رأسه, النظارات السوداء بالكاد تحجب الوهج المنعكس على رمال الصحراء و بالكاد تمنع تسرب الرمال إلى العيون, الجزمة الجلدية غاصت في الوحل و النفط و المواد اللزجة, أنفاسه بدأت بالتثاقل و أخذ دوار يلف رأسه, عاد يسمع أصوات تلك الجنيات و حوريات البحر عندما كان يعمل على المنصات البحرية (offshore) في البحر الأحمر, كان يسمع غناءها و أصوات قيثاراتها بكل وضوح.. هل هي جنيات أو حوريات؟ و هل هناك حوريات في تلاقي الصحراء بالبحر؟
كان عليه أن ينتظر فرصة أو استراحة الشاي, فهو يدرك خطورة العمل بين أطنان الحديد و تلك المعدات الثقيلة فاخطأ لا يتكرر, و أن يأخذه الشرود مرة يعني آخر مرة.
بالكاد تحمل حتى استسلم لهواء جهاز التكييف و لكأس من الشاي, لضجيج العمال و اللغات المختلفة, رائحة أجساد العمال النتنة تأخذ الألباب و شعورهم الرثة و أظافرهم الطويلة المتسخة و بدلاتهم المجبولة بالشحم و النفط و جزما تهم الموحلة, كلها تدخله في نفق التساؤلات و اللاعدل الذي يعيشه, كان العمال شباباً من جنسيات متعددة, بسطاء ساذجين عضلات مفتولة أجسام قوية و بعضهم كبار في السن منكسرين, يضحكون جميعاً لأي شيء دون مبرر حقيقي يضطره في كثير من الأحيان للضحك مجاملة, تأخذهم الأحاديث السياسية و التحدث عن الظلم الذي يعيشه العرب و الإسلام نتيجة قهر الغرب و أمريكا.
مندفعون فطرياً للانتقام و البطولة لكن إحساسهم بالخيانات و المؤامرات و قمع السلطة لهم يرميهم في وادٍ من العبث و الجنون و الشكوى.
سأله أحد العمال: لماذا لا تتكلم؟
_ إني أسمع..
_ ما رأيك أنت؟
_ الاحتمالات كلها متاحة لكن الحقيقة مدفونة في دهاليز الحكام و أمريكا.
_ صحيح, لكنه تعرض للخيانة, أليس كذلك؟
_ ممكن.
_ ترى أين هو الآن؟
_ حده البلاء.. ليس هو ما يهمني.
حدق الجميع بين مستغرب و مستنكر و متسائل, أردف موضحاً كي لا يساء فهم رده:
_ أنا لا يهمني أي دكتاتور في العالم, أعلم أن التكوين الشخصي لأي دكتاتور يجعله يضحي بالعالم و لا يضحي بالسلطة و بشخصه, و كما قلت كل الاحتمالات واردة, قد يكون تعرض للخيانة كما يقال من أقرب الناس منه و قتل, لكن احتمال أن يكون الآن في جزر هاواي وارد
ضحك الجميع بعيون جاحظة لفكرة جزر هاواي و الأثداء و الأرداف موافقين إلى حد ما لكن سرعان ما عاد التساؤل. كيف لبطل مثله أن يخون؟
_ ليست البطولة في أن تحرم شعبك من الحرية عشرات السنين و تقتله وتهجره و تعيشه في فقر مدقع و أنت تعيش في قصور بابلية في بلد يعتبر من أغنى البلاد في العالم, و بعد ذلك تطلب منه الموت من أجل الحضارة و التاريخ و الوطن و الملك نفسه.
_ كيف ذلك, لكن هناك معتدي و دول أجنبية تحتل الأرض و العرض؟!
_ أنا لست مع أي احتلال و لا مع الدول الأجنبية التي أشك في كل نواياها, أمريكا لا تعرف غير (Business is business) لكني متأكد من أن الشعوب لا ترضى بالاحتلال و إنما هي فترة محدودة لليقظة, ففرنسا لم تقاتل ألمانيا المحتلة إلا بعد ثلاثة سنوات من الاحتلال.
هز الجميع الرؤوس موافقين و معجبين بهذا القادم الجديد المثقف الذي بينهم, لقد أصاب لب الحقيقة التي يبحثون عنها, و ضاعت الأحاديث في الموافقة و التشكك و الضحك.
أقترب منه عامل عماني و قال له: يا أخي كلنا نعيش حالة في الخوف من الحكام.
قال له بدبلوماسية حذرة: كل العالم الثالث كذلك يا أخي الغرب يعيش على جثثنا.
_ صحيح, لكننا نقتل على أيدي حكامنا, الذين لا نستطيع إلا أن نتمنى لهم المصير نفسه.
_ هناك حسابات لأمريكا و الغرب و لكل بلد شكل للتغيير أو عدمه ما دامت المصلحة هي الأساس.
_ إننا شعوب لا تستطيع الكلام و لا حتى الزواج بدون موافقة حكامنا.
حاول أن يغير الموضوع و يدخل بآخر.
_ هل أنت متزوج؟
_ من أين يا أخي ! المهور غالية و الرواتب قليلة, عمري ثلاثون عاماً و لا أمل لي بالزواج لكن عندي صديقة فلبينية أعيش معها في البيت و ما شي الحال.
_ معقول كيف؟
_ حاولت مرة وخطبت واحدة بنت عائلة و حددت لي المهر, ذهبت للبنك للاقتراض فطلبوا كفيلين و ضمانات لأن المبلغ كبير جداً, حاولت كثيراً دون جدوى فاتصلت بها و قلت لها إنك فتاة جميلة و ألف واحد يتمناك لكني لا أستطيع الزواج و لدي صديقة فلبينية فليسعدك الله و السلام عليكم.
و ضحك ضحكة فيها غصة ظهرت في عروق رقبته و قام بسرعة ليضحك مع رفاقه.
جلس إلى الحائط يفكر بهذا القهر الذي يعيشه ذاك الشاب, و تذكر كيف تزوج بحبيبته, و كم عارض فكرة المهر عندما عقد القران و قبوله بها كنوع من الإجراءات الاجتماعية الروتينية دون أن يدفع شيئاً, حمد الله على تلك النعمة و رسخت لديه فكرة سطحية قوانيننا الاجتماعية المتخلفة و بالجور الذي يتعرض له الشاب و الفتاة قبل الزواج و بعده, من المجتمع بسبب تلك القوانين و العادات البالية.
مضى النهار ثقيلاً كعادته, روتين قاتل مع تعب و ضيق, يعود إلى المعسكر مع غياب الشمس في كثبان الرمل راسمة تدرج باهت للألوان.
كثيراً ما انتابته حالة من اللاشعور بالمكان أو الزمان خاصة مع انتهاء يوم العمل و انتظار حافلة تبديل المناوبة, فيزرع الأرض جيئة و ذهاباً تاركاً آثار حذائه على صفحة الرمل و الغبار المتناثر, و هي عادة لم تمنعه حدود المنصة البحرية عنها في انتظار مروحية العودة أيضاُ عندما كان في البحر الأحمر, كان يحمل سبحة يمررها بين أصابعه المرتجفة دون أي عبارات محددة, كانت سبحة والده الذي لم يستطع الوصول ساعة دفنه فمواعيد الطائرات خانته فلحق بثاني أيام العزاء, كثيراً ما أحس بوجوده و بأنه سيأخذه بين ذراعيه و يقبله و هو مستلقي على الأريكة في المنزل آخر أيامه, كان يقبله كما كان يفعل و هو صغير.
لقد ظل يبكي طوال ليلتين دون توقف حزناً و ألماً لأنه لم يستطع وداعه الوداع الأخير, كان نحيباً جارحاً لم يدري بالكلمات التي صاحبته ليلتين, لكنه ظل يتذكر تلك الجملة : لماذا كل هذا العذاب يا أبي؟ لماذا نتحمل كل هذا الألم؟ و من أجل من؟.... رحمك الله. هل تستحق هذه الحياة كل هذه الغربة و الآلام؟ رحمك الله....

وصاه الجميع بأن تكون علاقاته مع العمال جيدة إلى حد ما, فالأفضل و لضرورة العمل أن يصاحب الجميع, و هذا ما أكد عليه شخصياً فرغم تحصيله الجامعي كمهندس و ثقافته الجيدة فقد اختلط بسويات مختلفة من الناس محاولاً بدبلوماسيته كسب ود الجميع, لكنه كثيراً ما كان يغيب في شرود ملفت, عاضاً على شفتيه و كيف وصل إلى أطراف العالم هذا؟
خرج من عائلة جيدة الوضع علمياً و ثقافياً لكن كثرة أفرادها حرمت الجميع من الترف المادي, حيه التجاري الذي يعيش فيه, محج لأكثر القاطنين في المدينة من مشترين و عابري طريق و شباب و صبايا بحكم تمركزها. لكن أحلامه العريضة تتحجم مع مرور السنين و الضغوط الاقتصادية.
بعد اثنا عشر سنة من العمل لم يستطع وضع رصيد صغير في أي بنك و ما زال ينتقل من منزل لآخر بالأجرة, كانت الحياة قاسية مادياً فانعكست على كل الأمور الحياتية حتى العائلية.
حاول أن يؤمن القليل من أسباب الترف المؤقت لكن الأزمات الاقتصادية لا تقع إلا على رأسه و رأس أمثاله, رأسه ذاك الذي لا يلين أمام رشوة أو امتياز مزيف.
شأنه شأن الكثيرين كان مهمشاً في كل الحقوق و لا يعرف سوى الواجبات, لم يستطع يوماً أن يعبر عن ذاته حتى عدم ممارسته حقوقه ممنوع عليه, فيجب عليه أن يمارس حقوق الوطن و لو سمح له الوطن بحق الحياد. بحث عن أي حالة يحقق فيها ما امتلكه من علم أو عمل فكان أن سحق باستغلال الآخرين لوضعه و لوضع الكثيرين من الشباب نظراً لكثرة أعدادهم و قلة مواردهم.
و ها هو الآن في عالم ليس عالمه, في عمل لا يتقاطع مع اثنا عشر سنة من العمل كمهندس, لكنه قبل به لمردوده المالي المرتفع بالنسبة لراتبه في الوطن لكنه راتب حقير بالنسبة لحامل جنسية غربية قد يكون من حثالة قومه.
رضي بهذا العمل لعله يكون نقلة نوعية إلى الأفضل ربما وجد ضالته في إحدى الشركات الأجنبية, حسده الجميع و لقب بالمليونير و لا يدرون بالتضخيم الذي كان يصف فيه عمله أمام زملائه, بكل ثقة, لا يخلو في البداية من الخوف, فتح رصيد في أحد البنوك و صار يفهم معنى الرصيد و التحويل و بطاقة الاعتماد, لكن الحياة كانت تأكل الأخضر و اليابس كما كانت الغربة و الوحدة تأكل أحلامه و روحه و جسده.
لم يكن الوحيد فقد التقى بعدد من خريجي الجامعات العرب يعملون على أراضيهم, في شركات أجنبية و نصف وطنية بأعمال حقيرة تتطلب جهداً عالياُ, لكن الحاجة و العوز يذل الرجال.
كان حنقه على هذه الظروف يزداد مع قدوم أشخاص بشعور شقراء على أنهم خبراء لكن سرعان ما يتكشف من خلال حديث جانبي أنهم شبه عاطلين عن العمل في أوطانهم و بلا تحصيل علمي, لكنهم يتقاضون عشرات الأضعاف مما يتقاضاه هو و غيره من أصحاب الشعور السوداء.
كانت عقدة الرجل الأبيض في مجتمعاتنا صفة متأصلة لا تفسير منطقي لترسخها في حياتنا, هل اكتسبت مع جحافل المستعمرين ذوي العيون الزرقاء؟ أم من مناهجنا التعليمية الغبية؟
كان بطبيعته لا يحس بالضغينة تجاه إي أجنبي حتى و لو كانت هناك سخرية مبطنة في حديثه عن وضع بلاده و تخلفها و الأمل المفقود في تغيير الواقع فهو من حيث المبدأ لا يستطيع إنكار ذلك و لا يعارض السخرية لكنه يحس بقيود الخوف بين يديه, ذلك الخوف الذي جعله يرتجف أمام شرطي متخلف أو أمام أي مؤسسة حكومية و حتى أمام موظف مثله وراء مكتبه.
كان الذهاب لدفع فاتورة الكهرباء أو الهاتف تعذيب حقيقي, و الذهاب للمطار يثير فيه حالة من الشعور بالإسهال الشديد, حتى عندما يذهب ليقبض راتبه كان العرق يتصبب من جبهته و ظهره..
على ذكر المطار, كان حلمه ركب الطائرة, فقد مضى عليه سبع و عشرون عاماً و لم تسنح له الفرصة لذلك فكان قبوله بالعمل مع الشركة الأجنبية مجالاً رحباً للسفر إلى حد بعيد لكنه صار يشعر بعصاب و بحالة من الفزع مع كل رحلة له إلى العمل, صار يكره السفر و المطارات فهو يعرف أنه ذاهب لفترة طويلة نسبياً إلى منفى أو معتقل حقيقي في وسط صحراء لا ترحم أو على منصة في بحر من الأمواج.
كثيراً ما وقف على حافة المنصة البحرية و استسلم لانعكاسات الشمس على الأمواج فيخال نفسه يطير ثم يغوص في الأعماق و لا ينسى أصوات حوريات البحر في أذنيه تغني على أنغام قيثاراتها. كم كانت تعطيه ظلمة الصحراء إحساساً بالأمان نعم كان يشعر بأمان غريب في كبد هذه الظلمة الموحشة حيث تناديه جنيات الصحراء مع كل غروب, لم يشعر يوماً بإنسانيته كما كان في تلك المواقف, أصبحت أيامه أشياء ثقيلة و الللامعلوم عنده حالة من الاستقرار و الراحة.
كل يوم كان يقتل الوقت بتجاوز الواقع إلى أحلام اللاواقع التي كانت تستهلك فكره و روحه, لم ينسجم كثيراً مع تناقضات الآخرين و معتقداتهم رغم استيعابه للجميع.
كان انتماؤه للإنسان أقوى من أي انتماء, لم يكن يرفض المعتقدات الروحانية فهو يحمل إيماناً عميقاً نقياً لكنه لا يؤمن بالممارسات السطحية, في داخله إيمان خاص فهو علاقة خاصة جداً.
كم استهواه البصاق على الأرض قائلاً: تفو عليك يا زمن...
و عندما يعبر جانب المولدات الكهربائية الضخمة الصاخبة, تحلو له صرخات ممزوجة بضحكات و سباب متواصلين حيث لا أحد يسمع سيمفونية العنف الداخلي تلك.
لكن أكثر الهوايات المستحدثة أن يبول على بساط الرمل الممتد حتى الأفق بعيداً عن الأنظار رغم وجود أماكن محددة لذلك, يرسم خطوطاً وأشكالاً, يدون أسماء دون نقاط كما كان يفعل الصبية في حارة الصبا على الحائط العتيق.
حتى أن أفكاراً راودته في ممارسة العادة السرية لكنه تناساها رغم خلو المكان من أي كائن مرئي, حتى أيام العمل الليلية حيث كان اضطرابه يصل حدود الهستريا و ثقل الوقت يرميه بين شقي رحاً تقطع أوصاله, كان يستسلم لأحلم لا تنتهي حتى يصاب بالإعياء و الدوار.
حاول كثيراً ممارسة الرياضة و لو المشي قليلاً لكن الطقس الخانق و الإرهاق من العمل و بالأكثر شعوره بالا جدوى يأسر لديه أي عزم للتفاعل مع حاجات جسدية ضرورية.
كان ملاذه الأكبر الاستماع للراديو أو للتلفزيون و خصوصاً الأخبار حيث تضاف كل يوم أرصدة الذل و الانكسار عابرة ذاكرة كل الأجيال التي يشاطرها هذا المنفى, إحساس بانتقال الأوطان إلى يوم القيامة الموعود, يوم أصبح فيه الغرب هو الحاكم بأمره, لقد أفرزت حالة الكذب و الخداع و العهر التي عاشها الوطن حالات متناقضة مختصرة لكل تناقضات العالم, حتى خجلت فئران التجارب و أسفت علينا, دفعتنا الهزائم و النهب اليومي للثروات و الكرامة لأن نخضع لإله جديد فرضُ علينا إتباع شريعة لا تتطابق مع إرث لا يمحى, إله في الأصل لا يلقى القبول و لو استقرأت التاريخ لانحدر إلى درك الخصومة و العداء.

تمر أيام العمل طويلة و في أعماقه هياج عاطفي و فكري يقتلع قلبه من ضلوعه و مع اقتراب الإجازة تصبح الأيام ثقيلة لزجة, و يقرر أن هذا يكفي و ستكون المرة الأخيرة, لكنه و تحت المطالب و العوز و المتطلبات الجديدة و المستمرة و نظرات زوجته التي تتحول لعتاب مستمر و مستتر و بنفس تلك العنين اللتان تحول بريقها إلى حياد غبي و سلبية قاتلة.
يحمل كل مرة معه الشوق و الحب و لا تكاد صورتها تفارق خياله و عواطفه, إنها الحبيبة و الزوجة و الإنسانة التي أسرت روحه و كبحت جماح ثورته و تمرده و أدخلته قفص الواجب و الاستقرار و السكن, لكن مع انقضاء الساعات القليلة التي تلي اللقاء, تدخل في رهبانية مفزعة عندما ترى في عينيه إصراره على الحرية و عدم الرجوع لذلك العمل, فالمطالب كثيرة و طعم حلاوة الإنفاق تأسر صاحبها, عبثاً يحاول أن يشرح, يعترض.. لكن الأيام تصبح سجناً آخر من العتاب و العقاب فيرجع ثانية لانتحاره البطيء لكن هذه المرة كانت مختلفة, لم يتذكرها كثيراً كعادته, لم يخفق قلبه لصوتها, لصورتها التي احتفظ بها في محفظته الشخصية و إلى جانبها خصلة من شعرها, حتى أنه أحس لأول مرة بحيادية مشاعره تجاهها.
أصبحت أحلامه فردية خالصة و لم تعد روحها تشاركه الرؤى, صار يصحو أحياناً من كوابيس خيانتها له أو موتها.
لم يتمنى لها يوماً أي أذى, صار أمنية الموت ملاذاً لروحه و تمكن الندم من ناصية أيامه حسيباً نذيراً.
إن إدراكه بأن حياته و حياة جيل بكامله بنيت على فلسفة الموت و الخوف من أي إشارات للمستقبل من القادم, من اليوم الأسود, كيف تنهمر الدموع عند شعورنا بالفرح و كيف تخطفنا فكرة الموت عند أصغر حالة حب أو حياة نعيشها, جعلته يسعى لزلزلة هذا البناء و بخاصة مع نضوج فلسفة الحياة عند الأجانب اللذين يختلط بهم في العمل, كلهم كانوا يتحدثون عن الحب و السياحة و المستقبل و عن الإنسان و الحرية لكن أحاديث الشرقيين تتمحور حول الموت و عن عدم ضمان الحياة و لو لثانية قادمة و عن الحساب الفظيع الذي ينتظرنا نتيجة لأخطائنا الدائمة و ذنوبنا التي لن تنتهي.
لم يتحدث أشقر واحد عن الذنب أو ذنوب يقترفها, كان ينتظر الإجازة ليعيش الحياة كما يعيشها و هو في العمل واثق, فرح و حر.
كان الجميع من جلدته في مكان العمل, حتى هو نفسه, يحسون بالدونية أمام أي رئيس و كأنهم لصوص أو أصحاب ذنب مفترض حتى خارج أوقات الدوام و العمل.
حاول كثيراً أن يتغلب على هذا الشعور لكن المواقف تخونه أحياناً, أراد أن يتعلم من هؤلاء الأجانب الغرباء صيغة الحرية التي يتعاملون من خلالها طالما أنهم يؤدون أعمالهم و واجباتهم على أحسن وجه, حاول أن يتعامل بطبيعتهم لكنه لم ينجح كثيراً, فتاريخ من الخوف و التردد لا يكسب صاحبه الحرية و زادت الأمور تعقيداً حالة الاتهام التي يشعر بها أمام أي أجنبي نتيجة لانتماءات لا يد له بها, فهو متهم بالإرهاب و التخريب حتى يثبت العكس و لا ينسى ذلك الكندي الذي اتهم الجميع بالإرهاب لأنهم يقتلون الأبرياء في الحافلات الاسرائيلية, حاول أن يشرح له الموقف من الجانب الأخر, لم يستطع أبداً ذلك الكندي الفهم بأي شكل من الأشكال:
- أنتم تقتلون الأبرياء في الحافلات و فيها أطفال, تفجرون أنفسكم بين الناس لماذا لا تتوقفوا عن أعمالكم هذه؟
- أنا لست بالمطلق مع قتل أي بريء لكن لماذا لم تفكر بالقرار الذي اتخذه شاب أو شابة في ربيع العمر و أمامهم حلو الحياة و الأحلام, و فجر نفسه و على أي أساس وصل لقرار إنهاء حياته و حياة من يحتل أرضه و بيته و مستقبله.
- هذا جنون, لا أستطيع تفسيره, ربما التطرف الديني الذي يمهد له دينكم.
- إنها حالة الخلاص, حالة اللاعودة عندما تقفل الأبواب في وجه شعب و تحرمه الكرامة و الأرض و الحياة.
- هذه الأرض للجميع و هي حق لليهود.
- لن أدخل معك في سرد تاريخي فهذا عقيم لكن المفهوم السائد الآن هو الأرض للأقوى, لكن إذا دخل أحد بيتك في كندا و احتل مكانك, ماذا تفعل؟
- أذهب لمكان آخر.
- الموضوع ليس المكان بحد ذاته فقط, إنه إحساسك بالحياة و الكرامة.
- يمكن أن تعيش الحياة في أي مكان.
- لكن الوطن ليس قبعة تغيرها مع كل فصل, و خصمنا لا يعترف بحدود لمكانه, هل تعرف حدود إسرائيل؟
- لم أفهم السؤال؟
- طيب, هل تعرف ماذا يعني علم إسرائيل؟
- لا.
- إنه حلم إسرائيل الذي تعمل به منذ قيامها, الخطان الأزرقان يرمزان لنهري النيل و الفرات فهما حدود دولتهم والدليل على ذلك التاريخ المعاصر, أنظر كيف تتغير حدود هذه الدولة مع مرور السنين.
سكت و لم يتحدث بعدها معه و لكن نظرة الغضب ظلت ماثلة في عينيه.

رغم قناعته بحقوقه و بإرثه و بحضارته و امتداداته لكنه دائماً كان يحس بالضعف و الهزيمة, كان مقنعاً لمن شاركه الحديث لكنه لم يقنع نفسه بالحقيقة التي تنازل و تنازل عنها حتى صار يقبل بفتات مشاريع الحرية و السلام, و الأكثر من ذلك أنه لم يشارك و لم يطلب أحداً منه المشاركة في أي قرار للهزيمة و الانكسار التي يعيشها مع أجيال سبقته و لحقته, إنه يخاف من أن يسب مدير قسم الكهرباء عندما ينقطع التيار باستمرار عن حيه أو أن يعترض على مدير البلدية بعد أن يقع في الحفر المكشوفة في شوارع مدينته, وكم راودته الشكوك, رغم كونه ذو تحصيل علمي جيد, من إشاعة أن الأمن يسمعه من خلال الهاتف المقفل, فصار يغلق الأبواب و النوافذ و يرخي الستائر و يطفئ الضوء حتى أنه يرفع صوت المذياع عندما ينام مع زوجته و كم تململت زوجته من توقفه المتكرر منصتاً لحركة أو همسة حتى راحت محاولاته أدراج الرياح.

* * *
تنفس الصعداء مع انتهاء العمل اليوم, و ها هي الشمس قد بدأت تطل من الامتدادات البعيدة بعد ليلة عمل طويلة.
الجو المقبول, إلى حد ما, دعاه لإخراج كرسي من إحدى الغرف المكيفة, جلس متثاقلاً راغباً بتنفس هواء نقي غير معالج بالأجهزة المنقية للأتربة و الغبار, أحس كتفيه مثقلان مهدودان فغاصت رقبته بينهما في شكل يدعو للضحك و امتدت قدماه للأمام أراد أن يخلع حذاءه الجلدي السميك لولا التعليمات الصارمة.
استسلم قليلاً لأفكاره و سبح في أحلام اليقظة, تمحورت أفكاره في فلك مقابر و شواهد كتب عليها أسماء عرف بعضها, وجد شاهدة و قد كتب عليها اسمه و صورته ربما أحس بالراحة فأن يرى قبره أفضل من أن يرى مقابر من أحب فداء لهم, انتفض مرة واحدة كاد أن يقع أرضاً و كأن صعقة أصابته, عرف أنه بالكاد قد أنقذ نفسه من الوقوع.
كان النور المتسرب من الأفق قد بسط أمواجه الناعمة و كأنه بحر من نورٍ يلفح الوجوه المعفرة بالرمال فتستيقظ الحواس الدفينة للإنسان الأول داعية إياه لبدء دورة حياته التي لم تنتهي بعد, الشمس الخجولة بدأت تظهر خيوط عهرها التي تتألق مع ساعات منتصف النهار حتى تصيب الرؤوس سكرات من الموت و الألم ما لم تتخذ ملاذاً لها, النسمات المحملة بندى غير اعتيادي من البحور البعيدة, أرهصت محاولاته للاستسلام لغفلة سريعة ذكرته بحضن مُدرسته و قريبة والدته في إجازته الصيفية في القرية الجبلية, كانت تلفه بحنان الأم و تنام بقميص نومها الشفاف تحت لحاف صوفي ثقيل, كان جمالها الطبيعي لا تمل العيون من النظر و التبحر فيه, عيناها العسليتان اللتان لا تتوقفان عن الهمس و الابتسام, خديها الورديان كنبيذٍ فرنسي صافٍ, تناسق أسنانها البيض الذي يظهر مع كل ضحكة و ابتسامة, صدرها الممتلئ, خصرها النحيف, هذه الصورة للطبيعة الأم أطلت من بين الذكريات المكدسة مجسدة بتلك المُدرسة النسمة حاضرة في وقت حرج و ضيق جداً لطبيعة خام و قاسية يعيش فصولها مع لحظات الفجر هذه.
تراءى له على مد نظره حركة غير طبيعية للأشياء في مثل هذا الوقت, أسود أم رمادي, فرك عينيه جيداً ليزيح عنها الغشاوة و الغبار خلف نظارات السلامة القسرية, قد يكون عقرباً, لكن مع اقترابه و بشكل مباشر نحوه ظهرت له الأم السوداء بتلك الأرجل الطويلة, ربما لا يملك المعرفة الكاملة عن عالم الحشرات لكنه يعرف أن الأم السوداء تعيش في الأدغال و ليس في الصحراء, اتخذت العنكبوت اتجاهاً مباشراً نحوه, لم يرغب في قتلها فقد أحس أنها تزود عن حياض أرضها أمام خليط مزعج من الرجال و الآلات التي لا تكل و لا تمل مزلزلةً الأرض و مدمرةً لكل أشكال الحياة مهما كانت إجراءات السلامة البيئية المتبعة, أحس بمشاعرها و أراد أن يكفر عن طبيعة الإنسان في التوسع و الامتلاك على حساب أي شكل من أشكال الحياة صاحبة الحق و الانتماء للمكان. تخيل للحظات جملة الانفعالات و المشاعر التي يحملها شاب أو شابة عندما يسعى للنيل من محتل يتجاهل بكل قسوة وجوده على أرض أحلامه و آماله ليقتلعه من الجذور بلا رحمة, الثواني التي استغرقت أفكاره النقاش الذاتي لم تثني العنكبوت الثائرة من التسارع نحوه و بخط مستقيم.
فضل الابتعاد عنها علها تنثني عن اللحاق به فحاول أن يتجه بعيداً فقتلها في النهاية لا يقدم و لا يؤخر في صحراء هي مرتعُ لأمثالها, لكن عبثاً و كأنه ثأر منه شخصياً فما كان منه إلا أن قفز و اتخذ وضعية الدفاع و قبل أن تصل بخطوات قفز على العنكبوت عدة قفزات مع أن قفزة صحيحة واحدة كانت كفيلة بتمزيقها بين نتوآت حذائه المسلح, تحولت العنكبوت إلى أشلاء فظل ينظر إليها باستغراب و تعجب, و فكر بأنه لو استسلم لتلك الغفلة أما كان الآن ضحيةً لها. صحيح أنه لن يموت نظراً لإجراءات الإسعاف المتوفرة لكن سمها قد يؤدي لشلل مؤقت لأحد أطرافه و لعدة أيام فهي عنكبوت صحراوية شديدة السمية, أعاد الكرسي وترك المكان و الحيرة و العجب في رأسه و قد أيقن أن الإنسان مع كل المعرفة التي وصل إليها لن يصل إلى الحقيقة الكاملة أبداً و أنه صغير في عالم ملك أطرافه و بحاره و اقتحم الفضاء و ظل يفكر بأنه الكائن الوحيد الذي لا يملك العلم الكامل بينما باقي الكائنات تملك العلم الكامل و هذا ما جعله سيداً.

***
اقترب منه أحد العمال السوريين و سأله:- هل علمت بابن بلدك في المكان؟
- من أبن بلدي؟
- ماهر..
- لا . لا أعرفه, أين هو؟
- في غرفة التحكم, إنه إنسان جيد و صاحب دين و أخلاق, تعال أعرفك عليه؟
عندما وصلنا غرفة التحكم كان يجلس إلى جهاز الكومبيوتر يعمل, انتظرنا حتى تسنت له فرصة التحدث معه خلال الاستراحة.
- سيد محمد, أريد أن أعرفك على ابن بلدك, إنه قريب من مدينتك.
تصافح الرجلان و تعارفا, سأله عن اسمه الكامل وتنفس الصعداء عندما تأكد أنه بعيد عن عائلات السلطة أو من يسيرون في ركبهم.
- أهلاً و سهلاً, كيف العمل هنا؟
- ماشي الحال و الحمد لله, أنا مقيم هنا في هذه البلد و عائلتي هنا أيضاً لذلك أحس بالراحة بشكل مقبول, ماذا عنك؟
- أعاني من ملل و تعب بسبب الغربة و نوع العمل الذي أقوم به فأنا بالأصل مهندس و هذا العمل بعيد عن اختصاصي و لكني مضطر للعمل في هذا المجال و الحقيقة كل مرة أفكر في عدم العودة لهذا العمل.
- الحق معك, فهذا العمل ليس اختصاصك و هذا حال عدد من أولاد البلد, في الحقيقة أعمل في هذه الشركة الأجنبية منذ اثنا عشر عاماً و قد استقلت منذ سنين و ذهبت للبلد و أقمت مشروع خاص و وضعت خبرتي و رصيدي به لكني خسرت كل شيء بسبب الروتين و نقص السيولة لدى الناس و تسلط موظفي الدولة اليومي و كأني مسؤول عن انخفاض رواتبهم و كأنهم شركاء لي في الربح فقط و الأكثر من ذلك الدولة التي تشاركني في كل شيء من دون أي شيء, تأخذ التسعة لتعطيك العشرة فأقفلت الورشة و حزمت حقائبي و عدت عند أول عرض للشركة لي بالعودة فعدت مع عائلتي و أقمت هنا.
- كم ستبقى هنا في الحقل؟
- سأذهب غداً, أنا أقوم بعملي ثم أذهب إلى آخر.
- أنا لا أعرف بعد, فهذا مرتبط بالعمل هنا و بالمكتب المركزي, ربما أرسلوني لعمل آخر.
- لقد التقيت بالكثيرين من أولاد البلد خلال سنين عملي و في الحقيقة هناك الكثيرين يحبون العودة و العمل في بلدهم لكن الظروف تمنعهم من ذلك بسبب غباء أو مصلحة من بيده القرار و هذا نزيف حقيقي للبلد و لشبابه المنتشر في العالم و الذي يثبت ذاته أمام الجميع في العطاء و العلم و هناك نسب مثبتة و مخيفة عن أجيال هاجرت و لم تعد تستطيع العودة لكن عيونهم المفعمة بالحنين و الحزن معلقة بالوطن الغارق بالتخريب و الفساد و المكبل بأغلال عقول متحجرة و مريضة ربطت الوطن بمصيرها و بمصالحها الشخصية.

***

الأحاديث التي تدور مع رفاق العمل من جنسيات الدرجة الثانية أو الثالثة, كجنسيته حسب التصنيفات الأمريكية الأخيرة, تدفعه مرات للخروج عن سيطرته لذاته, فالكل بفهم في كل الأشياء و يستطيع أن يحلل و يُنظر لأعقد القضايا و المشاكل الدولية و المحلية, و يعطي الجميع دروساً في العلم و المعرفة و الأخلاق و الدين و الأهم السياسة و الفلسفة و حتى الفن.
و من الواضح جداً أن الجميع أو الأكثرية لا جلد لهم على القراءة لأي كتيب باستثناء المجلات و الجرائد و الكتب الجنسية السوقية, رغم علمهم بوجود مكتبة في منطقة العمل, ففكرة المكتبة مرتبطة بالأدوات المكتبية و القرطاسية.
كانت هذه النقاشات تثير حفيظته مع أنه قد عاهد نفسه بعدم التدخل في أي نقاش معهم, لكنه كان يضطر لذلك و خاصة عند سماعه لآراء مغلوطة أمام الأجانب, أصحاب جنسيات الدرجة الأولى, كان يفضل أن يصحح الصورة بعد انتهاء النقاش و يتعمد البقاء مع الأجانب مصححاً و موضحاً.
كان يرى و يحس الدهشة و التعجب في عيونهم من تلك الآراء و تلك الحجج التي يثبت مدعي الثقافة عمق جهلهم و تخلفهم.
إنكليزي غير أسمه ليكون إبراهيم بعد أن أسلم و نطق الشهادة ؟! أثار في نفسه تساؤلات كثيرة عن مدى صحة و نقاء و النية من إعلان إسلامه. منذ زمن بعيد يعمل هذا الانكليزي في هذه المنطقة التي تسلم مفاتيح خزائنها و غرف نومها لكل من يعلن أو يدعي الإسلام, و قد كان هذا الوضع حافزاً جيداً لكي يدخل أي أجنبي المحرمات من أوسع أبوابها رغم أنني سمعت بآخر خلع عباءة الإسلام فورعودته لبلاده, بعد انتهاء مهمته الظاهرية و الباطنية و بما أننا شعوب نملك نعمة النسيان, نعيش بلا ذاكرة حتى القريبة منها و لدينا نعمة أسمى و هي التسامح و النية الطيبة, فقد ناقش الموضوع مع زملائه العرب و أثار شكوكه حول إدعاء ذاك الانكليزي للإسلام, فقالوا له: لا تسئ النية, هل شققت على قلبه؟
- أنا لم أفعل و لن أفعلها لكن الحذر واجب, و النبي (ص) حذرنا من المنافقين و المندسين في الدين لأسباب لا يعلمها إلا الله و نحن في حالة ليس للنيات الطيبة مكان فيها و خاصة مع بشر يفكرون من خلال مفهوم المصلحة و المال, و أنا لا أكفر أحداً لكن على الجميع أن يتعامل بمنطق و عقل و حذر لا أن يخرج ما بداخله من مواضيع و أسرار لكل من يدعي الإسلام.
مراراً تحدث بهذا الموضوع لكن هباء, لا أحد يملك كابحاً للسانه و لمخيلته للانطلاق و التبجح و التكلم من أجل الكلام و الثرثرة.
سأله إبراهيم مرة: سمعت عن موضوع الختان عند النساء, فهل هذا صحيح؟!.
تدخل أحد الخبراء المزعومين و اتخذ وضعية الأستاذ الواثق و أخذ يتحدث عن الختان عند النساء و عن أهميته الصحية و ضرورته الأخلاقية و الدينية و فاخر و انتفخ و تأسف على دولته المصرية التي بدأت تتجه لمنعه متهماً لهم بالكفر و الزندقة و التبعية لأمريكا و الغرب فنساء الغرب باردات بلا إحساس و هذا ما تريد الدولة فعله في أن تجعلنا بدون إحساس.
لم يتوقف إبراهيم عن التعجب و السخرية و إحساسه بالا معقول و الامنطق و حتى القرف لكنه فضل في أكثر الأحيان الاكتفاء بالصمت أمام نقاش تتعالى فيه الأصوات و كأنها مدافع و طائرات تقصف المكان.
لم يستطع البقاء طويلاً صامتاً, تدخل و نفى ما قيل من أسس دينية للختان و قام بسرد تاريخي للموضوع و عن تحول المجتمع القديم من مجتمع أنثوي إلى مجتمع ذكوري و التحولات التي واكب ذلك من تسلط للرجل على كل ملكات المرأة حتى التدخل في أصغر أمورها, و بين التأثير النفسي السلبي للختان على المرأة و تحولها إلى حالة من الحيادية في العلاقة الجنسية ليعطي هذا الموضوع نوعاً من التفوق الذكوري المرغوب فيه عند الرجل و هو يتعامل مع إحساس طفولي مقابل, فتزداد سطوته بذلك و ما التبريرات الدينية المذكورة ليست بالقوة المعتمدة في الشريعة فهنالك بلاد كثيرة لا تتعامل مع هذا الموضوع إطلاقاً.
استنفر الجميع و اتهموه بالجهل و التأويل الديني, و أن هذا الموضوع مثبت و صحيح و أن شيخهم قال لهم ذلك و أكده, سألهم:
- ماذا يعمل شيخكم و ما دراسته؟
- إنه مقيم في المسجد و قارئ للقرآن الكريم و رجل عالم في كل شيء.
- أي أنه لم يدرس الشريعة من أحد أو أكاديمية أو حتى حلقات بحث دينية, فكيف تسلمون أموركم لأمثاله؟
تطور الأمر إلى صراخ و عويل و اتهامات..., وسط تعجب و دهشة إبراهيم و غيره من الأجانب من تحول الأمور فجأة من مجرد فكرة أو سؤال إلى معركة دامية و تكفير و عمالة و إتباع الشيطان, مما دفعهم إلى مغادرة المكان سالمين شامتين.
تنطح واحد منهم و اتجه له بالحديث معاتباً :
- كيف تقول ذلك أمام الكفرة؟ هل أنت مسلم أم ماذا؟
- الحمد لله.
- إذن يجب أن لا تقول ذلك أبداً و تشكك بالأولياء و المشايخ.
- أنا لم أشكك بالأولياء و المشايخ لكن يجب أن نحدد مهمة كل إنسان و أن لا نتبع أي مدعي, و هؤلاء ليسوا كفرة إنهم كتابيون و الإسلام لم يكفرهم بل أحسن معاملتهم.
أحمر وجهه و امتلأت خدوده و قال:
- أنهم كفرة و مصيرهم جهنم و بئس المصير و أنت تعرف ذلك.
- إن عظمة الإسلام في قول ( الدين معاملة), فقد سؤل الرسول (ص) عن مصير امرأة بغاء يوم القيامة, و الكل متأكد من أنها في الدرك الأسفل من النار, فقال لهم الرسول (ص) بما معناه أن لها قصر في الجنة فقد رأت كلباً في الصحراء عند بئر ماء يحاول أن يشرب و لا يقدر, فرمت بحذائها و ملأته و أشربته, من خلال هذه الحادثة أدركت أن الله هو وحده من يحكم على البشر كفراً أم إيماناً و هو أعدل العادلين يأخذ بالأسباب فقد يكون هؤلاء الأجانب أفضل منا جميعاً بأعمالهم و احترامهم و إخلاصهم في العمل و عدم كذبهم, فلا يحق لأحد أن يكفرهم و خاصةً من ينام أثناء العمل و يكذب و يغش و يعلم أولاده الخداع فتراه يتحدث عن سمو نفسه و هو يغرق في شبر ماء إذا لمح زند امرأة.
- أنت غلطان يا أخي, هؤلاء فيهم حكم مبرم بأنهم في الجحيم بينما نحن قد ندخلها لفترة لكننا سنعود للجنة إن شاء الله, و بالمناسبة هل تعرف ماذا يتنافس الغرب الآن؟
- ماذا؟
- إنهم يقومون بدراسة دقيقة ( أولاد الوسخة) عن الذي يحدث داخل المرأة أثناء الجماع و ما الأشياء التي تثيرها في الداخل.
لم يتمالك نفسه و ضحك ضحكة صارخة و خبيثة و قال لذلك المتحدث الملتحي و قد قارب الأربعين من عمره:
- كم لك من العمر يا شيخ محسن؟
- لماذا هذا السؤال؟
- أعرف أنك متزوج و لك أولاد و لكنك لا تعرف أن أهم المناطق المثيرة في المرأة هي مناطق خارجية وليس مناطق داخلية, و هذا ما دعا إليه الدين باللطف و المداعبة قبل العملية الجنسية من قبل الرجل للمرأة.
و أشار إليه للمناطق المثيرة في المرأة.
احمر وجه الملتحي و أحس بالخزي و العار فكيف لا يعرف هذه الأمور و هو الباحث العظيم و سلالته معروفة, على الأقل من قبله هو, بالقوة الجنسية منذ الأزل, فتحول الحديث إلى مسخرة و ضحكات عن العلاقات الجنسية و عن قدرات قومه التي تستطيع أن تطيح بإناث الأرض في أوقات قياسية...

***
كانت أكثر الأيام داخل غرفته الصغيرة المملة عبارة عن معسكر لمطالعة روايات و مجلات ضمن إطار الرقابة التي تسمح و لا تسمح و خاصة في المطارات بين أسئلة رجال الأمن و الجمارك.
ضابط الجمارك: ضع حقائبك هنا و أعطني الجواز.
- تفضل.
- أهلاً يا باش مهندس.
- أهلاً.
- أفتح هذه الحقيبة.
- تفضل, كل الحقائب.
- ما هذا؟. , أمسك بعدة كتب, أضاف:
- ماذا تعمل يا باش مهندس؟
- أنت تقولها.
- لماذا كل هذه الكتب و ماذا تحتوي؟
- إنها روايات عادية و موجودة عندكم, و ما الغريب في ذلك, مهندس و يقرأ هل هذا غلط؟
- و ما هذه الأشرطة أيضاً؟
- إنها أشرطة أغاني.
- ما هي هذه الأغاني التي فيها؟
- معي مسجلة أتحب أن تسمع,إنها فيروز, أم كلثوم...
شعر ضابط الجمارك بالحنق و الخجل لتفاهته, فمد يديه إلى أسفل الحقيبة و قلب ما فيها رأساً على عقب, ثم قال: بإمكانك الدخول.
نظر إليه بحسرة و غضب و تعجب.
- لماذا فعلت ذلك؟
- ماذا؟ هذه إجراءات أمنية عادية.
- تصور يا أخ أنني كنت في أمريكا, عند الكفرة كما تقولون, و في المطار صحيح أنهم اختاروني من بين الجميع لفحص حقائبي لكوني مشروع قبض على إرهابي لكنهم فحصوا حقائبي بكل احترام و أعادوا الأغراض بحرص و ترتيب كما كانت و اعتذروا أيضاً و أنت هنا تفعل بي كل هذا, لقد تعبت كثيراً في ترتيب الحقيبة و أنت بنصف ثانية تقلبها لتقول إجراءات أمنية.
لم ينظر إليه ضابط الجمارك و اتجه لمسافر آخر أو بالأحرى لفريسة سهلة ألين مني.

***

استيقظ فزعاً, كانت غرفته مظلمة تماماً, لم يستطع أن يحدد الوقت, خاف من تجاوز وقت الاستيقاظ الروتيني, مع أنه متأكد من أن المنبه لم يعمل بعد بحكم العادة, أشعل ضوءً خافتاً و نظر للمنبه إنها الثانية و النصف ليلاً, آه ما زال الوقت مبكراً جداً, دخل الحمام, غسل وجهه ثم عاد إلى فراشه, قرأ كعادته عدة آيات قرآنية, دعا الله أن يلهمه الصبر و أن يمنحه الصحة و الخير و المال و يجعل له مخرجاً.
بقي ساعة دون أن تغمض له عين, أطفئ النور تماماً لعله ينام بقية الليلة, ما هي إلا لحظات و غاص في نوم عميق و كأن لمسة ما هبطت عليه دون إنذار و عاش فيضاً من الأفكار السريعة و المتراكمة كأنها وابل من شهب سماوية ترتطم بالأرض.
راودته الأحلام صوراً متلاحقةً متناقضةً, حلم أنه في مدينة حلب تلك المدينة التي تنفس فيها أول مرة, أحس بحنين خاص لها تذكر أصدقاءه يسيرون دون اهتمام لوجوده في أزقة حلب القديمة لكنها ليست هي بالضبط, الجدران و الأرض مرصوفة بشكل متناسق, وصل باب كبير من الخشب لبناء حجري, سأل نفسه هل هذا هو الباب؟ إنه هو و ليس هو, خرج من الأبواب و النوافذ أناس لا يعرفهم, سألهم عن أصدقائه, قالوا له أنهم انتقلوا منذ زمن و أن بيتهم في الطابق العلوي فارغ و هم لا يأتون إليه إلا قليلاً. عجباً لقد كان بيتهم في الطابق الأرضي, لكنه سيذهب إليهم في محل الصياغة خاصتهم.
دخل أزقة و في متاهات لم يشاهدها من قبل, طرقات حجرية بنية اللون متناسقة بشكل جيد لكنه لمح عند مفرق طريق ظهر فجأةً فتاة و قد ظهر بداية حملها, غمزت له بعينيها أن اتبعها كانت أول مرة يرى فيها تلك المرأة تماماً و لكنه اتجه إليها مباشرة و وضع يده حول خصرها و سار معها دون كلام لكنه كان يبتسم بينما سارت هي بجانبه دون كلمة و على وجهها خليط من تعابير التعب و الخوف و الحذر, مشيا في طريق حجري طويل و عند منعطف صغير مسقوف أشارت له أن يتبعها إلى عدد من المنعطفات حتى وصلت به إلى مدخل منزل, الغريب أن كل تلك الطرقات كانت فارغة من الناس, مد رأسه لمدخل المنزل, كان هناك غسيل منشور أحمر و أصفر, أشارت له أنها جاهزة هناك, ارتاب ثم همس في أذنها أنه لا يفضل هنا و قال لها: لا أريد هنا تعالي معي.
أشارت له متسائلة عن المكان الآخر فلا فرق عندها, أمسك بيدها و جعلها تتبعه إلى مكان ليس ببعيد لكنه مغلق, قال لها: هنا.
قالت: هل أبدأ هنا ؟. و أخذت تخلع ثيابها و تداعبه.
أحس بضيق, و شعر أنه وقع في فخ ما, ربما هي النهاية و بدأ يسأل نفسه: كل عمري لم أمارس هذه الممارسات الشاذة من قبل, صحيح أني مررت بعلاقات حب جدية في حياتي لكني لم أقع مرة فريسة للعهر, كانت الأمور مجرد تسلية فقط, لكنني لم أمارس الجنس في بيت هوى أبداً, كيف أقع الآن بهذه السهولة؟
بدأ يتصبب عرقاً و أخذ يرتجف, أحس بأيدي تهزه بعنف, سمع صرخات و بكاء و جنازير دبابات تطحن حصى الأرض, قنابل تسقط.
رأى ملثماً بكوفية يحمل سلاحه قائلاً: ما يدخلوا إلا على جثثنا. ظهر له وزير الاعلام الصحاف مردداً: ليس لدينا لهم سوى الرصاص و الأحذية.
وجد نفسه يركع على ألأرض و الصفعات و الركلات تنهار عليه من رجال لا معالم لوجوههم, كانت زوجته عند إحدى الزوايا تغني حافية القدمين أغنية بليدة و بحياد كامل, وقف أمامه والده و بصحته كاملة و قد لبس نظارته ذات الإطار الأسود العريض مرتدياً جلابية بيضاء و على كتفيه عباءة مذهبة و في يديه تلك السبحة البيضاء التي ورثها منه, كان أقصر مما هو عليه, أطل عليه من بين حائطين و وضع رجله على طرف الرصيف و في وجهه حسرة و حزن و غضب.
انتفض من سريره و كأن عقرباً لسعه, أضاء المصباح الخافت, كانت الكبين تتحرك و هناك أشياء تصطدم بها من الخارج, شعر بضيق في تنفسه, مسح العرق المتصبب على وجهه بيدين مرتجفتين باردتان, قام و أطفئ جهاز التكييف, لبس قميصه و سرواله و شحاطته, لا زالت الأصوات تزعق في أذنيه, فتح الباب فهبت على وجهه و جسده ريح قوية محملة بالتراب, كانت الكشافات الضوئية في الخارج تكاد لا ترى والساحة الخالية من البشر تلعب فيها الريح, إنها عاصفة ترابية في ليل أسود.
قاوم الريح, نزل من الكبين متثاقلاً, متجهاً إلى وسط الساحة, بدأت الأصوات تخف و تتلاشى و الريح تزداد قوةً و سطوة.
وقف وسط الساحة الخاوية عند مركز تلاقي ما تيسر من الأضواء, تلاشت الأصوات تماماً و بدأ يسمع لحن قيثارات تبعتها أصوات حوريات.
كان الأفق ظلام دامس, دار حول نفسه, أحس الريح و هي تدفعه في اتجاه واحد, مد ذراعيه فيلقى دفعة قوية وقع منها على الأرض, عندها علا صوت غناء الجنيات والحوريات قوياً مترافقاً مع لحن قيثارات الكنائسي, شعر أنه محاصر بوجوه أحادية اللون, و بأسلاك شائكة
علق عليها صور أطفال قتلى, شاهد مشادة كلامية بين زعيمين في مؤتمر القمة, و صورة لجثة شاب أشقر على الأرض و حوله مظاهرات ضد العولمة و طغيان الدول الثماني الكبار على شعوب عالم الجنوب الفقيرة, سمع بأذنيه صوت وزير خارجية الأمريكي يقول: سنغير الخارطة الجيوسياسية للمنطقة حسب مصالحنا. شاهد لافتات التأييد للحاكم و نسبة ال 99,99 بالمئة و أخرى كتب عليها منحبك. تذكر آخر مكالمة لزوجته و هي تؤكد له حبها عبر خطوط الهاتف السيئة.
كان العرق ما يزال يتصبب من جبينه عندما انهمرت الدموع من عينيه, قلبه و صدره الثقيلان بلهم و الألم الموروثين و بالحنين للخلاص و لرائحة الخبز من تنور بدائي على طريق غير محدد, أطبقا على حالة التنفس المضطربة أصلاً.
وقف ثم خلع قميصه و شحاطته, تماسك قليلاً و مد ذراعيه, جعل ظهره باتجاه الريح و بدأت جملة موسيقية موزونة تتعالى في مسامعه لكنها غير مفهومة, غناء و قيثارات و أجراس بعيدة, بدأت خطواته مع الريح المترنحةً تثبت و تتزن, كانت رسم خطواته على الرمال مجبولة بالدموع تتلاشى مع قوة الريح, تجاوز الساحة المضاءة باتجاه الظلمة مع ازدياد الريح شراسةً و دفعاً له بعد أن استسلم لها تماماً, تجاوز حيز النور المتاح و غاب في الظلام.



#خالد_قنوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سقوط العنقاء السورية
- ثوار ضد الثورة
- ميغ 21
- الموت و لا المزلة
- جبال الصوان.. في وطن الياسمين
- قانون العزل السياسي, حق أم واجب
- مسودة بيان من أجل الوطن
- يا ثوار سورية لا تتركوا التحرير
- من مذكرات طاغية في زمن التغيير
- بيان صادر عن المنتدى الديموقراطي السوري الكندي
- الطريق إلى دمشق
- سؤال البديهيات
- المجنون طليقاً
- الدولة و اللادولة


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد قنوت - مازال البحث مستمراً.. -حدثت في الصحراء العمانية, ربيع سنة 2000-