أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - علي الأسدي - يوميات عامل لغسل الصحون في كوبنهاغن... (1)..















المزيد.....

يوميات عامل لغسل الصحون في كوبنهاغن... (1)..


علي الأسدي

الحوار المتمدن-العدد: 3816 - 2012 / 8 / 11 - 02:54
المحور: سيرة ذاتية
    


أخذت مكاني بجانب النافذة في عربة القطار المتجه من المدينة الساحلية الألمانية روستوك الى كوبنهاغن العاصمة الدنماركية ، كان ذلك قبل ثماني وأربعين عاما ، وقبل ان تتحول كونهاغن الى عاصمة عراقية ثانية بثماني وعشرين عاما في تسعينيات القرن الماضي. لم اذهب الى كوبنهاغن طالبا اللجوء السياسي ، فحينها لم يكن شائعا كما اليوم استخدام هذا الحق من قبل المضطهدين السياسيين في البلدان المتخلفة ، ملكيات كانت او جمهوريات ، ديكتاتوريات مدنية كانت أو عسكرية. فالمضطدون في ذلك الزمن ما أن يطلق سراحهم من السجون أو المعتقلات حتى يعاودوا النشاط السياسي سرا أو علنا ، فالسجون للكثير منهم كانت بيتهم الثاني ، بل للبعض الآخر كانت بيتهم الوحيد.
لم أذهب اليها سائحا فلم تدخل هذه العادة حياة عائلتي البغدادية ، لأن السكن في بغداد بحد ذاته يعتبر سياحة لساكنيها ، ففي ذلك الزمن كانت بغداد في مخيلة الكثيرين أجمل مدن الدنيا. والسياحة في مفهوم فقراء مسلمي بغداد لا تعني أكثر من زيارة قبور الموتى ومراقد الأئمة في الكاظمية والأعظمية والشيخ معروف والشيخ عمر، أما الموسرون منهم فقد يذهبوا الى كربلاء والنجف وسامراء والسيد محمد والكفل ، بينما السفر الى مكة للحج أو العمرة فهو حلم لا يتحقق الا مرة في العمر أو لا يتحقق أبدا.
كنت قد قمت بمغامرتي تلك لتحقيق هدفين في آن واحد ، الأول ، التعرف على عالم آخر أكون فيه سيد نفسي حرا من قيود الحياة اليومية في مجتمعنا ، والثاني ، الحصول على عمل أمول فيه رحلتي واقامتي لفترة مناسبة من الزمن لحين عودتي من حيث أتيت. لم أحمل الكثير من المال حينها فكل ثروتي كانت مائة دولارا فقط وبطاقة العودة وبعض الأغذية المعلبة. واذا ما حالفني الحظ وحصلت على عمل فلن احتاج لانفاق ما احمله من نقود بل سأوفر بعضها لمناسبات أخرى.
ضمت العربة التي كانت تقلني الى كونهاغن خليطا عجيبا من الناس ، بيض البشرة وملونون من جنسيات عدة أجهلها ، كان ذلك واضحا لي من لغاتهم المتباينة ، واشكالهم والازياء التي يرتدونها. كنت أتجول بناظري بين الوجوه حولي لعلني أجد بينهم رفيق سفر قد يكون يحمل نفس الطموح الذي أسعى الى تحقيقه في رحلتي تلك. فكوني أطرق هذا الطريق لأول مرة في حياتي يخالجني بعض القلق عما قد أواجهه من منفصات لم أكن احسب لها حسابا ، وتعرفي على أحد كان قد مر من هنا سابقا سيعزز الثقة في نفسي ، ويخفف عني بعض مخاوفي مما تخفيه الأيام الأولى من رحلتي هذه وحيدا الى بلد لا أحمل الا القليل من المعرفة عنه جغرافيا واجتماعيا واقتصاديا. ففي حقيقة الحال لا معرفة مسبقة لي بلغة أو تقاليد مجتمع الدنمارك ، أو موقفه من أمثالي أبناء دول الجنوب ذات التاريخ والعادات والتقاليد الغريبة بالنسبة للكثير منهم ، وربما المثيرة للسأم والقرف بالنسبة للقسم الآخر كالذي تحكي عنه الصحافة بخصوص المسلمين والهندوس. كنت أصغي الى اللغات التي يتحدثون بها ، ففيها الانكليزية والألمانية والفرنسية والاسبانية والايطالية ، أما غيرها فكان من الصعب علي تمييزها فيما اذا كانت دنماركية أو سويدية أو فلندية. ونفس الوضع مع سود البشرة من الأفارقة والمنحدرين من جنوب وشرقي أسيا فهم أيضا لهم لغاتهم التي يصعب علي فهمها. كنت أتنقل بسمعي من متحدث الى آخر باحثا عن لغة مشتركة مع أحدهم تكسر جدار الصمت الذي لازمني منذ صعدت للقطار قبل عدة ساعات مضت. مشاعر غريبة خالجتني طوال وجودي في مقعدي في تلك العربة المكتظة بممثلي شعوب العالم ، وتساءلت مع نفسي هل كل هذا الحشد قد جاء لنفس الغرض الذي جاء بي الى هذا البلد الشمالي الذي لم يخطر ببالي أن ازوره في حياتي حتى عدة أسابيع خلت..؟
بعد أن قطع القطار شوطا على اليابسة تباطأت حركته تدريجيا ، ودون اجراءات معقدة طويلة في ميناء المغادرة انساب برفق في جوف باخرة كانت راسية على شاطئ البلطيق ، وما ان توقفت عجلاته حتى هم أكثر الركاب للخروج من العربات واتجهوا نحو سلالم حلزونية ضيقة أخذتهم الى طوابق السفينة العليا. للوهلة الأولى اعتقدت أنهم خرجوا للتمشي في مكان توقف القطار والتعرف على ما حوله ، فتجربتي هي الأولى في التنقل بواسطة السفن ، وما جعلني أعتقد ذلك هي الأمتعة التي تركوها خلفهم في العربات ، لكني لم اصدق عيني عندما رأيتهم يتناولون السلالم الى الطوابق العليا غير أبهين بامتعتهم مثلي. لم انتظر طويلا حتى هرعت أنا أيضا متعقبا أثرهم برغم قلقي على حقيبة امتعتي ففيها كل ما احتاجه في رحلتي تلك ، فقد حشوتها اضافة لملابسي بأغذية ومشروبات معلبة تكفيني لعدة أيام. قادتني تلك السلالم الى سطح السفينة حيث المطاعم والمقاهي وسوقا حرة للمشروبات الكحولية وأنواع السكاير والتوباغو ولعب الأطفال والعطور وغيرها من السلع التي تهم السواح لا أمثالي من فقراء المسافرين. اخترت هناك مقعدا ورحت أتطلع الى البحر الذي بدا قاحلا كصحارينا المقفرة ، فهنا زئير الأمواج المتلاطمة كأنها تخوض صراعا مع بعضها البعض، وهناك حيث الرياح العاتية المحملة بالاتربة ورمال الصحراء. بعد عدة ساعات مرهقة من أثر دوار البحر وصلنا الشاطئ الآخر لبحر البلطيق ، ودقائق قليلة بعد رسو الباخرة واصل القطار رحلته متنقلا من جزيرة الى أخرى كأفعوان الماء عبر جسور عملاقة تبهر الأنظار.
أكثر ما كان يشغلني خلال الطريق هو الاهتداء الى أحد بيوت الشباب التي ستستضيفني الأيام القليلة القادمة ، لأتمكن بعده بدء رحلة البحث عن عمل ، الهدف الأهم الذي أتى بي الى هنا. وبرغم تفاؤلي بالحصول على عمل ، كنت شديد القلق حول الأعمال التي سأكون قادرا على الاضطلاع بها ، فما سمعته من أصدقاء أن طلابا كثيرون أكملوا دراستهم الجامعية في جامعات أوربية كانوا يستغلون العطلات الصيفية في العمل في غسيل الصحون وأواني الطبخ والتنظيف والنقل في الفنادق والمطاعم والأفران لتغطية تكاليف الدراسة وتحسين حالتهم المعيشية لتخفيف العبئ عن عائلاتهم في الوطن. لكن بسبب نظام التربية السائد في أوساط الطبقة البرجوازية الكبرى والمتوسطة في بلدنا ينظر للمهن المذكورة بتعال واستهجان بما فيها عائلتي التي ليس فيها برجوازيا واحدا. الطبقة المتوسطة أو البرجوازية "الوضيعة " بحسب تصنيف رفيقي النمري تستمرء نمط الحياة البرجوازية، وهذا ما جعلها تابعا وأمينا أحيانا للتطلعات البرجوازية الأكبر ومحاكاتها في طريقة حياتها. ولهذا السبب يتحرج الكثير ممن أكمل دراسته في الدول الأجنبية من الافصاح عن تجاربهم في تمويل دراستهم ومواجهة صعوبات الحياة في تلك الدول. النظرة الدونية للعمل البدني التي تحت يتأثر بها كثير منا ، هي الموروث الأسوء من الفكر البرجوازي الذي ليس من السهل التحرر منه ، وهو ما سعيت للخروج عليه والعمل بعكسه. وبناء عليه حسمت أمري لخوض تجربتي الخاصة على خلاف عائلتي والكثير من أصدقائي بقبول العمل اليدوي وممارسته دون الشعور بالحرج أو العار.
العمل اليدوي كأي وظيفة أخرى هي مصدرا لمعيشة ملايين الناس في العالم ، ولا يقلل من شأنها إن كانت في غسل الصحون أو في مناجم الفحم والحديد تحت الأرض ، أو في مصانع صهر المعادن والبناء والنقل. الكثير من الأعمال شاقة وبالغة الخطورة على حياة القائمين بها ، لكنها تقدم للبلد والسكان سلعا وخدمات تحسن نوعية الحياة وتبني اقتصادا قويا وراسخا يحقق التقدم والسعادة للجميع.
بعد وصول القطار الى المحطة الأخيرة في وسط كوبنهاغن تحرك الركاب متهيئين للمغادرة ، تقدمني شاب أسمر داكن البشرة أقرب الى بشرتنا وسماتنا الخارجية كشكل الوجه ولون العينيين وشكل الأنف. قلت مع نفسي لأجرب التحدث اليه لأسئله فيما اذا يعرف عنوانا لمخيم للشباب هنا في المدينة ، وفعلا سألته : هل أنت عربي ، رد بسرعة دون مجاملة ، نعم ، أنا من اليمن.
علي ألأسدي /يتبع



#علي_الأسدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحرب العالمية الثانية ... درس لا ينبغي أن ينسى....(الأخير) ...
- الحرب العالمية الثانية ... درس لا ينبغي أن ينسى ...(3)...؛؛
- الحرب العالمية الثانية ... درس لا ينبغي أن ينسى ...(2)...؛؛
- الحرب العالمية الثانية ... درس لا ينبغي أن ينسى....(1) ..؛؛؛
- السباق الرئاسي في الولايات المتحدة ... بين السيئ والأسوء ..( ...
- السباق الرئاسي في الولايات المتحدة ... بين السيئ والأسوء ... ...
- كيف تكون كاتبا مذموما .. في هذا الزمان النحس...؛؛
- في يوم الأب ...؛؛
- الشيوعيون اليونانيون... وآفاق التغيير بعد انتخابات الأحد الق ...
- الاغتصاب ... والزواج بالاكراه ..
- رسالة إلى أبيها..
- عندما أحببتِ غيري ..؛
- انهيار اليورو.... أم إفلاس اليونان ...أم كليهما...؟....(الأخ ...
- انهيار اليورو.... أم إفلاس اليونان ...أم كليهما...؟....(4).. ...
- انهيار اليورو.... أم إفلاس اليونان ...أم كليهما...؟....( 3). ...
- انهيار اليورو.... أم إفلاس اليونان ...أم كليهما...؟....(2).. ...
- انهيار اليورو.... أم إفلاس اليونان ...أم كليهما...؟....(1)
- الصين والغرب .... في القرن الحادي والعشرين ...( الجزء الأخير ...
- الصين والغرب .... في القرن الحادي والعشرين ...( الجزء الثاني ...
- الصين والغرب ... في القرن الحادي والعشرين .....الجزء الأول


المزيد.....




- فيديو كلاب ضالة في مدرج مطار.. الجزائر أم العراق؟
- الناتو يقرر تزويد أوكرانيا بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي
- طهران: لا أضرار عقب الهجوم الإسرائيلي
- آبل تسحب تطبيقات من متجرها الافتراضي بناء على طلب من السلطات ...
- RT ترصد الدمار الذي طال مستشفى الأمل
- نجم فرنسا يأفل في إفريقيا
- البيت الأبيض: توريدات الأسلحة لأوكرانيا ستستأنف فورا بعد مصا ...
- إشكال كبير بين لبنانيين وسوريين في بيروت والجيش اللبناني يتد ...
- تونس.. الزيارة السنوية لكنيس الغريبة في جربة ستكون محدودة بس ...
- مصر.. شقيقتان تحتالان على 1000 فتاة والمبالغ تصل إلى 300 ملي ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - علي الأسدي - يوميات عامل لغسل الصحون في كوبنهاغن... (1)..