خليل الفخري
الحوار المتمدن-العدد: 3788 - 2012 / 7 / 14 - 08:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بعد مضى نصف قرن على مقتله , لابد من التوقف لحظة قبل اصدار حكم نهائى فى اسباب ذلك ,ومعرفة ما للرجل وما عليه , والبحث عن اجابات صادقة لكثير من اتهامات الاعداء والخصوم . ففى الوقت الذى حمل فيه البعثيون وفرسان العروبة والاحزاب الدينية وحوزة النجف الاشرف , راية العداء للشهيد عبد الكريم قاسم , و تفخيخ الشارع ضدّه , و حبّروا اعمدة الصحف وحتى مجلات الخلاعة والفن الرخيص بمقالات تغمز فيه و تطعن تتهمه بالدكتاتورية والتفرد بالسلطة , أثبت التطور اللاحق للأحداث عكس ما قالوا.
والتساؤل الذى نطرحه و نود مناقشته , هل كان الشهيد عبد الكريم قاسم دكتاتورا يستحق التعامت معه بتلك الوحشية وزاللاانسانية ! أم كان ديمقراطيا ليبراليا؟ وهل تصنّف ظواهر حكمه على انها تنتمى الى نظام ارهابى قاسمى كما اشاعه البعثيون و فرسان العروبة ؟ أم ان الرجل لم يكن دمويا ابدا , وأن باب الرحمة والتسامح كان من السعة بحيث ان أعداءه و مطلقى النار عليه ولجوا منه .
نحن اذن امام نموذجين من الرجال و أنماط الحكم وضرورة البحث فى معنى الفردى و الدكتاتورى . حيث لم يحدث فك ارتباط بين الكلمتين فى الأستعمال اليومى و فى الأدبيات الحزبية والصحافة , و بدون فك الأرتباط هذا يكون تجاوز فى الأستعمال قد حصل لواحدة على حساب الأخرى . وفى القاموس السياسى المستخدم محليا و عربيا , تتبادل الكلمتان معانيهما و مواقعهما .
فالدكتاتور هو الفردى والفردى هو الدكتاتور , مع ان كليهما حاتة تتصل فى الأخرى و تنفصل عنها . فلا يلتقيان فى كون الدكتاتور لابد ان يكون فرديا .فأن الفردى قد لا يكون دكتاتورا .
ان الدكتاتورية كما يرى كثير من المهتمين بالشأن السياسى أنها نظام حكم و نظريه عمل تعتمد على بناء فولاذى متين للأجهزة الأمنية ذات طابع بوليسى غير قابل للأختراق وفيه من الحيطة والحذر المبالغ فيه ما يمنع العمل المضاد , وهذا ما لم يعتمده الزعيم الراحل و يلجأ اليه . فهو لم يؤسس جهازا بوليسيا , بل ترك الأمر لشرطة الأمن النى ظلّت تعمل بمعظم عناصرها فى العهد الملكى , وقد تعرّض لمحاولات اغتيال كثيرة , وأطلق سراح الأشخاص الذين أطلقوا الرصاص عليه و تركوا فى ذراعه أثرا ظلّ يؤذيه حتى ساعة مقتله . كما يلاحظ الترهل في النظام الفردي . والأزدواج في القرار او في وحدة مواقف الجهاز الحكومي وهذا ما تعاني منه اليوم حكومة المالكي .تقابله وحدة متكاملة و مركزية مترابطة الحلقات غير قابله للأزدواج في النظام الدكتاتوري .
ان الفردي محب لنفسه , نرجسي , يقوده ذلك الشعور الى الأعتقاد بأن الناس جميعا معه , بينما يشعر الدكتاتور بروح العداء للمجتمع ,وهو يعتقد ان الجميع ضدّه , فعليه ان يعتبر الجميع متهمين , في ايّة لحظة , ولهذا فالقلق والخوف من الغد كالظل يلاحقه , فلا يشعر الدكتاتور بالراحة او المتعة في ممارسة الحكم بسبب اشباح الشك والرعب التي تطارده مع اشباح ضحاياه . بينما الفردي يشعر باللذة في ممارسة الحكم و بالأحلام العذبة في قدرته على انهاء معاناة شعبه و رفع قدراته المعيشية يملؤه زهو بذلك و تفاؤل .فهو رجل بمزاج يجتهد بانفعال و يخطئ و يصيب بنوع من الطيبة المغلّفة بنوع من الطفولية .اما الدكتاتور فأن شخصيته لا تخضع لمزاج ولا تقبل التجزئة ,ولا يتعرّض لموقف ازدواجي , و قراراته تتصاعد بوتائر لا تخضع لأية اعتبارات مزاجية او يحني رأسه لمعتقدات عامة , فالمحصلة في منظوره الشخصي تكون بتصفية معاترضيه وان كانوا نساء و اطفالا .
ان كثيرا من الخلفاء – كما يرى بعض المؤرخين – كانوا فرديين وكثير آخر كانوا دمويين وبعض الولاة كما تذكر المصادر التاريخية بالغوا في دمويتهم حدّ اللعنة .
وبتحليل شخصية الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم يتضح من خلال ربط الأحداث التي مرّت خلال فترة حكمه ان الرجل كان في منأى عن الأثنين الفردي والدكتاتوري , فقد يتطوّر الفردي بمرور الزمن الى دكتاتور , لكن ذلك يتطلّب شروطا اخرى لا نراها متوفرة و متكاملة في شخصية المرحوم عبد الكريم قاسم .
ان عدم اتخاذ اجراء قمعيّ او احتراسي كمهاجمة الزعيم في حفل المولد النبوي , ودسّ مناشير الى غرفة نومه , وخروج مظاهرات معادية له في الأعظمية , والسماح لمغن او لقارئ فواتح بالأساءة اليه , والتعريض به في الحفلات المدرسية , ونشر مقالات تغمزه شخصيا في الصحف. و تجاوزه لما ينشر من اخبار المواليد الذين يحملون أسماء مطلقي النار عليه و تعاليه عن قراءة التقارير الكيدية , واستنكافه عن زيارة او تقريب رجال الشرطة اليه , و أخذه بمبدأ الرحمة فوق القانون , و عفا الله عمّا سلف , والعفو عن المشتركين في اطلاق النار عليه , ظواهر و أدلّة و براهين لا تدلّ على روح العداء للناس ولا تحمل نوايا ارهابية .
يتساءل معظم الباحثين في الشأن العراقي و بدهشة عن السرعة التي انتهى فيها حكم عادل لرجل عادل ! وفي سياق الكشف عن الاسباب تتركز لديهم القناعة بأن طبقة السراق والفاسدين واصحاب المنافع الضيّقة و تجار السياسة والأنتهازيين والمغرمين بالسلطة كانوا وراء ما حدث من مهرجان دموي في رمضان .
كان من الطبيعي ان تحدث له تلك النهاية التراجيدية فى يوم جمعة وهو صائم , لأنه كان قائد ثورة أحدثت انعطافا في مجرى تاريخ العراق الحديث و نقلته من حالة سياسية كان العراق فيها خاضعا للنفوذ الأجنبي وقواعده العسكرية وأحلافه الى حالة التحرر الكامل والأنعتاق ,كان يحظى بتعاطف واسع من الناس , خاصة فقراءهم لأنه كان ينتمي اليهم قلبا و روحا , و يتمتع بحب الجميع له , وان انجازاته كانت على مرأى العين ومسمع الأذن ومثل هذا الحاكم ينبغي له ان يستمر لو انه أحاط نفسه بفصيل سياسي او جهة او تنظيم حزبي او حماية رصينة , او اعتزل في منطقة خضراء او زرقاء كما يفعل ساستنا اليوم وبرلمانيونا , او بنى سورا يحتاط به لنفسه , وان يأمر بفوج حماية يتناوب افراده على باب بيته , و يمنع السابلة من الأقتراب منه كما يحدث اليوم مع سكان البيوت القريبة من المنطقة الخضراء .لكنه لم يفعل كل هذا مكتفيا بحب الشعب له , فخورا بانتمائه اليه , ساهرا من اجل تحسين واقعه المعيشي و ضمان مستقبل ابنائه .
كان عفيف اليد واللسان وظل كذلك لم تمتد يده الى المال العام وكانت ميزانية العراق كلها بيده وكذلك وزراؤه والعسكريون الذين شاركوه في الثورة لم تحم حولهم شبهة الأنتفاع بالثورة او السرقة او الرشوة . كطما ظلّ يتسلم مرتبه كضابط في الجيش . امّا اخوته واخواته فقد ظلّوا بعيدين عن الشبهة طوال فترة حكمه و بعدها , كذلك حالهم ظلّت كما هي لم تتغير .
كان الكثير يتساءل ماذا ستكون عليه حال بيت حامد قاسم ؟ و كيف سيتصرف عبد الكريم قاسم , الزعيم والقائد , و رئيس الوزراء ؟
الهوايات التي يصطنعها رجال الحكم لأنفسهم . انظمة الطعام الخاصة .الطقوس اليومية . غرفة الدرج التي يعيش فيها .سريره الحديدي .مشجب الملابس على الحائط .
عدنان ابن شقيقه هل يظلّ عاطلا ؟ واذا اشتغل فماذا ستكون وظيفته ؟ هل يعين قنصلا او سفيرا او سكرتيرا على الأقل ؟
ماجد هل يظلّ صديق الجميع ؟ بفكاهته التى عرف بها . يدحرج النكتة الكبيرة ويحشو البصل في لفّة الفشافيش .
و حسين الميّال الى الجديّه, و شبيه الوجه بعمّه الزعيم , هل ستصبح جدّيته ستطانية ؟
وكيف ستتصرف ام عدنان ؟ هل ستعمل بالأتيكيت ؟ وتنظم الحفلات الساهرة التي تقيمها عوائل رؤساء الوزارات ؟ واين ستجلس المدعوات؟ كانت الأسابيع الأولى التي اعقبت ثورة 14 تموز الخالده غير كافية و الشهور التالية غير واضحة . والسنة الأولى مرّت بهدوء . و كانت السنة الثانية تمر وكأن شيئا لم يحدث . الدار نفسها المستأجرة قائمة و مستمره . لم تطل شبابيكها بالدهان ولا جدرانها . و طين الشتاء امام الدار نفسه .فتم يزفّت الرصيف الترابي , ولم يقف حارس او جندي او شرطي على الباب , مع ان فترة اقامة عبد الكريم قاسم فيها قد كثرت و طالت بعد انتقاله من جلولاء الى وزارة الدفاع .
ظلّ عدنان عاطلا عن الوظيفة الرسمية . ولم يرتبط بعمل خاص الا بعد ثلاث سنوات على مرور الثورة حين استأجر جراجا لغسل و تشحيم السيارات . وتم تقف سيارة حكومية على الباب اوخاصة .
نحن فقراء الى الوعي الآثاري . فلو تأصّلت فينا ثقافة الأهتمام به لاحتفظت عائلة الزعيم الراحل , او الدولة التي قتلته بسريره الحديدي , وخزانة كتبه, ومشجب ملابسه, وجعبة عصيّه , هي كل ممتلكاته المنقولة وغير المنقولة والتي صدر قرار بمصادرتها يوم 8 شباط الأسود المصادف 14 رمضان 1963. يضاف الى ممتلكاته رصيده في مصرف الرافدين دينارا واحدا و مائتي فلس .
الربح هو ربح عبد الكريم قاسم , قتل و معه دينار و مائتا فلس , فحمل معه الى العالم الآخر , ثورة ديمقراطية تحرريه و جمهورية مستقلة قويّة , وأرضا محررة لا مكان فيها لقبره , فمن حق الذين يتوفاهم الله تعالى وهذا عرف نصّت عليه الرسالات السماوية ان يكون للميت قبر يضم رفاته لكن عصيّات عفلق ومجرمي البعث وعصابات القوميين ومن تحالف معهم على الغدر بالزعيم وقتله لم يتحملوا وجود قبر يحتوي جسده الطاهر مخافة ان يكون محجّة و مزارا , فوضعوا جسده الطاهر المدمّى برصاص غدرهم الجبان في كيس , وضعوا معه بعض الاحجار و رموه ليلا اثناء منع التجوال بعيدا ليستقر في قاع نهر ديالى وناموا بضمائر مرتاحة لو كانت لهم ضمائر ,قريري الأعين عميت عيون الأحياء منهم .
هل يجود الرحم العراقى وبين ايدينا هذا الكم الهائل من الفساد الأداري والمالي وانعدام الخدمات والجوع المنتشر و تفشّي البطالة والمرض و تسرب الطلبة من مقاعد الدراسة وانتشار المخدرات و حبوب الهلوسة بين الشباب و طلبة المدارس, علينا بزعيم وطني او سياسي شريف و غيور يضع اصبعه على نزف العراقيين الذين قست عليهم الدنيا وخان كلمتهم السياسيون , زعيم متجرد , ناكر لذاته محب لشعبه صوفي كعبد الكريم قاسم . تلك امنية و تساؤل !!!!!
الناصريه – خليل الفخري
#خليل_الفخري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟