أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - حميمية العلاقة بين الموت والحياة















المزيد.....



حميمية العلاقة بين الموت والحياة


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 3780 - 2012 / 7 / 6 - 10:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


حميمية العلاقة بين الموت والحياة فى ديوان (فتاة تُجرّب حتفها)

طغتْ شهرة (الروائية) على الشاعرة سهيرالمصادفة بسبب روايتيها البديعتيْن (لهوالأبالسة) الصادرة عن دار ميريت والمعلومات – طبعة أولى عام 2003 و(ميس إيجبت) الصادرة عن (الدار للنشر والتوزيع) طبعة أولى عام 2008 ، وعندما قرأتُ روايتيها لم أكن قد قرأتُ شعرًا لها ، ولكننى أدركتُ أننى أمام مبدعة تكتب الرواية بروح وبأسلوب الشعر.
ديوان (فتاة تُجرّب حتفها) الصادرعن دارالمسار- الشارقة – طبعة أولى عام 1999 ودارالتلاقى للكتاب - القاهرة – طبعة ثانية – عام 2009 يطرح سؤالا عن دلالة العنوان ، فكلمة (الحتْف) فى اللغة العربية تعنى الموت ، والجمع (حتوف) ومات فلان (حتف أنفه) إذا مات من غير قتل أو ضرب أفضى إلى الموت (أنظر : مختار الصحاح – للشيخ الإمام محمد بن أبى بكر بن عبد القادر الرازى – المطبعة الأميرية بمصر- عام 1911 – ص 138) إذن نحن أمام فتاة تُجرّب (موتها) وإذا كان الطبيعى أنّ الإنسان لايقوم بإجراء (تجارب) على موته (باستثناء محاولات الانتحارالفاشلة) نكون إزاء حالة وجودية / فلسفية لتلك الفتاة (= الشاعرة بالطبع) التى تقترب من دهاليزالموت وهى تنبض بالحياة ، لذلك تقول فى قصيدة (سُلم) :(للروح سُلم/ غيرتلك الجروح/ تصعده/ فإياك أنْ تنساب/ فوق أصابعى كالوقت/ واتّق شُهبى/ دع فضائى لمنتهاه/ واترك أمطارى/ وأجراسى تدق/ واسحب وراءك/ كل أشكال الحياة) والشاعرة وهى تُرتّب قصائد الديون اختارتْ أنْ تكون قصيدة (إيزيس) بعد القصيدة السابقة مباشرة، فإذا كان جدودنا المصريون القدماء ابتكروا (سلمًا) متخيلا لصعود الإنسان إلى عالم الآخرة كما ورد فى كتاب (الخروج إلى النهار) الشهيرب (كتاب الموتى) فإنّ إيزيس العصرية تعتب على فتاها قائلة ((كيف وزّعتنى على كل النساء ؟)) ويستمد الفتى رده عليها من أصل الأسطورة المصرية فيقول ((ألم تختارى منذ البدء/ لملمة جثتى من على كل الضفاف/ فصرتِ ربّة/ وبقيتُ أنا مجرد شتات)) وهنا (وفق قانون التداعى الحر) تُحيل الشاعرة القارىء إلى أصل الأسطورة المصرية – التى سَطرتْ منذ آلاف السنين – البُعد الأخلاقى الكامن داخل كيان الأسرة فى مصر القديمة ، حيث وفاء الزوجة (إيست = إيزى أو إيزيس وفق النطق اليونانى) لزوجها (أوزير = أوزيريس وفق النطق اليونانى) وكيف أنّ إيست جمعتْ أشلاء زوجها ، ثم حوّلتْ نفسها إلى طائر احتضن جسد المرحوم فحملت منه فى ابنيهما (حور أو حورس وفق النطق اليونانى) ثم حصول حور على حق الجلوس على عرش مصر ، بعد نزاع قضائى استمر لعدة سنوات ، ثم وفاء الابن (حور) لأمه إيست ، ليس ذلك فقط ، فإنّ حور بعد أنْ يسترد عينه بفضل الإله (توت أو جحوتى) يُقدّم عينه إلى أبيه (أوزير) إلى آخر المعانى الأخلاقية فى الأسطورة المصرية التى وظفتها الشاعرة سهير المصادفة توظيفًا فنيًا بلغة الشعر ، لتعكس ظاهرة التغيرات التى طرأتْ على الشخصية المصرية ، فإذا كان (أوزير) فى الأسطورة ظلّ وفيًا لزوجته (إيست) فإنّ إيزيس العصرية كما جسّدتها الشاعرة ترى حبيبها على النقيض ، إذْ قالت له ((كيف وزعتنى على كل النساء ؟)) وهذا يعنى أنّ الشاعرة عندما تستخدم التناص مع التراث ، لا تستخدمه وفق آلية التقابل أو التطابق كما يفعل كثيرون ، لمجرد الاسقاط السياسى أو الاجتماعى إلخ ، وإنما هى تستخدمه وفق آلية الجدل بين الماضى الذى (كان) والحاضر المتغير.
ومثل القصيد السيمفونى الذى ينتقل بالمستمع من حركة إلى حركة ، يأخذنا الديوان من قصيدة إلى أخرى بهدف تعميق معنى الجدل بين الحياة والموت فتقول فى قصيدة (حياة) : ((لتلك الفتاة أنْ تُجرّب حزنها / فى صرة كبريائها / وتحفرظلا / على رصيف ليلها / ثم تصعد إلى الحياة)) ولأنّ الشاعرة شطبتْ من مفردات قاموسها اللغوى كل الكلمات والمعانى المباشرة ، لتترك للقارىء حرية (فهم) ما يريد ، لذلك فإنّ (حركة) الصعود فى البيت الأخيرمن القصيدة ، ليس له غيردلالة أكيدة وهى أنّ الفتاة- قبل ذلك الصعود إلى الحياة- مثلها مثل الأموات.
وفى القصيدة المعنونة (محمود درويش) تجسيد للصراع بين الحياة والموت ، حيث (بدايات الصمود أمام شيخوخة ما) ما الذى سيُحدثه قرارالصمود ؟ ((نخلع عن أجسادنا الرصاص/ نُضمّد خدوش موسيقى الجاز)) هنا تلجأ الشاعرة إلى التقابل الرمزى بين الرصاص (= العنف) والموسيقى (= حب الحياة) فإذا ماتمّ ذلك فإننا ((نُدخل قلوبنا جميع أنواع / غرف الإنعاش/ نُجلس روحنا جانبنا ونسقيها / نخب انبثقاقها من الجسد العليل/ ونحن نُردد معك "نُحبُ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا")) وإذا كان المغزى الذى عبّرتْ الشاعرة عنه بقولها ((نخلع عن أجسادنا الرصاص)) يعنى نبذ العنف ، والصعود نحو ذرى مجتمع إنسانى تتوق البشرية إليه ، أى بالتخلى عن جميع أنواع الأسلحة التى تقتل ملايين الأبرياء ، فإنّ قولها فى البيت التالى مباشرة ((نُضمّد خدوش موسقى الجاز)) تعبير شعرى بالغ الدلالة عن أنّ المرحلة التالية على نبذ العنف والتخلى عن أدوات القتل ، هى مرحلة البهجة والاحتفال بمباهج الحياة ، وبدلا من أنْ يتشنج جسد الإنسان فى ساحات المعارك الدامية ، فإنّ هذا الجسد سيهبْ نفسه للطبيعة راقصًا على أنغام موسيقى الجاز ، تلك الموسيقى التى رأتْ الشاعرة أنها جريحة وفى حاجة لمن يُضمّد جراحها ، كدلالة على أنّ هذه الموسيقى التى هى إبداع الشعوب الأفريقية ، وانتشرت فى أمريكا وأوروبا ، ولكننا نحن المصريين ، لا نُمارسها ، رغم أنها قريبة من تراثنا ومن وجداننا .
كما أعتقد أنّ الربط بين عنوان القصيدة (محمود درويش) وأبياتها له دلالة على وعى الشاعرة بالتطور الشعرى للشاعر محمود درويش ، فإذا كان فى دواوينه الأولى تحكمه لغة الخطابة الحماسية التى تتبخر بعد قراءتها مباشرة ولا يبقى لها أى أثر ، مثل قوله فى قصيدة (بطاقة هوية) ((سجل برأس الصفحة الأولى / أنا لا أكره الناس / ولا أسطو على أحد / ولكنى إذا ما جُعتُ / آكل لحم مغتصبى / حذار.. حذار.. من جوعى ومن غضبى)) ورغم أنه ضد الإحتلال الإسرائيلى للوطن الفلسطينى ، وهو موقف لا خلاف حوله بين كل الأحرار فى العالم ، فإنه فى نفس الوقت يتخذ موقفًا مغايرًا من الشعب الإسبانى عندما قرّر تحرير أرضه من الغزاة بفضل الدور النضالى للملكة إيزابيلا وزوجها فرناندو عام 1492. عبّرالشاعر محمود درويش عن هذا التناقض الذى يُفرّق بين إحتلال وإحتلال ، ومقاومة ومقاومة ، فى قصيدته الطويلة المعنونة (أحد عشر كوكبًا – على آخر المشهد الأندلسى) فقال فى المقطع المعنون (كمنجات) ((الكمنجات تبكى مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس / الكمنجات تبكى على العرب الخارجين من الأندلس / الكمنجات تبكى على زمن ضائع لا يعود / الكمنجات تبكى على وطن ضائع قد يعود)) إلى آخر القصيدة التى تُكرّس للحلم الطوباوى البغيض ، حلم العودة إلى إحتلال إسبانيا بعد تحريرها . ولكن محمود درويش (وهذا ما وعته الشاعرة سهير المصادفة) فى دواوينه الأخيرة ارتفع إلى ذرى المعانى الفلسفية والإنسانية ، فكتب شعرًا سيظل خالدًا فى التراث الإنسانى ، بل إنه بدأ يُعيد النظر فى مقولة أنّ (العرب يُساندون الفلسطينيين) فكتب فى قصيدة (أحمد الزعتر) : ((وأحمد العربى يصعد كى يرى حيفا / ويقفز / أحمد الآن الرهينة / تركتْ شوارعها الآن المدينة / وأتتْ إليه / لتقتله / ومن الخليج إلى المحيط ، من المحيط إلى الخليج / كانوا يُعدون الجنازة / وانتخاب المقصلة)) إلى أنْ يقول قرب الختام ((تلك مساحتى ومساحة الوطن – المُلازم / موتٌ أمام الحلم / أو حلمٌ يموت على الشعار)) ويتطور أكثر نحو الفهم الحقيقى للصراع الفلسطينى / الإسرائيلى كما فى قصيدته الطويلة (جدارية) التى قال فيها ((باطل ، باطل الأباطيل .. باطل / كل شىء على البسيطة زائل ... لا جديد إذن / والزمن / كان أمس / سُدَى فى سُدَى .. للولادة وقت / وللموت وقت / وللصمت وقت / وللنطق وقت / وللحرب وقت / وللصلح وقت)) أما المعانى الإنسانية والفلسفية العميقة فيجدها القارىء فى دواوينه الأخيرة مثل ديوان (كزهر اللوز أو أبعد) حيث كتب ((كنتُ أحسب أنّ المكان يُعرف / بالأمهات ورائحة المريمية / لا أحد / قال لى إنّ هذا المكان يُسمى بلادًا / وأنّ وراء البلاد حدودًا ، وأنّ وراء / الحدود مكانًا يُسمى شتاتًا ومنفى / لنا . لم أكن بعد فى حاجة للهوية .. والهوية ؟ قلتُ / فقال دفاع عن الذات / إنّ الهوية بنت الولادة / لكنها / فى النهاية إبداع صاحبها ، لا / وراثة لماضٍ . أنا المتعدد / فى داخلى خارجى المتجدد / يُحب بلادًا ، ويحل عنها (هل المستحيل بعيد ؟) يُحب الرحيل إلى أى شىء / ففى السفرالحر بين الثقافات / قد يجد الباحثون عن الجوهر البشرى / مقاعد كافة للجميع)) (دار نشر رياض الريس – عام 2005) هذا التطور فى شعر الشاعر الكبير محمود درويش هو ما (هضمته) المخيلة الشاعرية للشاعرة سهير المصادفة ، فصاغته فى أبيات قليلة عبّرتْ فيها عن الجدل الأزلى بين التخلص من العنف عندما نمتلك شجاعة أنْ ((نخلع عن أجسادنا الرصاص)) لنتفرغ لتضميد جراح موسيقى الجازالأفريقية الجميلة .
وعندما تتذكرالشاعرة الشاعرأمل دنقل ، تبدأ قصيدتها عنه بخيانة الموعد فتقول ((يالك من خائن/ لماذا لم تأت فى موعدك؟)) وإذا جاء فى الميعاد فإنه سيجد ((دم طازج)) الذى قد يراه البعض (نقل دم) من إنسان لإنسان لإنقاذ الحياة ، وقد يراه آخرون (دم الغدر والثأر) وهو ما يؤكده البيت الثانى ((ونصال لامعة)) فى إيحاء بديع على ولع أمل دنقل بالثأر، خاصة فى قصيدته (مقتل كليب) حيث الرفض المطلق للصلح بين العرب من بنى بكر والعرب من بنى تغلب ، وأنّ الصلح لن يتم إلاّ بتحقيق المستحيل (عودة القتيل إلى الحياة) كما قالت اليمامة بنت كليب (القتيل) التى تذكرالرواية التاريخية أنّ اليمامة قالت ((أنا لا أصالح حتى يقوم والدى إلخ)) وهوما عبّرعنه أمل قائلا على لسان اليمامة ((أبى لامزيد.. أريد أبى عند بوابة القصر.. منتصبًا من جديد)) أى أنّ طلب المستحيل ليس له غيردلالة واحدة هى دوامة الثأر والمزيد من الدماء كما حدث فى القصة التاريخية التى استمرت أربعين عامًا. قصيدة الشاعرة عن أمل دنقل تدخل فى إطار الجدل مع المنتج الشعرى الذى مشى وراء الأيديولوجيا السياسية بصخبها وعنفها دون أية أدوات لإماكانية التحقق على أرض الواقع . وكما فعلتْ الشاعرة فى قصيدتها عن محمود درويش ، فعلتْ نفس الشىء فى قصيدتها عن أمل دنقل ، فهى بمثابة (المُنشط) لقانون التداعى الحر، فأنا عندما قرأتُ قصيدة (مقتل كليب) التى أخذت اسم (لا تُصالح) من مقطعها الأول ، تساءلتُ : كيف لشاعر أنْ يتبنى العنف ؟ بينما الإبداع يسعى لترسيخ التحضر ، وتضخم السؤال مع ولع الثقافة السائدة بهذه القصيدة ، كستار من الدخان يعمى عن حقيقة أنّ مأساة الشعب الفلسطينى لن تُنهيها قصائد التحريض ، بتوجهها الطوباوى المريض ، على خلفية تراث ماضوى ينص على ((إما نحن أو هم)) فإذا كانت مرجعية الشاعر أمل دنقل مستمدة من التراث العربى (مقتل كليب) وأنّ الصلح لن يتم إلاّ بعودة القتيل إلى الحياة ( = طلب المستحيل) فإنّ الاسقاط على قضية الشعب الفلسطيــنى ، يعنى طلب عودة عقارب الزمن إلى الوراء ، إلى عام تقسيم فلسطين ، أى إجراء عملية جراحية (إنْ جاز التعبير) فى جسد الماضى ، فتتنازل إسرائيل عن كل انتصاراتها الساحقــة ، ويعود الوضع كما كان قبل عام التقسيم ( = عودة القتيل إلى الحياة فى قصيدة أمل دنقل) هنا يتضح أنّ الثقافة السائدة المولعة بالشعارات لم تُدرك التناقض ، أو لم تنتبه إليه ، الذى وقع فيه أمل دنقل عندما قال ((إنها الحرب / قد تُثقل القلب / لكن خلفك عار العرب / لا تُصالح / ولا تتوخى الهرب)) صحيح أنّ الهرب مرفوض ، ولكن إذا كان الفلسطينيون خلفهم ((عار العرب)) فكيف يمكن أنْ يتخلصوا من هذا (العار العربى) وهم ملتصقون ببعض التصاق الجنين بالمشيمة ؟ هذا السؤال واحد من أسئلة كثيرة مسكوت عنها فى قصيدة أمل دنقل ، وطرحتها الشاعرة سهير المصادفة بلغة فن الشعر. كما أنّ قصيدة أمل دنقل تمتلىء بالصياغات التقريرية والبديهيات الطبيعية مثل قوله (( أترى حين أفقأ عينيك / ثم أثبتْ جوهرتين مكانهما / هل تـــــــــرى ؟)) فما هو الجديد الذى أضافه الشاعر لوعى القارىء ؟ لا شىء ، فأى إنسان يعلم هذه البديهية . كما أنّ الشاعر انزلق وراء الصياغة الشاعرية ، متجاهلا أنّ الإنسان الحر يرى ويُدرك ببصيرته أكثر مما يرى ويُدرك ببصره . وإذا كان الشاعر كتب ومضى ( فهذه رؤيته وهذا حقه) فإنّ الكارثة تكمن فى الثقافة السائدة المولعة بالإبداع أحادى النظر والذى يجتر تراث العنف ، دون أفق إنسانى ، يبتكر تصورات لمجتمع بشرى ، أقل تعاسة وأكثر سعادة . وكما احتفتْ الثقافة السائدة بقصيدة ( لا تُصالح ) سبق لها أنْ احتفت بقصيدة ( إما أنْ نكون أو لا نكون) ل (على أحمد باكثير) الذى قال فيها ((لا صُلح يا قومى وإنْ طال المدى / وإنْ أغار خصمنا وأنجدا / وإنْ بغى وإنْ طغى وإنْ عدا)) إلخ ، الفساد الشعرى هنا يكمن فى توظيف جملة شكسبير الفلسفية لأغراض السياسية ، وفوقها الكثير من الديماجوجية الفجة . مثلها مثل فساد طلب عودة القتيل إلى الحياة . وفى كل الحالات يجد العقل الحر أنه أمام دوائر عبثية من اجترار الذهنية العربية التى ترى ( إما الكل أو لا شىء) وهى ذهنية عبّر عنها شاعر عربى قديم (عمرو بن كلثوم) عندما قال (( لنا الدنيا ومن أمسى عليها / ونبطش حين نبطش قادرينا / طغاة ظالمون وما ظُلمنا / ونظلم حين نظلم بادئينا )) وكان أكثر وضوحًا ومباشرة عندما قال ((وإنّا أناس لا توسط بيننا / لنا الصدر دون العالمين أو القبر)) لذلك يتردد كثيرًا فى الشعر العربى القديم أفضيلة السيف على القلم ، أى أفضلية العنف على التحضر ، وكانتْ أكثر الصياغات تعبيرًا عن هذا التوجه ، ما كتبه المتنبى الذى قال (( حتى رجعتُ وأقلامى قوائل لى / المجد للسيف .. ليس المجد للقلم)) وعندما دخل (معد المعز) مصرسأله ابن طباطا العلوى عن نسبه ، فجذب نصف سيفه من غمده وقال ((هذا نسبى)) (أنظربدائع الزهورفى وقائع الدهور- تأليف محمد ابن أحمد بن إياس – تحقيق محمد مصطفى – هيئة الكتاب المصرية- عام 82ص 187) أليس تكريس العنف دعوة للانتحار الجماعى ، كما تفعل منظمة حماس التى ترى أنّ بقاءها وحصولها على أموال الشعوب العربية والاتحاد الأوروبى ، مرهون باستمرار شقاء الشعب الفلسطينى ، حتى ولو أدى الأمر إلى فنائه ؟ وكان أ. عبدالرحمن الراشد على حق عندما ذكر أنّ الرافضين لإطلاق الجندى الإسرائلى (شاليط) لا يهمهم مأساة مليون فلسطينى ، لأنّ ذلك لو تم فلن يكون هناك حصار ومواجهات وقضية يرفعون قميصها كل يوم لأغراضهم الأخرى ( صحيفة الشرق الأوسط 1/6/2010 ص 13) كل هذه المعانى تواردتْ إلى ذهنى بعد قراءتى لقصيدة الشاعرة سهير المصادفة عن أمل دنقل ، خاصة أنّ (النصال اللامعة) التى استخدمتها هى كناية شاعرية عن السيوف التى كان العرب يقتلون بها بعضهم البعض. أما المفاجأة التى قدّمتها سهير المصادفة فى قصيدتها فهى- كمعظم قصائد الديوان- فى الخاتمة التى لايتوقعها القارىء ، فالشاعرإذا جاء فى الموعد فسوف يجد (أيضًا) : ((موسيقى تصلح لنوم طويل هادىء)) فإذا كانت السيوف ترمزإلى إراقة الدماء، فإن الموسيقى (بوصفها رمز رقة المشاعر) لها قدرة التخلص من أوهام طلب المستحيل ، حتى وإنْ كان الثمن قتل المزيد من البشر.
الانتصارللحياة يأخذ شكلا آخرفى قصيدة (سَحْل) حيث الفتاة التى تنظرإلى اللاشىء ، ومع ذلك يقتلها ((ذواللحية البيضاء)) فى هذه القصيدة القصيرة جدًا (كأغلب قصائد الديوان) إدانة بالغة الأهمية عن تغلغل الأصولية الدينية التى لا يعترف أصحابها بحق الاختلاف ، وبحق حب الحياة بكل مباهجها ، ويرون أنّ البشر (فى أى مجتمع إنسانى) يجب أنْ تنطبق عليهم قاعدة (تطابق المثلثات) فى الهندسة . وأنهم وحدهم الذين يملكون الصواب المطلق وغيرهم فى (ضلال مطلق) وكانت الشاعرة موفقة تمامًا عندما جسّدتْ المفارقة (بلغة الشعر) بين القاتل ( ذو اللحية البيضاء) وبين الفتاة التى تمتلك عينيْن بريئتيْن يُخايلهما ((عرش الشمس)) .
وقصيدة (زيارة القتلى) تكتبها الشاعرة على لسان قاتل يندهش من أنّ نصف الذين قتلهم يراهم فى أحلامه ((زارعين على عروات ستراتهم أرقام ترتيبهم فى جنتى)) وتكون المفارقة فى ختام القصيدة ، فإذا كان (القتلى) يتوهّمون وينتظرون (جنة القاتل) فإنّ القاتل يتساءل ((من أين لى بباب أغلقه على هذا الجحيم؟)) هذه القصيدة القصيرة جدًا صياغة شعرية لمأساة البشرعبرالتاريخ، حيث تلك العلاقة الشائكة بين الضحية والجلاد ، ولماذا يتوهّم الضحايا أنّ جلادهم هومنقذهم وأنّ الخيرلن يأتى إلاّ على يديه كما عبّرعن ذلك فؤاد حداد الذى ذاق ذل الاعتقال فى معتقلات عبدالناصرومع ذلك كتب عنه فى قصيدة (استشهاد عبدالناصر) : ((فين طلعتك فى الدقايق تسبق المواعيد/ يا فجر يا حضن مصرى يا أحن شهيد / والابتسامه اللى أحلى من السلام بالإيد/ والمجانيه ومرايل بيضا والأناشيد/ تؤمرلى بحقوقى وهدوم الولاد فى العيد)) (نقلا عن بهاء جاهين – أهرام 23/7/2002 ص 34) هل هى الأيديولوجيا مُغلقة العقول ؟ أم أنّ أسبابًا أخرى تكمن فى حب الضحية لجلاده؟ أم هو تراث عبادة البطل (الفرد) رغم كل جرائمه . ولأنّ التراث العربى لم يؤسس (العقل الفلسفى الناقد) لذلك لم يخطر على بال أى كاتب عربى أنْ يصيغ ما كتبه الفيلسوف الألمانى (هيجل) الذى قال ((سحقًا لأى شعب يحتاج إلى (بطل) مهما كان هذا البطل)) ؟ أسئلة فلسفية كثيرة تطرحها قصيدة سهير المصادفة بشاعرية أخاذة ، وبكلمات قصيرة فتقول على لسان القاتل (( نصف الذين قتلتهم / يأتون إلىّ فى الحلم راجلين / ناثرين دماءهم على المدى / معلقين قلوبهم فى خزانة غرفتى / زارعين على عروات ستراتهم / أرقام ترتيبهم فى جنتى / من أين لى بباب / أغلقه على هذا الجحيم)) .
وتأتى قصيدة (جرح العندليب) كلحن مكمل ومعمق لما سبق ، فالطائر المُغرد والمُحلق فى فضاءات الحرية ((جناحاه مترهلان)) ويعيش على الأرض (حياة الأوزآمنًا) ورغم ذلك يحن ((لدنيا الهوى/ ودفء البنادق)) فى أربع كلمات صاغتْ الشاعرة التعارض الحاد بين الحب والقتل. ولأهمية هذه القصيدة ، وكتأكيد على موهبة الإيجاز والكثافة الشاعرية ، رأيتُ أنْ أنقلها بالكامل للقارىء ، عله يُشاركنى الرأى . تقول كلمات القصيدة ((غريبٌ أمرهذا العندليب / جناحاه مترهلان / وفى الصدرجرح / فلماذا يحن / بعدما عاش على الأرض / حياة الأوز.. آمنًا / لدنيا الهوى / ودفء البنادق)) فهذا العندليب المترهل هو كل إنسان قانع بالذل ويعيش وهم إمكانية الجمع بين نقيضيْن . وتأتى قصيدة (فارس) لتكون أشبه بالديالوج مع القصيدة السابقة فتقول كلماتها (كُنْ مرة واحدة فارسًا / وتعلم أنْ تبحث عنى / عند ضعف القناصين / جرّب مثلا / أنْ تموت كمدًا فى مكانك / وأنْ تحزن/ ولو من أجل شجرة صامدة) هنا الإيحاء أبلغ من الإفصاح ، فالشاعرة تُقيم حوارًا جدليًا (بلغة الشعر) بين العندليب المترهل ، والفارس (المنشود) (كنْ مرة واحدة فارسًا) أى الإنسان النبيل القادرعلى تأمل (الصمود) ولو فى شجرة ، لأنّ تأمل صمود الأشجار، هو فعل الإنسان الحرالقادرعلى مقاومة كل أشكال الانكسار.
وفى قصيدتها عن الفنانة اللبنانية فيروزكتبت ((لو لم تُطلق فيروزالحمام إلى السماء/ لو لم يزرع هوى أيامها وضيعتها / أشجارالأرزعلى الجبال/ لانفرط ثقل الصباح/ على وجهنا بدون كرامة)) ويبدوأنّ المبدعين الحقيقيين يتفقون فى المعانى دون لقاء ، إذْ أنّ نفس المعنى عبّرعنه الراحل بيومى قنديل فى ديوانه (كل شى ن كان) فى رباعية عن فيروزفقال ((شوباش علا الشرق جالناش منه إلاّ الرزايا/ لولاشى صوتك غفرللشرق كل الخطايا)) وكما كتبتْ سهيرالمصادفة عن الصوت الملائكى صاحبة المواقف الإنسانية النبيلة (فيروز) كتبتْ قصيدة بديعة عن (زرياب) أول من أدخل غناء المشارقة إلى المغرب . فى هذه القصيدة تستلهم الشاعرة قصة حياة الملحن والمطرب (زرياب) لتُقيم عالمًا متوازيًا غيرقابل للتقابل ، عالم الفن وعالم العداء للفن ، إذْ أنّ زرياب (أبوالحسن على بن نافع) المتوفى حوالى عام 852م كان أسود اللون وهومولى الخليفة المهدى ، ولُقّب بزرياب لسواد لونه وفصاحة لسانه ، تشبهًا له بطائراسمه الزرياب . أخذ (زرياب) الغناء فى أول الأمرعلى يد إبراهيم الموصلى ، ثم على يد ابنه إسحاق . ولكن إسحاق خشى تفوق زرياب عليه ، فأبعده عن بغداد ، فرحل زرياب إلى القيروان بالمغـــــرب ، فغضب عليه (زيادة الله الأعلى) فركب البحرإلى الأندلس . والألحان المعروفة بالموشحات الأندلسية ترجع إلى زرياب . كما أنه قام بتعليم تلاميذه الإيقاع لضبط حركات اللحن ثم الغناء (لمزيد من التفاصيل : أنظرالموسوعة العربية الميسرة- ط 1 عام 1965ص 923، 924) بهذا المدخل (المعلوماتى) نستطيع أنْ نفهم قصيدة الشاعرة التى استوعبت التراث بجانبيه الإيجابى والسلبى فهى تبدأ قصيدتها هكذا ((زرياب أول الفارين / من ألحانك / فى كفيه استدارتْ بغداد / وعلى عينيه / استقرتْ حراشف الفتاة / التى تبغى صهيلك / أو سُكاتك / أيها المغنى / يا طيب اللحن / لماذا لا تُلقى بها / لتستريح أخيرًا فى نغماتك)) .
وكما أقامتْ الشاعرة جدلا مع التراث العربى الرافض لبهجة الحياة (الرقص والغناء نموذجًا) أقامت جدلا مع التراث المصرى القديم فى قصيدتها المعنونة (تمثال الكاتب المصرى) التى تبدأها هكذا ((شجرٌ إذا ما زارقلبى صباحًا أخضر/ تحوّل إلى جميع ألوان المحبة)) ولكن قرب نهاية القصيدة نجد أنّ المناجل ((تُصرعلى ترتيب أخطائى / على عتبات الآه / وعلىّ أنْ أمشى / وأنْ أختارمفتاحًا لبحرمن البحار/ السماء ملتصقة برأسى / جنتى أصنعها على هواى / وأنصال سيوف لامعة / تُجبرنى على الجلوس القرفصاء)) هنا لاتستلهم الشاعرة التراث المصرى القديم فقط ، وإنما تتماهى معه ، فهى تصنع جنتها على هواها ، بالضبط كما جاء فى البرديات المصرية القديمة عن وصف حقول اليارو ( أى الجنة ) وأشهرهذه البرديات كتاب (الخروج إلى النهارالذى أخذ ترجمة خاطئة هى كتاب الموتى) ففى هذه البردية الموجودة فى المتحف البريطانى برقم 10470 وتحمل اسم صاحبها المرحوم (آنى) الذى حكمت المحكمة برئاسة الإله أوزيربدخوله حقول اليارو، تُصوّرالبردية المرحوم (آنى) وهو يُمارس ما كان يُمارسه فى حياته على الأرض ، أى الاشتغال بالزراعة ، ونراه وهويقود زوج من الثيران أثناء دراس القمح ومنظرالجرن الذى يوضع فيه القمح إلخ (أنظرترجمة عالم المصريات محسن لطفى السيد الذى حرص على وضع النص الهيروغليفى مع ترجمته إلى اللغتيْن العربية والإنجليزية- مطابع روزاليوسف عام 2004ص 492) أما النصال اللامعة فى القصيدة ، وما تبعها من الجلوس القرفصاء ، فهو جدل الحاضرمع الماضى ، فإذا كان جلوس الكاتب المصرى القرفصاء أحد رموزالحضارة المصرية التى أطلق عليها علماء المصريات ((حضارة الكتابة)) حضارة صنعها المصريون ((لأنها حضارة لم تعرف النصوص المنزلة " من السماء ")) (أنظرالحياة اليومية للآلهة الفرعونية- تأليف ديمترى ميكس ، كريستين فافار ميكس – ترجمة فاطمة عبدالله محمود – هيئة الكتاب المصرية- سلسلة الألف كتاب الثانى – عام 2000ص 15) و((أول حضارة إنسانية عظيمة معروفة)) (أنظرفرنسوا دوما- حضارة مصرالفرعونية- المجلس الأعلى للثقافة- عام 98ص 541) فإنّ الشاعرة ترى أنّ الجلوس القرفصاء (حاليًا) جاء نتيجة إجبارمن السيوف اللامعة ، فهل تقصد سيوف الأصوليين المعادين للحضارة المصرية ؟ سؤال طرحته علىّ كلمات القصيدة مع مجمل أعمال سهيرالمصادفة الشعرية والروائية. ولعلّ مناجاتها الأسيانة فى قصيدة (اعتراف) أنْ تكون دليلا على ما أذهب إليه ، فهى متيمة بالوطن وب ((حواريه الضيقة.. وخفة ظل زحمته فى الظهيرة)) ولكنها (رغم كل ذلك) تنحصرأمنياتها فى ((فكوا من على روحى سلاسل جهلكم .. سأعترف بأنى راكعة أمام شمسه القاسية.. وعتبات جداته الحكيمات ونسائه المتعبات.. وسماجة فتيانه العابرين.. أنا والهة فارمونى بلا رحمة على صدره الصلد العنيد)) فإذا كانت الشاعرة فى بداية القصيدة متيمة بالوطن ، ولاتــُزعجها حواريه الضيقة إلخ ، فإنّ ما يقتل روحها سلاسل الجهل ، لذلك تختتم القصيدة (وهى فى حالة وله) بأنْ ترتمى على صدرهذا الوطن رغم كل شىء. نفس المعنى يتردّد فى قصيدة (قميص أزرق) فقالت ((أنْ يضيق القلب / على قميص أزرق / بلون نيل محايد / يلعب دورقوّاد / ليست هى بحال من الأحوال / نهاية الحياة)) فكلمة (محايد) التى وصفت بها النيل هى المفتاح لفهم رمزالنيل كشريان لحياة شعبنا ، وصمته ( = صمتنا نحن) ليس عن تلوثه فقط ، وإنما عن استغلاله فى أعمال غيرمشروعة وهى ما أوحت به فى تعبير((يلعب دورقوّاد)) ولعلّ موقف الشاعرة الرافض للمتغيرات الاجتماعية والثقافية التى أثرتْ بالسلب على شعبنا ، هوما دفعها لأنْ تكتب فى قصيدتها المعنونة (قصيدة) : ((سأكتب يومًا ما قصيدة / يتفق على جمالها الأصدقاء / والناس قاطبة / ينثرون على عينيها الأغانى / ينهشون استدارة صدرها / فى الزوايا المظلمة / فاتحين جلدها الوردى / ليقفوا على سرها)) وتكون المفاجأة (الفاجعة) فى البيتيْن الأخيريْن حيث ((ولن يتركوها / إلاّ وأنا جثة هامدة)) وإذا كان عنوان الديوان هو (فتاة تُجرب حتفها) فإنّ الشاعرة كانت موفقة وهى تُرتّبْ القصائد ، إذْ جعلتْ قصيدة (حكمة الفتى) آخرقصائد الديوان وفيها نقرأ ((الشفقة لا تجوز على / فراشات تحترق / لم نحتس نحن ذروة اشتعالها / يا عمُ / الفتيات مثل النجوم / معلقات بحفنة دموع / ولكل واحدة منهن / لونُ حتفها المحتوم)) هكذا ربطتْ الشاعرة بين عنوان الديوان وآخرقصيدة ، كتأكيد لما هو منثورفى كل القصائد عن تلك العلاقة الجدلية (الأزلية) بين الحياة والموت ، وبلغة الشعر وبأقل الكلمات .
الوصف واللغة الشاعرية المفارقة :
فى قصيدة (صمت) تقول الشاعرة ((بالقطع بعد الصمت صمت/ وسنوات من النسيان/ بالقطع من كفيك / سوف ينبتُ نخل وميزان)) فالميزان هنا رمزللعدالة يتجاورمع النخل رمز الزراعة التى هى مبتدأ الحضارة ، وهو ما يدل على وعى الشاعرة العميق بمفردات الحضارة المصرية ، حيث أبدع جدودنا إلهة للعدالة (ماعت) وإلهًا للشمس (رع) وإلهًا للنيل (حابى) وإلهًا للحبوب (نبرى) وإلهة للحصاد (رنوتيت) ثم تكون المفارقة فى ختام القصيدة حيث ((وتصب علينا الشمس رغوة نورها / فنبكى)) فإذا كانت الشمس تُسقط الضياء والحرارة ، فضياؤها هنا (رغوة نور) بما للرغوة من دلالات الفقاقيع فكان من الطبيعى أنْ يكون البكاء. وفى قصيدة (لحن) يقول المايسترو أنّ الأنامل لاتكفى لعزف هذا اللحن ، فتكون النهاية ((ومات على خاصرة اللحن/ مُشيّعًا بصوت السنابل)) وفى قصيدة (نحوالغسق) فتاة (تلوك بعض الحشائش/ من منتزه القلب الورع) وهى تُشبه ((مقعدًا فارغًا فى حديقة موحشة)) وتكون المفارقة فى الختام حيث ((من قال أنها تعانى من وحدة)) وقصيدة (آخر المقطع) تبدأ هكذا ((آخرهذا المقطع سينتحرالمُغنى) فهل انتحر؟ تأتى النهاية مفارقة للبداية ، إذْ أنّ المُغنى ((سيودع فضاء اللحن/ كما يليق بفارس/ يدخل قرص الشمس/ بمهمازفضى/ ليضمن لهذا المشهد البقاء)) وفى قصيدة (اليوم) جهّزتْ الشاعرة سفنها للإبحار. واختلستْ وردة ذابلة خبّأتها فى قميصها. ورغم أنّ اليوم صحوٌ تأتى المفارقة ((وكم يصلح أنْ يكون طعامًا / لوحوش كاسرة)) وفى قصيدة (المرايا) فتاة تسير((على حنق المرايا / وتزرع فوق ذراع الحبيب / سِوَارًا من طين / ظلها ولظاها)) فالطين الذى يُخصب الأرض ، صنعتْ الفتاة منه سِوارًا حول معصمها ، ولكنه سيكون الظل (كرمز للحماية والاحتماء) وفى نفس الوقت سيكون اللظى (كرمزللهجير والتصحر) وفى قصيدة (عازف البيانو) جمعتْ صياغتها بين توظيف الأسطرة ، وإدانة تراث العبودية ، وإدانة إقصاء الآخرالمختلف بلغة الفن الآسرة ، وكنتُ أقرأها وكأننى أستمع إلى قصيد سيمفونى ، حيث تقول كلماتها (( أكان لابد / لكى أجدك / أنْ تقصّ زوجاتُ الغول / من شعرى بلادًا كثيرة / أنْ يسألنى كلُ بوابِ مدينةٍ أجتازها / عن ولع الروح / فى الجسد الشاهق / وعن أحلى أسيرة / أنْ يلهو الأطفال فى شوارع قلبى / بأحذية غليظة / وأنتَ هنا / طُوال الوقت / تعزف بأصابعى / أغنية طويلة)) وبالتوازى مع إدانتها لكل أشكال الأحادية الفكرية المدمرة لأى مجتمع بشرى ، دافعتْ (بلغة الشعر) عن التعددية التى هى أساس أى تحضر، فكتبتْ فى قصيدة (اختلاف على صوت فيروز) : ((على الأرغول نموت تارة / إنّا اختلاف عائم وغارق لا محالة)) والمفارقة الشعرية هنا تكمن فى الجدل بين أطراف الصراع الحضارى حول قضية حق (الاختلاف) فمن هوالذى سيتمكن من السباحة ومن الذى سيغرق ؟ هكذا صاغتْ الشاعرة تلك القضية المصيرية بست كلمات ((إنّا اختلاف عائم وغارق لامحالة)) أى إما النجاة أو الغرق . واللغة المفارقة نجدها (كذلك) فى قصيدة (نجاة الصغيرة) حيث الفتاة ((تحنُ إلى نبضة فى الوريد / تسيرعلى هواها / لتكتب شعرًا لا تُغنيه نجاة الصغيرة / ولا تهتف به فى خدورهنّ / الصبايا)) ولكن فى البيتيْن الأخيريْن تكمن المفارقة ، فهذه الفتاة التى تكتب الشعر((ترسم على كل ثغرجميل / كارثة مدوية وآية)) وعلى نفس المتوالية تُشعرنا الشاعرة بالمفارقة فى قصيدة (نحو الغسق) حيث ((تصعد الفتاة نحو الغسق / تُنير رغبة متقنة / على حافة دمعة مورقة / تلوك بعض الحشائش / من منتزه القلب الورع)) وتأتى المفارقة فى ختام القصيدة حيث ((من قال إذن / أنّ الفتاة التى / تُشبه مقعدًا فارغًا / فى حديقة موحشة / تعانى / من وحدة)) وهكذا فى كل قصائد الديوان ، لغة شاعرية مفارقة للمألوف ، ولكنها تعكس تراجيديا الحياة فى جدلها مع الموت ، فنكون إزاء معانى فلسفية بلغة الشعر، وبكلمات قليلة يكتبها البعض فى عدة صفحات ، بينما فى هذا الديوان فى نصف صفحة.
*****



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التراث الإنسانى بوجدان وعقل الأنثى
- يونيو67، يونيو2012
- هل العلمانيين واليسارالإسرائيلى خرافة؟
- هل سينحاز الرئيس للعدالة أم للسلطة ؟
- من بعيد : نور من عصر التنوير المصرى
- الشعر عندما يكون مصرى اللغة والوجدان
- الغزو العربى وكيف تعامل معه المؤرخون
- الشخصية المصرية ونتيجة الانتخابات
- الجذورالتاريخية للشريعة الإسلامية
- قراءة فى دساتير بعض الدول
- الغزوالعصرى لأسلمة شعوب العالم
- الإبداع المصرى فى مجموعة (عيب إحنا فى كنيسة)
- الحب والتعددية فى مواجهة الكره والأحادية
- مِن القومية الإسلامية إلى القومية المصرية : لماذا ؟
- ثورة يناير والإبداع الروائى
- الأعياد المصرية : الماضى وآفاق المستقبل
- الطبقة العاملة واليسار المصرى
- مجابهة الأصولية الإسلامية
- التقويم المصرى
- الحضارة المصرية : صراع الأسطورة والتاريخ


المزيد.....




- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...
- -تصريح الدخول إلى الجنة-.. سائق التاكسي السابق والقتل المغلف ...
- سيون أسيدون.. يهودي مغربي حلم بالانضمام للمقاومة ووهب حياته ...
- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثاني أيام الفصح اليهودي
- المقاومة الإسلامية في لبنان .. 200 يوم من الصمود والبطولة إس ...
- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...
- الأرجنتين تطلب توقيف وزير الداخلية الإيراني بتهمة ضلوعه بتفج ...
- هل أصبحت أميركا أكثر علمانية؟


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - حميمية العلاقة بين الموت والحياة