أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاتف بشبوش - عبد الفتاح المطلبي , بين السرد والتهويم ............2















المزيد.....



عبد الفتاح المطلبي , بين السرد والتهويم ............2


هاتف بشبوش

الحوار المتمدن-العدد: 3772 - 2012 / 6 / 28 - 00:23
المحور: الادب والفن
    


في نص ياليل بغداد
ياليل بغداد أمن خمر
سكرى نجومك ام من السحر
......
وصرخت تبا للزمان وتب
ما كان ابخله على الحرّ
....
لي في الهوى سرّ سكرتُ به
خمرا وشيطانا من الشعر
........
فوجدتُ انك في الفؤاد هوىً
يجري به كتسلسل النهرِ
.......
العشقُ يهزأ من سيوفهم
حتى وان وضعت على النحرِ

الليل .. الليل.. ذلك السواد العظيم , الذي يمتلك ملايين من العيون اللامعة وينتصفها القمر الذهبي , الليل الذي دوّخ الشعراء , والصوفيين , واصحاب الشأن الفلكي , وعشاق الغزل والاسرارالدفينة في طياته ( وليل كموج البحر أرخى سدوله ) .. (الليل ياليلى يعاتبني , ويقول لي سلم على ليلى , والحب لاتحلو نسائمه الا اذا غنى الهوى ليلى ), ام كلثوم حين يصدح صوتها ( الليل الليل , ودقّت الساعة ) , عمر ابن ابي ربيعة الشاعر الماجن حينما عجزت منه عشيقته في أنْ تنهيه من الاتيان الى الضعن في وضح النهار خوفا من عيون الناس والاهل والعشيرة , فقالت له في البيت الاخير من قصيدة طويلة ( لقد أعييتنا حجة ً فأتِ اذا ما هجع َالسامرُ .. واسقط علينا كسقوط الندى ( ليلة) لاناهٍ ولا زاجرُ .
إذن هو الليل مخبئ العشاق وحاميهم ومنقذ أمانيهم , ومدثرغرامهم اذا مانام الانام .. الليل اتخذه الكثير من الخمارين لمداواة لواعجهم , لتهدئة جنون الساعات النهارية التي تعصف بهم بين اونة واخرى , الليل يتخذه الشعراء ايضا كرمز للظلمات .
وصرخت تبا للزمان وتب
ما كان ابخله على الحرّ

الزمان وفعاله لايحالف العاقل ولا الحرّ ولا الطيب ولا صاحب المروءة , بل دائما نراه يشد الازر مع الماردين والشياطين واصحاب السوء , ولذلك نرى أصحاب الشأن الرفيع وذوي الاخلاق الحميدة مركونين في صومعاتهم, ولكنهم صامدون ابد الدهر ولا تلويهم الاعاصير مهما كانت , لكنهم في تساؤل دائم , عن تفسير الحياة ومآربها , عاشقون للارض والجنس الناعم , الهوى يسري في نبضهم أبدا , كما نرى في النص أدناه.....

تباريح
سلا القلبُ من جالتْ زماناً بنبضهِ
فأزمعَ أن ينسى الهوى بعدَ حفظهِ
وأورقَ من نبتِ التذكّرِ دغلهُ
وما أمرعَت الاّ السفا فوقَ أرضهِ


مهما فعل الانسان ضد ماتريده الطبيعة واراد ان يتصور انه في بوابة الصواب , لم يجد نفسه الا وقد ركب القطار الخطأ , القطار الذي يرجع به الى محطات يكره ان يراها او ينزل بها , أنها محطات الفلاش باك , أنها محطات الحب الذي انتهى الى الجنون والفشل , أو الفاجعة والموت , وكل هذه اللواعج تخلق لنا أدبا غزليا وتشبيبا قرأنا عنه الكثير ومن شعراء فحول أو مغمورين , انه الغزل بالانثى الذي انفرد بالتسمية وعلى دروبه تخلد الكثيرون , وفي رياحه طار المجانين بلا عودة , وفي ثناياه تصلب عود المحبين عذريا , كما في المحاورة العذرية بين جميل وبثينة , حيث هم جالسون على ترعة من الماء , وكان يصغي اليهم الشاعر ( كُثير عزة) وقد خبأ نفسه وراء صخرة , فسمع بثينة وهي تقول الى جميل , ياجميل ماذا تبتغيه مني , فقال جميل جوابا عذريا خالصا ( لا والذي تسجد الجباه له ... مالي بما تحت ثوبها خبرُ .... وبفيها وما هممتُ بها .... الا ّ الحديث والنظرُ) , مما أثار أعجاب( كثير عزة) وتصديقه لما تناقلتهُ الالسن عن الحب العذري بين جميل وبثينة .
غزلُ ركبَ صهوة حب الارض , والذاكرة الميتة , وهنا اذكر على وجه التحديد قول الشاعر اعلاه (وأورقَ من نبتِ التذكّرِ دغلهُ..........وما أمرعَت الاّ السفا فوقَ أرضهِ) , الشاعر هنا تكلّم وكأن اللاشعور يمضي في دمه , حيث تناسى بأنه مهندس زراعي ولذلك جاء البيت مع البوح الحقيقي الذي يتحدث عن عالم النباتات , ولم لا , فهناك نص سومري جميل يتكلم عن النباتات لما فيها من حياة للبشرية جمعاء , والنص من رحلة (ننا الى نفر) .... وهو عن حب الانسان ايضا الى الطبيعة وجمالها لنقرأ ذلك......
في الحقل أعطني مزيدا من القمح
في النسيان أعطني مزيدا من النخلِ والعنب
في الاهوار أعطني مزيدا من العشبِ والقصب


ثم يستمر الشاعر مع العاشقين والحب وما يفعله بالمحبين......

رأيتُ قلوب العاشقين وقد غدتْ
نثارا على طول الطريق وعَرضهِ

ارى الشاعر في هذا البيت محدثا رائعا وان كانت القصيدة تنتمي الى الماضي البعيد . أورفيوس وقصته وكيف ذهب الى العالم السفلي في سبيل ارجاع حبيبته , ومن ثم فشله في في النهاية من انقاذها , ثم بعد ذلك قطعت النساء جسده الى أشلاء ومن ثم حرقه , وتوزيعه نثارا على الطرقات , وظلت ترقص على أغانيه جميع الطيور والنباتات , والعشاق , بل حتى الصخور , كما تقول الاسطورة . أنه حب الجسد الذي يرتبط مع الروح , وكأن العاشق يقول ,أنّ حب جسدك هو الذي مازلت أرغب , أما روحكِ فباستطاعتها ان تشنق نفسها , فلديّ من الروح مايكفي .

عبد الفتاح المطلبي والقصة القصيرة ...
القص هو اتباع الاثر , يقال , خرج فلان قصصا في أثر فلان , اي اتبع أثره , ويقال ان القاص يسوق الكلام سوقا لاتباعه , وفي القص صورة واضحة للمفهوم الفني الذي تدور حوله مفاهيم التنظير لفن القصة التي تعتمد على اللغة ( لسان العرب لابن منظور) , ولقلة انتشار الكتابة قبل الاسلام كان العرب يعتمدون على الرواية والقصة حسب مانقله لنا بعض المستشرقين مثل رينان الفرنسي وديسبور . وقد قال كارل بروكلمان الالماني ( لم يكن الشعر وحده هو الذي تهفو اليه الأعين عند عرب الجاهلية , بل كان القاص يقوم مقاما هاما الى جانب الشاعر في سمر الليل , واما اليوم القصة اصبحت طاقة بشرية ولها الاثر الأجلّ , وهي بمثابة الشعر القصصي او الملحمي للشعوب المنظورة , واليوم القصة التي تتخذ شكل الرواية الصورية في الفن السابع , قد اكتسحت بقية الاجناس الادبية , ولذلك أني أرى على كاتب القصة القصيرة ومن الذين لهم القدرة على السرد الواسع ومنهم عبد الفتاح المطلبي أن يحاول القفز الى كتابة الرواية الحركية , التي تتسم بالنشاط والبعد الشاسع في تسليطها على مساحة اكبر من الشرائح الاجتماعية وجعل الاشخاص يحركون الرواية بشكل مستمر بحيث تتوافق مع الصورة الحركية في السينما , كما وان هذا المجال هو الاوسع في عالم الشهرة , وخدمة الانسان في عملية النمو الثقافي , وكسب الرزق , كما حصل للروائية التشيلية , ايزابيل الليندي , او الروائية الخرافية البريطانية (جوان كاثلين رولينج ) التي كتبت السلسلة الروائية الرائعة للاطفال ( هاري بورتر) , وقد استخدمت الحيوان في محاكاته , كدرس اخلاقي أو للتسلية او للموعظة والنقد اللاذع , وهي اليوم من الاثرياء الكبار في العالم من خلال السرد الروائي ,كما وان السينما لايمكنها العمل دون الرواية ( اعطني خبزا وسينما اعطيك شعبا مثقفا ) . بلدان الغرب تقدمت علينا بالكثير , بل لايوجد نسبة في تقدم الرواية في مجال السينما , بما نشاهده في غزو الافلام الاجنبية لصالات السينما العربية .
ان قراءة الرواية صوريا هي اسهل في ايصالها بالنسبة للمتلقي , وهي كفيلة بأن تؤثر في عقلية الفرد العادي , وليس الفرد الذي ينتمي الى النخبة , وهذا له الاثر الكبير في احياء الشعوب نحو مستقبل أفضل , بينما نجد عراق اليوم لايمتلك صالة واحدة , فكيف للروائي ان ينعش ذاكرته كي يكتب لنا مايريد . أننا أمة ابتدأت بالقص لكنها ظلّت تراوح في مكانها بعد قرون عديدة .
القاص عبد الفتاح تناول العديد من المواضيع الهامة في سرده , والتي تخص البشرية في الصميم , وماهو دور المال, والصراع الطبقي ودوره في ثقافة الانسان وانتماءه , و قد تناول الحيوان ايضا( الكلب) في حواريته , في سبيل ايصال النقد الذي يريده , او اعطاء الدروس والعبر من خلال الحيوان كما قلنا أعلاه .

قصة ( شرفة على الجهات الاربع) ......

1ـ لكنني بدأت أنشغل بما يحصل هناك من أعمال مريبة نبهني إليها بالصدفة الحديث العابر الذي سمعته بين اثنين في المقهى تحت العمارة أثناء تناولي لقدح الشاي اليومي قال لرفيقه إنهم يزيفون تاريخ إنتاج العلب و يسربونها( للشورجة)* بعلب جديده تحمل تواريخ إنتاج حديثة , ياللعنة لم يكن أحد لينتبه لذلك مع هذا الكم الهائل من صور المقدسين و رقع آيات الذكر الحكيم المكتوبة بشتى الألوان و أولئك الناس الذين تبدو عليهم كل عدة الوقار المعروفة فصرت كلما أنظر لهذه الشرفة أصاب بالغثيان و يضطرب تفكيري ولا أستطيع التفكير بمشكلتي .
2ـ لكنني تذكرت أنهم حذروني من أن أزعج صاحبة الشرفة لعلاقتها الحميمة بصاحب العمارة حتى إن إبنها اليافع يسرح ويمرح في العمارة دون رقيب وحسيب فقلت ، سوف لن أتجاوز حدودي مع هذه النَصَف الفاتنة لكن رغم سنواتي الستين فقد بدأ قلبي يخفق قليلا كلما ظهرت هذه الفاتنة تسقي أصيصها بإبريق السقي الأزرق الجميل كاشفة عن تقاسيم جسد جميل عند انحنائتها لسقي زهورها .
3ـ يوم فقدت مبلغا محترما من المال كنت متأكدا من وجوده بجيب سترتي الداخلي المعلقة على شماعة الملابس لاحظت إبنها المدلل يتجه من عمارتنا إلى عمارتهم وهو يتلفت بشكل مريب وينظر بشكل مستمر نحو مكان جلوسي في الشرفة حيث كنت أراقب أمه الجميلة .

حتى السرقات اصبحت فنون تمثيلية وحيلُّ لاتصدق , حيث ان ّ الأم تستثمر الاغواء لرجل ستيني العمر , بينما الابن يقوم بأحتراف السرقة, سرد يتعدى اللصوصية المنفردة والاغواءات الذاتية , بل هي مشكلة مجتمع بأكملهِ , بل عالم باطل يسرق بالقوة , هناك اغنية لطفل امريكي يسخرُ فيها من جورج دبليو بوش وسرقته للنفط العراقي ويقول( لقد خاض حربا كبرى من أجل غالون نفط .. من هو ... هو الغبي بوش) .
أما الجالسون على الجهات الاربع , يُخيّلُ لي أنهم يرددون أغنية مغني الشعب الجميل فؤاد سالم ( انا براس اربع طرق لكعد ونادي) .
ثم يتحدث القاص عن العمر الستيني , العمر الذي عاشه وجسده جيدا الممثل الشيوعي الشهير والملحد حد العظم شارلي شابلن الذي تزوج في عمر الثالثة والستين وانجب ثمانية من البنات والبنين . أما في ثقافة الشرقيين فان عمر الستين هو عمر الشيخوخة , لانّ ثقافتنا , هي ثقافة اليأس والتشاؤم والبكاء واللطم على الصدور والارتكان الى العزلة و حسن الختام , بعد انْ كنا فاسدين مارقين في أيام الشباب والحيوية والنشاط الجنسي .
هذه القصة على غرار قصة الروائي الفرنسي الشهير البير كامو , والتي تتحدث عن أم وابنتها , تمتلكان فندق صغير , وتقومان بقتل النزلاء في الفندق , ومن ثم سرقة مايملكون من نقود , وفي يوم , جاء نزيل الى الفندق , وكان يبحث عن أمه وأخته ,وقد استغرق وقتا طويلا في البحث عنهما , وتأتي به الاقدار الى هذا الفندق الذي تمتلكه الام وابنتها , وتقوم البنت بأغوائه واستدراجه , حتى تقومان بقتله بطريقة بشعة كما النزلاء السابقين , وأثناء سرقة جيوبه , تجد الأم أنه يحمل اسم ابنها الذي فقدته قبل عشرين عام , والبنت التي قامت بأغوائه هي أخته , أنه القصاص العادل بحقهنّ , لان أرواح الضحايا ظلّت تطاردهنّ , حتى النهاية المؤلمة التي أنتهت بقتل الابن على يد أمه وأخته . هي هذه البشرية وفعالها المدمر , قتل وسرقة وصراع وخبث وأفعال شريرة , لانعرف متى نهايتها .

في قصة ( حلم وردي) ...

الخوف حيوان بري يزحف في دواخلنا، وفي لحظةٍ ما سيلتهم بعض أجزائنا دون أن نشعر، يشغلنا وينشغل بنا ,حتى القضاء علينا أو التخلي عما تبقى منا بمزاجه، بعد هذه الرحلة المليئة بالرعب منذ اندلاق الكف ّمن الردن الزيتوني على معصمي ولغاية هذه اللحظة التي صحبني فيها المأمور إلى قاعة المحكمة الخاصة في قعر بناء لا حدود له لأعترف بكل ما لديّ، حتى السعلة و إطلاق الريح في اللحظات العصيبة كما أوصاني بعضهم قائلا إن كل ذلك يؤخذ بالإعتبار وسيعلمون بما تترك متعمدا، بعد هذه الرحلة إعتادني الخوف وصاحبني كحيوان داجن، وهكذا بدأت باعترافي بعد ما نبهني المخيف المهيمن فوق المنصة العالية بأنهم يعرفون حتى عدد شهيقي وزفيري المضطرب في ليل السجن البهيم، فقلت: نعم سيدي كل شيء كل ما تريد...وكما تحدثت به مع رفيق السجن.

الخوف والندم من المفاهيم الاخلاقية , الخوف هو نفسه منذ فجر الزمن , حينما حاول الرجال مواجهة الحيوانات المفترسة , الدم ينزل من الوجه الى سائر الجسم ليحميه من ردود الافعال للحيوان المعني , ولذلك يرفض الجسم التحرك في البداية حتى لايستفز الحيوان , فيقوم بحركة مفاجئة لاتحمدُ عقباها .
من شدة خوفنا من أزلام البعث المجرم , والذي اصبح يسري في دواخلنا وفي حالة من اللاشعور في تلك الايام ,فجعلوا منا بشرا اذا ما تكلمنا في النهار علينا أن نلتفت واذا تكلمنا في الليل علينا أن نخفت ( عبد الرحمن منيف) , هؤلاء البعثيون امتهنوا كرامتنا وجعلو منا نتصرف كالانسان القديم في خوفه من الحيوانات البعثية المفترسة . البعثيون اذا رأيتموهم نائمين عن صلاة فلاتوقظوهم لانهم سيقومون فيؤذون الناس , فكنا نتصور ان البعثيين واصحاب الزيتوني يعرفون حتى أحلامنا , وهذه اساليب كان يتبعها النازيون في السجون الهتلرية , حتى يتم لهم إنتزاع الاعتراف بهذه الطرق الشنيعة ,واستغلال الجسد الذي يكون وقتها واهنا وضعيفا , والذي لايبقى منه شئ كي يحدد الصمود من عدمه , , وقد صورت هذه الحالة , في الرواية العالمية ( للموت وقت وللحب وقت) والتي وان كانت تنحاز الى اليهود بشكل غامض , الا أنها عمل درامي بأمتياز , عمل أدبي أنصف الانسان المضطهَد في فترة الحرب العالمية الثانية ,, حيث صوّر لنا الكاتب , كيف يقف السجناء أثناء العمل اليومي على قايش متحرك والقايش يحمل العديد من الصناديق المغلقة , وما على السجين سوى ان يرفع الصندوق من القايش ويضعه في المكان المخصص له , ولايحق للسجين ان يفكر عما في داخل هذا الصندوق , واذا ما فكر في ذلك فستكون العقوبة قاسية جدا . هكذا كان النازيّون يخيفون السجناء , بانهم يعرفون كل شئ عن السجين حتى عندما يفكر وفيماذا يفكر وعن اي موضوع , اي انهم يعرفون ما في داخل ادمغة السجناء , ولذلك يصبح السجين مجرد آلة اتوماتيكية تعمل ليلا ونهارا , أمام ذلك القايش المتحرك , ولايحق له التفكير , أي أنّ النازيين يتلفون أدمغة السجناء ويجعلون منها مجرد اسطوانات جوفاء , فارغة , وهذا النوع من التعذيب هو أقسى بكثير من التعذيب الجسدي . لذلك فأن القاص عبد الفتاح قد اقترب بسرده الرائع هذا , من القص العالمي , واستطاع ان ينقل لنا الصورة الحقيقية عن تلك الحقبة البعثية الفاشية التي ذقنا منها الامرين , وكيف كانت الاحكام تصدر دون قضاء يذكر .

يوم استثنائــي
1ـ رحتُ أراقب الرجلَ الذي يصادف خروجُه مع كلبه إلى شؤونه متزامنا مع خروجي لوجهتي الروتينية المملة وكما تقدم فإن دماغي الخبيربدأ بنزع كل الأغطية الشفيفة التي كانت تحيط بكل ما تلقفه عيناي من المنظور حتى نزعت آخر غلالة تحيط بالرجل وكلبه ليس لشيء محدد أبحث عنه إنما هو حكم العادة مبررا ما أفعل بأن ذلك في الأقل سيخفف من تكرار سحنة اللحظات والثواني والدقائق المتشابهة الباهتةِ التي أسير بين يديها يوميا لعملي الممل .

2ـ تستكين مقهى حسون على كتفِ الطريق المؤدي إلى الحياة في هذه المدينة المرتعشة جراء شتائها فيلجأ الناس ضحايا هذا الزمهرير لحيلة قديمه تنطلي أحيانا على البرد بولوجهم تباعا إلى مقهى حسون لشرب أقداح الشاي الساخنة التي تردع برد عظامهم.

3ـ يتجه الرجل وكلبه إلى المقهى بصدرٍ مندفع مقدما بوز كلبه ليلج قبله، تمتد يد صاحب المقهى الى المذياع فينخفض صوت فيروز على إثرصمت الدمدمة، الصادرة من الأفواه، لم يحدث شيءٌ من استنكارٍ كنت أتوقعهُ من صاحبً مقهىً محترم و كأن الرجلَ صاحب المقهى مجبرٌعلى ذلك أو أنه قد تم تدجينه فلم يعد يفرق بين بوز كلب أو أنف رجل ثم دلفتُ إلى المقهى بعدالكلب وصاحبه.


أنتَ كلب ُّ وإنْ ألبسوكَ فروة الاسدِ ......هذا ماقاله الشاعر السوداني محمد مفتاح الفيتوري , بحق البعثي المقبور حافظ الاسد , مهما تغيّرت أشكال وألوان البعثيين ولحاهم وسراويلهم يبقى النباح هو طباعهم , مثلما المجاراة هي طبع القرود . في العراق وفي الستينيات من القرن المنصرم كان يطلق على البعثي ( بالأرقط ) أي الكلب المرقّط , واستمرت هذه التسمية تلازمهم حتى اليوم . القاص عبد الفتاح هوالاخر إكتوى بنار البعث , ولذلك أدلى بهذا السرد التهكمي اللاذع , فوصف لنا البعثي بالكلب , أو جسد أنسان بوجه كلب , وكيف يدخل الجلواز او رجل الامن الى أماكن الدردشة والحديث عن السياسة والادب , أو الاستماع الى صوت فيروز الذي ينعش الذاكرة , في الصباحات المبكرة, وهذا هو دأب العراقيين في تلك الايام , واذا بالانفس ترتعد من هذا الجلواز وبوزهِ الكلبي , عندما يدخل المقهى على حين غرّة , وعلى هيئة بصّاص متلصّص , ومدوّن تقارير ملفقة تفضي الى المقاصل . وحتى يخرج , تكون القلوب قد رجعت الى نبضها الطبيعي .
هذا هو حال البعثي وحال الكلب في عراقنا , كما قرأناهم في القص الذي تناوله عبد الفتاح . كثيرون كتبوا عن الكلب من وجهة نظر عربية تجاه الكلب ومكانته لدى شعوبنا الاسلامية , سنرىَ وجهة نظر أخرى للكلب لدى بعض الكتاب وفي الامصار الاخرى ......
الكلب الذي عطش وأراد أن يشرب من النهر فشاهد صورته في الماء , التي اضطرته الى القفز عليها , فتعلّم السباحة منذ ذلك الوقت حسب ما نقلته لنا بعض الحكايا . في البلدان الاوربية , نرى الكلب ولعبة جلب العصا , والكرة , وغيرها , والروتين والتسلية بين الكلب وصاحبه , هذا مانراه يوميا وعلى مدار الساعة . الكلاب البوليسية واكتشافها للمخدرات والجرائم , الكلب ذلك الحيوان الوفي والصديق , اذا ما اتخذ بشكل يتلائم معه كحيوان اليف , ولكن الولوج في الكتابة عنه أمر يثير الجدل لدى بعض الاوساط , كما واننا امة وهي الوحيدة من بين الامم جميعا قد حرّمت تربية الكلب , وان الذي يجني كلبا , يدخل في مجال النجاسة , بينما بقية الامم الاخرى تعتبره حيوانا يستحق الحياة .
وانا في مقهىً دنماركي وقد رأيت شخصا دانماركياً مع كلبه الجميل , وهو يأكل الآيس كريم , وبعد كل لعقة يلعقها بلسانه يعطي لعقة للكلب , وهكذا حتى اكملوا الايس كريم معا , ولو تصورنا هذا المشهد امام اناس شرقيون فماذا سيحصل , اكيدُّ سيحصل شئ من الدوار او القئ . فقمتُ من مكاني لأسأل الرجل , أتحبُ كلبك ؟ فقال لي , ولمَ لا , أحبه مثلما أحبُ ولدي , كما وأنه يحبني أكثر مما يحبني ولدي .أنه يعيش معي الفترة التي أريدها أنا , كما وانّ الكلب يحب الانسان مهما كان , انْ كان جاهلا , او كان طبيبا , او كان خمارا او كان متصوفا او كاهنا , او مدمن هيرويين , مدمن شاي او قهوة , فقيرا أوثريا , لايهمه ذلك , يهمه شخص الانسان فقط وتعامله معه , وحبه لهُ واطعامه . فهو الوفي على الدوام , ثم اردف قائلا , فأين تجد مثل هذا الصديق , في هذا العالم المأساوي المنغلق .
الكلب شديد الرياضة كثير الوفاء , دائم الجوع والسهر , يخدم الانسان كثيرا ويدفع اللصوص والنمور , هذا الكلب الذي جعل من الجاحظ ان يلقب بالكافر والخارج عن امة الاسلام , لانه امتدح الكلب وقد قال فيه ( من ذكاء الكلب انه اذا اتبع الظباء يعرف التيس من العنز . يتشمم مواضع الصيد , وحكي الجاحظ ايضاوقال ( مررت على خربة فاذا بها معلم وهو ينبح نبيح الكلاب فوقفت انظر اليه واذا بصبي قد خرج من دار فقبض عليه المعلم وجعل يلطمه ويسبه فقلت , عرفني خبره , فقال صبي لئيم يكره التعليم ويهرب ويدخل الدار ولا يخرج , وله كلب يلعب فيه , فاذا سمع صوتي ظنّ انه صوت الكلب , فيخرج فأمسكه .
قصة الكلب وذلك البدوي الذي عرّجَ على أحد الملوك ووصف الملك بقولته الشهيرة(( انت كالكلب في وفاءه ) مما دعى بحراس الملك أن يعتقلوه لأهانته للملك , لكنّ الملك تدارك الموقف , وعرف أن هذا الوصف هو مديح له من بدوي يعشق وفاء الكلب , فاطلق سراحه في الحال . كما وان الكاتب العراقي القدير حمزة الحسن , لايزال يقتني كلبا وهو في منفاه الثلجي في النرويج.

الصغــار

1ـ وجدَ الأطفالُ أنفسَهم وحدهم في البيت الواسع والكبير، فقد غادر الكبار المكان بطريقة غامضة على الأقل بالنسبة لهم، أطفال كثيرون، ذكور وإناث بأعمار مختلفة ولكنهم جميعا يصدق القول عليهم أنهم أطفال، بكى الكثير منهم لحاجتهم لآبائهم وأمهاتهم، كثيرٌ منهم لم يُفطم بعد، كنت أرى لهم من كل مكان ومن كل زاوية، لا تسألني، من أنا ومن أكون بالنسبة لهم؟، ذلك غير مهم بالمرة، سمّني ما شئت تخيل أنني أنت أو أنني مجرد جهاز عرض بأبعاد ثلاثية تعتمد جودة عرضه على قدرتكَ أنت على التخيّل مدعيا أن التخيل كان دائما الأمر الحاسم في قضايا كبيرة كلما كان دماغك مجيدا في تصوره لما يجري لهم كان الأمر رائعا، إذن دعك من هذه الأسئلة وتعال نتخيل المنظر، هاهم الأطفال يختلطون ببعضهم وكأن آبائهم وأمهاتهم قد أودعوهم في هذا البيت الكبير على عجل ثم ذهبوا غير مختارين إلى مصائرهم المجهولة.

2ـ تساءلت وأنا أكتب السطر : ما أقسى أمهاتهم وآبائهم!، بعضهم بُح صوته من البكاء والعويل والبعض الآخر اهتدى لإبهامه ِ وراح يمصه بضراوة، وهكذا هدأ صوت الرضّع ولم تُسمع غير وصلات متقطعة من بكاء واهن وعويل مبحوح يصدرُ عن أولئك الذين وضعوا تصاويرَ موغلة في القِدم لآبائهم وراحوا ينوحون على ذكراهم وكان نواحهم لا يشكل في جسد الوجود الصوتي شيئا يُذكر إلا كما يصدر عن حفيف ثوب ناعم.

حينما يسبح القاص في فضاءاته , يرسم لنا التأويلات واحدة تلوة الاخرى , كما هو حال الرسام التشكيلي او السوريالي , الذي تجول أصابعه في المساحات الشاسعة من اللوحة فيعطينا من التخيلات الكثيرة , واكثر ما ينبهرفي الفن هم الاطفال والفنانون انفسهم , لانّ الطفل دائما يتصور انه يستطيع اعادة الحلم الى الحقيقة فيأتي الانبهار والتعجب للصور الرمزية الغارقة في التأويل . الكثير من الادباء قد كتبوا عن الاطفال بشكل مذهل وخصوصا الاطفال المشردين او اطفال الفقر المدقع , او اطفال الاصلاح وما شاكل , ومنهم الروائي الفرنسي الشهير فيكتور هيجو في رائعته البؤساء , وكيف انّ جان فالجان( بطل الرواية) استطاع انتشال تلك الطفلة الفقيرة اليتيمة الابوين والتي كانت تعمل خادمة وهي في سن الزهور , في بيت أعتى اللصوص . اشتراها جان فالجان وأخذها كأبنة له حتى كبرت وترعرعت في كنفه , وعرفت الحب ولواعجه , ونالت الحياة الحرة الكريمة التي وفرها لها جان فالجان بعد ان كانت في طفولتها تعاني من مرارة الفقر.
اما الطفلة الثانية التي كتب عنها ماريو بارغاس يوسا في رائعته ( شيطنات الطفلة الخبيثة) , تلك الطفلة البيروية التي يجعل الجوع منها مراهقة خبيثة , والتي كانت تحلم بالثراء السريع وبشتى الوسائل والطرق , أقامت العلاقات الغرامية والجنسية مع الاثرياء فقط , بغية الوصول الى مبتغاها وهو الثراء , وفي كل مرة تخرج من الحب ذليلة خالية اليدين , كتلك الفتاة في رائعة جوستاف فلوبير ( مدام بوفاري) ورقصتها البافارية الشهيرة , التي كانت تؤذي زوجها الطبيب البسيط بعلاقاتها الطائشة مع النبلاء التي أوصلتها الى الخنوع واليأس حتى وضعت حدا لحياتها المؤلمة , فانتحرت بالسم . أما بالنسبة لطفلة الشيطنات أيضا كانت أكثر ماتؤذي في خباثتها , حبيبها الوحيد الذي أحبها , من بين العشرات الذين تمتعوا في جسدها البض ورموها خارج اللعبة عارية ذليلة مهانة مع حفنة ضئيلة من المال , لايتناسب وحلمها الكبير . حتى أصيبت بالسرطان وهي تلهثُ وراء مملكة المال والثراء , لكنها وفي أيامها الاخيرة تبحث عن حبيبها الوحيد الذي أحبها , وتلتقيه في أسبانيا وتعترف له بسلطان الحب , لكنها جاءت ورياض الموت مترعة , جاءت مع الندم , ولات ساعة مندمِ , وكأنّ الطفلة هذه محكوم عليها , ان يرسمَ الفقرُ لها تلك الميتة المأساوية ,والتي تبكي كل من يقرأ حالها , تموت وتترك بيتا بسيطا , ابتاعته من المال الذي جمعته من ثمن أخطاءها , تترك بيتا فارغا من أنفاسها , لحبيبها الذي رافقها حتى الرمق الاخير .
اذن هو الفقر الذي تكلم عنه القاص عبد الفتاح , الذي يجعل من الاطفال حبيسي البيوت والسجون , الاطفال المشردين , الجوعى الذين يحبسون من قبل الدخلاء وهم اللصوص الكبار , وقد تناول هذا الموضوع الروائي الكبير نجيب محفوظ في اكثر من عمل له , حيث يحكي لنا حال الاطفال والمراهقين الذين يتعرضون لشتى انواع التمثيل بأعضاءهم الجسدية من بتر وتعويق في سبيل الغايات الاخرى , للاستجداء . فما بالنا عن الدخلاء في زمن البعث المجرم والجلاوزة الذين كانوا دخلاء لئيمين على بيوت الفقراء , حيث كانت مداهماتهم الفجائية بينما الاطفال والنساء تنام ورؤوسهم مع ارجل الاخرين والعكس بالعكس , لضيق بيوت الفقراء. سرد فيه من الشفرات التي يمكن الدخول من خلالها ,وابداء الرأي وهذا اهم ما في السرد , واذا ما اردنا ان ْ نأخذ انطباعا حقيقيا عن الاطفال في هذه القصة الرائعة, علينا ان نرى شارع المليون طفل حافي في حي الشعب ببغداد , في زمن الملعون صدام , ولا ادري هل مازال الشارع حتى يومنا هذا .

سقــوط مـريـع..........

1ـ قال مصدر في الطب العدلي أنه تم انتشال سبعين جثة مجهولة الهوية من نهر دجلة في المنطقة المحصورة بين الأعظمية و الكاظمية....، ينفصل صوت المذيع ويواصل انتباهته لسقوطه السريع و المريع، وحين تخيل منظر الجثث الطافية على وجه الماء انتابه هلع مطلق تفجر في دواخله على حين غرّة يشبه ما يصيب المتردي من علٍ شاهقٍ يعد اللحظات التي تفصله عن ارتطامه بالأرض وتمزقه إربا في أية لحظة قادمة، أغمض عينيه ونطق الشهادتين وعمد إلى قراءة آية الكرسي التي كان قد جرب مفعولها كثيرا قبل ذلك لكن هذه المرة لم تزده إلا قلقا إذ ذكرته بخطاياه الكثيرة وبالعذاب المنتظر.

2ـ فتح عينيه وجد نفسه قدسقط من سريره ذي القوائم العالية وقد التفّت على صدره وعنقه ويديه ملاءة السرير التي بدت مبرومة كحبل، تناهى إلى سمعه صوت مذيع التلفزيون وهو يقول: هذه إعادة لما ورد في النشرة... صرّح مصدرٌ مسؤول أن سيارةً ملغمةً ..... صمت لحظةً ثم أطلق ضحكةً مجلجله هرعت إليه والدته وهي تبسمل وتستعيذ بالله من الشياطين.



انها ليست أحلام غريبة بالنسبة للعراقي نفسه , بل أنها أحلام قد أعتاد عليها العراقي المتعب , اعتاد أنْ يرى المشاهد المروعة في يقظته وفي حلمه , هذا يعني اننا كعراقيين التبست علينا الامور , هل اننا في حلم ام في واقع ام خيال أم ماذا . ولكثرة الجرائم والقتل العشوائي , الجرائم التي لايصدقها العقل البشري ومنها جريمة الجسر الرابط بين الاعظمية والكاظمية , وكيف استطاع الارهابيون من قتل الف شخص غرقا في نهر دجلة , في لحظات قليلة , وهنا نستطيع ان نقول بأنّ الجهاد الذي نادى به النبي محمد على المشركين تحوّلَ الى قتال بين المسلمين انفسهم , لذلك أصبح الخوف يسير لدى العراقي في حالة اللاشعور , اي على سبيل المثال لو عطش المرء وهو في مكان ٍ يسكنه لاول مرة , فيسأل عن الماء , فيخبروه بذلك , لكنه في المرات القادمة لايحتاج ان يسأل لو عطش مرة اخرى ,لأنّ موضوعة الماء أصبحت لديه في حالة اللاشعور , بأنّ الماء موجود في المكان الفلاني .هذه هي مأساتنا التي اصبحت كظلنا الراكض وراءنا , ومهما أسرعنا في الجري لانستطيع الهروب والخلاص , غير أننا نلجأ الى الروحانيات وتلاوة الكلمات الدينية التي لاتغني ولاتسمن , وكثيرا ما كان العراقيون وخصوصا الجنود في الحرب العراقية الايرانية , كان الجندي يقرأ هذه التلاوات من خوفه الشديد من العساكر لكي يعبر حاجز نقاط التفتيش اذا ما كان غائبا ليوم واحد , وفي يوم وانا كنت في احد الحافلات ملتحقا بالجيش , صعد رجل الانضباط الكريه والقبيح أنذاك شكلا واخلاقا الى الحافلة لغرض التفتيش وقال ( شوفوا , لاآية الكرسي تخلّصكم ولا غيرهه , الكل يطلّع هويته , وأنت خصوصا أبو العمامة , حيث كان جالسا أحد المعممين معنا في الحافلة) , هكذا كان حال العراقيين أنذاك , أنهامملكة الرعب والخوف والتي لم يتجاوزها العراقيون ولم ينالوا حريتهم الا بعد أكوام من الهياكل العظمية .

حدث ذات يوم

1ـ وهكذا انطلقت العربةُ وقائدُها لا يني يعرضُ مهاراته في القيادةِ وركوب الأخطار حتى إنه خرج بها عن الطريق السوي إلى طريقٍ آخر يندر سالكه ينتصب عليه جسرٌ ضيّق من فوق هاويةٍ صنعتها ظروف عسيرة فبدا النهر الذي شحت مياهه من تحته كخيط رفيع وحين بلغت العربة منتصف الجسر سمع الركاب خصوصا المتوجسون منهم والصامتون طقطقةَ شيءٍ ما ينكسر تحت العربة التي فقد قائدها السيطرة عليها في اللحظة ذاتها فمالت نحو جانب الجسر لولا حديد سياج الجسر الذي اخترق أحد قضبانه المصبوغة باللون الزيتوني صدر قائد العربةِ فمات في الحال وتوقفت العربة على حافة الجسر العالي تبدو من تحتها الهاوية وراحت تتمايل مثل عتلة ألقبّان حتى استقرت ونصفها الأمامي في الفضاء والآخر من منتصفها إلى مؤخرها على الجسر وساد الصمت في تلك اللحظة إلا من صوت إحدى العجلتين الأماميتين وهي تدور في الفراغ محتكةً بشيء من بدن العربة المحطم.

2ـ في الصباح ولما تبين لنا الخيط الأسود من الخيط الأبيض تسلل أحدنا خارج العربة وربط هيكل العربة بدعامة الجسر وبدأنا نخرج من العربة بسلام إلا أنه في اللحظات الأخيرة و إذ لم يبق في العربة غير قائدها الميت الذي اخترقه قضيب الجسر ذو اللون الزيتوني، طقطق الحبل الذي كان يربطها بالجسرِ و المصنوع من قمصاننا وانحلّت عُقَدَهُ واحدةً إثر أخرى وتردّت العربةُ نحو الحضيض فقد كان ثقل جثة قائدها وحده كافيا لتردّيه مع عربته للهاوية.

في فيلم رائع يحمل اسم( حدث ذات مرة ) من تمثيل الممثل القدير روبرت دي نيرو الذي كان يعلق على احداث 11 سبتمبر حال وقوعها , الفلم كان يتناول مصير مجموعة من الاصدقاء وهم من خيرة الممثلين العالميين , وقد امتهنوا القتل , دون دراية منهم , وكان الذي يشفق عليهم في هذا المسار الخاطئ هو القس الممثل القدير روبرت دي نيرو , لأنه على دراية تامة بنصاعة برائتهم حينما كانوا صغارا وشبابا , حتى تلونت قبعات أعمارهم بغبار التلوث , ويموت الجميع في مشاهد درامية , مبكية, وكل واحد منهم حينما يحتضر يتذكر شريط أحلامه وكيف كان يحب ويقبل ثغر حبيبته , وفي مشهد يثيرالاسى والحزن لقبلة طويلة بين حبيب وحبيبته , وحينما يريد الموت انتزاع الروح , يبدأ باطلاق أشارة الفراق الابدي , فتبتعد أفواههم وهي في القبلة النهائية , فيبقى منها خيط واهن من اللعاب يظهر على طول الشاشة الكبيرة , حتى يلفظ الحبيب نفسه الاخير فينقطع خيط اللعاب الواهن , والحبيبة تصرخ باكية على رحيل حبيبها الى العالم السفلي بلارجعة .
يتعاطف القارئ مع مجنون سونيا في رائعة الروائي الروسي ديستويفسكي( الجريمة والعقاب) , أيضا الذي الذي يشاهد هذا الفلم لايستطيع ان يكتم تعاطفه مع هؤلاء المجرمين , وكان الذي يقودهم الى المصير المحتوم أهوج أحمق . ولكن القصة التي تناولها القاص عبد الفتاح المطلبي لها مسحة اخرى من الالم والفجيعة , وما ألم ّبالجميع , بسبب قائد العربة , القائد الذي يتحمل كافة المسؤولية المناطة له , ولذلك يجب ان يكون القائد , ( قائد فصيل , او فرقة , أو شعب ) , متصفا بمزايا تختلف عن الجميع , وليس كما حصل في بلادنا والمسؤولية المناطة لأصحاب الزيتوني , حيث أشار القاص الى هذا اللون الكريه كأشارة منه الى ذلك الزمن المرير , زمن البعث وأزلامه التي ترتدي أزياء الخنازير . أولاد القحبة أولئك , كانوا يقودون مصائرنا الى الهاوية . كما وأننا نأخذ بعين الاعتبار بأنّ الشعب يتحمل جزء من المسئولية , وإنْ كان الخوف جاثما على صدره, , كما تقول الحكمة ( لقد سقط امامك الكثير في الهاوية , فلماذا لم تتعض ) . القيادة والريادة تختلف من هنا وهناك , هناك الكثير من القادة الذين دخلول التأريخ من باب النضال والحرص على شعوبهم وقضيتهم العادلة , ومنهم الثائر المكسيكي زاباتا , الثائر الامي الذي علمته زوجته القراءة والكتابة , وظلّ يقود شعبه نحو الراية المنشودة , حتى مات على أيدي أعداءه المجرمين , وقد أمطروه بوابل من الرصاص وهو يحتضن حصانه , وهو اليوم في قمة الخلود .

الشاعر والقاص عبد الفتاح بهذه السطور ....

القاص والشاعر عبد الفتاح , لاتستعصي عليه المعاني الصعبة في الشعر والسرد , بل يتعداها ايضا الى الايقاع الساحر , الصارخ والمنذر , الصاعد والنازل , انه الاديب الذي يمتد العراق بدمه كما يمتد ديموغرافياً على الارض , استطاع ان يصور لنا الذوات المتناقضة وكيف تتصارع مثل الكلب والقط اللذان لاتتاح لهما ان يعتادا على بعضهما , أنّ الكتابة لديه كالسنارة , اذا علّقت , صعب التخلّص منها , أدبيات عبد الفتاح عبارة عن مدارج مغمورة بأزهار السرد والشعر , أدبيات عبارة عن باخرة تمخر في العباب الهائل ونتيجة الريح العاتية تتكسرعلى جوانبها الامواج , أنه شاعر يؤمن بما قاله الراحل محمود درويش بأنّ الشعر يعيد الحياة الى اللغة , عندما تستهلك وتصبح مجرد لغة يومية ودارجة ومبتذلة , وفي عصر لم تعد فيه الاذان تسمع لغة فصحى الا في نشرات الاخبار , قاص وشاعر لايهرب من الواجهات ومهما كان نوعها , شاعر يتألم ويفرح نتيجة الحدث وماهيته , أنه لايبغي شيئا حتى وان سُرق ماديا , العالم الخارجي لديه هو عالم المال , وفي عالم الادب رفض صارخ لذلك , يقال في الحكمة العربية ( ان الرجل ادركته مهنة الادب اي امتهن الفقر) , ولذلك وجدناه رائعا , انسانيا , في نص ( ظننتكَ لي أخا) .
القاص والشاعرعبد الفتاح قد وضّح لنا مدى طبيعة الشر لدى البشر , وتأكيده على الشخصيات التي من خلالها استطاع الغوص وابراز المأساة وآثارها والخطيئة المترتبة من ذلك , ولو كان السرد طويلا روائيا , لكان قد اعتبر من الاعمال الدرامية الرائعة . يكتب بمشاعر نابعة من المعرفة التي لها اواصر بالمنطق والاستنتاج , يدخل في سياق الاحداث , يتبنى النقد الاجتماعي بشكل جدي ويعطيه أبعاده الاوسع , ويدعو الى الحرية وبناء حياة اجتماعية حقة بعيدة عن الالم , وقدم مواضيعا وخيالات واحلام جديدة , وجعل لها اطارا ادبيا عراقيا حاز على اعجاب واحترام الكثيرين .


هاتــف بشبــوس/ عراق/ دنمــارك



#هاتف_بشبوش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عبد الفتاح المطلبي , بين السرد والتهويم .............1
- حميميّة ُّ بلاتعقيد
- رائحة ُ الموز
- سجّادة بلون الكلب
- واكا .......واكا
- سامي العامري يستمحيَ بالورد , بينما الاخرون يعزفون بالمخالب
- الثائر , الضابط الشيوعي محمد منغستو
- صباح خطاب , محدّث ُّ , يتخذ ُ الانسانَ محورا للعالم , فينغمس ...
- طفلُ الصليب*
- وظيفةُّ في قبر
- مكي الربيعي ,ملكُ الشوارع, في شيخوخةِ حلم القصيدة, يكتبُ نصا ...
- رجلُّ بكلّ التفاصيل
- حامد المالكي والحوارية المثيرة بين أبي طبر والعميد زهير( الم ...
- إحتجاجُّ دنماركي
- صباح محسن جاسم صرخةُّ صامتةُّ , تمتد من فم الجوع حتى سيماءِ ...
- حطام ُّ متناثرُّ
- إعدام
- هللّويا............
- مساربُّ عدميّةُّ ضيّقة
- علياء...............


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاتف بشبوش - عبد الفتاح المطلبي , بين السرد والتهويم ............2