لينا سعيد موللا
الحوار المتمدن-العدد: 3768 - 2012 / 6 / 24 - 15:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
(( قصة واقعية حدثت في أحد أحياء مدينة حمص عاصمة الثورة السورية ))
فيما كانت العائلة مشغولة بإعداد وجبة العشاء، أبو محمد يحضّر إبريق الشاي، وسعاد الصبية البكر تنقل زبدية اللبنة ومحمد ينقل الخبز، حملت أم محمد صينية حَوَت صحن زيتون وقطعة حلاوة وثلاث مكدوسات في صحن مكسور الطرف.
وما أن جلسوا حول طاولة في غرفة الجلوس، حتى سمعوا لعلعة رصاص قريب من بيتهم الكائن في الدور الثاني، من بناء مؤلف من ثلاث طبقات .
أحنوا أجسادهم بحركة عفوية .
التصقت سلوى ذات السنتين بوالدتها مرتجفة، بينما صاح عبد الرحمن قواص قواص .
- قريبين كتير هالمرة ما !! قال أبو محمد .
استمرت لعلعة الرصاص لدقائق واخترقت إحدى الرصاصات زجاج النافذة الذي انكسر للمرة السابعة خلال خمسة أشهر.
أمسك أبو محمود المقذوف، عاين حجمه ..
- هذا رصاص كلاب النظام الله يهدهن، خلينا نفوت لجوا .
انتقلوا إلى غرفة داخلية ونقلوا الصينية ليوضعوها أرضاً على حصيرة قش، وتربعوا فوقها دون أن يملكوا شهية لمتابعة العشاء، فالرصاص بات يطلق حولهم مصحوباً بأصوات تكسير زجاج مصحوب برائحة البارود والغبار وصراخ نساء وأطفال من بيوت مجاورة، وما هي إلا دقائق حتى اختفى صوت الرصاص، ليبدأ صوت آخر ذو دوي هائل، إنه صوت قذائف مدفعية آتية من مكان بعيد، بدأت تصيب الأبنية مصحوبة بصوت يصم الآذان .
التصقت العائلة ببعضها، لكن القنابل كانت تقترب مسببة دوياً هائلاً هز أركان البناء .
صرخت أم أحمد :
اطلعوا قبل ما يهبط البيت على راسنا .
ولم تنهي جملتها حتى انقطع التيار الكهربائي وبدأت سلوى بالبكاء وعبد الرحمن بالسعال، حمل أبو محمد ابنته الصغيرة بينما أمسكت سعاد يد عبد الرحمن وحمل محمد أحذية من هرول ناسياً انتعالها، في حين تقدمتهم أم محمد لتحملق في الدرج وتشعل قداحة متفقدة.
وانطلقوا جميعاً باتجاه باب المنزل الذي انخلع من مكانه بتأثير أحد الانفجارات .
نزلوا الدرج دون أن يأخذوا معهم شيئاً في سباق مع قدر مبهم ، وما أن وصلوا مدخل البناء حتى دوى انفجار ضخم قريب، أوقع سعاد وعبد الرحمن أرضاً، ما تذكره سعاد أن أجساداً تطايرت في الجو، وغيمة كثيفة من الغبار مصحوبة بروائح غريبة أعمت بصيرتها، الانفجار أصم أذنيها ، وبقيت مستلقية أرضاً في ذهول، حتى امتدت إليها يد انتشلتها وقال إركضي معي .
كان ابن خالتها سعيد الذي يكبرها بخمس سنوات والقاطن في بناء مجاور، لكنها لم تتحرك، متمتمة :
- عبد الرحمن، ماما وين ..
لكنه شدها بقوة وقال :
- إركضي هلأ بيلحقونا .
ركضت مع جميع الهاربين باتجاه البساتين المجاورة، دون أن تتمكن من الالتفات للخلف ومشاهدة الأجساد المتمددة على الرصيف، لم تسمع صوت الأنين ولا صرخات الألم، كانت يد ابن خالتها تشدها بقوة .. يركضان مع مجموعة أهل الحي من الهاربين باتجاه البساتين، شعرت بالدم يسيل من كتفها، لكن حالة من الذهول عطلت الإحساس بالألم عطلت حواسها جميعاً.. أكملت معه الركض وهي تحاول الضغط على مصدر الجرح و أزيز الرصاص يحاصرهم من كل مكان .
توغلوا في البساتين مئات الأمتار، استلقت بجانب شجرة وبدأت بالبكاء، بينما انحنى سعيد قائلاً.
- سعاد إنت مجروحة، خذي هي محرمة نضيفة .
لم تشاهد سعاد المحرمة ولم تحرك ساكناً بل بقيت ترتجف، فوضع سعيد المحرمة على الجرح، فتأوهت .
- عم يجعني أي آي .
التفت سعيد حوله ليجد أغلب الهاربين مشغولين بتضميد جروح بعضهم، بعض النسوة خلعن غطاء الرأس واستعملوه كضمادات، وبعض الرجال مزق جزء من بنطاله ليستعمله كأربطة .
لم تدم فترة السكون طويلأ إذ بدأ الرصاص ينهمر عليهم من أماكن قريبة، كان مصدره من رجال ملثمين ظهروا فجأة من خلف الأشجار، كانوا يقتربون يصرخون ويتوعدون .
أصيب سعيد فجأة برصاصة في رأسه وسقط دون أن ينطق بحرف، وسقطت جارة سعاد أم نبيل بعد أن أصيبت برصاصة في صدرها، فيما هرول الآخرون هاربين من جديد، وسعاد مرتكية على شجرة وجسدها متشنج، ترتعش خوفاً حتى لا تقوى حتى على الصراخ .
مر الشبيحة من جانبها ممسكين ببنادقهم يطلقون النار على الهاربين، يضحكون بعصبية ويزمجرون بكلمات غير مفهومة، وكأنهم يتصيدون أرانب تركض في البرية .
كان الحقد الذي يخرج من حناجرهم غريباً، حتى لتشعر أنهم تخلوا عن إنسانيتهم وباتت الشياطين تسكن قلوبهم .
لم يشعروا بوجودها بل تجاوزوها راكضين خلف المذعورين العزل، لم يسمعوا صوتها ولم يروا اختلاجات جسدها الصغير.
ولم يمض وقت طويل حتى فقدت الوعي .
لم تعلم سعاد كم مضى من الوقت قد مر، لكنها عندما أفاقت وجدت نفسها ممدة على بساط في غرفة كبيرة، وحولها رجل يمسك بقطعة قماش مبلولة ينظف جرحها .
قال :
- لا تخافي مني، أنا أحمد من الجيش الحر، شفناكي بالبرية لحالك، منصابة أسعفناكي، الحمد الله على سلامتك .
تلفتت سعاد مذهولة ، فوجدت عدة رجال يحملون بنادق ينظرون إليها، بعضهم مبتسم والآخر كان يتوعد بالانتقام .
- شو أسمك عمو
قالت والألم يعتصرها ..
- سعاد ..
- سعاد نحنا رح ناخدك هلأ عند الخالة أم عماد لتعتني فيكي إنتِ فقدت دم كتير، ولازملك دم ونحنا حبيبتي ما عنا هون .
قال آخر بحنان طاغ :
أنا عماد يا سعاد ولازم الوالدة تعتني فيكي، هي شاطرة وبتحب البنات اللي متلك .
سألت سعاد عن أهلها فرداً فرداً، ولم تلق جواباً، بكت بحسرة وعرفت من حديث الجنود أن معركة كبيرة قد وقعت، وأن هؤلاء الجنود قد قتلوا من الشبيحة إثنين وأسروا أربعة، وأنهم مضطرون إلى تغيير المكان .
جلست وأسندت ظهرها على الحائط وانشغلت بتأملهم وهم يذرعون المكان جيئة وذهابا يحضرون بنادقهم، ويحصون رصاصاتهم فتذكرت عبد الرحمن وسألتهم عنه .
- هلأ أم عدنان بتطببك، وبترجعك لعند أهلك قوية .
كانت أم عماد إمرأة ستينية تغلب على ملامحها الطيبة والحزن، تعمل كممرضة اهتمت بسعاد، نظفت جرحها وأجرت فيه جراحة بسيطة، وبرغم كل الألم التي شعرت به، لكن شيئاً إنسانياً طيباً قد خفف عنها أوجاعها .
عرفت أم عدنان فيما بعد أن جميع أهل سعاد قد قتلوا، لكنها لم تقوَ على قول ذلك لسعاد، التي كانت في كل ليلة تبكي بصمت مفتقدة إياهم، وبعد شهر واحد أخبرتها أم عدنان أنها ستكون بمثابة أمها وأنها ستعاملها كما تعامل ابنتها الوحيدة التي توفيت هي الأخرى إثر انهيار سقف البناء عليها وعلى عائلتها ، روت لسعاد عن مديحة حبيبة قلبها وهي مدمعة العينين، لكنها في النهاية ضمت سعاد قائلة :
- الله عوضني مديحة بسعاد .
وبكيتا سوية وهما تدعوان ربهما بمعاقبة القتلة والأسد المسؤول عن القتل وكل هذا الدمار .
كان عدنان ورفاقة يأوون البيت بين الفينة والأخرى، يستحمون ويأكلون ويسألون عن سعاد، يلاعبانها أحياناً، تناقص عددهم من ستة رجال إلى أربعة، لكنهم عادوا ليصبحوا عشرة رجال مسلحين، وكانت سعاد تساعد في تسخين المياه وفي تحضير الطعام، تشاركهم آمالهم وآلامهم .
طلبت من عدنان أن يأخذها إلى بيتهم .. لتشاهده كيف صار بعد تلك الليلة المجنونة .
وفي أحد الليالي أخذها بسيارة سوزوكي، وحطها بجانب بناء مهدم، قائلاً :
هون كان بيتكن سعاد، بس بنوعدك يا بطلة بأنو يرجع أحلى مما كان، صحيح ما نقدر نرجع بابا وماما ومحمد وعبد الرحمن وسلوى، هي إرادة رب العالمين، بس بدك ترجعي لبيتك أميرة .
غادرا الرصيف و قبل أن يصعدا إلى السيارة ...توقفا فنطرت إليه بعينين دامعتين ...انحنى إليها ... مسد شعرها بحنان ... و ضمها إلى صدره....بكت على صدره طفولتها الجريحة ... طمأنها بكلمات حانية .. و قال لها :
- سعاد حبيبتي ... نحنا أهلك .. كلنا هون أهلك..و ورح نعمر اللي هدو النظام... بدنا نساوي وطن حلو كتير، والأهم وطن حر .. بوعدك يا حلوة .
أمسكت يده، وغابا بين الركام
قادمون
لينا موللا
صوت من أصوات الثورة السورية
#لينا_سعيد_موللا (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟