أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 17 اختطاف الثورة قبل الأخيرة















المزيد.....



قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 17 اختطاف الثورة قبل الأخيرة


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 3742 - 2012 / 5 / 29 - 20:59
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


17
اختطاف الثورة - قبل الأخيرة
في ثلاثينيات القرن الماضي ، وفي جبل العلويين ، شمال غرب سوريا ، ظهر شخص ادعى الألوهية . كان اسم هذا الشخص سليمان المرشد . إقطاعي كبير ، وأحد زعامات الطائفة العلوية . وصلت أخبار ألوهية المرشد إلى حاكم المنطقة الفرنسي . أصدر الحاكم أمرا بالقبض عليه ، وحرك قوة عسكرية للتنفيذ . كان المرشد في استقبال القوة . وفي ديوانه سأله الضابط الفرنسي أن كيف له إدعاء الألوهية ، والتصرف كرب لرعيته ؟ طلب المرشد إمهاله بعض الوقت ليقدم ردا شافيا على السؤال . أمر بعضا من أتباعه بإحضار كميات من نباتات شوكية – شوك البلاَّن ، القتاد أو شوك الجمال في بعض اللهجات - وفرشها على بيدر ، يستخدم لدرس الحبوب . ثم أمرهم بالصعود حفاة على الشوك ودرسه كما لو أنه القمح أو الشعير . فعلوا ما أمرهم به ، دون أن تند عن واحد منهم آهة تذمر ، رغم أن أرجلهم كانت تسيل دما ، من فعل وخز الشوك . التفت المرشد إلى الضابط الفرنسي وسأله : هل تستكثر علي أن أكون ربا لمثل هؤلاء ؟ تركه الضابط وعاد . واستمر ربا لرعيته بضع سنوات ، حتى كان عهد حسني الزعيم الذي نُفِّذ فيه حكم الإعدام .
ظلت هذه الحكاية ، التي كنت قد نسيتها ، تقفز أمامي ، وتلح على ذهني ، في كل مرة شاهدت فيها احتجاجا ، أو اعتصاما ، أو تظاهرة ، للمرشح الرئاسي المستبعد ، الشيخ حازم أبو إسماعيل . ولكم ساءلت نفسي أن كيف لحدث من هذا النوع ، وقع في مطلع القرن الماضي ، وحيث الجهل والفقر والأمية ضاربة الأطناب ، أن يتكرر في القرن الواحد والعشرين ، ومن أتباع بينهم الطبيب والمهندس والمحامي ، وحتى أستاذ الجامعة ؟!! كان مفهوما ، أو مبررا ، نشوء مثل هذه الظاهرة بين أتباع من الطائفة العلوية النصيرية . فكر هذه الطائفة قائم على حلول الله في جسد إنسان . وعندهم حدث آخر تجسيد لله في شخص الإمام علي بن أبي طالب . وعليه يكون غير مستغرب ، أو مقبول عقلا ، تجسد الله في شخص سليمان المرشد ، فالتعامل معه ، والخضوع له ، بصفته الرب ، الواجب تنفيذ مشيئته ، بكل الطاعة ، وبعيدا عن أي رفض أو تذمر . لكن أن يحدث هذا عند السنة ، وفي القرن الحادي والعشرين ، وفي مصر ، فهو العجب بعينه .
صحيح أن الشيخ أبو إسماعيل لم يَدَّعِ لا الألوهية ولا حتى النبوة . لكن أتباعه أغدقوا عليه من صفات الأخيرة الكثير . وهو لم يتبرأ ، وحتى لم يستهجن ولم يستنكر . وطريقة تصرف أتباعه ، في اعتصامهم في ميدان التحرير ، ثم أمام وزارة الدفاع ، لا تختلف كثيرا عن طريقة تصرف أتباع المرشد ، في الانصياع لأوامره . فرغم أنه كذب جهارا نهارا ، بخصوص جنسية أمه ، إلا أن هؤلاء الأتباع أصروا على أن كذبه وتدليسه لا ينقص من أهليته لاعتلاء عرش رئاسة الجمهورية شيئا . وأكثر من ذلك ، أن هذا الكاذب المدلس هو وحده المؤهل ، في رأيهم ، لاستعادة دولة الإسلام وتطبيق الشريعة .
ملاحظات :
هذه الحالة المستجدة تدفعنا إلى التوقف عند ، فالتمعن في ، سيل التحليلات السياسية ، التي تناولت الحالة العامة في مصر، التي تجري الانتخابات الرئاسية في ظلها . ولا أظنها تفيد القارئ ، الإشارة إلى حقيقة أنني ، يوميا ، أطالع ، أسمع ، أشاهد ، عشرات منها ، في الصحافة المصرية غير القومية - فما زلت لا أثق في الأخيرة - ومن الإذاعة – صوت العرب على وجه الخصوص - والفضائيات غير الحكومية . ونتيجة لهذه المتابعة تشكلت لدي الملاحظات التالية .
1. رغم أن التيار السلفي ، وأنصار حازم أبو إسماعيل قدموا ، بوضوح لا يقبل اللبس ، نموذجا صارخا على عمى التعصب ، وبالتالي خطورته ، وليس على مستقبل مصر وحدها ، ورغم تشكيل هذا التيار للكتلة الكبيرة الثانية في البرلمان ، بمجلسيه ، فإن حظوته باهتمام الكتابات والتحليلات السياسية ، لا تتناسب مع كل من حجمه ، 25 % من البرلمان ، أو مع نفوذه وتأثيره في البرلمان وخارجه . ويمكن القول ، وبعيدا عن السقوط في أخطاء التقدير ، أن الكتابات والتحليلات " تجاهلت " دور هذا التيار ، وتأثيره الحالي والمستقبلي ، على الحياة العامة ، خاصة الشقين الاجتماعي والسياسي منها .
2. الجانب الأهم ، والملفت للانتباه كما أرى ، تمثل في أن الكتابات والتحليلات دأبت على تجاهل فعل تأثير فكر وطروحات ومواقف هذا التيار ، على فكر ومواقف الإخوان المسلمين ، وحزبهم الحرية والعدالة . يحدث ذلك رغم أن المتابع لا تفوته ملاحظة أن هذا التأثير يبرز فعله في اتجاهين على الأقل : الأول يتمثل في دفع حزب الإخوان للتراجع عن مواقف مرنة ، تجاه قضايا اجتماعية ، اتخذها في وقت سابق ، نتيجة تأثره بعوامل مختلفة ، قادمة من المحيط الإقليمي ، أو أبعد من ذلك ، من المحيط العالمي . يقوم حزب الإخوان بهذا التراجع حرصا منه على شعبيته ، وعدم خسارة مؤيدين له ، لصالح هذا المنافس السلفي . ومثلا كان الرجوع عن موقفه المعلن من نسب تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور ، وتبني نسبة الخمسين بالمئة من داخل البرلمان ، والخمسين من خارجه ، مثالا واضحا على الخضوع لابتزاز السلفيين . والاتجاه الثاني ، وهو الأهم ، يتمثل في تسريع وتيرة خطوات الاستيلاء على الحكم ، أو التكويش على السلطات ، حسب التعبير الدارج في الكتابات والتحليلات .
3. لا يفوت أي مراقب يقظ رؤية أن حزب الإخوان يرى في حزب النور ، على وجه الخصوص ، والتيار السلفي على وجه العموم ، منافسه ، والأصح خصمه ، الرئيسي المستقبلي . وإذا كان يركز اهتمامه الآن على إقصاء خصمه المباشر ، التيار المدني ، الليبرالي ، اليساري ، القومي ، العلماني ، فإنه يعرف ، وعلى وجه اليقين ، أن معركته التالية ستكون مع هذا التيار السلفي ، بكتلته الأكثر تراصا ، والأكثر تحديا فكريا . ولأن التاريخ الإسلامي زاخر بالأمثلة على نوعية هكذا صراع ، فإن الإخوان يريدون الوصول إليه ، وهم في أقصى حالات القوة ، لضمان حسمه لصالحهم . ولأن أمثلة التاريخ شديدة الدموية ، فإن السيطرة المبكرة على مفاصل الدولة ، وأجهزتها الأمنية في المقدمة ، تغدو للإخوان ، ولحزبهم الحرية والعدالة ، أكثر من ضرورية ، لحسم هذا الصراع الذي يطل برأسه من الآن .
4-غلب على الكتابات والتحليلات ما يمكن وصفه بالإفراط في إظهار حسن النوايا ، وبالمغالاة في الإعراب عن الثقة ، وبالإفراط مجددا في إعلانات الإخلاص للديموقراطية ومبادئها وقيمها . وظل كل هذا الإفراط يسبق أي تناول – نقدي أو غير نقدي - لمواقف ، أفعال وأطروحات ، أحزاب التيارات الإسلامية ، وفي مقدمتها الحرية والعدالة الإخواني ، والنور السلفي – بالمناسبة هي تتجاهل تماما الأحزاب الأخرى كالأصالة مثلا - . وتقول بديهيات العمل السياسي بأن هكذا ممارسة ، هي في واقع الأمر ، غريبة على الممارسة الديموقراطية . وبعد حيرة في توصيف هذه الممارسة ، لكونها تحمل خليطا من سمات البساطة – ولا أقول السذاجة – السياسية ، ومن الرومانسية الثورية ، والمثالية الأخلاقية ، سأكتفي ، وليعذرني القارئ ، بتوصيفها بالرومانسية السياسية . وكمثال لو أننا توقفنا عند الجدل الذي دار حول تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور ، لرأينا كيف أن منطلقات ومرتكزات النقاشات التي دارت ، قادمة من بيئة بعيدة عن البيئة المصرية خاصة ، و العربية على وجه العموم . فأغلب الكتابات ، إن لم يكن كلها ، افترضت وجوب تصرف هذه الأحزاب الدينية ، تماما كمثيلاتها في بلدان الديموقراطيات العريقة . هذه الفرضية تتجاهل حقائق هامة ، أولها أن أحزاب بلدان الديموقراطية تقف على قمة جبل تراث ضخم ، شكلته خبرات ، تجارب ومعارك حزبية وسياسية كبيرة وكثيرة ، عبر مسيرتها العملية الطويلة . وثانيها أن أحزاب التيارات الدينية المصرية ، بافتراض احترامها لهذا الجانب من الديموقراطية ، أي التعددية الحزبية ، واحترام قواعد العمل السياسي الحزبي ، تفتقر لمثل هذا التراث . فهي حديثة الولادة . ولم تعش بعد حياة حزبية فعلية . كما لم تخض معارك حزبية وسياسية ، أنتجت خبرات ، يمكن أن يشكل تجميعها مثل هذا التراث . وثالثها أن التراث المبني على الخبرات السياسية ، يتشكل في بيئة ، وممارسة ، ديموقراطية طويلة ، وهو ما لم يحدث في مصر . ورابعها ، وهو الأهم ، أن هذه الأحزاب لا تؤمن بالديموقراطية من الأصل ، وتراها كفرا ، وبالتالي لا تؤمن بأهمية وضرورة العمل الحزبي ، كمكون أساسي من مكونات الديموقراطية . وهي – تيارات الإسلام السياسي – حين شكلت أحزابها ، فعلت ذلك من منطلق استغلال الوضع القائم ، وانتهاز اللحظة ، للتحرك نحو هدف الوصول للحكم ، فإقامة دولة الإسلام الدينية . وعليه يكون من السذاجة السياسية ، تصور أن هذه الأحزاب الدينية ، يمكن أن تلتزم بقواعد العمل الحزبي ، حتى لو أنها امتلكت تلالا من تراثه .
5 - وفي ظني أن رومانسية الكتابات والتحليلات تجلت ، أوضح ما يكون ، في تناول مسألة كتابة الدستور . جرى حديث كثير عن أن الدستور عقد اجتماعي . ولأنه أب القوانين ، كيف يتوجب أن يكون توافقيا ، لا تكتبه ، أو تستأثر به أغلبية ، مهما كان حجمها ، ليأتي ضامنا لحقوق أصغر الفئات من السكان ، وللعدالة ومبدأ المواطنة ......الخ . وكان أن استهجنت الكتابات والتحليلات محاولات استيلاء حزب الإخوان ، ومعه أحزاب تيارات الإسلام السياسي ، الممثلة في البرلمان ، على لجنة وضع الدستور . واستنتجت الكتابات والتحليلات ، أن دستورا يخرج عن هكذا لجنة ، تمثل الأغلبية البرلمانية ، لن يكون توافقيا ، كما لن يكون عقدا اجتماعيا أو ناظما لحقوق الجميع . وفي تناول هذه المسألة الكاشفة ، لم تأخذ مواقف وأفعل حزب الإخوان ، على مدى الشهور الماضية ، حقها في الدراسة ، في البحث والتدقيق ، وفي الاستنتاج والاستخلاص ، وهو الأهم . فمنذ التصويت بنعم على التعديلات الدستورية ، وخروج الإعلان الدستوري ، تشكلت العديد من اللجان ، لبحث كيفية تشكيل لجنة لوضع الدستور ، والاتفاق على ملامحه ، فمبادئه الحاكمة ، أو فوق الدستورية ، في تسمية أخرى . حينها ظهرت نوايا من الإخوان ، تجاه الدستور ، أقلقت أكثر من فئة وطائفة في المجتمع . ولغرض التذكير ، شارك الإخوان آنذاك ، في عمل هذه اللجان . دخلوا وانسحبوا . وقعوا على ما تم الاتفاق عليه ، ثم نقضوا موافقتهم . تكرر هذا مرة بعد أخرى . ولكنهم ، للأمانة ، أعلنوا ، وبالصوت العالي ، أنهم شكلوا لجنتهم - وفعلت مثلهم أجنحة سلفية - وأنها وضعت دستورا . وأن هذا الدستور جاهز في الأدراج ، سيخرج إلى النور حين يحين موعده . وبدا واضحا أن تشكيل لجنة الدستور ، بالأغلبية الإسلامية ، ما هو إلا خطوة على طريق تقريب هذا الموعد . وكان مقدرا أن تقر هذه اللجنة ذلك الدستور ، في زمن قياسي قصير ، وليتم إقراره فيما بعد في استفتاء ، أعدت هذه القوى كامل العدة لتأتي النتيجة بنعم عليه . وكالعادة تقدم القضاء وتولى مهمة إحباط مخطط الإخوان ، وإنقاذ الشعب منه . فقد حكم القضاء بعدم دستورية اللجنة وبحلها . ومنذ ذلك اليوم ، ورغم ما وصف بانصياع حزب الإخوان لقرار القضاء ، واصلت أحزاب الإسلام السياسي لعبة تعطيل تشكيل هذه اللجنة ، ومن ثم عملية وضع الدستور . وسيصل الرئيس المنتخب إلى كرسي الرئاسة ، وهو لا يعرف صلاحياته بدقة . كما ستقع على عاتقه مهمة إدارة وضع لم تتحدد فيه العلاقات بين السلطات الثلاث . ولا يخفي الإخوان نواياهم . يعملون على خيار نظام برلماني ، إن لم يحالفهم الحظ والفوز بالرئاسة ، ونظام رئاسي برلماني مختلط ، وربما رئاسي ، إن حققوا حلم الفوز بالرئاسة .
6 - وبدا أوضح تجل للرومانسية السياسية ، في افتراض تجاوز الإخوان لتربية فكرية وأيديولوجية ، ترسخت على مدى سنوات وعقود طويلة . افترضت الكتابات والتحليلات ، أن الإخوان ، ومثلهم السلفيون ، وقد دخلوا ساحة الممارسة الديموقراطية ، بدلوا عقائدهم السابقة ، وقبلوا مبادئ الديموقراطية ، ولعبتها السياسية . ونسي الكتاب والمحللون ، أو تناسوا ، حقيقة أن هؤلاء تربوا على الاعتقاد ، بل الإيمان بأن الديموقراطية كفر ، وأن الدستور كفر ، وأن الانتخابات كفر . تربوا على أن القرآن هو الدستور ، وأن الحاكمية لله ، وليس للبشر . صحيح أن التطورات المحيطة فرضت عليهم مواءمات ، وأنهم أظهروا بعض المرونة ، في بعض القضايا ، لكن أحدا لم يسأل السؤال الأساسي : هل حدث لديهم تغيير فعلي ، تبديل ، في أسس تربيتهم ، لدرجة اعتبار أن ما كان كفرا فحراما ، قد أضحى إيمانا فحلالا ؟ لم يفعل ذلك أحد . وعلى العكس ، وفي الكتابات كثيرا ما يجري الاعتماد ، كنقطة انطلاق للحديث ، على أن مبادئ الإسلام تقوم على ، وتقر ، العدالة والمساواة والحرية . ويعتبر كثيرون من الكتاب أن ذلك يفرض إقرارا بمبدأ المواطنة ، فتكافؤ الفرص ، وضمان حقوق التعليم والصحة ، والمساواة أمام القانون .. الخ . ولم يسأل أحد نفسه هذا السؤال الحرج ، ولكن المفتاح في ذات الوقت : هل هذا الاعتقاد صحيح ؟ والجواب بالقطع لا . فالإسلام – وقد قدمت دلائل وبراهين قاطعة على صحة ما أقول ، في كتابي قراءة سياسية في العهدين المحمدي والراشدي - يقوم على مبدأ عدم المساواة . والمواطنة ليس فقط مبدأ غريب عليه ، بل هو بدعة ، وكل بدعة في النار . في الإسلام ، المسلم فوق غير المسلم . والمسلم الحر فوق المسلم العبد . وفي الخلافات الإسلامية المتعاقبة كلها ، كما في السلطنات والدول والإمارات ، ظل المسلم العربي فوق المسلم الأعجمي ، وحيث تطبيق " لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى " مؤجل للآخرة ، وأمام الله ، وليس للدنيا وشؤونها . والإسلام بعد هذا ، وفي موضوع العدالة ، فهو يقرها للأحرار ، وحسب النسق السابق . وهو في الحقيقة والواقع ، كما وفي منظور المجتمعات الحديثة ، ومبادئ الديموقراطية ، يقوم على انعدام العدالة . فالمسلم العبد بلا أية حقوق ، لأنه شيء ، وليس أنسانا . أو هو إنسان منقوص الإنسانية ، لا حق له في أية متطلبات . هو شيء وناقص الأهلية ، وحتى أركان الإسلام لاتنطبق عليه . فلا زكاة ولا حج ولا جهاد عليه . وأما احتياجات غير المسلم فلا يجوز أن ترقى لاحتياجات المسلم وهكذا دواليك . أما المساواة التي يجري الحديث عنها ، والتكافؤ – ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى – فهي في الآخرة يوم الحساب كما أشرنا . ومن ثم لا يمكن أن يقبل أعضاء تيارات الإسلام السياسي بمبدأ المواطنة ، هذا المبدأ الذي طبقته الامبراطورية الرومانية قرونا طويلة قبل الميلاد ، ولدرجة أن اعتلى عرش الامبراطورية أكثر من امبراطور غير روماني – ثلاثة منهم من أصل سوري مثلا – وجاء الإسلام فنسفه من أساسه . ويمكن لأي متشكك أن يقرأ نصوص المعاهدات المفروضة على أهل البلدان المفتوحة ،ومنها المعاهدة التي أخذها عمرو بن العاص على أهل مصر ،والنوبة على وجه التحديد ، ليتأكد أن مبدأ المواطنة مرفوض جملة وتفصيلا في دولة الإسلام .
7 - تستهجن الكتابات والتحليلات محاولات الإخوان اختطاف الثورة ، بالاستيلاء على مقاليد السلطة الجديدة . وأي مُطلع ، ولو بقدر يسير ، على تجارب الثورات ، يرى بالضرورة أنه استهجان غير مبرر . إذ هي كثيرة تلك الثورات التي تم اختطافها . وعملية الاختطاف تمت إما على يد شركاء فيها ، وتلك أغلبية ، أو من أطراف خارجية ، وقفت على هامشها ، أو أنها لم تشارك فيها البتة . وما يعنينا أن نوايا الإخوان ظهرت مبكرا ، ومن لحظة انفضاض الميادين ، يوم 12 فبراير تقريبا . وازدادت وضوحا مع تشكيل لجنة تعديل الدستور ، ثم الاستفتاء على المواد المعدلة . وأي مراقب متمرس ، لا بد لاحظ أن الإخوان اعتمدوا شرعية صناديق الانتخابات ، ليس وسيلة فقط ، بل وإستراتيجية لتحقيق هذا الهدف . وفي الطريق لتحقيقه استخدموا تكتيكات استهدفت تطمين شركاء الثورة ، بالإعلان عن إقصار المنافسة على 30 % من مقاعد مجلسي البرلمان تارة ، وعدم الترشح للرئاسة تارة أخرى ، والمشاركة في الجان ، والموافقة على المبادرات العديدة ، لتشكيل لجنة ، ووضع الدستور . ومن وراء ذلك كله ، تم إبرام اتفاق سري مع المجلس العسكري الحاكم ، يساعدهم على الاقتراب ، بصورة أيسر ، من هدف الانقاض على الحكم . وهكذا تركوا الشركاء في الميادين ، يحاولون استكمال الثورة ، ويواجهون عنف البلطجية تارة ، وقمع أذرع المجلس العسكري تارات . وصبوا كل جهودهم على الفوز بشرعية صناديق الانتخابات . وكان بديهيا أن يغيروا التكتيكات ، وهو ما رآه الكتاب والمحللون تراجعا عن الوعود ، ونكثا للعهود . ذلك على الرغم من وضوح منهج الإخوان ، بأنهم يسيرون نحو هدفهم ، الاستيلاء على الثورة والحكم ، بكل عزم ومثابرة .
حلم قديم :
إذن وبعد ما تقدم من ملاحظات ، نصل إلى كشف جانب آخر من جوانب ما وصفناه بالرومانسية السياسية .إذ ينحو كثرة من المحللين والكتاب ، داخل مصر وخارجها ، إلى تقديم الإخوان – ومثلهم السلفيين - ، من خلال العودة لكتابات الإمام حسن البنا ، المبكرة ، كجماعة دعوية ، لا يشكل الوثوب على الحكم هدفا لها . ذلك مع أن أصغر سياسي يعرف تماما ، أن القفز على الحكم ، وتحويل الدولة إلى دولة دينية ، كخطوة على طريق استعادة الخلافة ، يتعدى كونه حلما قديما ، ليشكل بؤرة إستراتيجية الجماعة ، ومحور كل حركتها ونشاطاتها . هذا حلم راود الإخوان ، وبذلوا كل جهد لتحقيقه ،على مدى يزيد عن ثمانية عقود . ومع مثل هذا الحلم لا يستقيم لا حسن النوايا ، ولا الطهارة الثورية . وفي ظني أن هذا الحلم ، والسعي لتحقيقه ، لم يغب ، ولو للحظة ، عن نظر مشتغل بالسياسة ، في مصر أو في غيرها .
في العام 2006 عدت إلى الإسكندرية ، لأول مرة بعد 44 عاما على مغادرتها . وجدتها عابسة ، تفتقد الضحكة الصافية ، الصاخبة والمجلجلة . حزينة ، سقطت من على شفاهها البسمة ، وغابت عنها النكتة اللاذعة ، الكاشفة والجميلة . كئيبة ، كساها الحزن ، وغاب عن شوارعها صوت أم كلثوم وحليم وفريد وعبد الوهاب . وعن كورنيشها صخب المستحمين في مياه بحرها ، والمستلقين على رمال شواطئها . وركبني هاجس يقول :هذه ليست الإسكندرية التي غادرتها قبل أربعة وأربعين عاما . وليس بسبب أن شبابي الذي كان يرى للأشياء طعما آخر ، قد تسرب مني . فهذه ليست البلد الجميل المشرق المتفتح للحياة التي عرفتها وعشت فيها سنوات أربع ، هي الأجمل في عمري كله . ركبني الحزن ، بديلا للبهجة التي افتقدتها في فلسطين الجاثمة تحت كابوس الاحتلال ، والتي جئت الإسكندرية باحثا عنها – البهجة - ، ومن أجلها . تحت وطأة هذه المشاعر دخلت مكتبة عائلة مناضل عريق ، في الحي الذي تقع فيه كلية العلوم التي تخرجت فيها . مناضل ثوري مخضرم ، عرفته من جريدة الأهالي التي أداوم على قراءتها . حصلت على عنوان المكتبة – وهي مكتبة قرطاسية - من مقر الجريدة في القاهرة ، والذي هو مقر حزب التجمع أيضا . كانت تجربتنا في انتخابات المجلس التشريعي ، واكتساح حماس لها ما زالت طازجة . وكان تقديري ، استنادا لما رأيته في شوارع القاهرة والإسكندرية ، أن مصر مقبلة على مثل ما حدث لنا في فلسطين . طرحت مخاوفي ، بخصوص ما ينتظرنا في فلسطين ، على أيدي حماس وبرنامجها ، على صديقي المناضل العريق ، والذي قابلته لأول مرة . فاجأني الصديق بأن انهال علي ، بموعظة طويلة عن حق الإخوان في حرية العمل ، وفي الحكم ، إن اختارهم الناس ، وفي تجربة تطبيق برنامجهم ، وترك الحكم ، على نجاحهم من فشلهم ، لجماهير الناس الذين اختاروهم . لم يمنحني فرصة كي أوضح أنني لست ضد ذلك ، ولكن في السياسة من المحظور ، بل والمحرم ، الركون لحسن النوايا ، وبناء الموقف على ما تعرض له هذا الطرف أو ذاك ، من عسف السلطة وملاحقاتها وجرائمها . حاولت أن أقول أن الاحتكام إلى اللعبة الديموقراطية ، وأخذ الإخوان فرصتهم كاملة ، يقضي بوضع برامجهم تحت المجهر . بنقاشها . بالحوار معها . بعدم السماح ببقاء هذا الغموض الذي يلفها . بإزاحة غطاء القدسية عنها . حاولت أن أقول أن حماس حصلت ما حصلت عليه ، دون التعرض ولو بكلمة لعملياتها الاستشهادية ، التي انعكست خسارات سياسية ومادية على قضيتنا . دون مناقشة جادة ، كما يحدث في أية ديموقراطية ، لبرنامجها الذي ينتوي إعادتنا أربعة عشر قرنا إلى وراء . لم يستمع الصديق ، ولم يتح لي ، ولو مرة واحدة ، أن أكمل فكرة بدأتها . خرجت من مكتبة العائلة ، والحيرة تمسك بتلابيبي . فأنا أعرف هذا المناضل ، معرفة غير شخصية ، منذ سنين . سياسي محنك ، مناضل وثوري وصاحب تجربة وخبرة لا يختلف عليها اثنان . حيرتني المقابلة . ساءلت نفسي بعدها عما إذا ما كان التجريف السياسي ، السائد في منطقتنا العربية ، قد أوصل سياسيي مصر ومناضليها ، إلى حال مثقفينا – فلسطين - الذين لا يملون من التبشير بأن الحقبة القادمة لا بد أن تكون إسلامية ، وكقدر لا فكاك منه . وبعد مرور كل ذلك الوقت ، نجح صديقي ، الذي لم أره غير تلك المرة ، وحصل على عضوية مجلس الشعب بعد الثورة . ، ولدهشتي ، فإنه ، وبعد تجربته مع مجلس شعب ، يحكمه الإخوان ، قد تجاوز في مواجهتهم المدى الذي طمحت إليه ، في تلك المقابلة ، التي لا أدري إن كان هذا المناضل الكبير مازال يذكرها .
الخروج المبكر :
ولم تظهر نوايا ، أو خطط ، الإخوان لاختطاف الثورة ، فقط بتركهم لساحات استكمال الثورة ، وبتواطئهم مع المجلس العسكري ، وسكوتهم على الممارسات الإجرامية بحق الثوار . كانت هناك مواقف ، وسلوك كاشف آخر ، تجاه الأزمات المتلاحقة ، متقنة التصنيع ، التي أخذت بخناق مصر ، وألقيت مسؤوليتها على الثورة وشبابها . مواقف وسلوك ، بدت لي ، أكثر عمقا ، وأوضح تعبيرا ، عن نوايا الإخوان ومخططهم لاختطاف الثورة . مواقف تجاه أزمات اختبرنا بعضا منها ، عرفنا كيف نتعامل معها ، واجتزناها ، هنا في فلسطين ، أيام الانتفاضة الأولى . أزمات ، كالانفلات الأمني ، واستفحال ظواهر البلطجة ، والسرقات بالإكراه ، وخطف الأطفال ، فانعدام أمن المواطن وأمانه . أزمات أنابيب البوتاغاز ، والسولار والبنزين ، ورغيف الغلابة . أزمات انفجار العنف الطائفي وحرق كنائس ، وقطع خطوط المواصلات ، وشغب الملاعب ، ومراكمة جبال الزبالة ، وغير ذلك كثير . أزمات تفرض على القوى السياسية ، ليس التشخيص ، أو التنديد والشجب ، وإلقاء المسؤولية على هذه الجهة أو تلك ، بل إعداد برامج ، ووضع خطط ، للمواجهة فالحل ، بديلا للجهات المقصرة إن أحسنا النوايا . وعندما لا تفعل القوى السياسية ذلك . عندما تكتفي بالندب ، وإلقاء التبعة على الغير . عندما تتستر على الفاعل ، ولا تواجهه . عندما لا تخرج هي لتحمل المسؤولية . عندما لا تبادر إلى حفظ أمن المواطن وأمانه . عندما ترضى باستمرار عدم الاستقرار ، فإنها تكشف عن نواياها الحقيقية ، بأنها ستستغل كل ذلك لخطف الثورة ، ولكي تعيد بناء مؤسسات الدولة وأجهزتها ، أي لتبني دولتها هي ، على أنقاض أمن المواطن واستقراره .
البلطجة :
فإذا ما أخذنا ظاهرة البلطجة ، والموقف منها كمثال ، لوجدنا أنها برزت في كل بلدان الثورات العربية ، وتحت أسماء متقاربة : بلطجية ، بلاطجة ، شبيحة ، زعران ، وغيرها . والمدهش أن أقلام الكتاب ، وحوارات المحللين ، التفت لها ، وكرست لها جهدا كبيرا ، في البداية . لقد قيل الكثير عن أصل الكلمة ، ودور البلطجية ، وعن التطورات التي واكبت مسيرتهم . لكن ، حسب متابعتي ، لم يلق الدور السياسي ، الذي عُهِد به للبطلجة ، اهتماما موازيا ، أو مقاربا الكتاب . فالبلطجية ، أو البلاطجة ، أو الشبيحة ، ابتعدت بهم مسيرة تطور الظاهرة ، عن السياسة ودروبها . وهم حين يؤدون دورا في السياسة ، يكونون قد أعدوا أو هيئوا لدور بعيد عن دورهم الطبيعي . البلطجي يهتم بتحصيل رزقه من الآخرين ، باعتماد وسائل عنيفة ، تكون له الأفضلية فيها ، لحظة استخدامها . والبلطجي لا تعنيه حال البلد ، والصراع على الحكم ، إلا بما يعود على جيبه ، عبر استئجار هذا الطرف أو ذاك لخدماته . أما أن يتبرع بالذهاب إلى ميادين الثورة ، وأن يهاجم المتظاهرين ، فهو أمر أبعد من أن يخطر على باله .
والمعروف عن البلطجية ، أنهم أبعد ما يكونون عن جهاز منظم ، وقيادة مركزية ، موجهة لحركتهم وفعلهم ونشاطاتهم . قد ينتظم البلطجية في مجموعات صغيرة ، لها قيادات ، ربما تصل إلى مستوى الحي . لكن أبدا لن يكون لهم تنظيم ، وقيادة مركزية ، على مستوى مدينة كالقاهرة ، أو على مستوى قطر كسوريا . وحين يتحرك البلطجية بحجم وفعل ما حدث في موقعة الجمل ، في ميدان التحرير ، مثلا ، وكما حدث في صنعاء ، وفي أنحاء متعددة من سوريا ، تكون المسألة أكبر من مجرد مبادرة من أقطاب في الحزب المنحل ، لاستئجار هؤلاء .
لقد كشفت الأحداث أن البلطجية يشكلون نوعا من جهاز من أجهزة الأمن . لا تنطبق عليه بالضبط مواصفات الأجهزة الأخرى ، من حيث الراتب والدوام والمهمات ...الخ . لكنه جهاز يعمل وقت الحاجة ، وبتوجيه مباشر من جهة ما في جهاز الداخلية . والدليل استخدامه في مهام سياسية ، كمواجهة الثوار المعتصمين ، والاعتداء عليهم ، بالقتل والسحل ...الخ . ودليل آخر تمثل في حماية أجهزة الأمن لهؤلاء القتلة ، رغم انكشافهم ، وتقديم الدليل القاطع ، بالصوت والصورة ، على جرائمهم ، بعدم القبض عليهم وتقديمهم للعدالة . وحتى الذين قبض عليهم الثوار ، وسلموهم لأجهزة الأمن ، أو لقوات الجيش ، لم يتعرضوا للتحقيق ، ومن ثم لم يكشفوا عمن جمعهم وأناط بهم المهمة ، وأرسلهم ، ودفع لهم .
وكما أشرت واجهنا مثل هذه الظاهرة ، مع أكثر من وجه اختلاف لها ، في الانتفاضة الأولى ، ونجحنا في إيجاد علاج لها . واستنادا لتلك التجربة لم أفهم كيف أن تنظيما ، بحجم وقوة تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، تقاعس عن الإقدام على مواجهتها . فلظاهرة البلطجة ، ورغم أنها جهاز من أجهزة الداخلية ، نقاط ضعف أساسية ، تسهل على أي قوة معنية ، مواجهتها ، وتخليص المواطنين من شرها . فالداخلية ، وقبلها المجلس العسكري ، لا تؤدي ، ولا أقول تتقاعس عن ، واجبها في التصدي ل ، واجتثاث هذه الظاهرة . وهي لذلك لا تملك ، لا المبرر الأخلاقي ولا القانوني ، لمعارضة من يتقدم لتخليص المواطنين والثورة ، من آثامها . وفوق ذلك تستنكف الداخلية ، أو الدولة ، عن بسط حماية رسمية على البلطجية . و تتنصل علنا من العلاقة معهم . واستنادا لتجربتنا في الانتفاضة الأولى ، يمكن لحزب ، كحزب الإخوان المسلمين ، أو لحزب أصغر منه حجما ، وأضعف قوة ، كما فعلنا ، أن يصدر تعليمات للتنظيم ، أو أن يشكل منظمات متخصصة ، تتحدد مهامها بمواجهة البلطجية ، وبالقبض عليهم ، ومن ثم الاقتصاص منهم ، إما عبر تقديمهم لعدالة الدولة ، أو مباشرة للعدالة الشعبية . وحين يستنكف حزب الإخوان عن أداء واجب كهذا ، لا بد أن يفهم المراقب المتابع ، أن وراء الأكمة ما وراءها .
إعادة البناء :
وبهذا نكون قد وصلنا إلى ما كنا وعدنا به في الحلقة الماضية ، من الحديث عن إعادة بناء نظام الدولة ، بعد إطاحة الثورة ، أو هكذا افترضنا أن يكون ، بالنظام القديم . وكنا قد أشرنا أن الثورة أطاحت بالفعل ، ببعض أعمدة نظام مبارك : الدستور ، الداخلية والأمن ، البرلمان ، ثم بالحزب الحاكم . وكان أن بقيت أعمدة أخرى ، تتمثل في مؤسسات الدولة المختلفة ، كالوزارات ، المؤسسات المالية ، القضاء ، النظام الاقتصادي ، الإدارات المحلية ، النظام النقابي ...الخ ، على حالها . ورغم أن كل هذه المؤسسات ، بما في ذلك نظم الإدارة والعلاقات ، على كثرتها وتنوعها ، وذات العلاقة بالناس وشؤونهم ومعيشتهم ، تحتاج إلى إعادة بناء ، استأثرت الأعمدة الأساسية - الدستور والداخلية بأجهزة أمنها المتعددة ، ومؤسسة الرئاسة ، بجل الاهتمام . وفي الحلقة السابقة وقفنا على الكيفية التي تمت بها معالجة مسألة الدستور ، فيما تجري أمامنا عملية إعادة بناء مؤسسة الرئاسة .
فلقد حمل تعيين مبارك لوزارة شفيق ، تكليفا لها بإعادة بناء وزارة الداخلية . كلف شفيق أحد لواءات الداخلية – محمود وجدي - بهذه المهمة . واختار عصام شرف ، الذي تلا شفيق بعد إسقاط الثورة لوزارته ، لواء آخر ، هو منصور العيسوي ، لإتمام المهمة . وفعلت مثلهما وزارة الجنزوري ، باختيار لواء ثالث ،هو محمد إبراهيم ،لإكمال ما بدأه سلفاه . واتفق الألوية الثلاثة ، على استخدام ذات المنهج ، وذات الخطة ، في إعادة البناء . وهي الاعتماد على ذات العناصر المتوفرة ، مع إعادة للهيكلة ، ورفض ومقاومة فكرة التطهير . وهكذا لم يسمع أحد عن طرح تصور لإعادة النظر في مناهج كلية الشرطة ، أو في أساليب التدريس . ووجهت برفض قاطع أفكار تجديد ، مثل تعويض نقص الكادر بخريجي كليات الحقوق ، الذين ينتظرون قرارات وزارة القوى العاملة لاستيعابهم في وظائف جديدة . وهكذا كان من غير المنتظر أن تسفر جهود اللواءات عن بناء جديد ، لهذا العمود ذي الأهمية القصوى ، في أي دولة حديثة ، وغير العودة لإنتاج ذات الوزارة القديمة .
المدهش أن حزب الإخوان ، وحزب النور ، وباقي أحزاب تيار الإسلام السياسي ، لم تول اهتماما يذكر لهذه المسألة الحيوية . وأكثر من ذلك لم تول ما وصف بعجز وزارة الداخلية عن تحقيق الأمن ، ومن ثم مسألة الانفلات الأمني ، واستفحال ظاهرة البلطجة ، وظواهر التعديات الأخرى ، على أمان المواطن واستقراره ، أي نوع من الاهتمام . ولا يستطيع المراقب إلا أن يرى ، كيف انصب اهتمام حزب الإخوان على استغلال حاجة الناس – احتكار وتوزيع أنبوبة البوتاغاز مثلا - والتي خلقتها جهود إعادة بناء الداخلية ، بمنهج اللواءات السالف ذكره .
تجربتان :
وقلت أننا في فلسطين ، وعلى مدار سنوات الانتفاضة الأولى الخمس ، واجهنا أزمات ، قريبة من حيث المضمون ، من الأزمات والإشكالات ، التي واجهتها مصر بعد الثورة . وقلت أننا نجحنا في علاج أكثرها . ولدينا في الجانب السلبي أكثر من تجربة ، كان يمكن لثوار مصر الاستفادة منها . صحيح أننا شعب صغير لا يقارن بحجم شعب مصر . لكن قيمة التجربة تتحقق من مضمونها ، وليس من صغر أو كبر حجم أصحابها . وإذن سأسمح لنفسي بعرض تجربتين ، قد تقدمان نفعا ما ، إزاء مسألة إعادة بناء الداخلية المصرية.
بعد مضي قرابة ستة أشهر ، على بداية الانتفاضة الأولى ، انهار الجهاز المدني الذي كان الاحتلال قد أقامه ، بكل إداراته وفروعه . وكان على قيادة الانتفاضة أن توفر البديل ، للحماية ، وتوفير الأمن والأمان ، والحلول للمشكلات والقضايا الناشئة . وكانت اللجان الشعبية ، باختصاصاتها المتنوعة ، هي الحل . ونفذت هذه اللجان مهماتها بنجاح كبير . وقدم عدم وصول متقاضين إلى المحاكم الرسمية - كانت غير قائمة فعليا – وعلى مدى سنوات الانتفاضة الخمس ، برهانا ساطعا على هذا النجاح . لكن كان هذا هو الجانب الإيجابي للمسألة .
فقد لحق بانهيار أجهزة الاحتلال المدنية ، انهيار جهازها الأهم ، جهاز المخابرات ، أو تنظيم العملاء كما كنا نسميه . التجأ جزء من ذلك الجهاز ، ومباشرة إلى إسرائيل . واضطر الاحتلال إلى تجميع جزء آخر في معسكر للجيش ، على مقربة من مدينة جنين . وسلم جزء ثالث نفسه لنشيطي الانتفاضة . وحسب تقدير الجميع التزم أفراد ، من المهمين للجهاز ، والمحاطين بأسوار من السرية ، التزموا بيوتهم ، في انتظار تطور الأحداث . واحتفلت الانتفاضة بهذا النصر الكبير .
لكن فتح سارعت ، وبدون أي تنسيق مع حلفائها ، بإعلان العفو عمن سلم نفسه من العملاء ، أتبعته بضمان حمايتهم ، مقابل خروجهم والاعتراف علنا بجريمتهم ، عبر سماعات المساجد ، وإلحاق الاعتراف بإعلان للتوبة . كطرف في قيادة الانتفاضة ، رفضنا خطوة فتح هذه . وحاولنا ، بكل السبل إقناعها بالتراجع عنها . من بين ما قلناه أن استسلام هؤلاء العملاء وفر للانتفاضة فرصة ذهبية ، ينبغي عدم التفريط بها وإضاعتها . فالتحقيق معهم يوصل إلى كشف ذلك الجزء المهم المتبقي ، ويُمكِّن الانتفاضة من قلع هذا الجهاز المجرم ومن جذوره ، ويحرم الاحتلال من إمكانية إعادة إحيائه من جديد . رفضت فتح وأصرت على موقفها : العفو وضمان الحماية . استندت إلى تقدير أن النصر تحقق ، وأنه لم يبق غير القليل ، كي يحمل الاحتلال عصاه ويرحل . واستنادا لهذا التقدير ، خطت خطوة أبعد ، تمثلت بضم معلني التوبة من هؤلاء العملاء لصفوف الانتفاضة . لم يتبق أمامنا غير التعميم على رفاقنا وجمهورنا بعدم السماح لهؤلاء العملاء من الاقتراب من صفوفهم . وبهذا حمينا جمهورنا من احتمالية الغدر بهم وبنا .
بعد قرابة السنة صحت فتح ، والفصائل التي سايرتها ، على وقوع خسائر مؤلمة في صفوفها . ثم اتضح أن الاحتلال نجح في إعادة إحياء وتنظيم هذا الجهاز ، الذي أخذ يعمل بكفاءة أكبر . واضطرت هذه الفصائل لتشكيل تنظيمات خاصة ، تحددت مهامها في ملاحقة هؤلاء العملاء ، الكشف عنهم ، ثم سحبهم للتحقيق والمحاكمات الثورية . وتشكلت خلايا هذه التنظيمات من شباب في أوائل العشرينات من العمر ، بكل ما يتصفون به من جرأة وجسارة ونقاء ثوري ...الخ . في البدء تميز عمل هذه التنظيمات بكفاءة عالية . لكنه ككل عمل من هذا النوع ، ومواصفات لمسؤولياته وصلاحياته ، أخذ ينحرف نحو القسوة المفرطة شيئا فشيئا ، حتى بات خروجه على كل عرف ، وارتكابه لأبشع المخالفات أمرا عاديا ومألوفا . وكما كتبت ، في كتاب " الديموقراطية الفلسطينية في الممارسة " شكلت هذه الانحرافات ، وسخط المواطنين عليها ، أحد العوامل التي عصفت بالكثير من نجاحات الانتفاضة المتحققة . واليوم ونحن نراقب عملية إعادة بناء الداخلية في مصر ، وجهاز أمن الدولة وتسميته الجديدة ، الأمن الوطني ، نسحب من صدورنا نفسا عميقا ، ونحن نقول : لله دركم ما أشبه اليوم بالبارحة .
تلك إذن كانت التجربة الأولى . أما الثانية فتمثلت في موقف حركة حماس من بناء مؤسسات السلطة . ولا أظن أن القارئ بحاجة إلى التذكير بأن حماس ، ومنذ اليوم الأول لنشأتها ، وبعد بضعة أيام من نشوب الانتفاضة ، ودخولها الأول لمعترك النضال ضد الاحتلال ، وقفت رافضة للانضواء تحت لواء الوحدة الوطنية ، أحد أبرز مستحقات الانتفاضة . أنشأت قيادتها المعارضة للقيادة الوطنية للانتفاضة . حماس، بعد تحويل اسمها عن منظمة لجماعة الإخوان المسلمين ، طالبت بالفم المليان ، بأربعين في المائة ، بداية ، من مقاعد هيئات منظمة التحرير ، ثم بالحق في الانفراد بقيادتها ، أو على الأقل تجاوز فتح في المحاصصة على مقاعد القيادة . وأيضا لا أظن القارئ بحاجة للتذكير بأن فتح استنسخت النظم العربية ، خصوصا مصر ، في بنائها لمؤسسات السلطة الفلسطينية . وكان أن لفت الانتباه موقف حماس من عمليات البناء تلك ، والمصممة لضمان سيطرة فتح الدائمة ، رغم ما تضمنه الإعلان التأسيسي عن مبدأ تداول السلطة . لم تعترض حماس ، أو اكتفت بمعارضة لينة ، ثم بمحاولات لتسريب عناصرها إلى أجهزة المؤسسات المختلفة ، خصوصا أجهزة الأمن ، وفيما بدا وكأنه قبول بمنهج فتح . لكن بعد اكتساحها للانتخابات ، وتشكيلها لأول حكومة ، أخذت في تعيين أعضائها وأنصارها ، في مناصب موازية لتلك التي يحتلها أعضاء فتح وأنصارهم ، بدءا بوكلاء الوزارات ، ومرورا بالمدراء العامين ، وغيرهم من الموظفين الكبار . وكان واضحا أنها تنشئ في كل وزارة جهازا موازيا لجهاز فتح . والأهم أن وزير الداخلية الحمساوي ، بدأ ومن اليوم الأول ، في توظيف أعداد من الحمساويين في أجهزة الأمن ، وصل عددهم ، وبعد ستة أشهر فقط إلى أحد عشر ألفا . وحين نفذت حماس انقلابها ، كانت أجهزتها كاملة . وفي قطاع غزة ، وبعد طرد موظفي فتح ، سيطرت أجهزتها ، وبالكامل ، على كل مفاصل السلطة . وغني عن القول أن دولة غزة الآن دولة حمساوية صرفة .
والخلاصة :
تجربتنا هذه مع حماس ، وفرت لنا أدوات لرؤية وفحص مخطط حزب الإخوان في مصر . مصر بالطبع أكبر بكثير ، لكن التجربة ، في العادة ، حين تثبت صلاحياتها مع الصغير ، تعلن عن صلاحيتها مع الكبير . انظروا إذن لسكوت حزب الإخوان عن جهود الوزراء اللواءات في إعادة هيكلة الداخلية . وتوقفوا ، رعاكم الله ، عند مطلب حزب الإخوان بتخصيص حصة لهم من طلبة كليات الشرطة الجدد ، ومثله من المنتسبين الجدد للكليات الحربية .
وأختم بالقول : يصف كثيرون من الكتاب والسياسيين والمحللين ، سلوك الإخوان هذا بعدم الوفاء للثورة . بنقض العهود والتراجع عن الوعود . بالالتفاف على الثورة وسرقتها . وينسون كلهم أن الإخوان ، يرون ، ومنذ عقود ، أن نضالهم هو الثورة بعينها . وأن برنامجهم هو برنامج الثورة . وأنهم بتطبيق منهجهم سيسارع الله بإنقاذ مصر من أزماتها . وسيخرجها من كافة عثراتها . وبالتالي سيوفر الحل لكل مشكلاتها . وستنعم بالازدهار والتطور والعمران . لا تسأل كيف سيتم ذلك ، لأن الله هو من سيتكفل به . ألا تعي عزيزي القارئ معاني شعارهم : نحمل الخير لمصر . فقط ما عليك إلا أن تدخل في إسلامهم حتى يهل عليك وعلى مصر خيرهم .



#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عفوك يا سماحة المفتي هذه ليست مساواة
- تغيير يوجب تغييرات
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 16 تغيير ام إصلاح
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 15 المثقفون وأدوارهم 4 سو ...
- آفاق المرأة والحركة النسوية بعد ثورات الربيع العربي
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 14 المثقفون وادوارهم 3 مخ ...
- قرراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 13المثقفون وأدوارهم 2
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 12
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 11مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 10 مخاطر على الديموقراطية ...
- عن دور اليسار في ثورات الربيع العربي
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 9 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 8 مخاطر على الديموقراطية ...
- الربيع العربي وقضايا الأقليات القومية
- قراءةتأماية في ثورة الشباب المصري 7 مخاطر على الديموقراطية 6 ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 6 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 5 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 4 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 3) مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 2 مخاطر على الديموقراطية ...


المزيد.....




- سموتريتش يهاجم نتنياهو ويصف المقترح المصري لهدنة في غزة بـ-ا ...
- اكتشاف آثار جانبية خطيرة لعلاجات يعتمدها مرضى الخرف
- الصين تدعو للتعاون النشط مع روسيا في قضية الهجوم الإرهابي عل ...
- البنتاغون يرفض التعليق على سحب دبابات -أبرامز- من ميدان القت ...
- الإفراج عن أشهر -قاتلة- في بريطانيا
- -وعدته بممارسة الجنس-.. معلمة تعترف بقتل عشيقها -الخائن- ودف ...
- مسؤول: الولايات المتحدة خسرت 3 طائرات مسيرة بالقرب من اليمن ...
- السعودية.. مقطع فيديو يوثق لحظة انفجار -قدر ضغط- في منزل وتس ...
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة نفط بريطانية وإسقاط مسيرة أمير ...
- 4 شهداء و30 مصابا في غارة إسرائيلية على منزل بمخيم النصيرات ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 17 اختطاف الثورة قبل الأخيرة