أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - وديع العبيدي - الدين.. وتغليف فكرة اللا جدوى بالشوكولاته















المزيد.....


الدين.. وتغليف فكرة اللا جدوى بالشوكولاته


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 3730 - 2012 / 5 / 17 - 19:22
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


وديع العبيدي
الدين.. وتغليف فكرة اللا جدوى بالشوكولاته
بدء كلّ شيء في ولادته فكرة، وبدء كلّ فكرة هو الغرض منها. فالغرض يمثل خاصة الاستعمال. والقيمة الاجتماعية أو الاقتصادية لأي شيء في الوجود هي قيمتها الاستعمالية. أما ما لا يمكن استعماله أو تداوله والافادة منه فأيّ قيمة له؟..
وأفترض هنا أن ظهور [الدين] بدأ كفكرة، ومبرر الفكرة أو مهمازها هو الغرض المنشود منها.
في هذا الافتراض قد يفضل البعض القول، ان بدء أي فكرة أو ظاهرة هو العلّة / السبب. وقد توصف العلّة بالحاجة. ولكن الحاجة والقيمة وجهان لعملة واحدة، كما أن السبب والغاية كذلك. ونعرف من بواكير الفلسفة القديمة عن نشأة الكون، ان الغاية تتحول إلى سبب، والسبب يتحول إلى غاية/ [محرك/ متحرك] في صيرورة وجودية، كما هي لدى ألاغارقة وشروح ابن سينا لأرسطو.
يختلف الدين عن الظواهر المادية بكونه ظاهرة فكرية ثقافية، مجالها العقل أو الذهن البشري. والذهن البشري يتعامل ويتفاعل [يتأثر ويؤثر] في محيطه البيئي [الكوني والاجتماعي]. وأن تاريخا من الصمت انصرم قبل ظهور فكرة الدين. إذ لم تكن ثمة حاجة حقيقية لهذه الفكرة الطارئة.
منبع هذا الافتراض مشتق من دراسة قصة الخليقة التوراتية، والتي يمرحلها بعض المؤرخين إلى عصر (الآباء) وعصر (الأنبياء). والمقصود بالآباء هم رموز الفترة من خليقة أدم حتى ظهور ابرام بن تارح، المدعو ابراهيم ابو الأنبياء. يطلق المؤرخون على عصر الآباء بفترة الصمت النبوي- أي عدم وجود أنبياء- كوسطاء بين السماء والأرض.* ويرى بعض لاهوتيي العهد القديم أن عدم وجود أنبياء لا يعني القطيعة بين السماء والأرض. وانما الاتصال كان قائما ولكنه كان عاما مع الجميع ولم يتخصص بأشخاص محددين لنقل الرسائل كأنبياء كما عرفوا لاحقا.
الظاهرة الدينية ارتبطت بالانبياء، كوسطاء بين الأرض والسماء. أما قبل ظهور الأنبياء، فلم يكن وجود لمنظومة الدين، وقيادتها الثيوقراطية المنظمة وأدائها الطقوسي الروتيني. وبالتالي.. فأنه لا بدّ من التمعن في دراسة مرحلة الانتقال إلى عصر الأنبياء، للوقوف على حقيقة الظاهرة الدينية [منظومة الدين]. وبحسب معطيات التاريخ الكتابي، حيث يشكل [طوفان نوح] حدّا فاصلا بين عصرين.
*
الطوفان..
في سياق ملحمة جلجامش يأتي ذكر (الطوفان) في صيغة الماضي، ممثلا بشخصية [اوتو نبستي] الذي حصل على مرتبة الخلود ودخل مصاف الآلهة. ولا توجد إشارة زمنية للمسافة بين عصر جلجامش وعصر [الرجل الخالد]. أما التوراة فتتناول القصة بلغة المضارع الراهن، ولذا يمكن تلمس كثير من التفاصيل المتدرجة، التي تسجل وتؤرخ الانتقال بين مرحلتين.
من أكثر مسائل الجدل إشكالية في الفكر الكتابي، هو الاختلاف في فهم أو تفسير المقصود بعبارة [أبناء الربّ، وبنات الناس]، وقد تفنن المفسّرون فنونا شتى لتعريف المقصود، بما فيها التأويلات الميثولوجية أو الاحتمالات الخارقة. فاعتبر البعض انه إذا كان أبناء الربّ يوصفون [بالملائكة]، فأن المقصود ببنات الناس هم [الجنّ]. وتخدم هذه الملاحظة أمرين:
- ربط الشرّ بالجنّ/ ذرية الشيطان.
- ربط المرأة بالشرّ/ شريكة الشيطان.
*
جدول التغيرات الفاصلة بين عصرين..
1- الاشارة التوراتية المهمة في هذه الفاصلة الزمنية التاريخية هي القرار السماويّ: [لا يدوم روحي في الانسان إلى الأبد] بعد الآن! وهذا يعني أنه ابتداء من تلك اللحظة، حصل تغيير في العلاقة بين الخالق والمخلوق. وهذا القول يتضمن من القسوة والتقريع الضمني، ما يصل درجة الانقلاب في العلاقة أو الوصول حدّا يصعب تجاوزه. فتجريد الانسان من [روح الله]، يعني الموت، ويحيل إلى قصة خليقة آدم. والانفصال عن الروح كناية عن الموت. ولذا اعتبر الفكر الانسان ميتاً [بالخطيئة]، وأنه بحاجة للدين ليعود للحياة.
في قصة الخليقة التوراتية.. تتأكد القرابة الشديدة بين الخالق والمخلوق والتي تتلخص في ثلاث نقاط: [خلق الربّ الاله الانسانَ على صورته]/ تك 1: 27، [نفخ في أنفه نسمة حيوة، فصار آدم نفسا حيّة]/ تك 2: 7 ، [أخذ الربّ الاله آدمَ ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها]/ تك 2: 15. الملاحظة الأخرى، أن [الروح] كمصطلح لاهوتي مسيحي، هي الوسيط (مادة الصلة) بين الخالق والمخلوق. وبواسطتها يتمكن [النبي] من استلام رسالة إلهية وتسليمها للبشر. وإليها كانت إشارة يسوع المسيح في [يو 14: 26] أي الروح القدس التي فاضت على التلاميذ في اليوم الخمسين [أع 2: 5]. وهي تجسيد لفكرة استعادة العلاقة الأصلية بين الخالق والمخلوق/ المصالحة من خلال التحرير والتبرير. ولكن تعبيراً لبولس الرسول* يميز بين صنفين من العلاقة البينية، الأولى وهي الشائعة [أننا ونحن مستوطنون في الجسد، فنحن متغربون عن الربّ]، والثانية المرتجاة [نثق ونسرّ بالأولى أن نتغرّب عن الجسد، ونستوطن عند الربّ]، بكلّ ما يوحي به من تداعيات غنوسية. اغتراب الروح هذا هو جوهر الاغتراب الذي يراه بول تيلش في الحياة الحديثة. فاستغراق الفرد في فائض النزعة الاستهلاكية وخصائص حياة السوق الرأسمالية، يقيم حاجزا ماديا قاتلا يفصل بينه وبين ذاته، وبين ذاته وبين [أناه العليا] بحسب كيركغارد، وهو ما يتكشف بشيوع مشاعر الضياع والاحباط واليأس من الحياة والمستقبل، المتزايدة جيلا بعد جيل.
2- تحديد معدل عمر الانسان بمائة وعشرين سنة. وكان المعدل السابق يبلغ تسعمائة سنة. وهو الطابع العام لسكان عصر الآباء. وبرغم عدم وجود اتفاق عام أو معطيات أكيدة عن طول السنة أو طريقة قياسها يومئذ. لكن مجرد الاشارة الزمنية (ممثلة بالسنة)، تعطي الانطباع بوحدة المعيارية، وتقليص الاعمار بحسب ذلك، والذي يندرج هنا في باب الاجراءات الجديدة أو العقوبات المترتبة على زيغان البشر. المعنى المباشر لذلك هو عدم جدارة البشر لنيل الحياة، والتي يعتبرها الفكر الديني [هبة سماوية] لم يتعلم الانسان احترامها. وقد عاش ابراهيم مائة وسبعين عاما وسارة أقل من ذلك. واستمر تناقص معدل عمر الانسان عبر التاريخ إلى نصف ذلك المعدل أو ربعه، [ستين سنة، ثلاثين سنة]، قبل أن يعود ويرتفع تدريجيا منذ القرن الماضي، بفعل تطور التكنولوجيا الحياتية والبيئية، وليس بفعل قرار سماوي. بيد أن ارتفاع معدلات الاعمار، غير مقطوعة عن ارتفاع معدلات الاغتراب واليأس البشري.، ناهيك عن ارتفاع معدلات الشرّ والبغضاء.
3- الاشارة الجديرة والدقيقة التالية تتمثل بمرموزية [تضخم أجساد] الناس، بحسب النص "كان في الأرض طغاة في تلك الأيام. .. ولد لهم أولاد. هؤلاء هم الجبابرة، الذين منذ الدهر ذوو إسم"./ (تك 6: 4). وهنا ثلاثة مؤشرات: سقوط الخير في الشر- اسراف في الجسديات- امعان في الشر والظلم. اشكالية العلاقة بين الخالق والمخلوق، كأي علاقة جدلية بينية، تتركز حول مسألة المركزية والقيادة والسيادة. فالمركز تكون له جدارة القيادة والسيادة. وفي التعليم الديني يتم التركيز حول نقطة المركز عند الانسان. فالانسان عموما، -ربما بالفطرة-، يجعل من نفسه مركز الأشياء، وهو ما يؤشره توينبي في قراءته للتاريخ البشري. وباتخاذ ذاته مركزا، فهو يحتلّ المركز الأول، نقطة الأصل [أو- الصفر الرياضي]، فتأتي كلّ الأشياء الأخرى حواليه بالدرجة الثانية وما دون. فالمركز هو المتبوع وكل ما سواه تابع له. لكن الانسان ما يزال حتى الآن، كائنا ناقصا ومشوّها، ويؤكد على الدوام عدم جدارته لمركز السيادة. وعدم نجاحه في اعتبار مبادئ المساواة والتعاون والتفكير والقيادة والحياة المشتركة، مما زاد من معدل الخراب والظلم والطغيان. وقد حاولت الدولة اعتبار نفسها مركز حياة الانسان وتوليها أمر تنظيم حاجاته وعلاقاته (جون لوك). وحاولت المنظومات الدينية التوسّط بين الانسان ونفسه، والتسلّط عليه بجعله عبدا تابعا لهيمنتها. وفي سياق هذا الموضوع، يتمثل الصراع بين المخلوق وخالقه. حيث الثاني يقترح على الأول أن يتنازل له عن المركز، ليتولى الربّ قيادته والسيادة على حياته، فيضمن له كل خير، ويبعده عن الشرّ. فيما يراوع المرء ويتمرد. وهذا هو محور الجدل السجال في الاتجاه والنسبة.
بيد ان اقرار الاجراءات يدل على زيغان البشر، أي رفض الفكرة الالهية، واعتماد المرء على ذاته وقدراته في تسيير دفة حياته وادارة بيئته وعالمه. ويستخدم توينبي مصطلح [تكنولوجيا] تعبيرا عن استخدام الانسان ليده وعقله لإدارة شؤون الحياة والطييعة. ويمكن القول أن عصر ما بعد الطوفان – بحسب التوصيف التوراتي-، هو عصر التكنولوجيا، أي تعويل الانسان على نفسه. اهتمام المرء بنفسه هو اهتمام بالجسد والماديات عامة. اهتمام بالطعام والثياب والسلاح والمتعة والمبالغة في حبّ الذات والظهور والتسلّط. وتشترك حياة اليوم المادية في كثير من خصائص مرحلة الانتقال القديمة تلك، في شيوع النزعات المادية والاستهلاكية والتعويل على التكنولوجيا لأغراض الراحة والتسلية والمتعة، وارتفاع معدلات الحياة ومتوسط عمر الانسان والاهتمام بالجسد، جماله وضخامته، وعبادته [المثلية]، جنبا إلى جنب الجفاء الاجتماعي والجفاف الانساني وشيوع الأنانية وحبّ الذات ومظاهر الاستغلال وانحطاط القيم وما إلى ذلك.
4- الشرّ محور الحياة والحضارة، و(الغاية تبرر الوسيلة). [شرّ الانسان قد كثر في الأرض. وكلّ تصوّر أفكار قلبه هو شرير كلّ يوم.]/ (تك 6: 5). هنا يتم التشخيص والتمييز بين التفكير والممارسة/ العقل والذراع، وهما ميزتان للانسان عن الحيوان، بحسب أكثر علماء الأنثروبولجيا . قد لا تكون المعطيات التاريخية لما قبل الطوفان وافية في السرد التاريخي السريع في الفصول العشرة الأولى من قصة الخليقة التوراتية، لكن هذا الجانب اليوم أكثر وضوحا بفضل الاستكشافات الأثرية، والتي لا تتضمن هدنة أو راحة بل صراع متواصل ومستميت، يجعل من البشر جنودا وعبيدا أو قتلة ومقتولين، سلبة ومسلوبين. وكلما تحقق بعض العمران والازدهار، تكالبت عليه عوامل الدمار والكوارث. بل أن الغرابة، انه كلما نشط عقل الانسان وجهده في مكان، ازداد معدل الصراع والتكالب المدمر حوله. كيف يوفق المؤرخ المعاصر بين الجوانب الحضارية والمنجزات الابداعية لسومر وبابل واشور ومصر والاغريق وروما من جهة، وبين الجوانب العسكرية والدموية والوحشية لعنف الصراع السياسي بينها. تلك الصورة التي ما زالت تصح حتى اليوم، في التناقض بين منجزات النهضة الأوربية وحركة الاستعمار والقرصنة الدولية. وهو ما يصح اليوم على الولايات المتحدة التي تجمع بين صدارة التقدم والتكنولوجيا والتقنيات الالكترونية وهندسة الفضاء، وبين جيوشها التي تجوب البحار والمحيطات البعيدة، تنشر الحروب والدمار في هذا البلد وذاك، باعذار واهية لتأمين سيادتها المطلقة وأمنها الاستراتيجي العالمي. أما السطر المعمى بين السطرين السابقين، فأنه سواء في أوربا عصر النهضة، أم الولايات المتحدة اليوم، تمثل النهضة المسيحية الخط الوسط أو الخلفي ما بين الحضارة وسياسات الاحتلال، ما بين التنوير والهيمنة. فيصبح تصدير الدين جزء من التجارة الاقتصادية وصادرات السوق الغربية.
5- [فحزن الربّ أنه عمل الانسان في الأرض. وتأسّف في قلبه.]/ (تك 6: 6). تشكل هذه العبارة واحدة من المفاتيح الرئيسة في فهم علم الانسان الوجودي الكتابي. ومن النادر الوقوع على معطى بهذا الشكل أو الاتجاه والمستوى في كتاب آخر – سيما الكتب الدينية-. وتنبع أهميته من كونه صنو التجربة الانسانية الحسيّة في الوجود. كلّ شخص يعتزّ بما يعمله أو ينتجه، لكن هذا الاعتزاز ليس مجردا وجامدا بقدر ما هو رهن صيرورة وجودية متواصلة، تؤثر وتتأثر بحكم تفاعلها في الوجود. فالشخص الذي يحبّ الطفل وهو نظيف وجميل وذكي ومؤدب، سرعان ما يضيق به عندما يتشاجر أو يتمرد أو تتغير أطباعه. ومثله، الشخص الذي يحبّ الناس، عندما يجد فيهم الأشياء التي يحبها، ويضيق بهم وينفر حين يرى فيهم عادات أو صفات تثير نفوره. وكلّ هذه صور واستحالات متعددة للأنانية التي تفصل المجتمع عن بعضه، وتؤكد انعدام خاصة الاحتمال. وتشكل العبودية بمختلف صورها [قنانة، أماء، جارية، خادم، غلام] تجسيدا قمعيا لذات أنانية تريد من الآخرين التخلي عن ذواتهم، وتقمص مظهر وسلوك بما يتفق مع صورة يحبّها السيد المالك. وما يقال هنا ينطبق على شخصية الدكتاتور الذي يعمل على مسخ البلد والمجتمع حسب معاييره الخاصة.
لذلك استبعد الكتاب الصورة النمطية الجامدة، أو المعطيات القطعية المجردة. وهو أمر قد يتقاطع مع الصورة/ الفكرة النمطية المختزنة في اللاوعي عن الإله. وهي ذات الفكرة النمطية الجامدة التي يحفل بها العقل الشرقي للأب أو الحاكم أو الأم والصديق حتى آخر ما يمكن من علاقات شخصية، وهو ما يتعارف عليه بالفكر المثالي. فأي صورة/ فكرة، كاملة/ نموذجية، عن أي شيء في الوجود انما هي صورة غير حقيقية ومشوّهة. يتساوى في ذلك الاله والانسان والبشر جميعا. وهذا يؤكد فكرة النسبية في المبنى الكتابي، إلى جانب فكرة النمو والتدرج. الخيبة أو الصدمة التي تتضمنها عبارة التكوين، سرعان ما تتعرض للتجاوز مع التقدم الزمني. بعبارة أخرى، أن هذا الشعور بالأسف والندم على سوء مآل البشر، سرعان ما يعقبه أسف وألم لاحق عقب الطوفان. حيث يصدر تعبير لا يقل عمقا وألما عن ذلك: [وقال الربّ في قلبه، لا أعود ألعن الأرض أيضا، من أجل الانسان،.. ولا أعود أيضا أميت كلّ حيّ كما فعلت. مدّة كلّ أيام الأرض، زرع وحصاد، وبرد وحرّ، وصيف وشتاء، ونهار وليل، لا تزال]/ (تك 8: 21، 22). تقول الشاعرة المبدعة نازك الملائكة..
قطّبْ سئمتك ضاحكا أنّ الرّبى، بـرد وقيـظ، لا ربـيـع خـالـدُ
العبقريّةُ.. يا فتايَ.. كـئيـبةٌ.. والضاحكونَ رواسبٌ وزوائدُ
السبب الأكثر شيوعا للأزمات الاجتماعية، هو عدم توقع وتقبّل التغيّرات النسبية في مضمار العلاقات الاجتماعية. فكلّ شخص له منظور معين ينتظر من الآخر التكيّف معه، وبالشكل الذي يجعل من الصديق/ الشريك/ الآخر روبوتا جامدا أو جهازا مبرمجا، مجردا من أية حرية أو إرادة أو انفعال. أي أن صورة الانسان الكتابية كخليقة، ليست صورة نمطية جامدة، وانما صورة تتضمن مساحة كافية من الحرية الفردية والإرادة الساعية للكمال والخير.
6- [أمحو عن وجه الأرض الانسان الذي عملته. الانسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم.] (تك 6: 7). وهنا تصل الخيبة والاحباط ذروتها، وتشرف على وضع نهاية لكلّ أسباب الألم ومظاهره.
*
ارهاصات ظهور الدين..
بعد أن وضع نوح وأبناؤه الأطر الهيكلية لبناء المجتمعات، يأتي دور ابراهيم وأولاده لترسيم الجوهر الاجتماعي لحباة وصيرورة مجتمعات العالم القديم.
كان زمن الطوفان – بحسب البعض- في نقطة بين أواخر الحضارة العبيدية وما قبل ظهور السومريين في جنوب العراق. وثمة قرون أربعة تفصل بينه وبين ظهور جلجامش/ خامس ملوك الوركاء*. أما شخصية ابرام وهجرتها من أور، فمن الأرجح أنها كانت بين أواخر الأسرة الثالثة وبدايات هيمنة الأموريين على بابل [2300- 1900 ق. م.]. حيث أسفرت الهيمنة الأجنبية وهزيمة الحكومات المحلية عن كوارث ودمار طالت البلاد والعباد، ودفعت موجات من الأهلين للهجرة والهروب نحو البلاد المجاورة،. وقد اتخذ ابرام وعائلته خطا مع مجرى الفرات صعودا، وصولا إلى حاران* حيث يموت (تارح) والد ابراهيم في وادي حاران وتغادر بقية العائلة جنوبا نحو أرض كنعان. ويبدو أن موجات سومرية استمرت مع مجرى نهر الفرات شمالا نحو أسيا الصغرى وتوزعت هناك، فيما استمر بعضها نحو أرض اليونان، حيث تم العثور على كثير من ملامح الحياة واللغة السومرية ومنجزاتها الحضارية هنا. ومن المحتمل أنها انتشروا في أطراف الأرض جميعا، حيث وجد العلماء كثيرا من الشبه بين عثريات تاريخية في أوربا وأميركا اللاتينية وبين نظائرها السومرية. وأعتقد - شخصيا- ان الهجرات والانزياحات والايفادات السكانية خاصة اقترنت بسقوط وقيام الدول والحضارات الرافدينية منذ القدم وحتى اليوم.
وهكذا بدأ ابراهيم بسياحة واسعة في أرجاء الجغرافيا والتاريخ وعبر حشد من التجارب والخبرات والاختبارات غير اليسيرة، لجمع شذرات وأكسسوارات الفكر الديني الذي سوف يتمظهر لاحقا على يد موسى النبي.
ومن مفردات النظام الديني التي حصلت على يد ابرام/ ابراهيم يمكن تأشير: بناء المذبح/ المعبد، التقدمة والقربان، العشر، الختان. والتي شكلت خصائص ومستلزمات ذات طابع قدسي ملزم لأتباع الديانات الابراهيمية حتى اليوم.
*
القراءة المعاكسة للمألوف أو التراث..
التاريخ الديني أو التراث الاجتماعي ليس تاريخا بالمفهوم العلمي أو المتعارف عليه، بقدر ما يشكل تاريخا للتاريخ موضوعا حسب منظور ديني، قومي أو أخلاقي محدد. ولكي يمكن استعادة التاريخ الحقيقي من خلل القش الديني، يلزم الفرز والفصل بين المعايير والمساطر الدينية والاخلاقية وبين التاريخ، ثم إعادة صياغة معطيات التاريخ بما يعيده إلى منطق التطور الطبيعي خارج مفاهيم القداسة وخرافات الفكر الغيبي.
ولما كان التاريخ الكتابي أو التراثي عموما، مكتوبا، (أو مرويا)، بحسب مركزية دينية، تضع المحرك الأساس للأحداث الأرضية في نقطة خارج الأرض، [حسب فلسفة افلاطون]، فأن إعادة الصياغة تستلزم اعتبار الانسان سيد التاريخ وحركة أحداثه. فالتاريخ البشري، هو خلاصة النشاط البشري اليومي من جهة، وخلاصة الصراع البشري بين الأفراد والجماعات والحضارات والدول العسكرية والدينية على طول الخط، وبما يحقق السلطة والسيادة والتواصل عبر سيرورة الزمن. وفي مجرى هذه السيرورة شمل الانقراض والدمار الكثير، كما استطاع الكثير الاستمرار والنجاة حتى اليوم .
بمكن القول، أن عبارة الحزن والأسف التي تكتنف قلب السماء، تقابل تعبيرا أو رداً على شعور الانسان بالاحباط والخيبة، واليأس من الحياة والوجود التي تبدو باهتتة المعنى، عبثية الجريان، محكومة بتكرار غبي لا طائل منه للانسان. ويمكن التمعن والتأمل مليا في أعمق وأطول حوارية جدلية بين أيوب والإله حول مسائل الحياة والخلق والوجود. فيما يقدم سفر الجامعة لسليمان صورة أخرى لليأس واللاجدوى الوجودي لحياة الانسان على الأرض. فالفصل بين الأرض والسماء، وبين فكر الإله وعقل الانسان، وبين الوجود ومعناه يساوي بين الانسان والبهيمة، والجماد. كما يسفّه هبة العقل التي مهما اتسعت وعمقت، تبقى بعيدة عن أفكار الربّ ومقاصده.
والتعويض/ البديل الذي يقدمه الفكر الديني للانسان هو التسليم بالايمان (العاطفي) وترك العقل ومنطقه على "جنب" أي تعطيل وجود العقل وتجريده من قيمته. فالمشكلة التي تغيب عن الفكر الديني، أن تغييب/ تعطيل أيّ جزء في الخليقة انما يشكل اتهاما وانتقاصا لحكمة الاله. فالايمان المحسوب عبادة وامتياز في ملكوت السماء، تتم حيازته بلا عقل، فيفوق الجهّال العلماء.
وبمراجعة جملة الاجراءات الجديدة لما بعد الطوفان، من منظور انساني وجودي، إذ يشعر المرء بالخيبة واليأس من الحياة، لا يعود لطول الأيام وتعداد السنين من معنى، فيتمنى المرء الموت للتخلص من لا جدوى الحياة.. يقول المعري..
فيا موتُ زرْ أنّ الحياةَ ذميمةٌ ويا نفسُ جدّي أنّ دهرَكِ هازلُ

ويقول أيوب: " إذا اضطجعت أقول متى أقوم. الليل يطول وأشبع قلقا حتى الصبح. .. أيامي أسرع من الوشيعة، وتنتهي بغير رجاء. إذكر أنّ حياتي انما هي ريح." / (أي 7: 4، 6). كما يتساءل: "ليته هلك اليوم الذي ولدت فيه، واليوم الذي قال قد حبل برجل.لم لم أمت من الرحم. عندما خرجت من البطن، لم لم أسلم الروح."/ (أي 3: 3، 11).
في هذه المفصلية العميقة للفكر البشري، يظهر الفكر الديني كمؤسسة/ منظومة لايقاف التداعي الفكري الوجودي وإعادته نحو جادة الصواب (الديني) واختزال دور العقل البشري لصالح عقلية التسليم والعبودية والطاعة والتعويل على الغيب والخوارق، وتفضيل المجهول على المنظور.. إلخ.
ان عظمة الخالق تتمثل في تأكيد عظمته الابداعية والجمالية أمام خليقته وليس الإحالة على وعود الحياة الثانية/ الآخرة- حياة ما بعد الموت، والتي تشكل دليلا على عجز الفكر الديني وعمق الفراغ الذي يدفع للتعويل على المجهول- الذي لا يمكن التحقق منه أو اعتباره بالعقل والملموس الذي هو خليقة.
فهروب الدين من المواجهات العقلية للأمام، يبقى تأكيدا على جوفائية الفكرة التي استيقظت ذات تاريخ، لاستعباد البشر في دوامة التكرار الدوري في ولادة وموت وميلاد، وفي تزاوج وانفصال، وفي تعاقب ليل ونهار وجوع وشبع، وما إلى ذلك، باستخدام مختلف وسائل التخدير والتهديد والقمع الفكري والتصفية الجسدية للمشاغبين والمفكرين والزنادقة والملحدين، لضمان استمرار دوران الحياة القطيعية بلا فكر أو تامل.
وهنا يتجلى المعنى الآخر/ المختلف لفكرة الطوفان والتعبير الوارد بعدها. انه قوة الخوف من قرار البشر للاحتكام إلى طوفان شامل، أو أي صورة له لتحقيق انتحار جماعي، ووقف مهزلة الوجود البشري والمرض والطغيان.. وقد تساءلت ذات مرة، احدى كاتبات الحوار المتمدن: ماذا لو اتقت النساء جميعا على قرار بوقف الانجاب؟..
صبح يعقبه ليل يعقبه صبح منذ ملايين السنين.. ميلاد وموت.. جهاد من أجل المعيشة، ومذلة من اجل مجاراة الزمن، واضطهاد بسبب الفكر والاختلاف.. قرارات جمعية بقبول حياة القطيع وعدم الاختلاف والتمرد لضمان سلامة حياة لا معنى لها.. الموت هو تربص كل حياة مهما طالت أو سمت.. وما زال تكاليف الحياة في تقدم واضطراب، والفائدة والراحة والقناعة وضمانات المستقبل الى انعدام مستمر..
" كلّ شيء زائل وفارغ. كلّ شيء زائل وفارغ. الكلّ زائل!. يتعب الانسان كثيرا في هذه الدنيا.فماذا يكسب من وراء تعبه كلّه؟. أناس يموتون وأناس يولدون. والأرض تبقى بعدهم. تستيقظ الشمس في الصباح، وتنام في المساء، ثم تعجل بالاستيقاظ من جديد. تهبّ الريح جنوبا، ثم تهبّ شمالا، تدور وتدور، ثم تنعطف لتعود إلى مكانها الذي انطلقت منه. تجري الأنهار إلى البحر، لكن ماء البحر لا يزيد. تعجز الكلمات عن الوصف، لكنّ يظل الناس يتحدثون. فالكلام كثير، لكن الآذان لا تمتلئ. ونرى الكثير، لكن العيون لا تكتفي.. لا أحد يذكر الذين كانوا قديما ورحلوا.. والذين سيأتون، سينساهم الآتون بعدهم!.."/ (سفر الجامعة 1- بتصرف)!.
"الانسان مولود المرأة، قليل الأيام وشبعان تعبا. يخرج كالزهرة ثم ينحسم ويبرح كالظل ولا يقف. إن كانت أيامه محدودة وعدد أشهره عندك، وقد عينت أجله فلا يتجاوزه، فأقصر عنه ليسترح، إلى أن يسّر كالأجير بانتهاء يومه. لأن للشجرة رجاء،.. أما الرجل فيموت ويبلى. الانسان يسلم الروح فأين هو... ان الجبل الساقط ينتثر، والصخرُ يُزحْزَح من مكانه. الحجارة تبليها المياه وتجرف سيولُها تراب الأرض. وكذلك أنت تبيد رجاء الانسان. تتجبّر عليه أبداً فيذهب. تغيّر وجهه وتطرده. .. انما على ذاته يتوجّع لحمه. وعلى ذاتها تنوح نفسه." (أيوب14: 1-2، 5-7، 10، 19- 20، 22)!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• هناك تقسيم آخر للتاريخ العبراني ابتداء من ابراهيم إلى مرحلتين أيضا وبنفس التسمية؛ عصر الآباء [ابراهيم إلى أولاد يعقوب] وتنتهي بدخول مصر. وعصر الأنبياء [موسى إلى ملاخي] وتنتهي بفترة الصمت النبوي في القرن الأربعة الأخيرة قبل المسيح.
• رسالة كورنثوس الثانية 5: 6، 8
• هناك تفسير لكلمة جلجامش يقسمها إلى قسمين: "قيل" بمعنى (ملك)، و"قميش" بمعنى (خمسة/ خامس)، ويكون اللفظ الأقرب هو (قيلقميش) كما ظهرت في ترجمة عبد الحق فاضل. وربما كانت القاف (خاء) وهو الأرجح بحسب اللغة الآرامية.
• كان لتارح ثلاثة أبناء هم [ابرام وناحور وهاران]، وكان لهاران ثلاثة أبناء [لوط وملكة وبسكة]. وقد تزوج ابرام من ساراي، وتزوج ناحور من ملكة بنت أخيه هاران. وأن هاران توفي في أرض ميلاده في أور قبل تارح أبيه/ (تك 11: 27- 29). ولكن الملاحظ أنّ اسم وادي "حاران" شديد الصلة اللغوية باسم شقيق ابرام (هاران) والد لوط، وهو أمر جدير بالتمعن، ولا يعرف أيهما الأقدم تاريخيا، فإما أن الوادي أطلق عليه اسم والد لوط بحسب الشاهد التراثي، مما يعني أن لوط ابن هاران كان أكثر نفوذا وشهرة من ابرام ووالده تارح، الذي حظي بأهمية في الرواية القرآنية، باعتباره صانع تماثيل (نحات)!.



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل الدولة شرّ؟!!
- عمال بلا عيد
- الدين.. والحرية
- الدين والسياسة
- الناس بين الإله وموظفيه!
- علم الأديان المقارَن.. والدرس الديني
- الدين والعقل
- قطار البصرة
- هل الدين علم؟!..
- رسالة من شهيد
- فردتا حذاء
- من عذابات حرف السين
- الأديب الكردي حافظ القاضي.. وشيء من كتاباته
- موسوعة الوطن الأثيريّ..
- اليسار والتعددية.. والابداع واللامركزية
- مع الفنان منير الله ويردي في فيننا..
- نظرة في الحاضر..
- في دارة الأستاذ عبد الهادي الفكيكي..
- في دارة المنولوجست عزيز علي
- في دارة الاستاذ خضر الولي*..


المزيد.....




- العراق.. المقاومة الإسلامية تستهدف هدفاً حيوياً في حيفا
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن ضرب -هدف حيوي- في حيفا (في ...
- لقطات توثق لحظة اغتيال أحد قادة -الجماعة الإسلامية- في لبنان ...
- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - وديع العبيدي - الدين.. وتغليف فكرة اللا جدوى بالشوكولاته