أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - وديع العبيدي - الأديب الكردي حافظ القاضي.. وشيء من كتاباته















المزيد.....


الأديب الكردي حافظ القاضي.. وشيء من كتاباته


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 3621 - 2012 / 1 / 28 - 15:14
المحور: سيرة ذاتية
    


وديع العبيدي
الأديب الكردي حافظ القاضي.. وشيء من كتاباته
(1929- مارس 2010)
في حياة كل شخص أفراد، يشعر حينما يلتقيهم، أن بينهما صلة قديمة وحميمة، دون قدرة على تفسير أو توضيح هذا الشعور. والاستاذ حافظ القاضي أحدهم في حياتي. أنه أمر في غاية الحرج، أن تتعامل مع شخص كأنه قريبك، بينما لم يمض وقت على تعارفكما. وربما كان هذا شعورا متبادلا بيننا، كل من منظوره الخاص. فقد سألني في البداية، أن كنا التقينا سابقا، ومكان عملي السابق، وأفصح أنه يتذكر شخصا كان يشبهني، وربما كنت أنا. مثل هذا الشعور كان داعما نفسيا لي، في التواصل الاجتماعي، وذلك بسبب نزعتي في التوحّد، وطابع الخجل الطاغي في شخصيتي.
*كانت بداية معرفتي به عن طريق الأخ والصديق ربحان رمضان، الكاتب والناشط الكردي، وذلك أيام عملنا المشترك في تقديم برنامج إذاعي اسبوعي من راديو لنز 1997. وقد أجريت مقابلة ثقافية مع الأستاذ القاضي تحدث فيها عن حياته ونشاطه الأدبي والاعلامي إضافة إلى آرائه في مسائل تعنى بالثقافة واللغة الكردية وموضوعه الأثير – توحيد قواعد اللغة الكردية.
حافظ القاضي شخصية عراقية أصيلة تنتسب ملامحها إلى أجواء الخمسينيات والستينيات العراقية، مثقف موسوعي وأديب متمكن في كل مجالات الأدب، كتب الشعر والقصة والرواية والمسرحية الشعرية والمقالة الصحفية، إضافة إلى كونه أحد رواد الصحافة والاعلام الكردي، أصدر أكثر من مجلة كردية، وكان من العاملين الأوائل أو المؤسسين لقسم البرامج الكردية في إذاعة بغداد. وقد جمعته برواد الأذاعة العراقية ذكريات ومواقف كان يستذكرها ويتندر بها في حديثه. وهو صاحب نكتة من الطراز الأول، خفيف الظل سريع البديهة، حاضر الذاكرة، رابط الجأش قوي الشكيمة.
أسأله بالتلفون عن اسم أو تاريخ أو حيثية معينة فيجيبني فورا. أتصل به تلفونيا لتحديد موعد زيارة، فيأتي ردّه: أحسن وقت هسّه.. إذا عندك مجال أهلا وسهلا.. فنكون عنده خلال ربع ساعة. صادفت بعض الزيارات وهو يعاني من متاعب صحية، دون أن يكشف عن شيء أو يتذرع بالمرض، أو ينقطع عن نكاته، التي كان يزيد منها كلما لحظ الوجوم أو الحزن يقترب منا. يدعونا للبقاء مدة أطول كلما حاولنا المغادرة. وكانت متاعبه الصحية بالدرجة الأولى من القلب، أجرى أكثر من عملية جراحية. كانت احداها خلال تلك المدة، حيث جرى استبدال جزء من الشريان الرئيسي الخارج من القلب، وكانت واحدة من العمليات الصعبة والمقلقة لشخص في أواخر سبعينياته. كان يسخر من وصايا الأطباء له بعدم التدخين، وبعد نجاح العملية يقول: بشراييني الجديدة أستطيع أن أعيش ثلاثين سنة أخرى بدون مشاكل، وهو يمهد بذلك لطلب السيجارة.
الاستاذ القاضي ذاكرة حية للمشهد الثقافي العربي والكردي منذ الأربعينيات حتى السبعينيات، قبل مغادرته البلاد. وقد سجل مذكراته أو ذكرياته وسيرته الذاتية والأدبية ، إضافة إلى ترجمات ودراسات أدبية وتاريخية. كان له دور أبوي كريم ودور ثقافي مشرف ومشجع في دفع نشاطي الاعلامي الذي تمثل باصدار مجلة الساري الثقافية ثم مجلة ضفاف الثقافية العامة. وقد ساهم في كل منهما بمقالاته وترجماته الشعرية، كما ساعد بالتعريف بالمجلة واستقطاب الأقلام الكردية للمساهمة فيها. وإضافة للكتابات الأدبية نشر جانبا من ذكرياته، سيما المتعلقة بفترة سجنه في ما كان يدعى بقصر النهاية مع نخبة من رجالات العراق. وهي مقاطع مسجلة من كتاب كامل ينتظر الطبع إلى جانب مؤلفات أخرى، آملاً أن تحظى بعناية الجهات المعنية قريبا لاخراجها للنور ووضعها في متناول الأجيال الجديدة.
كان قريبا من نفسي، يذكرني لقاؤه بجدّي (توفيق حسني الخالدي).. شبه في الملامح والسحنة ولون الشعر ولكنة الكلام. وأكثر من هذا كان الشبه يمتد إلى شكل العينين وصورة الجمجمة كما يصفها علماء الأنثروبولوجي. كان الأستاذ القاضي من أهالي دهوك في الأصل. فيما الآراء تتفاوت في ترجيع عشائر الخالدي التي يذهب البعض لاعتبارها فرعا من (الكاكائية). وكانت كلمة (كاكا) تتداول في العائلة لوصف (الأخ الكبير)، كانت عمتي لوالدتي تدعو جدي (كاكا)، وكانت والدتي وأخوتها يدعون أخاهم الأكبر (كاكا) بدون ذكر الأسم، على أن هذا الأمر لا يشكل قرينة ما في هذا المجال. توفي جدي في بداية السبعينيات عقب إصابته بجلطات متعاقبة أنتهت به للشلل التام لم تمهله أكثر من ستة أشهر. لا أدري إذا كانت هذه الملاحظة حاضرة في الذهن يومذاك، لكنني لم أتطرق إليها في الحديث. كانت عائلة أبي سيروان تتداول اللغة الكردية (البهدينانية) فيما بينها ومع من يجيدها، فيما كنا نتحادث باللغة العربية في زياراتنا، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فأن أحاديثنا نادرا ما كانت تتجاوز مجالات الثقافة والأدب. وهذان الجانبان، أبقيا العلاقة في مستوى محدد. وأعتقد أن اللغة تحديدا، تشكل عاملا نفسيا تواصليا مهما، أكثر من كونها وظائفية ثقافية أو اتصالية مجردة.
على الرغم من طابع النكتة والأريحية الذي كان يطبع شخصية الاستاذ القاضي الاجتماعية، فأن غلالات الحزن وراء ذلك لم تكن خافية، ولكن الوصول إلى أطرافها ما كان باليسير. ولا بدّ أن شخصية بهذا الامتداد الثقافي والجغرافي قد اشتملت على كثير من الجزر والخلجان والمياه الحلوة والمالحة في حياتها، إضافة إلى صفة التشتت ما بين السياسي والثقافي، أو الفكري والاجتماعي الذي يستهلك من الشخص أكثر مما يبدو على سطح الحاضر. تحدث مرة عن هجرة/ هروب اليهود من العراق، وكانت لهم جيرة معهم، وذكريات طيبة ومحبة. وذكر كيف أنهم استودعوا بعض أماناتهم عندهم، على أمل العودة، ولكن. ولم يخطر لأحد.. أن مسلسل الهجرة والهروب، لا يستثني أحدا.. مهما تأخر الوقت!.
زوجه السيدة أم سيروان، المعلمة ومديرة المدرسة المتقاعدة، والتي كانت تشاركنا جلساتنا وحواراتنا، قالت ذات يوم.. (هو اسم على اسم..)، في إشارة إلى الشخصية العراقية المعروفة صاحب الساحة المنسوبة إليه في شارع الرشيد من بغداد!
*هل كانت السياسة طريقه إلى الثقافة؟..
أم كانت الثقافة طريقه إلى السياسة؟..
أعتقد هنا أن الاستاذ حافظ القاضي هو شخصية ثقافية أكثر من كونها شخصية سياسية. وبالتالي، فأن تداخلها السياسي هو أدنى للاطار الوطني منه إلى حرفية السياسة. في هذا المجال أذكر أن الموضوع السياسي (الوطني) يطبع الجانب الأكبر من الشعر الكردي كما العربي في مرحلة العمل من أجل نيل الاستقلال. وتشكل ظاهرة الترميز بالمرأة والحبيبة كناية عن الوطن والأرض حالة عامة في قراءة الكثير من الأدب والأغاني الكردية. اتجهت مساهماته الفكرية مبكرا تجاه اللغة والعمل لتوحيد قواعدها أو فقهها النحوي، وهو استكمال ثقافي للقراءة السياسية للموضوع القومي. أما الركن الثالث لنشاط الاستاذ القاضي فقد اتجه للاعلام، المقروء والمسموع. ففي دائرة البرامج الكردية في إذاعة بغداد كان الاستاذ القاضي مسؤولا عن إعداد الأخبار باللغة الكردية، بما في ذلك ترجمة كلمات وخطب عبد الكريم قاسم. لا شك أن نشر ذكريات الاستاذ حافظ القاضي وسيرته الذاتية ستلقي أضواء مهمة عن حياته وما يزيد عن نصف قرن من تاريخ الثقافة والحياة السياسية العراقية في جانبيها الكردي والعربي، انطلاقا من كون الاستاذ القاضي من سكان بغداد.
حافظ القاضي.. المربي والأب الروحي
إضافة إلى نشاطه الثقافي والاعلامي قرابة ما يزيد على نصف قرن، كانت شخصية الاستاذ حافظ القاضي موضع اعجاب وتقدير الجالية الكردية في النمسا وشرق ألمانيا، ولا سيما قطاع الأدباء والشباب المثقف، من خلال اتصالاتهم الهاتفية وزياراتهم الشخصية إليه على مدار الأيام. فكان شخصية معروفة ومحبوبة من الجميع، وقد ساعدت كثرة الاتصالات الدائرة حواليه ومعه وعبره أن يتحول العالم الكردي إلى قرية صغيرة كائنة في دارته الصغيرة في مدينة هايد النمساوية، ممثلة في شخصه وشخصيته.
حياده وموضوعيته..
في بحثه لتوحيد قواعد لغة كردية موحدة، كان يذهب إلى ترجيح لغة بهدينان على لغة سوران، وكان يبني رأيه باعتبارها أكثر صفاء من الثانية الأكثر تداخلا في اللغة الفارسية، سواء من حيث عدد الكلمات الهجينة أو طريقة التلفظ. أما الأمر الآخر لترجيح البهدينانية فهو اتساعها الجغرافي وعدد المتحدثين بها في كل من تركيا وسوريا قاطبة وثلثي الجزء الكردي من العراق. بينما تستخدم السورانية في ايران والقسم الجنوبي من كردستان العراق. يضاف لذلك ان حجم المساهمة الثقافية والفكرية وبواكير الصحافة الكردية جاءت من القسم البهديناني في تركيا وسوريا على الأغلب.
ولدى اطلاعه على دراسة أدبية لي انتهى منها خلال ثلاثة أيام، وضع ملاحظة بالقلم الرصاص يشير إلى فقرة تشدد على الجانب القومي، وقد شكرته عليها وأخذت ملاحظته بنظر الاعتبار. فالشعور القومي يتجاوز العادي، عندما يدخل باب المفاخرة والمنابزة.
سجل الاستاذ القاضي تفاصيل مغادرته البلاد في ظروف مأساوية مضطربة في رواية من جزئين حملت عنوان (ليلة الهرير) وله أكثر من مجموعة شعرية ومقالات ودراسات لغوية باللغة الكردية الكرمانجية. وهو أحد واضعي مناهج اللغة الكردية المدرسية، والمساهمين في جهود (توحيد اللغة الكردية). آملا من الجهات المعنية طبع آثاره ونشرها، وقد كانت له علاقات طيبة وزيارات إلى بلده، ومسؤولي الثقافة والاعلام في كردستان.
في هذا الصدد، ووفاء لأخ وصديق، أديب ومفكر، أعيد نشر بعض كتاباته –المتيسرة حاليا- في حوزتي مما سبق نشرها في المجلات التي أصدرتها، وما أزال أحتفظ بتسجيل صوتي لمقابلة معه سبق تقديمها خلال عام 1997 في الاذاعة النمساوية.
• هنا بعض من كتابات الاستاذ حافظ القاضي التي نشرت في مجلتي " الساري" و "ضفاف" الثقافيتين في النمسا في أواخر التسعينيات.!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حافظ القاضي
عن الأدب الكردي
الأدب بمفهومه العام مرآة يعكس حياة الأمم والمجتمعات والأدوار التأريخية التي مرت بها. ولعل الأدب الكردي أسوة بغيره من آداب الأمم والشعوب قد تأثر بهذا القدر أو ذاك بما أفرزته تلك الحقب التأريخية من أحداث، وما أسبغته الطبيعة على الوطن الكردي من روعة وجمال، فأضحى عاملاً رئيساً في إثارة الأحاسيس المرهفة واضطرام العواطف لدى أصحاب المواهب ليتنقلوا كالطائر المغرد بين الأيك والخمائل والأفنان محلقين في أجواء الفضاء الزمردية، مستلهمين شيطان النظم والقصيد من الطبيعة الخلابة والنسمة الرخيمة وعبق الشذى الفواح.
ولعل من المفيد أن نذكر أن الأدب الكردي ينقسم إلى قسمين رئيسيين: أدب كلاسيكي وآخر رومانسي. فالأول منه هو ما جرى نظمه وفق قوانين وبحور وعروض وموازين خاصة ويشبه الأدب الفارسي والعربي في العديد من أبحره. وسار على هذا النهج في نظم الشعر كل الأدباء الكرد الأقدمين وفي مقدمتهم ( بابا راخ الراوندي) الذي عاش في القرن الرابع الهجري. وتشير الأبيات القليلة من شعره التي قام الدكتور( بليج شيركو) بنشرها في العدد 22 من مجلة {هاوار} إلى أن الشاعر كان من أكراد (الهكاري). وجاء في كتاب( كرد وكردستان) لمؤلفه العلامة (محمد أمين زكي) ان الشاعر (بابه راخ الهمداني) توفي عام 517 هـ-1123م. و(علي الترموكي) الذي يصف الدكتور شيركو أشعاره بالرقة والبلاغة. ويصف ( الفردوسي) شاعر الفرس الشهير معاصره الشاعر الكردي (علي الحريري) قائلاً " رأيت أسد الغابة في حرير". كما برز في الحقبات المتقدمة شعراء آخرون كالملا الجزيري وفقي طيران وأحمد خاني صاحب رائعة (مم وزين) الشهيرة وكثيرين غيرهم. ولعل أقدم نص شعري عثر عليه هو ما ذكره الدكتور (بليج شيركو) في مذكراته نقلاً عن المستشرق الروسي العلامة (ن. فيليامنتوف) حيث يقول: ان علماء الآثار عثروا في شمال ايران على لوحة يعود تأريخها الى عام 320 ق.م. وقد نقشت عليها أبيات شعرية موزونة ومقفاة لشاعر كردي يدعى (بورابوز) تدرج ضمن الأدب الكلاسيكي، واخرى تعود لنفس الحقبة من التاريخ لشاعر لم يعرف اسمه تدرج ضمن الأدب الرومانسي. وفيما يلي ترجمة أولية منها:
يا ليتنا نحيا أنا وأنت
ونذهب معاً الى الروابي
تعالي نخرج وقت الفجر
ونصدح معاً بالغناء
صحوت أمس باكراً
على لحن يردده بلبل
وترد عليه الأمواج والسهول
والكل يشكو هول المحبة
اذا كنت أنا وأنت على قلب واحد
فلا يهمنا الجيران وأقوال الوشاة
لنرقد معاً جنباً الى جنب
سواء كان في البيداء أو في الفراش...
أما الأدب الرومانسي فهو عبارة عن نظم ذي قوافي مثلثة أو مربعة أو مخمسة أو أكثر دون التقيد بوزن أو قافية، ولكنه عذب خالٍ من التكلف ومنساق بالسليقة والفطرة السليمة، وتم نظمه على الاكثر من قبل شعراء أميين معبرين في ذلك عما يكنونه من عواطف وما يختلج قلوبهم من مشاعر تجاه الحدث الذي من أجله تم النظم كالحب والهيام أو استنهاض الهمم أو الشكوى والذم أو تثبيت واقعة تأريخية تأثر بها القائل وغيرها من الأغراض.
يتميز هذا النوع من الأدب بالرقة والعذوبة والسهولة والمتعة، فهو شفاف وخفيف الوقع على السمع ويصل الى القلوب دون تكلف. وقد ابتدع لهذا النوع من الادب ألحان وأشعار تتلاءم والحدث، فقد روعي للرقص أشعار وألحان تناسبه، وكذا الحال بالنسبة لسير القوافل أو أغاني الحصاد وغيرها من المناسبات. وفيما يلي ترجمة النص الذي عثر عليه في شمال ايران والذي يعود تأريخه كما أسلفنا الى عام 320ق.م. :
أشرقت الشمس وخرجت (هيل) الى الحديقة
لتستظل بظل شجرة الورد
كانت قد وعدتني باللقاء وها قد وفت بموعدها
ايها القلب أيهما أشدّ نضارة واحمراراً
أناملها أم خدّ الوردة؟
أيها القلب هل عبير (هيل) أزكى
أم عبق الوردة؟. أديب وصحفي كردي من العراق (1929- 2010)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر: مجلة روناهي- العدد الأول- تشرين الأول 1960- بغداد
انور المائي- الاكراد في بهدينان- الطبعة الثانية-1999- دهوك
**
حافظ القاضي
من أوراق العمر..
في مثل تلك الأجواء القاسية حدثت بشكل مفاجيء معجزة لم تك تخطر على البال . فقد قرر مسؤولو المعتقل نقل البعض من الضحايا القابعين في الزنزانات الإنفرادية المظلمة المبنية تحت الأرض ذات الحراسات المشددة إلى مكان اخر يحتل ركناً من أركان باحة القصر الواسعة . كان المكان الجديد بالنسبة للزنزانات الرهيبة جنة عدن بالرغم من كونه شبيهاً بزريبة حيوانات ، فقد كان عبارة عن بناء متهرىء لمرآب قديم للسيارات لا تتجاوز مساحته الأربعين متراً مربعاً ذي أرضية كونكريتية وجدران متداعية من الداخل تكسوها رطوبة شديدة تمتد من الأرضية إلى السقف بحيث يتجنب الشخص التقرب منها أو اسناد ظهره إليها ، يتصدرها باب حديدي وبجانبه كوة على شكل شباك صغير . ويتدلى من السقف شريط ينتهي بمصباح كهربائي خافت الضوء ينير الأرض الكونكريتية ويلقي ظلاله على وجوه نزلائه الكالحة والتي تبدو عليها علامات التعب والإرهاق الشديدين ، وكانت هناك صفيحة خالية تقبع جوار الباب الحديدي تستخدم - كما قيل- لقضاء الحاجة!!.
(الحلقة الثالثة)
الانسان مدني بطبيعته، ولابدّ أن تنشأ بينه وبين الافراد المحيطين به علاقات وروابط بغضّ النظر عما يحمله كل منهم من أفكار واتجاهات وقيم متباينة، ومن الطبيعي جداً أن تتوثق وتتوطد مثل تلك العلاقات اثناء الضيق والشدائد والمحن القاسية والعيش المشترك، لاسيما في السجون والمعتقلات. لذا كانت علاقاتي مع كافة معتقلي القاعة بما فيهم رجالات الدولة السابقين مبنية على أسس من الود والاحترام المتبادل.
كانت تربط اللواء المتقاعد السيد عبد العزيز العقيلي(1) بأحد أعمامي (2) - بالرغم من أنهما كانا على طرفي نقيض من الناحيتين الفكرية والقومية- معرفة قديمة عندما كانا ضابطين في الجيش العراقي، ويبدو أنها كانت إحدى العوامل في محاولته التقرب مني قدر المستطاع، إضافة إلى رغبته في تجنب المضايقات وسماع العبارات الجارحة والكلمات غير المناسبة التي كان البعض من الشباب الموقوف المتحمس يتعمد في توجيهها إلى مسؤولي الحكم السابقين بشكل عام (3).
وكان المعروف أن السيد العقيلي من حملة الافكار القومية المتطرفة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وعمل بحماس لا حدود له عند تقلده منصب وزير الدفاع عام 1966 لاسكات صوت الشعب الكردي والقضاء على ثورته بالنار والحديد، وخطط للحملة العسكرية المعروفة باسم (الله أكبر) الغرض منها القضاء على المقاومة الكردية وإبادة المقاتلين من رجال (البيشمه ركه). كانت باكورة الأعمال العسكرية لتلك الخطة هي معركة (جبل هندرين) الشهيرة (4) التي ذاق فيها الجيش العراقي وبكل ما يملكه من عدة وعدد وطيران وأسلحة إبادة وفناء وتدمير، مرارة الهزيمة واندحر اندحاراً شنيعاً قلما شهدته ساحات المعارك الدائرة في عموم كردستان. الأمر الذي أرغم الحكم القائم في بغداد حينذاك على طلب ايقاف القتال والدخول في مفاوضات السلام مع الجانب الكردي.
كنا أثناء رياضة المشي التي تستغرق ما يقارب نصف الساعة عصر أحد الأيام نسير معاً عندما سألت السيد العقيلي:
- ما هي بالضبط التهمة الرئيسية الموجهة لكم؟
أجاب ضاحكاً:
- تهمة العمالة للغرب وعلى رأسهم الانكليز!. فهم يتحدثون عن مخطط انقلابي بدعم من شركات النفط ومخابرات دول عربية واقليمية اخرى، كنت أداته!. أنني معروف لديهم تماماً ويعلمون تمام العلم أن لا غبار على وطنيتي ولست عميلاً ولا متعاوناً مع أية جهة أجنبية، ويعرفون جيداً أن ما يطلقونه من اتهامات هي محض هراء وأباطيل لا صحة لها ألبتة. وبالرغم من كل ذلك فقد مارسوا معي عمليات تعذيب وحشية لا تصدق ولا يمكن أن يتخيلها أي آدمي يحمل في قلبه ذرة واحدة من المشاعر الانسانية. ومع هذا فأنا بانتظار المزيد من التهديد والوعيد والتعذيب. كل ذلك من أجل ارغامي على الظهور على شاشة التلفزيون - كما فعل السيد مدحت الحاج سري (5) وكثيرون آخرون- لأعترف بأنني كنت أعمل من أجل الاطاحة بنظام حكمهم لصالح تلك الجهات. لكن خاب فألهم. فان ما يحاولون الحصول عليه بعيد المنال ولا يمكن أن يتحقق ولو كانت فيه نهايتي. (واستطرد قائلاً) كنت في داري عند نجاح انقلاب البعث في السابع عشر من تموز1968 وسيطرته على مقاليد الحكم في العراق. وفي صباح اليوم التالي جاءتني سيارة عسكرية يستقلها ضابط يحمل رتبة كبيرة لينقـلني بكل احترام إلى القصر الجمهوري. وفي إحدى قاعات القصر استقبلني السيد أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية بترحيب بالغ وحرارة لا توصف. جلسنا كأصدقاء قدامى تربطنا رابطة العمل المشترك في صفوف الجيش العراقي وأمطرني بسيل من الأسئلة تدور بمجملها حول تصوراتي في كيفية التعامل مع الوضع السياسي العام في المنطقة وأسلوب تنظيم العمل في الداخل وإدارة شئون الجيش والدولة. استمر اجتماعنا حوالي عشر ساعات متواصلة دار خلالها النقاش حول شتى المواضيع العامة. وبعد أن أفرغ ما في جعبته من أسئلة وإيضاحات استأذنته بالانصراف فأخذني من يدي قائلاً: أننا نعتزّ بكم ونعتبركم كبير مستشارينا فهذه حكومتكم ونحن اخوتكم الصغار وبأمس الحاجة إلى استشارات ونصائح وتوجيهات شخصيات مخلصة تتصف بالحكمة والخبرة والتجربة السياسية أمثالكم. أطمح في أن نكون دائماً على بالكم وأن لا تحرمونا من زياراتكم. وقد أبديت له استعدادي لتنفيذ أي عمل يطلب مني، فيه ما يحقق المصلحة العامة، وانتهى لقاؤنا بهذا الشكل الودّي.
استمرت اتصالات البكر اليومية عن طريق الهاتف ليناقش معي ما يستجد من أحداث ويتبادل الرأي بشأن طرق معالجتها. ولكن ما حدث لم يكن يخطر على بالي مطلقاً. فقبل أن ينتهي شهر العسل هذا فوجئت بثلة من الجند المدجج بالسلاح تحاصر داري ليلاً وتشهر السلاح بوجهي وتقودني معصوب العينين إلى هذا المكان الرهيب لتبدأ رحلة العذاب.
استمر تعذيبي بشكل متواصل أياماً عديدة وبشكل لا يمكن تصوره، كسروا ساقي، علّقوني بالسقف، تعرضت للضرب المبرح باللكمات والأرجل والاسلاك الكهربائية (الكيبلات) والخراطيم المطاطية (الصوندات)، ربطوا يديّ بأشياش (جمع شيش وهو عود من حديد) القسم العلوي من الأبواب مرات ومرات، استمر بعضها أربع وعشرين ساعة متواصلة. ولم يبق اسلوب تعذيب نفسي أو جسدي لم يمارسوه معي. أظنك لا تجهل ما يعنيه تعرض الانسان الى الموجات الكهربائية. لقد مارسوا معي هذا النوع من التعذيب البربري أكثر من عشرين مرة. أنا واثق تمام الثقة بأنهم لن يدعوني حيّاً سواء اعترفت بما يبتغون أو لم اعترف. لكنني والله شاهد انسان مخلص لشعبي ولن أقرَّ بأنني عميل لأحد ما عدا عمالتي لشعبي وبني قومي.
وقبل أن يكتمل حديثنا طرق أسماعنا صوت أجشّ يعلن انتهاء فترة (الرياضة) فأسرعنا الخطى للوصول إلى القاعة تجنباً لسماع المزيد من سيل الشتائم البذيئة التي يطلقها كبير الحرس وجلاوزته المسلحين عادة.
بدأت الشمس تميل نحو المغيب عندما ظهر على الباب الحديدي جنديان يحمل كل منهما سطلاً معدنياً يحوي عشاء المعتقلين. وكان المعتقلون خلال تناولهم وجبات الطعام يتوزعون مجموعات يتراوح عدد أفراد كل مجموعة من أربعة أشخاص أو أكثر يتحلقون حول صحنين الاول يحوي ارزاً والاخر سائلاً أحمر اللون لا يعرف كنه مكوناته. كان من الواضح ان الرز عبارة عن بقايا اكل الحراس ويحوي كميات من الشوائب والحجارة. أما السائل الأحمر فكان مالحاً بدرجة كبيرة (7). كنت منذ البداية أتجنب تناول ذلك الأكل مكتفياً بالصمون العسكري الأسمر. وكنت أشتري ما يتوفر من مواد غذائية في الحانوت المتنقل عند اقترابه من شباك المكان. وكانت على الأغلب علب من اللحم الاسترالي والأسماك والجبن المحفوظ والمربيات ومادة الراشي، وبالرغم من أنها لم تكن تفي بالغرض إلا أنها كانت بالتاكيد أفضل من الأكل المقدم بكثير.
لم يمض سوى أقلّ من ساعة على تناول العشاء حتى ساد القاعة فجأة الهرج والمرج وتعالت أصوات الكثيرين مستغيثين، فقد بدت بوادر سوء الهضم واضحة في عيون البعض منهم والآلام تمزق أحشاء آخرين. بذلوا ما استطاعوا من جهد في اقناع الحرس فتح الباب ليتسنى لهن قضاء الحاجة. إلا أن جهودهم وتوسلاتهم كانت من دون جدوى وذهبت أدراج الرياح. أخذت أنات المستغيثين وصراخهم يتعالى ويصل أسماع المسؤولين. وعندها جاء كبير الجلاوزة (وكان ابن المغنية الكيولية المعروفة وحيدة خليل ليعلن بعنجهيته المعهودة قائلاً: مهما كانت الأسباب والدوافع فمن المستحيل أن يفتح الباب ليلاً، ويمكنكم معالجة الأمر وقضاء الحاجة باستعمال الصفيحة الموضوعة خلف الباب!.
لم يبق أمام عباد الله المساكين من سبيل بعد أن فقدوا الأمل سوى التسليم بالأمر الواقع فرفع البعض بطانيات حول الصفيحة على شكل ساتر ووقف المستغيثون في صف منتظرين دورهم لقضاء الحاجة في الصفيحة العتيدة!!.



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موسوعة الوطن الأثيريّ..
- اليسار والتعددية.. والابداع واللامركزية
- مع الفنان منير الله ويردي في فيننا..
- نظرة في الحاضر..
- في دارة الأستاذ عبد الهادي الفكيكي..
- في دارة المنولوجست عزيز علي
- في دارة الاستاذ خضر الولي*..
- حامد البازي.. في مقهى الزهاوي
- عبد المحسن عقراوي.. في مقهى الزهاوي
- يعقوب شعبان.. في مقهى الزهاوي
- عبد الرزاق السيد أحمد السامرائي.. في مقهى الزهاوي
- صاحب ياسين.. في مقهى الزهاوي
- سليم طه التكريتي*.. في مقهى الزهاوي
- أنور عبد الحميد السامرائي المحامي.. في مقهى الزهاوي
- د. محمد عزة العبيدي.. في مقهى الزهاوي
- محمد حسين فرج الله.. في مقهى الزهاوي
- مكي عزيز.. في مقهى الزهاوي
- حقوق الأقليات في العالم العربي في ظل التغيرات السياسية
- صورة جانبية لهشام شرابي /2
- صورة جانبية لهشام شرابي /1


المزيد.....




- وحدة أوكرانية تستخدم المسيرات بدلا من الأسلحة الثقيلة
- القضاء البريطاني يدين مغربيا قتل بريطانيا بزعم -الثأر- لأطفا ...
- وزير إسرائيلي يصف مقترحا مصريا بأنه استسلام كامل من جانب إسر ...
- -نيويورك تايمز-: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخ ...
- السعودية.. سقوط فتيات مشاركات في سباق الهجن بالعلا عن الجمال ...
- ستولتنبرغ يدعو إلى الاعتراف بأن دول -الناتو- لم تقدم المساعد ...
- مسؤول أمريكي: واشنطن لا تتوقع هجوما أوكرانيا واسعا
- الكويت..قرار بحبس الإعلامية الشهيرة حليمة بولند سنتين وغرامة ...
- واشنطن: المساعدات العسكرية ستصل أوكرانيا خلال أيام
- مليون متابع -يُدخلون تيك توكر- عربياً إلى السجن (فيديو)


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - وديع العبيدي - الأديب الكردي حافظ القاضي.. وشيء من كتاباته