أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد البدري - عودة لحضارة السلب والنهب















المزيد.....


عودة لحضارة السلب والنهب


محمد البدري

الحوار المتمدن-العدد: 3622 - 2012 / 1 / 29 - 02:56
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


ما أروع ان يختلف ويتشاكل كاتب مثلي مع يساري ملزم بالضرورة بالمنهجية العلمية الصارمة. فلن يسقط من شجر التفاح الا تفاح. بدأ الاستاذ عدنان عاكف، مشكورا، في مقالتة علي موقع الحوار المتمدن بعنوان " حضارة السلب والنهب !! بمقولة هامه تهز العقل منسوبة لابن الهيثم حيث قال: " الواجب على الناظر في كتب العلماء، اذا كان غرضه معرفة الحقائق ان يجعل نفسه خصما لكل ما ينظر فيه ويحيل فكره في متنه وفي جميع حواشيه ويخصمه من جميع جهاته وجوانبه ويتهم أيضا نفسه عند خصامه فلا يتحامل عليه ولا يتسامح فيه ".
وكان تعقيبي المنقول من مقالة د. كامل النجار " الى الجبال مرة أخرى "! معني باسلوب عمل العقل العربي ومن ثم الاسلامي الذي حكم المنطقة خاصة في العصر العباسي الذي يوصف بأنه العصر الذهبي في العلم العربي والاسلامي. ولن نتطرق الي الثروات ونقلها منهوبة بحجج كفر اصحابها فهذا ليس موضوعنا، لكن ان يجري نقل المعارف من علوم الاوائل وتخزينها حتي يحرقها التتار مع الفخر بوزنها ذهبا لمن ترجمها دون إضافة حقيقية معرفية جديدة لتجب ما في قبلها من اخطاء لهو منهج عجيب من هؤلاء الناس خلفاء كانوا أو علماء. فهل صدقت مقولة ابن الهيثم لو انه قالها؟
فاين الخطأ في هذه المقدمة؟

علينا ان نعترف بادئ ذي بدء ان العلم لا ينشأ كنوع من الرفاهية إنما هو دليل قلق عقلي بين ما هو ثابت وراسخ وبين ما هو ملحوظ ومحسوس ومعاش. وينتعش في فترات القلق الاجتماعي والسياسي شأنه شان الفن والادب. وعليه يبدا طرح الاسئلة بدلا من تلفيق الاجابات. فالعلم الاوروبي الذي بدا مع كوبرنيكس وجاليلو مرده الي القلق الذي انتاب الاوروبيين جراء ما فعله العصر المدرسي علي مدي خمسة قرون سبقت كوبرنيكس حيث حاول توماس الاكويني بفعلته ومعه اباء العصر، التي يندم عليها جميع القساوسة والكهان، بمحاولة ربط الفلسفة اليونانية وجعلها متوافقة مع الكتاب المقدس والعكس صحيحا بجعل الاخير متفقا واقوال ارسطو. لم يدري الرجل انه بدأ مشوارا طويلا سيكون كوبرنيكس اول اعمدته الحديثة ويسمي التنوير. خطورة التنوير أنها كشفت عن ثلاث مراحل مهمة لازمت تاريخ أوروبا هي تلك التي أوجدها أرسطو بالنسبة الى العصور القديمة، والثانية هي تلك التي أوجدها توما الأكويني بالنسبة الى العصور الوسطى، والثالثة هي التي أوجدها هيغل بالنسبة الى العصور الحديثة. ولم يكن الاكويني (1224-1274) الوحيد بل سبقه آباء الكنيسة بإدماج الاجزاء المضمونة من الفلسفة اليونانية القديمة مع العقائد المسيحية حث تمكن القديس أوجستين في القرن الخامس الميلادي ان يضع حلا وسطا بين العقيدة والفلسفة بان قدم مزيجا من الافلاطونية والافلاطونية المحدثة والمانوية والزرادشتية التي تتحدث عن الخير والشر وارتباطهما بفكرة الشيطان ونار جهنم. وظلت محاولات التلفيق تجري علي قدم وساق طوال العصر المدرسي حتي باءت كل هذه الجهود بالفشل وحتي عصر الاصلاح. وحتي نكون منصفين دون غبن لاحد فهناك ابن رشد الذي سبق الاكويني في عمل هذه الضفيرة فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال. كلاهما فشل في عمل مصالحة بين المقدس والفلسفة، فالفارق في نتائج الرجلين لا يمكن رده الا لاختلاف الارضية الثقافية عند كل منهما وطبيعة الطبقات الحاكمة ومدي الحراك الاجتماعي بقبول او رفض تلفيقات الاثنين.
وهنا يمكن استخلاص الدرس الاول الذي علي العرب والمسلمين استيعابه، ان الفشل في حد ذاته هو انتصار علي منهجية العقل الفاشل وليس دليلا علي فساد الواقع أو شيطنته. فالعقل المعالج بالاختصام او بالتسامح، عليه ان يختصم في لحظة الفشل مع ذاته هو، وليس بتخريب العالم من حوله بهدف ترتيبه ليصبح متفقا والعقل الفاشل. تلك نصيحة نوجهها بداية لكل عروبي قومي أو إسلامي سني أو يساري واثق من آراءه. فهل اختصم أحد من هذا الثلاثي المرح مع ذاته وافكاره بعد فشلهم جميعا في التلفيق بجدارة غير مسبوقة.

ما يهمني هنا هو ان هناك في اوروبا من لم يغفل تراثها الاسبق علي المسيحية كما لو أن قانون الاضافة والتراكم الديالكتيكي كان يعمل من قاع العقل عندهم دون البوح صراحة بحضوره. وكان علي اوروبا الانتظار 600 عام اخري ليقول هيجل ثم ماركس كلمتهما الفصل، فلسفيا، في هذه الجزئية. فالقرون الوسطي المسماه عصور الظلام خلفت لهم حداثة (انتصار علي عقل الفترة المظلمة) جاءت بفعل الصراع القائم مع عقليتها بين ما لديها وبين مستجداتها. فرغم أن العصور الوسطي اختفت تماما حاليا الا ان الوعي بما خلفته من ادراك لعقلية اهلها هو الدرس المفترض في ضوئه قراءة ما يطلق عليه العلوم العربية الاسلامية. فالعقل العربي الاسلامي في ذلك الزمان هو ايضا عقل قروسطي بجدارة. طرائقه في التفكير هي ذاتها طريقة الاوروبيين الظلاميين حيث يسيطر اللاهوت العربي علي العقل ويجعله شاردا وينكر ما يمكن ان يسبب نفيا لما في الدين من اقوال نبي الاسلام. ولكن ما الفرق بين سلوك كلاهما؟

كان لدينا في الشرق الف ارسطو في كلا من الحضارتين المصرية القديمة والبابلية، والشواهد العملية لمنجزهم العقلي كثيرة من بناء ومعمار وهندسة وطب وفلك وكيمياء. ولم يحدث ان احيلت هذه الحضارة الي التقاعد الا بسبب داخلي سياسي في اساسه وهو التقسيم الطبقي للعلم بجعله حكرا علي المعبد وطبقة الكهان لخدمة السلطة والامبراطورية وآخر خارجي بعد تعرضها للبرابرة الغزاة تماما مثلما تعرضت روما واثينا القديمة. لكن الكارثة العربية الاسلامية انها، بعد أن ورثت هذا الارث العريض، قامت بتجريم هذه الحضارات بطريقة غشومة وبنصوص لاهوتية تعمم كل شئ ولا تتحقق من صدق شئ، تخاصم بغباء ولا تتصالح الا بانحدار العقل والحضارة الي ادني المستويات. لهذا تمت المغادرة معرفيا لكل ما هو قديم ولم يظهر في الشرق أمثال الاكويني القادر علي اعادة الاعتبار أو الالتفات لما خلفه اصحاب الثروات المنهوبة، بالعكس سادت البسملة والحوقلة والاستشهاد بالهدهد والنمل. فمع ماذا تخاصم أو تصالح ابن الهيثم؟

كانت الاسباب الداخية مساعدة لعواصف الخارج ليقتلع كل شئ ويدخل في دائرة النسيان ولو ظاهريا. فمن المسلم به ماركسيا ان العلاقات الانتاجية باعتمادها علي الوسائل التقنية للانتاج تتطلب تطوير الوسائل وبالتالي المعرفة العلمية المصاحبة لها من اجل أرباح اكثر، خاصة في حالة تسلم طبقة أو جماعة جديدة مقاليد السلطة والنفوذ. بمعني ان الباعث لتحسين الانتاج بهدف توفير الثروة يكون سببا لرقي المعرفة أو لانتاج علوم لتحقيق هدف الربح والعائد، خاصة لو ان هناك منافس يقوم بادوار مشابهه، لكن ما جري من العرب عندما سطو علي مقدرات المنطقة كان عكس ذلك تماما فاتبعوا طريقة النزف المستمر دون تطوير الي حد ردم الترع والمصارف في الاراضي الزراعية بهدف خدمة اساليبهم في جني الثروة بتقدم الجيوش من اجل مصادرة ثروات مناطق جديدة أو باستجلاب عبيد لزيادة قوة العمل. فحتي السمة الطبقية للعلم الموروثة من الحضارات الاقدم، والتي تعلم منها فلاسفة اليونان، لم تعد ضمن ما تبناه العرب والمسلمين بقدر ما تبنوا علما شرعيا مستمد من جاهلية العرب لحكم البشر والسيطرة علي مواردهم وانتاجهم بغيبيات الدين. وهنا يجب طرح السؤال الاهم: ما الداعي لاكتشاف علوم وما ادعوه من حكمة ومعرفة في العصر العباسي إذا كانت السلطة راضية ومطمئنة لمواردها المادية الاتية من الامصار بوضع اليد والاستباحة باسم الله؟ وفي ذات الوقت ضامنة ولاء اصحاب الثورة ومنتجيها لشرع الله السابق التجهيز والمعلب للتوصيل الي مقار الخلافة علي طريقة الكنتاكي بموتسيكلات الفقهاء الاربعة؟ وساشارك مؤقتا في الاجابة باختصار ومن رؤية جدلية، اعتقد انها الاصوب من وجه نظر الاستاذ عاكف. فالمنطلق – النموذج - الحاكم والضابط لعلاقات الانتاج في عصر النبوة انتهاءا بعصور المماليك تتصف بانها خارج التطور التاريخي للانسانية. فالطبقات الاجتماعية في اروربا انجزت مهامها التاريخية في كل مرحلة سيطرت فيها علي مقدرات الانتاج. لكن عند العرب فنحن لا نري نهاية لما يسمي بدور الشريعة او خدمة الله أو العمل لاهداف دنيوية الا لتحاشي نار جهنم بعد الممات. تلك هي الفلسفة التي لم تغادرها الطبقة الحاكمة لو انها طبقة بالمعني الماركسي!!! يقول طيب تزيني فيما يأخذه علي المجتمع العربي وبالتالي الاسلامي أنه " لم تتكون الطبقة الاجتماعية – البرجوازية – القادرة، كما ينبغي ان يكون علي حماية اناس وضعوا أمام انفسهم مهمة اقتحام معقل التراث العربي في جانبه اللاهوتي علي وجه الخصوص ذلك لان طموحها محدود جدا ان لم يكن منعدما بحكم جذورهم البدوية العربية الثقافة واستجلابهم بعد أن نفذت ذخيرتهم الانسانية لمماليك وعبيد احط شئنا. وفي المقابل يقول إن المجتمعات الاوروبية استطاعت أن تحقق ثلاث مهمات رئيسية هي علي الترتيب: الثورة الاجتماعية الاقتصادية والوحدة القومية، والثورة الثقافية والايديولوجية ضمن حدود البرجوازية، وهي التي اتت في منتهاها بنقيضها بالفكر الاشتراكي رغم تعثر تطبيقاته لاسباب اهمها ان ثورة البرجوازية لازالت تحمل وقودا كافيا للاستمرارا".
فليس في نظر مثقف في قامة د. التزيني إلا مسطرة القياس التاريخية الاوروبية عبر ثوراتها البرجوازية للحكم علي اوضاع العرب والمسلمين. ويكمل عملية القياس علي التاريخ الحديث فيقول: "أخفقت الطبقة العربية البرجوازية في تحقيق المهام الرئيسية المذكورة فتحولوا الي وسطاء وسماسرة مما سلبها الحد الادني من القدرة علي انجاز اي شئ. فلا ثورة اجتماعية ولا ثورة صناعية ولا وحدة وطنية أو قومية ولا تحول ثقافي ومعرفي حداثي".

فاذا كان هذا هو حالنا اليوم فكيف ندافع عن اي ماضي لم يحمل اي بصمة برجوازية من اي نوع اللهم الا جماعات النهب والسلب بقيادة خلفاء راشدين وآخرين لم يصلهم الرشد حتي الان. لكن اهم ما في رؤية د. التزيني انه وضع المركزية الاوروبية كمنارة في محيط نحتاج فيه للاسترشاد بدلا من ان تضل بنا السفن في بحار الظلمات الدينية والعنصرية، فياله من فضل لهم علينا رغم كفرهم وصليبيتهم وصهيونيتهم في بعض الاحيان، فالمركزية تلك هي التي جعلت الاستاذ عاكف يفخر بشيوعيته رغم تجريم ثقافة العرب والاسلام لها.

ولنعد للعصر العباسي. فقد ظهر عقلانيون كالمعتزلة ،كمعارضة لما اتي به العرب من جبرية تملأ نصهم المقدس، وعلي استعداد لمنح العقل صلاحيات للفصل بين ما تاتي به الحيوانات والحشرات من اسرار الحضارات الاقدم لملوك اليهود من أجل التمتع برؤية سيقان نساء الملكات الكفار بدواعي دفعهم للايمان وبين ما تدبره عقول الحضارات الاقدم بانجازاتها. كان الفصل كفيلا بتحقيق قدر يسير من العقلانية لدي الحاكم او المحكومين. لكن الفصل من داخل المنظومة الاسلامية بين الافعال وخالقها هل هم البشر أم الله، وان يميزوا بين الخير والشر علي اساس من التخيير وليس الجبر، لم تتح له الفرصة لكي يتأسس، لان مردوده سيكون بالسلب علي من أخذ السلطة بقوة السلاح والغزو. فهذا التفكير العقلاني هو الاساس في الكشف المعرفي في باقي العلوم الطبيعية والاجتماعية والطبقية، لكن ما حدث أن هذا التوجه انهزم بانتصار اهل السنة عليه بسبب التعاليم الاشعرية في القرن العاشر الميلادي تأكيدا للجبرية الاسلامية. وهنا يكمن الفارق الجوهري في دحض كل ما يمكن ان يسمي علما اسلاميا مقارنة بما هو علم اوروبي مناظر له. فالارث الاوروبي مثلما عمل علي اكتشاف العلوم كان في ذات الوقت يعمل علي اخراج الكنيسة من المجال السياسي أو باحلال طبقة جديدة محل طبقة عاجزة وبالتالي انقشعت عندهم في نهاية المطاف تلك السحابة السوداء علي شبكية العين الراصدة للكون في الطبيعة وفي افعال البشر داخل هياكلها السياسية والاجتماعية نهاية بالانتاجية.

أما في عالم العرب المسلمين فقد اعلنها صراحة ذلك الاشعري بقول حاسم بوجود فاصل بين العقل والنقل. إنه العقل مع النقل الذي اتبعه توماس الاكويني وكان من نتائجة كشف الخطا في المنقول من الاديان بعد محاولات خلطهما لاكثر من 600 عام فيما يسمي العصر المدرسي. أما عند العرب فقد استدعت السياسة والايمان لتحل محل العقل والتدبر المنطقي حسب ما ابدعه شيخ الاسلام ابو حامد الغزالي حيث حطم اي فكرة عن الفلسفة باعتبارها علما استدلاليا وذلك بعد ان قوض تماما قيمة العلوم الطبيعية في نظر أهل السنة. ففي نفس كتاب فجر العلم الحديث يحيل توبي أ. هاف نهاية مرصد مراغة "الي ان كل خطوة لتقدم العلم كانت تعد بدعة من وجه نظر الفقهاء" - المحيطين بالخلفاء ومن ورائهم السياف مسرور – بمعني ان الدين ظل هو الوسيلة الشرعية الوحيده والممكنة لتحقيق اي غرض بما فيه حركة الافلاك. أما دراسة الفلسفة والعلوم الطبيعية فكان ينظر اليها علي كونها من علوم الاوائل الكفرة حسب ما يقوله القرآن وانها معارضة لروح الاسلام. فما الذي يطور العلم إذن إذا انتفت الفلسفة؟ إنها الفلسفة النابعة من العلم، بل لا تتقدم الفلسفة ايضا الا بتقدم العلوم. فجدلهما ضروري، وطبقا لاقوال ج. د. برنال فان موات الاثنين كان طبيعيا في عصور العرب والمسلمين. فالعقل مع النقل ليس سوي سم زعاف لاحدهما. فياتري علي اينا منهما تمكن الاستاذ عدنان عاكف للتحول ليكون فخورا بشيوعيته؟
وهنا نسال بدورنا هل انتمي مرصد مراغة الي ثقافة العرب والاسلام ومعه اهل علماء العصر العباسي، وخاصة ما قاله الفارابي من قلب فلسفة اليونان وعن المدينة الفاضلة أم انه انبعاث خطأ بحظ عاثر في بيئة تغلفها ادخنة وغبار العرب والاسلام. ولماذا لم يستمر طويلا شأنه شأن مئذنة المسجد النبوي او الجامع الاموي بدمشق والازهر القاهري؟ فالبيئة العربية الاسلامية لها خصائص تنفرد بها عن باقي الثقافات جعلت الفلسفة والعلم من الجرائم الواجب محاربتها. فاي استقراء لتاريخ الفكر الانساني يظهر أن الدين والفلسفة كثيرا ما يتبادلان موقعيهما. ففي مصر القديمة مثلا، كانت الفلسفة تابعة للدين وعندما اتي العصر الذهبي للحضارة اليونانية تراجع الدين واخلي مكانه للفلسفة دون ان يتواري نهائيا ولم يلبث الحال ان انقلبت الامور فعاد الدين ليرتفع في العصور الوسطي وهبطت الفلسفة الي الموقع الخلفي حيث اصبحت خادمة للدين. ولم تجري عمليات تبادل الاولويات الا داخل منظومة واحدة ربطت الفلسفة بالدين حاول الاكويني وغيره كثيرين الربط بشكل تعسفي ونسجهما سويا في ضفيرة واحده. لكن العرب رغم اختلاطهم بشعوب اخري بعد الغزو لهم لم يحاولوا اكتساب جدلية الدين والعقل أو العقيدة والفلسفة لكنهم فضلوا – علي طريقة القبيلة المنغلقة تامينا لذاتها - أن يفرقوا بين مسألة الايمان بالله، التي هي في جوهرها مسألة شهادة شفاهية لا يتجاوز صدقها تبدد موجاتها الصوتية المنطوقة، وبين مسألة البرهنة علي وجوده، التي هي مسألة فلسفية وعقلية ومعرفية بالدرجة الاولي. كانوا حريصين علي صخب الصوتيات وفرطوا في العقل والفلسفة حفاظا علي الوحي كاصل ثابت لمجمل الاساطير التي تجمعت لديهم من رحلات التجار أو من يجاورهم من الحضارات الاعظم في التاريخ.

وهل يكمن الخطأ فقط في عدم ربط العقل والنقل ام في غياب الفلسفة في غياب تقدم العلوم، إذا ما ظهرت علوم بالمعني المعرفي الحديث؟ تكمن الصلة بين العلة والمعلول في قانون السببية فالبرهنة مشروطة باثبات السبب او نفيه عن نتائجه وتلك إحدي منجزات الفلسفة اليونانية. وهي منقولة للعرب عن طريق الترجمات دون عائد سوي التشدق بالذهب المكافئ لها وزنا من خليفة المسلمين. وفي سورة الكهف يتكرر اتباع الاسباب للاستطراد في حكاية أسطورية لا تخضع لا لسبب او لأي تفكير عقلاني. فكان طبيعيا ان ترسو العقلية والنزعة الفكرية عند المسلمين علي فكر الاشعري كبناء فوقي لأمة الاسلام فاصبح الارتواء ليس من نتائج شرب الماء ولا الشبع بسبب تناول الطعام ولا اشتعال النار بسبب ارتفاع حرارة الخشب ولا الضوء سبب لشروق الشمس ولا شفاء بسبب لتعاطي الدواء، فهذه كلها بل وكل شئ، بات في عصر العباسيين المسمي بالعصر الذهبي للاسلام حيث الحضارة والعلم، مرده الي الله سبحانه وتعالي ومشيئته المقدرة سلفا. فما الفرق بينهم وبين الجاهلية قبل الاسلام عند العرب؟ إنها المشيئة التي طغت علي العقل والغت ارادة الانسان رغم توعده باعذاب لو خالفها، فتوقف العقل عن ابداع اي جديد او حتي فحص ما هو قديم بسبب الشلل من الخضة، اي توقف عن احداث تراكم وبالتالي اصبح استغراب الاستاذ عاكف غير مستغرب حيث قال مستغربا: "لو حاول البدري ان يتعامل مع التاريخ بمنظاره هو وليس بمنظار النجار لعثر على الكثير من العلماء العرب الذين رفعهم المستشرقون الغربيون الى مطاف عباقرة العلم في العالم".
واليك الاتي دون الرجوع للمستشرقين أو د. النجار تفاديا لاتهامت هي شرف وليست سبه، ففى كتاب " العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيــام العـرب والعجـم " يقول بن خلدون " من الغريب الواقع ان حمله العلم من المله الاسلامية اكثرهم من العجم الا في القليل النادر وان كان منهم العربى في نسبته فهو عجمى في لغتـــه ومربـاه ومشيختـــة " ..


وللحقيقة فاني اتعامل مع التاريخ بمنظور كيفية تفكير اصحابه وليس كوقائع ميكانيكية، فما تدبروه في عقولهم هو ما نفذوه علي ارض الواقع والدليل ما دبر يوما في الغار. حتي الاخيرة هذه فهي تصطف معي وليس مع الاستاذ عاكف لانه تساءل في مقاله له قائلا " لماذا أخفق العرب في انجاز الخطوة الأخيرة نحو العلم الحديث". والرد في الفلسفة والبناء الفوقي الذي فرضه الاسلام بنظام الخلافة السياسي بكتاب الله وسنة رسوله.
وصلت ذروه معارف العصر العباسي آنذاك فيما بعد العام 754 م واهم حكامها كانوا الرشيد والمأمون والامين والمتوكل . ومع الرخاء الآتي مع ثروات الأمصار والبلاد المفتوحة وبعد إشباع الحاجات الأساسية لمراكز الحكم بدأ البصر فى التجول فى أنحاء الكون فكان جابر بن حيان (720 - 815 م) في الكيمياء ويقال أنه يكتنفه الغموض وتتعدد فية الاراء بل وتختلف عما هو سائد حيث لا يعرف علي وجه الدقة أصله فيقال أنه فارسي أو يوناني وانه اسلم وتاريخ مولده ووفاته مشكوك فيهما وان مؤلفاته أكبر من يقوم بها فرد واحد.عاصر نكبة البرامكة وفر معهم. كذلك عمر الخيام الفارسي فى الرياضيات ( 1048 - 1131م ) بنيسبور أي بعد أن أصبحت مصر فاطمية . ويلاحظ على كل من ساهم فى العلوم العربية هو خلطهم بين ما هو فيزيائي وما هو غيبي (بدون منهج مدرسي كما في اوربا) بل والوقوف عند حد الوصف وتقرير الحال للموجودات , كما فى أعمال الجاحظ ومحاولة التصنيف بشكل أولى ثم التجريب على استحياء. بل أن بعض علوم الجغرافيا خضعت تماما لما هو موروث من الماضي الديني والبطليموسي, فرغم السمعه العربية بالفتوحات أي طي الأراضي والقفار وتخطي الحدود، فمازال العلم العربي يقول بان نهري النيل والفرات ينبعان من الجنة. ولم يمد المتحدثين البصر إلى نهر دجله القريب من الفرات ليسأل عن منبعه ومن أين جاء. بهذه الطريقة في التفكير، حسب قول جورج برنال في ج1 ص 301 تحت عنوان سمات العلوم الاسلامية " رضي معظم علماء المسلمين بالنمط الكلاسيكي الاخير للعلوم ووثقوا بهذا النمط ولم يكن لديهم طموح كبير ليحسنوه ولا اي طموح ليطوروه تطويرا ثوريا، وتصدق هنا مقولة البيروني (973 - 1048 م) على علماء ذلك العصر حينما قال " علينا أن نوجه اهتمامنا فقط للأمور التي عالجها القدماء وان نتقن ما يمكن إتقانــــه . لهذا السبب تضاءلت الحاجة الي العلوم النافعة فوصلت الي حدها الادني بسبب ظروف الانتاج الاقطاعي والعبودي في الاسلام، مما حدا بعلاقات الانتاج ونوعية المالكين الي اشذ النوعيات في تاريخ الحضارات حيث استولي المماليك العبيد ومن اتي بهم العرب علي السلطة.


عامل الزمن ربما يكون رافدا آخر لدحض فكرة وجود حضارة عربية، فكم من الزمن احتاجته البشرية لانجاز وتشكيل بناء حضاري له صفاته المميزة. فاوروبا وهي المثال الوحيد الذي اسوقه احتاجت حوالي 1700 عام لتقوم بنقلة نوعية بعد سقوطها في مستنقع المسيحية رغم وجود ارث يوناني عريق وعميق لديها، فهل يمكن لجماعات بدوية تحدثت عن نفسها في كتب التراث باعتبارهم نهابين للثروات وغزاة ولهم ارثا لقبوه بالجاهلية قائم علي لغة غير مكتوبة وعلاقات عبيدية لا تقدر من العمل الا بقدر المساهمة في الحرب ان يقيموا حضارة في اقل من 200 عام، ويخرجوا لنا علماء ايضا من جراب الحاوي. وحتي الان لم نتحدث عن سبب آخر قامت علي قواعده الحضارات القديمة والحديثة علي السواء الا وهو الفن. فكل النشاط الانساني كان الفن مبتدأه وخبره في آن واحد وفيما بينهما قام العقل بتمهيد الطرق وتعبيد السكك للمرور بسهولة من مأزق الي مأزق الي محطات ومرافئ ترضي الواقع وترضي العقل وترتقي بالاثنين. فاين الفن عن العرب والمسلمين في ضوء التردي المستمر في واقع العرب المسلمين.

ويبقي السؤال الاخير: هل الإسلام عقبة أمام العلم الحديث؟!! إذا لم يكن كذلك ، كيف يمكن تفسير الفجوة الواسعة في الانتاج العلمي بين عالم المسلمين وباقي العالم والغرب أو شرق آسيا؟ وماذا يجب أن يتغير بحيث يمكن أن تزدهر العلوم والحرية في البلدان المسلمة؟ فالتاريخ قد وقع واحداثة قد تمت ومن حق الجميع رؤيته طبقا لهواه أو عقله أو ايديلوجيته لكن العقبة الكأداء هو كيف نفضح التاريخ الذي اوصلنا الي ما نحن فيه.



#محمد_البدري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين التاريخ والعقل
- محاولة للفهم
- المعرفة هي خلاص الانسان
- آه ... لوكان هناك استك
- علياء وحاجة المشايخ لمصحات عقلية
- اليسار والثورة بين النمطية والتدجين
- اليسار بين العلمية وارتهانه للتاريخ
- النظام والاسلام السياسي بين الخسة والنذالة
- ثقافات وثورات
- دستور مصر الجديد المحترم
- الهروب الابستمولوجي
- اليسار بين الوحده والتشتت
- السلفيون والعفو عن قتلة الشهداء
- الشريعة الاسلامية في خدمة اسرائيل والفساد
- السلفية والوهابية واسرائيل
- حتي لا تتكرر كارثة يوليو
- أضغاث احلام بالخلافة القديمة
- دستور آل سعود المطبق عمليا على بلاد نجد والحجاز
- رسالة الي المصريين
- الوصايا العشر للسلطة الفاسدة


المزيد.....




- قُتل في طريقه للمنزل.. الشرطة الأمريكية تبحث عن مشتبه به في ...
- جدل بعد حديث أكاديمي إماراتي عن -انهيار بالخدمات- بسبب -منخف ...
- غالانت: نصف قادة حزب الله الميدانيين تمت تصفيتهم والفترة الق ...
- الدفاع الروسية في حصاد اليوم: تدمير قاذفة HIMARS وتحييد أكثر ...
- الكونغرس يقر حزمة مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا بقيمة 95 مليار ...
- روغوف: كييف قد تستخدم قوات العمليات الخاصة للاستيلاء على محط ...
- لوكاشينكو ينتقد كل رؤساء أوكرانيا التي باتت ساحة يتم فيها تح ...
- ممثل حماس يلتقى السفير الروسي في لبنان: الاحتلال لم يحقق أيا ...
- هجوم حاد من وزير دفاع إسرائيلي سابق ضد مصر
- لماذا غاب المغرب وموريتانيا عن القمة المغاربية الثلاثية في ت ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد البدري - عودة لحضارة السلب والنهب