|
بين التاريخ والعقل
محمد البدري
الحوار المتمدن-العدد: 3617 - 2012 / 1 / 24 - 07:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هل يستطيع باحث أن يجرد الظاهرة الدينية من بعدها القدسي بعد عزل وتجريد واسقاط البعد الاسطوري المؤسس لها ؟ أكاد أجزم ان المتلقي بعقله الايماني، سطحيا كان أو متعمقا، سيصاب بالفزع من غياب البعد الاسطوري الخرافي قبل ان يكتشف ان القدسية قد ذابت زوبان ملعقة سكر في بحار العالم السبعة. فما الذي جعل الخرافة أساس القدسية ومن الذي اسس قداسة علي قواعد أسطورية؟
بداية فلا بد لنا من الاعتراف أن القدسيات الدينية دون استثناء قد وصلتنا عبر عقل سردي حكائي يجعل من خطاب المصطبة وجلسات الليل الطويل في تعامله مع التراث الموروث من الاجداد اساسا له بانتقاء وليس بموضوعية. وليس اتفاق الرواة علي واقعة بعينها أو علي وقائع عديدة دليل صحة، فمن المعروف انهم تتابعوا زمانيا في كتابتهم لاكمال العهد القديم والجديد علي السواء. نفس الامر مع القرآن والسيرة. فإبن سعد بطبقاته عاش بعد الواقدي في مغازيه، والاخير اخذ مادته من ابن هشام عن الاصل في كتابات ابن اسحق. لكن الاضافة الاسطورية لدي ابن سعد فاقت مادية الجميع في حكايته للحدث وانتقلت بعدها الي ابن الاثير، فكلهم تفرقوا في الزمان والمكان. فكيف إذن تعاملوا مع التراث الموغل في القدم والممتلئ بالاساطير والخرافات. ولن نكرر انهم جميعا دون استثناء واحد قد اسسوا الدين والقداسة علي اصول نصية تسبقهم بمئات والاف الاعوام، معتمدين اياها، ويا للسخرية ادعوا في آن واحد وعلي ترتيب قولهم انها كتب محرفة.
تلك هي اولي الملاحظات علي عقلية الرواه التي وصلنا منهم الدين والمقدس والاسطورة والخرافة في سلة واحدة. فإذا كانت المصادر متفقة فليس معني اتفاقها صحة الواقعة فملايين البشر متفقين علي خرافات كثيرة موغلة في القدم وصلتهم علي نفس منوال الرواة. بل اصبحت القاعدة الاولي في علم النفس الجمعي انه كلما اتفقت الكتلة البشرية علي امر ما، لا يقبل الدحض او الاثبات، فهو باطل لا يجوز اعتماده، واعتمد علماء النفس في قولهم بان المشترك بين البشر مجتمعين هو الغريزة التي هي الثابت الاقوي بينهم، وبالتالي فإن خطاب الغريزة الاولي هو بدائي في فحواه غريزي في اهدافه غير عقلاني في تعامله، لا يعرف الزمن بل يسعي للاشباع قفزا علي حساب اي قواعد واصول تحد من متطلباته وهو مطلب الجموع وليس الفرد الواحد المتأمل بعقله. فطالما الصورة المنقولة لهم تفي وتستجيب لما يؤمل منها – غرائزيا - اصبحت صحيحة حتي ولو تضاربت مع منطق الاشياء وحتي ولم توفي أو تحقق مرادهم. وفي تفسير آخر، طالما انها تعدهم بما هو مأمول فيها فان معيار الصحة يصادر أي معيار آخر يسعي لدحضها. والقاعدة الثانية التي علي اساسها عاشت الاسطورة والخرافة وبالتالي الدين هو ان اصحاب هذه النوعية من العقول تناسخوا وتناسلوا وتوالدوا باستمرارية عبر التاريخ علي طريقة الاستنساخ الاميبي أي انجاب النسخ المتطابقة في عقولها وليس انتاج الانواع المغايرة في فهمها، وبالتالي فلماذا لا تصدق آخر الكائنات ما صدقه الاوائل، هنا يصبح الدين حيا والخرافة متحققة علي حساب مجتمعات ميتة وممتده تاريخيا. وهو ما يذكرنا بقول اصبح يصب علينا ليل نهار بامل اصلاح احوالنا المتدهورة وتأكيدا للمبدأ الاميبي الاسبق بانه: لا يصلح حال هذه الامة الا بما صلح به أولها.
والعكس بالعكس، فإن عدم اتفاق الرواة علي واقعة محددة لا ينزع عن الواقعة دلالتها الخرافية بل ربما – وغالبا – يجري عبر الخلاف تثبيت قدسيتها. ففي طبقات ابن سعد قوله: كانت الارض تنشق لتبتلع غائط النبي. والحديث عن عائشة أم المؤمنين: قلت يا رسول الله تأتي الخلاء فلا يري منك شئ من الاذي، فقال أو ما علمت يا عائشة أن الارض تبتلع ما يخرج من الانبياء فلا يري منه شئ. وجاء بنفس المصدر، أنه ذهب بغرض قضاء حاجته فلم يجد ما يتواري به من الناس، فرأي شجرتين بعيدتين فقال لابن مسعود إذهب وقم بينهما. فذهب ابن مسعود وحدث الشجرتين بان رسول الله ارسلني اليكما ان تجتمعا حتي يقضي حاجته ورائكما.
الحديث الموروث هنا ليس بكونه يعبر عن حقائق تاريخية بقدر ما يهدف موحيا للعقل بالا يبذل جهدا في التحقق من صدق الحدث معقولا أو غير معقول طالما سعت الطهارة للحاق باشرف الخلق... لكن المحير في كيفية تعامل العقل الايماني المسطح مع مثل هذه الروايات. فالارض التي تسبح بحمده لم يستطع العقل المؤمن ان يتساءل كيف تبتلع غائط النبي وحده دون باقي البشر لتسمح للبشر وله ايضا ان يندهس في غوائط باقي الناس في التجوال ليلا او نهارا، خاصة لو سمعنا مناديا آخر علي الجانب الشيعي يكمل سيمفونية أهل السنة متابعا منطق العقل الايماني ليمنعه من التساؤل. قال الملا زين العابدين في كتابه أنوار الولاية : “فليس في بول المعصومين ودمائهم وأبوالهم وغائطهم استخباث وقذارة يوجب الاجتناب في الصلاة ونحوها " فساؤهم وضراطهم وغائطهم مثل ريح المسك بل أن من شرب بولهم وغائطهم ودمهم يحرم على النار .فبولهم وغائطهم كالمسك بل من شرب من بولهم وغائطهم ودمهم يحرم عليه النار واستوجب دخول الجنة . وتبدو صورة الارض في عرف الشيعة مختلفة قليلا عن صورتها عند اهل السنة وهي التي خلقها لنا الله، عند كلاهما لنعمرها، تحرمنا من كل ما هو طاهر بابتلاعها غائط الانبياء وتترك لنا كل ما هو نجس وخبيث من غائط الناس.
لست هنا في معرض توسيع الفجوة بين اهل السنة والشيعة فيكفينا ما هو قائم منذ معركة الجمل بين عائشة وعلي ومن بعدها في صفين بين الاخير ومعاوية فالاتباع من الطرفين ملئا فيما بين البصرة والكوفة بالغائط الذي ابتلعه المسلمون من المحيط الي الخليج علي مدي 1400 عام، بافتراض صحة وقوع المعارك. لكني في معرض تصورات أخري لها وجاهتها وتبدو منطقية في اساسها حسب ما شكك فيه بحاث علماء قدماء ومحدثين في وجود شخصية بمواصفات موسي نبي اليهود حيث كانت الحاجة لشد الازر وشحذ الهمم ببطل مخلص اكثر منها حاجة لرجل يقودهم في الصحراء سيرا علي الاقدام. فالمخلص موجود في كل الثقافات ولا تكاد تخلو منها واحدة لكن الحقيقة الموضوعية تقول ان الذي استمر مع هذه الشعوب هو العذاب والاضطهاد والاستغلال مهما بدا الايمان عميقا في وجدانهم ومهما وفرت لهم السماء من مخلصين. وبعضهم وحد بين تلك الشخصيات وشخصيات حقيقة تم اسطرتها لارضاء العقل الايماني المسطح ربما لاسباب ان الزعيم الحقيقي المتواجد في الواقع لم يحقق امنيات شعوبها فتم تصديره الي السماء ليأتي بما عجز عن اتيانه علي الارض. شكك سيجموند فرويد في شخصية موسي وقالت الكتابات عن اوديب واخناتون الكثير وذهبت الي الالهه تموز وقال فلايكوفسكي الكثير في تبرير احداث التوراه في كتابه عصور في فوضي. وعلي صعيد الانثروبولجيين يطلق كلود ليفي شتراوس في كتابه "العرق والتاريخ" بنيوي المنهج انه بالنسبة للثقافات التي لا كتابة لديها ولا عمارة فهي لم تترك لنا الا تقنيات بدائية لتوريث عاداتها التي هي اصل تماسكها الاجتماعي مما يجعل منها قداسة كلما توقفت المجتمعات عن التطور وكلما مرت عليها عوامل تعرية تقلق وجودها" وهذا بالضبط حال العرب مع الاسلام وحال العبرانيين مع اليهودية. ومن ناحية التحليل المادي للتاريخ فإن مكسيم رودونسون في مؤلفه الاشهر عن نبي الاسلام بعنوان " محمد" جعل منه شخصية حقيقية معترفا بان القرآن نصا لا شك فيه طبقا لمفاهيم تلك القبيلة لكنه مفارق للمنطق المادي للاشياء. ويتفق معهم عالم متخصص في المنهج الوظيفي مثل "ايفانز بريتشارد " فكتب قائلا في مؤلفة "الانثرولوجيا الاجتماعية " كتب الكثيرين عن بدو الجزيرة العربية قبل وبعد الاسلام لكن أمور كثيرة حول بنيتهم الاجتماعية مازالت عمليا بلا اجوبة نظرا لفقدان الادلة التاريخية. فبوسع المرء ان يستعين علي ذلك بدراسة البنية الاجتماعية للبدو في ايامنا هذه" فهي لازالت تتعاطي الاسطورة وتؤكد الخرافة بل وتعيد نشرها لاسباب تبدو مختلفة عن اسباب نشرها قديما لكن الهدف منها متطابق قديما وحديثا.
حاليا يجدد نادر قريط، الباحث المتميز القدير، في موقعه علي الحوار المتمدن وفي مدونته علي الشبكة بعنوان كتابات نادر قريط، للقراء هرمونات فهم الدين علي ذات القواعد التي تجعل من التاريخ موضوع بحث في ذاته وفي الشخصيات كأوهام بعكس قول ول ديورانت في قوله الاشهر بان التاريخ معظمه ظن ومؤكدا معظم الشخصيات. وتبقي الاشكالية قائمة ليست في التاريخ ولا في الشخصيات انما في الافكار التي تملأ عقولنا حاليا عنهم وتحكمنا من برلمانات ومحاكم وعلاقات سياسية و اسرية، بل وجزية ربما ستشرع مجددا وارهبت مسيحي الشرق، وستبحر بنا الي ما هو اعمق من بحور الظلمات. تلك الافكار الموروثة من ماضي لا دليل عليه وشخصيات مستحيل ان تكون حقيقية، تحت سماء لم يقتحم حوافها القريبة منا الا الملحدون، وارض طهور جعلت مسجدا لنا وتضللنا. قال عنها من رضي الله عنهم انها تغشنا رغم عبادتها له بافضل منا، فلا تجعل لنبي (اي نبي) من اثر، ولا حتي جزء من غائطه ليطمئن قلب المؤمنين به.
#محمد_البدري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محاولة للفهم
-
المعرفة هي خلاص الانسان
-
آه ... لوكان هناك استك
-
علياء وحاجة المشايخ لمصحات عقلية
-
اليسار والثورة بين النمطية والتدجين
-
اليسار بين العلمية وارتهانه للتاريخ
-
النظام والاسلام السياسي بين الخسة والنذالة
-
ثقافات وثورات
-
دستور مصر الجديد المحترم
-
الهروب الابستمولوجي
-
اليسار بين الوحده والتشتت
-
السلفيون والعفو عن قتلة الشهداء
-
الشريعة الاسلامية في خدمة اسرائيل والفساد
-
السلفية والوهابية واسرائيل
-
حتي لا تتكرر كارثة يوليو
-
أضغاث احلام بالخلافة القديمة
-
دستور آل سعود المطبق عمليا على بلاد نجد والحجاز
-
رسالة الي المصريين
-
الوصايا العشر للسلطة الفاسدة
-
حديث الذكريات المبكر
المزيد.....
-
إيهود أولمرت: اليهود يقتلون الفلسطينيين يوميا بالضفة
-
-المسجد الإبراهيمي بين عراقة التاريخ وتحديات التهويد- انتصا
...
-
“متعة جنونية” تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي
...
-
ماما جابت بيبي..حدث تردد قناة طيور الجنة بيبي على القمر نايل
...
-
الأوقاف الفلسطينية: نبش الاحتلال المقابر في خان يونس انتهاك
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي بجودة رائعة وإ
...
-
عندما تتشنج الروح.. صرخة صامتة في وجه الحياة
-
سلي أطفالك بأغاني البيبي..ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على
...
-
غضب في ريف حمص: العنف الطائفي يتمدّد
-
رواية -الهرّاب-.. أزمة الهوية والتعايش والوجود اليهودي في ال
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|