إياد أبازيد
الحوار المتمدن-العدد: 3614 - 2012 / 1 / 21 - 11:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قصة حارتنا ...
دمعة
دمعة ذُرفت من عين أبي, في لحظة نادرة حين كان يحدثني عن تلك المعركة التي شارك بها ذات كرامة.
اقتربت منه حينها و انحنيت على يده أقبلها و من دون أن يشعر أخذت تلك الدمعة و ما زلت أحتفظ بها حتى اليوم.
الوصية
كالصاعقة في فصل الصيف كان خبر وفاة أبي, نقله لي أخي من هناك,تجمدت العروق في جسدي و شخصت عيناي بعيدا, خلعت الساعة من يدي فما عادت تعنيني.
خارج غرفتي كانت أشعة الشمس مظلمة جدا و لأول مرة لم تكن قادرة على إظهار ظلي الطويل حينها.
في حقيقة الأمر, خرجت من جسدي و صرت أترقبه من الأعلى ,ماذا تراه فاعل الأن؟..
رفع رأسه إلى السماء,ابتسم مطمئنا و عاد إلى غرفته,في الوصية كان مكتوبا
“بني دمعتي تلك التي احتفظت ,اذرفها لحظة فخر !”
طفل
سئم منظر أبيه يعود إليهم آخر النهار,ينظر زوجته تحمل بيديها أخيه الوليد منذ أيام خلت, يتبادل الأبوان الحديث بصمت العيون, فالحديث عن اللاشيء بصوت مسموع بات مزعجا جدا في الأيام الأخيرة, الأرض صودرت فالأفضل أن ننساها لا أن نطالب بها!
ما أن بزغت شمس ذلك الصباح حتى تجمع أولئك الأطفال و خرجوا في شوارع الحي ينظرون السماء فلا شيء يحمي حلمهم سواها و جلبوا معهم الطلاء و كتبوا على الحائط كفرا بالنظام القمعي
“الشعب يريد إسقاط النظام”
التحرير
بين الكتابة على الجدران حين كانت الشوارع مقفرة و بين تجمع جنود السلطان كانت لحظة واحدة فقط, إلا أنها كانت كفيلة بإنهاء معركة الأطفال بنصر مبين لجلاديهم.
تم اقتيادهم إلى السجن و لأول مرة عرف الأطفال بأنه من الممكن أن يكون هناك عدة طوابق تحت الأرض على غير ما عرفوه
غرف ضيقة جدارنها متسخة و عليها بقع دم منها القديم الذي أصبح كمثل الطلاء و منها ما يشع منه النور لحداثته,صوت أقدام تقترب من زنزانة أولئك الصبية,تختلط الشتائم التي يتلوها الجلادون مراسيم رئاسية بصوت الأقفال الحديدية التي تفتح باب الزنزانة, و تبدأ المراسم الشيطانية بركل الأطفال إلى ذلك الممر الذي تنبعث منه رائحة غريبة على أنوف أولئك الصبية, سوف لم يستغربوها لاحقا فقد بدأت اللكمات تنهال عليهم و صفعة هنا و سوط هناك و تم تثبيت الأطفال و لتجري مراسم تقليم الأظافر بخلعها!
ماذا يمكن أن يكون بداخل رؤوس أولئك الذين انهالوا ضربا بالهراوات و العصي و اللكمات على أولئك الصبية!
هل كانوا فعلا مستمتعين بسماع نحيب أطفال و هم يصرخون تحت وطأة خلع الاظافر!
على ما يبدو كانوا مستمتعين جدا بقيامهم بالعمل المنوط بهم
فهم الأن في معركة تحرير و تعذيبهم و تنكيلهم هو حماية لصمودنا و تصدينا ممانعتنا و مقاومتنا المهترئة بعهر كلام السلطان.
مفاوضات
لطالما قال لي اخي متندرا ” لو أنني جمعت ليرة عن كل مرة سمعت بها كلمة مفاوضات لكنت اليوم ملياردير!”
كان السلام شغلنا الشاغل فدخلنا في مفاوضات طويلة عبر السنين و لكن على ما يبدوا كان الفارق كبيرا جدا بين سلامنا “السلام عليكم و رحمة الله ” و سلامهم “شالوم”
اجتمع أهالي الأطفال بكبير الجلادين يريدون إنهاء المسألة بأكبر قدر من السلام و قد جلبوا معهم حفنة تنازلات لتقديمها أضحية أمام قدمي السجّان.
قطع عليهم محاولتهم البدء بالكلام بأن قال لهم “سنسامحكم على ما كتب أطفالكم من عبارات كفر”
نظروا إليه بابتسامات صفراء “كثّر الله خيرك اخوي”
و تابعوا قائلين ” بما أن الأمور قد انتهت هكذا سنعدك بأن لا يقدم الأطفال على ما قاموا به لاحقا, و الأن دعنا نصطحبهم إلى المنزل فهم و لاشك بحاجة إلى بعض الدفء و وثير الفراش”
حملق بهم واحداً تلو الآخر ثم قال “انسوا أمر الأطفال و اذهبوا إلى زوجاتكم و بإمكانهن ولادة أطفالاً أخرين لكم”
علت علامات الدهشة وجوههم جميعا و اختلطت بالكلمات المتبعثرة الصادرة من جميعهم معا ليقطع عليهم حديثهم مرة أخرى قائلا:
“إذا لم يكن بإمكانكم ذلك,أرسوا زوجاتكم لنا و سنجلب نحن لكم الأطفال!!!!”
عقال الشرف
رغم أن ما سمعوه كان كفيلا بهدم جبال, إلا أنهم لم يريدوها أن تنتهي حيث بدأت.
كان من السهل جدا أن يقوم أحد بصفعه صفعة لم يعهد أن أحد قادرا على صفعه إيّاها يوم تقلد تلك الغربان برتبة على كتفه!
وقد تؤدي إلى قتل ذلك الذي صفع حينها و لتنتهي الأمور على ما هي عليه, إلا أنهم كظموا غيظهم كما لم يفعلوا يوما و انصرفوا
اجتمعوا ليلاً و الجميع غاضب يمر أمام كلّ منهم شريط قهر و استبداد لا ينتهي بدأ بولادتهم و وصل الآن إلى ذروة ما يمكن للصبر ان يحتمله.
الاقتراحات بدت ممن استطاع مسك لجام غضبه و لكنها انتهت بكلمة مزلزلة من كبيرهم ختمها عندما رمى عقاله أرضا بقوله
” هذا العقال ما يرجع إلا و الحرية ترفرف فوق روسنا”
درعا الآبية
خرجت جموع الرجال إلى الساحات تهتف بملء أفواهها “الله..سوريا ..حرية و بس”
في كل تالية يعلو الصوت أكثر كأنهم يزيحون الصدأ الذي تراكم من أصواتهم .
لهتافهم دوي ملأ سماء درعا الآبية, و هتافاتهم كانت كمثل الكفر بمعتقدات قطاع الطرق الجاثمين فوق قلوبنا منذ حين.
لم يكن لذلك جوابا إلا زخ للرصاص مطر شتاء منهمر
صدور عارية إلا من قلوب ملؤها الإيمان بالله بالوطن و الحرية يقابلها أجساد خاوية تحمل الأسلحة النارية تطلق الرصاص حيا ليدخل قلب الحي فتحيا الشجاعة في قلوب الرجال و تسطر العهد بأننا على ما بدأنا مستمرين
اختلطت المظاهرات و أعراس تشييع الشهداء ببعضها, فكل مظاهرة تزيد الشهداء و كل عرس شهيد يزيد المظاهرات.
و كل يوم أصبح لدنيا دما طاهرا يروي الأرض الظمآى للحرية و الكرامة العزة.
انطلقت تلك النار التي ستتطهر أرضنا من طغاة الليل من هنا من درعا الأبية و زّفت لنا حين سمعنا
“من حوران هلّت البشاير”
درعا تحت الحصار
كانت الدبابات القمعية على وشك أن تنتهي صلاحياتها لولا أن هبّ الشعب لحظة حرية, فطوقت الدبابات درعا و حوصرت بقوات الظلام التي كان جولاننا المحتل على مرمى بصرها, إلا أنها أبت إلا أن توجه مدفعيتها إلى صدور أولئك الذين يشاطرونهم هواء و ماء الوطن.
عمّ الخراب و الدمار كلّ مكان طالته جنازير دباباتهم و مدرعاتهم, قطعت المياه و الكهرباء و الاتصالات و علّت ضحكاتهم على صدى قول قائدهم ممسكا باللاسلكي”سيدي ,انتهت المهمة و سترجع الامور كما كانت, بل و أفضل مما كانت عليه”
و في تلك اللحظة التي ظن الشيطان بأن الرجال استكانت,هبّت درعا عن بكرة أبيها حشودا مرعبة تزلزل الأرض, مطلبهم بسيط جدا لم يكن لديهم طمع في ما عداه فإما الشهادة أو الحرية , كان هذا جليا جدا في هتافاتهم “الموت و لا المذلة”
و بدأ الشهداء يحلقون للسماء للعلياء حتى أنك لترى أولهم فوق الأرض و أخرهم في أعلى السماوات.
و اشتد الحصار فصرخت درعا “أيا أخوتي هبوا للحرية فليس لنا بعد اليوم رحمة سوى رحمة الله”
لبيكم أهل درعا الكرام
هناك على بعد مئات الكيلو مترات نحو الشمال من درعا حيث تذرف الجبال سهولها باتجاه البحر لبى الرجال و النساء نداء درعا و خرجوا متزاحمين صرخاتهم تشق عباب السماء
“يا درعا حنّا معاكي للموت”
“الشعب يريد إسقاط النظام”
“الله سوريا ..حرية و بس”
كان ذلك كمثل الصاعقة على أولئك الجاثمين على احلامنا فلقد اهترأت عقولهم نتيجة استكانتنا ليس لجبن و إنما لقهر و قتل و دمار و لكن اليوم ليس كالامس.
احاطت فرق الموت بالهاتفين بحياة درعا و الحرية ينظرونهم من بعيد تعلو وجوههم نظرة خوف يحاولون الضحك بصوت عالٍ لكي تتبدل معالم الخوف في وجوههم إلى غيرها من معالم , و لكن ما الذي يتوجب عليهم فعله لتبديل معالم الخوف في قلوبهم ؟
ما إن خيّمت الظلمة على المكان حتى انهمر الرصاص الحي غزيرا من كل صوب فإذا بثلاثين شهيدا و شهيدة يزينون ساحة حيينا,
و لأن دماء الحرية تعكس الخوف على وجوههم, فقد كان حرصهم واضحا على رش المياه في الطرقات سيارات لإزالة أثار الدماء من شوارع الحي.
ألم يعلم هؤلاء الطغاة بأن الدماء الطاهرة لا يمكن لشيء أن يزيل أثرها!
ألم يعلم أولئك القتلة بأن كل قطرة دم ذرفت , ستحول أيامهم إلى جحيم في هذه الحياة قبل الحساب.
لم يكن أهل حمص و جسر الشغور و إدلب و دير الزور و حماه و الشام و ريفها و الرقة و الحسكة و القامشلي وبانياس و تلكلخ و دوما و القابون و تلبيسة و البياضة و أنخل و جاسم و نوى و البوكمال و كناكر و كل بقعة ارض في سوريا لم يكونوا بأقل كرماً.
كانوا يخرجون كل يوم لتقديم الشهداء لنسج البطولات و ما زالوا يخرجون و سيستمر خروجهم حتى نيل مبتغاهم “الحرية”
كثيرة هي البطولات التي سمعتها و شاهدتها كثيرة هي الأساطير التي سيرويها التاريخ عن تلك الملحمة المتوسطية و الفرق بينها و بين الأساطير بأنها ستكون قصصا حقيقية لن تنسج من خيال خصب.
فما من خيال يرقى لنسج أسطورة كمثل حمزة الخطيب و هادي و القاشوش و رهف و لا أولئك الذين فاقوا الألفي شهيد و شهيدة.
كل واحد منهم كان طفلا او أخا أو أبا أو أختا أو أماً لنا
قريب جدا ذلك اليوم الذي ستسمعون عن تلك البطولات.
و اليوم فقط بإمكانكم أن تضموا أسماؤكم إلى تلك القصص البطولية.
اعلموا جميعا أننا منتصرون , و اعلموا بان أحداً يضنّ علينا بكلمة ستقتل فرداً منا هو أخٌ أو أختٌ لكم .
صمتكم يقتلنا يا أيها السادة المستمعون ...
د . إياد أبازيد
#إياد_أبازيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟