أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف صالح - دفاعاً عن نجيب محفوظ ضد الشحات















المزيد.....



دفاعاً عن نجيب محفوظ ضد الشحات


شريف صالح

الحوار المتمدن-العدد: 3594 - 2012 / 1 / 1 - 18:09
المحور: الادب والفن
    


"ماذا يحدث للدنيا؟
الميدان يكتظ بالآلاف، لم يقع ذلك من قبل، هديرهم يرج جدران حارتنا ويصم الآذان، إنهم يصرخون وبقبضات أيديهم يهددون.
وأحملق فيما يجري من فوق سور السطح وأتساءل عما يحدث للدنيا..
وتتلاطم الأحاديث مشحونة بكهرباء الوجدان، وينهمر سيل من الألفاظ الجديدة، السحرية.. الأعلام ترفرف فوق الدكاكين.. إمام المسجد يظهر في شرف المئذنة ويهتف ويخطب.
غير أنني أشهد مطاردة.
يندفع ناس داخل حارتنا، يرمون بالطوب، يتحصنون بالأركان"

هذا المقطع المأخوذ بتصرف بسيط، لا ينقل ما يدور في ميدان التحرير ولا في شارع محمد محمود، بل يجسد صورة ملحمية لحكاية من «حكايات حارتنا»، كما رآها نجيب محفوظ طفلاً أثناء ثورة 1919 وهكذا قدر لمؤسس الرواية العربية أن يولد ويموت بين ثورتين، فعقب سنوات قليلة على ميلاده، اندلعت واحدة من أعظم ثورات المصريين، وبعد رحيله بخمس سنوات فقط ولدت ثورة 25 يناير التي لا تقل عنها عظمة. وما بين الثورتين عاش محفوظ مؤرخاً لوطن وبشر وأفكار.
ولما أعلنت وزارة الثقافة المصرية 2011 عاماً لمئوية محفوظ الأولى، جاءت ثورات الربيع العربي لتُنسي كل ما عداها.. وكأنها هي الاحتفال الحقيقي بكاتب عاش طفولته في ربيع ثورة، وودعنا على أعتاب ثورة. كاتب كان إبداعه تجسيداً لمعنى وقيمة الثورة، حين يندفع الحرافيش الذي لا يملكون مالاً ولا نفوذاً ولا سلاحاً ضد ظلم الفتوة وحاشيته.. يندفعون في حشود هائلة بقوة الإرادة طلباً للعدل والحرية والكرامة الإنسانية.
عاش محفوظ قرناً من الزمن، نموذجاً لما آمن به من أفكار وقيم نبيلة، وكان مفتاحه السحري في حياته الدنيا هو «الحب».. حب الوطن والناس والعمل والمعنى النبيل، بل حب الموت نفسه، كنقطة في نهاية سطر!
لكن هذا المُحب الكبير تعرض ـ من حين إلى آخر ـ لحملات كراهية ومحاولات القتل المادي والمعنوي، والمؤسف أن تتزامن تلك الحملة الأخيرة التي قادها الشيخ السلفي عبدالمنعم الشحات مع شهر ميلاده، ومع مئويته الأولى! لكن لعل هذا التشهير والتحريض ضد رجل بين يدي ربه، خير حافز لإعادة الاعتبار له.. وفرصة لمحاججة بعض التيارات الدينية، بالكلمة لا بالسكين.
نحن هنا أمام نموذجين، ينتميان إلى الثقافة ذاتها، أحدهما يحض على الكراهية والخوف والتحريم والهدم واستعادة ماض «مقدس»، والآخر يحث على الحب والتسامح والعمل الجاد والعلم ومد البصر إلى المستقبل. وخلال ثلاث حلقات ننشرها تباعاً، ندافع هنا عن النموذج الثاني.
إن المسألة تتجاوز قامة محفوظ، وهجوم الشحات، إلى ازدواجية ثقافتنا التي تبدو ـ في أحيان كثيرة ـ وكأنها تأكل أبناءها وتُلقي بهم في عتمة النسيان، فنحن قساة في تجاهلنا لأنبل ما فينا. حالة معقدة من جلد الذات وتشوه الروح. تتطلع أعيننا إلى أعظم الكتاب هنا وهناك.. لكننا لا نعترف لأنفسنا بأن كاتباً عربياً قد يكون عظيماً، حتى لو كنا أبناء واحدة من أعظم الثقافات.. حتى لو كانت الأديان السماوية الثلاثة التي يتبعها معظم البشر، هي جذر أصيل في ثقافتنا وهويتنا.
ربما ليس سهلاً علينا أن نعترف برداءة وعينا، رغم عظمة ثقافتنا، ولا أن ندرك مأزقنا الروحي في الإصرار على التبعية لمركزية الغرب، خوفاً من مسؤولية أن نكون نداً له. فهل يقل ابن عربي عظمة عن هيغل، أو أبو العلاء المعري عن دانتي، أو المتنبي عن شكسبير، أو الجاحظ عن هوميروس، أو نجيب محفوظ عن تولستوي؟
وبينما الغرب لا يفوت فرصة للاحتفاء بمئويات كتابه وموسيقيه ورساميه، نتعجل نحن دفعهم إلى ما وراء الصمت والفراغ كأن لم يكونوا! فهل احتفت جامعة الدول العربية ـ مثلاً ـ بمئوية طه حسين أو العقاد أو توفيق الحكيم أم هي مكتفية بالانغماس في وحلها السياسي منذ تأسيسها! وكم مثقف ومسؤول عربي يعلم أنه في هذا الشهر تحل المئوية الأولى لمحفوظ؟
لن يزيد محفوظ أو ينقص، ولن يخسر منجزه الأدبي شيئاً، لأن مسؤولا تذكره أو تناساه، لكن المسألة كاشفة رداءة وعينا، وسوء تقديرنا لبناة حضارتنا وحراس ثقافتنا.

1. معركة ضد ميت:

شن المتحدث باسم الجماعة السلفية في مصر الشيخ م. عبدالمنعم الشحات معركة كلامية ضد ميت لا يستطيع أن يحاججه أو يدافع عن نفسه، وهو بين يدي ربه.
ظهر الشحات في قناة الجزيرة قائلاً بشكل قاطع لا يحتمل اللبس:

ـ «نجيب محفوظ أحد الأدباء المسؤولين عن الانحلال الخلقي في المجتمع المصري»

ـ «من يقرأ أدب نجيب محفوظ يتصور أن مصر ما هي إلا ماخور كبير»

ـ «من العار على أي مصري أن تقدم مصر من خلال روايات نجيب محفوظ»

ثم ظهر في قناة «النهار» المصرية وكرر للإعلامي محمود سعد الكلام ذاته:

ـ «أدب نجيب محفوظ يشجع على الرذيلة»

ـ «أدب نجيب محفوظ يشجع على الرذيلة وكله عن أماكن المخدرات وشرب الحشيش وبيوت الداعرات»

ـ «رواية أولاد حارتنا رواية رمزية فلسفية فيها بعد إلحادي»

ثم ظهر ـ للمرة الثالثة ـ في قناة دريم مع الإعلامي وائل الإبراشي و مما قال:

ـ «روايات نجيب محفوظ علمت أبناءنا المخدرات»!


• إذا كان الكلام «فتوى»

إذا كان كلام الشيخ الشحات على سبيل الفتوى، فقد اتسم بالآتي:

ـ التعميم وإطلاق الحكم: لقد نسف الشيخ إبداع نصف قرن في سطر واحد، بينما أي صبي في المرحلة الثانوية لو اطلع على عشرات الكتب التي تركها محفوظ، فسيكتشف أن هذا الحكم ليس قاسياُ فقط، بل عار تماماً عن الصحة، فأين الدعارة وغرز الحشيش في رواية «كفاح طيبة» أو آخر أعماله «أصداء السيرة الذاتية» وفي غيرهما؟ ولو حصر الشيخ كلامه في «بعض» الروايات أو الصفحات، ربما جاء حكمه مقبولاً. لكن الحكم الاطلاقي، أو التعميم آفة في التفكير لا يفترض أن يتورط فيها من يتصدى للفتوى، حيث يجعل كل الأشياء وكل الأفكار متشابهة، بينما من ملكات المفتي أن يدرك الفروق ومساحات الالتباس.

ـ عدم تقديم حجج أو براهين: لم يستشهد الشيخ بنص لمحفوظ يثبت إلحاده أو حثه على الرذائل، ولا أقام دليلاً من القضاء والإفتاء الشرعيين، يحرم أعماله، بل جاء كلامه مرسلاً. حتى "الثلاثية" التي وردت على لسانه، باعتبارها مشاهد دعارة وغرز حشيش، تغاضى الشيخ عن القول بأنها تضم أيضاً مشاهد النضال ضد الإنكليز واستشهاد كمال عبدالجواد!
ويكشف إلحاح الشحات على جمل بعينها عن ضحالة حصاده الثقافي، فلا أدلة نقلة ولا عقلية، ولا منطق سليم في طرح فكرته، حتى وإن اختلفنا معها جذرياً، بل مجرد إلحاح هوسي على نغمة يرددها: محفوظ، حشيش، مخدرات، دعارة، إلحاد!

ـ الافتقار إلى النزاهة والإنصاف: مثل هذه النوع من الحكم يفتقر إلى التجرد والإنصاف وهو ما يتنافى مع الآية الكريمة «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ»

ـ التشوه والاضطراب: من شروط من يفتي أن يكون سليم الذهن، رصين الفكر، متيقظاً، صحيح التصرف والاستنباط. فلو افترضنا أن كاتبنا طبيب يشخص أمراضاً في المجتمع، فهل إذا بصّر الطبيب المريض بعيوبه، على أيهما يقع اللوم: الطبيب أم المريض؟ وإذا كان سائر الأدب العربي وغير العربي لا يخلو من مثل هذه المشاهد فلماذا الإصرار على اعتبارها سوءة لدى محفوظ دون غيره؟ وهل لدى الشحات إحصاءات عن أبنائنا الذين أدمنوا المخدرات تحت تأثير بضعة سطور قرأوها لنجيب محفوظ كما يزعم؟
إن لدى علماء الأصول قاعدة ذهبية بأن «الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، ومن الواضح أن تصور الشحات عن أدب محفوظ مشوه ومضطرب، وعلى الأرجح أنه لم يقرأ كتاباً واحداً له وإنما بنى فتواه على الأفلام التجارية التي أُخذت عنها! وشتان ما بين الاثنين. ولا نعدم أن تؤدي فتوى مشوهة ومضطربة إلى تلق مضطرب ومشوه أيضا، لدى عوام الناس، فيكفي أن يقول الشيخ: «بعداً إلحادياً» ليقوم أحدهم بحرق كتب محفوظ في ميدان عام، أو جلد ابنه إذا وجده مثلاً يقرأ "الثلاثية"، أو حرق محفوظ نفسه لو كان حياً.

ـ الاندفاع والسرعة في إطلاق الإحكام: نلاحظ في لقاءاته اندفاع الشحات، وسرعة استجابته لأكثر من قناة للظهور وترداد الفتوى ذاتها، مع تغيير طفيف في الألفاظ، وهو ما يتنافى مع ضوابط الإفتاء التي تتطلب التروي والتمحيص ووزن الكلمات بميزان من ذهب قبل النطق بها، حتى لا تثير بلبلة، أو تؤدي إلى مفسدة، وصدق عبدالله بن مسعود حين قال: «إن كل مَن يُفتي الناس في كل ما يَستفتونه لمجنون» ! فهو لم يكن مضطراً لتكرار ظهوره وسرعة اندفاعه على هذا النحو، وليس مضطراً لأن يُفتي في كل مسألة تعرض عليه. وكما قال الإمام مالك: «العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق».

ـ الافتئات على مراجع الإفتاء الرسمية: لاحظنا أنه عندما يضيق المذيعون الخناق على الشحات، ويظهر تهافت فتاواه، يبتسم ببراءة ثم يقرر ترك الأمر إلى «مجمع البحوث الإسلامية» التابع للأزهر، أليس ذلك عبثاً؟ فإذا كان الأزهر سكت عن أمور تدخل في نطاق المباح، أو ربما سفاسف لا تستحق التعليق، أو أصدر القضاء الشرعي حكماً أو فتوى فيها وانتهى الأمر، فلماذا السفسطة بشأنها مرة أخرى؟ ألا يعد ذلك من قبيل التنطع في الدين، الأزهر الشريف لا يحرم أعمال محفوظ، ولا يوجد حكم قضائي شرعي أو غير شرعي ضدها؟ وهي متداولة مكتوبة ومرئية ومسموعة من قبل أن يولد الشحات نفسه!
إن الأصل في الأشياء الإباحة، حسب القاعدة الفقهية المعروفة، وبالتالي فإن إرهاق الناس بهذا الكم من الفتاوى والتحريم والتحليل، لن يؤدي إلا إلى التنطع والتشدد و تضليل العوام.

• إذا كان الكلام «رأياً»

أثار كلام الشيخ الشحات «المتكرر» غضب الكثيرين من المثقفين الذين هاجموه بدورهم وسخروا منه على صفحات الفيس بوك، ليتحول الأمر إلى سجال حيث كتب بعض السلفيين ينتصر له، وهاجمت قناة الحكمة السلفية، الليبراليين والعلمانيين بزعم أنهم من المفترض أن يقبلوا «رأي» الشيخ الشحات.
إن حرية الرأي والتعبير مبدأ أساسي من مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، انطلاقاً من أن البشر لا يتطابقون في ميولهم وآرائهم، ما يستوجب قبول واحترام الاختلاف في الرأي والتعبير والمعتقد. لكن سقف تلك الحرية وحدودها مثار جدل قانوني وسياسي واجتماعي، فهل تقف عند ما يسمح به القانون، أو ما يقبله المجتمع أو ما تتيحه النخب السياسية؟ وثمة منطقة شائكة تصبح فيها حرية التعبير مرفوضة أدبياً، أو قانونياً، ومن ثم فإن الممارسة الخاطئة لها تؤدي إلى نتائج خاطئة ـ وتنقسم تلك المنطقة الشائكة إلى قسمين:

الأول: يعاقب عليه القانون مثل: تعمد الكذب، الاشاعات، إثارة الفتن، الحض على الكراهية، السب والقذف، التشهير والتجريح، إثارة الرعب والهلع ونشر مواد بذيئة.

الآخر: لا يُعاقب عليه القانون لكنه يتنافى مع الحس الإنساني العام مثل: فرض الرأي على الآخرين، عدم الاحترام وانعدام اللياقة، الإصرار على الانتقاد، إبراز الجانب السلبي وحده، وعدم الإلمام بالموضوع موضع النقاش. في ضوء ذلك، وعلى اعتبار أن ما قاله الشيخ «مجرد رأي» نلاحظ ما يلي:

ـ كلام الشيخ كله يقع في المنطقة الشائكة لحرية التعبير، لافتقاره إلى اللياقة والمراعاة وجنوحه إلى التشهير، وفرض وجهة نظره على الآخرين، وعدم إلمامه بموضوعه، وتركيزه على السلبيات دون غيرها، وتحريضه الضمني ضد نجيب محفوظ وأدبه. وفي جملة واحدة لا يقدم الشيخ رأياً بناء بل تحريضاً مبطناً.

ـ أليس غريباً أن يتجول رجل ملتح يعرّف نفسه بأنه المتحدث الرسمي باسم الجماعة السلفية، على استديوهات القنوات الفضائية، كي يقول «رأياً» في كاتب بعينه دون غيره؟!

ـ لو كان مجرد رأي لاكتفى بكتابته في مقال أو ذكره في برنامج وانتهى الأمر لكنه أصر على شن حملة إعلامية وإلا لما تكرر ظهوره في أكثر من وسيلة إعلامية مردداً الكلام ذاته عن أدب محفوظ الذي يروج للمخدرات والدعارة والإلحاد!

ـ الإبداع بوجه عام قائم على معايير جمالية، ومن ثم فعندما يرغب المرء في قول «رأي» فيه ـ وليس فتوى ـ يفترض أن يأتي رأيه وفقاً لتلك المعايير، فليس منطقيا مثلاً القول بأن تمثال «نهضة مصر» ردة إلى عبادة الأصنام، أو أن اكتتاب المصريين عن بكرة أبيهم لدفع تكاليف تشييد تمثال مصطفى كامل، شرك بالله! كذلك روايات محفوظ وغيره هي أعمال «تخييلية» تقيم وتحلل وفق مبادئ جمالية، وليس أي أمر آخر، فتصوير جريمة قتل في رواية لا يعني أنها وقعت فعلاً، والكتابة عن «مومس» لا يعني أنها تجربة ذاتية للكاتب أو أنه يمجد الرذيلة، ومن الجنون أن نبلغ الشرطة عن «لص» في رواية! مثلما من غير المنطقي أن يقيم ويحكم مهندس زراعي على جراحة حساسة في القلب، لأنه ببساطة لا يمتلك الموسوعة المعرفية التي تؤهله للتقييم والحكم وفهم العلامات الخاصة بتلك الجراحة وأدواتها، فليس منطقياً أن يحلل ويحكم رجل دين على سيمفونية لبيتهوفن أو رواية لنجيب محفوظ وهو لا يعي القواعد الجمالية لهذا الفن أو ذاك؟

ـ رأي الشحات مقحم على سياق الحديث، بما يخالف القاعدة البلاغية المعروفة «لكل مقام مقال» التي أدرك أهميتها عرب الجاهلية وهم أهل فصاحة، فالشحات يُستضاف للحوار حول الشأن السياسي وصعود التيار السلفي وليس للكلام عن الروايات والقصص لكنه يستدرج ليمارس مهنته أو هوايته، حيث «يُفتي» في كل شيء، ومن باب أولى أن يركز على القضايا الجوهرية التي تشغل بال المواطنين بصفته مرشحاً للبرلمان مثل الدستور والانتخابات والبطالة وانهيار البورصة.

ـ مثل هذه الآراء الصادمة والمبعثرة في اتجاهات شتى، تبدو على المستويين السياسي والاجتماعي بمثابة «بالونة اختبار» لجس نبض الشارع المصري، وتعويده على مرحلة جديدة ـ بعد ثورة 25 يناير ـ وهنا يأتي الهجوم عالي السقف، فهو لا يتناول روائياً مجهولاً بل أهم روائي عربي في القرن العشرين، وغداً على المنوال نفسه تطال الآراء/الفتاوى، أم كلثوم وكتب طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم.


2 - القتل مرتين:

سواء أكان ما قاله الشحات عن أدب محفوظ فتوى أم رأياً، فانه يندرج في سياق القتل المعنوي والرمزي للكاتب الكبير، وتشويه صورته المستقرة في وجدان الملايين. كما يكشف عن مكنون صدور بعض التيارات الاسلامية المعادية للثقافة والفنون والآداب. وربما يحسب للشيخ الشحات شجاعته الأدبية في البوح بـ «ما يعتقده» صراحة، حتى لو كان صادماً للآخرين!
بعيداً عن «التهويل» في رأيه، أو التهوين منه، فان كلامه مؤشر على امكانية استئناف مسلسل العنف اللفظي والمادي، الذي تمارسه تيارات متأسلمة من حين لآخر، ضد المثقفين والفنانين، وليس ضد محفوظ وحده. ما يعيدنا مباشرة الى محاولة قتل الكاتب الكبير، بناء على فتوى أيضاً، والتي وقعت فعلياً عام 1994 في الذكرى السادسة لحصوله على نوبل! ويالها من ساعة صفر!
واذا كان الشحات ألمح الى «بعد الحادي في أدبه» فإن شيخ الجماعة الاسلامية د.عمر عبدالرحمن اعتبره مرتداً! وقال في فتوى شهيرة تعليقاً على فتوى الامام الخميني بردة سلمان رشدي واستباحة دمه، بأن الأولى بذلك هو محفوظ!
بناء على تلك الفتوى أو الرأي، تحمس خمسة شباب صغار السن والعقل، تتراوح أعمارهم ما بين 18و27 سنة، وهم: باسم خليل، محمد المحلاوي، محمد ناجي، حسين بكر، وعمرو ابراهيم.. لتنفيذ فتوى شيخهم عملياً وأصدورا لأنفسهم حكماً يبيح دم انسان في الثالثة والثمانين من عمره، وهكذا يواجهون الكلمة بالسكين والرصاص!
وفي مساء 15/10/1994 طعن محمد ناجي الكاتب الكبير في رقبته بسكين، أثناء ركوب محفوظ سيارة أحد الأصدقاء من أمام شقته على كورنيش النيل في العجوزة.
قبلها بيوم، ذهب ناجي، وشريكه باسم خليل (لقي مصرعه أثناء محاولة القبض عليه!) الى شقة الأستاذ وطلبا مقابلته وكانا يحملان داخل ملابسهما مسدساً وسكيناً وكان باسم يرتدي ملابس خليجية ويحمل ورداً وحلوى للتمويه، باعتباره ضيفاً خليجياً رغب في السلام على الأستاذ قبل السفر، وناجي يلعب دور سائقه. وقد خططا لذبحه بين أفراد أسرته وتهديدهم بالمسدس، ما يعني احتمال قتل أكثر من فرد، وبوحشية. لكن زوجة محفوظ التي فتحت لهما الباب قالت إنه غير موجود وأن بإمكانهما مقابلته في اليوم التالي في ندوته الأسبوعية التي يذهب اليها في الخامسة بعد الظهر. وعلى الرغم انها بحسن نية أعطتهما الموعد الأفضل لتنفيذ الجريمة، لكنها من حيث لا تدري أنقذته من ميتة بشعة، حيث نفذت العملية في اليوم التالي بصورة أخف وطأة من هذا السيناريو الدموي.
نشرت الصحف آنذاك تقارير كثيرة عن أسباب محاولة اغتيال محفوظ، إضافة الى ما أُجري معه من حوارات، ثم تجددت ذكرى الاغتيال، مع محاولة الشحات لاغتياله معنوياً، والافراج أخيراً عن عمرو ابراهيم الذي سجن سبعة عشر عاماً، باعتباره أحد المتهمين الخمسة في محاولة قتل الأستاذ، وقد تحدث عمرو مع العديد من وسائل الاعلام، محاولاً تبرئة نفسه.
وإذا أعدنا على أنفسنا السؤال حول الأسباب التي تحرض بعض الشباب على قتل كاتب مثل محفوظ، أو قتل أبرياء كما حدث للسياح المسالمين في مجزرة الأقصر الشهيرة أواخر العام 1997، فلن تخرج عما يلي:

ـ دكاكين الفتوى:
مع ضعف السلطة الدينية (الأزهر) وهيمنة السلطة التنفيذية التي تتلاعب بها سياسياً، يفقد الناس الثقة بها، فتنشط قوى مضادة لملء هذا الفراغ، إما لحسابات ايديولوجية خاصة بها، مثل الاخوان المسلمين أو الجماعة الاسلامية أو الجهاد أو الجماعة السلفية أو القاعدة أو التكفير والهجرة، فكلها مسميات لمحاولة حثيثة لانشاء سلطة دينية منظمة، بديلة ومستقلة عن قبضة الحكومات.. وإما لحسابات تجارية ونفعية مثل ظاهرة الدعاة والمفتين الجدد أصحاب القنوات الفضائية والفتاوى عبر SMS، ما يؤدي الى كثرة «دكاكين» الفتوى، وإلى الفوضى إن تساهلاً أو تشدداً ـ ففي مطلع التسعينيات من القرن الماضي نشط الأب الروحي للجماعة الاسلامية د.عمر عبدالرحمن وغيره في إصدار فتاوى التكفير والردة ضد عدد لا بأس به من المثقفين على رأسهم: نجيب محفوظ، فرج فودة، نوال السعداوي ونصر أبو زيد.
من أسوأ تلك الفتاوى شهادة د. محمد مزروعة الذي أفتى رسمياً أمام المحكمة في قضية اغتيال فرج فودة عام 1992حينما سألته المحكمة: «هل من حق الرعية إقامة الحدود؟» فأجاب: «يجوز لآحاد الرعية إقامة الحد حتى في وجود الحاكم المسلم إن لم يقم الحد» فكانت فتواه دافعاً مهماً لاقامة الحد بمعرفة هؤلاء الشباب على نجيب محفوظ، لأنها عززت رأي الشيخ عبدالرحمن، وأعطتهم الضوء الأخضر لتطبيق حد الردة بأنفسهم! وهكذا يتبين ما للفتوى من قوة رمزية لا تقل عن قوة القانون، بل قد تفوقه في تأثيراتها المجتمعية، فلا عجب أن نفاجأ دائماً بإعادة إنتاج فتاوى هزلية مضحكة على طريقة «إرضاع» الكبير، أو قاتلة معنوياً وجسدياً، على طريقة الشحات وعمر عبدالرحمن.
وإذا كان الاسلام لا يعرف «الكهنوت» وترك للمرء أن يستفتي قلبه، فإن تلك الفوضى في الفتاوى التي تضخمها كثرة وسائل الاعلام ومواقع الانترنت والتواصل الاجتماعي، تتطلب تفعيل الإطارات الرسمية لضبطها وتقنينها، تجنباً لاصدار حكم الاعدام بحق أبرياء.


ـ الوعي المشوه:
إن الفتوى/ الرأي التي أصدرها الشحات، أو عمر عبدالرحمن، من قبل، صادرة عن أفراد ليس لهم سلطة الافتاء، ولا تخلو من اضطراب، وهو ما ينعكس على تلقيها وكيفية التعامل معها من قبل أفراد خاضعين للسلطة الروحية لهؤلاء الشيوخ.
لقد رأى شباب الجماعة الاسلامية في فتاوى مزروعة وعبدالرحمن، وأيضاً موقف اللجنة الأزهرية الشهير من رواية «أولاد حارتنا» أسانيد مهمة في التقرب إلى الله عبر قتل محفوظ نفسه.
وقاموا بقياس خاطئ، اذ يعاقب القانون كل من يقوم بالسب والقذف بحق أي شخص، بينما يتغاضى ـ في رأيهم ـ عن محاكمة من يقوم بسب الذات الالهية مثل محفوظ! كذلك لا يعقل ـ حسب اعترافاتهم ـ حماية الشرطة للكفرة والمرتدين أمثال محفوظ، بينما تقوم بتصفية شيوخهم وقادتهم المؤمنين في وضح النهار!
إنهم يبنون سلوكهم العدواني، على اعتبار أن كل ما يصدر عن شيوخهم هو الحقيقة واليقين والاسلام الصحيح، وما عداه يقع في فسطاط الكفر والفسق والفجور والردة.
لكن بعد وقوع الجرائم وسيل الدماء البريئة، يبدأ التراجع عن تلك الفتاوى، والكلام عن عدم ثبوتها، أو سوء تفسيرها، حدث ذلك من جماعة الجهاد الذين قتلوا السادات ثم اعترفوا بخطئهم! فها هو ناجح إبراهيم أحد زعماء الجهاد يقول: «لو عاد بنا التاريخ الى الوراء مرة أخرى لما قمنا باغتيال السادات، فما نحن فيه الآن جاء بارتكابنا مفاسد من وراء اغتياله، ويكفي أن أبواباً كثيرة للدعوة أغلقت وعاد قانون الطوارئ» وتكرر الأمر نفسه بشأن محاولة اغتيال محفوظ، فالمحامي علي سباق، المتهم السادس عشر في القضية والذي برأته المحكمة استنكر المحاولة ووضعها في إطار تصرف فردي من إحدى المجموعات العسكرية التابعة للجماعة الاسلامية، بعد مقتل مسؤول الجناح العسكري فيها طلعت ياسين همام خلال مواجهة مع الشرطة! وبعدما تعذر على الجناة الوصول لأهدافهم الحقيقية، وعلى رأسها أسامة الباز مستشار الرئيس مبارك آنذاك، وضباط في أمن الدولة، قرروا استهداف محفوظ!
كما أوضح الشيخ صفوت عبدالغني عضو مجلس شوري الجماعة الاسلامية إلى أن موقف قياداتها من اغتيال نجيب محفوظ واضح حتى قبل المراجعات الفقهية التي تبنتها القيادات التاريخية للجماعة، وأضاف: للأسف.. كان الحادث فردياً! وجاء في وقت كانت قيادات الجماعة فيه منعزلة وسجن كل قياداتها في زنازين انفرادية لا تسمح بلقاء اثنين منهم، فضلاً عن الاتصال بكوادر الجماعة. وأعرب عبدالغني عن تقديره لإصرار نجيب محفوظ على عدم نشر رواية «أولاد حارتنا» إلا بعد موافقة الأزهر، واعتبر ذلك موقفاً نبيلاً ومشرفاً من الأديب العالمي الذي لا يختلف أحد على ريادته الأدبية، على حد وصفه!
إن المفارقة الأهم، التي تكشف مدى تشوه الوعي والاضطراب، أن الجماعة الاسلامية نفسها أصدرت بياناً عبر موقعها على الانترنت عقب رحيل محفوظ، قالت فيه إن الخلاف معه كان «مجرد خلاف فكري» يفترض أن يكون محل جدل وحوار وليس «القتل والاغتيال» وأشارت الى أن الأستاذ دافع في التسعينيات عن الحركة الاسلامية، وما وقع له إنما كان «عملا فردياً»! واعتبرت أنه بوفاة «الأديب المصري العالمي نجيب محفوظ، تكون الرواية العربية قد فقدت أحد أهم أركانها، بل لا نبالغ إذ نقول إنها قد فقدت الأب الروحي لها فقد استطاع محفوظ على مدار حوالي سبعين عاماً، مارس فيها الكتابة أن يضع الرواية العربية في مصاف الأدب العالمي، وأن ينتقل بها من مراحل المراهقة إلى مراحل الرشد والاكتمال، إضافة الى ذلك فقد استطاع محفوظ تصوير هموم الطبقة الوسطى في مصر، وإبرازها الى الوجود من خلال رواياته»!
من حق كل من يقرأ مثل هذا البيان أن يهتف: سبحان مغير الأحوال! وأن يتساءل: هل ينفع الندم والمراجعة بعد أن يسيل دم الأبرياء؟ ومن يضمن ألا تتكرر تلك الفتاوى وتُرتكب الجرائم ثم يحدث التراجع كالعادة؟! هل يمكن فرض تصوراتنا الدينية على الآخرين بقوة السلاح؟ وما سر تلك الفجوة الرهيبة بين فتوى عمر عبدالرحمن وبيان الجماعة؟!




ـ الجهل
إن الوعي المشوه ليس نتيجة قياسات خاطئة، ومعلومات مجتزأة، وفتاوى متضاربة فحسب، بل هو في الأساس نتيجة الجهل وانعدام الثقافة، فاعترافات المتهمين بمحاولة اغتيال محفوظ، ومن قبله اغتيال فرج فودة، تكشف عن جهل مطبق، فهم لم يقرأوا حرفاً واحداً مما يكتبه الاثنان، وفي حوار مع المتهم عمرو ابراهيم عندما سئل هل قرأت رواية «أولاد حارتنا» كانت إجابته: «لم أجدها فقد كانت مصادَرة، لكنني قرأت تقريراً عنها لأحد الكتاب الذي قرأها وقال إن محفوظ يحكي فيها عن حارة من حارات مصر، وأنه سمي الأب باسم الجبلاوي كناية عن الله عز وجل، وسمى أبناءه أدهم على اسم سيدنا آدم، وحمدي على اسم سيدنا محمد، وكذلك أنبياء الله يوسف وعيسي وموسى، جميعهم بأسماء مستعارة، حتى إبليس سماه إدريس».
وأثناء محاكمة قاتل فرج فودة، دار هذا الحوار بينه وبين هيئة المحكمة:

ـ لماذا اغتلت فرج فودة؟

ـ لأنه كافر.

ـ ومن أي من كتبه عرفت أنه كافر؟

ـ أنا لم أقرأ كتبه.

ـ كيف؟

ـ أنا لا أقرأ ولا أكتب!

ـ الفقر والبطالة
أي استقراء للبيانات الخاصة بشباب التيارات الاسلامية التي رفعت السلاح ضد الشخصيات العامة والمثقفين والمسؤولين، يكتشف بسهولة أنهم آتون من أماكن ريفية شديدة الفقر مثل مراكز ديروط وأبوتيج في أسيوط أو أحياء شعبية مزدحمة على هامش المدن الكبرى مثل حي امبابة الذي قيل عنه تندراً في التسعينيات «جمهورية امبابة المستقلة» أثناء المواجهة العنيفة والدموية بين أجهزة الأمن وبعض التيارات الاسلامية.
يعاني هؤلاء الشباب من الفقر والبطالة، وإهمال الحكومة لهم، فيلجأون إلى الدين كمصدر حماية أخير لذواتهم من الضياع، ومن شاركوا في محاولة اغتيال محفوظ معظمهم كانوا عاطلين عن العمل أو يعملون في مهن بسيطة مثل فني أجهزة كهربية.
من هذا المنطلق هم ضحايا إخفاق السلطة في توفير التعليم الجيد لهم، والمأوى الآدمي، والعمل الشريف. ولو فتحت لهم تلك النوافذ، لفكر كل منهم ألف مرة قبل أن يقدم على قتل إنسان لا يعرف عنه سوى أفكاراً مغلوطة!

ـ العنف والعنف المضاد
شهد عقد التسعينيات اكتمال أدوات الرئيس المخلوع مبارك كديكتاتور، بعد التخلص من رجال أقوياء منافسين له، على رأسهم المشير عبدالحليم أبو غزالة، ورئيس مجلس الشعب د.رفعت المحجوب الذي لقي مصرعه على يد الجماعة الاسلامية في العام 1990 وقد شهدت مصر في تلك الفترة إضافة الى اغتيال المحجوب، اغتيال د.فرج فودة عام 1992 ومحاولة اغتيال محفوظ1994 ومحاولة اغتيال بعض الوزراء والمسؤولين والشخصيات العامة مثل وزيري الداخلية حسن أبو باشا والنبوي اسماعيل، ووزير الاعلام صفوت الشريف، ونقيب الصحافيين مكرم محمد أحمد، والسطو على محال الذهب التي يملكها الأقباط، وصولاً إلى محاولة اغتيال مبارك نفسه في صيف العام 1995ولم تكن موجة العنف الذي تمارسه تيارات إسلامية في مصر، بمعزل عن صعود نجم الإسلام الراديكالي، إثر انتهاء إيران الاسلامية من المواجهة مع نظام صدام، وانتصار المجاهدين الأفغان على السوفييت، وظهور حماس وحزب الله كقوى سياسية وعسكرية، لا يستهان بها في الصراعات الاقليمية، وكذلك فوز جماعة الإخوان في مصر بمعظم النقابات وسيطرتها على حزب العمل الاشتراكي، وانتشار شركات توظيف الأموال الاسلامية، إضافة إلى تمويل بعض المؤسسات الخليجية، للعديد من الجماعات الدينية في مصر وغيرها.
ما يهمنا، في الحالة المصرية، أن استكمال مبارك في نهاية فترته الثانية لأدواته كديكتاتور وترسيخ نظامه البوليسي، تقابل مع تبني الجماعة الاسلامية لخيار العنف المسلح، لتُفتح بذلك دائرة جهنمية للعنف والعنف المضاد طوال عقد التسعينيات تقريباً.
ويكفي الاشارة الى أن مبارك رفض مبادرة لوزير داخليته آنذاك عبدالحليم موسى للحوار والتفاوض مع تلك الجماعات بمشاركة شيوخ كبار مثل الغزالي والشعراوي.
على هذا الأساس تحددت معالم الصراع، في اطار مواجهة أمنية مسلحة، فالأجهزة البوليسية تقوم بتصفية جسدية لقادة تلك الجماعة، لتبدأ مرحلة الانتقام وأخذ الثأر من خلال زعزعة الاستقرار وقتل السياح وقنص ضباط أمن الدولة.
وبين الطرفين، كان المثقفون والمبدعون، هم الحلقة الأضعف، التي لا تملك السلاح، ولا تواجه إلا بالكلمة، فتلقوا عشرات التهديدات بالقتل، واتهم بعضهم بالردة مثل نصر حامد أبو زيد حيث صدر حكم بتفريقه عن زوجته قبل أن يُضطر الى العيش في المنفى.
وهنا لا يستبعد دور الأجهزة الأمنية السرية في برمجة هؤلاء الشباب والسيطرة عليهم وتحريكهم عن بعد، أو دفعهم لردود أفعال بالغة العنف، واستغلالهم كفزاعة للداخل، لضمان استمرار قانون الطوارئ والحكم البوليسي، وفزاعة للخارج للتحذير من خطر وصول الاسلاميين للحكم. وآخر ما كان يخطر على بال السلطة في مصر، هو الحوار مع هؤلاء أو محاولة دمجهم في المجتمع، ومراجعتهم فكرياً.

3.أزمة أولاد حارتنا
إن اتهام الشحات لأدب محفوظ بأنه ذو "بعد إلحادي" امتداد لفتوى الشيخ عمر، وللجنة الأزهرية التي طالبت بمنع "أولاد حارتنا"، ولا يمكن فهم تلك الفتاوى، بمعزل عن مقاربة الجدل حول الرواية وسياقها:
• نجيب محفوظ روائي مؤسس ومجدد لفن الرواية عربياً، وبعد أن رسخت "الثلاثية" وجوده، تساءل البعض ما الذي يمكن أن يكتبه بعدها؟ وظل محفوظ لأكثر من خمس سنوات لا يكتب، حتى قيل إنه سيعتزل ويتصوف. ويمكن أن نعزو فترة الانقطاع إلى ثلاثة أسباب: رغبته في تجاوز "الثلاثية"، انشغاله بالعمل ككاتب سيناريو، مراقبة مجتمع ما بعد الثورة التي تبنت ما ينادي به، إلى أن قطع فترة الصمت، برواية "أولاد حارتنا" ونشرتها "الأهرام" مسلسلة عام 1959
• ‬كتبت لجنة أزهرية تقريراً ضد الرواية‮، فاتفق حسن صبري الخولي ممثل الرئيس عبد الناصر مع محفوظ على عدم نشرها في كتاب في مصر.‬ لكن دار الآداب طبعتها في الستينيات من القرن الماضي.
• بعد ثلاثة عقود، ومع إعلان فوز محفوظ بجائزة نوبل أشاد بيان الأكاديمية السويدية ببعض أعماله ومنها "‬أولاد حارتنا‮" لكن تلك الإشادة أعادت أزمة "أولاد حارتنا" وتوالت المقالات والكتب سواء لإدانة محفوظ أو الدفاع عنه، خصوصاً بعد موقفه المعارض لفتوى الإمام الخوميني بقتل سلمان رشدي، فأفتى الشيخ عمر عبد الرحمن بأن محفوظ مرتد مثل رشدي. في ظل هذا الشحن ضده وضد "أولاد حارتنا" تعرض محفوظ لمحاولة الاغتيال.. لكنها أدت إلى التعاطف معه، والإصرار على نشر الرواية الممنوعة في مصر حتى ذلك الحين، فنشرتها جريدة "الأهالي" ونفدت طبعتها بالكامل. بينما رفض محفوظ نشرها في كتاب إلا بموافقة الأزهر، واقترح أن يكتب المقدمة الشيخ محمد الغزالي أحد أعضاء اللجنة الأزهرية!
• صدرت الرواية في كتاب في مصر للمرة الأولى عام 2006 عن دار الشروق بمقدمة ل د. أحمد كمال أبو المجد، حيث قدم في شهادته دفاعاً عن الرواية على لسان محفوظ نفسه الذي قال في جلسة مع أصدقاء آخرين، إنه في معظم كتاباته، يركز على محورين: الإسلام الذي هو منبع قيم الخير في أمتنا, والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا.. وحتي رواية أولاد حارتنا التي أساء البعض فهمها لم تخرج عن هذه الرؤية.
• علق أبو المجد خلال مقدمته بأنه فهم شخصية "عرفة" كرمز للعلم المجرد وشخصية "الجبلاوي" على أنها تعبير رمزي عن الدين، وليست بحال من الأحوال تشخيصاً رمزياً للخالق سبحانه. ولا يختلف هذا التفسير تقريباً عما طرحه المفكر اليساري جورج طرابيشي حيث اعتبر أن الحارة لن تعرف الخلاص إلا باتحاد "عرفة" و"الجبلاوي"، فالعلم استمرار للنبوة، وباتحادهما ستدرك الإنسانية غايتها، مؤكداً أن ما قاله محفوظ في الرواية لا يمكن إلا أن يلقى "الترحاب لدى المتدين"!
• ثمة اتفاق بين المتعاطفين مع الرواية والمعارضين لها على أنها تتناول قصة البشرية منذ بدء الخليقة وطرد الإنسان من الجنة مروراً بعصور النبوة وصولاً إلى عصر العلم، لكن الاختلاف يتعلق بجواز تقديم تلك "الرموز" أدبياً وكيفية تأويلها.
• يرى المعارضون أن الرواية تقدم انتقاداً للرسل وتمثيلاً للذات الإلهية، ونزع العلم فكرة "الله" من صدور الناس. وتعود فكرة "موت الإله" إلى الفيلسوف الألماني نيشته، في سياق نقضه للفلسفة المثالية، والقيم المطلقة واللاهوتية التي تفرض سيطرتها على إرادة الإنسان. أو بمعنى آخر نقض لمفهوم "الإله" التاريخي في الثقافة المسيحية، لكنه ليس بالضرورة ضد جوهر التدين. ولا يمكن إنكار أن محفوظ دارس الفلسفة تأثر بأفكار نيتشه وغيره، فدائماً ما يؤسس نصوصه على جدلية التصورات الكبرى المتعلقة بالدين والعلم والفن والأخلاق، محاولاً تجسيد تلك الجدلية عبر الشخصيات والحوارات والمستوى الرمزي لنصوصه، بحثاً عن إجابات لسؤال الوجود (الأنطولوجيا) وسؤال المعرفة (الإبستمولوجيا). في هذا السياق ليست "أولاد حارتنا" وحدها التي تحفل بالرموز الدينية، بل العديد من أعماله، فمن يقرأها بتجرد يدرك أنها نصوص لا تنحاز بالمطلق لأي من هذا التصور أو ذاك، بل تعرض لكل تصور ما له وما عليه، أملاً في الوعي بتلك التصورات، وتجاوز الصراع الأبدي بينها إلى رؤية تكاملية تنقذ البشر من المصير التعس، تحت وصاية تصورات دينية متشددة، أو في ظل غياب القيم الروحية عن العلم، أو نتيجة فقد العدل في علاقة السلطة بالناس أو "الفتوة" ب"الحرافيش". لذلك، ورغم غلبة الطابع المأساوي على نصوصه إلا أنه في "أولاد حارتنا" ختمها بجملة شاعرية متفاءلة:"لا بد للظلم من آخر، والليل من نهار، ولنرين فى حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب".
• إن ما يقدمه محفوظ عبر أدبه، ليس دراسة دينية ولا مجرد محاكاة للواقع، والوقائع ـ أياً كان مصدرها ـ بل هو تصوير خيالي، وإعادة "تمثيل" representation، وأي إبداع قائم على هذا التمثيل و"التناص" مع قصص الخليقة والأنبياء والقديسين والأبطال الأسطوريين والتاريخيين، لكن كلما بدت الرموز قريبة من سطح الوعي، ومباشرة، أثارت الحساسية، لذلك عندما جاءت رموز "أولاد حارتنا" مباشرة في صلتها بالقصص الديني والتاريخي، أثارت الضجة.. بينما "ملحمة الحرافيش" التي تستعيد القصص ذاتها تقريباً، على نحو أكثر عمقاً وإبداعاً، لم تثر أية ضجة!
• على الرغم من المباشرة في عملية الترميز في "أولاد حارتنا" لكن التأويلات تنوعت وتعددت، خصوصاً فيما يتعلق برمزية "الجبلاوي" هل هو رمز للدين ـ كما ذهب أبو المجد ـ أم عبد الناصر ـ كما ذهب محمود أمين العالم ـ أم "الذات الإلهية" ـ حسب معارضي الرواية ـ وإذا اعتبرنا التأويل الأخير هو الصحيح، فبماذا نؤول شخصية "الوالي" الذي سمح ل "الجبلاوي" بحكم الحارة، و"الناظر" الذي قام بتشييع "الجبلاوي" وقتل "عرفة"؟! وإذا رمز "الجبلاوي" إلى "الذات الإلهية" و"عرفة" إلى العلم، فإن "موت" الأول و"قتل" الآخر، لا يعني انتفائهما من الواقع بالتأكيد، بل إن فعل الموت/القتل، نفسه ليس سوى فعل رمزي، يرتبط بتصورنا البشري المحدود عن إمكانية تجاوز "الدين" كلياً في ظل ما يحققه العلم من منافع و وهم القوة، لكن الحقيقة أن أهل "الحارة" أنفسهم أدركوا أن الحاجة إلى "الجبلاوي" لا نهائية، مثلما أن الفضول إلى المعرفة لم ينته بمصرع "عرفة".
• ثمة أربع مستويات للكلمة.. باعتبارها نية أو حقيقية إيمانية، وهذه يختص بها الله تعالى وحده، والكلمة "الرأي" وهذه مثار أخذ ورد في نطاق احترام الاختلاف بين البشر. والكلمة التي يتم تفعيلها عبر السلوك والممارسة في الواقع، وتختص بها القوانين، وأخيراً الكلمة ك "تخييل" و"تصوير" أو إنجاز جمالي. فلو افترضنا جدلاً أن محفوظ لم يوفق فنياً في عملية الترميز والتمثيل ـ كما يشير طرابيشي ـ فهل يجوز إصدار حكم عليه بالردة أو الكفر، دون أن يثبت عليه رأياً قطعياً ينكر المعلوم من الدين بالضرورة أو سلوكاً عدائياً تجاه الدين ومعتقدات الآخرين؟ أم هل نحاسبه على نية لا يعلمها إلا الله؟
• إن العمل التخييلي لا يعبر بالضرورة عن مقاصد مؤلفه، بل إنه ينتج مقاصده الخاصة عبر بنيته، وعبر ما يقوم به المتلقي نفسه من إسقاطات عليه وفقاً لموسوعته الخاصة وخبراته في القراءة. لذا يفرق النقاد ما بين المؤلف الحقيقي، والمؤلف الضمني كإستراتيجية يبلورها القارئ أثناء القراءة، والسارد المعلن أو الخفي، وأصوات الشخصيات المجسدة داخل النص. فهل يعقل أن يحاسب المؤلف الحقيقي، على الرؤية التخيلية للسارد أو تأويل المتلقي وإسقاطاته؟ ففي كثير من الروايات أو الأفلام قد ترد جملة على لسان شخصية بأنه لا يؤمن بالله، فهل نعتبر المؤلف بالضرورة ملحداً أو متبنياً لوجهة النظر تلك؟ وإذا قامت بطلة فيلم بالزواج من البطل فهل يقع زواجها في الواقع أيضاً؟ وإذا كان القرآن الكريم تحدث مراراً عن المنكرين لله والملحدين، فلماذا نستغرب طرح تلك الرؤى في النصوص الأدبية؟! أفلا يجوز للكاتب أن يجسد نماذج من "غير المؤمنين" ويطرح تصوراتهم؟!
• وأخيراً كتب أحد المنتمين للتيار السلفي تحت عنوان "نجيب محفوظ ليس نبياً" قائلاً:" في رأيي أن محفوظ هو رجل المفارقات والتناقضات فأحيانا أراه في بعض رواياته مؤمناً حد التصوف وأحيانا أخرى ماجنا شاكا ملحدا"ً، ولو استوعب أن المؤمنين والمتصوفة والملحدين مجرد "شخصيات خيالية" في نص، ولا تعبر بالضرورة عن قناعات محفوظ ولا رأيه ولا إيمانه، لأدرك أنه لا توجد تناقضات! وأن محفوظ ليس نبياً، ولا شيطاناً أيضاً، بل إنسان يؤخذ من إبداعه ويُرد! وهكذا تكشف أزمة التلقي في "أولاد حارتنا" عن مغالطة مزوجة، نتيجة قياس ما هو خيالي وافتراضي، بمقاييس الواقع والوقائع.. ومحاسبة المؤلف الحقيقي على "تصرفات" و"مقولات" الأصوات السردية في نص تخييلي. مثل هذه النوع من التلقي عدو للخيال، ولا يستوعب الطابع المجازي الهائل للغة، ولا تحولاتها عبر العصور، ولا طبيعة النفس الإنسانية التي يصورها الأدب.

4.صراع نماذج
رصدنا فيما سبق "فكرة" الشحات "الشيخ السلفي"، وجذورها التي تمتد إلى "فتوى" الردة للشيخ عمر عبد الرحمن "مفتي الجماعة الإسلامية" ومحاولة اغتيال محفوظ، وصولاً إلى منع "لجنة أزهرية" لرواية "أولاد حارتنا". ثلاث حلقات أساسية، لاتجاهات إسلامية مختلفة، أعادت إنتاج "نجيب محفوظ" خاص بها، ك:"ملحد"،"مرتد"، "حاصل على نوبل لموالاته لإسرائيل ودفاعه عن التطبيع" ، و" مروج للإباحية"،! إننا أمام نموذج تمت "شيطنته" وإلصاق أهم ثلاث نقائص في إرثنا به: الإلحاد، والعمالة، والإباحية!
لكن إذا وضعنا هذا النموذج "المشيطن" على محك شخصية محفوظ الإنسان والنص، سنجده أبعد ما يكون عن الإنصاف، فليس هو الرجل الذي يتقرب إلى إسرائيل للحصول على نوبل، فثمة كتاب كبار معروفين بمحاباة إسرائيل لم يحصلوا على نوبل، وآخرون متعاطفون مع العرب ومن أشد منتقدي أميركا وإسرائيل حصلوا عليها، ولو أخذنا هذه الفرضية على امتدادها، أي حصول شخصيات عربية على نوبل لموالاة إسرائيل، لكن لدينا على الأقل عشرين شخصاً من حاملي جوائزها! وليس منطقياً أن تمنح إسرائيل جوائز دولية تُعلي من شأن العرب! كذلك ليس منطقياً اتهام محفوظ تلميذ شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق، بالكفر والإلحاد! فقد عاش حياته أقرب إلى الزهد والاستغناء، ودافع عن دولة مدنية بروح الإسلام، وتطوير الأزهر، وحق الجماعات الإسلامية في تشكيل أحزاب، وهو القائل:"إن في أعماق قلبي وروحي إيماناً لم تنتزعه مني دراستي للفلسفة ولا تفكيري المتصل في مشاكل الإنسان والمجتمع والكون". فهل من حق أحد أن يكفر إنساناً هذا رأيه وهذه مواقفه المعلنة؟! أما تهمة الإباحية فهي أخف وطأة ومتهافتة، ومن المؤكد أن مروجها متأثر ببعض الأفلام التي أخذت عن أعماله، ولم يقرأ له كتاباً.
لقد عاش مؤمناً بشرف الكلمة، شديد النبل والاحترام لذاته، مواصلاً الكتابة في دأب والتزام إلى أن تجاوز التسعين وتعطلت الحواس.. منحازاً انحيازاً تاماً للبسطاء الذين كان يصافحهم أثناء سيره في الصباح، أو في جلساته الأسبوعية في المقهى، وكان دائماً صاحب موقف، وإن عرضه مستتراً في عمل إبداعي.
تعبر مسيرته عن إنسان ليس من أخلاقه أن يعادي أحداً، فهو شديد التأدب حتى مع من يهاجمونه أو يخالفونه الرأي. وتكشف نصوصه الغزيرة عن وعي فريد بتحولات الواقع، ورهان دائم على ثورة "الحرافيش" لإعادة ميزان العدل، وتصالح العلم والدين. إنه ليس كاتباً عادياً، ولا أحد بناة ثقافتنا العربية فحسب، بل هو مبشر عظيم بالثورة. وإذا تأملنا كل ما ترفعه الثورات العربية من شعارات كالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، سنجدها منعكسة في مرايا نصوصه! وانتصار أي ثورة عربية هو انتصار لإبداعه. هكذا كان الأمر في ثورة 19 التي تفتح وجدانه عليها، وثورة يوليو التي تحمس لها قبل أن يوجه إليها نقداً لاذعاً، وصولاً إلى ثورة 25 يناير التي تزامنت مع مئويته، ولو كان حياً لمضى في طريقه المفضل لعقود، عابراً "كوبري قصر النيل" إلى ميدان التحرير رأساً.
أما الشحات ـ وأمثاله ـ فهو النموذج المضاد لما يمثله محفوظ، وقد أتحفنا في الأشهر الماضية، بعشرات الفتاوى والآراء مثل قوله بأن "الديمقراطية حرام وكفر" رغم أنه شارك في الانتخابات وخسر! ومطالبته بتغطية التماثيل الفرعونية بالشمع! ورفضه تولي قبطي لمنصب رئاسة الحكومة، رغم أن مصر وفي عز مجد مؤسسة الأزهر عرفت رؤساء حكومة وبرلمان من الأقباط، ووزراء أقباط في كافة الوزرات السيادية، فما الذي تغير؟! مصر أم الإسلام؟
كما دعا أتباعه بعدم الخروج على "ولي الأمر" ـ الرئيس المخلوع ـ و وصف شباب الثورة بأنه شباب أهوج تحركه الإنترنت وما يقوم به من مظاهرات مؤامرة لإشعال البلد لن تؤدي إلى تغيير إلى الأفضل أو إزالة منكر.. موضحاً أن تلك الاهتمامات لا تمثل أولوية للشباب السلفي.
وبمعزل عن مدى تطابق آراء الشحات وفلسفة جهاز أمن الدولة، فإن الشيخ الذي استفاد قطعاً من الثورة، والذي استعمل يقينا آلية "الديمقراطية" لا يراجع خطابه ولا يعترف بخطأه وهذا ليس عيباً، فالإمام مالك، ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها! لكن الشحات يبدو دائماً مستعداً للفتوى أمام الكاميرا في الديمقراطية والمظاهرات والثورة وتوزير الأقباط وروايات محفوظ وتماثيل الفراعنة!
مثل هؤلاء المندفعين في إطلاق أحكام الكفر والزندقة والإلحاد، يلتقطون ما يحلو لهم من نصوص "حمالة أوجه" لفرض وصايتهم، ولا يقبلون من أحد ـ سواهم ـ أن يُفتي في الدين، بينما هم جاهزون للإفتاء في كل شيء! لقد احتموا بالدين وتوحدوا معه، فأي رفض لهم هو رفض للدين ذاته! وأي خلاف مع فتاواهم خروج عن الملة. من ثم يعطون لأنفسهم سلطة أعلى على من سواهم، فهم الفرقة الناجية والمتحدثون باسم الحق الإلهي، وملّاك الحقيقة المطلقة. ومن لا ينطوي تحت لواء سلطتهم، فإنه تلقائياً يقف في خندق العدو، ويُنعت بأقذع التهم. ومجرد فرض هذا التقسيم: الأعلى/الأدني، وإعطاء أنفسهم صلاحية تحديد المسلم وغير المسلم، يغلق الباب أمام مفاهيم الاجتهاد، والاختلاف وحرية التعبير واحترام الآخر باعتباره مسلماً حتى وإن قدم تصوراً أو تأويلاً، لا يحظى بقبولهم.
وتتجاوز معاركهم هدم نموذج بعينه، إلى إعدام كافة النماذج الإنسانية وقتلها مادياً ورمزياً، فصاحب مقال "نجيب محفوظ ليس نبياً" يبدأه بهذه المقدمة: "يرى كثيرون الموناليزا امرأة جميلة أبدع رسمها دافنشي لكني أرى أنها لا ينقصها سوى شنب كبير لتصير رجلا غليظ الملامح! يرى كثيرون شكسبير في مسرحه معجز، وأرى أنه لص كبير سرق من المسرح الإغريقي الكثير والكثير! يرى كثيرون أن العقاد أديب عبقري، وأراه شاعراً فاشلاً وروائياً خائباً! يرى كثيرون أن توفيق الحكيم مفكر وأديب كبير وأراه لصاً محتالاً يسطو على كثير من أعمال الآخرين يشاركه في الوصف بالسرقة كثيرون من أعلامنا اللصوص مثل العقاد والمازني! ثم يخص محفوظ بعبارات من عينة:"نجيب محفوظ كاتب كبير ومفكر على درجة عالية من الثقافة لكنه كان مستنقعاً رطباً لزجا مملوءا بآفات البشر من إلحاد وجنس وخمريات وفحش ومجون"!
بأي عين وبأي قلب، يرى أمثال هؤلاء وجودنا الإنساني؟ أليس احتقار الآخرين هو في العمق احتقار للذات! ألا تدل ألفاظ السب والتجريح، والرؤية التي لا ترى في البشر سوى مجموعة من اللصوص والملحدين والفسقة، على توحد بالمعتدى، نتيجة علاقتهم المعقدة مع أجهزة الأمن السرية؟!
وإذا سئلوا عن ماهية النماذج الإبداعية البديلة، التي يرتضونها، اختاروا أعمالاً تجارية متواضعة من عينة سلسلة "رجل المستحيل"، و روايات أغاثا كريستي، وسلسلة "ما وراء الطبيعة".. أي هم مع أي إبداع "معقم أخلاقياً" يتماشى مع خطاب التحريم، فلا يثير تساؤل، ولا يثور على واقع!
نحن إذن لا نعيش أزمة هوية فقط، من مظاهرها ضعف الصلة مع تراثنا والانسحاق أمام الآخر، بل نعيش أيضاً أزمة "نموذج"، وهي أزمة معرفية وجمالية، فالمفكرون اختلفوا حول أي المعارف يصلح معياراً: المنطق أم الرياضيات أم الفلسفة؟ فيما نحن نصر على أن تكون الفتاوى الدينية (حتى لو أسيء استعمالها وتأويلها) هي النموذج الذي نقيس عليه أي شيء، وفي هذا تعنت وتشدد، يشوه القيم الروحية للدين، والقيم الجمالية للفن.
وقد أشار نصر أبو زيد إلى كراهية المتشددين للفن، كأحد تجليات الفزع من الحرية، لأنه في الفن وحده يتحرر الإنسان ليعيد بناء عالمه ويطور ثقافته. ويأتي خطاب التحريم دائماً على أساس "المعيار" أي فرض نموذج، لتأبيد الواقع وكراهة التغيير، وتجميد اللحظة التاريخية، السياسية الاجتماعية الثقافية الفكرية. بينما الفن سعي دائم للآفاق المجهولة بطريقته الخاصة، وهو بذلك يشارك الفكر والعلم في رحلة الاكتشاف التي لا نهاية لها ما دام الإنسان يكدح في هذه الأرض، حيث تنشأ معرفة جديدة بنقد المعرفة السابقة.
إن إشكالية فرض نموذج واحد قسراً على كافة النماذج الأخرى، باعتباره المعيارالوحيد للخطأ والصواب، الحلال والحرام، يعني عدم قبول تجاور واختلاف ونسبية النماذج والتصورات. ويبدو الأمر عبثياً إذا تأملنا الصورة الكلية بنظرة عين الطائر، أي نموذج من هذه النماذج يمثل الإسلام الصحيح: الأشاعرة، المعتزلة، الخوارج، البهائية، الإسماعيلية، الدروز، السنة، الشيعة، القاعدة، السلفية، الجماعة الإسلامية، الجهاد، الإخوان، التبليغ والدعوة، التكفير والهجرة، حزب التحرير الإسلامي، الصوفية، حماس، حزب الله؟
إنها تقريباً ليست سوى "تصورات" أو "اجتهادات" بشرية لروح الدين، قابلة للخطأ والنقد، لكن من يؤمنون بها إيماناً مطلقاً يرفضون بصرامة أي نقد يوجه إليها. ولا يريدون أن يفكروا ولو للحظة واحدة في خطورة فتاواهم وتناقضاتها، وما أكثرها في التاريخ الإسلامي!
5.ثقافة تأكل أبناءها
يقول أبو الفرج بن الجوزي: "زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري" جملة تلخص تاريخاً للثقافة العربية والإسلامية لم يُكتب بعد، فإذا كان المتنبي، والمعري، والتوحيدي، وابن خلدون، وابن رشد، وابن سينا هم أعظم العقول وأكثرها تأثيراً، فإنهم جميعاً قضوا حياتهم في محن وانتهوا نهايات بائسة. فالمتنبي قُتل في ظروف غامضة، والمعري أُصيب بالعمى في طفولته وعاش معتزلاً الناس "رهين المحبسين" مُتهماً بالكفر والزندقة، والتوحيدي بعد معاناته من الجحود والنكران والفاقة قرر إحراق كتبه، وابن خلدون انتهت به الحياة مغترباً منعزلاً عن البشر في مصر حيث تُوفي ودفن في قبر مجهول! وابن رشد اتهم بالكفر والإلحاد وأحرقت كتبه! وابن سينا أبو الطب الحديث كفره الغزالي وأحرقت كتبه! كما كفر الشوكاني ابن عربي! وابن المقفع اتهم بالكفر والزندقة و قتله والي البصرة، حيث كان يلقي أعضاءه في التنور ويجبره على أكل جسده مشوياً! ويمتد بنا هذا التاريخ المسكوت عنه، إلى طه حسين ومنع كتابه "في الشعر الجاهلي"، وقتل الشيخ الذهبي بسبب فتوى، والحكم بردة نصر أبو زيد وتفريقه عن زوجته.
إن ما يجمع معظم هذه الأسماء ـ على تباينها واختلاف أفكارها ـ ثلاثة أمور: اختلافها عن السائد في عصرها، إعلاء قيمة العقل، وعدم اندماجها في بطانة السلطة السياسية التي تضم عادة خليطاً من الفقهاء والعلماء المرتزقة، كما هو الحال على مر العصور. والغريب أن ما أبدعه هؤلاء القتلى هو الأبقى في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية، وأما القتلة فذهبوا جفاء، لا يتذكرهم أحدهم!
لكن قد يماري البعض بأنها حالات "فردية" متغاضياً عن كونهم صفوة العقول التي أنتجتها الثقافة العربية والإسلامية. ولو اطلع على ما تتداوله وسائل الإعلام يومياً من مهازل فتاوى التحريم وإهدار الدم والإحالة للقضاء ومصادرة الإبداع، لأدرك أننا بإزاء مناخ عام وإرث ممتد ونمط قديم متجدد، ففي السنوات القليلة الماضية على سبيل المثال أصدر القضاء حكماً بإلغاء ترخيص مجلة "إبداع" المصرية بزعم أنها نشرت قصيدة "مسيئة للذات الإلهية"، وطالب محامون مصادرة ألف ليلة وليلة لأنها تتضمن عبارات جنسية وازدراء للأديان، وعبر قساوسة عن استيائهم لفوز يوسف زيدان بجائزة البوكر العربية عن روايته "عزازيل"، وأقام أحد المحامين دعوى لسحب كتب المفكر الإسلامي جمال البنا من الأسواق وحرقها في ميدان عام!
إن خطاب التحريم ليس جديداً، فهو أشبه بفيروس نشط في عمق تكوين الثقافة العربية والإسلامية، التي لا تتورع أحياناً عن أكل (أو قتل) أبنائها، فنحن قساة في تجاهلنا لأنبل ما فينا. حالة معقدة من جلد الذات وتشوه الروح. تتطلع أعيننا إلى أعظم الكتاب هنا وهناك.. لكننا لا نعترف لأنفسنا بأن كاتباً عربياً قد يكون عظيماً، حتى لو كنا أبناء واحدة من أعظم الثقافات.. حتى لو كانت الأديان السماوية الثلاثة التي يتبعها معظم البشر، هي جذر أصيل في ثقافتنا وهويتنا. وبينما الغرب لا يفوت فرصة للاحتفاء بمئويات كتابه وموسيقيه ورساميه، نتعجل نحن دفعهم إلى ما وراء الصمت والنسيان!
وقد لخص نصر أبو زيد خطاب التحريم والتحقير والتجهيل بذكاء، باعتباره جزءاً من الخطاب الثقافي العام، حيث يزدهر الخطاب الديني ويكون منفتحاً وتحرريا وإنسانيا بقدر ما يكون الخطاب الثقافي العام كذلك. وحين يختنق الخطاب العام ويسوده التعصب وتحكمه معايير اللاعقلانية والتمترس خلف هوية تعادي الآخر وتكره الاختلاف يصاب الخطاب الديني بذات الداء: التعصب، واللاعقلانية وتحكم معاييرالهوية الجامدة، وكراهية الاختلاف.
وكم استغلت السلطة هذا الخطاب للتلاعب بوعي الناس وإلهائهم عن حقوقهم! وإذا أخذنا مثل هذا النوع من التفكير على امتداده سيذهب بنا إلى تجريف الحضارة تجريفاً تاماً، و"تصحيرها" بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة.
ختاماً..
ليس هذا المقال دفاعاً عن محفوظ ضد أحد بعينه
بل هو دفاع عن روايات منيف والكوني والطيب صالح وصنع الله إبراهيم والطاهر وطار وبن جلون وواسيني الأعرج وحنا مينة.
دفاع عن أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز وناظم الغزالي وصباح فخري والدوكالي.. عن أشعار شوقي والجواهري ونزار ومحمود درويش.
دفاع عن مسرحيات الريحاني وفؤاد المهندس وعبد الحسين عبد الرضا.. عن أفلام صلاح أبو سيف ويوسف شاهين وموسيقى الرحابنة وبليغ حمدي
دفاع عن الآثار الفرعونية ومزارات العراق وعمران دبي.. عن ثورة الياسمين ونضال المرأة العربية وأفكار ابن رشد وابن خلدون وأركون والجابري.
دفاع عن إنسانية الإنسان العربي ضد المحاولات المستميتة للقتل، وتصحير الروح!




ــــــــــ
هوامش ومراجع
1. كل ما قاله الشيخ عبد المنعم الشحات متاح على موقع اليوتيوب للرجوع إليه
2. اعتمدنا في ضوابط الفتوى وشروطها على ما قاله الإمام النووي في "آداب الفتوى والمفتي والمستفتي" في كتابه "شرح المهذب"
3. تفاصيل محاولة اغتيال محفوظ، وأزمة أولاد حارتنا" موثقة في كتاب رجاء النقاش:" نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته" الصادر عن الأهرام عام 1998، واستفدت من آراء محفوظ في هذا الكتاب.
4. بعض تفاصيل عملية الاغتيال وردت في حوار المتهم عمرو إبراهيم الذي قضى 17 سنة في السجن للزميلة سلوى علوان، جريدة الأسبوع القاهرية، نقلاً عن موقع "أهل القرآن"
5. معظم الشخصيات الوارد ذكرها في المقال مثل فرج فودة وغيره، يمكن الرجوع بشأن المعلومات الخاصة بها إلى موسوعة ويكبيديا. وكذلك مبادرة وزير الداخلية الأسبق عبد الحليم موسى توجد إشارة إليها في في الموسوعة ذاتها.
6. تصريحات المتهم علي سباق وصفوت عبد الغني نقلاً عن صحيفة "المصري اليوم" عدد 31/8/2006 وتصريحات ناجح إبراهيم نقلاً عن جريدة روزاليوسف عدد 1/10/2011
7. بيان الجماعة الإسلامية حول موقفها من محفوظ منشور في جريدة الشرق الأوسط عدد 3/9/2006 وكذلك ترجمة بيان الأكاديمية السويدية المنشور بتاريخ 31/8/2006
8. مقدمة د.كمال أبو المجد لرواية "أولاد حارتنا" منشورة في جريدة الأهرام عدد 9/9/2011 ضمن ملحق خاص بمناسبة مئوية محفوظ، وإشارة محمود أمين العالم وردت في مقال بعنوان: "أولاد حارتنا بين خصوصيتها المصرية وعموميتها الإنسانية" ضمن كتاب أخبار اليوم الصادر عام 1995 ويمكن الرجوع إلى تفاصيل الرأي المعارض في كتاب "الطريق إلى نوبل، تأليف د.محمد يحيى ومعتز شكري، أمة برس للطباعة والنشر، عام 1989
9. مقال "نجيب محفوظ ليس نبياً" للكاتب محمود الفقي، جريدة الوفد، عدد 11 و14 ديسمبر 2011 أما نماذج الإبداع المفضلة لدى السلفيين فهي بحسب تصريح للمتحدث الرسمي نادر بكار نشرت في موقع جريدة "التحرير" في 6/12/2011
10. آراء نصر حامد أبو زيد نقلاً عن محاضرة له بعنوان "الفن وخطاب التحريم" ألقاها في الجامعة الأميركية، ونشرت في موقع "رواق نصر أبو زيد".



#شريف_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اللص الهارب في أربع حكايات
- صدور نجيب محفوظ وتحولات الحكاية بمناسبة مئويته
- تفاحة الديمقراطية المسمومة
- الثورة قامت.. ونامت
- لا تخفي علاماتك
- الدنيا على مقاس -سلفي-
- مائة ألف شاعر في كل عالم افتراضي.. يهيمون
- آن لك أن تتقيأ.. في دول اللاجئين
- ملاحظات حول اللحى الخمس
- نادراً ما يموت كاتب عربي حر.. هذا هو فاروق عبد القادر!
- فتاة أوباما
- أسامة أنور عكاشة.. مؤسس الرواية التلفزيونية
- الكاتب العربيد والقارئ القديس
- مصطفى صفوان: السلطة المحتكرة لا تحب الحق إلا باعتباره من اخت ...
- ذكريات قد لا يعرفها نصر حامد أبو زيد
- -مثلث العشق- مجموعة قصصية جديدة للكاتب شريف صالح عن دار العي ...


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف صالح - دفاعاً عن نجيب محفوظ ضد الشحات