أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف صالح - الكاتب العربيد والقارئ القديس















المزيد.....

الكاتب العربيد والقارئ القديس


شريف صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2936 - 2010 / 3 / 6 - 15:42
المحور: الادب والفن
    


1

أبدع الله الكون كفنان تشكيلي بارع، ووهب بعض خلقه ذكاء شريراً، يستحق عنه ـ بجدارة ـ لقب "الأب الروحي" للمافيا العالمية.. ويمكن أن نضيف إليه عشرات الصفات والأسماء مستوحاة من صنعه، غير ما تم تثبيته في الكتب المقدس. وهي كثرة يعدها المؤمن دالة على إطلاق القدرة، أما بالنسبة للمبدع فهي دالة على "التنوع"؛ فهو الواحد خالق "التعدد" اللانهائي.

2

ولأن المسافة الدلالية بين فعلي الخلق والإبداع تكاد لا تُرى، ولأن ما هو أسطوري وتخييلي وحلمي وافتراضي وشفهي وكتابي، ممتزج امتزاجاً عنيفاً شفيفاً، بما يتبدى لنا على أنه "واقع"؛ تتولد دوماً تلك المقارنة المجازية بين الله والكاتب، فكلاهما "خالق عوالم" بامتياز، الأول لإثبات قدرته المطلقة والآخر لإثبات قدرته على "التنويع".
3

قد نختلف في طبيعة المقارنة وتفسيراتها، لكنها تظل قائمة في وعينا بطريقة ما. وإذا كان المؤمن لا يختزل الله في فعل واحد، واسم واحد، وصفة واحدة.. فإن المفارقة تكمن في إصرار المتلقي، إصراراً عمائياً، على حصر خالق العوالم الكتابية/الخيالية، واختزاله في صفة واحدة تلصق به كالتهمة.. كحجر ثقيل يشل حضوره الإنساني، باعتبارها الهوية الراسخة له.. قلة فقط هي من تتعامل مع الله، بتشكك وتربص، أما الأكثرية فهي توفر تلك الطاقة المدهشة لاختزال الكاتب ومحاكمته وإسقاطه.
4

في ثلاثة أيام متباعدة في الذاكرة، سُئلت ثلاثة أسئلة متقاربة، الأول من شاعر وإعلامي شهير، صوّب نظرة متذاكية لسبر ما في داخلي، ثم لمعت عيناه أكثر وهو يوجه لي سؤالاً مبتور الصلة بما كنا نتكلم فيه:"أنت شيوعي"؟ والثاني من ضابط "أمن" أراد أن يتأكد من سبب مشاركتي في المظاهرات الجامعية، فسألني عن علاقتي بالإخوان، وربما كان السؤال الأدق عن "عدم علاقتي بالنظام"! وبعد نقاش عقيم مع شيخ أزهري ودفاع عقيم عن أتباع كارل ماركس قال لي: أنتَ ملحد؟ فأجبت مازحاً: لا، أنا عربيد!
5

قد أكون كل هؤلاء: الشيوعي، والإخواني، والملحد، والعربيد، ولا أحد منهم، في الوقت ذاته. قد تكون هي هويتي المتدحرجة التي تتبدى وتغيب، أطاردها وتطاردني. لكن من المؤكد ـ على الأقل بالنسبة إلي، أن فعل الكتابة/القراءة، نقلني ابتداء من الواحدية إلى التعددية، فجعلني كائناً دون كيشوتياً وهاملتياً وهلينستياً ورهبانياً وراسبوتياً، غاوياً ومغوياً. عصياً على الانتماء والأدلجة والتصنيف الجاهز مُسبقاً.
6

أنا الكاتب الذي تختزله البطاقة المدنية اختزالاً فادحاً في "مسلم"، أو "موظف". ويختزله الآخر في لافتة مقتضبة جداً، مكونة من كلمة واحدة، تؤسس ـ بلا شك ـ تعاملاً مريحاً، ونمطياً إلى أبعد مدى. كما إنها توضح بدقة في أي خندق تقف مع أو ضد السلطة/الكنيسة. سيكون صعباً جداً، أن أشرح لهذا الآخر أنني كاتب يحمل جينات شريرة، أو معطوبة، شكلت لي هوية دائمة التحول، غير مكتملة، منفتحة، متدحرجة، متمردة على الواحدية، ومنتمية إلى التعددية، التي ـ بوضوح ـ توفر لجميع البشر فرصاً أكبر في الحرية، واحتمالات أرحب للعدالة. إنني مثل إله على الورق لا أرضى بأقل من عشرات الصفات والأسماء، التي تعني بالتأكيد قدرتنا على الاختيار وتعميق إنسانيتنا.

7

لا أنكر أنني في ظواهر كثيرة لا أرهق عقلي بما يكفي، وأجنح إلى تفسير جاهز، فأردها إلى بنية واحدة متحكمة ومسيطرة على وجودنا البائس في العالم العربي: الكاهن/الجنرال، كلاهما ينشران عشرات القراء/المخبرين القديسين/المتتبعين، لتصنيف "الآخر" سياسياً ودينياً. هما أشبه بحلقة حديدية صارمة نصفها أبيض اللون ونصفها الآخر أسود، ولديهما عشرات الجنود والأتباع لإحكام الحلقة تماماً حول رأس أي كائن حي، ابتداء من تعريفه بكلمة واحدة، قد لا تكون سوى حكم نهائي مستتر بالإعدام البطيء.

8
من تلك البنية الراسخة والمتحكمة، تولد ثنائيات كثيرة بالأبيض والأسود، فما لم تكن خاضعاً أو مطيعاً للجنرال،فأنت خائن/عميل/مشكوك في ولائه، وما لم تثبت أنك تنفذ بدقة تعاليم الكاهن المزعومة والمثبتة في بطاقة الهوية الدينية فأنت زنديق/عربيد/مرتد/ملحد/علماني. لا مجال هنا، ولا قيمة، لأية تفاصيل أخرى، إزاء الحُكم النهائي بحبس روحك وجسدك داخل خانة الولاء المطلق، أو في العراء البائس خارج الخانة.

9

أسوأ ما يواجهه كاتب، تلك الاستماتة في تصنيفه بمنطق الديني/السياسي، الأسود/الأبيض، لا بمنطق الكتابة ذاته. أن يتناسى قارئه بكل بساطة أنه خالق عوالم، أو وسيط روحاني يستحضرها من الغيب. فيأتي إليه مدججاً بخليط من أدوات التصنيف، بدلاً من ملكات خاصة لتأويل النص. فالقارئ ليس مشغولاً بالنص، و لا جاداً في توسيع مدارك وعيه، بل إنه يوظف أقل وعي ممكن لمحاكمة الكاتب واستنطاقه، للتأكد من مدى ولائه لنظام الأبيض/الأسود، أو مدى قدرته على التمرد عليه. إذا كانت نصوص الكاتب عن المرأة والرجل، عن الحميم والهش في علاقتهما الأزلية، عن هذا الجسد المخفي والمستباح، عن تلك اللوعة والأسى والرغبة المحرمة، فإن الكاتب بالضرورة: إباحي، لا أخلاقي، متلصص، فتشي.. ما يستوجب الرجم دينياً، والإبعاد سياسياً!

10
إن مثل هؤلاء القراء (للأسف معظمهم يدعي الثقافة والإبداع)، لا لا يلامسون هواجس النص ومعانيه وعلاقاته المرتبكة، لأنهم يرددون نصاً واحداً شكل وعيهم منذ الأزل، ولأنهم يرتدون تحت جلودهم ثوباً "أرجوانيا/مموهاًً" موحداً، وإن تباينت عباراتهم الرنانة، مدعية أن لا علاقة لها بتعاليم الكاهن وتوجيهات الجنرال. وما يرسلونه لي ـ أنا الكاتب ـ من بين سطور انطباعاتهم النقدية ليس سوى "عظة الأحد" أو "السبت" أو "الجمعة"، أو عظة أي يوم آخر من أيام الرب ونائبه الجنرال المفدى. فجوهر مهمتهم ليس سوى إدانتي، كي أنهض فأغتسل وأتطهر من الرجس المكتوب ثم أركع في المذبح نادماً على خطايا لم أرتكبها، وإنما فقط تخيلتها!

11
هو إذن عقاب على "الخيال"، هذا الذي يفتح باباً لا يخضع بسهولة للسيطرة، ويقوي احتمالات التنوع والتعدد. وبالتالي سيعجز الكاهن الواحد والجنرال الأوحد، عن السيطرة على مجتمع منحه الخيال، أجمل نفحة ألوهية: الحرية والعدالة.

11

لا أبالغ؛ فالقارئ كان جاسوساً متنكراً في صورة قديس، أو العكس. والكاتب كان مداناً أخلاقياً بصورة مزرية. لدرجة أنني شعرتُ باغتراب مضاعف عن نصوصي المؤثمة، فهم قرؤوا فيها ما لم أكتب، أو ما أرادوا أن يقرءوه فقط، وانتقوا منها كل ما يلزم وصولاً إلى استنتاج أخلاقي محض: هذا كاتب"عربيد" يستحق الرجم، أو مريض جنسي يحتاج إلى العلاج، على الأقل لدى من تعاطف قليلاً.

12

من المؤسف حقاً، إصرار الآخر على تكريس الكاتب لا النص، وممارسة كل الألعاب اللغوية لحجب النص عن الآخرين (بدلاً من حرقه الذي يثير مشاعر عاطفية غير مأمونة، كما كان يحدث في السابق)، ولا بأس من توريط الكاتب نفسه في تلك اللعبة، ليظل يدافع عن ذاته المدانة لا عن نصه الخلاق.

13

تبدأ اللعبة كطقس احتفالي اجتماعي يُسمى ندوة أو مناقشة، ثم يبتلعها عماء اللغة وجبروتها. وأول فخ، يؤديه عادة من يسمى "مدير الندوة" فهو يظل يبالغ ويسرد الكثير من سيرة الكاتب الذاتية، لإعلاء حضوره وسلطته إلى أقصى درجة ممكنة، مثل دمية ضخمة تحجب رؤية الطريق إلى النص، ويسهل بالتالي مع هذا الحجم المتضخم والمنتفخ تصويب السهام ضده لاحقاً، من قبل القراء/الحضور، الفضوليين و المتربصين به.

13

أما الفخ الثاني فيمارسه ضد الكاتب، المتكلمون عنه وعن نصه، فبين فقرة وأخرى، أثناء تحليل النص يرن اسم الكاتب، مجللاً بالغمز واللمز، وإقامة الصلات الموهومة بين ذاته الضعيفة ونصه اللاخلاقي. فنص يحتفي بكعب المرأة ـ مثلاً ـ لابد أن يكون كاتبه فتشياً كبيراً.. ولا يملك الكاتب إزاء هذا الحكم الرنان إلا أن يتبرأ من محبته لكعب المرأة أو يصمت وينزوي مغترباً عن اسمه اللعين الملتصق بالنص.. ينزوي مقهوراً نيابة عن كل الكتاب العظام المتلصصين والفتشيين بالضرورة.

14
تُرى ما علاقة الاسم الذي يحمله الكاتب بالمصادفة بكينونته، وما علاقة كينونته الواحدية العميقة (والتي قد يجهل الكثير من أسرارها) بتلك الكينونات المتعددة التخيليية التي يثبتها في نصه؟! يضاف إلى ذلك تعليقات أخرى من قبيل: "تدخل الكاتب في النص لكسر الإيهام" أو "صوت الكاتب".. وهو ما يدخل في رأيهم في إطار التجريب، ولا أدري أي "تجريب" هذا إذا كان الأمر مألوفاً ومطروقاً من مئات السنين وعبر عشرات النصوص! أليس الأمر مجرد "لعبة كتابية" مطروقة ولا وجود لكاتب داخل نص، فالمؤلف مات كما أعلن بارت، وكل ما هنالك شخصية محايثة للسرد أو صوت سردي مثل بقية الأصوات يمكن تعيينه وتحليله، أو الصمت عنه. حتى إذا أوحت كل النصوص بملامح وسمات ما لكاتب، فهو على الأرجح ليس الكاتب الحقيقي المتعين في الواقع، بل مجرد كاتب وهمي تخترعه استراتيجية القارئ اختراعاً. وعلى الأرجح فإن هذا المؤلف الضمني ـ المُتصور ـ سوف يتعدد، ليس لتعدد النصوص فقط، بل لتعدد القراء أيضا. وكمثال بسيط من يقرأ "الحارس في حقل الشوفان" لن يخطر على باله سالينغر الكاتب الأميركي، بل سيبني صورة مدهشة لمؤلف ضمني هو صبي حائر أو طائش في سن المراهقة، يعطيه كل قارئ الملامح التي ترضيه.

ثم ما المغزى من محاكمة كاتب النصوص على جريمة قتل، وقعت في النص، وإلصاق التهمة به؟ أو محاسبته على خيانة جنسية مارستها زوجة ضد زوجها، لأسبابها الخاصة؟

15

إن النصوص التي تخرج على الورق، أو على الشاشة، تخترع لنفسها مؤلفاً، تحت سطوة اللغة التي هي أقوى من الكاتب نفسه، في حضورها وانزلاقها خارج الإطار والفهم والسياق. ثم تتضاعف صورة هذا المؤلف بعدد مرايا القراء المحتملين. وفي كلتا الحاليين، فإن أسوأ وأصعب مهمة هي مقاربة النصوص مقرونة باسم الكاتب الملون على الغلاف، فلكي نقرأ هذا في مرآة ذاك، يقتضي الأمر دراية عميقة وطويلة، ودربة وخبرة، في تحولات ذات المؤلف الحقيقي فكراً وشعوراً وسلوكاً وموقفاً من الحياة، وتحولات نصه عبر مساحة كافية من نتاجه. وهي خبرة ليس من السهل على أحد أن يزعم امتلاكها، وهنا المفارقة الخادعة، والتي تتمثل في الجاذبية المفرطة التي تدفع قراء مدججين بإرث الكاهن/الجنرال، لإظهار خبراتهم المزعومة وقدراتهم العميقة في اجتراح تلك المقاربة التي لا يقدر عليها سوى أفذاذ المحللين والمفسرين.

16

الفخ الثالث: الكلمة/التهمة، من عينة:العري، الإباحية، ركوب موجة هابطة، الاستجابة لآليات السوق.. إلخ.. كلها انتقاءات تدخل إلى النص بقواعد مسلم بها ( لا يشغل قارئ النصوص باله إذا ما كان الكاتب مثله متمسكاً ومؤمناً بتلك القواعد) وصالحة لمصادرة الكاتب وإدانته. لا تخفي بالطبع تلك النزعة الأخلاقية المتعالية والمثالية، ربيبة الإرث الكهنوتي السلطوي.
لقد "أبدع" الكاتب و"تخيل" وهي تهمة لن يغفرها له القارئ القديس بسهولة!

17

هل تتصور أيها الكاتب الأبله أنك تملك قدرة الرب على خلق الموامس والقوادين وسب الكهنة وقتل الجنرالات ومنح الدهشة والبراءة والسعادة للأطفال؟
هل تظن نفسك أيها الكاتب أنك تعرف اللغة، وتجيد القراءة والكتابة أكثر مني أنا القارئ؟ ولماذا تدعي لنفسك القدرة على "خلق العوالم" ولا تتيح لي سوى مجرد قراءتها؟ وإذا كنت بارعاً على هذا النحو في "التشييد"، فأنا قادر على "التقويض".. قادر على محاكمتك وتشويه نصك إلى ما لانهاية.
على الأرجح، هكذا يتكلم القارئ العدو!

18

إنها نزعة لا تفكر في طرح أبسط الأسئلة على ذاتها: أليس في ما يتبدى لنا على أنه الواقع، إباحية أشد فتكاً مما تثبته النصوص، كل النصوص؟ ألا يجب أن نحترم منظور الكاتب في رؤيته للعالم، مهما اختلفت عن رؤى كل القراء المحتملين للنص، فإذا رأى أن العالم "لا أخلاقي"، لا يجب أن نهرول للدفاع عن العالم وإسقاط التهمة على الكاتب؟! ألم يؤد انفتاح الوسائط وتقاربها إلى إباحية متوحشة ومدهشة يصعب على أي وسيط، بما في ذلك الكتابة، الفكاك من تأثيرها وحضورها؟ أليس محسوماً منذ عقود بعيدة أن الإبداع يقاس جمالياً، وليس بمعيار الصواب والخطأ، الأخلاقي؟ فلماذا تلك الازدواجية: نرتدي قناع الأحرار ونتصرف مثل عبيد الجنرال، ونتشدق بكلمات نيتشه وفرويد وماركس كي ننفذ تعاليم الكاهن!

19

إن هذا الحس الأخلاقي التطهري المبالغ فيه، يمكن فهمه ـ إلى حد ما ـ كرد فعل على فيضان صورة الجسد وانتهاكه في عصر الوسائط المذهلة. لكن من غير المفهوم أن يُصدع رؤوسنا الكهنة، وأتباعهم، بفتاوى عما يجوز أن تعريه المرأة من رجلها و يدها وصدرها، ثم يصمتون صمت القبور عن عهر الجنرالات وعروض "الاستربتيز" اليومية التي يمارسونها فوق جثثنا وكرامتنا الإنسانية. غير مفهوم هذا الهيجان التأثيمي ضد الحلقة الأضعف في دائرة العري، أو لنقل: الحلقة الأكثر تهذيباً، وأعني الكتابة الإبداعية! والمؤسف في الأمر أن يتولى قراء يرتدون أقنعة النقاد و المبدعين، تلك المهمة الأخلاقية التحريضية نيابة عن كهنة تفرغوا لتحريضات أهم، من مستوى الحروب الصليبية وإبادة الشعوب ومحاكم التفتيش!

20
للمسألة وجه آخر بغيض؛ فالكاهن ومن ينوب عنه من قراء وفضوليين ومتطهرين، يستمد سلطته من إرثين مختلطين؛ فهو كلمة الله وابنه الشرعي ونائبه وخليفته، والمتحدث الإعلامي باسمه. هو روحه النقية التي حلت في جسد ليس أكثر من سجن أو مادة زائلة من ماء مهين. مادة مشتعلة بالشهوات والفسق والفجور والعربدة والمس الشيطاني. وما بين إرث الروح الإلوهية التي تتطلب السمو والعزلة والزهد والصيام.. وإرث تعذيب وتنكيل الجسد الممسوس بالشيطان، ثمة تاريخ طويل من إهانة واحتقار الجسد الإنساني، فهو عورة وخطيئة وفحش ورذيلة، وكل ما أنجزته اللغة من معجم جسدي يجب التعامل معه بحذر شديد، وبعد إجازة من الكاهن الأكبر بجواز ذلك أو تحريمه.

21

هذا التاريخ الديني المرير، كابن ضال يُعاني في عودته إلى الرب، من ازدواجية روحه النقية وجسده المدنس، يقدم كل ما يكفي من مسوغات للجنرال، كي يكمل دائرة العبث بالجسد الإنساني، فهو يستطيع أن يبيده في حرب دون أن يرف له رمش، أو يسحله في مخفر شرطة دون أن يحاسبه أحد، أو يقيد حركته في ظروف لا إنسانية، لأن في حركته وتحرره، وفي تصالحه الفطري مع جسده، خطر مؤكد على سلطتي الكاهن والجنرال معاً.

22

مهما يكن، ستبقى الكتابة وحدها، هي القادرة على إعادة اكتشاف جسدنا الإنساني، والتعامل معه بمحبة.. هي وحدها القادرة على تحريره من التأثيم الديني وسطوة الجنرالات.. هي المدخل الأوسع لإدراك فلسفة التنوع الذي لا يعني فقط احترام الهش والمؤقت والإنساني، بل الأهم من ذلك أنه السلاح الأقوى لإضعاف سلطة الديني/السياسي، تلك السلطة لا تحتمل أدنى درجات التأويل والتفكير، لأنها تريد كتلاً صماء لا تنازعها مُلكاً، ولا تُجهدها بتغيير قوانين اللعبة أو حتى تداولها.

23

إن الحرية في أبسط أشكالها، هي حرية الحركة، أن يذهب المرء إلى العمل أو السينما أو لقاء صديقة، دون شروط مسبقة من أحد (الكاهن) أو قيود يفرضها أحد (الجنرال).. هي حرية التصرف في الجسد ذلك الحيز المكاني الأول لوجودنا الإنساني. هذا المكان الأول والبسيط جداً، والذي لا يشكل إزعاجاً لأحد، والذي وُلدنا فيه عرايا تماماً، سيظل بكل أسف تحت رقابة مزدوجة وصارمة، محروماً من حقه في الحرية والشمس والحركة والفعل، طالما ظللنا ننظر إليه من خلال تعاليم الكاهن وأوامر الجنرال.. ولن يُسمح له باسترداد عريه الجميل مرة أخرى إلا في لحظة الموت، والتأكد من أنه صمت إلى الأبد عن الحركة.

لن تكون كاتباً ما لم تكن حراً
وأن تكون حراً.. أن تكون عارياً



#شريف_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مصطفى صفوان: السلطة المحتكرة لا تحب الحق إلا باعتباره من اخت ...
- ذكريات قد لا يعرفها نصر حامد أبو زيد
- -مثلث العشق- مجموعة قصصية جديدة للكاتب شريف صالح عن دار العي ...


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف صالح - الكاتب العربيد والقارئ القديس