أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - شمس مراكش تحرق الأصابع















المزيد.....

شمس مراكش تحرق الأصابع


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3581 - 2011 / 12 / 19 - 14:10
المحور: الادب والفن
    


- أي الفنادق أقرب إلى قلب مراكش؟
- فندق التازي الكبير.
أجابني الشرطي، وهو يلقي رغم ذلك نظره على نادي البحر الأبيض المتوسط المزدحم بالسائحين. كانت الشمس تغيب عن مراكش، وريح الجنوب تجيء بالرمل والمطر من حين لحين، والأطلس الكبير، في ثوب من الثلج الدائم، يرنو إلينا في مدينة العجائب.
- مدينة العجائب؟
- شهرزاد مضت من هنا.
أجابني عبد القادر، وهو يلقي رغم ذلك نظره على قبور السعديين المزدحمة بالسائحين. كان رجلاً نصف مجنون، ومراكش في عينيه تبدو المدينة الأكثر عقلانية. كان يقول لي: يكشف الموتى عن مجدهم في القبور!
أيعقل قول إن الموتى يكشفون عن مجدهم في القبور؟
كان أول من أدخلني (( ساحة جامع الفنا ))، ساحة البعث والنشور! كانت زوجتي إلى جانبي مندهشة، منذهلة، منجرفة مع حركة التعارض التي تجرف الساحة، وكانت تبتسم كطفلة ضائعة أمام عالم كان عليها اكتشافه. كانت تكبر مع كل خطوة تخطوها، دونما نهاية، والطبول قريبة وبعيدة، والحلقات صغيرة وكبيرة، والصرخات دقيقة وعميقة، وكان الراقصون يختزلون التاريخ في لحظة من عمر الإنسان زائلة.
من بعيد، نظرت إلى الساحة التي يجتاحها الليل شيئًا فشيئًا. كانت أضواؤها كالشموع المعلقة في الفراغ، ومنارة جامع الكُتُبِيَّة بحجرها الأحمر، المتعالية، المستفزة، تنظر معي، منذ مئات الأعوام، إلى المدينة القديمة، وهي تنغلق على نفسها بعد اكتمال النهار. بعد ذلك، رحنا نتجول في أزقتها التي لا تنتهي، وعبد القادر يقول لي: مهما تقدمت لن تقترب أبدًا من قلب مراكش، يبقى الأمر في حالة الأمنية الصالحة!
أيعقل قول إن الأمر يبقى في حالة الأمنية الصالحة؟
ومضت الأيام...
اعتدنا حجر المدينة الأحمر وأهلها وأكلها وبوابات أسوارها وصفوف دراجاتها الطويلة، ولم نتمرد مرة واحدة، ونحن نجد أنفسنا فيها، فتمردت علينا تاركتنا، ولم نفعل سوى أن نتبع سرابها.
- لا تلهث!
قال لي عبد القادر، وألقي بنظرة مجنونة على ما حوله قبل أن يحكي:
- في الليلة الماضية، استيقظنا على عويل أطفال في قماطهم تركتهم أمهاتهم في الزقاق. وما قبل الليلة الماضية، ضربت امرأة بطنها بحجر حتى سقط مخلوق بشع مهشم من بين فخذيها. ومنذ عدة ليالٍ، ذبح رجل أطفاله، طفلاً طفلاً، ثم سلم نفسه إلى الشرطة. أمَّا في الغد...
توقف قليلاً، أبهمت عيناه الحادتان، وما لبث أن عاد إلى القول:
- أمَّا في الغد، فشاعر فقط سيقتل القمر!
أيعقل قول إن القمر سيقتله شاعر فقط في الغد؟
بعد عدة أيام، عرفت أن زوجه الحبلى بكم ما لست أدري من شهر قد دخلت المستشفى لتفقد فيه جنينها، وأن أمه قد ماتت لأن لم يكن دواء لديها، وأنه هو نفسه قد جند بوصفه متطوعًا.
- هناك على الأقل سآكل لأبتعد عن الموت!
اعترف لي عبد القادر، ولم ينس إضافة أنه مستعد للتضحية بنفسه من أجل الصحراء الغربية، فالواجب فوق كل شيء، والحرية هي الموت. لكني رأيته ذات يوم، وهو يجري بهيئة المعتوه الكامل. كان يقطع شارع محمد الخامس من (( جيليز )) إلى (( الكُتُبِيَّة ))، وكانت الشمس جهنمية، وهو يجري تحت سياطها، قادرًا على الجري والوصول. لم أره أبدًا بعدها، فأخذت أبحث عنه بين وجوه الناس الباحثة عن خبزها اليومي، في وجوه طلبتي، حسن ولابجاني وحسن الآخر والداهي والمبتسم، وابتسامة مراكش في الصيف نار من جهنم! مدينة النار كانت مراكش، كانت تذكرني بجبل النار القابع هناك تحت الاحتلال، الصامت كبركان سينطق بالكلام اللازم، في مدينتي الثانية.
- من الجدير تسميتها مدينة ألف نهار ونهار.
قال لي حسن، وذهنه الوقاد يحثه على مداراتي عندما أضاف:
- لكن حقيقتها تنجلي في الليل!
حكي لي قصة صديق له من أغادير، كان يقرأ الجريدة كل يوم، إلى أن نزلوا عنده، وأحرقوا كل كتبه، ذات ليلة. حدثني عن رجال ((الأواكس )) في الجامعة، رجال المخابرات، وعن العميد الذي يعتبر شتائمه للطلبة تهاني لهم. قال لي إنه كان يحلم بالذهاب إلى (( أوريكا ))، حلمي أنا الذي سيظل حلمًا.
- توجد الجنة هناك!
قال لي.
- هي دومًا هناك، يا صديقي.
أجبته.
سمعت أحد السائحين يقول لزوجته:
- خذي لي صورة وأنا في الجلابة.
وتطلق الزوجة ضحكة رنانة.
- خذي لي صورة وأنا في العربة.
وتطلق الزوجة ضحكة رنانة.
- خذي لي صورة ومراكش الحلم والخيال كلها من ورائي.
سارعت الخطو، ومراكش الجمر والرماد كلها من أمامي. كنت أبحث عن عبد القادر تحت شمس محرقة، ماحقة للذهب والعقل. وفي باريس، كانت وكالات السياحة تتعلل بفارغ الكلام: تعالوا وخذوا الشمس في عز الشتاء! تعالوا إلى مراكش! لم يكن هناك سوى فصل واحد في مراكش، فمراكش، ككل المدن، كانت تعرف كل الفصول، وخاصة صيفها الحارق.
كانت فطيمة العظيمة تشتم:
- تعالوا وخذوا قفاي!
بصقت دخان سيجارتها بغضب، ثم سحقتها بنعلها.
فطيمة الجميلة غاضبة!
فطيمة الغاضبة جميلة!
عندما كانت فطيمة تغضب تصبح جميلة مرتين!
- لست عاهرة!
قالت لي، وابتسمت عيناها الكاسفتان قبل أن تضيف:
- كنت طالبة، تزوجت من أستاذي، ثم طلقته عندما عرف فتاة أخرى. بعد ذلك، تزوجت من زميل، ثم طلقني عندما عرفت رجلاً آخر. لما كان الرجال يوقفون سياراتهم لم أكن أطلع في البداية، ثم بدأت أطلع مع من يعجبني. كنت أختار. وهكذا اخترت ما أنا فيه الآن. هذا العالم الأسود المفتض البكارة الذي يصدم ويحرق هو اختياري، أمَّا الأشياء النسائية الأخرى، فهي من اختراع الرجل، كلها ليست حقيقية.
- لكني لم أخترك، يا فطيمة، ولن أختارك.
- هذا لأن عبد القادر وحده المجنون.
أيعقل قول إن وحده عبد القادر هو المجنون؟ وإن وحده قاتل القمر هو الشاعر؟ وإن وحده المطارد برجال (( الأواكس )) هو المناضل؟ وإن وحده من يقبل فطيمة من خدها هو الشهيد؟ كانت كل هذه الأسئلة تدور في رأسي، وأنا أضرب في شوارع مراكش، من شارعها السعيد في (( جيليز )) إلى زقاقها التعيس في المدينة القديمة. ألقيت نظرة نحو الشمس الفاتكة التي لا تتمكن رغم ذلك من إذابة الثلج على قمة الأطلس الكبير، والأطلس الكبير يرنو إلى مراكش مذ كانت... عاليًا، عنيدًا، هائلاً.
أعادني صوت زوجتي إليّ:
- علينا أن نغادر مراكش.
لم تكن المفاجأة الأولى.
- لماذا نغادر مراكش التي نحبها كمحكمة؟
- لأن حسابنا في البنك يكون بلا رصيد مع بداية كل شهر بعد أن غمطوك حقك.
- إلى أين تريدين الذهاب عندما نغادر مراكش التي تحبنا كعقاب؟
- إلى بلدك.
- وأين هي بلدي؟
- فرنسا بلدك، وباريس مدينتك، ألست فرنسيّ الجنسية؟
لم تكن المفاجأة الثانية.
كنت أضيع بين بلدين، الذي كنت أوجد فيه، والذي كان يوجد فيّ، فأخذت أهرب من أمام السائحين وآلات التصوير والأشياء التقليدية، أقطع شارع محمد الخامس، من (( الكُتُبِيَّة )) إلى (( جيليز ))، ثم خارج جيليز، خارج المدينة، خارج القانون. كانت الشمس جهنم، وأنا أجري تحت سياطها، غير قادر على الوصول أبدًا.

5 أكتوبر 1984

* من "حلمحقيقي" المجموعة القصصية الرابعة لأفنان القاسم بمناسبة نشره للأعمال الكاملة.



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بركات
- الأطفال يتكلمون لغة واحدة
- أفنان القاسم يجيب على أسئلة الحوار المتمدن
- الرسامة الصغيرة
- العاملة التي أحبت الكاتب
- الحزب والموسيقى
- السيدة التي لم تقرأ الجريدة
- لقاء الأصحاء في مستشفى هنري موندور من حول سرير أفنان القاسم
- وقائع نشرة مكثفة عن التلفزيون الفرنسي
- الفتاة الممنوعة
- وحيد وجوديت
- ناتاشا والفنان
- العاطل عن اليأس
- انتحار الشاعر
- أطول ليلة في الحي اللاتيني
- القصيدة-القصة الأولى في الأدب العربي: الإبحار على متن قارب ه ...
- محمد حلمي الريشة وعلبة أسبرين
- 39 شارع لانكري
- الابن والبحر
- الله والنقود


المزيد.....




- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...
- فيلم -حرب أهلية- يواصل تصدّر شباك التذاكر الأميركي ويحقق 11 ...
- الجامعة العربية تشهد انطلاق مؤتمر الثقافة الإعلامية والمعلوم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - شمس مراكش تحرق الأصابع