أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - انتحار الشاعر















المزيد.....

انتحار الشاعر


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3559 - 2011 / 11 / 27 - 12:30
المحور: الادب والفن
    


النار تصلني بجسدك
جسدك المنجبل بالألم والنجوم
عند مصهر الحديد الصُّلب
تتحولين بركانًا يقذف أنهار الجمر من جسدي إلى جسدك
في لحظة تشكيل الجرح
نذوب في وردة محرقة
ثم ننهض لنرى العالم الذي يتقدم
نحو ذهابنا في الغد القادم
الإشراق هو شرطك الجديد!

ترك الشاعر قلمه يسقط على سرة حبيبته، اقترب بخده، وأنامه على نهدها، تاركًا أصابعه تزلق على وَرِكِها. براحتها، راحت مارغريتا تمسح شعره، وتبتسم.
في اليوم التالي، كان عمال المصنع يستمعون إلى الشاعر. كانوا مشدودين إلى نبرته، إلى حركاته، إلى تعابير وجهه:

ليس القلب وحده صانع العواطف
اسألوا يدي مارغريتا تقولا لكم
بيديّ هاتين أقطف الزهر من الحديد
ومن الحديد أصنع الدرب إلى أرجوحة طفل على شجرة
يصعد منها نشيد نحو السماء
سماء زرقاء فوقكم
تنظرون من الحلم إليها
فترون ابتسامة مارغريتا
اسألوا شفتي مارغريتا تقولا لكم
بشفتيّ هاتين أنفخ الحياة في الحديد
الحديد وحده ليس مادة للتشكيل
وأنا وحدي لا أستطيع القرار الأخير
رغم أني تركت حبيبي يعبث كما يشاء بشفتيّ
حبيبي قاطف الكرز
اسألوا نهدي مارغريتا يقولا لكم
بنهديّ هذين ينهار الجبل عند أبواب المناجم
والسهم المتجه نحو الدرب الذاهب إلى أرجوحة طفل على شجرة
يشير أيضًا إلى سلطة رب العمل الجشع
فخذوها
ليشعر جسدي بحريته!

صفق العمال تصفيقًا حارًا. هجموا على الشاعر، وحملوه على الأكتاف، ومارغريتا تحاول التعلق به دون أن تنجح، ثم تركت نفسها تنجرف بحمية البدلات المزيتة، وما لبثت أن غرقت فيها، والشاعر يمتطي الأكتاف، وقلبه يدق دقًا عنيفًا. جمد في مكانه فجأة، على رؤية سيسيليا، ابنة رب العمل، وهي تقف على عتبة مكتب أبيها، تصفق له، وتبتسم. بحث الشاعر عن النزول، ووضع قدميه على الأرض، لكن العمال أصروا على حمله حتى أبواب الجحيم لو أمكن، فأخذ يضرب، ويضرب، إلى أن فقد كل قواه. في الأخير، وضعه العمال على الأرض، وتركوه لاهثًا، فتقدمت سيسيليا منه في اللحظة التي ابتعدت فيها مارغريتا كغيمة، لتغيب في المصنع.
قالت سيسيليا للشاعر:
- تركوك لاهثًا بعد أن رفعوك إلى الأعالي!
أجاب الشاعر:
- كان عليهم العودة إلى العمل.
ضحكت سيسيليا بأعلى صوتها، وأطرته:
- كانت قصيدتك جميلة، إنني أهنئك على موهبتك!
اكتفى الشاعر بقول:
- أشكرك!
- أنا سيسيليا، ابنة رب العمل الجشع الذي لا يطاق!
- أعرفك.
هتفت:
- أن يعرف الشاعر سيسيليا، هذا شرف يسقط عليها من السماء!
لم يعلق. لو أجابها بعنف لكان ذلك أفضل لها.
- لا بد أنك تجدني كريهة كأبي ومسئمة!
كان الشاعر يلتفت بحثًا عن مارغريتا دون أن يجدها:
- على العكس، ليس ذنبك أن تكوني ابنته، عندما تجعل الصدفة من الشيطان أمنا وأبانا!
فتحت له باب سيارتها، وانطلقت به في شوارع باريس الشتائية. كانت السماء غائمة، والأرض مضببة، والأشجار عارية، ورجال شرطة المرور غارقين في معاطفهم الثقيلة، والناس يطلقون أنفاسهم البيضاء، وهم يعبرون على الأرصفة، فأخذ الشاعر يدمدم:

شتاؤك لم يعد يخيفني باريس
بل أجد فيه لذة
لأن ضبابك مندمج بدخان المصانع
الخالقة للربيع القادم
وأنا أنظر إلى شتائك أقول لنفسي
من معطفك سيظهر جسد أبيض
أجمل جسد لامرأة عاصية
ستطلق الربيع من بين ساقيها
انتظاري للقادم من ضبابك باريس إذن أقوى من شتائك
وشعري أقوى من جبروتك
وقصيدتي القادمة أقوى من مستقبلك
أنت اليوم قيدي أما غدًا
فأنا قيدك
غدًا أيتها الغيداء في ثوب الضباب المتمزق بين يديّ
سأنزعه عنك
وألقي بمفاتنك في مجمرة عملاقة
لأحرقك ثم أصنعك على هواي!

وإذا بالسيارة تقفز من الشارع إلى رصيف السين، وتستقر على ظهرها، فطلبت سيسيليا بعد أن وجدت نفسها بين ذارعي الشاعر:
- أريد أن تتزوجني!
- تريدين أن أحرقك!
- إذن احرقني!
قبلها بعنف كوكب يندق بكوكب، وأصوات سيارة الإسعاف وأقدام رجال الشرطة تصلهما، كانوا كلهم يهرولون إلى نجدتهم.
في يوم العرس، كانت كل باريس تشرب الشمبانيا، وترقص بكل أبهتها، مزينة بأثمن مجوهراتها، وأكثر ثيابها أناقة. طلبت سيسيليا من الجميع الصمت والاستماع إلى آخر قصيدة للشاعر تقال من فمه. وضع قدمًا على كرسي من مخمل، وأخرى على فخذ إحدى المعجبات، وعلا من فوق رؤوسهم كملك يعتلى العرش، وألقى:

أراكم عرايا في ثيابكم الثمينة أيها السعداء!
جميلون كلكم لكن مارغريتا أجمل
نهدها أجمل من كل النقود
وشفتها أجمل من كل باقات الورد
وقدمها الصغيرة أحلى قدم
تَذْكُرُني الآن كما أذكرها بلا ندم
هل يندم الشاعر وفي قصائده كل مرايا العالم تشتعل؟
هل يندم الشاعر عندما يعرف أن مارغريتا تبكي
ومن دمعها تصنع العطر
ومن عرقها تصنع ثياب السهرة
هي أيضًا لن يطالها الندم
لأنها أحبت قاطف الكرز
ومشعل الورد في الجسد
لن تندم مارغريتا لن تندم
وإلا ما انصهر الحديد
وما خلع الشعر ثوب الشتاء!

صفق المدعوون للشاعر بحمية، هجم بعضهم، وحملوه على أكتافهم في أجواء الموسيقى وصيحات الإعجاب. أخذوه إلى زاوية، وشرب الويسكي معهم، ثم جرب الحشيش، وعرج على النبيذ، ثم عاد إلى القصيد من جديد. ومرة أخرى، علا على الأكتاف، وقلبه يهتز، وسيسيليا تحاول التعلق به دون أن تنجح. فُتحت كل الأبواب للشاعر، أبواب المسارح، وقاعات الشرف، والنوادي الخاصة، الخاصة جدًا، وذاعت شهرته في أوربا وآسيا وأمريكا وإفريقيا... فذهب لينشد قصائده في كل مكان في العالم، في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين القائمة على وًرِكِ جنوب لبنان، في بلدان النفط، في القرى السوداء، وفي جامعات كاليفورنيا. وبمناسبة وجوده هناك، أخرجت له هوليود فيلمًا تسبيحًا له. عند عودته إلى باريس، قالت له سيسيليا:
- لقد أصبحت شاعرًا عالميًّا.
ارتمى على الكنبة تعبًا. جاء خادمه، وساعده في خلع ثيابه. نظر الشاعر إلى سيسيليا، ثم همهم:

مارغريتا سأدفع الثمن
ثمن هواك
كفاني عذابًا
المجد هنا وأنت هناك!

وإذا بسيسيليا تصرخ منتحبة:
- كفاني أنا عذابًا، أنا المعذبة وحدي!
ارتمت على صدره، وراحت تضربه بقبضتها، وهو يسألها:
- هل جننتِ؟
مسحت دمعها، وهددته:
- إذا لم تنسَ تلك الفتاة قتلتك!
أراد الشاعر أن يلقي قصيدة عن الغيرة، ولكنه فضل السكوت. ومنذ ذلك اليوم، لم يفتح فمه ثانية، لا ليقول شعرًا، ولا ليأكل الكافيار.
في أحد الأيام، وهو يحدق في الليل، ويسقط في الصمت، دفع عليه بعض المقنّعين الباب، وألقوا في حضنه رأس مارغريتا، ثم صدرها، ثم بطنها، ثم حوضها، ثم فخذيها، ثم ساقيها، ثم قدميها، وتركوه منشلاً بين أشلائها.
بعد سنة من الزمن على تلك الحادثة، جاءت سيسيليا لترى الشاعر الذي كان قد بقي طوال كل تلك المدة في نفس المكان، وهو يحدق في الليل، ويسقط في الصمت، فلم تجده. كان يقف فوق قنطرة، ويحدق في نهر السين، وكان أثر غياب الشاعر على سيسيليا مدمرًا، فسبب لها الجنون، وقضت باقي عمرها في مستشفى الأمراض العصبية بجوانفيل، وهي لا تكف عن ضرب نفسها بحجر ومناداته.
وبعد قرن من الزمن على جنون سيسيليا، سارت مظاهرة من ساحة الجمهورية إلى ساحة الباستيل، والغاضبون من شتى أنواع الطيور فيها ينشدون:

النار تصلني بجسدك
جسدك المنجبل بالألم والنجوم
عند مصهر الحديد الصُّلب
تتحولين بركانًا يقذف أنهار الجمر من جسدي إلى جسدك
في لحظة تشكيل الجرح
نذوب في وردة محرقة
ثم ننهض لنرى العالم الذي يتقدم
نحو ذهابنا في الغد القادم
الإشراق هو شرطك الجديد!

باريس مايو 1981

من "حلمحقيقي" المجموعة الرابعة لأفنان القاسم بمناسبة نشره للأعمال الكاملة



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أطول ليلة في الحي اللاتيني
- القصيدة-القصة الأولى في الأدب العربي: الإبحار على متن قارب ه ...
- محمد حلمي الريشة وعلبة أسبرين
- 39 شارع لانكري
- الابن والبحر
- الله والنقود
- الطفل الآتي من هناك
- حلمحقيقي
- حبيبتي في صنعاء
- حرير دمشق
- إرادة الورد
- الهامشيون
- ساعة الصفر
- على طريق دمشق
- الموت
- الأعشاش المهدومة
- الإرجاء
- الحجرة
- سوريا: ما هكذا يا رشاد أبو شاور تورد الإبل
- الانتحال


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - انتحار الشاعر