أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الابن والبحر















المزيد.....

الابن والبحر


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3549 - 2011 / 11 / 17 - 19:10
المحور: الادب والفن
    


السبب الأول لوجودي في جزيرة (( بالما )) هو أن أرتاح، وألا أفكر في شيء، أن أستمتع بالشمس وبالبحر، وأن أنظر إلى النساء. لهذا ابتعدت عن باريس التي لم أغادرها منذ أعوام، باريس الجليد، باريس الضباب، باريس الأضواء والعمل الدائب، باريس البرد والكتابة، باريس الأفكار. رافقتني زوجتي وابنتي لعدة أيام، ثم بقيت وحدي. كنت أريد البقاء وحدي، كنت أريد الشعور بمولدي.
اليوم أنهض باكرًا في الصباح الإيبيري تاركًا فندقي بعيدًا من ورائي، وأشق شوارع (( الأرينال )) الضيقة المنحدرة نحو البحر، والبحر بحيرة كبيرة صامتة، فرس أليف، ومرآة زرقاء. الشاطئ على التقريب خالٍ من الناس، شماسي القش مزروعة في كل مكان، وامرأة تخلع ثيابها أمام عيني، ورجل ينام على الرمل، وبنت ترسم مركبًا. المراكب راسية، والبحر يمتد كأنه النهاية البداية، وأنا أنظر إليه، ولا أفكر في شيء. أنظر إليه قبل أن أذهب باحثًا عن الأمواج التي جاءت بي، وأستمتع بحالة التماس بين جسدينا، لحظة عابرة يجهلها الرمل. وعلى الرمل أستلقي، وأعطي وجهي للشمس، وأعطي كل جسدي، وأحس بإبرتها المخدرة، وأحلم. من يمنعني من الحلم، ومني البحر على مقربة؟
ويناديني البحر، وهو يمتلئ بالأجساد وبالأمواج، فأخضع لتجريد المعاني، وتشعشع الألوان. أشعر بتحديه، أشعر بأنه امتلاك مستحيل، وأن في أعماقه قلبًا ينبض ليس قلبي. يتركني على سطحه أحدق في القادمين، هم دومًا قادمون إليه، وهو دومًا هارب نحو الآفاق. أحدق في القادمين، فأرى نهودًا تحدق فيّ، وأعناقًا، وشفاهًا، وعيونًا تتحدى عينيّ، وسيقانًا تنبثق من قلب الموج، وأفواهًا تصرخ، وأخرى تضحك، وأخرى لا تضحك ولا تصرخ، يكتفي أصحابها بالنظر إلى غيرهم، وهم يلعبون الكرة الطائرة. يغدو البحر فرسًا شرسة تهتز على أدنى إيقاع، وكلما ازداد شراسة ازداد عظمة وامتدادًا وصراعًا. أيها البحر خذ الريح، واتركني معك! ولكن الريح هي التي تأخذني، وتخفيني في الرمل، تاركة كل شيء من ورائي.
في مطعم الفندق، آكل (( البايلا )) على العشاء، وأنظر إلى كارمن التي تسألني:
- هل أعجبتك البايلا؟
- أعجبتني.
تبتسم لي كارمن السمراء، ثم أنهض بعد أن أتحلى: بوظة أو حلوى أو كمثرى. أعود إلى شوارع الأرينال الضيقة المنحدرة نحو البحر، وأرى أناسًا لم تزل فيه من كل لون، وهم مصرون على البقاء في الأمواج وتطويع صراخها، والريح تغدو صاخبة، والناس مصرون على البقاء في الصخب وفي الأمواج. يغدو لون البحر أخضر قاتمًا، ويلفظ الأجساد، والأجساد تقفز، وتقهقه، وتصرخ. والأجساد تلتطم أحيانًا، فتغدو كتلة عظيمة متراصة، أو تنفصل أحيانًا، وتتجزأ. أتابع بعينيّ انفصال الأجساد، وأقيّم الحركة والوزن. أشارك البحر في تماثلها: أجساد عارية أو نصف عارية، أجساد ضخمة أو نحيفة، أجساد نشيطة كالأسماك، أجساد مترهلة أو مشدودة، أجساد عجوزة، أجساد شابة، أجساد قصيرة، أجساد عملاقة، أجساد مثيرة، أجساد مغيرة، أجساد لا مثيرة ولا مغيرة، أجساد تخرج من الماء، أجساد كالكمثرى، كالحلوى، كالبوظة، أجساد كزجاجات الكوكاكولا، أجساد كالموز، كالأشرعة، كالبنادق، كالألغام، أجساد كالأنعام، كالخرفان، كالغزلان، وأخرى كالأفراس، أجساد كالفراشات، أجساد كالثيران، أجساد كشجر الجوز، كشجر الصفصاف، كشجر الخنشار، أجساد كالأفيال، كالأرانب، كالفئران، كالجراد، كالحمام، أجساد تذهب وتأتي، تنهض وتنام، ترتمي في الماء، أو هي تزلق على سطحه، أو تتسلق الأمواج، أو تنكسر على كتاب، أو تتفتح على منشفة، أو تئن، أو تكتم الأنات، أو تبتسم، أو لا تبتسم، أو تكشر، أو تنادي، أو تؤنب، أو تغتاب، أو تتأمل، أو تحسب، وربما كانت تحاسب أو تتمنى. تتكاثر الأماني قرب البحر، وتتنوع، تهطل كالأمطار: فتى أسمر، أو فتاة سمراء، أو امرأة تتقن فن الحب وبعض الأوضاع الصعبة الإجراء، أو جملة من النساء، وربما جملة من الرجال، أو بيت مريح وسيارة مريحة، أو أحد عشر شهر عمل بالانتظار، وراتب آخر الشهر، وزيادة متوقعة، وآلة قاطعة، وعلاقة قديمة، علاقة بعيدة، علاقة مستحيلة أو ممكنة، علاقات، نعم، كثير من العلاقات.
في مساء اليوم التالي، تسألني كارمن على العشاء:
- هل أعجبتك الشوربة؟
- أعجبتني.
تبتسم لي كارمن السمراء، ومع ذلك ، شوربة ساخنة لا تعجب أحدًا في مثل هذه الحرارة الخانقة. وللمرة الأولى، المطعم على غير عادته يغص بالناس، مما يحثني على تعجيل الخروج دون أن أتحلى. أتجه إلى شوراع الأرينال الضيقة المنحدرة نحو البحر، المحاطة بالفنادق والمطاعم وعلب الليل. وأسمع كثيرًا من الأغاني الألمانية، وكأن الألمان يحتلون الجزيرة. كثير من الدكاكين لا تغلق أبوابها في الليل، معظمها يبيع أشياء البحر الملونة، وبعضها يبيع فواكه الصيف، المفروشة على الأرصفة. وعلى الأرصفة، آثار الأقدام الرملية، وفي الأجواء يحتفل الناس بقدوم الليل المنفصل عن جسد البحر. على الكورنيش، العديد من المتنزهين. وفي الأمواج، اثنان أو ثلاثة يعومون عرايا، أو هكذا يخيل إلي، فضوء الموج ليس قويًّا كالموج، وصخب الموج بقوة دقات قلبي. أراقب البحر، وهو يقذف اللجين بين فخذي بالما العملاقتين، وأسمع انسحاق الزبد وصيحات الاشتياق. أرى المراكب الراسية صاعدة هابطة مع صعود الموج وهبوطه، ثم تختفي المراكب في حركة للموج متمردة. البحر هناك، هناك دومًا، هو كل شيء. وأنا، أقف وحيدًا. أنظر إليه بخوف، وأعزم على العودة إلى فندقي بسرعة ماضيًا بحانات تصدح بموسيقى (( الديسكو )). ماذا لو أدعو إليها كارمن ذات مساء؟ أتردد أمامها، وهي لا تكف عن الابتسام لي. أطلب مفتاحي، وأصعد للنوم. أما بالما، فهي لا تنام. تصلني صيحاتها، ضحكاتها، حركاتها. تودع المدينة ليلة من ليالي الصيف الذاهب مع البحر، والبحر يصلني هديره المستمر في الذهاب. نعم، الاستمرار. كل شيء يتوقف على الاستمرار، على حركة البحر التي لا تتوقف عن التقدم والتراجع الدائمين! كل شيء يتوقف على حركة الأمواج!
فجأة، أسمع كارمن، وهي تصرخ، وتشتم بالإسبانية كما لو كانت تدافع عن نفسها. يحاول رجل خنق صوتها. أستطيع فهم كلمة واحدة تتكرر عدة مرات، (( ليبرتاد )). ثم تنفجر ضوضاء تنتهي ببكاء كارمن.
في الصباح، لا تقدم كارمن لي قهوتي كالعادة، أشعر بالحزن، وأذهب إلى البحر بسرعة. أغتسل فيه دون أن أفلح في غسل حزني. ولم أرَ أبدًا كارمن.
* * *
عدت في الشتاء إلى بالما لأجد البحر، وأرى كارمن، لكني لم أرَ كارمن، ووجدت البحر يصب جام غضبه وموجه على الشاطئ المستسلم. كانت بالما مدينة ميتة، كل شيء فيها يتخثر، وكان الفندق مغلقًا، على بابه لافتة كتب عليها: يفتح في الصيف. كانت دكاكين شوارع الأرينال الضيقة المنحدرة نحو البحر مغلقة، هي أيضًا، لا أشياء الصيف الملونة على الأرصفة، ولا الفواكه الطازجة، ولا آثار الرمل. كانت علب الليل لا تغني، ولم ألتق إلا بضابط عائد من البحر... كان كل شيء يموت. في الميناء، كانت طبقات من الزيت تميد، وطبقات من النباتات الميتة، والقاذورات، وطبقات من أجنحة الطيور القتيلة. كانت المراكب راسية أو محطمة، والجبل الذي كان أخضر في الصيف، يغطيه الضباب، ويغرق في البحر بالتدريج.

بالما دي مايوركا/ أوت 1981

* من "حلمحقيقي" المجموعة القصصية الرابعة لأفنان القاسم بمناسبة نشره للأعمال الكاملة.

[email protected]



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الله والنقود
- الطفل الآتي من هناك
- حلمحقيقي
- حبيبتي في صنعاء
- حرير دمشق
- إرادة الورد
- الهامشيون
- ساعة الصفر
- على طريق دمشق
- الموت
- الأعشاش المهدومة
- الإرجاء
- الحجرة
- سوريا: ما هكذا يا رشاد أبو شاور تورد الإبل
- الانتحال
- قصة الدم
- الدم
- سوريا إلى أين؟ - الحل الثالث للشارع السوري
- ضد فتح وحماس على الشارع الفلسطيني أن يتحرك
- اتفاق فتح حماس طبخة أمريكية-إسرائيلية جديدة


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الابن والبحر