|
بركات
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 3581 - 2011 / 12 / 19 - 12:57
المحور:
الادب والفن
تذكرني به نخلة مقتلعة، أو مارد محترق، أو حجر أحمر يبني قصرًا متهدمًا في مراكش. كان بركات ينهض من التهدم منكسرًا، يكسر ألف نخلة، ويمضي، يحرق ألف مارد في زمن أتى، أو أنه سيأتي، ويمحو اللون بعد أن يوغل في الحجر. كيف أصف لقائي الأول معه؟ كأنني انتهيت من قراءة كتاب أو أنني بدأت القراءة. كنا نعرف بعضنا معرفة السطور للسطور في رواية تعرض للغربة الروحية وقصد صاحبها الغرابة، وغدونا نعرف بعضنا معرفة الصور للصور في ذاكرة المرايا الغائبة. كنتَ كثير المعرفة، وانتصرتَ لفلسفتك. لم تكن تعذبك الحياة، عذبتك الحمائم، وطفلك حاتم، وماضٍ نصفه في مصر، ونصفه الآخر في الجزائر. كان الاتفاق حولك أنك العاشق الخالد، وحول ابتسامتك أنها مجاز الساخر. طلابك أبطالك الذاهبون إلى الانتصار، وأنت تترصد الهزيمة القادمة. كنت تقول لي: - أضعت كل شيء. أبدأ الآن من الشعر الجاهلي. وكنت تبتسم، ثم كنت تقول لي: - هل سأنتهي في مراكش؟ كنت أقول لك: - تحب مراكش. - أحبها. وبعد صمت قليل، كنت تبتسم من جديد، ثم كنت تقول لي: - أحب مراكش، ومراكش لا تحبني. كانت ابتسامتك تتسع، وكنت تضيف: - هو طريقي الفاجع منذ مغادرتي الخليل. أحببت مصر، ومصر لم تحبني. أحببت دمشق، ودمشق لم تحبني. أحببت بيروت، وبيروت لم تحبني. أحببت الجزائر، والجزائر لم تحبني. أما الخليل... كنت تسكت قبل أن تضيف: - لم أحب الخليل، والخليل أحبتني. كنت أقول لك: - كنت صغيرًا. لم تبتسم هذه المرة، قلت، وأنت تغضب مني: - كنت صغيرًا، واليوم أصبحت كبيرًا. ثم ابتسمت، لكنني ظننت أنك كنت تبكي. أذكر مشاويرنا الطويلة في الغروب، كنَّا نترك مراكش من ورائنا لنذهب إلى الشعر، وإلى السياسة، وإلى الخبز. كنا نحب مديح الظل، وكنا نعجب بجرير، والمتنبي. أحببت أنا كل الشعراء، وكرهت أنت كل الساسة، فقد ظلمتك السياسة، لأنك جعلت منها فصلاً في علم الأخلاق. كنت تقول لي: - كنت واحدًا كثير النزاهة. وكنت أقول لك: - لم يكن يمكنك إلا أن تكون واحدًا كثير النزاهة، كبير المثالية، لم يكن يمكنك إلا أن تكون نفسك في السياسة، السياسة كما تراها أنت، وهذا ما كان دومًا خطأ العالم الحر والفيلسوف الشقيّ. وكنت تحتج: - أنت أيضًا تعارضني؟ أنت الآن إلى جانبهم ضدي؟ - هناك سياسة وسياسة، لكن في عصرك لم يكونوا يريدون أن يروا إلا سياسة واحدة، أو على الأقل لم يكونوا يريدون أن يروا إلا التماثل بين سياسة وسياسة، فكنت أنت الضحية، وكانوا هم الجلادين. - وأنت أيضًا، الروائي، أنت الضحية. - لأنني أرى التباين بين سياسة وسياسة، بين رواية ورواية. ابتسمتُ في مكانك، وسألتك: - هل ستغادر مراكش؟ - سنغادرها، أنا وأنت. لن أترك هؤلاء البيروقراطيين والجهلة يحيلون عن أنفسهم كل ذنوبهم على ظهرك، وكل العقد التي تكلم عنها العلماء النفسيون. أنت فنان، وإنسان حساس، وأعصابك تلفانة. - وإلى أين سنذهب؟ عندئذ، ابتسمت، ونظرت إلى الشمس. بعد قليل، تكلمت عن حبيبتك. سمعتك تقول فجأة إنك ستذهب إلى السعودية، بالطبع إذا ما قبلتك السعودية. وغضبت مني، فلم يكن بإمكاني اللحاق بك بعد آخر خطوة لي في الطريق المغربي الطويل. في اليوم التالي، ونحن في مقهى (( النهضة ))، ونحن ننظر إلى الشمس والفتيات الجالسات هناك، قلت لي: - شهرزاد لم تمت. - الآن تعرف هذا؟ - أحب الشمس والنساء في مراكش، أحب زوجتي أكثر، وأنا، لهذا، لن أتركها. شربت أنا قهوة، أنت (( سفن أب ))، وكنتَ سعيدًا كأنك تشرب نبيذًا. كنتُ أنا أيضًا سعيدًا لأنك كنتَ سعيدًا، أفكر في الشمس مثلك، وأفكر في الضباب مثلي، وفي رحلة أخرى ستبدأ في الشتاء. - هل سنفترق إذن؟ - ولكنك ستبقى، هذا البلد أسطوري! لم نر بعضنا خلال عدة أيام، ثم أتيتني في البيت على غير موعد. كانت لحيتك سوداء، فظننتك مريضًا. رميت بنفسك على كرسي، ورميت كلماتك في وجهي: - أنا شهادة عظيمة، وكرسي جامعي كبير، وماضي سياسي عريق، وليس في جيبي ثمن دواء لابني المريض! هذا البلد المفلس يطاردني ككلب، يعمل كل ما بوسعه لطردي. لهذا سأذهب. لا تتفاجأ! الحياة في السعودية ليست أهون مما هي عليه هنا، لكني هناك سأحل على الأقل مشاكلي المادية. سأصبح غنيًّا، سأصبح غبيًّا، سأسمن، سأكبر، ستتكسر أسناني، سيتحطم ظهري، سيجف مخي، سأصبح حيوانًا ككل الحيوانات الأخرى الجبانة التي تحيا بعدما نسيت أنها لا تحيا، ثم... سأموت.
19 نوفمبر 1984
* من "حلمحقيقي" المجموعة القصصية الرابعة أفنان القاسم بمناسبة نشره للأعمال الكاملة.
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأطفال يتكلمون لغة واحدة
-
أفنان القاسم يجيب على أسئلة الحوار المتمدن
-
الرسامة الصغيرة
-
العاملة التي أحبت الكاتب
-
الحزب والموسيقى
-
السيدة التي لم تقرأ الجريدة
-
لقاء الأصحاء في مستشفى هنري موندور من حول سرير أفنان القاسم
-
وقائع نشرة مكثفة عن التلفزيون الفرنسي
-
الفتاة الممنوعة
-
وحيد وجوديت
-
ناتاشا والفنان
-
العاطل عن اليأس
-
انتحار الشاعر
-
أطول ليلة في الحي اللاتيني
-
القصيدة-القصة الأولى في الأدب العربي: الإبحار على متن قارب ه
...
-
محمد حلمي الريشة وعلبة أسبرين
-
39 شارع لانكري
-
الابن والبحر
-
الله والنقود
-
الطفل الآتي من هناك
المزيد.....
-
ادباء ذي قار يستضيفون القاص محمد الكاظم للاحتفاء بمنجزه الاد
...
-
أختتــام فعاليــات مهــرجـــان بغـــداد السينمــائـــي
-
فنانون أمريكيون يدعمون جيمي كيميل.. ومتحدث يوضح لـCNN موعد ع
...
-
غزة والجزائر والكاريبي.. فرانز فانون ينبعث سينمائيا في مئويت
...
-
غزة والجزائر والكاريبي.. فرانز فانون ينبعث سينمائيا في مئويت
...
-
سفير فلسطين في بولندا: نريد ترجمة الاعتراف بدولتنا إلى انسحا
...
-
كتاب عن فرنسوا ابو سالم: شخصية محورية في المسرح الفلسطيني
-
أمجد ناصر.. طريق الشعر والنثر والسفر
-
مؤتمر بالدوحة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافي
...
-
الاحتمال صفر
المزيد.....
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|