أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميثم الجنابي - العراق وإشكالية المثلث الهمجي















المزيد.....


العراق وإشكالية المثلث الهمجي


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 1056 - 2004 / 12 / 23 - 11:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


إن الأحداث المتنوعة في العراق المعاصر، وبالأخص في مجرى العقدين الأخيرين تشير إلى واقع استفحال التجزئة الجهوية والقومية والطائفية للعراق والعراقيين. وهي قضية ينبغي مواجهتها كما هي من اجل تلافي إشكالياتها المقبلة. وبالتالي إيجاد الحلول المناسبة لها. وهي حلول ينبغي أن تنبع من إدراك الواقع كما هو، وجذورها الفعلية، وحجم المشاكل.
فالعراق يواجه من الناحية الواقعية مشاكل قومية وطائفية وجهوية. وهي مشاكل توسع حجمها في مجرى التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي رافقت حجم الخراب الذي أحدثته التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية في مختلف نواحي ومستويات الحياة في العراق. وهو الأمر الذي أعطى لهذه لمشاكل أبعادا مركبة ومتشابكة في الاجتماع والاقتصاد والسياسية والفكر والأيديولوجيا ونمط الحياة والنفسية الاجتماعية. ذلك يعني انها مشاكل مركبة وشاملة، يمكن إدراك طابعها المأساوي والمدمر من خلال الدراسات السوسيولوجية والإحصائية الدقيقة. الا أن مجرد إلقاء نظرة عامة وسريعة على سطح الأحداث والوقائع في العراق تكشف عن الطابع المريع والمعقد والشامل لهذا المشاكل. مما يفترض بدوره البحث عن حلول مركبة وشاملة أيضا. بمعنى ضرورة التفكير حولها بمعايير الرؤية الاستراتيجية. والمقصود بذلك ضرورة وضع الحلول لها حسب معايير البدائل الكبرى المتعلقة ببنية الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. فهو الثالوث الوحيد القادر على حل هذه المشاكل، كما انه الثالوث الواقعي في قدرته على تقديم الحلول الفعلية لها.
ذلك يعني إن المهمة الأساسية القائمة أمام العراق حاليا هي مهمة عمرانه الذاتي، أي بناء المكونات الجوهرية للدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. وذلك لان الخراب القائم في العراق بوصفه النتاج المباشر والغير المباشر للتوتاليتارية والدكتاتورية قد أدى من حيث الجوهر إلى سحق بنية الدولة وتشويه التركيبة الاجتماعية وهدم الهوية الوطنية للعراق. وهو الأمر الذي كان وما يزال يقوم في أساس الشرخ العميق للتجزئة الجهوية والطائفية والقومية فيه.
طبعا، إن الانقسام والتجزئة الجهوية والطائفية والقومية في العراق ظاهرة لها جذورها ومقدماتها التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وهي تجزئة كانت وما تزال تتعارض مع حقيقة هويته، بوصفها هوية ثقافية وليست عرقية. وهي حقيقة قائمة في كونه عراقً وليس تجمع أعراق. وهي هوية تبلورت في مجرى صيرورته التاريخية وكينونته الثقافية. الا انها تعرضت تاريخيا للانحلال النسبي بعد سقوط بغداد في منتصف القرن الثالث عشر حتى بداية ظهوره الجزئي الجديد في بداية القرن العشرين، أي بعد سبعة قرون من الغيبوبة والخمول.
وأدت مرحلة الغيبوبة والخمول هذه إلى تفتيت قواه الداخلية وانتشار التجزئة وإنهاك قواه الذاتية. بحيث أرجعت العراق بما في ذلك "جغرافيا" إلى ما قبل الطوفان السومري. الا انها أبقت من الناحية الشكلية على معالمه المحفورة في الذاكرة والتاريخ والجغرافيا، بوصفه موطن ووطن الساميين القدماء والجدد (العرب)، بمعنى الإبقاء على وحدة سومر وبابل ونينوى. وهي الحدود التاريخية والطبيعية الأولية، التي تشكل الأساس المادي والمعنوي لوحدة وجوده الثقافي والسياسي والقومي أيضا. بمعنى أن كل ما تشكل من مآثر وإنجازات كبرى مادية وأثرية وثقافية في تاريخ المكونات الدولتية للعراق منذ القدم هي الجزء الحيوي منه وله. وهي حقيقة رسختها تقاليد الخلافة العربية الإسلامية. وكل ما جرى بعد ذلك هو مجرد حالات عارضة لا تمت من حيث الجوهر بصلة عضوية به. مع انها لا تتعارض أساسا مع إمكانية الإقرار بنزول وعيش وتعايش مختلف الأقوام والشعوب الأخرى فيه ومعه من أكراد وأتراك وتركمان وأرمن وغيرهم.
وهنا يمكننا القول، بان حقيقة العراق وكيفية تكونه التاريخي، بوصفه هوية ثقافية وليست عرقية، هي التي جعلت وما تزال تجعل منه موطن الائتلاف الممكن والتمازج الثقافي والانفتاح الفعلي على النفس الآخرين. وهي حقيقة تاريخية يمكن تتبعها ورؤيتها في كل الإبداع النظري والعملي لتاريخ العراق الثقافي. ولم يغير من هذه الحقيقة حقبة القرون السبعة المظلمة من تاريخه التي أنهكت قواه الذاتية، واستثارت شأن كل مراحل الانحطاط، نفسية التجزئة والخلاف والشقاق. الا انها حالة تعبر عن "عفوية" الانحطاط لا عن "تخطيطها" الواعي. مع انها كانت تتضمن جزئيا بعض القصد في مختلف مراحل السيطرة العثمانية، وبالأخص في مجرى اشتداد الصراع مع الدولة الفارسية (الصفوية بالأخص) ونتائجها المتراكمة عند بداية القرن العشرين في تشكيلة الجيش والشرطة، وكذلك في البنية الاجتماعية والاقتصادية والحرفية.
فقد اعتمد الأتراك العثمانيون على "العرب السنة" في العسكر، بينما جرى محاربة واضطهاد "الشيعة". ولم يكن ذلك معزولا عن مستوى وطبيعة الصراع القائم آنذاك بين تركيا "السنية" وإيران "الشيعية". وهو تقسيم له جذوره التاريخية التي أشرت لها سابقا، لكنه تحول إلى كيان بنيوي في مجرى صيرورة الدولة العراقية الحديثة من خلال إعادة إنتاجه في المؤسسات العسكرية. وهو واقع بلغ ذروته القصوى بعد عام 1963 وصعود العسكر البعثي "السني" إلى السلطة. فقد استثمر وأستمر هذا الكيان الجزئي والمتخلف ثقافيا للعرب بنفس سياسة وممارسات الأتراك العثمانيين في الموقف من "شيعة العراق"، من خلال تقديم أنفسهم بوصفهم ممثلي "القومية العربية". وهي نفسية وممارسة وجدت تعبيرها "الخالص" في المرحلة التوتاليتارية والدكتاتورية، التي حاولت أن تستثني "الشيعة" من "العرب". وهي ممارسة ونفسية لا تمت للعروبة والعراقية بصلة، انطلاقا مما ادعوه بالهوية الثقافية للقومية العربية بشكل عام ونموج تجليها الخاص في الهوية العراقية.
إضافة لذلك، إن محاولة "إخراج" الشيعة من صف العرب لا يعني في الواقع سوى إخراج العراق من هويته التاريخية العربية الإسلامية الثقافية التي تبلورت في أول صيرورة متميزة وعالمية للخلافة. فقد تحول العراق منذ البداية الأولى للخلافة إلى موطن التشيع لحقوق آل البيت النبوي، أي لجوهر العروبة المتسامي. ومن ثم ليس التشيع في العراق سوى الصيغة الأخلاقية للعروبة المتسامية ومبدأ الدفاع عن الحق والعدالة المميزين للفكرة الإسلامية الأولى ونموذج شخصنتها التاريخي في الإمام علي بن أبي طالب.
وليس مصادفة أن يتحول العراق إلى "مرتع" التشيع ومدارسه الأولى، كما انه ليس مصادفة أن يكون محل الكراهية الشديدة والانتقام الدائم للأموية، بوصفها النموذج المتميز للاستبداد والغدر والخيانة. وهو موقع ميز العراق منذ الخلافات الأولى بدأ بحرب الجمل وانتهاء بمقتل الإمام علي وصعود الأموية إلى السلطة في الشام. كما انه موقع وجد تعبيره الدائم في طبيعة ومستوى وكيفية التعبير العربي والأخلاقي الخالص للعراق والعراقيين في مواجهة "اللقطاء" و"الخارجين عن الحق".
وليس مصادفة أن تسعى السلطة الأموية في أغلب تراثها لإثارة الكراهية العمياء تجاهه وشتمه على المنابر مع تشديد القمع ضد هذه الجرأة التي أراد معاوية فطام الناس عنها.
وفيما لو تجردنا عن مختلف أصناف التأويل المتعلق بأحداث الماضي واسقاطاتها الممكنة على الحاضر، فان حصيلتها الواقعية ومضمونها الفعلي كان قوم في أن العراقيين كانوا يتشيعون للحق والعدالة والإنسانية والمبادئ المتسامية والتسامح. ومن هنا يمكن فهم تشيعهم للإمام علي بن أبي طالب. وعلى العكس من ذلك كانت الأموية ونماذجها المتنوعة استمرارا لتقاليد الجاهلية والاستبداد، وبالتالي نموذجا لسياسة الإرهاب والمال والغدر والخديعة والخيانة. وليس مصادفة أن يجعل من "الثأر لدم" عثمان شعاره الأساسي ويعطي لكل الوسائل "شرعية" لبلوغ مرامه الخاص. بعبارة أخرى، إن التزاوج بين فكرة الثأر والدم، هو المضمون والحافر الفعلي القائم وراء هذه المواقف والأعمال. وهي مكونات غريزية ليس لها علاقة بفكرة النظام والبناء والحقيقة والحق. لأنها لا تنتج في نهاية المطاف سوى دورة الثأر والقتل، بوصفها الصفة الجوهرية المميزة لآلية الاستبداد ونفسيته الفردية والجماعية. فعندما استنهض معاوية أهل الشام وأقنعهم بمساندته، فإنهم أجابوه قائلين "هو ابن عمك، وأنت وليه، ونحن الطالبون معك بدمه". وهي نفس العبارات التي كانت تميز سلوك العائلة الصدامية في القول والفعل والعبارة "للأخذ بالثأر" من الآخرين أيا كانوا. وهي نفسية تنظر إلى كل القيم من زاوية الانتماء الضيق المبني على أولوية الغريزة الخشنة. مما يفقد القيم مضمونها الفعلي وتصبح المواقف والتقييمات توابع للنزوات والمصالح الأنانية. ومن ثم تفقد الوحدة الاجتماعية والقومية والإنسانية مضمونها الطبيعي والحقيقي. وليس مصادفة على سبيل المثال، أن يصف معاوية أهل العراق (الشيعة) بالأوباش والغوغاء. وكتب في إحدى رسائله إلى الإمام علي يقول "وأصبحت تعد نفسك قويا على من عاداك بطغام أهل الحجاز وأوباش أهل العراق وحمقى الفسطاط وغوغاء السواد". وهي ذات العبارة والأوصاف التي أطلقها صدام وأعوانه على أهل العراق (الشيعة) عندما وصفهم بالغوغاء والخيانة والغدر. وهي أوصاف تشير من حيث الجوهر إلى أن القوى القائمة وراءها هي نفس القوى، أي قوى الغدر والخيانة والرامية للاستبداد وتقاليد الثأر والدم والقتل والاستئثار، التي لا يربطها بحقيقة العراق شيئا. ومن ثم ليس "المثلث الهمجي" في العراق المعاصر سوى "مثلث الأموية" القديم من حيث الرؤية والمواقف والنفسية والغاية.
إن محاولة إفراز وتشخيص وتوصيف المناطق الجغرافية من العراق التي أسندت سياسيا وتنظيميا التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية بعبارة "المثلث السنّي" ليس لها علاقة "بالسّنة" كما هي. وذلك لان فكرة السّنة والشيعة في العراق هي ليست طائفية بالمعنى التقليدي، كما انها ليست جغرافية على الإطلاق. فمن الناحية الجغرافية كان العراق وما يزال يقسم إلى مناطق الشمال والوسط والجنوب، ثم ظهرت قسمة العرب والأكراد، وأخيرا قسمة الأكراد والسنة والشيعة. وهي تقسيمات لها بعض أسسها الواقعية، الا انها كانت وما تزال مفتعلة من حيث رفعها إلى مصاف "الهويات" المتميزة. والاستثناء الوحيد هنا هو للقومية الكردية من حيث هي قومية وليس من حيث هي جغرافيا. بينما لا معنى ولا اصل ولا جذر ولا حقيقة لقسمة العرب إلى سّنة وشيعة. فهي قسمة دينية مذهبية يمكن أن تحتوي على مختلف القوميات كما يمكنها أن تحدث داخل كل قومية لحالها. وهي قضية تاريخية ولاهوتية إسلامية أولا وقبل كل شئ. وبهذا المعنى فإنها قابلة للحل ضمن التطور الفكري والعقائدي والثقافي للإسلام والحركات الإسلامية المعاصرة.
إن عرب العراق هم هوية واحدة في الجوهر. وهم اصل العراق وجذره، كما انهم كينونته التاريخية والثقافية ومظهر وجوده الفعلي. وهي معادلة تفترض إدراك الحقيقة القائلة، بان القسمة الوحيدة الممكنة من الناحية القومية في العراق هي قسمة العرب والآشوريين والأكراد والتركمان. وهي قسمة قابلة للنفي بفكرة الاستعراق. وهي الحقيقة التي تشكل صلب الهوية العراقية التي جرى انتهاكها وخلخلتها سياسيا من جانب التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. فقد أدت سياسة هذا المسخ إلى تجزئة مفتعلة في الكينونة العراقية، وجدت انعكاسها في المزاوجة الفجة والموازاة المسطحة للجغرافي والقومي والطائفي في التقييم والتصنيف. بحيث أخذنا بسماع ما يسمى بالمثلث الشيعي والمثلث السني والمثلث الكردي.
وبغض النظر عن كل التفريعات والاعتراضات الممكنة لهذه التقسيمات في العراق المعاصر، الا انها تشير جميعا إلى مستوى الانحطاط والتخلف الذي أصاب البنية الاجتماعية للعراق من جهة، والى تصدع الفكرة الوطنية العراقية من جهة أخرى. الا انه انحطاط وتصدع قابل للرأب. وذلك لأنهما نتاج لحالة سياسية أولا وقبل كل شئ، بلغت ذروتها في سياسة التوتاليتارية والدكتاتورية المقبورة. وقد أشرت سابقا إلى تاريخ الانقسام الديني والطائفي في العراق بوصفه جزءا من بقايا الانحطاط السياسي الذي تعرض له العراق منذ سقوط بغداد. وبالتالي لم يكن هذا التقسيم والخلاف (النسبي) سوى النتاج الملازم لافتقاد العراق إلى وحدة تاريخه السياسي والاجتماعي. غير أن استفراد هذا "القسم" من واقع وتاريخ وحقيقة وهوية العراق الثقافية "بحق" تمثيل العروبة، هو الذي أدى في نهاية المطاف إلى ظهور ما يسمى "بالمثلث السنّي" في العراق. إذ لا يوجد في العراق "مثلثا" "سنيّا" لا بالمعنى الجغرافي ولا بالمعنى الثقافي ولا بالمعنى الطائفي، كما لا يوجد "مثلثا" "شيعيا" فيه لا بالمعنى الجغرافي ولا بالمعنى الثقافي ولا بالمعنى الطائفي. فكلاهما "مثلثا" التخلف والانحطاط، الذي يمكن وصفه "بالمثلث الهمجي" في التاريخ العراقي المعاصر. وهو "مثلث" فعلي وقائم بذاته وله حدوده الخاصة به التي جرى "أد لجتها" و"دمجها" في "بنية السلطة" الدكتاتورية للتوتاليتارية البعثية.
إذ لم يكن "المثلث السني" في الواقع سوى أسلوب نقل التجزئة المميزة لمرحلة الانحطاط إلى مصاف الجغرافيا السياسية للعراق. وهو أسلوب ابرز أبعاد هذا "المثلث" بعد سقوط الدكتاتورية. أما مضمونه السياسي فقد ظهر بصورة ناتئة للمرة الأولى بعد ما يسمى بالانتفاضة الشعبانية. حيث ظهرت وتبلورت للمرة الأولى بصريح العبارة مفاهيم مثل "محافظات الغدر والخيانة" و"محافظات الوفاء". ومفاهيم "الغوغاء" و"الأبطال". حيث تجسدت هنا للمرة الأولى في تاريخ العراق السياسي نفسية وذهنية الانتقام، التي تجلت فيها بصورة لا تقبل الجدل معالم "المثلث الهمجي". ووجد ذلك انعكاسه في تخريب المدن والقرى والأرياف وتجفيف الأراضي والأنهار والاهوار والمقابر الجماعية والتهجير والترحيل والتشريد والقتل والتعسف والإعدام والاستخفاف الكامل بكل شئ. وهي ممارسة كانت النتاج الملازم لمفاهيم تجزئة العراق جغرافيا وسياسيا وأخلاقيا. وهي تجزئة ليس لها مثال في تاريخ العراق، باستثناء المراحل القذرة من تاريخ الاستبداد الأموي، الذي كان يختار أقسى الطغاة وعتاة القتلة من اجل "فطم" "أوباش العراق" و"غوغاء السواد" و"أهل الشقاق والنفاق" من تراث الدفاع عن الحق والإخلاص للمبادئ المتسامية.
لقد جسد "المثلث الهمجي" تاريخ الهمجية السياسية، عبر مطابقته الجغرافيا مع السياسة والقيم الأخلاقية. بينما كشفت وبرهنت الأحداث الفعلية في مجرى الحرب الأخيرة وسقوط الدكتاتورية وما بعدها أيضا، بما في ذلك على لسان "العائلة المتسلطة" نفسها، من أن "الخيانة" كانت تجري بين صفوف الطغمة الحاكمة والعائلات المرتبطة بها. وهو أمر طبيعي، لأنها كانت في الواقع مصدر ومرتع وينبوع الخيانة التاريخية لحقيقة الهوية الوطنية للعراق ومصالحه الكبرى. أما محاولات البعض للمطابقة بين ما يسمى "بالمثلث السنّي" و"مثلث المقاومة"، فهو استهزاء بالتاريخ والواقع والقيم. ولا تتعدى من حيث حوافزها الواعية وغير الواعية سوى الاستعادة القذرة للمطابقة بين الجغرافيا والسياسة والقيم بنفس الطريقة التي ميزت مرحلة الانحطاط والدكتاتورية الصدامية. إذ ليست هذه المطابقة في الواقع سوى الصيغة المبطنة للاتهام الباطل والتشكيك الوسخ بعروبة "الشيعة" ووطنيتهم، كما انها الصيغة غير الواعية لاستعادة نفسية وذهنية التخلف والانحطاط المميزة لمرحلة القرون المظلمة من تاريخ العراق. فهي مطابقة لا تمثل في الواقع سوى لاستمرار الفعلي لتاريخ الهمجية في تاريخ العراق. وذلك لان مضمون المقاومة ينبغي أن يجيب أولا وقبل كل شي على أسئلة أساسية وهي مقاومة ضد من؟ ومع من؟ ولأجل من؟ وما هي غايتها؟
"فالمقاومة" الحالية ليست ضد "الاحتلال" بقدر ما هي طلقات يائسة من قوى تميزت تاريخيا بالانتماء والانضمام الكامل لأجهزة القمع والإرهاب الشامل والسافر ضد الشعب العراقي بكل أطيافه ومكوناته. وهي ليست حليفة للمجتمع المدني والديمقراطية والشرعية وذلك لأنها لا تستند إلى قوى شعبية عراقية. كما انها لا تشترك بصورة عقلانية وفعالة في الصراع السياسي من اجل إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. وأخيرا لا يمكن لغايتها النهائية أن تتعدى الأوهام بإمكانية إرجاع التوتاليتارية والدكتاتورية، ومن ثم استعادة امتيازاتها المطلقة واستباحتها الهمجية للعراق. كل ذلك يؤدي بنا للقول، بان هذا "المثلث" ما هو الا نموذج وأسلوب الخروج على حقيقة الهوية الوطنية العراقية. وبالتالي فهو "مثلث" الخروج على الهوية الثقافية للعراق. كما انه "مثلث" الخروج على حقيقة الهوية العراقية، وبالتالي فهو "مثلث" الخروج على القومية العربية. كما انه "مثلث" الخروج على حقيقة الهوية الإسلامية، وذلك لمحاولاته المطابقة بين الإسلام وانتمائه الجغرافي – السياسي – الطائفي. وبالتالي فهو "مثلث الردة".
والخطورة الكبرى لهذا "المثلث الهمجي" تقوم في إمكانية توليده "نقيضه" المباشر في "التشيع"، أو بصورة أدق نقيضه المكمل. حينذاك يكون العراق فريسة للتركية العثمانية والإيرانية الفارسية، أي "للأعداء التاريخيين". وهو عداء مفتعل أيضا لأنه لا يمت من حيث الجوهر لحقيقة الإسلام ولا لحقيقة المصالح القومية الفعلية للإيرانيين والأتراك. كل ذلك يضع أمامنا مهمة إدراك الحقيقة التالية، وهي أن الإشكالية الفعلية في العراق لا تقوم في "جغرافية" الخلاف والصراع، مع انه واقع له أثره في السياسة والاقتصاد والتاريخ والثقافة، بل في نوعية الخلاف المتعلق ببنية الدولة والمجتمع والثقافة وآفاق التطور الاجتماعي والاقتصادي. وبالتالي، فان المهمة الكبرى القائمة أمام القوى السياسية العراقية، والعربية منها بالأخص، تقوم في تحويل هذا الخلاف الواقعي إلى جزء من معترك المجتمع المدني وقواه السياسية. أي جعله جزء من صناعة المجتمع المدني وبالتالي تذليل عقدة الجغرافيا الجهوية في المواقف من اجل جعل العراق جغرافية موحدة، الخلاف الجوهري الممكن فيها بين "مثلث الهمجية" وثالوث النظام الشرعي والديمقراطية والمجتمع المدني. وذلك لان المصير المحتوم لانحدار الرؤية السياسية إلى مستوى الجغرافيا "الطائفية" هو الصنع الدائم لمختلف أنواع وأنماط وأصناف الهمجية.
إن المشكلة الفعلية القائمة أمام العراق لا تقوم في هذا "المثلث" أو ذاك، بل في بنية الدولة ومؤسساتها. ومن ثم فان الأسلوب الوحيد الواقعي والعقلاني لتذليل " مثلث الهمجية" هو تذليل جميع أشكال وأنواع وأنماط الهمجية في العراق. وفي هذا الإطار ليس هناك من أدوات واقعية وعقلانية غير إقامة دولة الحقوق والمؤسسات والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني ومجتمع العمل لا الجيش والشرطة والمؤسسات القمعية. وبالتالي إدراج الجميع في العمل والإنتاج والمعرفة والعلم والثقافة، عبر نقل "مثلث الهمجية" من تقاليد ونفسية البنية القمعية إلى مؤسسات العمل والإبداع. فهو الأسلوب القادر على دمج مختلف شرائح المجتمع وقواه الاجتماعية والسياسية والفكرية في حركة واعية "للمصالحة الوطنية" الفعلية. وهي عملية ممكنة من خلال تعلم الجميع حقائق ما كانت تدعوه تقاليد الإسلام بالتوبة النصوح وما يدعوه الفكر السياسي الدنيوي بالنقد الذاتي، أي ضرورة الجمع بين النقد الأخلاقي والسياسي لتجارب العراق المعاصر بشكل عام وتجارب الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والفكرية بشكل خاص، على أن يكون التسلسل في هذه التوبة وهذا النقد الذاتي بشكل محاسبة وطنية وصريحة وملموسة لكل طرف من أطراف "الخطيئة": محاسبة صدام، ثم محاسبة العائلة الصدامية، ثم تكريت، ثم "المثلث السني"، ثم محاسبة العراق ككل.
كل ذلك من اجل أن يكون "التشيع" و"التسنن" و"التقومن" للعراق ومصالحه الكبرى من خلال بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. انه أسلوب القضاء على "مثلث الهمجية" في العراق، بوصفه تركيبة ونمطا للتفكير والعمل والمواقف المخربة تجاه الإشكاليات الكبرى التي يواجهها حاليا في محاولاته معاصرة المستقبل وتذليل عقباتها
*** *** **



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القضية الكردية وإشكاليات الوطنية العراقية
- العراق وعقدة الطائفية السياسية
- الغلاة الجدد وأيدبولوجية الإرهاب المقدس
- زمن السلطة
- الطريق المسدود للمؤقتين الجدد
- المثقف والسلطة، أو إشكالية القوة والروح المبدع
- السلام القومي والمصالحة الوطنية في العراق
- المؤقتون القدماء والجدد
- المعارضة والمقاومة – المفهوم والغاية
- الإرهاب والمخاض التاريخي للحرية في العراق
- المهمة التاريخية للمثقف العراقي
- علماء السوء – التدين المفتعل والسياسة المغامرة
- تأجيل الانتخابات ونفسية المصلحة السياسية
- معارك المدن العراقية - الأبعاد الوطنية والاجتماعية
- تأجيل الانتخابات أم تأصيل المغامرات
- خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طالع الشمس ما يغنيك عن زحل
- أدب التصوف
- اسلام الشرق و الشرق الاسلامي


المزيد.....




- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...
- زاخاروفا: إستونيا تتجه إلى-نظام شمولي-
- الإعلام الحربي في حزب الله اللبناني ينشر ملخص عملياته خلال ا ...
- الدرك المغربي يطلق النار على كلب لإنقاذ فتاة قاصر مختطفة
- تنديد فلسطيني بالفيتو الأمريكي
- أردوغان ينتقد الفيتو الأمريكي
- كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي
- تظاهرات بمحيط سفارة إسرائيل في عمان


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميثم الجنابي - العراق وإشكالية المثلث الهمجي