أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - المثقف والسلطة، أو إشكالية القوة والروح المبدع















المزيد.....


المثقف والسلطة، أو إشكالية القوة والروح المبدع


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 1049 - 2004 / 12 / 16 - 11:38
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لقد قيل قديما بان المنطق هو سبب المعضلات والمشاكل. وهي حقيقة! غير أن غيابه هو مشكلة اكبر! وقد تكون هذه المفارقة هي ذاتها التي كانت وسوف تبقى سر الخلاف الجوهري بين المثقف والسلطة، مع أن كل منهما يسعى للسيطرة ولكن بطريقته الخاصة. فالسلطة تسعى للاستحكام والتسلط بأدوات القوة والبطش والمال والفكر أيضا، بينما يسعى المثقف لتحكيم قواه في المجتمع والدولة والأفراد من خلال قيم الحرية في القول والفعل والفكر. وهو خلاف طبيعي ينبع من مقدمات وغايات كل منهما. ذلك يعني انه خلاف طبيعي، تماما بالقدر الذي يفترض كل منهما الآخر بوصفهما الأقطاب الضرورية لوجود الدولة ومؤسساتها والمجتمع وأفراده.
فالمثقف والسلطة كالهواء والنار يلازم كل منهما الآخر زمن الحريق وإطفائه. إنهما يتلازمان في الضرورة والوجود. وهو المصير الذي يحكم مواجهتهما الدائمة بوصف الأسلوب الطبيعي لوجود كل منهما. فانسياق المثقف تحت عباءة السلطة أيا كان نوعها يؤدي في نهاية المطاف إلى ابتذال كل ما يقوم به. مع ما يترتب على ذلك بالضرورة من فقدان روحه الحقيقي. حينذاك يكف المثقف عن أن يكون روحا. بينما لا يمكن حد حقيقة المثقف بدونه.
فالمثقف الحقيقي روح لان مصدر إبداعه وغايته الحق والجمال والخير. وهي فضائل تكون مضمون الاتساق الطبيعي والواجب في الأشياء والأفعال، أي مصدر التجانس الفاعل في الوجود. وهو اتساق لا يصنع نسبه المثلى في الواقع سوى المثقف الأصيل.
ليس المقصود بالمثقف من يحترف الكتابة والمخاطبة أو تعلمهما لسبب ما خارج عن طبيعتهما بوصفهما أدوات بلوغ الحق والحقيقة، أو ما أسمته الثقافة الإسلامية بروح الإخلاص لليقين، أي روح الإخلاص للمطلق. وهو إخلاص لا يمكنه أن يتناهى لعدم تناهي المطلق من حيث الشكل والصورة والمضمون. فالمثقف يبدع المطلق بالقدر الذي يكون المطلق مصدر وغاية وجوده الحق. وهي خاصة تجعل من الممكن وصف المثقف الحقيقي بالشخص الذي يتنقى من رواسب البشرية!
ولا يعني النقاء من رواسب البشرية هنا التجرد من المكون الطبيعي والغريزي للإنسان، بقدر ما يعني التجرد من العبودية لأية سلطة باستثناء سلطة الحق والحقيقة. وهو الأمر الذي يجعل منه بالضرورة متمردا على كل الحدود المفروضة من الداخل أو الخارج. بمعنى بلوغه حقيقة الحرية في الهاجس والرؤية العقلية والحدس الإبداعي. وهي حالة تكف فيها القيود عن أن تكون معضلة بقدر ما تتحول إلى أحجار على قارعة الطريق يمكن رصفها في أرصفته بالشكل التي تجعل منها طرقات إضافية للسير في طريق الآلام والأفراح.
إن مهمة المثقف لا تقوم في صنع الأعداء أو توهمهم أو إخراجهم إلى حيز النور من اجل المبارزة والانتقام. فهي المهمة الخاصة لرجال المباحث والأجهزة القمعية. إن مهمة المثقف تقوم في مواجهة الأعماق الدفينة للنفس الإنسانية الفاعلة بمعايير الجسد والغريزة. وهي مواجهة لا يمكنها السقوط في وحل العداوة والانتقام. على العكس! أنها تنظر إلى الوجود بمعايير الرؤية النقدية المتسامية. بمعنى أنها تنظر إلى الوجود بالشكل الذي يجعل من كل ما فيه مادة لبناء التجانس الإنساني. فهو الأسلوب الذي يجنب المثقف من السقوط في أوهام المواجهة الراديكالية مع الواقع. ومن ثم يحرره من وهم الانتماء الضيق لجهة أو حزب أو طرف ما، ويرفعه في نفس الوقت إلى مصاف الرؤية الإنسانية المتسامية، أي الرؤية التي تعمل أولا وقبل كل شئ على تنقيه روحه المبدع، بوصفه الأسلوب الأمثل لإنتاج الجميل.
إن إنتاج الجميل هو أسلوب تمثل حقائق الوجود بالشكل الذي يجعلها متناسقة في إبداعه الخاص. بمعنى إعادة إنتاجها بالشكل الذي يجعلها قادرة على إعادة ترتيب وبناء الوعي الثقافي حسب معايير النزعة الإنسانية واجتهادها الدائم. وهي حالة ممكنة فقط عندما يرتقي المثقف إلى مصاف العمل بمقاييس ومعايير الخيال المبدع.
فالخيال المبدع هو حقيقة المثقف. لان الخيال المبدع هو القوة القادرة على رفعه إلى مصاف المجرد والمتسامي ومن ثم التحرر من العبودية لأية سلطة خارجية. وإذا كان العرف عادة ما يربط السلطة بالقوة السياسية التي تتمثل كيان الدولة، فلأنها القوة التي استحوذت على عقول وقلوب وضمائر المجتمع ككل. وهو انحراف مشين أهان حقيقة الدولة والمجتمع والقلوب والضمائر والعقول. وهو الأمر الذي يجعل من مهمة المثقف الكبرى إعادة الاعتبار لمكونات الوجود الروحي للفرد والمجتمع، لاسيما وأنه لا توجد قوة غيره قادرة على تحقيق هذه المهمة. وذلك لأنه الوحيد القادر على الفعل بمعايير ومقاييس الروح المبدع، أي بالمعايير والمقاييس الملازمة لخياله الخاص. ولا يعني الخيال الخاص هنا سوى المقدرة الذاتية للمثقف للفعل حسب استعداده الشخصي. بمعنى العمل حسب مقدار الأنا الحقيقية فيه.
فالإبداع الحقيقي هو إبداع الأنا، والخيال المبدع هو خيال الأنا. وهي حصيلة تعطي للمثقف حرية لا يمكن لكل سلطة أن تحدها. بمعنى استحالة فرض قيود عليها غير تلك التي تتراكم في نسق الإبداع نفسه أو التجانس الذي يلائم حسه وعقله وحدسه، أو بيانه وعرفانه وتذوقه لمجريات الأمور والأحداث والشخصيات والمشاكل والقضايا والإشكاليات.، أي لكل ما يكوّن مجرى الصيرورة التاريخية للثقافة. وهي صيرورة تشكل مضمون ما ينبغي تمثله من حقائق كبرى وإعادة إنتاجها في إبداعه الفردي.
فالتاريخ هو الصيرورة العامة للدولة والأمة والثقافة. وكل مكون فيها هو القدر الطبيعي لحملته. فالدولة لرجل السياسة، والأمة لمرجعياتها الروحية والثقافية، والثقافة لمبدعيها. وهي مكونات مترابطة، إلا أن ما يميز المثقف فيها كونه الوحيد القادر على صنع عوالم خيالها المبدع. فهو الوحيد الذي يتمتع من بينها بخصوصية قادرة على تجاوز حدود الآخرين. فرجل السلطة مقيد برؤية المصالح الآنية والنظر إلى آفاقها. بينما المرجعيات الروحية والثقافية هي الآلية التي تحكم بوعي وبدون وعي المسار العام والخاص لوعي الذات التاريخي للامة. أما المثقف فهو الوحيد الذي يربط في كيانه وكينونته وحدة الماضي والحاضر والمستقبل بوصفها جزء من إبداع الحرية.
إن إبداع الثقافة هو المضمون الروحي لإعادة إنتاج وتفعيل المرجعيات الكبرى للامة. وهو الامر الذي يجعل من المثقف ملهما أساسيا لوعي الذات القومي في مختلف تجلياته. ويجعل منه بالتالي القوة المنتجة لتاريخ الفكر، أي تاريخ الحقيقة. وهو التاريخ الوحيد القادر على الحياة والفعل. وفيه يكمن أحد مصادر الإبداع غير المتناهي لترتيب ما يمكن دعوته بسلسلة اليقين الضرورية للإبداع الحر. فالحرية هي سلسلة تربط حلقات الإبداع الحر. أنها تلزم المثقف وتقهره على الانتماء غير المحدود لمصالحها الكبرى. ومن ثم تجبره على الفعل بوصفها حريته الخاصة. وهي جدلية تؤجج فيه على الدوام مشاعر الانتماء الحقيقي لمرجعيات الأمة ومصالحها، وتضعه في الوقت نفسه أمام لهيب بلاءها الدائم. وهو الأمر الذي يفسر سر معاناته الفعلية وسموه الفعلي في سماء الثقافة وأدغال وعيها التاريخي.
فالمثقف الحقيقي هو العنصر الجوهري في تاريخ وعي الذات القومي والاجتماعي والسياسي والروحي. وهي المكونات الأربعة الضرورية لتكامل الأمة والثقافة. إذ لا يمكن تصور وعي الذات القومي بدون الدور الذي يلعبه المثقف على حلبة وجودها التاريخي سواء من خلال تأسيس مرجعياتها الروحية والثقافية أو من خلال اجتهاده الحر في كشف فضائلها ورذائلها. وهو ذات الدور الذي يجسده في مواقفه الاجتماعية. فالمثقف الحقيقي هو موقف اجتماعي دائم. وفي هذا يكمن مضمون وظيفته السياسية. فهو يؤثر فيها من خلال إبداعه الحر ومواقفه الاجتماعية. انه يصنع ويؤسس المضمون الاجتماعي للسياسة عبر وضعه الدائم على ميزان الحكم الأخلاقي والجمالي.
ومن كل هذه الحصيلة تتشكل مأثرته الروحية أمام الدولة والأمة والثقافة. وفي هذا تكمن أيضا مخاطرته الحياتية. فهو القوة التي ترهب السلطة، كما انه السلطة التي ترهب القوة. وهي الدورة التي تصنع المثقف الحقيقي والثقافة الحية. بمعنى صنعها المرجعية القائلة بضرورة البقاء ضمن الحيز الاجتماعي الملتهب في السياسة والابتعاد النسبي عن سلطة الدولة. وهي معادلة لا تعني بالنسبة للمثقف سوى الحفاظ الدائم على حريته التامة في معترك التأسيس الثقافي للإشكاليات التي تواجهها الدولة والأمة. إذ ليس هناك من قوة لا تعترف بالسلطة كالمثقف والثقافة، كما انه ليس هناك من سلطة أقوى من سلطة الثقافة والمثقف. وهي مفارقة تعيها السلطة دوما بينما يجهلها المثقف غالبا. وهي الثغرة التي تتغلغل منها السلطة الغاشمة وفيها تعبث أيضا السلطة الديمقراطية. وكلاهما يلتقيان من حيث النية والغاية. بينما تقوم النية المفترضة للمثقف في بلوغ تمثيل الحقيقة ومن خلال تمثيل الحق. لا بمعنى وضع نفسه محل السلطة، بقدر ما يعني إجبار السلطة على تمثل حقيقة المصالح الجوهرية للمجتمع والدولة. بمعنى إجبارها على رفع المصلحة العليا للامة إلى مصاف الحق. وهي معادلة ممكنة التحقيق. وذلك لان المضمون الحقيقي للسلطة يقوم في تمثل وتمثيل المصالح العليا للمجتمع والأمة، بينما حقيقة الثقافة تقوم في تمثل الحقيقة نفسها. فإذا كانت حقيقة السلطة تقوم في تمثل المصالح الجوهرية للمجتمع بمعنى تمثل الحق بمعايير المصلحة، فان حقيقة المثقف تقوم في تمثل المصالح نفسها ولكن بمعايير الحقيقة. وهو المجال الذي يمكن أن تلتقي فيه "مصالح" السلطة والمثقف، والدولة والثقافة.
وفي هذا المجال تبرز القيمة التاريخية الكبرى للثقافة والمثقف في الظروف الحالية. فالسؤال الجوهري المتعلق بإمكانية وكيفية تحقيق هذه المهمة في الظروف الحالية هو معيار ومحك الثقافة والمثقف أنفسهما. وإذا كان من الصعب الإجابة عليه الآن بصورة قاطعة بسبب تناقض الواقع الاجتماعي والسياسي والوطني العام، فإن مرجعيته الكبرى جلية للغاية. إنها تقوم كما هو الحال في كل ظرف تاريخي مهما تعقد، في تمثل تاريخ الإخلاص، وتاريخ الحق، وتاريخ الحقيقة. فهو الثالوث الوحيد القادر على صياغة ما أسميته بمرجعية المثقف والثقافة الخاصة في وحدة الحق والحقيقة وتجسيدها الدائم في وحدة العلم والعمل. بمعنى أن يكون وجوده وجدانا دائما لما يفتقده المجتمع والدولة والأمة.
***


أو إشكالية القوة والروح المبدع

ميثم الجنابي


لقد قيل قديما بان المنطق هو سبب المعضلات والمشاكل. وهي حقيقة! غير أن غيابه هو مشكلة اكبر! وقد تكون هذه المفارقة هي ذاتها التي كانت وسوف تبقى سر الخلاف الجوهري بين المثقف والسلطة، مع أن كل منهما يسعى للسيطرة ولكن بطريقته الخاصة. فالسلطة تسعى للاستحكام والتسلط بأدوات القوة والبطش والمال والفكر أيضا، بينما يسعى المثقف لتحكيم قواه في المجتمع والدولة والأفراد من خلال قيم الحرية في القول والفعل والفكر. وهو خلاف طبيعي ينبع من مقدمات وغايات كل منهما. ذلك يعني انه خلاف طبيعي، تماما بالقدر الذي يفترض كل منهما الآخر بوصفهما الأقطاب الضرورية لوجود الدولة ومؤسساتها والمجتمع وأفراده.
فالمثقف والسلطة كالهواء والنار يلازم كل منهما الآخر زمن الحريق وإطفائه. إنهما يتلازمان في الضرورة والوجود. وهو المصير الذي يحكم مواجهتهما الدائمة بوصف الأسلوب الطبيعي لوجود كل منهما. فانسياق المثقف تحت عباءة السلطة أيا كان نوعها يؤدي في نهاية المطاف إلى ابتذال كل ما يقوم به. مع ما يترتب على ذلك بالضرورة من فقدان روحه الحقيقي. حينذاك يكف المثقف عن أن يكون روحا. بينما لا يمكن حد حقيقة المثقف بدونه.
فالمثقف الحقيقي روح لان مصدر إبداعه وغايته الحق والجمال والخير. وهي فضائل تكون مضمون الاتساق الطبيعي والواجب في الأشياء والأفعال، أي مصدر التجانس الفاعل في الوجود. وهو اتساق لا يصنع نسبه المثلى في الواقع سوى المثقف الأصيل.
ليس المقصود بالمثقف من يحترف الكتابة والمخاطبة أو تعلمهما لسبب ما خارج عن طبيعتهما بوصفهما أدوات بلوغ الحق والحقيقة، أو ما أسمته الثقافة الإسلامية بروح الإخلاص لليقين، أي روح الإخلاص للمطلق. وهو إخلاص لا يمكنه أن يتناهى لعدم تناهي المطلق من حيث الشكل والصورة والمضمون. فالمثقف يبدع المطلق بالقدر الذي يكون المطلق مصدر وغاية وجوده الحق. وهي خاصة تجعل من الممكن وصف المثقف الحقيقي بالشخص الذي يتنقى من رواسب البشرية!
ولا يعني النقاء من رواسب البشرية هنا التجرد من المكون الطبيعي والغريزي للإنسان، بقدر ما يعني التجرد من العبودية لأية سلطة باستثناء سلطة الحق والحقيقة. وهو الأمر الذي يجعل منه بالضرورة متمردا على كل الحدود المفروضة من الداخل أو الخارج. بمعنى بلوغه حقيقة الحرية في الهاجس والرؤية العقلية والحدس الإبداعي. وهي حالة تكف فيها القيود عن أن تكون معضلة بقدر ما تتحول إلى أحجار على قارعة الطريق يمكن رصفها في أرصفته بالشكل التي تجعل منها طرقات إضافية للسير في طريق الآلام والأفراح.
إن مهمة المثقف لا تقوم في صنع الأعداء أو توهمهم أو إخراجهم إلى حيز النور من اجل المبارزة والانتقام. فهي المهمة الخاصة لرجال المباحث والأجهزة القمعية. إن مهمة المثقف تقوم في مواجهة الأعماق الدفينة للنفس الإنسانية الفاعلة بمعايير الجسد والغريزة. وهي مواجهة لا يمكنها السقوط في وحل العداوة والانتقام. على العكس! أنها تنظر إلى الوجود بمعايير الرؤية النقدية المتسامية. بمعنى أنها تنظر إلى الوجود بالشكل الذي يجعل من كل ما فيه مادة لبناء التجانس الإنساني. فهو الأسلوب الذي يجنب المثقف من السقوط في أوهام المواجهة الراديكالية مع الواقع. ومن ثم يحرره من وهم الانتماء الضيق لجهة أو حزب أو طرف ما، ويرفعه في نفس الوقت إلى مصاف الرؤية الإنسانية المتسامية، أي الرؤية التي تعمل أولا وقبل كل شئ على تنقيه روحه المبدع، بوصفه الأسلوب الأمثل لإنتاج الجميل.
إن إنتاج الجميل هو أسلوب تمثل حقائق الوجود بالشكل الذي يجعلها متناسقة في إبداعه الخاص. بمعنى إعادة إنتاجها بالشكل الذي يجعلها قادرة على إعادة ترتيب وبناء الوعي الثقافي حسب معايير النزعة الإنسانية واجتهادها الدائم. وهي حالة ممكنة فقط عندما يرتقي المثقف إلى مصاف العمل بمقاييس ومعايير الخيال المبدع.
فالخيال المبدع هو حقيقة المثقف. لان الخيال المبدع هو القوة القادرة على رفعه إلى مصاف المجرد والمتسامي ومن ثم التحرر من العبودية لأية سلطة خارجية. وإذا كان العرف عادة ما يربط السلطة بالقوة السياسية التي تتمثل كيان الدولة، فلأنها القوة التي استحوذت على عقول وقلوب وضمائر المجتمع ككل. وهو انحراف مشين أهان حقيقة الدولة والمجتمع والقلوب والضمائر والعقول. وهو الأمر الذي يجعل من مهمة المثقف الكبرى إعادة الاعتبار لمكونات الوجود الروحي للفرد والمجتمع، لاسيما وأنه لا توجد قوة غيره قادرة على تحقيق هذه المهمة. وذلك لأنه الوحيد القادر على الفعل بمعايير ومقاييس الروح المبدع، أي بالمعايير والمقاييس الملازمة لخياله الخاص. ولا يعني الخيال الخاص هنا سوى المقدرة الذاتية للمثقف للفعل حسب استعداده الشخصي. بمعنى العمل حسب مقدار الأنا الحقيقية فيه.
فالإبداع الحقيقي هو إبداع الأنا، والخيال المبدع هو خيال الأنا. وهي حصيلة تعطي للمثقف حرية لا يمكن لكل سلطة أن تحدها. بمعنى استحالة فرض قيود عليها غير تلك التي تتراكم في نسق الإبداع نفسه أو التجانس الذي يلائم حسه وعقله وحدسه، أو بيانه وعرفانه وتذوقه لمجريات الأمور والأحداث والشخصيات والمشاكل والقضايا والإشكاليات.، أي لكل ما يكوّن مجرى الصيرورة التاريخية للثقافة. وهي صيرورة تشكل مضمون ما ينبغي تمثله من حقائق كبرى وإعادة إنتاجها في إبداعه الفردي.
فالتاريخ هو الصيرورة العامة للدولة والأمة والثقافة. وكل مكون فيها هو القدر الطبيعي لحملته. فالدولة لرجل السياسة، والأمة لمرجعياتها الروحية والثقافية، والثقافة لمبدعيها. وهي مكونات مترابطة، إلا أن ما يميز المثقف فيها كونه الوحيد القادر على صنع عوالم خيالها المبدع. فهو الوحيد الذي يتمتع من بينها بخصوصية قادرة على تجاوز حدود الآخرين. فرجل السلطة مقيد برؤية المصالح الآنية والنظر إلى آفاقها. بينما المرجعيات الروحية والثقافية هي الآلية التي تحكم بوعي وبدون وعي المسار العام والخاص لوعي الذات التاريخي للامة. أما المثقف فهو الوحيد الذي يربط في كيانه وكينونته وحدة الماضي والحاضر والمستقبل بوصفها جزء من إبداع الحرية.
إن إبداع الثقافة هو المضمون الروحي لإعادة إنتاج وتفعيل المرجعيات الكبرى للامة. وهو الامر الذي يجعل من المثقف ملهما أساسيا لوعي الذات القومي في مختلف تجلياته. ويجعل منه بالتالي القوة المنتجة لتاريخ الفكر، أي تاريخ الحقيقة. وهو التاريخ الوحيد القادر على الحياة والفعل. وفيه يكمن أحد مصادر الإبداع غير المتناهي لترتيب ما يمكن دعوته بسلسلة اليقين الضرورية للإبداع الحر. فالحرية هي سلسلة تربط حلقات الإبداع الحر. أنها تلزم المثقف وتقهره على الانتماء غير المحدود لمصالحها الكبرى. ومن ثم تجبره على الفعل بوصفها حريته الخاصة. وهي جدلية تؤجج فيه على الدوام مشاعر الانتماء الحقيقي لمرجعيات الأمة ومصالحها، وتضعه في الوقت نفسه أمام لهيب بلاءها الدائم. وهو الأمر الذي يفسر سر معاناته الفعلية وسموه الفعلي في سماء الثقافة وأدغال وعيها التاريخي.
فالمثقف الحقيقي هو العنصر الجوهري في تاريخ وعي الذات القومي والاجتماعي والسياسي والروحي. وهي المكونات الأربعة الضرورية لتكامل الأمة والثقافة. إذ لا يمكن تصور وعي الذات القومي بدون الدور الذي يلعبه المثقف على حلبة وجودها التاريخي سواء من خلال تأسيس مرجعياتها الروحية والثقافية أو من خلال اجتهاده الحر في كشف فضائلها ورذائلها. وهو ذات الدور الذي يجسده في مواقفه الاجتماعية. فالمثقف الحقيقي هو موقف اجتماعي دائم. وفي هذا يكمن مضمون وظيفته السياسية. فهو يؤثر فيها من خلال إبداعه الحر ومواقفه الاجتماعية. انه يصنع ويؤسس المضمون الاجتماعي للسياسة عبر وضعه الدائم على ميزان الحكم الأخلاقي والجمالي.
ومن كل هذه الحصيلة تتشكل مأثرته الروحية أمام الدولة والأمة والثقافة. وفي هذا تكمن أيضا مخاطرته الحياتية. فهو القوة التي ترهب السلطة، كما انه السلطة التي ترهب القوة. وهي الدورة التي تصنع المثقف الحقيقي والثقافة الحية. بمعنى صنعها المرجعية القائلة بضرورة البقاء ضمن الحيز الاجتماعي الملتهب في السياسة والابتعاد النسبي عن سلطة الدولة. وهي معادلة لا تعني بالنسبة للمثقف سوى الحفاظ الدائم على حريته التامة في معترك التأسيس الثقافي للإشكاليات التي تواجهها الدولة والأمة. إذ ليس هناك من قوة لا تعترف بالسلطة كالمثقف والثقافة، كما انه ليس هناك من سلطة أقوى من سلطة الثقافة والمثقف. وهي مفارقة تعيها السلطة دوما بينما يجهلها المثقف غالبا. وهي الثغرة التي تتغلغل منها السلطة الغاشمة وفيها تعبث أيضا السلطة الديمقراطية. وكلاهما يلتقيان من حيث النية والغاية. بينما تقوم النية المفترضة للمثقف في بلوغ تمثيل الحقيقة ومن خلال تمثيل الحق. لا بمعنى وضع نفسه محل السلطة، بقدر ما يعني إجبار السلطة على تمثل حقيقة المصالح الجوهرية للمجتمع والدولة. بمعنى إجبارها على رفع المصلحة العليا للامة إلى مصاف الحق. وهي معادلة ممكنة التحقيق. وذلك لان المضمون الحقيقي للسلطة يقوم في تمثل وتمثيل المصالح العليا للمجتمع والأمة، بينما حقيقة الثقافة تقوم في تمثل الحقيقة نفسها. فإذا كانت حقيقة السلطة تقوم في تمثل المصالح الجوهرية للمجتمع بمعنى تمثل الحق بمعايير المصلحة، فان حقيقة المثقف تقوم في تمثل المصالح نفسها ولكن بمعايير الحقيقة. وهو المجال الذي يمكن أن تلتقي فيه "مصالح" السلطة والمثقف، والدولة والثقافة.
وفي هذا المجال تبرز القيمة التاريخية الكبرى للثقافة والمثقف في الظروف الحالية. فالسؤال الجوهري المتعلق بإمكانية وكيفية تحقيق هذه المهمة في الظروف الحالية هو معيار ومحك الثقافة والمثقف أنفسهما. وإذا كان من الصعب الإجابة عليه الآن بصورة قاطعة بسبب تناقض الواقع الاجتماعي والسياسي والوطني العام، فإن مرجعيته الكبرى جلية للغاية. إنها تقوم كما هو الحال في كل ظرف تاريخي مهما تعقد، في تمثل تاريخ الإخلاص، وتاريخ الحق، وتاريخ الحقيقة. فهو الثالوث الوحيد القادر على صياغة ما أسميته بمرجعية المثقف والثقافة الخاصة في وحدة الحق والحقيقة وتجسيدها الدائم في وحدة العلم والعمل. بمعنى أن يكون وجوده وجدانا دائما لما يفتقده المجتمع والدولة والأمة.
***



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السلام القومي والمصالحة الوطنية في العراق
- المؤقتون القدماء والجدد
- المعارضة والمقاومة – المفهوم والغاية
- الإرهاب والمخاض التاريخي للحرية في العراق
- المهمة التاريخية للمثقف العراقي
- علماء السوء – التدين المفتعل والسياسة المغامرة
- تأجيل الانتخابات ونفسية المصلحة السياسية
- معارك المدن العراقية - الأبعاد الوطنية والاجتماعية
- تأجيل الانتخابات أم تأصيل المغامرات
- خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طالع الشمس ما يغنيك عن زحل
- أدب التصوف
- اسلام الشرق و الشرق الاسلامي


المزيد.....




- نقل الغنائم العسكرية الغربية إلى موسكو لإظهارها أثناء المعرض ...
- أمنستي: إسرائيل تنتهك القانون الدولي
- الضفة الغربية.. مزيد من القتل والاقتحام
- غالانت يتحدث عن نجاحات -مثيرة- للجيش الإسرائيلي في مواجهة حز ...
- -حزب الله- يعلن تنفيذ 5 عمليات نوعية ضد الجيش الإسرائيلي
- قطاع غزة.. مئات الجثث تحت الأنقاض
- ألاسكا.. طيار يبلغ عن حريق على متن طائرة كانت تحمل وقودا قب ...
- حزب الله: قصفنا مواقع بالمنطقة الحدودية
- إعلام كرواتي: يجب على أوكرانيا أن تستعد للأسوأ
- سوريا.. مرسوم بإحداث وزارة إعلام جديدة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - المثقف والسلطة، أو إشكالية القوة والروح المبدع