عائشة التاج
الحوار المتمدن-العدد: 3537 - 2011 / 11 / 5 - 00:39
المحور:
الادب والفن
هلت أمطار الخير من سماء المدينة.....وهلت معها الفرحة بموسم جديد طال انتظاره . فاقتلعت نفسي من بين الضغوط اليومية الرتيبة كي أخرج للتسكع في بعض شوارع الرباط ،
اختلقت هدفا يبرر تسكعي و حرصت الذهاب إليه مشيا على الأقدام .
لقد قررت الاحتفاء بالقطرات الأولى لفصل الشتاء الذي طال انتظاره بطريقتي الخاصة ،
بدا لي أن لا شيء أجمل من المشي فوق أرض مبللة بهذا الماء المبارك ، فمشيت فوق رصيف الترامواي بصباغته الوردية الناصعة ...أتأمل بجذل طفولي الماء ينساب بين ثنايا السكة الحديدية ليجرف ما علق بها من أزبال صغيرة نحو مجاري المياه ,,,,,
كنت أمشي و ألتفت بين الفينة و الأخرى تحسبا لقدوم الترام من خلفي فيجرفني و أنا في خضم تأملي هذا .....
لا أدري لم يذكرني منبه الترام بجرس الكنائس وتساءلت عن سر هذا الاختيار ؟
هل للدولة المنتجة( فرنسا ) دور في هذه البصمة ؟
حملني هذا الجو لبعض الملامح الباريسية مع وجود فرق كبير هو أن المارة و الترام عندنا يقتسمان نفس الطريق ـ ذلك أن خطة السلامة تشي باختلالات جوهرية لا تتناسب
ومكانة دولتنا الاستثنائية في الخطط الأمنية ,ومع ذلك فالسكان يتدبرون أمرهم كما هم متعودون في أكثر من جانب ,
تمنيت لو كنت أستطيع استرجاع طفولتي كي أتزحلق فوق هذه الأرض المبلطة بكل عناية
وهي تغتسل بجداول الشتاء الصغيرة التي تنساب في بهاء جلي نحو اتجاهها المحدد بعناية كبيرة .
بدا لي الماء متلئلئا ونظيفا يغري بلعب كثيرة .....
لم تكن مدينة طفولتي بهذا الانتظام الحديث العهد ، ذي بصمة التدبير المفوض المثير للجدل ، لكننا لم نفلت أي فرصة للعب بماء الشتاء الممزوج ببعض الأوحال حيث كنا نحرص على اللعب حفاة في ذاك الوادي الذي يتكون وسط الزقاق حاملا العديد من الفقاعات و الأزبال التي كانت متناثرة على جنباته ,
و أهم لعبة كانت هي صناعة بواخر من مرجوعات البلاستيك والتلذذ بمشهد انسيابها فوق سطح الماء ذي اللون البني أو استعمال عجلات صغيرة و دفعها في اتجاه التيار والشتاء تخترق جسدنا الغض الذي يتطاير منه دخان يشي بطاقة غضة لا نشعر معها بالبرد القارس
وهو يستوطن ثنايا جسمنا كي يعبر عن نفسه في زمن لاحق على شكل أوجاع روماتيزمية .
لا أدري لم كنا نستعمل هذا الوادي كمطية لوسائل نقلنا الافتراضية ؟ هل هو رغبة منا في التنقل والسفر والذهاب إلى حيث لا ندري ؟؟؟؟
لم نكن نهتم بنصائح الكبار الذين لا يتقنون شيئا غيرالزجر و التحذير . ذلك أننا كنا ننجح في استغفالهم لممارسة شغبنا الطفولي رغما عن "صرامتهم" المفترضة آنئذ ,
ما أبأس الكبار حقا لأنهم يثقون كثيرا في "سلطتهم "و قلما يلتقطون لحظات السعادة من بين ثنايا حياتهم المثخنة بثقل المسؤوليات و وبأمزجتهم المحنطة بالكثير من اللاءات و باللهاث وراء العديد من الأوهام!
و أنا أنتشي بهذا المشي وسط الشتاء ،كانت تحذيرات وكالات الطقس الأمريكية وحتى الوطنية التي انتشرت على شبكة الفايسبوك وغيرها تشوش على نشوتي الطفولية بتوقعاتها ذات الطابع الكارثي ,
لقد بدا لهم بأن هذه الأمطار قد تأخذ إيقاعات طوفانية وتتحول لفيضانات في بعض المدن الساحلية و حتى حكومتنا الموقرة قامت باجتماع و عينت لجان يقظتها تحسبا لأي طاريء .
قلت في نفسي : لا شك أن الكبار يعانون من الخوف المفرط في كثير من الأمور ويحرصون على تصدير خوفهم للآخرين ،فالمصيبة إذا عمت هانت .
طردت تأثير خبر وكالات الأرصاد من رأسي وقررت التركيز على" الانتشاء" بهذه اللحظة هنا والآن .
بدت لي اللحظة غاية في الروعة والجمال وهذا هو الأهم ......
لا شيء أروع من رؤية مدينة تغتسل من أوساخها تحت حمام باذخ لقطرات الشتاء البلورية , وسكان يتسابقون نحو أهدافهم تحت إيقاع مطري يشوش على رتابة حركاتهم المعتادة ويفرض عليهم إجراءات جديدة وتحسبات جديدة لآستقبال موسم جديد ,
لم أحمل المظلة عنوة كي يحتفي جسدي بهذه القطرات الأولى وهي تنساب بإيقاع منتظم في اتجاه الأرض يشبه موسيقى فيفالدي في عمقها وطهرانيتها ,
كنت أتحسس قطرات الشتاء الخفيفة تتخلل شعري المتناثر بفوضوية مقصودة على كتفي ,
وشعرات بالهواء أكثر نظافة وانتعاشا ، فالفضاء تخلص من آثار التلوث الناجم عن دخان السيارات والحافلات والروائح والغازات ,,,
وعندما تشتد حدة الشتاء بين الفينة و الأخرى ترى الناس يتسابقون لإيجاد مخبأ يقيهم من هذا الاغتسال العلني وسط الحشود التي تتلاطم مع بعضها البعض مثل أمواج تائهة وسط زخم الأمطار ,
في هذه الحالات قد تنحسر مساحات الأنانية ويفسح بعضهم للبعض فجوة للاختباء تحت المظلات البلاستيكية التي قد تغطي المساحات الممتدة أمام بعض المتاجر ,
لا يجد الإنسان أمام سطوة الطبيعة إلا الحنو على بني جلدته .
والأهم من ذلك هو اختفاء كل مظاهر الحذلقة والحرص على الأناقة الاستعراضية التي تتميز بها المدن .حيث يستنفر كل واحد طاقته وما بين يديه لحماية جسده الضعيف امام هذا الغزو المباغث لجبروت الطبيعة .
ما أجمل أن تمسح وجهك بهذا الماء الآتي من على مسافات كي يطهرنا من عفننا المتراكم ويروي عطشنا وجفاف أراضينا وقلوبنا وعلاقاتنا التي يبسها جفاف المشاعر والمباديء والقيم في هذا الزمن الاسمنتي .
بدت لي العمارات والبنايات الشاهقة تتخلص من طبقات الغبار المتراكمة على جدرانها الخارجية شيئا فشيئا ,,,وكذلك الحافلات والسيارات و زجاج المحلات وو
أما الأشجارفبدأت بإطلاق حفيفها مرحبة بقطرات الشتاء وهي تروي أغصانها العطشى وتعيد لوريقاتها اخضرارها الزاهي و تلألأها تحت أشعة الشمس التي تخترق هذه السحب العابرة بين الفينة والأخرى بلطف خريفي معتدل .
إنه لأمر عجيب ذلك التداول على سلطة الاختراق للمدينة ما بين الشمس والشتاء بتواتر منتظم قلما يعرفه ساسة هذا الزمن الانتخابي البئيس الذي يحاول أن يغطي المدينة بردائه
المفعم نفاقا و كذبا و بهتانا ....
كم نحتاج من أنشودات مطر مثل أنشودة بدر شاكر السياب في هذا الزمن العربي الحاسم
فمطر ....مطر ....مطر .
.
ما أجمل الحياة حقا بتجددها و مساراتها المتشعبة والمركبة اختلافا وتنوعا ،
وأبهى ما فيها ،تلك اللحظات الحاسمة التي تعلن ذلك الانتقال السلس من حال لحال
الذي يعطيها طعم التغيير في امتداد لا متناهي .
عائشة التاج 04-11-2011
#عائشة_التاج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟