أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - احتراق الخطى مابين الرمال والمدن















المزيد.....


احتراق الخطى مابين الرمال والمدن


سعد محمد موسى

الحوار المتمدن-العدد: 3418 - 2011 / 7 / 6 - 23:13
المحور: الادب والفن
    


- 1 -
بعد نهاية الحرب العراقية الايرانية، ذات الثماني سنوات، صدر عفو رئاسي، وصفه الإعلام العراقي في حينه بأنه " مكرمة من الرئيس القائد صدام حسين"، طاغية العراق آنذاك.
المرسوم كان يشمل الطلبة الذين لم يلتحقوا بمعسكرات التدريب عام 1986، بعد أن صدر قرار بفصلهم من الدراسة الجامعية وترقين قيدهم، لإبعاد خطرهم المحتمل وزجهم في الخطوط الامامية لجبهة الحرب . رفض بعض الطلبة المغبونين والغاضبين وأنا كنت واحداً منهم، الالتحاق بمجزرة القادسية السيئة الصيت. وهكذا بقيت معارضاً للحرب، ومعارضاً لسياسة الطاغية وكنت متخفياً بهوية مزورة حماية لنفسي من مداهمات عصابات الاستخبارات والجيش الشعبي والفرق الحزبية، وتسهيلا لتنقلاتي، وعبوري السيطرات العسكرية المنتشره في الطرق التي تربط بين المحافظات والنواحي والقرى. كما كنت أهدف من تزوير الهوية إلى التنويه بأنني ما زلت حينها طالباً في أكاديمية الفنون الجميلة، رغم ان الموت كان قاب قوسين او أدنى.
وإثر وشاية من شخص كنت قد حسبته صديقاً يوماً ما. داهم رجال الفرقة الحزبية في محلة السراي دار أهلي التي كنت اسكن فيها في مدينة الناصرية، لكنني ولحسن الحظ كنت قد برحت الدار قبل قدومهم بساعة، إلا أن مرترتزقة حزب البعث ظلّوا يلاحقونني فيما بعد .
وقد نعتُّ ذلك الشخص الواشي بيهوذا. وبعد سنيين جاء متوسلاً لي يطلب المغفرة عن فعله الشائن ، قلت له نم قرير العين يايهوذا الخائن وكنت متوجساً من تصرفاته وقد بقي مدمناً للخسة والابتذال طيلة حياته.
- 2 -
عدت الى بغداد بعد الوشاية وسكنت مع صديقين كانا أيضاً من الطلبة المفصولين. استأجرنا شقة في منطقة راغبة خاتون. وباعجوبة بقيت حياً وحتى هذه اللحظات التي أكتب فيها هذه السطور لآدون احدى قصصي في زمن عشته وقد كان في غاية الصعوبة.
كانت "مكرمة" الرئيس "غير الكريم" تنص على أن أخدم سنة كعقوبة وبنعت "خائن" بمفهوم سلطته الباغية، وكان هذا النعت يوصم بمن لم يلتحقوا بالجبهة بعد فصلهم من الجامعات. وقد اشترطوا بالنسبة لي ان أقضي الخدمة بأتعس ألوية الجيش العراقي دون احتسابها فيما بعد بقانون الخدمة العسكرية.
كان قدري وعقوبتي ان أخدم سنة كاملة في لواء 99 المشاة الآلي في بادية "إمام ويس" التابعة لمحافظة ديالى، شرط أن أجلب في نهايتها كنية موقعة ومختومة من الوحدة العسكرية تثبت إكمالي العقوبة بدون أي مخالفات، لكي اقبل بالجامعة مرة اخرى وانهي السنة الاخيرة من دراستي في اكاديمية الفنون الجميلة.
بعد تدريبات قاسية وعقوبات جسدية ونفسية في المعسكر، أصدر آمر اللواء توجيهاته، بتوزيع الواجبات على الطلبة المفصولين، وكان واجبي حينها ان أكون حارساً على سجن الوحدة العسكرية. كان سجن الوحدة الثانية من لواء 99 هوعبارة عن صالة متوسطة مشيدة من الطابوق الاسمنتي وسط صحراء تحتوي على 22 سجيناً.
ومن بوابة هذا السجن تبدأ قصة من ضمن حكاياتي الكثيرة .
- 3 -
في احدى الصباحات الغير سعيدة أخبرني النائب ضابط "محيسن " ان اصطحب السجين المريض الى مستشفى بعقوبة العسكري وقد أعطاني ورقة النزول المختومة من أدارة السجن والمصرح بها ان اتجاوز السيطرات العسكرية في الطرق المؤدية الى المستشفى. تناولت وثيقة النزول من النائب ضابط وقد ارتسمت ملامح فرح خبث مبطنه على وجه النائب ضابط البليد.
كنت عادةً ماأنعت النائب ضابط (محيسن) بـ "السحلية"، وبأنه امتداد لفصيلة السحالي والزواحف وكنا غالباً ما نتبادل الكراهية مع تبادل التحايا العسكرية اليومية في ساحة العرضات، وهو يتشفى ويصف الطلبة المفصولين في الوحدة بانهم خونة وان مصيرهم البقاء في الخدمة العسكرية ابداً وان عليهم أن ينسوا بان هنالك أي أمل بتسريحهم والتحاقهم بالجامعة مرة أخرى.
في ظهيرة يوم من أيام آب الحارقة والمغبرة
ذهبت مأموراً الى المستشفى مع السجين "جواد"، الذي كان يعاني من وعكة صحية، أقلتنا عجلة عسكرية الى المستشفى ، وبعد ان أطلع الطبيب العسكري على حالة المريض ذهبنا الى الصيدلية لاخذ العلاج ثم بعدها أخذت السجين الى مطعم وتناولنا العشاء. كان جواد صامتاً يلتهم طعامه ويتطلع باهتمام الى التلفزيون في صالة المطعم. وبعدها ذهبنا الى كراج بعقوبة وصعدنا باصاً مدنياً، و عندما نزلنا بوابة المعسكر، كان الليل قد خيم على المعسكر وكنت حينها مرهقاً للغاية. انتظرت مجيء عجلة عسكريه لتقلنا الى خلفيات المعسكر حيث السجن، لكنني يئست من مجيء اي عجلة، وكانت هنالك مسافة بضعة كيلو مترات مابين بوابة المعسكر المحاذي الى الشارع العام والمعسكر الخلفي, وكان السير بدون سلاح ليلاً في هذه المنطقة يعد مغامرة لاسيما وأن بادية "إمام ويس" تكون خطرة ليلا لان الذئاب الجائعة تبرح أوكارها للبحث عن فرائسها. وقد سبق وأن حصلت حوادث مرعبة في تلك الصحراء عندما افترست الذئاب بعض الجنود العزل والذين اتاهوا الطريق
.
حاولت الاتصال بواسطة تلفون حرس البوابة بالضابط الخفر في المعسكر الخلفي فرد على مكالمتي متقاعساً وبصوت يغلب عليه النعاس أن أبقى مع السجين حتى قدوم أول عجلة عسكرية غداً لكي تقلنا حيث السجن.
لم يكن هنالك بديل أخر أعول عليه، غير أن أمكث في خيمة الحارسين مراقباً السجين ، ومنتظراً طلوع الفجر حيث مجيء عجلة عسكرية تقلنا الى السجن الخلفي.
كان السجين قد استحوذ على احد أسرة الحرس ، وأنا جلست على كرسي أمام الخيمة.
وفي غفلة سريعة استحوذ عليّ سلطان النعاس فغلبني وبعد لحظات حين استيقظت من النوم لم اجد أثراً للسجين .
هرعت مصعوقاً خارج الخيمة أبحث عن الهارب. سألت الحارسين فذهلا حين سمعا النبأ وأخذا يفتشان معي عند حدود البوابة وحول الخيمة، حتى يئسنا من البحث عنه. لقد اختفى تحت جنح الظلام وبسرعة البرق. فتشنا في كل مكان فلم يخلف الهارب اي أثر يذكر. يبدو انه أستطاع ان يتسلل وبسرعة من فتحة الخيمة متخفياً دون أن يحدث اي ضجة او صوت ممكن ان يوقظني من وهلة السبات، وبعدها سار بخلسة دون أن يثير أي شيء يلفت انتباه الحارسين عند البوابة. حتى وصل الى الشارع العام ومن هنالك أوقف باصاً أو شاحنة وذهب الى مكان ما.
في الفجر صعدت أول عجلة عسكرية نقلتني حيث المعسكر الخلفي. ذهبت الى آمر الوحدة العسكرية وأخبرته بما حدث, حدق في الاوراق التي كانت أمامه على الطاولة، ثم نظر اليّ وقال سأساعدك بمعروف واحد أيها الجندي ساعطيك فرصة 24 ساعة فاذا اتيت بالسجين فهذا انجاز يساعدك من التخلص من الورطة الكبرى التي أنت فيها واذا لم تأتي بالسجين خلال الفترة المحددة، فالقانون العسكري يحتم عليك اذن ان تخدم فترة عقوبة السجين المتبقية في بين جدران السجن. انتهت المقابله اذهب حالا ولاتضيع الوقت "هذا ماصرح فيه الآمر غاضباً".
- 4 -
غادرت الخيمة وأنا هلع ومربك ماذا سأفعل .. وأين سأجد السجين .. وفي حالة اذا لم استطع العثورعليه ماذا سيحصل..؟؟ هل يعقل ان أخدم الفترة المتبقية للسجين خاصةً وأن جواد قد اعتاد على الهروب دائما، قد تصل عقوبتة في السجن الى عشرات السنين. فكرت في قرارة نفسي أن أهرب وان لا أعود الى المعسكر مرة أخرى إن لم يسعفني الحظ بجلب السجين. شعرت اني وحيد وضائع. رفعت رأسي الى السماء وتنهدت بحيرة... ياإلهي ماالعمل ..؟ وأثناء الحوار مع ذاتي الحائرة وعلى حين غرةّ جاء جنديّ وتقرب منيّ وقال لاتقلق ياأخي انا أعرف عنوان السجين الهارب. لم أصدق ماسمعت بقيت فاغراً فمي، ومتسائلاً كيف عرف هذا الجندي حكايتي، نظرت الى الجندي غير مصدقِ ماسمعت.
"هل لك أن تساعدني ..؟" سألت الجندي. ابتسم متعاطفاً مع محنتي وتناول ورقة وقلما من جيب بنطاله ثم دون عنوان بيت جواد. تطلعت في العنوان ووضعت الورقة في جيب قميصي, بعدها صافحت الجندي بحرارة وشكرته، ثم حثثت الخطى مسرعاً. لوحت الى أول عجلة عسكرية بالتوقف. صعدت العجلة التي نقلتني الى الشارع الرئيسي، وبعدها صعدت تاكسي الى بغداد. كان القلق ينهشني ماذا سيحصل اذا لم اجد السجين ..؟ لقد كان هذا السؤال الكبير يراودني .... لم أتوقف عن مراقبة الوقت والذي كان يدور كعجلة حادة تقطع شرايين جسدي، الطريق مابين "امام ويس" وبغداد حوالي ساعتين ونصف وصلت كراج النهضة وبعدها استاجرت سيارة أجرة الى احدى احياء "الثورة جوادر"حيث بدأت رحلة البحث عن عنوان الهارب بين بيوت الحي الفقيرة والتي كانت متداعية وبعضها آيل للسقوط وأغلب الشوارع كانت دون أسماء والبيوت أيضاً لاتحمل أية أرقام.
وبعد ساعات من التيه في الحي سألت أمرأة عن عنوان بيت أم جواد وكانت تلك المرأة تفترش الرصيف وتبيع الحلوى. أشارت بيدها الى البيت المقابل ،واخيراً يبدو اني قد دنوت بخطى اللهاث والقلق الى البيت المقصود، تقربت من الدار وطرقت الباب بعد لحظات ظهرت أمرأة مسنه تفاجأت بوجودي في البداية وانا أرتدي ملابس عسكرية سألت العجوز عن جواد ابنها الذي هرب الليلة الماضي، أجابتني بدهشة واستغراب انها لم تلتق بجواد منذ زمن كان ذلك قبل بضعة اشهر حين جاء الانضباط العسكري وقبض عليه من داخل الدار واودع السجن، بقيت في حيرة وإرباك وأعتصرني ألم الياس. دعتني الام أن أدخل كي افتش الدار لكي أكون على يقين من كلامها، لكني صدقت بكلام الام التي كان يبدو عليها انها أمرأة جنوبية بسيطة أدركت ذلك منذ الوهلة الاولى من لباسها التقليدي والوشم الذي كان يرتسم على تضاريس وجهها المتعب. لم تعد هنالك ضرورة لدخول الدار, هممّت بالذهاب وانا أوشك ان أجر أذيال الخيبة لولا ظهور شاب صغير يبدواستوقفني ندائه ورائي، يبدو أنه الابن الصغير للعائلة. ناداني وقال ايها الاخ لاتبتئس اعتقد اني اعرف اين جواد يختبأ الان، شعرت ببصيص أمل وربما ببادرة تاخذني لايجاد مكان السجين نظرت الى الشاب الصغير وكأنه الامل الاخير وأين تتوقع ان يكون اخيك مختبئاً "سألت الشاب" في بيت اختي الكبرى في بعقوبة هذا ماصرح به الصبي. حسناً هل لك ان تأتي معي وتساعدني رجاءاً "اخبرت الشاب" .نظر الولد الى أمه وطلب الاذن وافقت الام على ان يأتي ولدها معي. استوقفت أول سيارة أجرة عبرت الشارع الرئيسي, صعدنا داخل السيارة وأخبرت سائق التاكسي أن يتجه نحو بعقوبة وطلبت منه ان يضاعف السرعة وسأدفع له أجرة اضافية لان الحالة طارئة جداً، تفهم السائق ذلك على مايبدو كنت منهمكاً وقلقاً إزاء مهمة الساعة "الرابعة والعشرون"، وانا أترقب الوقت لحظة بلحظة حدثني الشاب الصغير أثناء رحلة التاكسي السريعة عن حياة جواد وعن كرهه للجيش وعشقه للاعتكاف في البيت وحبه الشديد لمشاهدة برامج التلفزيون، وحدثني عن بؤس العائلة لم أكن أكترث لهذه المعلومات لقد كان همي الاوحد أن أعثر على السجين الهارب.
بعد دخولنا الى مدينة بعقوبه أشار الشاب للسائق ان يتوقف أمام دار لاحدى الأحياء الميسورة . غادرنا سيارة الاجره بعد ان دفعت لسائق التاكسي اجرته.
طلبت من الشاب ان يطرق الباب أولاً، بعد أن تنحيت جانباً
فتحت الباب سيدة أربعينية عانقت أخاها بود واثناء رؤيتها لي وانا بالملابس عسكرية تفاجأت وأدركت حينها مغزى المجىء عرفتها بنفسي وتحدثت بشكل مقتضب عما حصل وأن الغرض من وجودي الان هو استرجاع السجين, قالت نعم أيها المأمور ان أخي الهارب موجود داخل الدار قالت السيدة ودعتني للدخول وطلبت مني متوسلة ان لاأمس أخاها بسوء قلت لها ابدا أن واجبي فقط هو استرجاعه للسجن لاني متورط بما حصل بعد هروبه. تعاطفت السيدة معي واشارت الى المكان الذي يختبي فيه الاخ الهارب. مسكت بالمقبض ودفعت بباب الغرفة ،وجدت جواد حينها يفترش الارض وقد كان يحتضن إناء كبيراَ مليئاً بفاكهة الاجاص والمشمش، وهو يتفرج على التلفاز، وحين رآني واقفاً في باب الغرفة صعق، وقد كاد أن يتوقف قلبه من الرعب والصدمة، لكنه يبدو سرعان مايئس من فكرة الافلات او الهروب هذه المرة، فبدت عليه معالم الاستسلام... حينها استوعب الصدمة وأخذ يتمتم مذعوراً اللعنة عليكم انكم تلاحقونني اينما أختبىء واينما أكون ماذا تريدون مني، وراح يصرخ اني اكرة الجيش واكره ان أكون جنديا، هدأت الاخت من روعه وقالت له أهدأ يأخي هذا الرجل طيب ولن يؤذيك .
اخبرتني الاخت بعد ذلك ان احدى اسباب هروب اخيها من السجن هو ولعه الشديد بمشاهدة التلفزيون وكان كل مايتمناه ان يعتكف في غرفة فيها تلفزيون وحلوى وفاكهة بالقرب من عائلته التي يحبها جداً.
أمرت‘ جواد أن ياتي معي لكنه أبى ان يبرح الغرفة قلت له أيها الهارب عليك ان تنصاع للامر وتاتي معي لن تفلت مني هذة المرة حين أدرك جديتي وغضبي تحول حينها الى طفل يتوسل ويرفض ويعاند تقربت الاخت بعدها من جواد وعانقته وقالت له اذهب مع المأمور انه طيب لن يؤذيك وسيساعدك بطلب اجازة اسبوعية من الضابط وسوف تعود مرة أخرى لزيارتنا وأيضاً سيطلب من آمر السجن ان يجلب لك تلفزيون للسجن. كانت الاخت تعيّ عفوية وسذاجة جواد وكان الاخ يصدق بكلام أخته دائماً ويثق بها كثيراً، وافق أخيراً أن يأتي معي فلاخيار غير ذلك وهو يحدق فيّ ويقول سأذهب معك اذا وعدتني بان تطلب من الضابط أن يجلب لي بتلفزيون الى السجن، تكلم هذا الطفل الوحشي والبريء والذي يرفض ان يعيش داخل سجن بعيداً عن طقوسه، كحيوان بري يرفض الانقياد لاقفاص الصيادين، كان جواد متشبثاً بسماواته الاولى وعوالمه الطفولية التي لن تبرحه رغم دخول عمره في بدايات العقد الثالث وهو مازال طفلاً معذباً يحن‘ الى الحلوى والتلفزيون ودفء البيت. شعرت بحزن أزاء جواد وحزن أشد أزاء ذاتي المقهورة.

أخبرتني السيدة أن وجهي يبدو متعباً واحتاج الى راحة وأقترحت أن نتناول العشاء وبعدها أذهب مع اخيها السجين "شكرأ لا استطيع وعلي ان التحق بالمعسكر خلال الـ 24 ساعة المحددة" اخبرت اخت جواد ثم غادرنا البيت.
- 5 -
صعدنا باصاً من كراج بعقوبه الى معسكر "إمام ويس" .جلست قرب النافذة والسجين في الجهة الاخرى خشية من ان يغتنم فرصة أخرى ويهرب من نافذة الباص كنت منهكاً لكني كنت ً أقاوم النعاس والتعب ومصراً ان لا يغلبني النعاس هذه المرة مثلما حدث سابقا في الخيمة الملعونة. غادرالباص كراج بعقوبة باتجاة مدينة ديالى كانت الساعة الثانية عشرة ليلاً مازالت هنالك 5 ساعات متبقية من مهمة الاربع والعشرين ساعة ، الرحلة تستغرق ساعتين ونصف الى المعسكر.
تأملت‘ في فضاءٍ لليلٍ موحش وعميق من وراء نافذة الباص المتوجه شمالاً، وقد تسللت الى داخل الباص رائحة الاخشاب وسعف النخيل المحروق المنبعثه من تنانير القرى وكانت رائحة الدخان البعيد ممزوجة بروائح حقول البرتقال والرمان وبساتين النخيل المنتشره بمساحات شاسعة مابين بعقوبة وأمام ويس.
شعرت في هذة اللحظات اني طفل يتيم وكانت تتفجر فيّ رغبة للبكاء الدفين وشعرت حينها أيضاً أنا السجين وأنا السجان أنا الخنجر وأنا الطعنة وأنا الجلاد المبتلى والضحية المنسية.
كان الباص يخترق الطريق المعتم والهادىء والقمر الخجول يتعقب الباص بصمت وبتوجسٍ ككلبٍ كان يتعقب قافلة ولايكترث أين تحط تلك القافلة رحالها.
ثم صدحت على حين غرة موسيقى قد آلفت سماعها سابقاً أغنية "أول همسة" لفريد لاطرش وكأن سائق الباص كان قد يحدس أية موسيقى يمكنها أن تسحرني، أستحوذت بيّ هذة الاغنية الى محراب الوله والعشق حين مست تلك الاغنية شغاف القلب وأيقظت جمرة كانت نائمة تحت رماد الذاكرة. كان أغلب المسافرين قد غطوا بنوم متقطع فوق كراسيهم الضيقة. تطلع جواد نحوي وكان متأثراً وأبدى اعتذاره لانه سبب ليّ كل هذه المتاعب، لم أرد على أعتذارات جواد, ثم سألني هل لديك حبيبة ؟.. التفت الى جواد وقلت له وهل يهمك هذا الامر ..؟ ابتسم جواد وقال انا اعتقد نعم انك عاشق ولديك حبيبة مشغول بها كثيراً هل انت مشتاق لها؟؟.. ابتسمت لاسئلة جواد الفضولية، نعم يا جواد انا مشتاق لحبيبتي وأظن ان اشتياقي لها الان يعد أكثر من أشتياقك هذه الليلة الى التلفزيون .
اني جرح ينزف هام بي الجوى الى احضان النرجس البعيد... متعب أنا.
لافضاء يعانق كسل القمر غير الليل
ولا رحم يؤيّ الاسماك غير البحر
وروحي التائهة لادروب تستدلها .. الا الخطى الراحلة نحو مملكة النرجس.
استدرت الى جواد وكان يغط في نوم طفولي شعرت بشفقة نحوه ظننت‘ انه يحلم الان بتلفازه وبافلام الكارتون واموسيقى..
شعرت حينها أنا وجواد سجينان ومبعدان قسراً عن أحلامنا وفرحنا. فمن يكون السجين ومن يكون السجان، ومن يكون القفص ومن يكون الطائر... أستفاق جواد من نومه خائفاً وسألني مفزوعاً هل تعتقد ان في السماء يوجد هنالك تلفزيون.. ماهذا السؤال الغريب ياجواد, أرجع لنومك ولاتفكر بالموت يبدو انها كوابيس نوم "أجبت جواد"
- 6 -
عند اقتراب الباص من المعسكر بدأت مسحة خوف ترتسم على وجه جواد وكان مرتعباً من حراس السجن الاخرين ان يعاقبوه. وعدته ان أبذل مابوسعي لحمايته شعر وكأني أصبحت صديقه الحميم وشعر بالمودة والثقة نحوي وأدرك جواد مقدار حزني وادرك أيضا أني سجين ومعاقب مثله. توقف الباص امام المعسكر ونزلنا سوية تجمع بعص اصدقائي الجنود والحرس مباركين لي ان جلبت السجين البعض اراد بعض الحرس ان يهين السجين فمنعتهم واخبرتهم أني سامحته وانا وعدت اخته وأعطيتها كلمتي لن يمس جوادَ أحدٌ بسوء.
دخل جواد السجن مرة اخرى وانا نقلوني الى المطبخ عقوبتي كانت ان أنظف واغسل أكبر قدور طبخ رأيتها في حياتي كانت تستخدم لاطعام عشرات الجنود في المعسكر . فكانت تلك أحدى العقوبات الكثيرة أثناء خدمة السنة التي كانت تبدو حسابات الزمن فيها تزحف ببطىء.
أخر مرة شاهدت فيها جواد كانت في يوم هبت فيه عواصف رملية غطت أجواء البادية وكان جواد واقفاً في طابور السجناء منتظرأ شراء حلوى وفاكهة من حانوت عجلة "إيفا" العسكرية المتنقلة في لواء 99، لوحت الى جواد بيدي وصاح خلفيّ كيف حالك ياصديقي "سعد" هل كلمت الضابط ان يجلب تلفزيون وماذا بشأن الاجازة التي وعدتني بها لم التفت الى جواد ضحكت بألم وشعرت برغبة بالبكاء لم أستطع دفن نزيف الحزن هذه المرة انسالت دمعة ساخنة معفرة بالرمل فوق تضاريس وجهي الذي كان يبدو أكثر حزناً قطعت المخيم سيراً دون هدف، وخطاي تنأى في اعماق وحشة القفار الذي ابتلعني بعيدا.. بعيدا وكانت صدى توسلات جواد مازالت تنهمر كالكثبان الرملية في بادية التيه ومثل سراب خلفته أخر القوافل.
لم أرى جواد أو اسمع عنه ً بعد تلك الظهيرة العاصفة.
لكني أحياناً أتساءل عن مصيرجواد .. تُرى ماذا حصل له !!!!!! واين هو الان؟؟ هل مات بالسجن؟ وفي أعماقه حسرة دفنت مع جسده النحيل الى امتلاك جهاز تلفزيون
أو هل حصل على حريته بعفو أو "مكرمة"، وربما يجلس الآن أمام شاشة كبيرة مع عائلته وفاكهته المفضلة والحلوى دون اي خوف من ان يعود للسجن مرة أخرى.

استراليا- ملبورن
يوليو 2011



#سعد_محمد_موسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النزوج بعيداً
- اغتيال الجسر الاخير
- مزامير الشمس وينابيع الياسمين
- تراتيل تحت نصب الحريه
- مابين نايّ تومان.. وعازف ساكسفون سوهو
- رأس ومنفى وقمر
- الحلم العاري يغادر الخيمة
- مابين وشاية القمر.... وعبور الحدود
- الله والمطر
- التوحد في حضرة النخلة
- ثوابت مشتركة للانتفاضات المعاصرة
- انشودة اذار 1991
- تراتيل في ساحة التحرير
- انتفاضة الجسد ..وظل الرصيف


المزيد.....




- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...
- حديث عن الاندماج والانصهار والذوبان اللغوي… والترياق المطلوب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - احتراق الخطى مابين الرمال والمدن