أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - مابين نايّ تومان.. وعازف ساكسفون سوهو














المزيد.....

مابين نايّ تومان.. وعازف ساكسفون سوهو


سعد محمد موسى

الحوار المتمدن-العدد: 3383 - 2011 / 6 / 1 - 09:57
المحور: الادب والفن
    


برح الطين جرف النهر
وتحررالجنين من حبل السرّة
والناسك ايضاً غادر صومعته.
حمل المنفي ألواحه التي حفرت على سطوحها ترنيمات معبد (ننجرسو)*
وفي أنفاق لندن كانت أتسكع فوق الارصفة المترنحة، قادتني خطاي الى حانة في حي سوهو وفي احدى النوادي الليلية كانت موسيقى "الجاز" تضج في ليالي سوهو وتستفيق بنشوة الايقاعات محتضنة الاضواء الصارخة. جلست على مقربة من عازف الساكسفون الزنجي الذي كان ينفخ بروحه في حنايا الساكسفون فيتصاعد النغم مثل عواء ذئب جريح في ادغال افريقيا وهو يناجي القمر. تمعنت بملامح الزنجي عازف الساكسفون التي تقاربت وتداخلت مع ملامح ( تومان) عازف الناي سليل أسلاف ثورة الزنج في البصرة جنوبي العراق، وكان عادة مايزور الناصرية مدينته المفضلة وهو يقطع شوارعها عازفا الناي بأنفه ويتمايل راقصاً بجسده الطويل والرشيق . وكنا فصيلاً من أطفال المحلة نحوم حوله ونتتبع رحلته الى شوارع أخرى حيث نشاطره الرقص ويصافحنا بكفه الضخمه وأحيانا يوزع الحلوى علينا ويمازحنا بحركاته الرشيقه البهلوانيه وايحاءات وجهه التي تثير الضحك والدهشة والخوف فينا، في البدء كان تقربنا له يشوبه شيء من الرهبة والفضول لهذا الزنجي المهرج والغريب الذي يعزف الناي بأنفه ،لكن بعد أن تعرفنا عليه وآلفناه أدركنا أن تومان قديسٌ عفويٌ يمنح المرح والسلام الى الناس.

صعدت‘ قطار الليل الاخير الذي أقلني حيث سكناي في احد أحياء الجنوب الشرقي من لندن والتي كانت يقطنها الكثير من الزنوج فالتقيت مرة اخرى بعازف الساكسفون الذي رأيته قبل ساعات في حانة سوهو كان جالساً في مؤخرة عربة القطار وكان في اغفاءاته المتقطعه وهو يعانق آلة الساكسفون، أعادني هذا المشهد الى مملكة تومان البعيدة والتائهة وارتحلتْ مخيلتي ايضاً الى مدينة الناصرية. حيث كان تومان بانين نايّه الآخّاذ يُسحرنا ونحن نتتبعه بعيداً الى ازقة أخرى.
كان هنالك زنجياً اخراً معروفاً في انحاء مدينة الناصرية يدعى (شنيشل) وهو من أصحاب تومان المقربين وقد اعتاد شنيشل ان يجالس رفيقه في المقهى وهو يحمل قردته على كتفيه أنه مشهدُ حميمُ في ذاكرة المدينة "شنيشل وقردته النزقة"، فحين يعزف تومان تنتفض القردة تلهو وتزعق وتصفق على ايقاع الناي.
في تللك الرحلة استعدت قارع الطبل في ليالي رمضان حيث كان أهل المدينة يطلقون عليه تسمية "ابو طبيله"، كنت أتصوره مثل لغز او شبح، عادة ماكنت أرهق مخيلتي لرسم ملامح رجل الظلام ذلك بهيئته الهلامية وهو يشق الشارع مسرعاً في الظلام يدق الطبل ويصيح سحور.. سحور... سحور.... وانا أطلُّ بفضول واحاول جاهداً ان أطرد النوم من عينيّ الناعستين وأترقب مجيء أبو طبيلة متطلعاً من وراء النافذة فيمر ملتحفاً بعباءةٍ داكنةٍ ومعتمراً طاقية بيضاء.
.. وسرعان مايأفل قارع الطبل وسط الظلام مخلفاً صدى يتوارى بعيداً وبعيداً سحور.. سحور... سحور....
تومان وأبو طبيله هما صوتان في ذاكرةٍ توضأت بمراسيم الرقص والموسيقى بين الناي الحاضر في النهار والطبل التائه في الظلام.
غاب تومان بضعة أسابيع عن الناصرية وأفتقدت الشوارع أناشيده وحضوره البهيج ذلك الانسان المشرد عاشق الحريه والتمرد والجمال سليل الزنوج المضطهدين وطوطم ثورة العبيد.
تساءلت القباب عن الغياب وتساءل الرصيف بوحشة عن خطى تومان الراقصة, بعد فترة جاء الصدى البعيد كالامواج من ضفاف شط العرب الى الفرات, وكأن الصدى ينبوع تفجر وسراً دفيناً أباحه حلاق اشبيليه الى مسامع المدينة, تومان مات.. تومان مات...تومان مات....
في صباح غائم توقفت النسوة العائدات من بساتين ابو الخصيب واللواتي أذهلتهن الصدمة امام جثة تومان وهو مسترخيا بسلامٍ على جذع شجرة شجرة "النبق" والتي حفر على لحائها أول ينابيع عشقه حين كان طفلاً يتغيب عن المدرسة ويزور محرابه تحت ظلال شجرة " السدر" يعزف بنايّه ويتباهى امام صبايا البصرة ، وعلى ضفاف شط العرب عانق بودٍ خليله الابدي الناي الجنوبيّ. وكانت على تضاريس وجهه دمعتان انحدرتا كجرحين حفرتا أخاديد الوجع، بعد ان عاد مثل طائرٍ أضنته الرحلات فعاد الى مكانه الاول وحبل سرته وعشة الوديع ليرقد تحت شجرة السدر الازلية والمقدسة.
في تلك الليلة لم يوقد الزنوج النار والتي عادةً ماكان يلتف حولها الراقصون وضاربو "الدفوف والخشابة" ليرقصوا (الهيوه) رقصة اول عاشق حين داهمه الخبلْ وتجليات المتصوفين
(دان دان
أيها الحلاج
تومان يعزف
مانجا أحدٌ ومن ينجو مدان
دان دان)*
رحل النايّ مودعاً مريديه ونام على صدر تومان كعاشقةٍ, ودفنا سوية في رمال البصرة.
*: ننجرسو معبد الموسيقى والاناشيد لدى السومريين.
*: مقطع من قصيدة للشاعر العراقي عبد الحسن الشذر الذي غادر قطارالحياة مبكرا.
ملبورن- استراليا
حزيران 2011



#سعد_محمد_موسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رأس ومنفى وقمر
- الحلم العاري يغادر الخيمة
- مابين وشاية القمر.... وعبور الحدود
- الله والمطر
- التوحد في حضرة النخلة
- ثوابت مشتركة للانتفاضات المعاصرة
- انشودة اذار 1991
- تراتيل في ساحة التحرير
- انتفاضة الجسد ..وظل الرصيف


المزيد.....




- “مش هتقدر تغمض عينيك” .. تردد قناة روتانا سينما الجديد 1445 ...
- قناة أطفال مضمونة.. تردد قناة نيمو كيدز الجديد Nemo kids 202 ...
- تضارب الروايات حول إعادة فتح معبر كرم أبو سالم أمام دخول الش ...
- فرح الأولاد وثبتها.. تردد قناة توم وجيري 2024 أفضل أفلام الك ...
- “استقبلها الان” تردد قناة الفجر الجزائرية لمتابعة مسلسل قيام ...
- مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت ...
- المؤسس عثمان 159 مترجمة.. قيامة عثمان الحلقة 159 الموسم الخا ...
- آل الشيخ يكشف عن اتفاقية بين -موسم الرياض- واتحاد -UFC- للفن ...
- -طقوس شيطانية وسحر وتعري- في مسابقة -يوروفيجن- تثير غضب المت ...
- الحرب على غزة تلقي بظلالها على انطلاق مسابقة يوروفجين للأغني ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - مابين نايّ تومان.. وعازف ساكسفون سوهو