أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مهدي بندق - كيف نؤرخ لثورة يناير















المزيد.....

كيف نؤرخ لثورة يناير


مهدي بندق

الحوار المتمدن-العدد: 3414 - 2011 / 7 / 2 - 15:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



التاريخ هو الوعي بالتراث الذي هو حي بالضرورة في الحاضر ، ويتحقق هذا الوعي من خلال الرصد المنظم لوقائع الأحداث الكبرى ومحاولة الكشف عن أسبابها والوقوف على نتائجها ، ثم إظهار ما بينها من ترابط وتداخل بحيث تشكل معا ً ما يشبه القصة ذات المعنى والمغزى . وفي هذا السياق كان القدماء يعتمدون آلية النقل [ = المرويات عن ذوي الثقة ] في كتابة الأحداث السابقة على وجودهم ، وأمثلة ذلك هيرودوت اليوناني و تيتيوليفيوس الروماني والطبري وابن كثير والواقدي وعبد الرحمن بن خلدون وغيرهم من مفكري الإسلام . وفي الأحداث التي يعاصرونها كان هؤلاء المفكرون يعتمدون على مشاهداتهم ، ومثال ذلك تقي الدين المقريزي خاصة في كتابه " إغاثة الأمة بتفريج الغمة " الذي رصد فيه حوادث المجاعة في عهد الخليفة المستنصر الفاطمي ، وكذلك البدر العيني صاحب كتاب "السيف المهند في سيرة الملك المؤيد " وأيضا ابن إياس الحنفي وعبد الرحمن الجبرتي .

أما عملية كتابة الأحداث الكبرى في مظهرها البياني ، وترتيب هذه البيانات في شكل يقصد به إعادة بناء الفترة موضوع الدراسة فهي ما تسمى بـ " التأريخ " Historiography وصاحبها يسمى " المؤرخ " وقد يتسلح المؤرخ بفلسفة معينة تساعده على تفسير الأحداث ، وفي هذه الحالة تتحول عملية "التأريخ " من رصد الأحداث بوصفها دراسة لفترة انتهت وماتت إلى جزء حي من نسيج الحاضر يشير إلى مستقبل متوقع . وتلك هي التاريخانية Historicism
ولهذا فإن مؤرخي العصر الحديث لا يستغنون عن الوثائق والشواهد المنطقية في تسجيل الأحداث سواء كانت معاصرة أو قديمة . ويقف في مقدمة هؤلاء برستيد وجيبون ووول ديرانت وهـ. ج. ويلز وبول كنيدي .
على أن الحد الفاصل في مسألة الرؤية التاريخية هو ما بدأ ظهوره في منتصف القرن الثامن عشر مع فيلسوف التاريخ هردر الألماني الذي شرح فكرة " الوحدة العضوية للتاريخ " ومعناها أن جميع الأحداث من البداية إلى النهاية مرتبطة ارتباط أعضاء الجسد بعضها بالبعض . بعدها صار التاريخ علما ً من العلوم الإنسانية وبالتالي ظهرت النظريات الكاشفة عن كينونته والموضحة لإستراتيجيته وتكتيكاته والمستشرفة لغاياته وأهدافه . فما هي أهم تلك النظريات ؟

أولا : نظرية الحتمية التاريخية
________________________________________
يرى المؤرخ التقليدي Historicist أن التاريخ الجدير بالتسجيل إنما هو حسبُ تاريخ قيام الممالك ونشأة الدول، ثم الحروب بينها انتصارات وهزائم، فالمؤامرات والدسائس بين النخب الحاكمة...الخ أما مصائر الناس العاديين فمسألة لا يصح أن ُ يلتفت إليها! وبهذه الرؤية التي تنزع عن غالبية البشر صفة الفاعلية،فإن المؤرخ هذا حين يقدم أوراق اعتماده في بلاط علم التاريخ بوصفه سفيرا ً " للعظمة " Superiority؛ لا يجد من يستقبله غير تلك الإمبراطورة البشعة الملقبة بـ"الحتمية"! وكيف لا، وقد سبقته أيديولوجيته [ بالأحرى وعيه الزائف ] متضايفة إلى الأحداث التي يرويها، زاعما ً أن فهم تلك الأحداث غير وارد إلا برؤيته هذه. ويترتب على تلك الرؤية المؤدلجة،أن تكون الحالة الراهنة نتاجا محتوما ً لماض تم تشكيله، وأن يكون المستقبل متضمنا ، لا محالة فيما هو قائم فعلاً، وهكذا يبدو التاريخ البشري وكأنه كتاب "قديم" ُسجلت على صفحاته ما جرى ويجرى منذ "البداية وحتى النهاية" [والعبارة الأخيرة عنوان كتاب المؤرخ الإسلامي: ابن كثير ] وما دام الأمر كذلك فلابد من وجود عين" كلية " ترصد بحيث ترى التاريخ ماثلا تاما ً في لحظة سرمدية متعالية على زمان البشر الفانين.
وتلك رؤية للحق متسقة، يقبلها السواد الأعظم لما "توزعه" من تعاز للبائسين لكنها في نفس الوقت كانت تثير مشكلة أمام الحالمين بعالم أفضل، حيث برهنت حوادث كثيرة أن مثل هذا العالم لا يتحقق بدون نضال يستلزم وجود إرادة حرة، تعي أن مصير المرء ُملك للمرء دون سواه. ولقد حاول العرب المسلمون الأوائل حل هذه المشكلة عمليا ً،عن طريق الفتوحات التي أقامت لهم إمبراطورية كبرى، وجلبت لهم ثروات طائلة، لكن المشكلة في مجملها – برغم مناظرات المعتزلة والأشاعرة - ظلت قائمة ً، على الأقل بالنسبة لسكان البلدان المفتوحة ممن حرموا من ثمار إنتاجهم، فصار شأنهم شأن عبيد الإمبراطوريات في الغرب القديم، والأقنان في عصر إقطاعه.
للخروج من هذا المأزق، اقترحت بعض الفلسفات العلمانية في الغرب، استبعاد فكرة الكائن العلوي ّ العليم بكل شئ، والمدبر لكل أمر، في حين قالت المعتزلة عندنا بتعطيل صفة العلم عند هذا الكائن [ تنزيها ً له عن شبهة الظلم ] لتخلص للإنسان إرادته، وتثبت له صفة الحرية، فتصح بذلك مسئوليته عن أفعاله يوم يكون الحساب. بيد أن مبدأ "السببية" المعترف به من الجميع، كان حريّا ً بأن يعيد هؤلاء وأولئك إلى رمال الحيرة المتحركة. ذلك أنه ما دام الحاضر معلولا ً بعلة هي أسبق منه بالضرورة، فلا مندوحة من القول بأن الماضي إنما يحكم الحاضر، وأن المستقبل محكوم بحاضر الأحداث، لكون هذا الحاضر سببا ً لما سوف يجئ، إذن فليرفع المناضلون رايات التسليم صاغرة ً أمام الحتمية عدوة الحرية الإنسانية. ويمثل هيجل هذا الاتجاه أدق تمثيل بفلسفته التاريخية القائلة إن "الفكرة الكلية" تحكم كل ما حدث ويحدث في التاريخ البشري " حيث الحقيقة هي الواقع " .
ثانيا : نظرية المادية التاريخية
ترى هذه النظرية أن المجتمع البشري قام في البداية على مشاعية أدوات الإنتاج فقوارب الصيد والشباك والحراب المستخدمة في قنص الحيوانات وحتى أراضي الرعي كلها كانت ملكية عامة للقبيلة ومن ثم كان توزيع الناتج من طعام وكساء يتم بالعدل والقسطاس ، بيد أن اكتشاف الزراعة ما لبث حتى أطاح بأسس المشاعية القديمة تلك ، مستبدلا بها الملكية الخاصة للأرض الزراعية وبذلك تم تقسيم المجتمع إلى طبقتين : سادة هم ملاك الأرض وعبيد يعملون لديهم مقابل الطعام والمأوى ، وقد وصل هذا النظام إلى قمته في الإمبراطوريات القديمة وأشهرها روما . على أن الصراع المستمر بين هاتين الطبقتين انتهى إلى إحلال نظام الإقطاع محله وبعد اكتشاف البخار وظهور الصناعة الحديثة على أيدى سكان المدن Bourgeoisies جرى الصراع بين البورجوازيين والإقطاعيين على الثروة والسلطة فكان النصر حليفا ً للبورجوازيين . وترى هذه النظرية أن كل بناء فوقي للمجتمع ( = الفلسفة والقوانين والأعراف والأخلاق والفن والأدب ...الخ ) كان بالضرورة معبرا ً عما هو موجود في البنية التحتية Infra- Structure التي هي أنماط وعلاقات الإنتاج الواقعية والسائدة بالفعل ، وهذا يفسر تبدل وتغير القيم والأفكار من عصر لعصر .
ثالثا : النظرية التآمرية للتاريخ
تنبع هذه النظرية من هواجس ومخاوف البشر غير المعللة إلا بغموض الكون وتناقضات الحياة الظاهرة ، وغالبا ً ما تكون مقبولة عند العامة خاصة المهزومين منهم ، إذ تتمحور فكرتها حول واقع المعاناة والضنك بحسبانه نتاج مؤامرة خفية نسجها الأعداء، من هم ؟ سيقول بؤساء الأندلس في القرون الوسطى : إنهم المسلمون الغزاة ! واليوم سنقول نحن : بل اليهود الصهاينة والماسونيون الخبثاء . أم لعله القدر الغاشم ؟ وقد يصور بعضنا هذه المعاناة وهذا الضنك مستعيرا ً أسطورة سيزيف الإغريقي الذي عاقبته الآلهة بإجباره على رفع صخرة كبيرة من سفح جبل إلى قمته ، وقبل أم يصل إلى القمة تهوي الصخرة من يديه إلى السفح ليعود لرفعها فتسقط وهكذا دواليك !! لماذا تفعل به آلهة الأولمب هذا الفعل القاسي ؟ لتعاقبه على جرم ارتكبه . فأي جرم ارتكبناه نحن ؟ يقول السلفيون والأخوان إن هزيمتنا العسكرية في حرب 67 كانت عقابا من الله لنا أن سكتنا على الدكتاتور عبد الناصر وهو يعذبهم في المعتقلات ، ولكنهم يتجاهلون تعذيبه للشيوعيين " الملاحدة " فهل كان الله ينتصف لهؤلاء أيضا ؟ وما ذنب الشعب المصري الذي لم يسمع لا بهؤلاء ولا بأولئك ؟ بل وما ذنب الأجيال التي ولدت بعد موت الدكتاتور أن تعاني الفقر والإذلال والضياع؟! واضح تهافت تلك النظرية وعجزها عن تقديم الأدلة والبراهين الكافية لاقتياد المتهمين إلى ساحة المحاكم !
*** *** ***
في ظل أية نظرية يمكن للباحث التاريخي أن يفسر اندلاع ثورة يناير 2011 ؟ وما هي جدارة نظريته وقدرتها على تقديم التفسير العلمي المقبول الكاشف عن نقاط النجاح من ناحية ، ومن أخرى أوجه القصور ؟ جنبا ً إلى جنب البرهنة على تمكنها من تصنيف تلك الثورة في الخانة التاريخية الملائمة ؛ بحسبانها حلقة من حلقات الثورة المصرية الحديثة التي ُبذرت بذرتها الأولى على يد الوالي محمد علي حين أدخل لأول مرة في مصر زراعة القطن . وهو ما يحتاج لتفصيل .

*** *** ***

عرضنا حتى الآن مختصراً لملامح أكثر النظريات شهرة في تفسير التاريخ ، وكانت تباعا ً: نظرية التدخل الإلهي ، فنظرية المؤامرة التاريخية ، ثم المادية التاريخية .
فأما الأولى فيتبناها في بلادنا أصحاب الأيديولوجيات الدينية وفي مقدمتهم جماعة الأخوان فتراهم يقيمون علاقة " تلازم في الوقوع " بين تعرضهم للاضطهاد وهزائم الوطن، قائلين إنه بعد كل تنكيل بالإخوان كان الانتقام الإلهي شاملا وعامّا، فعقب اعتقالات ناصر للإخوان في 54 وقعت هزيمة 56، وعقب اعتقالاته لهم في 65 جاءت هزيمة 67 الساحقة ، وعليه تصبح ثورة الشعب في يناير 2011 تعويضاً لتعرَّضهم في عصر مبارك للمحاكمات العسكرية الظالمة؛ هكذا أسقط الله من أجلهم النظام بأكمله!
حتى توظيف الدين لا يجدي
إن تفسيراً للأحداث على هذا النحو يتبنى نظرية "الإله محرك التاريخ " وآليتها "البداء " الذي اخترعه اليهود في العهد القديم ! وبمقتضاه ليس لأحد أن يسأل لماذا ترك الإله اليهود القدامى للشتات وكانوا شعبه المختار؟! ولماذا حقق لإسرائيل النصر على العرب ؟ ولم لم يعاقبها على قتل وتشريد الفلسطينيين، وسحق الأسري المصريين أحياء بدباباتهم ؟! وكيف سمح الرب للجيش المصري أن يحقق نصر أكتوبر بينما كان الأخوان في المعتقلات والسجون ؟! حيث الإجابة مضمرة في المبدأ نفسه : لقد بدا له أن يفعل هذا ولا يفعل ذاك ، وهو مبدأ سقيم لا يصمد للمناقشة . لكن أصحابه ما فتئوا يروجون بين البسطاء أنهم على علم بإرادة الله التي قضت -حسب كلامهم – بمعاقبة من يضطهدهم بالذات ، وتلك سذاجة سياسية لا يمكنها أن تغطرش على حقائق الحياة وواقعية الصراعات البشرية.


فلسفة العبث
نظرية التفسير التآمري للتاريخ نعثر علي نموذجها في مقالة الكاتب د. شريف الشاذلي المنشورة بجريدة القاهرة في 7 يونيو 2011 معبرا ً عن فكرته حول عبثية الكون ، باستعارة أسطورة سيزيف حيث تسقط الصخرة من يد محمد على باشا قبل الوصول بها للقمة عقاباً له ( على ماذا ؟) ثم يعود عبد الناصر ليرفعها لتسقط منه للقاع بمؤامرة من سادة الأوليمب ( من هم ؟ ) وما يكاد السادات يرفعها من جديد حتى تهوي ( لماذا ؟ ) وأما مبارك الذي حملها لفترة فقد تركها تتدحرج مكتفيا بالجلوس في الظل ( كيف؟) فماذا سيفعل سيزيف القادم بعد يناير؟ العلم عند سادة الأوليمب ! وواضح من هذا العرض الرمزي لتاريخ مصر الحديث تهافت نظرية المؤامرة التاريخية مما يحتم استبعادها دون تردد.

*** ***
النظرية الثالثة تعتمد على التحليل العلمي للظروف الموضوعية التي جرت الأحداث في ظلها ، وهي ظروف لم يصنعها أحد بالذات ، بل هي إنتاج للواقع الجغرافي ، ودرجة نمو قوى وأنماط وعلاقات الإنتاج، وحالة النشاط الثقافي في مجمله. فمن تفاعل البشر مع هذه الظروف إيجاباً أو سلبا ً تولد الأحداث الكبرى وُيفهم مغزاها.
في ضوء هذه النظرية يمكن القول بأن ثورة يناير يمكن فهمها فقط بالرجوع إلى أوائل القرن 18 حين أدخل محمد على زراعة القطن في مصر[ وكان عملا ً ثوريا ً يوازي اكتشاف البخار في أوربا ] حيث ترتب على تغيير نمط المحاصيل الزراعية المخصصة للغذاء إلى إنتاج المحاصيل القابلة للتصنيع ، أن شيدت المحالج ثم مصانع الغزل والنسيج بجانب الصناعات التكميلية، ثم صناعة السلاح حيث احتاج الوالي لجيش عصري قوي يعزز محاولته للسيطرة على الأسواق القريبة لزوم تصدير الإنتاج الكثيف الناشئ، ومن هنا جاءت الفتوحات العسكرية لبلاد الشام والسودان والحجاز بل وأجزاء من أوربا وصولا إلى مشارف عاصمة الدولة العثمانية ذاتها. وبالطبع ما كان لأوربا أن تسكت على هذا المنافس الخطير المهدد لمصالحها الإستراتيجية فوجهت ضربتها للأسطول المصري عام 1927 مجبرة الوالي على قبول معاهدة لندن 1840 لتدخل مصر بها دور الانكماش. وما تكاد تعاود الكرة بالثورة العرابية حتى تجهضها بريطانيا باحتلال البلاد 1882. لكن طبقة ملاك الأرض الزراعية وحليفتها طبقة الرأسمالية الجديدة ما لبثت حتى استعادت بعض قوتها إبان انشغال بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، فسيطرت على سوق الإنتاج والاستهلاك المحلي، وخوفا ً من عودة بريطانيا بعد فراغها من الحرب – متحالفة ً مع سلطة القصر رأس ِ الإقطاع - إلى تدمير الصناعة الوطنية المجددة راحت البورجوازية المصرية تعد لثورة هدفها إجلاء المحتل وتحجيم سلطة القصر.
هكذا اشتعلت ثورة 1919 بزعامة الوفد قائد الطبقات والطوائف الشعبية، لتظفر مصر باستقلال نسبي وبدستور ملائم وبحياة حزبية ولبرالية معقولة . غير أن الثورة هذه عجزت طوال العقود التالية عن تصفية الإقطاع لأسباب هيكلية ( تداخل مصالح الرأسماليين بمصالح الإقطاع ) فكان ضروريا ً أن تتقدم شريحة من الطبقة الوسطى لإنجاز هذا الدور التاريخي شريطة أن تكون مزودة ً بالقوة . كانت هذه الشريحة هي ضباط الجيش [ الكولونيلات وليس الجنرالات ] من ذوي الأصول الشعبية الذين التحقوا بالكلية الحربية بعد توقيع معاهدة الاستقلال 1936 فيما احتاجت حكومة الوفد إلى مضاعفة أعداد الضباط الوطنيين حماية للأمن القومي تحسبا ً لنشوب حرب عالمية كانت نذرها تلوح في الآفاق .
تلك كانت مقدمات ظهور الجناح العسكري الوطني من الطبقة الوسطي ، وهكذا فإن طلاب الكلية الحربية الذين صاروا عام 1952 عقداء ومقدمين لم يتلكؤا عن الإطاحة بالنظام الملكي وتصفية الإقطاع ، فنالوا بذلك تأييد الطبقات الشعبية دون تحفظ. بيد أن الحكام الجدد ، ولأسباب هيكلية أيضا ً ( كونهم عسكرتاريا مبدأها السمع والطاعة لا ترحب بالديمقراطية) ما لبثوا حتى أطاحوا بكل الانجازات اللبرالية التي سبق تحقيقها عبر ثورة 19 ، فألغيت الأحزاب ، و ُقيد حق التفكير والتعبير ، وفرضت الرقابة على الصحف والإذاعة ، وفتحت المعتقلات للمعارضين، فوضعوا بذلك – ولو عن غير قصد- حجر الأساس للفساد الذي لم يزل ينمو حتى صار عملاق التجريف التنموي في العهد المباركي، في ظله ظهر ما أسميه بـ " الاقتصاد الريعي للفساد " تحتكر بموجبه الرأسمالية ُ الطفيلية ُ معظم َ الناتج القومي ، فكان ضروريا ً للطبقة الوسطى بكل شرائحها الصناعية والزراعية بقيادة شبيبتها من العاملين في ميدان الإنتاج المعرفي الحديث أن تفجر الثورة الثالثة مطيحة بالحكم الدكتاتوري وقاعدته الريعية الفاسدة .
والخلاصة أن تجربتي محمد علي وجمال عبد الناصر بحسبان سعي كلتيهما إلي اللحاق بالثورة الصناعية الحديثة التي من شأنها نقل المجتمع المصري من مجتمع زراعي بالدرجة الأولي إلي فضاء المجتمعات الصناعية، إنما كان من شأنه (موضوعيا ) الوصول بالمجتمع لنوع من الليبرالية السياسية - وهو ما نجحت فيه جزئيا ثورة 1919- بيد أن إخفاق تجربتيْ الوالي والبكباشى قد حدث جراء وصولهما متأخرتين، حيث كانت الدول الغربية الكبرى ( مركز النظام الرأسمالي) قد أحكمت سيطرتها علي الأسواق العالمية، بما سمح لها أن تحدد شروط النمو لكل دولة من دول الأطراف، وما من شك في أن المركز المهيمن لم يكن يري في طموحات محمد علي وعبد الناصر إلا تهديدا لمصالحه، ومن هنا جري إجهاض التجربتين من خلال إنزال الهزيمة العسكرية بهما .
مجتمع ما بعد البورجوازية
ربما جاءت مطالب ثورة يناير متواضعة قياسا ً لتجربتيْ الباشا والبكباشى ، ولهذا بالضبط سوف يقدر لها النجاح ، فلقد تبنت نموذج مجتمع ما بعد البورجوازية Post – Bourgeoisie Society ( المصطلح صكه كاتب هذه السطور وقد اعتمده تقرير التنمية الإنسانية العربية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للعام 2004 في الإطار 7-1 ص158) وجوهره " عناصر ومنظمات المجتمع المدني، أحزاب بغير وصاية، وصحافة لا تطالها المصادرة ، ونقابات مستقلة عن الحكومة، وأندية وجمعيات ثقافية ومذاهب لا ُتجرم، وتيارات فكرية فنية وأدبية لا تخضع لإرهاب معنوي، وسينما ومسرح يلبيان الحاجات المعنوية للشعب دون رقابة بطريركية، ودستور لا تناقض مواده ميثاق حقوق الإنسان. كل هذا برعاية دولة عصرية لا تمايز بين عقيدة وأخرى، أو رجل وامرأة .. دولة عصرية تفصل بينها وبين الدين كممارسة سلطوية، ولكن لا تفصل بينه وبين المجتمع كنبض من نبضاته ، وتشوّف من تشوفات الروح فيه "
ربما يرى الماركسيون الأرثوذكس أن إخفاق الثورات الشعبية في إزاحة طبقة البورجوازية عن مركز الصدارة مسألة مأساوية، فهاهو صاحب كتاب" نهاية التاريخ وخاتم البشر " يخرج لسانه للاشتراكيين مؤكدا ًعلى بقاء الرأسمالية أبد الدهر. والحال أن التاريخ هو الذي يخرج لسانه لفوكوياما قائلا : من مكمنه يؤتى الحذرُ، فالبورجوازية لها ما بعدها : مجتمع مدني متقدم ينهي الصراع بين الطبقات عن طريق الإصلاحات المستدامة والثقافة رفيعة المستوى، والتضامن والتكافل بين الأمم والشعوب في حضن الأمم المتحدة التي ُتعد جنينا ً لدولة الأرض الموحدة.
وهذه هي اشتراكية العصر القادم التي ينبغي في ضوئها قراءة ثورة يناير المصرية .













#مهدي_بندق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اللبرالية .. الهمجية .. الفاشية .. مصطلحات
- قصيدة : رؤوس القبائل ملقية في السلال
- حرية الإرادة بين ألغاز الخطاب الديني وحلول الفيزياء الحديثة
- دليل الشباب الذكي إلى مصطلحات الفكر الثوري
- قصيدة : الذي لا يجئ
- قصيدة : يعوي لها ذئب صديق في الفلاة
- قراءة نقدية لمنجزات الخامس والعشرين من يناير
- قصيدة : من وصايا غيلان الدمشقي
- الفاشيون قادمون ..لبنان نموذجا والتطبيق في مصر
- هل يتمكن الشعب المصري من تعديل المصطلح الكلاسيكي لمفهوم الثو ...
- سقوط النمط الآسيوي للإنتاج وانتصار شباب الثورة الثالثة
- سالة من مواطن مصري إلى رئيس وزراء بريطتنيا
- قصيدة : تحولات يناير المعظم
- بين رمضاء العسكرتاريا ونار الجماعة الإخوانية
- القضاء على الإرهاب مشروط بحذف المادة الثانية من الدستور المص ...
- قصيدة : الشظايا
- الرعب السياسي بين الكونت دراكولا وجريجوري سامسا
- مصر- المحروسة- وشبح الفاشية
- مصير الدولة الحديثة بين قنابل الجهاد وموائد ماك وانزلاقات ال ...
- ورق في الثقب الأسود - قصيدة


المزيد.....




- فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص ...
- حرب غزة: أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و77 ألف جريح ومسؤول في ...
- سموتريتش يرد على المقترح المصري: استسلام كامل لإسرائيل
- مُحاكمة -مليئة بالتساؤلات-، وخيارات متاحة بشأن حصانة ترامب ف ...
- والدا رهينة إسرائيلي-أمريكي يناشدان للتوصل لصفقة إطلاق سراح ...
- بكين تستدعي السفيرة الألمانية لديها بسبب اتهامات للصين بالتج ...
- صور: -غريندايزر- يلتقي بعشاقه في باريس
- خوفا من -السلوك الإدماني-.. تيك توك تعلق ميزة المكافآت في تط ...
- لبيد: إسرائيل ليس لديها ما يكفي من الجنود وعلى نتنياهو الاست ...
- اختبار صعب للإعلام.. محاكمات ستنطلق ضد إسرائيل في كل مكان با ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مهدي بندق - كيف نؤرخ لثورة يناير