|
قراءة نقدية لمنجزات الخامس والعشرين من يناير
مهدي بندق
الحوار المتمدن-العدد: 3311 - 2011 / 3 / 20 - 22:34
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حين يقع حادث جلل عظيم متفرد بملامحه الخاصة ، غير مسبوق في التاريخ المصري اللهم ، إلا بثورة المصريين على الفرعون بيبي الثاني الذي حكم 91 عاما ً [ت 2184 ق.م] فمن الطبيعي أن تتناوش المثقف َ رؤيتان لا رؤية واحدة تجاه ذلك الحدث الجلل ، المرشح لإعادة رسم الخرائط السياسية ليس في مصر وحدها بل وفي العالم العربي بأسره ، والمنطقة المحيطة به وصولا ً إلى آسيا وربما إلى أوربا ذاتها . ويسعى كاتب هذه المقالة ليس إلى رصد النتائج السياسية المتوقعة، على أهميتها في المدى القريب القادم ، بقدر ما يحاول نقد الرؤى والأفكار المحايثة للنموذج "الينايري ّ " وأيضا لـ "ناقديه " [ آلية نقد النقد ] بإدراك من الكاتب أنه من دون هذا النقد المزدوج فلا مندوحة من الوقوع في السطحية المدمرة ، بوصفها أقصر الخطوط الموصلة للبلادة التي بـ " فضلها " يمكن إعادة إنتاج حالة المفعولية القديمة ، وتلك نكسة النكسات . وبالمقابل يدرك الناقد أن ما تحقق للشعب المصري من اكتساب لصفة الفاعلية Agency لكفيل بالبدء في تشييد البناء الذي دق أجراسه طائر " المعز " قبل موعده . وإن عاصمة جديدة لمصر ( بالمعنى المجازي ) تكاد تقف شامخة من الآن على مرمى البصر شريطة أن يصاحب بناءها إعمال ُ التفكير والتدرب ُ على آليات النقد ، واستبدال " القراءة " المثمرة بتوافه المسلسلات التليفزيونية وسخافة الأغاني الصاخبة و" المقلدة" لـ " خلو بال " شباب الكاوبوي واليانكي والهوليجان. فيا ليت قارئي أن يطيق معي صبرا . وكيف لا يصبر على محاولة البناء مصري ٌ صبر طويلا على الأذى والظلم والمسغبة ؟!
الرؤية الأولي : التنظير ونقيضه يقول جان بول سارتر " للثوري الحق كله في الاندفاعة الأولي ، أما الثانية فلا يصح معها غير التريث وإعادة الحسابات والتدبر لما هو قادم " وهذا بالضبط ما التزم به ، منهجيا ً ، كاتب هذه السطور على الأقل فيما يتعلق برؤيته للحدث الكبير ، وهي رؤية لا سبيل لعرضها بغير إعادة التسلسل في المنظور إلى نقطة البداية ، ألا وهي نقطة القراءة الانطباعية للحدث لحظة وقوعه . ووقوفا ُ عل حدود هذه النقطة يلزمني القول إنني تحفظتُ - من وجهة نظر علم الاجتماع السياسي - على وصف انتفاضة يناير العظمي بالـ " الثورة " مبينا أسباب ذلك التحفظ بمقالي المنشور بجريدة القاهرة [الثلاثاء 8 مارس 2011 ص8 ] وخلاصته أن مصطلح الثورة لا يصح إسباغه إلا على التغيير الراديكالي الشامل والذي تصاحبه بالضرورة تغييرات جذرية في أوضاع الملكية Ownership وهو ما لم تقم به – وحتى لم تفكر فيه – انتفاضة يناير . ثم تلا ذلك وقت تمنيت فيه لو مارست النقد الذاتي على هذه الطريقة في التفكير ، خاصة بعد أن رأيت ورأى العالم كله كيف أسرعت مصر جميعا ً لإطفاء حريق الفتنة الطائفية ، مجندة لهذا الإطفاء العظيم جماهير شعبها بمسلميه ومسيحييه، بقواته المسلحة وأحزابه السياسية ،بـ "إخوانه"و"متصوفته" و"رهبانه" وأدبائه وفنانيه ؛ مبرهنة بذلك – أقصد مصر - على امتلاكها أعنة الوعي بمتطلبات المرحلة التاريخية الراهنة .. هذا الوعي الذي بفضله تمكنت البلاد من فرز " الذنيبة " عن الأرز ، أو بتعبير مباشر : فصل الفوضى عن مسيرة الثورة . هل قلت "الثورة " ؟ نعم فلقد نطق بها القلب وصادقت عليها الكتابة . ولم لا يكون يناير ثورة من نوع جديد شديد الخصوصية ؟ وكيف لا أحرض عقلي على الوقوف في وجه علم الاجتماع السياسي قائلا له بحزم : أنت محتاج إلى إعادة النظر في مصطلحاتك الكلاسيكية ، وإنني لأنتقد نفسي إذ غلـّبت ُ معاييرك سابقة التجهيز على ثراء الواقع وإمكاناته المطمورة والتي تعرف متى تنبجس وتتألق . نعم قلت لنفسي : هذه ثورة مصرية لا غش فيها ولسوف تغير ملامح النظريات المستقرة في حقول العلوم الإنسانية . ولم لا وهذا هو الفيلسوف الفرنسي بول فيرا بند Paul Feyraband يحثنا على ألا نستسلم بكليتنا لـ " إمبريالية العلم " منبها ً إلى أن التطبيق العقلاني الفظ لما يعرف بالمنهج العلمي لم يمنحنا معرفة أفضل ولا عالما أفضل ! والحق أن ما ذهب إليه فيرابند لا يخرج عن الحدود التي لا تفتأ تتسع كلما اتسعت الرؤيا ، حيث تضيق عنها العبارة كما قال النفري ّ ، وهو ما يستلزم في التطبيق ضرورة إخضاع الأيديولوجيات والمذاهب والعقائد بل والعلم نفسه للإنسان وليس العكس .
الرؤية الثانية : ابتكار الواقع وحدود الإمكان من جهة أخرى فإن المثقف لاغرو يجد عقله في حالة مساءلة ذاتية تعيده ليس إلى صرامة المصطلح العلمي في حد ذاته ، وإنما إلى النتائج الفعلية كما تتمظهر على أرض الواقع ، ليستبين منها ما تحقق وما لم يتحقق . نعم نجح شباب الخامس والعشرين الأعزل من أي سلاح عدا الإرادة الفولاذية في إسقاط طاغية عن عرشه ، ومعه أعوانه الجبابرة ، ونجح ثانيا ً في هدم صروح للقهر والتعذيب ما كان ُيتصور لها أن تهدم ، كما نجح ثالثا ً – وهذا هو الأهم – في استعادة صفة الفاعلية ومحو ثقافة المفعولية والإذعان الموروثة جيلا عن جيل ، وكل هذا صحيح لا ريب فيه ، بيد أن هذا الشباب "الثوري" في حركته المندفعة الأولى لم يتمكن من بلوغ الغاية النهائية لمسيرته المظفرة ، تلك الغاية التي تبدأ بالوصول إلى سلطة الدولة لتنتهي بتأسيس نظام سياسي جديد تعمل الدولة ُ بشروطه وتوجهاته . فكيف حدث هذا ؟ إن تفسير ذلك بسيط غير ممتنع على الفهم ؛ فأنت تستطيع هدم منزل خرب لا يصلح للعيش ، تستطيع هدمه دون حاجة إلى نظرية علمية ، لكنك لا تقدر على بناء منزل جديد " بالبركة " دون أن تكون مزودا ً بنظرية في الهندسة المعمارية . ولذا قيل " لا حركة ثورية بغير نظرية ثورية " ولما كان شباب يناير يفتقرون إلى الوعي النظريّ بعلم الثورات المؤسس على الفلسفة بمذاهبها المشتبكة، ودراسة التاريخ بمدارسه المختلفة ، والإحاطة الواسعة بعلم الاجتماع بفروعه المتعددة ، فلقد كان منطقيا ً أن تصل حركتهم إلى محطة هدم البناء الفاسد لا تغادرها إلى بناء نظام جديد ، وهو ما يدل عليه إحجام قيادتها – إن كان لها قيادة موحدة – عن محاولة بلوغ السلطة ، فكان الحصاد : القبول بسلطة غيرهم ، والاكتفاء بتقديم مطالباتهم المشروعة إلحاحا ً عليها أو مفاوضة حولها . عن هذا الحصاد المحدود كتب محيي الدين اللاذقاني ، وهو مثقف سوري بارز : لن تتوقف المطالبات سلما أو عنفا حتى تستكمل شعوب المنطقة العربية عودتها إلى التاريخ الفاعل الذي غيبتها عنه فئة باغية من أبنائها. و هذه – والحق يقال - عبارة حاكمة في سوسيولوجيا الثورات الحديثة ، وأعني بها الثورات التي تشعلها فئات ُ الطبقة الوسطى بالتخارج مع الصراع الطبقي الكلاسيكي . وهو ما يفسر الاندفاع إلى إزالة القشرة العليا من نظام مستبد ، عناصره لصوص بالمعنى القانوني ، بينما تقبل تلك الثورات بنفس النظام الطبقي ولكن مع التحسينات الضرورية لحفظ " الكرامة " ودرء "الإهانات " . أما الطبقة العاملة ومن يساندها من عناصر البورجوازية الصغيرة المتألمة - لاسيما موظفي الحكومة والشركات العامة والخاصة - فليس متاحا ً لها سوى "المطالبات" الفئوية المحدودة ، تتنادى بها على مسرح العمل السياسي وليس من خلال الثورة الراديكالية المؤسسة على تأصيل نظري ّ يضعه علم الثورات تحت عناوين : الخط السياسي والإستراتيجية والتكتيك . ليكن إذن ما سمح به السياق التاريخي .. إسقاط رؤوس كان قطافها قد حان ، ثم الاحتشاد بـ " مطالبات " لو لبيت لانطلقت مسيرة الديمقراطية بتسارع مأمول ، إنما في هذا السياق المتاح قد يقول البعض لتكن إذن مطالبات ذات سقوف مرتفعة ، فعلى قدر أهل العزم تؤتى العزائم ُ / وتؤتى على قدر الكرام المكارم ُ ، وأغلب الظن ألا يختلف الكرام على تسمية المكارم . ساعتها ليكن الاسم ما شاء له ذووه ، فكما قال الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور : ماذا يعني الاسم ؟ / فالوردة تحت أي اسم ٍ تنشر عطرا / والقنفذ تحت أي اسم ٍ يدخل في جلده . إن مأثرة يناير التاريخية الكبرى لتتبدي في اكتشاف الشخصية المصرية لذاتها ، واكتشاف العقل المصري لقدرته على التفكير وممارسة النقد الثقافي العام جنبا إلى جنب استعداده لممارسة النقد الذاتي ، ولعل ما نراه اليوم من إرهاصات بشأنه ليتجسم في إقبال شباب الأخوان على مداخل الحوار مع آليات العصر تقنيا ً وفكريا ً ، بما يشي بقرب تخلصهم من ثقافة السمع والطاعة ، الثقافة الموروثة من عصور الإذعان ، الداعية للركون إلى فكر أشعري وفقه حنبلي مضمونهما في التحليل الأخير أن القيادة الأعلى هي وحدها مصدر القرار ، وعلى الرعية التسليم دون احتجاج أو تذمر ! لقد أطاح إعصار يناير بتلك الثقافة الماكرة المضللة ، ولا يتصور عاقل لها أن تعود ، تماما بمثل ما لا يتصور للغلام إذا بلغ الحلم أن يعود طفلا ، وهكذا ، وبمولد هذا الواقع الجديد انفتح الفضاء السياسي للوردة والقنفذ معا ، الأولى مهمتها نشر العطر الديمقراطي في ربوع المحروسة ، والثاني بتركيبته وبنيته لا بد سينكمش في جلده " الفاشي " طال الوقت أو قصر .
#مهدي_بندق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصيدة : من وصايا غيلان الدمشقي
-
الفاشيون قادمون ..لبنان نموذجا والتطبيق في مصر
-
هل يتمكن الشعب المصري من تعديل المصطلح الكلاسيكي لمفهوم الثو
...
-
سقوط النمط الآسيوي للإنتاج وانتصار شباب الثورة الثالثة
-
سالة من مواطن مصري إلى رئيس وزراء بريطتنيا
-
قصيدة : تحولات يناير المعظم
-
بين رمضاء العسكرتاريا ونار الجماعة الإخوانية
-
القضاء على الإرهاب مشروط بحذف المادة الثانية من الدستور المص
...
-
قصيدة : الشظايا
-
الرعب السياسي بين الكونت دراكولا وجريجوري سامسا
-
مصر- المحروسة- وشبح الفاشية
-
مصير الدولة الحديثة بين قنابل الجهاد وموائد ماك وانزلاقات ال
...
-
ورق في الثقب الأسود - قصيدة
-
سؤال النهضة في مصر وإجابة الموجة الثالثة
-
وهم استعادة النهضة في مصر
-
أطباء بلا حدود والضوء الشاحب
-
الفلسفة وحل مشكلات مصر المحروسة
-
هنيئاً لأهل القاهرة الأذان الموحد
-
إلى أين المصير؟
-
هل يطلب البابا دولة قبطية في مصر؟
المزيد.....
-
مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
-
الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو
...
-
مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ
...
-
انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي
...
-
هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
-
وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي
...
-
عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با
...
-
وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع
...
-
تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
-
السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس
...
المزيد.....
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
-
العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني
/ حميد الكفائي
-
جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية
/ جدو جبريل
المزيد.....
|