مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 3358 - 2011 / 5 / 7 - 10:42
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الحقيقة أنه مع شيطنة الطائفي و المتطرف , كصفات لبشر عاديين يعيشون في مجتمعاتنا , فإن القدرة على فهم أو تحليل هؤلاء الأشخاص تصبح مهمة شاقة , صعبة ما دام تنميط هؤلاء الأشخاص يصورهم ككائنات يجب استئصالها فقط , عن طريق العنف غالبا , إن لم يكن بالعنف الهمجي أساسا .... لكن الكثير من الملاحظات العابرة و المتأنية تشير بوضوح إلى علاقة قوية بين هذا الصعود و بين الحالة الاجتماعية التي نتجت عن تفاقم النهب البيروقراطي خاصة للطبقات الأكثر فقرا و تهميشها سياسيا مع تسارع نمو البيروقراطية الحاكمة منذ ستينيات و سبعينيات القرن العشرين و شهدت تسارعا هائلا مع تطبيق السياسات النيوليبرالية منذ تسعينيات القون العشرين ... في سوريا مثلا يستوقفنا كثيرا الوضع المعاشي لسكان أحياء مدينية فقيرة جدا كالسكنتوري في اللاذقية مثلا و سيطرة الفكر الديني , سواء بشكله الطائفي أو الأصولي على الناس هناك , ينسحب هذا أيضا على البؤر المدينية التي أصبحت حاملة للتطرف من الأحياء الفقيرة من طرابلس في لبنان و المخيمات الفلسطينية هناك ( و حتى في فلسطين المحتلة نفسها ) , إلى الأحياء الفقيرة على هامش المدن الكبرى في المغرب العربي , حيث التلازم بين الإفقار و التهميش الاجتماعي و السياسي من قبل أنظمة تدعي العلمنة و بين التوجه الشعبي نحو الأصولية الدينية أوضح أكثر فأكثر .. هناك بالفعل دور للبترودولار , و لعوامل مشابهة مثل محاولة آل الحريري مثلا إنتاج حاضنة طائفية موالية في شمال لبنان , و لهيمنة الفكر السلفي سعوديا حتى أوائل التسعينيات و استمرار تلك الهيمنة بهذا الشكل أو ذاك حتى اليوم و للإمكانيات التي توفرت له على الفضائيات و الانترنيت و تأثر أعداد كبيرة من المصريين و السوريين و غيرهم من العاملين العرب في السعودية بهذا الفكر عن طريق عملهم هناك , لكن كل هذه هي في الحقيقة عوامل ثانوية , مساعدة في أفضل الأحوال للعامل الأبرز و هو صعود التناقض بين طبقات و فئات اجتماعية محرومة و بين البيروقراطية الحاكمة في هذه الأنظمة .. في سوريا حاولت السلطة الجديدة منذ 8 آذار أن تتكئ على الفلاحين , خاصة الفقراء , كقاعدة اجتماعية لحزبها السياسي و من ثم لسلطتها الناشئة التي بنتها على أساس سيطرتها على الجيش أساسا .... لكن مع تقدم تشكل البيروقراطية الحاكمة على رأس النظام البعثي و تكريس شكل جديد من علاقات الملكية و الإنتاج يقوم أيضا على ملكية أقلية لوسائل الإنتاج و استغلالها لعمل الأغلبية , اضطلعت البيروقراطية الصاعدة بمهمة "الإشراف" على وسائل الإنتاج و توزيع نتاج العمل الجماعي , عمليا كان هذا يعني أنها هي المالكة الحقيقية لوسائل الإنتاج و أنها هي التي كانت تستولي على القيمة الزائدة التي ينتجها العمال الصناعيون و الزراعيون , و الأكثر أهمية ربما , أنها هي التي تتحكم بالموارد الطبيعية للبلاد و ذلك بشكل مطلق تقريبا , خاصة منذ أوائل الثمانينيات عندما اتخذ النظام السوري شكله الحالي النهائي ... يجب أن نلاحظ ظاهرة هامة جدا رافقت صعود و تشكل هذه البيروقراطية الحاكمة تمثلت في انتقال التهميش الاجتماعي و الفقر المدقع من الريف إلى محيط المدن الكبرى , و هذا صحيح أيضا في البلدان العربية , و ربما على مستوى كل بلدان الجنوب المتخلف ... في سوريا تراجعت ظاهرة الفقر المدقع و التهميش المطلق للفلاحين خاصة منذ التطبيق الراديكالي للإصلاح الزراعي في الستينيات , بالمقابل نشأت و تعمقت ظاهرة الفقر المدقع في المدينة , رغم أنه صحيح أن بؤر الفقر هذه كانت أساسا في محيط المدن الكبرى الذي كان يتوسع خاصة مع تزايد الهجرة من الريف إلى المدينة , أيضا تسارعت هذه العملية منذ التسعينيات مع إزمان الأزمات الاقتصادية البنيوية منها و الناتجة عن تزايد نهب البيروقراطية الحاكمة , أخذ الفقر بالتفاقم في المدينة باضطراد مقابل تراجعه النسبي في الريف , أصبحنا نرى مثلا في بعض أحياء اللاذقية مثلا و في أحزمة الفقر المحيطة بدمشق صورا تشابه الفقر المدقع و التهميش الاجتماعي الحاد الذي كنا نشاهده سابقا في الريف في الأربعينيات و ما قبلها ... جزء هام من التحسن النسبي في وضع ساكني الريف السوري ارتبط بصعود و تضخم أجهزة الأمن بلا شك التي اعتمدت على تحويل أبناء الفلاحين إلى عناصر أمن "مخلصين" و "موثوقين" بتدريبهم على مهام القمع أساسا , و بظهور الشبيحة أنفسهم كقوة تحصل على دخل مرتفع بطريقة غير قانونية و قانونية في نفس الوقت , قانونية بالنسبة للنظام و غير قانونية بالنسبة للمجتمع , إضافة طبعا إلى دور كبار الضباط الأمنيين و العسكريين أبناء الريف , كواسطة ممكنة لكل من يعيش في هذا الريف لتأمين وظيفة متواضعة هنا أو هناك , كل هذا ساعد في خلق الاعتقاد ( أو بالأحرى وهم ) أن النظام يحابي الريف أو أن هذه التطورات قد ساعدت في إظهار الريف , أجزاء منه على الأقل , على أن مصالحه مرتبطة بمصالح النظام , و بالمقابل أنتجت إحساسا كبيرا بالغبن الاجتماعي و السياسي , هذا الغبن فسر "طائفيا" في مناطق التهميش الاجتماعي الجديدة , مناطق الفقر المدقع الجديدة , المدينية .. من الطبيعي في مواجهة أنظمة متعلمنة أو تدعي العلمنة أن ينمي الإحساس بالغبن و التهميش ردة فعل معادية للعلمنة الفوقية المفروضة بالقمع , و أن يشكل الإحساس الطائفي أيضا أساس ردة الفعل على ما فهم على أنه حالة طائفية مرتبطة بالنظام ... لا يمكن للعين أن تخطئ تزايد نسبة المحجبات و مرتادي المساجد مؤخرا في المدن الكبرى , حتى بين الفئات ذات الحالة المعيشية الأفضل نسبيا , لقد قرأت العلمنة المرتبطة بالنظام على أنها إيديولوجيا سلطوية فوقية لتبرير نهبه و احتكاره للسلطة , لتبرير الظلم الاجتماعي و السياسي الذي أنتجه النظام , و لتبرير هيمنة رأس البيروقراطية الحاكمة , و ليست إيديولوجيا تحريرية للناس , أو للطبقات الأشد فقرا و تهميشا , أو إيديولوجيا مساواتية بين البشر , على العكس فهمت أنها إيديولوجيا سلطة قمعية منفلتة على المجتمع , هذا في مقابل تراجع قوة اليسار لأسباب مختلفة و خاصة بسبب نجاح النظام في احتواء مشروعه العلماني أو المناهض للموقف الأحادي الجامد من التراث , الأمر الذي جعل مشروع هذا اليسار بلا طعم , و غير متمايز عن مشروع استمرار النظام كما هو , هذا أيضا لعب دورا هاما , إلى جانب التحاق قسم هام من القيادات اليسارية بصفوف بيروقراطية النظام من المستوى الثاني و الثالث ( أي قادة ما تسمى ب"المنظمات الجماهيرية" و مدراء بعض شركات "القطاع العام" ) في خلق إحساس لدى اليسار السوري بالخطر من الحراك الشعبي الراهن العفوي و المتحرر من وصاية أجهزة أمن النظام و مؤسساته البيروقراطية الفوقية ... لكن المناطق التي تحتل المحافظة الاجتماعية و الدينية مكانا قويا فيها لا تقتصر على تلك الأحياء الفقيرة , نشاهد أن من بين هذه المناطق ذات النزعة المحافظة تلك المناطق الريفية المحافظة التي تعرضت لتحول مديني متسارع كدوما و سائر بلدات و مدن غوطة دمشق مثلا و التي أصبح أهلها يتمتعون بمستوى معقول من الحياة بسبب ارتفاع أسعار أراضيهم الزراعية و تحولها إلى مناطق سكنية , لكن هذا التحسن النسبي في الحالة الاقتصادية ترافق باستمرار التهميش السياسي الذي أصبح طعمه أكثر مرارة بالطبع , عدا عن أن هذه المناطق بدت مغرية جدا للموظفين البيروقراطيين الفاسدين لنهب سكانها , الأمر الذي فاقم إحساسهم بانفلات و تغول أجهزة و مؤسسات النظام .. إن الثورة تعبير صريح عن التهميش الاجتماعي و السياسي , و القوى و الفئات و الطبقات الاجتماعية تنخرط في هذه الثورة بحسب درجة إحساسها بالغبن و التهميش , هذا لا يلغي حقيقة أساسية في سوريا اليوم , هي أن التهميش و الظلم و القمع هو من نصيب كل فئات الشعب , كل طوائفه , لكن بدرجات متفاوتة , طالما كانت هذه لعبة مفضلة عند الطبقات الحاكمة لتقسيم من يضطهدوهم و إضعاف نضالاتهم المشتركة ضد الطبقة الحاكمة ... اليوم من يواجه ديكتاتورية الأسد هي أكثر هذه الطبقات و الفئات تعرضا و إحساسا بالتهميش و الظلم , هذا وحده هو الذي يمكن أن يفسر الاستعداد العالي للتضحية عنذ هؤلاء المنتفضين في مواجهة واحدة من أكثر آلات القمع وحشية و همجية في العالم و ربما في التاريخ المعاصر , هذا الاستعداد العالي للتضحية هو الذي يعادل حتى اللحظة قمع أجهزة النظام و يبدو أنه يصبح أقوى مع تصاعد وحشية قمع النظام ... لا بد هنا عند الحديث عن تقاطع حدود القهر الاجتماعي و السياسي مع حدود الطوائف بأن نستعرض التجربة اللبنانية المهمة جدا في هذا المجال , نعرف أن اليسار اللبناني وقف , قبل و أثناء الحرب الأهلية , إلى جانب القيادات الطائفية الإسلامية في الدعوة لتغيير نظام الحكم الطائفي الذي كان يقوم على هيمنة المارونية السياسية , بعد انتهاء الحرب الأهلية بقيت بنية النظام على حالها عمليا , الذي تغير هو أن القيادات الإسلامية الطائفية هي التي احتلت الموقع الذي كانت تشغله المارونية السياسية سابقا , و تميزت الفترة ما بين 1991 و 2005 خاصة بانتقال الشعور بالغبن و التهميش من الطوائف الإسلامية إلى الطوائف المسيحية خاصة المارونية تحديدا , الحقيقة أن الناس العاديين من كل الطوائف كانوا و لا يزالون في حالة تهميش دائمة , حتى عندما كان الحريري يمارس سلطة شبه مطلقة على الأمور في لبنان و بينما كان يحقق أرباحا خيالية من استثماره لماكينة الدولة كان سنة طرابلس , و حتى الضنية أيضا على سبيل المثال , يعانون تهميشا هائلا وصل لدرجة الفقر المدقع و معدلات بطالة مرتفعة جدا بين الشباب خاصة و غير ذلك من أشكال التهميش الاجتماعي , إن المنطق الطائفي لا يتطابق مع المنطق الاجتماعي الطبقي بل يناقضه في معظم الأحيان , ما بدا أنها سيطرة للقيادات التقليدية السنية ترافق بالضرورة مع تهميش و إفقار للسنة العاديين , و هذا يصح أيضا على قسم كبير من الموارنة في فترة سيطرة المارونية السياسية على مركز النظام الطائفي ... يبقى النظام , و تبقى النخب , ما يتغير هو فقط التوازن بينها , علاقات القوة بينها , لذلك عندما يناضل السوريون و يضحون لإسقاط الديكتاتورية في سوريا تبدو معركتهم هي نفسها معركة الشباب اللبناني لإسقاط النظام الطائفي , هزيمة هذين النظامين تكمن في الحقيقة في بناء مجتمع جديد , تنظيم جديد للسلطة و لملكية وسائل الإنتاج و عملية الإنتاج نفسها , و ليس على الإطلاق في إصلاح النظامين القائمين , مجتمع و تنظيم يقوم على حرية أفراده لا على حرية النخب , في استغلال أفراده أساسا ...
مازن كم الماز
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟