أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - عبد السلام أديب - ميكانيزمات التمرد الشعبي في البلدان المغاربية والعربية ودور البروليتارية التاريخي















المزيد.....


ميكانيزمات التمرد الشعبي في البلدان المغاربية والعربية ودور البروليتارية التاريخي


عبد السلام أديب

الحوار المتمدن-العدد: 3314 - 2011 / 3 / 23 - 08:35
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


تعتبر الأحداث الجارية حاليا في البلدان المغاربية والعربية ذات دلالات تاريخية عميقة غير مسبوقة، حتى وإن لم تظهر انعكاساتها العميقة على المنطقة وعلى العالم بعد. وقد أصبح على البروليتارية العالمية ان تتحمل مسؤولية قراءة هذه الأحداث العميقة واستخلاص الدروس الكفيلة بتعميق وعيها الطبقي من اجل انجاز مهمتها التاريخية في إحداث التغيير الجذري والتحرر والاشتراكية كبديل مجتمعي وحيد للبشرية لضمان استمرارية إنسانية الإنسان وعدم السقوط في البربرية والتوحش. فيما يلي عدد من الملاحظات الأولية حول ما الأحداث العميقة في البلدان المغاربية والعربية.

1 – الأمثلة التاريخية الوحيدة المشابهة للزحف الجماهيري والتمردات الشعبية المتواصلة في البلدان المغاربية والعربية منذ أن انفجرت عقب إحراق محمد البوعزيزي لذاته في سيدي بوزيد بتونس يوم 17 دجنبر 2010 ، لا نجدها الا في الثورات العمالية الكبرى كتلك التي فجرتها الطبقة العاملة في باريس سنة 1848 وأسست لكمونة باريس وأيضا تلك التي فجرتها البروليتارية أيضا في روسيا القيصرية سنة 1917. وتؤكد هذه الأمثلة التاريخية على أن الطبقة العاملة تصنع تاريخ حينما تستجمع كامل قوتها وتفجره في وجه عدوها الطبقي.

ورغم كون مركز هذه الهزات قد انطلق من البلدان المغاربية في تونس ومصر وليبيا ثم الجزائر والمغرب، إلا أن الاحتجاجات ضد الأنظمة القمعية انفجرت أيضا في قطاع غزة والأردن والعراق وإيران واليمن والبحرين والعربية السعودية، وسوريا. نفس الشيئ نلمسه في مواجهة النظام القمعي بالصين. كما نسمع أصداء عن احتجاجات واسعة في عدد من الدول الإفريقية كالسودان وتانزانيا وزيمبابوي، ... ويمكننا أن نرى التأثير المباشر لحركات التمرد في المظاهرات ضد الرشوة الحكومية وآثار الأزمة الاقتصادية بكرواتيا، وفي اللافتات وشعارات الإحتجاجات الطلابية في بريطانيا، وفي نضالات العمال في ويسكانسين في الوسط الغربي من الولايات المتحدة الأمريكية، وبدون شك في العديد من الدول الأخرى. وهذا لا يعني ان جميع هذه الحركات في العالم المغاربي والعربي متماثلة، سواء من حيث مضمونها الطبقي، أو من حيث مطالبها، أو في ردود فعل الطبقات المهيمنة، ولكن هناك عددا من الخصائص الأخرى التي تؤكد على الطابع الأممي للظاهرة.

2 – السياق التاريخي لحركات التمرد الجماهيرية في البلدان المغاربية والعربية:

- تعمق الأزمة الاقتصادية الأخطر في تاريخ الرأسمالية، والتي تضرب بعنف الاقتصاديات الأضعف في العالم المغاربي والعربي خاصة وتغرق الملايين من الكادحين في فقر مدقع، والتي لا آفاق مشرقة لها بل تعد بالمزيد من تعمق ظروف البؤس واتساع رقعته. وعلى عكس العديد من بلدان المركز التي تعرف "شيخوخة" متزايدة لسكانها، فإن هذه المنطقة تعج بالشباب الذين يشكلون أكبر نسبة من السكان، ويعانون على الخصوص من البطالة، ومن مستقبل منغلق بشكل كامل، سواء كان الشاب متعلما أم لا. وها نحن نلاحظ أن الشباب في مقدمة حركات التمرد المتفجرة في هذه البلدان؛


- الطابع الفاسد والقمعي لكافة الأنظمة المهيمنة في المنطقة والتي أصبحت الجماهير لا تطيقها. فخلال حقبة طويلة ظل النشاط القمعي المتوحش لأجهزة البوليس السرية والقوات المسلحة يحصي أنفاس الجماهير ويحاصرهم في ظل نوع من الانقسام والخوف، لكن هذه الوضعية نفسها تدفع الجماهير لكي تعمم إرادة توحيد نفسها وتكريس روح المقاومة لديها. وقد ظهر ذلك بشكل واضح في مصر، عندما أرسل الدكتاتور مبارك جيشه البلطجي وبوليسه السري لإرهاب الجماهير التي تحتل ساحة التحرير: فقد كرست هذه الاستفزازات فقط إصرار المتظاهرين على الدفاع عن أنفسهم والتحاق الآلاف الآخرين بهم. كما أن الفساد والارتشاء الفاضح وجشع التحالف الطبقي الحاكم الذي راكم ثروات خيالية، في الوقت الذي تعاني فيه الأغلبية العظمى من الشعب من شظف العيش والحفاظ على البقاء يوما بيوم، أدى الى إشعال نيران التمرد، حالما بدأ الناس يتغلبون على خوفهم من القمع؛


- لم يحدث التبخر المفاجئ للخوف في نفوس الجماهير المتمردة، والذي ظهر بقوة لدى المشاركين في التظاهرات التي سقط فيها العديد منهم تحت نيران القناصة، فقط نتيجة التحولات الحاصلة محليا وجهويا، بل أيضا نتيجة انتشار جو من السخط المتزايد وتطور صراع طبقي على المستوى الدولي. ففي مواجهة الأزمة الاقتصادية، أصبح المستغَلون والمضطَهدون أكثر حذرا من تقديم تضحيات مجانية تطالبهم بها البرجوازية. وهنا أيضا، ظهر بأن الدور الذي لعبته الأجيال الجديدة كان ضروريا، وقد رأينا في هذا الإطار تمرد الشباب في اليونان قبل سنتين، ونضالات الطلبة في بريطانيا وايطاليا، وضد إصلاح أنظمة التقاعد في فرنسا والتي كان لها بدون شك تأثير على شباب البلدان المغاربية والعربية، خصوصا في عصر الفايس بوك والتويتر، وحيث يصعب جدا على البرجوازية أن تحاصرها بشكل كامل؛



3 – الطبيعة الطبقية لحركات التمرد لا تتشابه وتختلف من بلد إلى آخر وبحسب كل مرحلة. ويمكننا على العموم، أن نصنفها كحركات طبقية لا استغلالية، وكحركات تمرد اجتماعية ضد الدولة. وعلى العموم، فإن الطبقة العاملة لم تكن في مقدمة هذه الحركات، رغم حضورها وتأثيرها القوي. ويمكن النظر اليها على مستوى الأساليب المعتمدة أو على مستوى أشكال التنظيم التي تبلورها، وفي بعض الحالات، عبر تطور النضالات العمالية خاصة، كما هو الشأن بالنسبة لإضرابات الجزائر والموجات الكبيرة من الإضرابات في مصر التي شكلت عاملا أساسيا في اتخاذ قرار التخلص من مبارك.



وفي أغلبية هذه البلدان، لا تعتبر البروليتارية الطبقة المستغلة الوحيدة، فالفلاحون الفقراء وشرائح اجتماعية أخرى تنتمي لأنماط إنتاج تقليدية قديمة، والتي تفككت وأفلست بشكل كبير خلال عقود من أزمة الرأسمالية، لها حضور قوي أيضا في المناطق القروية. أما في المدن، حيث تتمركز حركات التمرد على الخصوص، فنجد أن الطبقة العاملة تتعايش مع برجوازية صغرى واسعة في طريقها نحو البلترة، لكنها تحافظ على خصوصياتها الطبقية حيث تتكدس جماهير غفيرة في مدن الصفيح تتشكل من العمال والتجار الصغار والبروليتارية المشردة. وفي مصر حيث توجد طبقة عاملة أكثر تركزا وأكثر تجربة، فإن الاحتجاجات أصبحت تستنهض جميع الطبقات، باستثناء الطبقة الكومبرادورية المستفيدة من النظام. وفي بلدان أخرى، نجد أن ثقل الشرائح غير البروليتارية أكثر قوة مقارنة بما هو عليه الأمر في أغلبية نضالات بلدان المركز؛


4 – عندما نحاول أن نفهم الطبيعة الطبقية لهؤلاء المتمردين، فعلينا أن نتفادى السقوط في خطأين منهجيين: من جهة، أن نقدم تعريفا عاما لكل فئات الجماهير المناضلة إلى جانب البروليتارية ومن جهة أخرى، محاولة رفض ما يمكن اعتباره ايجابيا في حركات التمرد والتي لا تشكل بشكل واضح معارك للطبقة العاملة. وكمثال على هذه الإشكالية ما حدث خلال الثورة الإيرانية في نهاية عقد السبعينات، حيث، عايشنا تمردا شعبيا كانت الطبقة العاملة مؤهلة فيها لتحتل مقدمة الثورة، رغم أن ذلك الدور لم يكن كافيا للحلول دون استيلاء الحركة الإسلامية عليها. وعلى مستوى تاريخي، فإن إشكالية الطبقة العاملة، التي تنبثق عن حركة تمرد تتظافر فيها جهود جميع الطبقات الاجتماعية غير الاستغلالية إلا أنها تكون في حاجة إلى المحافظة على استقلاليتها الطبقية، يذكرنا ذلك بإشكالية الدولة في المرحلة الانتقالية من الرأسمالية نحو الشيوعية؛

5 – خلال الثورة الروسية، بلورت الطبقة العاملة التنظيم في إطار السوفييتات، لكنه شكل أيضا نموذجا تنظيميا لكافة المضطهدين الآخرين. ودون تجاهل الطابع النسبي للإشكالية – لأن هناك طريقا طويلا قبل الوصول نحو وضعية ثورية والتي تصبح خلالها الطبقة العاملة قادرة على صياغة ادارة سياسية واضحة لباقي الشرائح الاجتماعية – يمكننا أن نلاحظ أن أساليب صراع الطبقة العاملة كان لها تأثير على حركات التمرد الاجتماعية في البلدان المغاربية والعربية:

- في أسلوب التنظيم الذاتي، التي برزت واضحة في لجان حماية الأحياء، والتي ظهرت كإجابة على تكتيك النظام المصري الذي أطلق عصابات مجرمة ضد الجماهير، وفي بنية "المنتدبين" عن بعض التجمعات الجماهيرية في ساحة التحرير، وفي المشاركة في كامل حلقات النقاش واتخاذ القرارات الجماعية؛

- في أسلوب احتلال فضاءات تراقبها عادة الدولة من أجل التوفر على موقع مركزي من اجل التجمع والتنظيم على مستوى جماهيري؛


- في التوقع الواعي بضرورة الدفاع عن النفس ضد البلطجية والبوليس السري الذين ترسلهم الأنظمة، لكن في نفس الوقت لمواجهة العنف والتخريب والسرقة، ومن اجل تصريف مصالحهم؛

- في الجهود الواعية لتجاوز الانقسامات السياسية والطائفية والباقي الذين غرر بهم النظام: كتجاوز الانقسامات فيما التيارات السياسية الراديكالية والمعتدلة وبين المسيحيين والمسلمين والشيعة والسنة والمتدينين والعلمانيين وبين الرجال والنساء ...؛


- في العديد من المحاولات من اجل إرساء علاقات أخوية بين المدنيين وعناصر من الجنود.

ليس صدفة إن كانت هذه الأساليب كانت هي الأكثر تطورا في مصر، فالطبقة العاملة في هذه البلاد لها تقاليد طويلة من النضال وقد ظهرت في مرحلة متقدمة من حركة التمرد كقوة متميزة، حيث انخرطت في موجة من النضالات كانت بمثابة بذرة للإضراب الجماهيري تميزت بالتمدد العفوي لهذه الإضرابات من قطاع الى آخر، والرفض الصارم لتدخل النقابات التابعة للدولة، وظهور عدد من الميولات نحو التنظيم الذاتي، وتطور المطالب العمالية حيث كان بعضها اقتصادي والآخر سياسي ... ةيمكن أن نلاحظ هنا، من خلال هذه المؤشرات الكبرى، قدرة الطبقة العاملة على تقديم نفسها كمتحدث باسم جميع المضطهدين والمستغلين وكونها الطبقة الوحيدة التي تفتح آفاق المجتمع الجديد.

6 – تشكل مختلف هذه التجارب قاعدة لتطور وعي ثوري حقيقي. لكن الطريق نحو هذا الاتجاه لا زال طويلا، وتعيقه انتشار العديد من الأوهام والضعف الإيديولوجي:

- أوهام، تتعلق على الخصوص بمفهوم الديمقراطية البورجوازية، والتي لا زالت تعتبر قوية جدا في بلدان كانت تدار فيها الشؤون العامة بتركيبة من الاستبداد العسكري والملكيات الفاسدة، وانتشار الشرطة السرية التي تمارس إرهابها باستمرار وحيث يسود الاعتقال والتعذيب والتصفيات الجسدية للمعارضين. وتفتح هذه الأوهام الباب لكي تبدوا المعارضة الديموقراطية كفريق بديل لإدارة الدولة كالبرادعي والإخوان المسلمين في مصر، والحكومة الانتقالية للغنوشي ثم قايد السبسي في تونس، والمجلس الوطني في ليبيا ... في مصر، انتشرت أوهام قوية تعلق الأمل على الجيش كما لو كان جيشا "للشعب"، رغم كون تدخلاته الجيش القمعية ضد المحتجين في ساحة التحرير دفعت الأقلية نحو مراجعة موقفها منه. هناك وجه آخر لوهم الديمقراطية في مصر تمثل في المطالبة بنقابة المستقلة، والتي طالب بها العديد من العمال من بين الأكثر نضالية والذين، نادوا عن حق بحل النقابات الرسمية الفاسدة؛

- أوهام أخرى تتعلق بمفهوم الوطنية والمواطنة، والتي يتم التعبير عنها بشكل واضح بالعلم الوطني كرمز "للثورة" في مصر وفي تونس، أو كما هو الشأن في ليبيا، بالعلم الملكي القديم، كرمز لجميع من يعارض حكم القذافي. مرة أخرى، كما بينت صورة مبارك كعميل للصهيونية على العديد من اللافتات في مصر أن قضية الصراع الاسرائلي الفلسطيني يبقى كوسيلة محتملة لتحويل الأنظار عن الصراع الطبقي نحو الصراع الامبريالي. من هنا كان هناك اهتمام قليل بطرح القضية الفلسطينية، انطلاقا من أن الطبقة المهيمنة استعملت طويلا آلام الفلسطينيين كوسيلة لتحويل الأنظار عن الآلام التي تفرضها على شعبها، لقد كان هناك بدون شك شيء من الأممية في ظاهرة رفع أعلام البلدان الأخرى، كتعبير عن التضامن مع المتمردين. امتداد حركة التمرد عبر العالم المغاربي والعربي وفي ما وراء ذلك، شكل تجسيدا للحقيقة المادية للأممية، لكن إيديولوجية الوطنية تتوفر على إمكانية قوية للتلاؤم. وفي سياق هذه الأحداث، لوحظ كيف أصبحت هذه الإيديولوجية تتحول نحو أشكال أكثر شعبوية ودوغمائية؛


- أوهام بخصوص الدين، عبر الاستعمال الشائع للصلاة العمومية واستغلال المسجد كمركز لتنظيم حركات التمرد. في ليبيا التركيز على المجموعات الإسلامية خاصة (والتي اتهمها القذافي بالانتماء إلى تنظيم القاعدة) لدورها المهم، منذ البدء، في حركة التمرد. بالإضافة إلى دور الانتماء القبلي، شكل انعكاسا للضعف النسبي للطبقة العاملة في ليبيا وتأخر البلاد وبنياتها الدولتية. ومع ذلك، وفي حدود كون الاسلاموية الراديكالية من نوع تنظيم القاعدة لبلادن يقدم كجواب عن فقر الجماهير "في بلاد الاسلام" وحركات التمرد في تونس وفي مصر وحتى في ليبيا وفي دول الخليج كاليمن والبحرين، حيث أبانت على أن المجموعات الجهادية بتنظيماتهم الخلوية الارهابية الصغيرة وايديولوجياتهم الظلامية والطائفية، ظلت مهمشة تقريبا من خلال الطابع الجماهيري للحركة وجهودها الحقيقية من اجل تجاوز الانقسامات الطائفية.

7 – الوضعية السائدة حاليا في البلدان المغاربية والعربية توجد باستمرار تحت الضغط. حيث يمكن أن ننتظرتعمق التظاهرات في الرياض، حتى وإن كان النظام السعودي قد قام باصدار مرسوم يمنع جميع التظاهرات على اساس أنها مضادة للشريعة. وفي مصر وتونس، حيث من المفروض ان تكون الثورة قد انتصرت، لا زالت هناك مواجهات مستمرة بين المتظاهرين والدولة "ديموقراطية" والتي تدار من طرف قوى كانت تشارك بشكل أو بآخر في الحكم إلى جانب الدكتاتور بنعلي قبل هروبه. موجة الاضرابات في مصر، والتي غزت بسرعة العديد من المطالب، يبدو انها قد تراجعت. لكن، لا النضال العمالي، ولا الحركة الاجتماعية الواسعة تعرضتا للهجوم المضاد وللهزيمة في هذه الدول، وهناك اليوم بدون شك في مصر مؤشر حدوث نقاشات واسعة وتفكير عميق. ومع ذلك، فإن الأحداث في ليبيا أخذت منعرجا مختلفا جدا. فما ظهر في البداية كتمرد حقيقي للشرائح الدنيا من الجماهير الى جانب المدنيين، بدون أسلحة، يتوجهون بشجاعة نحو الهجوم على التكنات العسكرية واشعال النيران في مقرات ما يسمى "باللجان الشعبية" خصوصا في شرق البلاد، تحول بسرعة الى حرب أهلية دموية شاملة بين شرائح من البرجوازية، تؤيدها القوى الامبريالية التي تخيم على المعارك كعقبان جارحة. فالأمر يتعلق هنا في الواقع، بالمفهوم الماركسي، بمثال تحول حرب أهلية ناشئة – بمفهومها الحقيقي كمواجهة مباشرة وعنيفة بين الطبقات – نحو حرب امبريالية. ويمكن الإشارة هنا إلى المثال التاريخي الذي قدمته اسبانيا سنة 1936 على الرغم من الاختلافات الموجودة من حيث التوازن الشامل بين الطبقات، فالتمرد الأصلي ضد الانقلاب الذي باشره فرانكو والذي كان ذو طبيعة بروليتارية – يبين كيف كانت البرجوازية الوطنية والدولية تتطلع للتدخل في هذه الحالة في لمواجهة الشرائح النقيضة لها، وسحق كافة إمكانيات التمرد الاجتماعي؛

8 – سياق هذه الأحداث في ليبيا يرتبط بالتأخر الاقتصادي للرأسمالية الليبية، التي تم تدبيرها خلال اربعين سنة من طرف طائفة القذافي، أساسا من خلال بناء جهاز لنشر الرعب، تحت تعليماته مباشرة. هذه المنظمة فرملت تطور جهاز الجيش كقوة قادرة على وضع المصلحة الوطنية فوق مصالح رئيس خاص أو شريحة معينة، كما كان الشأن بالنسبة لتونس ومصر. وفي نفس الوقت، تم تم تمزيق البلاد بالانقسامات الجهوية والقبلية ولعبت هذه الأخيرة دورا اساسيا بالنسبة لدعم أو معارضة القذافي. كما لعب نوع من الإسلام الوطني أيضا دورا في التمرد منذ البداية، رغم أن المتمردين كانوا في الأصل اكثر عمومية واجتماعية من مجرد علاقة قبلية واسلاموية.

تعتبر الصناعة الأساسية لدى ليبيا هي البترول وشكلت الاضطرابات التي تعرضت لها تأثيرات قاسية جدا على الأسعار العالمية للبترول. ويشتغل جزء كبير من الساكنة النشيطة في الصناعة البترولية وتتكون من المهاجرين القادمين من أوروبا، ومن باقي بلدان الشرق الأوسط، وآسيا وافريقيا، وقد تحدثت بعض التقارير عن إضرابات حدثت في هذا القطاع، وأن هناك هجرة كثيفة للعمال "الأجانب" الهاربين من المذابح. كما أشارت تقارير أخرى للقمع الذي تعرض له العمال السود بين ايدي القوات المتمردة، ذلك لأن هناك العديد من الاشاعات والتي تشير الى وجود بعض المرتزقة السود الذين تم تجييشهم من طرف النظام لسحق التظاهرات، وهو ما يرمي ظلال من الشك على العمال المهاجرين السود. ويشكل ضعف الطبقة العاملة في ليبيا عنصرا حاسما في التطور السلبي للوضعية في هذه البلاد.

9 – هناك دلائل واضحة تؤكد أن "التمرد" الشعبي في ليبيا تحول الى حرب بين معسكر برجوازي تشكل نتيجة الهروب السريع للعديد من كبار الموظفين، بما فيهم السفراء في الخارج، وضباط في الجيش والشرطة والموظفين من نظام القذافي. وأشرف القادة العسكريون الهاربون على "بناء" القوات المسلحة المضادة. لكن المؤشر الصارخ لهذا التحول هو قرار الجزء الأكبر من "المجتمع الدولي" حماية "المتمردين"، حيث اعترفت فرنسا بالمجلس الوطني الانتقالي الذي اتخذ من بنغازي قاعدة له، كمخاطب ليبي رسمي جديد.

ولكونها قامت بتدخل ديبلوماسي من اجل الاسراع بذهاب بنعلي ومبارك، ترددت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وقوى دولية اخرى في كيفية التعامل مع نظام القذافي، فويليام هيغ، مثلا أعلن بشكل متسرع على ان القذافي في طريقه نحو فنزويلا، وعندما بدأت قوى القذافي تأخذ المبادرة، بدأت الأصوات ترتفع من أجل فرض منطقة حضر جوي أو من اجل اللجوء إلى أشكال أخرى من التدخل المباشر. وأخيرا اتخذ قرار الحضر الجوي وامكانية التدخل بمسوغ حماية المدنيين من نيران القدافي في ظل انقسام واضح في قلب الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، لكن قوات التحالف، الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، فرنسا وكندا، تجاوزت مجرد الحضر باستهداف صواريخها لعدد من المواقع المدنية في طرابلس وبنغازي وزوارة واستهداف خزانات النفط بمسراطة وقد بلغت الحصيلة الأولية للقتلى من المدنيين خمسون قتيلا من بين النساء والأطفال والشيوخ. فقد تحول الهدف من حماية المدنيين الى قتل المدنيين، ثم ما هو سر استهداف حماية المدنيين في ليبيا وغض الطرف على سحق المدنيين في البحرين واليمن.

10 – على هامش الاحتجاجات الجارية في زغرب والمدن الكرواتية الأخرى علق بعض الفوضويين على الأحداث الجارية في البلدان المغاربية والعربية والتي تبدوا في نظرهم كتكرار للإحداث التي حصلت في أوروبا الشرقية سنة 1989، والتي جعلت مختلف التطلعات تترقب الانتقال نحو المستودع التجاري البورجوازي بامتياز المسمى "بالديمقراطية"، والذي لا يحقق للطبقة العاملة طموحاتها، ويعتبر هذا التطلع مشروعا، نظرا لإنغراس الأسطورة الديمقراطية في وجدان حركات التمرد الجديدة.

لكن هناك اختلاف واضح بين فترة 1989 والفترة الحالية، فبالنسبة للتشكيلة الطبقية على المستوى العالمي وفي لحظة انهيار الكتلة الشرقية، كانت الطبقة العاملة في الدول الغربية قد بلغت حدود مرحلة الصراعات في تلك الحقبة حيث لم تعد قادرة على التطور أكثر على المستوى السياسي، اثر انهيار الكتلة الشرقية ومع الحملات الدعائية البرجوازية بشأن موت الشيوعية، ونهاية التاريخ ونهاية الصراع الطبقي وعدم قدرة الطبقة العاملة الشرقية تقديم إجابات شافية على أساس قاعدتها المادية الطبقية، مما ساهم في إغراق الطبقة العاملة الدولية في مرحلة طويلة من التراجع. وفي نفس الوقت، ورغم أن رأسمالية الدولة تحت ادارة التحريفية السوفييتية كانت في تلك الأثناء ضحية للأزمة الاقتصادية العالمية، والتي لم تكن تظهر بوضوح كافي للمتتبعين، كان هناك ما يكفي من هامش المناورة لدى الاقتصاديات الغربية من اجل تغذية الوهم بأن عهدا جديدا ينفتح بالنسبة للرأسمالية العالمية.

لكن اليوم تبدوا وضعية حركات التمرد مختلفة جدا. فالطبيعة العالمية للأزمة الرأسمالية ووجود هذه الأخيرة في حالة احتضار تاريخية أصبحت بديهية أكثر من أي وقت مضى، الشيء الذي يجعل من السهل بالنسبة للبروليتاريا العالمية بمجملها أن تفهم أنها تواجه نفس المشاكل التي لن تتوفر لها حلول في ظل النظام: البطالة، ارتفاع الأسعار، غياب تام لمعالم مستقبل. وخلال السبع أو ثمانية سنوات السابقة، رأينا عودة بطيئة، لكنها حقيقية، للنضالات العمالية عبر العالم، وهي نضالات تقودها على العموم أجيالا جديدة من البروليتارية والتي كانت أقل تأثرا بانهزامات البروليتارية خلال عقدي الثمانينات والتسعينيات وأدت الى افراز عناصر مسيسة في تزايد مستمر، على المستويين المحلي والدولي. وأخذا بعين الاعتبار هذه التحولات، فإن حركات التمرد في البلدان المغاربية والعربية، والتي لا تؤثر سلبيا على الصراع الطبقي في دول المركز، ستتفاعل وتندمج في اطار تطورها في المستقبل:

- عبر التأكيد على قوة حركات التمرد الجماهيرية، غير القانونية في الشارع، وقدرتها على زعزعة سكينة الأليغارشية البرجوازية "أسياد" العالم؛

- عبر دحض الدعاية البرجوازية حول طبيعة "المغاربيين والعرب" التي تعتبرهم جماهير من نمط عصابي وحيد لا أدمغة لهم وعبر التأكيد على قدرة جماهير هذه المناطق على المناقشة والتفكير والتنظيم؛

- عبر تأكيد خسة قيادات دول المركز الذين ثبتت قابليتهم للبيع والشراء وبعدهم عن المبادئ والتي يؤكدها موقفهم المتقلب اتجاه الأنظمة الديكتاتورية في العالم المغاربي والعربي، فنفسه الرئيس الفرنسي الذي كان يحاول مساعدة بنعلي امنيا لقمع تمرد الشعب التونسي يحاول اقناعنا اليوم انه سيتدخل لحماية المدنيين من الدكتاتور القذافي !.

هذه العوامل وغيرها ستصبح بديهية بالنسبة للأقلية البروليتارية المسيسة وأيضا بالنسبة للأغلبية من عمال دول المركز، لكن، على المدى الطويل، ستساهم في توحد حقيقي للصراع الطبقي عبر العالم، أي في ما وراء الحدود الوطنية والقارية. لا شيء من كل ذلك سيقلص من مسؤولية الطبقة العاملة في الدول المتقدمة، التي جربت، خلال حقب طويلة، حلاوة "الديمقراطية" البرجوازية و"النقابية المستقلة"، إن الطبقة البروليتارية العالمية تتوفر على تقاليد سياسية وتاريخية جد منغرسة، حتى وان لم تنتشر بشكل واسع، وترتكز أساسا في قلب المتروبولات الامبريالية العالمية. فقدرة الطبقة العاملة في إفريقيا الشمالية والشرق الأوسط على تجاوز أوهامهم حول "الديمقراطية البرجوازية" وفتحها لآفاق جديدة أمام الجماهير التي يتم تفقيرها وتجويعها باستمرار وبشكل منهجي يعتبر أساسيا ومتداخلا مع قدرة عمال دول المركز تقديم أمثلة واضحة وغنية في مجال التنظيمات البروليتارية الذاتية والمسيسة.



#عبد_السلام_أديب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوعي الثوري في المغرب
- من أجل تحرر شعوب البلدان المغاربية والعربية
- شباب البوعزيزي يواجه الأنظمة المجرمة المجوعة لشعوبها
- تساقط حكم المافيات المغاربية والعربية الواحدة تلو الأخر
- الاستغلال الامبريالي – الكومبرادوري والفقر والجوع والتهميش ا ...
- تبخر وهم الاستقلال الشكلي وحكامة الكومبرادور في بلدان الشرق ...
- أية آفاق للانتفاضات المغاربية؟
- شعوب البلدان المغاربية تنتفض بعد سنين من المعاناة
- في كل مكان من العالم، تتحرك ردود فعل قوية للطبقة العاملة ضد ...
- عبد السلام أديب في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الصرا ...
- الاختفاء القسري في المغرب
- الهجوم البرجوازي أمام صمود وتحمل الكادحين
- مشروع القانون المالي لسنة 2011 وتطلعات الطبقة الكادحة
- في اليوم الدولي للنضال ضد الفقر أزمة الرأسمالية تجر الإنساني ...
- الدخول الاجتماعي وتصفية القوت اليومي للكادحين
- خصائص الصراع الطبقي في المغرب
- أزمة تدبير الأزمة العامة للنظام الرأسمالي
- في ذكرى تأسيس تنسيقيات مناهضة الغلاء وتدهور الخدمات العمومية
- تعمق الفقر في زمن الامبريالية
- ذبحتونا .. ذبحتونا


المزيد.....




- تحطيم الرقم القياسي العالمي لأكبر تجمع عدد من راقصي الباليه ...
- قطر: نعمل حاليا على إعادة تقييم دورنا في وقف النار بغزة وأطر ...
- -تصعيد نوعي في جنوب لبنان-.. حزب الله ينشر ملخص عملياته ضد إ ...
- البحرية الأمريكية تكشف لـCNN ملابسات اندلاع حريق في سفينة كا ...
- اليأس يطغى على مخيم غوما للنازحين في جمهورية الكونغو الديمقر ...
- -النواب الأمريكي- يصوّت السبت على مساعدات لأوكرانيا وإسرائيل ...
- الرئيس الإماراتي يصدر أوامر بعد الفيضانات
- شاهد بالفيديو.. العاهل الأردني يستقبل ملك البحرين في العقبة ...
- بايدن يتهم الصين بـ-الغش- بشأن أسعار الصلب
- الاتحاد الأوروبي يتفق على ضرورة توريد أنظمة دفاع جوي لأوكران ...


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - عبد السلام أديب - ميكانيزمات التمرد الشعبي في البلدان المغاربية والعربية ودور البروليتارية التاريخي