أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - باقر جاسم محمد - المثقف العراقي و الدور الغائب: مقاربة وظيفية















المزيد.....


المثقف العراقي و الدور الغائب: مقاربة وظيفية


باقر جاسم محمد

الحوار المتمدن-العدد: 3305 - 2011 / 3 / 14 - 21:21
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


بداية، نود القول أن مشكلة دور المثقف في المجتمع تترابط على نحو وثيق مع مشكلة تعريف الثقافة نفسها. و ذلك، لا بد لنا، أولا ً، أن نعرف الثقافة قبل تعريف المثقف أو الكلام في دوره في المجتمع. و ذلك نظرا ً لأهمية وضوح مفهوم الثقافة في تحديد دور المثقف في المرحلة التاريخية موضع البحث. و الحقيقة أن الثقافة مفهوم خلافي يتسع لكثير من التصورات و الآراء، فقد تجاوز عدد تعريفات الثقافة المائتين. لذلك يبدو هذا المفهوم ذو التشعبات و الحدود المتباينة غير ذي فائدة من الناحية الإجرائية. و لكن لن يحول هذا الوضع بيننا و بين اتخاذ تعريف بعينه، هو التعريف الأنثروبولوجي، منطلقا ً في كلامنا اللاحق عن المثقف و دوره المفترض في مجتمعنا العراقي الذي يمر بمرحلة من التحولات الكبرى. فالثقافة، على وفق التعريف الأنثروبولوجي، تدرس كيف يعيش الناس؟ و ما هي معتقداتهم؟ و ماذا ينتجون؟ و كيف يتفاعلون مع بيئتهم؟ و ما هي فنونهم و آدابهم. و يسعى المدخل الأنثروبولوجي للثقافة إلى فهم كل التنوعات الأثنية في اللمجتمع كما يدرس ما يشتركون فيه، سواء أكان ذلك عبر التاريخ أم في الوقت الراهن. أي أنه يبحث فيما هو خاص بجماعة معينة من المجتمع، أو فيما يشترك فيه كل المجتمع. إذن، يمكن القول إن الثقافة مفهوم شامل للتطور المادي و الروحي للمجتمع يرتبط بالصيرورة التاريخية للمجتمع و يعبر رؤاه الفريدة. بيد أنه من المهم في سياق الحديث عن الثقافة أن نحدد أهم الخصائص العامة للثقافة في الآتي:
1. أنها رمزية: فالناس يحوزون الثقافة التي تمثل حاجة أساسية في كينوتنهم الاجتماعية لأنهم يستطيعون من خلال رموزها أن يتواصلوا مع بعضهم و أن يفهموا ما تنطوي عليه من قيم و ما تومئ له من أفكار و عواطف تكونت تاريخيا ً. و يرى فرانز بواس (1858- 1942 م) أن ثقافة أي مجتمع أنما هي نتاج التاريخ الفريد لذلك المجتمع. و إذا أردنا أن نرى كيف تنطبق هذه الخصيصة على المنظومة الرمزية للثقافة العراقية، فيمكننا، في الأقل، القول أنها تتسم بسمات خاصة لا تتطابق بالضرورة مع أية ثقافة أخرى لأنها تكونت تاريخيا ً عبر مسار تاريخي مخصوص و سمها بميسمه الفريد هو مسار تاريخ العراق منذ القدم و حتى الآن.
2. أنها مكتسبة وليست موروثة غريزيا ً: فالناس لا يولدون و هم يحملون ثقافة من نوع ما، و إنما هم يكتسبونهما من خلال الحياة الاجتماعية. و لا صحة لما ذهب إليه ابن طفيل في مؤلفه الشهير "حي بن يقظان" من أن بطل حكايته يمكن أن يكتشف اللغة و الدين و الثقافة من تلقاء نفسه و بدون سياق تعلم اجتماعي. و تنطبق هذه السمة على الثقافة العراقية انطباقا ً كاملاً لأننا نولد و نكبر في سياق يورثنا تقاليدنا و فنوننا و ممارساتنا الدينية.
3. أنها مشتركة بين مكونات المجتمع كافة: فالناس الذين يعيشون في مجتمع واحد يشتركون غالبا ً في ثقافة واحدة. فالفرنسيون مثلا ً يشتركون في اللغة، و في نمط اللباس الذي يرتدون، و نوع الأطعمة التي يأكلون، و المناسبات التي يحتفلون بها. و قل مثل ذلك عن الأسكتلنديين و اليابانيين. فهل يمكن قول الشيء نفسه عن الثقافة العراقية، أم أن هناك تنويعات في ثقافة العراقيين تجعل من القول بوحدة الثقافة العراقية أمرا ً متعذرا ً؟
4. أنها قابلة للتكيف: فالثقافة تساعد المجتمعات البشرية على العيش في بيئات طبيعية قد تتغير عبر العصور. و لعل التكيف واضح تماما ً في المقارنة بين بيئة حضارات سواحل الأبيض المتوسط و الحضارات الداخلية في العراق و إيران و منغوليا.(1) و يتصل مفهوم تكيف الثقافة بالقدرة على التفاعل الحضاري و الثقافي مع الحضارات و الثقافات الأخرى عبر وسائل الاتصال و التجارة و سواها. و لعل تفاعل الثقافة العربية مع الثقافتين الفارسية و اليونانية بعد نشوء الدولة العربية الإسلامية خير دليل على قابلية التكيف.
و لكن هذا التعريف الموجز و المكثف لخصائص الثقافة الذي ألحقنا به تعقيبات، و إن كان يضيء جوانب مهمة من مفهوم الثقافة، إلا أنه لن يعيننا كثيرا ً في تعريف المثقف؛ إذ حسب المفهوم الأنثروبوجي، كل إنسان مثقف بثقافة مجتمعه الذي يعيش فيه، و الحال أننا نتكلم عن فئة أو شريحة اجتماعية نسميها شريحة المثقفين. فمن هو المثقف. و هنا، لا بد لنا من مدخل آخر هو المدخل اللساني في تعريف المثقف. ففي معاجم اللغة العربية: نقرأ في مادة "ثـَقـَفَ" الآتي: "ثـَقـِفَ، و ثـَقـَفَ، و ثـَقـُفَ ... صار حاذقا ً خفيفا ً فهو ثَقـُفٌ، و ثـَقـَّفَ الرمح قومه و سواه، و ثـَقـَّفَ الولد هذبه و علمه فتهذب و تثقف فهو مُـثَقَّفٌ. ... و الثقافة التمكن من العلوم و الآداب."(2) أما في الإنجليزية فإن الألفاظ المقابلة لهذا المعنى العربي كثيرة و منها: educated, cultured, enlightened, cultivated. و لعل مثل هذه التعريفات التي تتخذ من الاستعارة و المجاز المبني على معطيات مستمدة من الواقع المادي يفصح عن الصلة الوثيقة بين الثقافة بوصفها بنية عقلية من جهة و جذرها المادي من جهة أخرى. إذن، يمكن لنا أن نقول أن المثقف، بالمعنى الاصطلاحي، هو من ألم على نحو جيد بثمار الثقافة من العلوم و الآداب سواء أكان منتجا ًُ لها أم متلقيا ً فحسب.
و من المهم أن نقرر هنا أننا ننظر إلى مفهوم الثقافة العراقية على أنه يتطابق مع كل الخصائص و المكونات التي تسم بميسمها النتاج الثقافي في الكيان السياسي الذي اصطلحت الجغرافية السياسية الحديثة على تسميته بالدولة العراقية الحديثة. و هذا التطابق بين النتاج الثقافي و كيان الدولة السياسي مهم جدا ً في تحديد مهمات المثـقف العراقي في الوقت الراهن لأنه يحدد هوية المقصود بالمثقف العراقي. و لو استعدنا الخصيصتين الثالثة و الرابعة من خصائص الثقافة، و هما: أن الثقافة مشتركة بين أفراد المجتمع كافة، و أنها قابلة للتكيف، لرأينا أن مشكلة الثقافة العراقية، و بالتالي مشكلة دور المثقف العراقي، تكاد تنحصر فيهما. ففي الخصيصة الثالثة، يمكن لنا أن نقول إن الثقافة العراقية قد تفتقر إلى الوحدة المؤسسة على تماثل المكونات الاجتماعية، و لكنها تتسم بالتنوع الذي يدعم غنى هذه الثقافة، فهي ثقافة متعددة المنابع و الصور (ثقافة المدينة، و ثقافة الريف، و ثقافة البادية، و ثقافة الجبل)، و هي ثقافة متعددة اللغات (ثقافة عربية، و ثقافة كردية، و ثقافة تركمانية، و ثقافة أشورية) و مختلفة الأنماط (ثقافة دينية متعددة الصور، و ثقافة قديمة، و أخرى حديثة) و ذلك تبعا ً لتعدد مصادرها التكوينية الأثنية و الطبقية و اللغوية. إذن، فإن ثقافتنا تتكون من مجموعة من الثقافات التي لا يشترك فيها أفراد المجتمع كافة. و لكنها ليست الثقافة الوحيدة التي تتسم بتعدد منابعها و صورها و لغاتها، ذلك أن صورة الثقافة النقية و التي لا يوجد فيها تعدد في مصادرها التكوينية و اختلاف تصوراتها و صورها ليست موجودة على الإطلاق. فالتنوع الأثني حالة قائمة في ثقافات المجتمعات الكبرى متعددة القوميات و اللغات مثل المجتمع الهندي و المجتمع الأمريكي، و المجتمع السويسري، و أخرى عرفت بكونها لا تشكو من تعدد القوميات و اللغات مثل المجتمع الألماني و المجتمع الفرنسي لأن الصراعات الطبقية و الاجتماعية و الفكرية تؤدي بالضرورة إلى نشوء نوع من التعددية الثقافية لا محالة. و حين نلتفت إلى موقف المثقف العراقي من هذه التعددية، نجد أنه، في الغالب، قد ألحق نفسه بصورة من صور الثقافة العراقية، و قـَبـِل َ بدور المدافع عن موقعه الأثني بديلا ً عن دوره الأهم و هو الدفاع عن وحدة هذه الثقافة في طبيعتها المتنوعة، فانحسر دوره التنويري المفترض بوصفه لبنة بناء اجتماعي لأنه تنازل عن حقه في أن يكون عقلا ً نقديا ً فاعلا ً في توجيه المجتمع. فعلى مستوى الفكر و الممارسة، قبل أن يكون ضمن من يقادون لا من يقودون.
و في مجال اشتغال الخصيصة الرابعة، نرى أن صور الثقافة العراقية تفتقر إلى مرونة التكيف مع واقع التعددية الذي هو سمة أساسية في تكوينها الجينالوجي. فهذه المرونة يفرضها الواقع و التجربة العراقية بوصفها حالة قائمة منذ الأزل و إلى الأبد. و هي حالة يمكن لنا استثمارها لتحويل التنوع الثقافي إلى مصدر قوة و ثراء لا مصدر ضعف و تناحر. و كل هذا كان نتيجة للتزمت الاجتماعي في النظر إلى الآخر المختلف ثقافياً بوصفه خصما ً. و هو تزمت انتقل شيء كثير منه إلى المثقفين. و هذا التزمت يبلغ أحيانا ً حد عدِّ هذا الآخر المختلف تهديدا ً، صريحا ً أو مبطنا ً، للذات الثقافية الخاصة بهذه المجموعة أو تلك. و بناء على هذا نرى أن على المثقف أن يدرك أن دوره في هذه المرحلة يوجب عليه أن ينسحب من منطقة الانفعال إلى منطقة الفعل، و أن يتصدى لأية نزعات أو مواقف متزمتة طائفيا ً أو عرقيا ً، و أن يقوم بدور أساسي في الدفاع عن الآخر المختلف ثقافيا ً. و حين ينجز المثقف عملية الفصل الواعي بين الخصوصيات الثقافية و ما هو مشترك، و بين الشعور الشخصي الاعتيادي بالانتماء إلى هذه الصورة الثقافية أو تلك المعبرة عن رؤية هذه الطبقة أو تلك(3)، دون إحساس بالخطر من المختلفين ثقافيا ً أو تعال عليهم، فإنه يكون قد أسهم في التأسيس لثقافة و سلوك ثقافي يدعم وحدة الثقافة و فاعليتها عضويا ً في المجتمع.
و الحقيقة إن المغالاة في توكيد الخصوصية قد يؤدي، في ظروف ضعف كيان الدولة و تراجع دور مؤسساتها المدنية، و بمساعدة عوامل موضوعية أخرى، إلى تدمير الشعور بالانتماء الوطني. لذلك، ينبغي أن يكون الهم الأعظم للمثقفين العراقيين هو العمل على بناء المستقبل و ليس الصراع حول ما جرى في الماضي القريب أو البعيد، و حين يتفقون على أن يقصوا من ممارساتهم الثقافية كل ما يثير الضغائن أو يوسع المسافات بين أنماط الثقافة العراقية و صور تجلياتها، فإننا سنكون قد شرعنا في البداية الصحيحة لثقافة صحيحة و معافاة. و يمكن لنا أن نضيف إلى ما سبق أن ثقافتنا العراقية تتسم بكونها ثقافة لم تقم بعملية نقد لذاتها نقدا ً مؤسسيا ً و عميقا ً. و الواقع أن نقد الثقافة لنفسها مهمة خطيرة لا تنجزها الصيرورة الثقافية العامة التي لا تعي مهماتها و التي قد تنحرف نحو توكيد الخصوصيات و تقديمها على ما هو مشترك بين أنماط الثقافة العراقية المختلفة. لذلك يمكن التوكيد أن مهمة نقد الثقافة لنفسها لا ينجزها إلا المثقفون العراقيون أنفسهم. و لعل هذه المهمة من أخطر مهمات المثقف في المرحلة الراهنة.
و في مجال الرؤية السياسية، نرى أن دور المثقف العراقي يتحدد في نقد الأحزاب و القوى السياسية التي مارست الدكتاتورية أو التي يمكن لها أن تنزلق إلى ممارسة الدكتاتورية بسبب من طبيعة بنيتها التنظيمية و الأيديولوجية، و فضح و تعرية مكائدها الفكرية و السياسية. و كذلك رفض و نقد الحركات و الأحزاب التي ترتبط بجهات أجنبية أو بدول الجوار أيا ً كان نوع هذه الارتباط.
و الآن، لو سألنا أنفسنا: أين هو موقع الثقافة و المثقف من الحاضر السياسي و الاجتماعي في العراق؟ فإن الجواب سيدفع بنا إلى حالة من اليأس و القنوط نتيجة ما نراه من واقع مزر تمر به الثقافة في العراق. فقد غدت الثقافة في بلادنا بضاعة كاسدة، و ليس هناك ما يوحي بأن المسؤولين على وعي بأهمية الثقافة في الحياة التي نفترض أنها تبنى الآن على أسس نريد لها أن تكون سليمة. و الحقيقة أننا لم نشرع إلى الآن في البدء بإرساء أسس جديدة لثقافة تلعب دورا ً إيجابيا ً مهما ً في صنع الحياة بحكم طاقتها الخاصة و قدراتها الذاتية، و دون أن تكون بالضرورة جزءا ً من المؤسسات الرسمية، أو من اللعبة السياسية. و نعتقد أن هذا الوضع هو نتيجة طبيعية لكون المثقفين العراقيين لا يولون أهمية كافية لضرورة العمل من أجل ما يوحدهم بالرغم من اختلافهم. و قد يقول قائل أن المثقف العضوي، بحسب غرامشي، هو ذلك المثقف المرتبط بطبقة معينة، حيث يقوم بتنظيم وظيفتها الاقتصادية ، وهو أيضاً من حملة وظيفة الهيمنة التي تمارسها في المجتمع المدني، بهدف تحقيق قبول وإجماع الطبقات الأخرى، وذلك من خلال عملهم في مختلف الهيئات الثقافية والإعلامية كالمدارس والجامعات، وأجهزة النشر وغيرها. وفي هذا كله تبرز وظيفة المثقفين العضويين باعتبارهم "أسمنتاً" يربط البنية الفوقية والتحتية للمجتمع.(4) فنقول أن وظيفة المثقف العراقي في المرحلة الراهنة هي أن يقف على مسافة كافية من طبقته أو طائفته، أو قوميته ليتخذ من العراق كله، و من الثقافة العراقية جميعها منطلقا ً له في كل ما يكتب و يقول. و هذا الدور أو الوظيفة لا يتناقض بالضرورة مع الرأي الذي طرحه غرامشي منذ أكثر من سبعين عاما ً. و إذ نعلم جميعا ً أن الثقافة ليست شأنا ً عابرا ً، و إنما هي في الصلب من عملية إعادة البناء الفكري و النفسي للفرد العراقي و بناء الدولة نفسها فإن ذلك يرتب على المثقفين و على أصحاب القرار السياسي معا ً مهمات و أدوارا ً متكاملة و مترابطة. و لن يستطيع المثقف أن يقدم الكثير في نطاق دور الثقافة في الحياة الاجتماعية العراقية و هو يعمل في بيئة سلبية إن لم نقل معادية للثقافة و مستعدة للبطش بالمثقفين. و من معالم هذه البيئة السلبية أن النظر إلى مفهوم الثقافة، إذا ما طرح في برامج كثير من الأحزاب السائدة فإنه لا يخرج في كثير من الحالات عن مفهوم حزبي ضيق يجعل من مفهوم الثقافة محصورا ً في ذلك النمط من الإنتاج الثقافي الذي يمثل وجهة نظر هذا الحزب أو ذاك. و هذا يعني أن التعددية الحزبية التناحرية المصطنعة ستنعكس تلقائيا ً في تعددية ثقافية تناحرية مصطنعة أيضا ً، و هو مما يعود بنا إلى مسألة الانجرار إلى الاصطفاف الفئوي أو الطبقي أو الطائفي أو المناطقي. و إذا كنا نقر بأن منتجي الثقافة، أو المثقفين، ما هم إلا بشر طبيعيون، و لهم مواقفهم الفكرية و السياسية التي قد تجعلهم في خانة هذه الجهة السياسية أو تلك، فإن هذا يدعونا إلى موقف ثقافي يستند إلى وعي دقيق بأهمية أن نكرس خصوصية الثقافة و أن نجعل منها أداة توحيد و ليس أداة فرقة و تناحر.
و الحقيقة أن الثقافة التي يمكن أن تكون أفقا ً لحياة أفضل للعراقيين جميعا ً هي الثقافة الحرة التي ترتبط بالإنسان من حيث هو، فهي التي تعطي لنفسها دورا ً فاعلا ً في نهضة المجتمع من كبوته التي يمر بها الآن، ثقافة لا تنكر الماضي، فلا ثقافة و لا حضارة بدون ماض، لكنها في الوقت نفسه لا تؤله هذا الماضي و لا تتخذه إنموذجا ً أوحد، بل تتخذ منه موقفا ً نقديا ً لسبر معطياته كافة و معرفة ما يمكن أن يبقى من هذا الماضي و ما يمكن، أو يجب أن يزول لجملة من الأسباب الموضوعية من أهمها أن بعض جوانب هذا الإرث هي مما يفرق و لا يوحد، أو أنها مما تجاوزه الزمان و المتغيرات التاريخية الحضارية. و إذ يكون من المهم أن نستفيد من تجاربنا فإن ذلك لا يعني أن ننكفئ على أنفسنا و على ثقافتنا فقط، فلا ضرر من الأخذ من تجارب الأمم الأخرى،. يمكن أن نضيف أنه لن يكون هناك مجال لأي أفق ثقافي حر و إبداعي يرتقي إلى مستوى الطموح في أية بيئة ثقافية تخضع لتوجيه الدولة لأن أنظمة الحكم لن تنتج ثقافة حقيقية بل محض ثقافة مزورة و هامشية و تابعة للرؤى الضيقة للجهة المهيمنة على السلطة.
إذن، فإننا نريد ثقافة تعيد الإنسان العراقي إلى موقعه الحقيقي، أعني إلى عصره القائم الآن، ثقافة تنظم شؤونه في الحياة على نحو عقلاني، و بما يستحقه من مكانة يؤهله لها بناؤه الحضاري الذي أفرزه التطور التاريخي و الواقع الراهن، و ليس ثقافة تمنحه وعودا ً ما ورائية لا سبيل إلى التحقق من صدق القائلين بها. و حين يكون الإنسان قد حقق الحد الأدنى من الصلة بالواقع الراهن للبشرية، فإنه يستطيع أن يكون فاعلا ً و مؤثرا ً في صناعة المستقبل. و أعني بذلك أن على الثقافة أن تتجاوز الأطر الضيقة و الخصوصيات التي تؤدي إلى استلاب الإرادة الحرة للإنسان و تغيب عقله. و لن يكون ذلك ممكنا ً إلا عبر ثقافة رصينة و فاعلة على مستوى الموقف من المشروع السياسي المستقبلي، ثقافة لا تروج سياسيا ً أو إعلاميا ً لهذا الطرف أو ذاك، و هي ثقافة تلتزم الحرية الواعية في تناول القضايا الفكرية و السياسية و الاجتماعية و النفسية دون خوف أو وجل أو وصاية من أحد. فالحرية شرط وجودي لأية ثقافة حقيقية. و لا خطر على هذه الحرية سوى خطر العودة للدكتاتورية تحت تسميا جديدة.
و لو عدنا إلى واقع الثقافة العراقية الآن، فإننا نذكر أنها مثل الثقافة في مجتمعات العالم الثالث ما انفكت ترتبط بالحكومة و بالدولة، و نريد لها أن تفك ارتباطها بالاثنين. و هذا الارتباط لن يزول إلا بزوال أسبابه. و من أهم هذه الأسباب أن ثقافتنا لا تستند إلى قاعدة اجتماعية مستقلة اقتصادية عن دولة الريع. و ما زالت مظاهر عدم استقلال القافة ماثلة في أقوال و أفعال كثير من السياسيين و من أبناء المجتمع، بمن فيهم الفئة المثقفة. و لذلك فإن مثقفنا ما زال يعاني من مشكلة عدم قدرته، في ظروفه الحالية، على الاستقلال اقتصاديا ً، و بالتي عدم قدرته على نقد الثقافة و نقد الدولة و قطع الحبل السري الذي يربطه بها. و إذا كان هذا هو الواقع التاريخي الذي لا يمكن القفز على حقائقه الموضوعية، و هي حقائق لن تنتهي ما لم يتحول المجتمع نفسه من مجتمع استهلاكي إلى مجتمع منتج، فإن التخفيف من واقع الأزمة التي تعيشها الثقافة العراقية يوجب على الدولة أن تستعين بالمثقفين لوضع تصور لأبعاد هذه الثقافة، عليها أيضا ً أن تضع للتطور الثقافي حصة مناسبة في الميزانية العامة للدولة دون أن تتدخل في توجيه هذه الثقافة. و إذ نقر بأن قدرا ً أكبر من الحرية قد تيسر للثقافة و للمثقفين، و هو أمر إيجابي حقا ً حتى و إن تحول، في واقع الممارسة، إلى نوع من الفوضى، فإننا نلاحظ أيضا ً أن الثقافة العراقية تعاني من كثير من الظواهر السلبية، و لعل أهم هذه الظواهر الآتي:
1. غياب الرؤية الثقافية الإستراتيجية عن المؤسسات الثقافية الحكومية و غير الحكومية, و قلة الوعي بأهمية مثل هذه الرؤية بالنسبة للمثقف الفرد باعتبار أن الثقافة فعل ثقافي فردي من جهة و مؤسساتي من جهة أخرى.
2. انقسام الثقافة العراقية إلى ثقافة الدفاع عن الماضي، و ثقافة الدفاع عن الحاضر، و ثقافة الدفاع عن المستقبل، هذا فضلا ً عن انقسامها إلى ثقافة الداخل و ثقافة الخارج.
3. الافتقار البنية التحتية الحقيقية للإنتاج الثقافي. فليس هناك مسارح أو دور عرض سينمائي متخصصة، و ليس هناك صالات للعروض الفنية التشكيلية. فضلا ً عن افتقار كثير من المؤسسات الثقافية، مثل فروع إتحاد الأدباء و الكتاب و نقابة الفنانين، إلى أماكن مناسبة للفعاليات الثقافية.
4. تلكوء النتاج الدرامي التلفزيوني و السينمائي إلى حد قد يغرينا بالقول أن الدراما العراقية تشهد عصرا ً من الانحسار الكارثي. ولم يجد نفعا ً كثرة الفضائيات العراقية لأنها غالبا ً ما تولي جل اهتمامها للبرامج السياسية و الإخبارية و تهمل الإنتاج الدرامي و الفني عموما ً.
5. انحسار دور الترجمة و الكتاب المترجم و تراجعه كما ً و نوعا ً.
6. قلة عدد المطبوعات الثقافية الرصينة عامة مع تزايد عدد المطبوعات الهابطة التي تتصدى لنشر ما تطلق عليه اسم ثقافة أو أدب و هما لا يحملان أية مقومات فكرية أو فنية أو جمالية.
7. تلكوء فنون أدائية أخرى مثل الغناء في شتى أشكاله و الموسيقى و الرقص. فلم تعد الأغنية العراقية ذات حضور فعال سوى جهود بعض الفنانين أمثال كاظم الساهر. أما الرقص فإنه قد صار ضربا ً من المحرمات، كما انحسر دور الموسيقى انحسارا ً عظيما ً.
7. تراجع خطير في مستوى رصانة الأعمال الأدبية و الفكرية التي تقدم في بعض المحافل و المهرجانات الأدبية و الحلقات العلمية، و حلول ثقافة الكم على حساب ثقافة النوع.
8. تراجع في مستوى أداء الجامعات العراقية عموما ً في حقل رصد الظواهر الثقافية و نقد الثقافة. وقد ذكر الأستاذ الدكتور عبد الواحد لؤلؤة في لقاء تلفزيوني في العام 2009 أن الوضع في الجامعات العراقية قد صار يثير الحزن حقا ً.
9. تحول كثير من النتاج الشعري خاصة ، و الأدبي عامة، عن مهماته الكبرى في تقديم رؤية مجازية شاملة للحياة و معالجة القضايا الذاتية التي كانت و ستبقى في الصلب من وظائف الأدب، إلى دور ثانوي غايته أن يعلق على الحدث. و قد يدافع أصحاب هذا الاتجاه بالقول أن من أهم وظائف الشعر أن يكون معبرا ً عن التحولات الاجتماعية الكبرى، و هذا حق، و لكن ينبغي لهذا التعبير أن يكون ذا طابع يتجاوز اللحظة الآنية ليرسم أفقا ً وجوديا ً أعظم، إذ كما نعلم، يظل الحدث أكثر بلاغة من أي تعليق، فضلا ً عن أن أية كاميرا تلفزيونية تستطيع أن تنقل الحدث بفصاحة صورية أكثر تأثيرا ً.
و أخيرا ً، يبدو أن مهمات المثقف العراقي الآن تتصف بعدة صفات منها: أنها مهمات صعبة لكونها تتطلب منه أن يتغلب على كثير من النوازع الذاتية، و أن يواجه قوى سياسية تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تحرف مساره، و أن تجعل منه تابعا ً لها. و هي مهمات معقدة لأنها تفرض عليه أن يقوم بمتابعة تحولات الواقع الثقافي الراهن دون أن يغفل عن التواصل مع محيطه الثقافي الإقليمي أو التحولات الثقافية في العالم. و لذلك فهي تفرض عليه أن يشتبك في حوارات فكرية تهدف إلى ترصين أسس وحدة الثقافة العراقية و الدفاع عن تنوعها و ثرائها الغزيرين.
أليس كذلك؟


الهوامش و الإشارات:
1. أنظر: Microsoft ® Encarta ® Reference Library 2005. © 1993-2004 Microsoft Corporation. .
2. أنظر مادة "ثـَقـَفَ" في "المنجد في اللغة و الأعلام" ط 39. دار الشرق، بيروت، 2002.
3. الحقيقة أن المثقفين لا يشكلون طبقة متجانسة على الرغم من أهميتهم في البناء الاجتماعي، و تمتاز فئة المثقفين بأن تكوينها الاجتماعي ليس متجانسا ً، إذ ينتمي المثقفون إلى جميع الطبقات في المجتمع. و من هنا فإنهم ينتمون، طبقيا ً إلى المجتمع كله، و ينتمون ثقافيا ً إلى مجال واحد هو المجال الثقافي. أنظر: بوتومور، ’الطبقات في المجتمع الحديث‘، ترجمة محمد الجوهري وآخرين ، دار الكتاب للتوزيع ، القاهرة، 1979 ، ص. 26.
4. غالي شكري ، إشكالية الإطار المرجعي للمثقف والسلطة، المستقبل العربي، العدد114، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت، 1988، ص.26.



#باقر_جاسم_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لحظتان
- جكه ر خوين مبتسما ً
- علامة الاستفهام
- أقنعة المسرح
- نحو مركز عربي لدراسات الأدب النسوي
- أسئلة الوجود و فضاء المتحف
- الشعر و طبقات المعنى: - أهاجي الممدوح- إنموذجا ً
- أنا الحرية: البنية و التأويل في ( الكرسي )
- الفدرالية و أزمة الحكم في العراق
- روح هجرتها الموسيقى
- لطفية الدليمي: هجرة الإبداع
- الميثوبي و السرد الغنائي
- بين مربدين
- كان شامخا ً مثل نخلة عراقية
- أدلجة سوسور: قراءتا بلومفيلد و تشومسكي لمحاضرات سوسور
- ما تستحقه الكلمات
- نظرية النشوء: نحو منهج مادي تاريخي في تأريخ اللسانيات
- هدف الرغبة الغامض البعيد: علم اللغة
- نزع الميثولوجيا عن اللسانيات الاجتماعية
- من الذي سيكون سيدا ً تأسيس السلطة العلمية في علم اللغة


المزيد.....




- بالأرقام.. حصة كل دولة بحزمة المساعدات الأمريكية لإسرائيل وأ ...
- مصر تستعيد رأس تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني
- شابة تصادف -وحيد قرن البحر- شديد الندرة في المالديف
- -عقبة أمام حل الدولتين-.. بيلوسي تدعو نتنياهو للاستقالة
- من يقف وراء الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل في الجامعات الأمريك ...
- فلسطينيون يستهدفون قوات إسرائيلية في نابلس وقلقيلية ومستوطنو ...
- نتيجة صواريخ -حزب الله-.. انقطاع التيار الكهربائي عن مستوطنت ...
- ماهي منظومة -إس – 500- التي أعلن وزير الدفاع الروسي عن دخوله ...
- مستشار أمريكي سابق: المساعدة الجديدة من واشنطن ستطيل أمد إرا ...
- حزب الله: -استهدفنا مستوطنة -شوميرا- بعشرات صواريخ ‌‏الكاتيو ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - باقر جاسم محمد - المثقف العراقي و الدور الغائب: مقاربة وظيفية