أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - باقر جاسم محمد - أنا الحرية: البنية و التأويل في ( الكرسي )















المزيد.....


أنا الحرية: البنية و التأويل في ( الكرسي )


باقر جاسم محمد

الحوار المتمدن-العدد: 2146 - 2007 / 12 / 31 - 10:51
المحور: الادب والفن
    


1. النص و الترجمة و النقد
في البدء، لا بد من الإشارة إلى المشكلة المنهجية المتمثلة في كوننا هنا لا نقرأ على نحو مباشر نص " الكرسي" الأصلي نفسه؛ لأن هذه القراءة إنما تنعقد على النص الذي ترجمه الأستاذ سامي إبراهيم داوود إلى العربية عن نص كتبه الشاعر الكوردي شيركو بيكه س باللغة الكوردية الكورمانجية أصلا ً. و هذا الأمر يدعونا إلى التدبر في مسألة أهلية النص المترجم للنقد، و هي مسألة تتفرع إلى عدد من الأسئلة الأساسية. فهل الترجمة نقل للنص بإمانة و حياد أم أنها تنطوي على شيء من إعادة الكتابة للنص الأدبي؟ و ما هي الخصائص النصية التي تميز النص الأصلي التي حافظ عليها النص المترجم؟ و ما الذي تغير في النص المترجم؟ و كيف نحدد ما أضافه المترجم؟ ثم السؤال الأهم، و هو كيف يستطيع النقد أن يتخلص من شباك النص المترجم ليتحدث عن النص الأصلي؟ و هي أسئلة مهمة، و لكن الإجابة عليها تنصرف بهذه المقالة عن هدفها و تجعلها بحثا ً في الترجمة. بيد أننا سنمس بعض هذه الأسئلة مسا ً رفيقا ً حين تقتضي الضرورة ذلك.
في ترجمة النصوص الأدبية عموما ً و في ترجمة الشعر خاصة ترتقي الترجمة إلى مستوى إبداعي يصح معه أن نتحدث عن المترجم بوصفه مبدعا ً يعيد كتابة النص في اللغة الهدف، كما يقول أندريه لوفيفر(1). و لكن ذلك لا يعني تغييب صورة النص في لغته الأصلية تغييبا ً مطلقا ً. ففي ترجمة الشعر تذهب أشياء كثيرة منها المزايا الصوتية اللصيقة بطبيعة اللغة الأصلية، و هي ما يسمى ب language specific، و كذلك المزايا الإيقاعية للشعر في اللغة الأصلية التي يتعذر أن تنقل في الترجمة حتى و إن اتخـذت الترجمة صيغة الشعر في اللغة الهدف. فضلا ً عن الإشارات و الملاحظات التي يضيفها المترجم، و هي على الرغم أهميتها تتحول إلى عناصر دخيلة على النص الأصلي. أيعني ذلك أن نزهد بالترجمة ؟ و أن نقول باستحالة نشوء قراءة نقدية على النص الأصلي عبر النص المترجم؟
الجواب هو بالسلب للسؤالين معا ً بشرط أن يكون الناقد القارئ ملما ً بمثل هذه المشكلات، و على بينة من القضايا الأساسية في الترجمة، و أن يعرف ما يذهب و ما يبقى في النص الأصلي. إذن، تبقى الصور الأدبية و المعاني الأصلية و بعض التجليات الفنية و البلاغية و يبقى الشكل الفني بوصفه شفرة أساسية من شفرات النص الأصلي. على أن ما يبقى سيتأثر أما سلبا ً أو أيجابا ً بالصوغ الأدبي في اللغة الهدف. و لقد أشار الأستاذ سامي إبراهيم داوود إلى شيء من ذلك حين قال في المقدمة " آن [أن] عقدت العزم على القيام بترجمة ديوان (( الكرسي)) للشاعر شيركو بيكه س، كنت مدركا ً لأمرين أثنين، أولهما, هو الفرادة اللغوية التي ينفرد بها شعر بيكه س في حركة الشعر الكوردي المعاصر، حيث يضاعف ذلك ، امتناع قصائده عن الترجمة، أي تعقيد درجة الحساسية في نقل المحتوى الثقافي..."(2) و لعل من الواضح أن المترجم يقرُّ بالصعوبة التي تكاد تصبح استحالة في نقل ما سماه شعر شيركو بيكه س لهذه الفرادة اللغوية، و هي من أول الأشياء المفقودة في النص المترجم؛ ذلك أننا إنما نقرأ نصا ً بالعربية هو خلاصة فهم المترجم للنص الأصلي و تفسيره له، و النص المترجم هو تعبير عن قدرات الصوغ اللغوية بالعربية التي يمتلكها السيد المترجم و إن ظل َّ الشكل الفني ذا صلة واضحة بالمؤلف الأصلي شيركو بيكه س. و أعني بالشكل الفني ذلك المسعى التجريبي في الانتقال بين مجموعة من الأجناس: من الشعر الغنائي إلى السرد القصصي، ثم إلى الكتابة السردية ذات الطابع الصحفي، فضلا ً عن المماهاة مع الشكل العام للكتابة في النصوص المسرحية. و بهذا يمكن لنا أن نتجاوز بعضا ً من الظواهر الكتابية للنص المترجم لأننا سنسعى إلى التركيز على التشكلات الأصلية التي لا تتأثر كثيرا ً بالترجمة.
2. النص و مشكلة التجنيس
إن بنية التداخل بين الأجناس الأدبية لا تمثل لعبة شكلية لدى شيركو بيكه س. و إنما هي في الجوهر من الرؤيا الشاملة للعالم التي يجسدها المؤلف. و لسوف يكشف التحليل كيف أن عملية الانتقال من جنس أدبي إلى آخر كانت تجري بسلاسة و تعبر عن وحدة الرؤيا بالرغم من تعدد وجوه و أشكال التعبير الفني. إن البحث في ألأسباب التي أدت إلى تشكل الأجناس الأدبية من شعر و سرد قصصي و مسرحي و مقالة يقع في باب نظرية الأجناس الأدبية. تلك النظرية التي تقوم على استخلاص سمات فنية من أعمال بعينها و تقوم بتعميمها و جعلها أساسية في كل جنس أدبي. لكن التجربة الأدبية تكشف عن أن وجود الجنس الأدبي الخالص هو الاستثناء و ليس القاعدة. كما يكشف البحث في الخيارات الأجناسية عن أن لكل نوع أدبي طاقة تعبيرية معينة تجعله أكثر قدرة على التعبير عن جوانب معينة من التجربة البشرية و لخدمة أهداف محددة. فالشعر، مثلا ً, يعبر عن الاحتدام الروحي و الميتافيزيقي العميق بوصفه تجربة ذاتية داخلية يتولى الخيال الكشف عن أبعادها التي قد لا يستطيع العقل إدراكها. و لكن السرد القصصي يعبر عن جوانب التجربة الإنسانية في أبعادها الاجتماعية و الفكرية. أما النص المسرحي فإنه يستثمر التشخيص للقوى المتصارعة ، أو الشخصيات، في المجتمع و يضعها في سياق درامي تؤدي نهاياته إلى الإيحاء بدلالات معينة. و إذا ما كانت رؤيا المؤلف، و هنا أستعمل مصطلح المؤلف بمعنى يتجاوز معنى كلمة شاعر لأنه يشير إلى معنى المنشئ و المبدع، أن يعبر عن التجربة البشرية في شمولها و تعقيدها و تعدد مظاهرها و تجلياتها، فإن النوع الشعري قد لا يتسع لرؤياه. و هذا مما يفرض عليه استثمار الأجناس الأدبية المجاورة دون أن يحصر نصه في خانة نوع أدبي بعينه. و لعل هذا الأمر يجعلنا نرفض كلام المترجم عن ترجمة " ديوان (( الكرسي)) للشاعر شيركو بيكه س..." لأن مفهوم الديوان، الذي يعني مجموعة من القصائد، بعيد كل البعد عن هذا النص حتى و إن اعتبرناه نصا ً شعريا ً. و كذلك لن نقبل توصيف دار المدى للنص بوصفه شعرا ً لأننا هنا لسنا إزاء نص أدبي ذي نسب إجناسي واضح المعالم، و إنما نحن في مواجهة نص أدبي يستفيد من جملة أجناس أدبية. و لا يستطيع مثل هذا الصنيع سوى من كانت رؤياه تضيق بحدود الجنس الأدبي الواحد سواء أكان شعرا ً أم سردا ً قصصيا ً أم نصا ً مسرحيا ً. و لنتذكر هنا مقولة محمد بن عبد الجبار النـِّـفري المعروفة " كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة" التي قد نقرأها على النحو الآتي " كلما اتسعت الرؤيا ضاق الجنس الأدبي". و لعل من المناسب أيضا ً أن نقرر هنا بأننا لا نعلم يقينا ً إن كان هذا النص الأدبي المعنون بالكرسي هو شعر انفتح على السرد القصصي و النص المسرحي أم انه سرد قصصي انفتح على الشعر و النص المسرحي أم أنه نص مسرحي انفتح على الشعر و السرد القصصي لأننا ببساطة إزاء فضاء نصي متعدد المرجعيات الأجناسية أو الآباء. و لن يفيدنا في شيء أن نعلم بأن منشئ النص شاعر. فالنص يحتوي على جملة من الأجناس الأدبية، و هو ما يمكن تسميته بجامع الأجناس الأدبية أو ’archigenre ‘. و هو مصطلح ذو مفهوم مختلف عن مصطلح جامع النص، أو architext، الذي أطلقه جيرار جينيت للتعبير عن التناص سواء أكان ذلك عبر الثيمات أو الأنماط البشرية أو الأشكال الفنية.
و إذ يمثل الجنس الأدبي شفرة تسهم في توجيه القراءة فإن تلقي النص ذي التمظهرات الأجناسية المتعددة يشبه إيلاج عدة مفاتيح في ثقب واحد. أو يشبه فتح خزانة بأكثر من مفتاح واحد في الوقت نفسه مما يشي بصعوبة المقاربة النقدية لمثل هذا النص. و على أية حال فإن النص، كما يقول جيرار جينيت " ليس من المفروض فيه أن يعرَّف، ومن ثم، أن يعلن عن نوعه الخاص؛ فالرواية لا تحدد ذاتها بوضوح على أنها رواية ولا القصيدة على أنها قصيدة، بل، ولربما، وبطريقة أكثر حصرا ً(لأن النوع ليس سوى مظهر لجامع النص) فإن البيت الشعري ذاته لا يعين نفسه على أنه بيت شعري، ولا النثر على أنه نثر ولا الحكي على أنه حكي… في النهاية؛ فإن تحديد قانون أو معيار النوعية لنص ما ليس من شأن النص وإنما من شأن القارئ، من شأن النقد والجمهور؛ فهذه العناصر وحدها هي من يستطيع، وبجدارة، الطعن في القانون المزعوم للتوازي النصي."(3) و لسوف يكون علينا أن نتعامل بجدية و حذر مع تلك الإشارات مثل العنوان الفرعي، و نصه: " نص مفتوح. الشعر. القص. النثر. المسرح" , و ذلك باعتبارها موجهات تحف بالنص و تمثل النص الموازي أو paratext، فهي جزء من البعد التداولي للنص الأدبي الذي يقع على عتبة النص أو حافته الأولى، مما يخولنا أن نتحرى عن التشكلات النصية المعبرة عن تجسيد هذا التوصيف، و عن الدلالات الفكرية لمثل هذه التشكلات و صولا ً إلى تحديد الأثر الجمالي لها.
و الحقيقة أن استثمار أجناس أدبية معينة في صوغ نص قد لا ينتسب بالضرورة إلى أي من الأجناس هو أمر عرفته التجربة الأدبية العربية. فقد كتب توفيق الحكيم نصا ً هو " بنك القلق" الذي يجمع بين المسرحية و الرواية و أسماه " مسرواية". و عموما ً، نرى بأن الصوغ الأدبي يتشكل انطلاقا ً من مفهوم مركزي مستمد من الرؤيا المهيمنة على النص. و تكون الصيغ البلاغية و الإحالات المعرفية و الخيارات الشكلية الموضعية، فضلا ً الانتماء الأجناسي، منسجمة مع تلك الرؤيا و مفهومها المركزي و معبرة عن صورة الذات إزاء صورة الآخر. و يذهب دأنييل- هنري باجو إلى أن " كل أدب يركز على أسس هويته، حتى عبر التخيّل، ينشر صور الآخر أو الآخرين، من أجل أن يشكل نفسه، ويتحدث عنها."(4) و هذا الأمر ينطبق على نص " الكرسي" بامتياز. فهو نص يتجاوز منطق و مواصفات الجنس الأدبي، أو genre، إلى ما يمكن أن يسمى جامع الأجناس الأدبية كما أوضحنا سابقا ً.
3. إستراتيجيات بناء النص
ترى، ما هي أهم الإستراتيجيات التي اعتمدها المؤلف في بناء نصه؟
قد يكون واضحا ً أنه اعتمد على إستراتيجية محو الحدود بين الأجناس الأدبية. و هو ما صرح النص الموازي به حيث يقول:" نص مفتوح. الشعر. القص. النثر. المسرح". و لكي يؤكد ذلك، يبدأ النص بمقطع من الشعر الغنائي حيث نقرأ:
أنا كاتب النص،
عتيق في المدينة،
مجنون كالريح،
حافٍ
رثٌ
حائر.

هنا تقدم الذات الباثة للرسالة نفسها ( و هي هنا رسالة شعرية ) إلينا بكلمات قليلة و يستمر هذا العتيق في المدينة في تأمل ذاته في المقطعين الثاني و الثالث عبر صور شعرية تؤكد حرية و سعة المخيلة. فهو قد يستحيل شعرا ً في حانة أو خطيئة هائمة، و قد تكون وحدته عقعقا ً نحيلا ً يضع يد ألمه على حنك الذكرى و يدخن الضباب سيجارة تلو الأخرى. و بدءا ً من المقطع الرابع نقرأ:
يشرع الكرسي بالحديث
و دخاني بلسان رماده
يدوِّن على الباب و الجدار
على الأرض
أو على جسد عابر ٍ ما
كل ما سأقوله.
هنا، يتداخل حديث الكرسي بما ستقوله "أنا كاتب النص" التي تتحول هنا إلى ذات ماثلة في كل تجليات النص كما سنوضح لاحقاً. فنحن إذن سنكون بإزاء حديث الكرسي مدونا ً على لسان كاتب النص. و هذا يعطي ما يأتي من النص سمة موضوعية أكثر، و ذلك زعما ً بأن أقوال الذات الباثة للرسالة النصية ليست سوى تدوين لحديث الكرسي. و تحدث هنا النقلة الأولى نحو السرد، فنقرأ:
هو ....
كرسي هرم قصير
ضامر الكتفين
محبوب بجبينه العريض
...
و لكن هذا السرد لا يخلو من النزعة الشعرية الغنائية تماما ً، مثل قولها في المقطع السادس:
...
كأنه غيمة صغيرة معذبة في (( سه يوان))
دكنة تحيط عينية
إن أصغيت لصدره
أحسست صوت روحه
يختضُّ في جسده
أبدا ً...
كأنما النار تؤرجحه.
و في هذه المقاطع، و في بقية متن النص، يتجسد التداخل بين الأجناس شعرا ً و سردا ً و نصا ً مسرحيا ً، و الأخير يختلف عن المسرح لأن النص أحد مقومات المسرح كما نعلم. إذن فإن النية المعلنة في النص الموازي قد تحققت. و لكن مهمة النقد تتجاوز حدود ما مصرح به إلى البحث في ما لم يصرح به. أعني العلاقة بين إستراتيجية محو الحدود بين الأجناس و بين الإستراتيجيات الأخرى. و في الحقيقة فإن النص قد اعتمد إستراتنيجيات متعددة، و منها إستراتيجية أنسنة الأشياء و الكائنات الأخرى، و هو ما يسمى بالتشخيص أو personification، و في الوقت نفسه تشييء الإنسان أوobjectivization. إذن، أيحق لنا أن نصف ذلك بأنه محو للحدود بين الإنسان بوصفه جنسا ً و بقية الأشياء و الكائنات بوصفها أنواع أو أجناس مغايرة؟! و أخيرا ً، ألا يمثل ذلك تطابقا ً بين محو الحدود بين الأجناس الأدبية و محو الحدود بين الإنسان و الأشياء بوصفها إستراتيجيات بناء النص؟
إن النص، إذ يحقق هذا البعد العميق من التوافق بين إستراتيجيات البناء الذي توحي به أسئلتنا أعلاه، فإنه يقترح أن تكون قراءته ضربا ً من الكشف عن البنيات المولدة للتجرية الأدبية و ارتباطها بالرؤيا الشاملة و المهيمنة في النص. و لسوف يكون ذلك أحد أهدافنا في هذه القراءة.
يكتسب عنوان النص أهمية بالغة في الأدب الحديث. إنه إشارة أولى تجعل المتلقي في حالة توقع بعينها. و ترتبط حالة التوقع هذه مع قراءة متن النص بعلاقة الترقب و الانتظار لما تسفر عنه القراءة من تحقق أو عدم تحقق ما توقعه القارئ. من هنا يكون العنوان منطلقا ً مؤثرا ً في صيرورة القراءة اللاحقة. فكيف إذن نفهم هذا العنوان المؤلف من كلمة واحدة معرفة هي " الكرسي"؟ قد يذكرنا العنوان بخبرتنا مع الكرسي أو الكراسي. و قد يشير إلى جزء من الأثاث الذي نمارس عليه فعل الراحة بعد جهد. و لكن الأمر الأهم هو أنه يذكرنا بآية من القران الكريم تحمل الاسم نفسه. و هي من الآيات القلائل التي لها اسم في القرآن. فهل يسوغ النص لنا الالتفات إلى مثل هذه الإشارة؟
بداية، يحفل النص بذكر كراس ٍ كثيرة ٍ. فهناك، كما رأينا، الكرسي البطل. و هو كرسي عادي، و لكنه كائن نصي مؤنسن و يلعب دور الشخصية الأهم في النص على الرغم من وجود كراس أخر. و قد مرَّ هذا الكرسي بتجربة مريرة. لذلك فهو كرسي حائر، من سلالة شجرة الجوز. و يتكفل النص، عبر الذات الباثة للرسالة النصية بسرد هذه التجربة المريرة متنقلا ً بين الأجناس الأدبية؛ فتتردد عبارة " يحكى أن" ثلاث مرات. و حين تسرد علينا حكايته نقرأ:
لا يتذمر أو يتطلَّب،
لا يغضب أو يثرثر،
فقط أمر واحد
ينغص على قلبه.
هنا..
لا تعرفه النساء
و لا يأتين َّ لاحتضانه يوما ً
لا صديقات لديه بين النساء.
في هذا الوصف للكرسي تتداخل مرة أخرى سمات " الكرسي" الشيء التي يرد ذكرها في السطرين الأول و الثاني. و لكن بقية المقطع تعبر عن هواجس و سمات بشرية منسوبة للكرسي. و على وفق هذا المنطق، لن يكون غريبا ً أن يجري حوار بين كرسينا العتيد من جهة و كرسي آخر من أهالي سنندج و أريكة عثمانية من جهة أخرى. ففي الصفحة 20 نقرأ:
في ليلة لكاثية صامتة
سرد الكرسي بحزن:
لا أتذكر أيامي الغضة
و لا رضاعتي.
أو نقرأ في الصفحة 21:
كنت في صباي نحيلا
ثمت أثنتان من الذكريات، كأضغاث أحلام
ظلَّـتا في عمق مرايا مخيلتي
إذن، فإن البطل هو الكرسي الذي قد ينشئ حوارا ً بينه و بين فراشة مهتاجة! أو قد يسرد علينا ما قاله والده عن إخويه في الرضاعة من شجرة التين اللذين قتلت أحدهما طائرة في جاسه نه. ذلك أنه ينقل عن أبيه عن جده كما يفعل البشر. و لذلك يحق لنا أن نعده قناعا ً تختفي خلفه الذات الباثة للرسالة النصية. فنقرأ على لسان الكرسي قوله:
ما تصيره مصيرك،
مصيرك، ما يصنعونه منك؟
أتذكر مرة
نورسا ً، توجه إليَّ مصادفة
ببنطال و شعر أصفر
صحفي شاطئٍّ
كان ينوي عمل ريبورتاج عن حياة الشجر
يرسله إلى جريدة اسمها (( عيون المحيط))
كلما رأى شجرة، سألها:
- بعد حياتك هذه، ستبعثين لإلهك النجار، ما تحبين أن تكونينه؟
قالت إحداها: أريد أن أكون معرض كتب
و الأخرى: خزانة لغرفة فتاة
و الأخرى: خزانة أوان ٍ
هكذا إذن ينتقل النص إلى السرد و الحوار، فيجري نورس، و هو من جنس الطير، ببنطال و شعر أصفر حديثا ً صحفيا ً، و هذه سمات و أفعال تنسب للبشر، مع الشجر، و هو من جنس النبات، عما ترغب أن تكون، و هي رغبات عاقلين من البشر ايضا ً، و ذلك انسجاما ً مع منطق إستراتيجية محو الحدود بين الأجناس و الكائنات المتوافقة مع إستراتيجية محو الحدود بين الأجناس الأدبي. و لعل المقطع الآتي يظهر تداخل الرغبات المنسوبة للكرسي مع رغبات إيروسية دفينة لدى الذات الباثة للرسالة النصية فنقرأ على صفحة 46:
كنت أشعر بأن أخشابي ستخضر
كانت تهن عيوني
و أجمل الأحلام أرى.
كنت عذق شجرة جوز
لا تعلم ما الذي يحدث لك
إن بركت العروسُ عليك..؟
يدها على يدك فخذها على فخذك.
و ساقها ملتصق بساقك
لا أحد .... إلا و ذاب بالكامل
جذلا ً يحلق مع العروس نحو الغـَيم
في قبة السماء.
ثم في صفحة 47 نقرأ:
حينما أرادت أن تنهض
بإصبع خدش رفيع
أمسكت ُ ثوبها بقوة
فجلست مجبرة
لم أتركها إلى أن
ارتويت منها . ( التوكيد من كاتب السطور)
إذن، يرمز هذا الصنيع السردي المتخيل و المنسوب للكرسي إلى اشتهاءآت الذات النصية نفسها. و قد تروى لنا أحداثا ً مر َّ بها الكرسي فتتداخل مع أحداث و فضائع شهدتها منطقة كوردستان مما يجعل الرسالة ذات طبيعة ذاتية إيروسية من جهة و سياسية و اجتماعية من جهة أخرى.
يبدأ جنس كتابة النص المسرحي ( و ليس المسرح) في الصفحة 65، فنقرأ:
"( على خشبة المسرح. منتصف الليل. غرفة – كرسي و طاولة خشبية. باتجاه الجمهور).
ألكرسي: تأخر الوقت، لكني سأنتظر
بعد قليل سيعود جيوار
ثملا ً بالنبيذ و الهموم
يمسك بجناحي، و يبعدني عن الطاولة قللاً.
في الواقع، لا أنسجم مع هذه الطاولة
:انني عبدها. علي أن أتبعها أينما ذهبتْ.
على كل حال، عندما جلس جيوار علي.
حينها كتب آخر مشهد للمسرحية.
( يأتي جيوار إلى الغرفة. مدندنا ً بكلمات أغنية حزينة،
يمسك الكرسي و يبعده قليلا ً عن الطاولة. بضع ثوان من صمت و تأمل)."
و يلاحظ هنا أن الصراعات الاجتماعية الممثلة بالخلاف بين نوزاد و زوجه روناك سيحسم بأن تقرر روناك مغادرة المنزل كما فعلت نورا بطلة مسرحية "بيت الدمية" لهنريك أيسن. و لسوف يحضر المشهد السياسي و الاجتماعي في خلفية الحوار بين روناك و نوزاد:
روناك: ...
نعم سأذهب. إلى بيت أختي نرمين
في الجبل. في قرية ((هلدن ))ز
نوزاد: هم لا يجدون ما يأكلونه...
( روناك مقاطعة حديثه): لا يهم. فلأمت من الجوع
لكن أكون حرة... حرة.
نوزاد: امرأة و جبل و قصف الطائرات؟!
روناك: نعم. امرأة و جبل. و ليس هذا فحسب
بل امرأة و ثورة...
و هذا آخر كلام لدي.
إن هذا الحضور المؤقت للقضايا الاجتماعية و السياسية سيستمر في الحضور في المشهد المسرحي. و لسوف يتسع المشهد لحوارات بين الكرسي البطل و بقية الكراسي ة الأرائك. هناك أيضا ً استذكارات على لسان الكرسي تستحضر أسماء شعراء كورد و من بينهم عبد الله كوران و نالي و مولوي و شيركو بيكه س نفسه. و تحضر أيضا ً آليات الكتابة المسرحية فنقرأ عبارة مثل: ( كرسي المقدمة يلتفت نحو الأريكة) ثم يٍسأل " كيف كانت اسطنبول..؟" مما يؤكد التداخل الأجناسي و يعمق من تأثيره في المتلقي الذي ستتخلق لديه أسئلة حول دلالات هذا التداخل.
4. النص و وظائف الخاتمة
تحظى خاتمة النص الأدبي بأهمية موازية لأهمية الاستهلال فيه. لكن وظائف الأخير (الاستهلال) لا تتطابق مع وظائف مع وظائف الأول (الخاتمة). فالأخير يؤطئ لمتن النص، و يثير شهية التأويل بما يتركه من فراغات، بينما يقوم الأول بتكثيف المادة النصية، و تركيزالمعطيات النصية في شتى تمظهراتها. و استنادا ً إلى هذا الفهم لوظائف الخاتمة، سنقوم بقراءة المقطع الختامي لاستجلاء صلته بمتن النص و كيفية أدائه لتلك الوظائف. نقرأ في المقطع الختامي:
ممعنا ً [ النظر] في نقطة سوداء،
للحظات استحالت سنونوا ً حبيسا ً،
آنئذ رفعتُ رأسي،
حلق السنونو عاليا ً
أبصرت في سطح سماء ناصعة،
غيمة في سيماء كرسي،
نفسه، الكرسي
وُضع قرب عرش الله،
منتظرا ً
أن تقعد عليه.. أخيرا ً
الحرية.
و لنا الملاحظات الآتية على الخاتمة أو المقطع الختامي:

1. إنه يستعيد البنية الفنية المتداخلة. و يذكرنا هذا بما سميناه بجامع الأجناس الأدبية. و بذلك تكون النهاية مرنبطة بالبداية و بكل التحولات الشكلانية التي مرت بنا في النص. و قد يصفها البعض بالحكاية الشعرية استجابة لرأي يؤكد أسبقية الشعر التراتبية بالنسبة لبقية الأجناس الأدبية. و لكن ذلك الرأي يغفل أن الاستعانة بتلك الأجناس الأخرى إنما كان نتيجة رؤيا تتجاوز قدرات نوع أو جنس أدبي بعينه على التعبير عن التجربة التي جسدها النص.
2. إنه يؤكد صحة ما توقعناه من وجود علاقة بين العنوان و آية الكرسي التي تشير إلى العرش الإلهي. فهذا الكرسي ( وهو الذي كان غيمة في سيماء كرسي)، و الذي وُضع قرب "عرش الله"، سيكون نتاج التجربة البشرية التي تصبو إلى ما يمكن أن يكون حلما ً بالخلاص من خلال جلوس الحرية، و هي من المجردات، على الكرسي العتيد بعد أن جلس عليه أشخاص من العظماء و الشرفاء و الشعراء و آخرون من السفلة و الأوباش، و وضعت عليه أشياء و أشياء. إذن فإن جلوس الحرية على كرسينا هذا يؤشر انتقال دلالة الكرسي الشيء، المرئي و الملموس إلى دلالة تجريدية. و لعل معنى تجاور الكرسي أو قربه من عرش الله هو الأمل بأن تكون الحرية في جوهرها الإنساني و بالترابط مع الإيمان بكل ما ينطوي عليه من أبعاد ميتافيزيقية و نفسية و اجتماعية هما الضامنان لكينونة بشرية أقل إيغالا ً في الخطأ و الخطيئة.
3. و الآن، إذا ما ربطنا أول كلمة طالعناها في النص، و هي كلمة "أنا" مع آخر كلمة فيه، و هي كلمة " الحرية"، فإننا سنكون جملة مفتاحية اتخذناها عنوانا ً لمقالتنا هذه، و هي "أنا الحرية" التي تعد رؤيا مهيمنة في عموم النص. و هنا نرى بأن إستراتيجيات محو الحدود الأجناسية و محو الحدود بين الإنسان و الكائنات، التي تعدُّ خروجا ً على المألوف و السائد، إنما تمثل فعلا ً من أفعال الحرية، و لذلك يجوز لنا القول أن البنيات المكونة للنص قد تولدت عن الرؤيا السائدة فيه من جهة، و قامت بتدعيم هذه الرؤيا من جهة ثانية.
4. في التأويل النهائي، يجسد النص الوحدة الكلية لعناصر ثلاثة هي: الذات بأبعادها النفسية و الروحية، و المجتمع بما ينطوي عليه من صراع و ظلم، و المطلق بوصفه حاجة ميتافيزيقية أصيلة في النفس البشرية، فضلا ً عن التطلع إلى الخلاص الكلي عبر رؤيا تقترب من النيرﭭانا. و كان ثمة تناغم كلي بين التقنيات الشكلية و هذه المعانى و الدلالات، فكان الشعر هو السائد في التعبير عن الذات بينما كان السرد و النص المسرحي هما السائدان في التعبير عن الحياة الاجتماعية بأبعادها الموضوعية و الصراعية.
أليس كذلك؟


الملاحظات و الهوامش:
1. أنظر كتاب: André Lefevere (1992) Translation, Rewriting,  the Manipulation of Literary Fame,London and New York: Routledge. The Introduction. pp. 2-4.
2. أنظر " سيرة لا بد منها لهذه الترجمة" و هي مقدمة كتاب " الكرسي" لشيركو بيكه س. ص. 5. الصادر عن دار المدى.
3. دأنييل-هنري باجو " الأدب العام و المقارن" ترجمة د. غسـان السـيد. منشورات اتحاد الكتاب العرب, دمشق. 1997. ص. 105.
4. جيرار جينيت " أطراس" اختيار و ترجمة المختار حسني. الأنترنيت. تاريخ الدخول 20/10/2007.



#باقر_جاسم_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفدرالية و أزمة الحكم في العراق
- روح هجرتها الموسيقى
- لطفية الدليمي: هجرة الإبداع
- الميثوبي و السرد الغنائي
- بين مربدين
- كان شامخا ً مثل نخلة عراقية
- أدلجة سوسور: قراءتا بلومفيلد و تشومسكي لمحاضرات سوسور
- ما تستحقه الكلمات
- نظرية النشوء: نحو منهج مادي تاريخي في تأريخ اللسانيات
- هدف الرغبة الغامض البعيد: علم اللغة
- نزع الميثولوجيا عن اللسانيات الاجتماعية
- من الذي سيكون سيدا ً تأسيس السلطة العلمية في علم اللغة
- الأيديولوجيا و العلم و اللغة
- أبواب
- محو الغربة و تدوين الاغتراب
- مسألة السلطة السياسية هي جوهر الخلاف بين العلمانيين و القائل ...
- جدل الشكل و لامحتوى في السرد الوائي: ( حديث الصبح و المساء إ ...
- العلمانية و الدين و المجتمع
- لحية كارل ماركس
- في أخلاقيات الحوار و شروطه المعرفية


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - باقر جاسم محمد - أنا الحرية: البنية و التأويل في ( الكرسي )