أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أمير أمين - ذكريات عن معلمي الناصرية في عيدهم الأغر















المزيد.....


ذكريات عن معلمي الناصرية في عيدهم الأغر


أمير أمين

الحوار المتمدن-العدد: 3290 - 2011 / 2 / 27 - 16:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



لا أدري ما المناسبة التي دعت الحكومات السابقة بأن تجعل للمعلم عيداً في الأول من آذار من كل عام أهو مثلاُ لتأسيس أول مدرسة عراقية أم لتخرج أول دفعة معلمين في أية مدينة عراقية أم لإستشهاد أي معلم في النضال ضد المستعمرين مثلاً أو ضد أعوانهم..!! الأمر محير لي حتى أنني لم أعد أتذكر السنة الأولى التي إحتفلنا بها في عيد المعلم ذلك اليوم الأول من شهر الربيع آذار الشهر المليء بالمناسبات الوطنية ولم يبقى في ذاكرتي من تلك الإحتفالات سوى ما قاله الشاعر أحمد شوقي في قصيدته ذائعة الصيت عن المعلم ومنها :


قم للمعلم وفه التبجيلا ..كاد المعلم أن يكون رسولا.....أعلمت أشرف أو أجل من الذي..يبني وينشيء أنفساً وعقولا

..الى آخر بيت في القصيدة التي ورد في ثناياها ذكر عدد من الأنبياء ومنهم محمد بن عبد الله..
كان في الناصرية داران للمعلمين والمعلمات كل على إنفراد يقع دار المعلمين في صوب الشامية بينما يقع دار المعلمات في الصوب الكبير قرب الإدارة المحلية وقد تخرج منهما وخلال عقود من الزمن عشرات الوف المعلمين من بنات وأبناء الناصرية والمدن المجاورة وكان أغلب المتخرجين هم من الأسر الفقيرة والتي لا تستطيع من إرسال بناتها أو أبنائها الى العاصمة بغداد لإستكمال تعليمهم الجامعي لصعوبة النفقات ولأن هذه الأسر تريد الإسراع في تخرجهم لأنها بحاجة الى العون المادي بسبب الظروف المعاشية القاهرة حينذاك ومنها أسرتنا التي لم ترسل أختي الشهيدة موناليزا الى الجامعة على الرغم من تفوقها العلمي في كل سنوات دراستها وفي كل الدروس بل واصلت تعليمها في دار المعلمات وتخرجت منه وهي لم تكمل عامها السابع عشر...!!
كانت علاقة التلاميذ بالمعلمين على الأغلب علاقة تربوية حيث ينظر المعلمين الى تلاميذهم كما لو كانوا أبنائهم ونحن التلاميذ كنا نعتز بتلك العلاقة لكننا كنا نخشى شدة بأس بعضهم وكان عدد منهم يثير فينا الفزع حتى خارج أسوار المدرسة فلمجرد نظرة من أحدهم إذا كنا نلعب الكرة قرب أماكن سكننا تجعلنا ننهي اللعبة ونذهب الى بيوتنا ونستعد لتحضير الدرس ليوم غد لذلك الإستاذ الذي شاهدنا نلعب !!
لم أعرف أي شيء عن المعلمين في رياض الأطفال ولم أحتك بأي منهم لا من بعيد ولا من قريب فقد كانت في مدينة الناصرية على ما أتذكر روضة واحدة للأطفال من ذوي الأسر الميسورة وكنت من بعيد أرى السيارة التي تقلهم ولا زلت أتذكرها والتي لم يكن لها شبيه في كل المدينة أي أنها كانت خاصة ومتميزة بالروضة وكانت تنقل الأطفال الحلوين والنظيفين الى روضتها وترسلهم الى أهاليهم بعد الظهر حينما ينتهي الدوام ولا أتذكر أن أحد أقراني كان فيها لذلك لم أكن أعرف ما كان يدور بها سوى أنني كنت قد سمعت أنهم يوزعون على الأطفال الفواكه على الرغم من جلبهم لها من بيوتهم فحسدتهم على ذلك ولم أعرف هل كانت معهم بنات أم كانت للذكور فقط..ودخلت المدرسة ولم يتم قبولي كطالب صف أول بسبب عدم إكتمالي سن السادسة لأني مولود في شهر ديسمبر لذلك جرى إعتباري مستمعاً طيلة السنة مما أفادني ذلك كثيراً لاحقاً..كان صفنا وسخاً جداً ومكتظاً بالطلبة بحيث كنا نجلس كل ثلاثة أو أربعة طلاب على رحلة واحدة في مدرسة الشرقية التي كانت قريبة من صفاة الناصرية التي تبتعد عن بيتنا مسافة نصف ساعة مشي لطفل بعمري وكان أول معلم ملكني عبداً لأنه علمني حرفاً هو المرحوم عبد الحسين حوالة الذي كانت الخيزرانة لا تفارق يده لكنه كان رحيماً بنا لا يضربنا وكنا نحترم الخيزرانة ونهابها أكثر منه لأنه قال لنا وأكد ذلك بأنها العلوية حسب تسميته لها !! وهي تشور بكم إذا كنتم وقحين أو كسالى فصدقنا كلامه نحن الأطفال مما أعطاها هيبة روحية لنا وكنا ننظر للعلوية بإحترام حتى وأن لسعتنا ضربة منها..!! كان المعلم عبد الحسين كبير السن طيب جداً ومحبوب..يغني لنا ويصفق وينكت وغالباً ما يدعونا للذهاب سوية معه الى سفرة وهمية حينما يضع على أذنه اليمنى يده ويتصل بحجي شنان الذي كان يملك عدداً من سيارات النقل الى بغداد وغيرها ويتفاهم معه حول سفرة لنا الى مكان معين..كنا ننصت اليه بإستغراب..لم يكن عنده تلفون لكنه بهدوء ورزانة يتكلم مع حجي شنان ويتفق معه على أن يرسل لنا باص جميل لكي نذهب به في سفرة الى إحدى مناطق العراق الجميلة..كنا فرحين وكان يقول لنا هل سمعتم لقد تفاهمت مع الحجي وخابرته الآن أمامكم وإنشالة تروحون سفرة. باجر...كنا نصدق ذلك وحينما كبرنا صرنا نتذكر إتصالاته بشوق كما لو أنها كانت حقيقية ..!! بقيت في مدرسة الشرقية سنة مستمع وسنة في الصف الأول وحينما نجحت الى الصف الثاني إنتقلت أسرتنا الى صوب الشامية وإستقرينا في الإسكان ومن معلمي الشرقية أيضاً أتذكر معلم الرياضة إبراهيم وكان قصير القامة هاديء الطبع وهو أخ كوزان الغريب الشكل والذي كان يعمل في الدعاية لسينما الأندلس فيقوم برفع عارضة خشبية يطوف بها مع شخص آخر شوارع الناصرية وكان يردد بصوته الجهوري على الفلم الذي سيعرض اليوم أو غداً وكثيراً ما كان يؤكد على جملة سكوب ملون لأن بعض الأفلام وخاصة المصرية كانت تردنا أسود وأبيض وفي بعض المواسم كان يردد أيضاً فلمين في بطاقة واحدة وغالباً ما يصرخ بأسماء أبطال وهميين مثل راوندر الجبار !! لكي يجلب فضول الأطفال وخاصة في موسم العيد للدخول للسينما..
كانت مدرسة أبو تمام وبعدها فتح في بناية واحدة ثلاثة أيام دوام صباحي وثلاثة أيام دوام بعد الظهر..وكانت مليئة بالتلاميذ بحيث يمكن للمارة من سماع الصخب والضجيج على مبعدة منها وكان المعلمون مختلفون بطباعهم وطرق تعليمهم ومنهم المتشددون وخاصة معلم العلوم المرحوم عبد الرضا الذي كان يعاقب المقصر في التحضير بالضرب بالعصا لكنه يملك قلباً طيباً جداً ويحب التلاميذ كأولاده وكان مسؤولاً عن حانوت المدرسة الذي كنا نحن التلاميذ لنا حصة مادية به حيث أعطيناه مئة فلس في بداية الدوام كرأس مال جمعه من عدد من الطلبة وفي نهاية السنة الدراسية وزع الأرباح على الطلبة المشتركين بحيث حصلوا على دينار أو أكثر لكل منهم ..كان المعلم عبد الرضا كثيراً ما يدخل الى الصف في الدرس الأخير وأثناء فترة التدريس ويستوقف المعلم لكي يبيعنا البيروتي الفائض عندهم وهو كيك طيب وبه سمسم كان يسجل أسماء المشترين ويخبرنا بأن الدفع سيكون غداً ونشتري منه بشيء من الإجبار وفي اليوم التالي يدخل لنا صائحاً : فلوس..فلوس ..ثم يعقب قائلاً :إحذر الفلوس.... ويضحك بعدها ويخرج ورقة من جيبه ثم يقرأ أسماء المشترين منه البارحة ويطالبنا بالمبالغ..وكان معلم اللغة الإنكليزية المرحوم جبار صكر الذي إمتاز بشيء من القسوة علينا وكان يضربنا بالمتر الذي كنا نتعلم به القياس ولم أتذكر أن أي من المعلمين كان قد إستخدمه للقياس بل كان آلة للضرب وخاصة حينما يطلب المعلم من الطالب بقلب صفحة يده لكي تكون الضربة أشد إيلاماً عليه وكان المعلم جبار كثيراً ما يضربنا حينما يعطينا إملاء ونرسب به بعد أن يصححه في البيت وفي إحدى المرات وتلافياً للضرب بالمتر قمت بكتابة عدد من الكلمات المتوقعة في الإملاء القادم على كفي الأيسر لكنه رآها وضاعف الضرب على يدي وكان يكرر كلمة ..وصجمة !! للذي يخطأ في القراءة ولا أعرف ماذا كان يقصد بها لكنها كانت كلمة مزعجة لي وللآخرين...كان معه أخ يعلمنا لكنه لم يدرسني وهو طيب وهاديء الطبع وكان إسمه ليلو ولا يشبهه في الشكل الخارجي..وفي درس اللغة العربية كان عندنا المعلم يحيى وهو شاب أنيق يمتاز بشواربه الكثة وكان أنيقاً لا يضربنا إلاّ في درس الإعراب لعدم إستيعاب أغلبنا له بحيث كنا نخطأ كثيراً به في الوقت الذي كان يتعب فيه على تعليمنا وكان معه أخيه الأسمر المعلم عادل ولا أتذكر ماذا كان يدرسنا..أما معلم الرياضيات فهو إحسان الكيزروني أو الكاتب وهو شبيه بالإنكليز وكان طيباً جداً وبسيطاً ومرحاً أحياناً كثيرة وهذا ما كان يخفف من عبأ مادة الحساب علينا لكنه غضب عليّ في إحدى المرات حينما قرأ على دفتري أن لقبي هو الموصلي !! وحقق معي حول صحة ذلك وأخيراً إقتنع لأني أخبرته بأن ولادة أبي في الموصل ومن حقي أن أكتب لقبي نسبة اليه..ضحك وقال أنت موصلي وأخيك سمير كاتب عرب..ضحكت وقلت له أن أخي الأكبر كاتب لقبه الجنابي في دفاتره..ومن يومها لم أذكر هذا اللقب أبداً..!! كان معلم الموسيقى هو المرحوم فوزي وهو شاب وسيم جداً أشقر وعيونه زرق وهو هاديء الطبع ومؤدب ولم يضربنا أبداً وعلمنا الكثير من الأناشيد الوطنية. وفي مادة الجغرافية كان المعلم محمد رحمه الله كان لا يضربنا إلاّ عند توزيعه نتائج الإمتحانات الشهرية فكان يضرب الراسبين بشدة وبعصبية...كان أطيب معلم عندنا على الإطلاق هو المرحوم عباس دلي الذي كان يعلم الصف الأول وكان محبوباً من جميع طلاب المدرسة وكان يحب تلاميذه جميعاً ويلعب معهم ويعطيهم الجكليت وخاصة إذا كانوا نظيفين ومجتهدين ولم يستخدم الضرب أثناء التدريس فإنعكس ذلك على نفسية التلاميذ الجيدة فأحبوه وأحبوا درسه ..كان معلموا الرسم طيبون بشكل عام كالمعلم طاهر من الإسكان حيث أنه إمتاز بالهدوء ولم يستخدم الضرب وكان يعلم الطلبة بشكل رائع الرسم وكيفية مزج الألوان وإختيار مواضيع الرسومات وكان يساعد الذين يرتبكون في هذه المادة أو الذين لا توجد لديهم أدوات الرسم فيعطيهم من عنده أو يستعير من الآخرين لسد نقصهم..كان معلموا الرياضة بشكل عام طيبون ومرحون ويتعاملون مع الطلبة كأصدقاء لهم ما عدا المعلم عدنان السماك الذي كان شديداً معنا وخاصة في التدريبات السويدية والتي نقوم بالتدريب عليها وعرضها في ملعب المدينة في السنة مرة واحدة وكانت شاقة وصعبة وكنت دائماً ما أكون فوق ثلاثة طلبة الذين يكونون فوق ثلاثة آخرين في أحد التمارين لصغر جسدي ورشاقته لكنني كنت شديد الحذر والخوف من السقوط من فوق ومن التقريع الذي سألاقيه فيما لو أخطئت من قبل المعلم عدنان الأصلع كما كنا نسميه..وفي إحدى المرات وكنا نتدرب في الساحة وبعد الدوام الرسمي..وكان الجو بارداً جافاً ونحن أطفالاً بالملابس الداخلية ..كان المعلم عدنان يشرح لنا إحدى الألعاب السويدية ويعلمنا كيفية تطبيقها بعد أن قام بتوزيع الأدوار علينا وكنت أيضاً فوق الجميع وهذا ما أثار فزعي وحينما شرعنا بالتطبيق سقطنا جميعاً وبدل أن يسارع لتفقدنا وهل تضرر أحد ما ..! لكنه أنهمك بالبحث عن شيء يضربنا به بينما كان يسبنا بكلام بذيء..كنا نرتجف من الخوف والبرد والجوع وطلب منا الأصطفاف وقام بضربنا بشدة على مؤخراتنا حينما تناول خشبة يابسة وجدها في مكان قريب لا تبعد عن مكان تدريبنا سوى بضعة أمتار..تألمنا كثيراً وكنت طيلة الفترة المتبقية للتدريب وهي نصف ساعة أقوم بحك مكان الضربة الذي آلمني كثيراً كذلك فعل البعض من زملائي المتضررين ولما إنتهينا من كافة التدريبات لهذا اليوم وبعد الإنصراف وتحديد يوم آخر للتدريب..فكرت بالبحث عن الخشبة التي رماها بعيداً بعد أن أشفى غليله منا..كنت أفكر بكيفية التخلص منها لكي لا يستخدمها مرة ثانية وطرأت على بالي فكرة رميها خارج السياج الى الشارع وكانت دهشتي عظيمة حينما تناولتها من الأرض..لم تكن سوى سمكة يابسة من نوع الجري..أي أنها جرية يابسة وإستغربت لشدة لسعاتها وتذكرت فجأة أن الأستاذ عدنان حينما أنهى ضربه لنا مسح يده بملابسه وكان يبدو عليه الإمتعاض من شدة عفونة رائحتها..رميتها سريعاً وطارت عبر السياج وكنت منتشياً بفعلتي ولا أدري هل سقطت على رأس أحد المارة يا ترى أم لا... المهم أن الخيزرانة كانت أرحم منها علينا..!!!في مدرسة أبو تمام الإبتدائية كان مديرنا الفقيد عبد الكريم الركابي وكان قصير القامة مربوع تفوح أحياناً من فمه رائحة الخمر يسير متبختراً في ساحة المدرسة حاملاً الخيزرانة بيده..كان طيباً ولا يستخدم الضرب إلاّ نادراً لكنه كان كثيراً ما يهدد بإستخدامه كان قومي النزعة كلما لمحني في الرواق أمسك بي وسألني عن والدي الذي يعرفه لكنه يسألني دائماً نفس السؤال وهو : هل لا زال والدك يقرأ للآن قصصاً بوليسية !! مثل أرسين لوبين وغيرها ..كنت أضحك وأقول له نعم وأضيف أسماءً أخرى للقصص التي أراها في متناول يد والدي وهو منكباً على قرائتها من خلال زجاج نظارته الطبية وأيضاً جاءنا فترة الأستاذ طالب وكان مديراً علينا وهو من الشباب المهذبين وكان وسيماً وأعتقد أنه كان بعثياً ولم يستخدم الضرب لكنه كان يهدد به في فترة الأصطفاف الصباحي وله جملة كان يرددها كل يوم ولم نكن ندرك معناها وهي : علاوةً وعلى العقاب أيضا ..ثم يكمل حديثه كانت له زوجة طيبة إسمها نجية أصبحت لاحقاً مسؤولة أتحاد نساء العراق فرع ذي قار ولما توفى والدي في الأول من تشرين الأول عام 1977 حضر الأستاذ طالب وزوجته الى بيتنا وساهموا بالفاتحة والتي كانت للرجال في الحديقة وللنساء داخل البيت كما حضر عشرات المعلمين والمدرسين ومن الصوبين في الناصرية ..
كانت تنظم لنا سفرات مدرسية غالباً ما تكون في فصل الربيع وبعد إنتهاء إمتحانات نصف السنة الدراسية حيث يقوم المعلمين بالترويج لها لحث الطلاب على تسجيل أسمائهم لغرض المشاركة فيها وكثيراً ما يكون السعر هو درهماً للطالب الواحد أما الأكل فيقوم الطلبة بتحضيره وجلبه من بيوتهم ويكون عادة بيض مسلوق وبطاطا مسلوقة أيضاً بالإضافة الى قطعة من الفواكة وخاصة التفاح وحينما نصل يفترش الطلبة مائدتهم كل على إنفراد أو أن يتجمع صديقان أو أكثر لتناول الأكل سوية بعد أن يخلطوا ما جلبوه ويقوم بعض المعلمين بالإشراف وتفقد الموائد ومساعدة الضعفاء مادياً بتزويدهم بالقليل من الموائد الأخرى وهم أيضاً يجلسون في النهاية قرب الطلبة الأغنياء ويتذوقون بعضاً من موائدهم الدسمة..!! السفرة كثيراً ما تكون ممتعة وأتذكر منها أننا زرنا آثار أور في إحدى المرات وتسلقنا الزقورة ودخلنا عميقاً وبمساعدة أحد الأدلاء الى الكهوف تحت الأرض وشاهدنا قطع الفخار المتكسرة وجمعنا بعضاً منها وأيضاً أخذنا معنا للذكرى عدداً من الأقلام المسمارية الحقيقية التي كانت متناثرة هنا وهناك ولم نكن نعلم أنها لا تقدر بثمن والتي إفتقدناها بعد عدة شهور ولا ندري أين ذهبت..!! والسفرة الثانية التي لا زالت عالقة في ذهني كانت سفرة نهرية الى أهوار الجبايش حيث إستقلينا مركباً بخارياً كبيراً وكان بطيء الحركة بحيث إستغرقت الرحلة حتى وقت متأخر من المساء ولما عدنا كانت أمهاتنا تنتظرنا بقلق وخوف وحزن على شاطيء نهر الفرات وكنّ يعتقدن إننا قد غرقنا وكانت والدتي من ضمن الوافدات الى النهر وكانت فرحتهن برجوعنا سالمين لا تعوض وأتذكر من تلك السفرة المدرسية أن أحد المطبقين كان معنا وهو قومي النزعة ومن أهالي الريف ويبدو ذلك جلياً من خلال شكله وملبسه وطريقة كلامه وكان يضع النظارة الطبية على عينيه العصفوريتين..كان يصرخ بنا أن نردد معه هتافات تمجد جمال عبد الناصر الذي لم نكن نعرف عنه أي شيء سوى كونه رئيس مصر..رددنا معه بحماسة وبأصوات طفولية عذبة وبصوت واحد :مكتوب على كلوبنا عبد الناصر محبوبنا..ومكتوب على سلاحنا عبد الناصر كفاحنا..!!لم يشاركنا أي معلم في الترديد والصخب الذي جلبته شعارات هذا المطبق المتخلف وكانوا يخجلون من محاولة منعه في الوقت الذي كنا فيه بأمس الحاجة للغناء وترديد الأناشيد الوطنية فإستغل براءة طفولتنا لإشفاء غليله وكنا نحن الضحية وكان المعلمون ينظرون اليه بإشفاق..! لكننا كنا قد إستمتعنا بخضرة الطبيعة وخرير الماء المموسق عكس سفرة أور التي كانت متعبة ومغبرة وفي جو حار..وكان المعلمون يأخذوننا أحياناً الى المسرح أو السينما بعد أن نشتري التذاكر بدرهم لدعم القضية الفلسطينية وأتذكر أننا شاهدنا فلم مصري كان إسمه أو يتحدث عن القائد صلاح الدين..
ونحن إذ نتذكر المعلمين في عيدهم الأغر لابد لنا من وقفة مع المدرسين في المرحلتين المتوسطة والإعدادية الذين كانت تربطنا وإياهم لغة مشتركة وبعض الصداقات والتفاهم وإرتبطنا ببعضهم بعلاقات حزبية..كانت مرحلة المتوسطة عاصفة وصاخبة في متوسطة سومر ونحن في سن المراهقة وكان أغلب المدرسين عوناً لنا في تهدئة هذا الغليان الصبياني الذي كان يغلب على بعض تصرفاتنا دون إرادتنا ومن الأساتذة الذين أعتبرهم قمة في الروعة كان مدرس اللغة العربية الأستاذ صفاء وهو لم يكن من أهالي الناصرية وأعتقد أنه قدم اليها من بغداد وتبدو عليه الأناقة والوسامة والتهذيب وهو طيب جداً وصاحب معشر يميل الى الفكر اليساري وكان غزير الثقافة والتي عكسها علينا وبشكل دائم وكان درسه شيق وممتع جداً وكنا نتمنى لو يطول وقته أكثر وقد إهتم بتعليمنا كتابة الإنشاءأو التعبير وإهتم كثيراً بالعناوين التي يغلب عليها الطابع الخيالي المتجسد لواقع معين من صميم مجتمعنا فمثلاً كان عنوان أحد المواضيع هو : تصور نفسك درهماً في جيب فقير ..!! كان يستمع الى الإنشاء الذي يلقيه الطالب على مسامع الآخرين أمام السبورة وثم يقوم بتصحيحه ووضع بعض الملاحظات عليه وحينما قرأت موضوعي كتب عليه عبارة: كان موضوعك أكثر من رائع وأنا أعتقد أنك ستكون كاتباً في المستقبل ..!! ولم يعلم أنني إستعنت في البيت بأخي سمير في التفكير بصياغة بعض الأفكار والعبارات ولم يكن كله من بناة أفكاري وحسب ..! كان الأستاذ صفاء يمتاز بأدب جم وكنا نحبه جميعاً وتغمرنا السعادة حينما يكون وسطنا..! ودرسنا أيضاً أساتذة طيبون ومحسوبون على قوى اليسار في متوسطة سومر ومنهم أستاذ مادة الجغرافية علي عبد الكريم وكان طويل القامة بشكل لافت وكثيراً ما يمتعنا ببعض النكات الترطيبية ولم أتذكر أنه قد رسب في درسه أحد منا كذلك أستاذ مادة التاريخ المدرس مؤيد وهو إبن أشهر معلم قدير في الناصرية هو قاسم فريد وكان هاديء الطبع وطيب ودرسنا أيضاً في نفس المادة أي التاريخ الأستاذ حمادة وهو أخ الشهيد الشيوعي صاحب ناصر وكان من شباب الإسكان الطيبين وإمتاز درسه بالجدية والوضوح وفي مادة الرسم درسنا الأستاذ كامل الموسوي وكان قصير القامة بشكل واضح يميل للسمنة قليلاً وهو مثابر في عمله وخاصة حينما ينقلنا الى العمل معه في المختبر وعلمنا بالإضافة الى الرسم كيفية صب التماثيل والنحت بإستخدام النورة وكان يتعامل مع الطلبة بإحترام كبير فينعكس ذلك عليهم إيجاباً وفي مادة الرياضة كان المدرس منذر الإمامي وهو من شباب المدينة المعروفين في الوسط الإجتماعي والرياضي وكان يصحبنا الى قاعة الرياضة الشتوية أو الى ساحة المدرسة لكي نمارس لعبة كرة القدم وفي مادة الرياضيات كان يدرسنا الفقيد عبد الرضا وهو قصير القامة لذلك أطلق عليه الطلبة لقب مغيزل وكان صاحب معشر يجيد النكات بين فترة وأخرى للتخفيف من صعوبة المادة وهو يساري الفكر يبدو ذلك من خلال بعض أحاديثه وفي نفس مادة الرياضيات درسنا أيضاً المدرس صباح البدري وهو من أهالي منطقة الإسكان وكان كثيراً ما يرسم النظريات بالألوان ويتكلم الفصحى فمثلاً كان يقول ذيك الزاوية وتلك النظرية فكنا نتناول كلماته بالضحك أثناء الفرصة وفي بكالوريا الثالث متوسط كانت نتيجتي هي الإكمال أي الرسوب بمادة الرياضيات وفي الدور الثاني كانت درجتي في الإمتحان الوزاري هي 76 ولما علم بذلك صاح عليّ وصفعني على وجهي بخفة وكان يضحك وقال لي : ولك كنت أعتقدك غبي لكن ماكو غبي يطلع 76 فلماذا لم تكن تحضر دروسك بشكل جيد...ثم هنأني وقال هذي الدرجة تبيض الوجه..كنت فرحاً جداً بكلامه... وكان عندنا معاون المدير الذي أتذكر أننا كنا نسميه جانكو تيمناً ببطل أحد أفلام الكاوبوي وكان عصبي المزاج وكثيراً ما يأخذ دور المدير الذي كنا نلقبه برنكو ويهدد بالخيزرانة التي كانت ترافقه على الدوام والتي أشبعني بها ضرباً في إحدى المرات حينما وصلت اليه شكوى بإني قمت بخلع باب قاعة الرياضة حيث كنا نتدافع ونتمازح قربه وجاء خلعه في النهاية على يدي التي تحملت أكثر من عشرين ضربة وتهديد بالغرامة من قبل جانكو اللعين..وفي مرحلة الرابع ثانوي درست في الجمهورية وكان فيها عدد من الأساتذة الرائعين ومن الشيوعيين خصوصاً كان في مادة اللغة العربية المدرس نوري عبد الرحيم الذي كان صديق الكل وهو طيب جداً وصاحب معشر وله ثقافة ممتازة عكسها علينا في جميع ساعات التدريس وفي مادة الرسم درسنا الأستاذ كاظم إبراهيم وكان شيوعي أيضاً وصاحب نكتة وكان درسه ممتع جداً وقد عملت أيضاً معه فترة من الزمن في صفوف الحزب الشيوعي فكان مسؤولي بشكل مباشر وهو من الرسامين المشهورين في المحافظة وله لوحات ذوات قيمة فنية عظيمة وفي مرحلة إعدادية الناصرية كان لدينا مدرسين طيبين جداً ويمتازون بعلاقات رائعة مع طلبتهم ومنهم الإستاذ جبار بكوري مدرس الرياضيات وهو من اليسار وكان طيباً ومجداً في التدريس وكثيراً ما كان جرس الفرصة يدق وهو لا يزال مستمراً في شرح بعض المسائل لكي يدخلها ولو عنوة الى أدمغتنا التي أصاب بعضها الصدأ وكنا حينها في عز الشباب !! وفي مادة الحيوان درسنا الأستاذ شريف فهد وهو أيضاً يساري وكان يتمتع بالهدوء والجدية والإحترام وهومحبوب من جميع الطلبة وفي النبات درسنا الأستاذ الشاب شهيد زيدان الذي كان أصغر الأساتذة وكانت مادته ممتعة لأنه كان يستخدم وسائل الإيضاح والرسومات الملونة وكثيراً مايرسمها بنفسه ولديه القابليةعلى تبسيط المادة التي هي أساساً مشوقة وفي الفيزياء كان عندنا الأستاذ عبود الذي يصطحبنا الى المختبر وكان ذكي جداً ومن العناصر المتدينة وكان محبوباً ويشرح لنا الفيزياء الميكانيكية كما لو أنه مخترعها مما سهل علينا من تفهمها وإستيعابها بسهولة كبيرة وفي مادة اللغة العربية درسني الشاعر خالد صبر وكان شيوعياً رقيقاً وغزير الثقافة فكان درسه شيق جداً ومفيد وجمعتني به دورة حزبية في مقر الناصرية يوم 13 نيسان عام 1975 وكان هو وعدد من طلبة الدورة يتمتعون بثقافة ماركسية عالية تفوق أحياناً ما كان يتمتع به أساتذة الدورة نفسها وهو شاب مهذب وطيب ومحبوب من قبل الطلبة..وهنالك الكثير من الأساتذة الرائعين في مدينة الناصرية والذين أعرفهم ولم يدرسوني بشكل مباشر ومنهم العبقري في مادة الرياضيات المدرس عباس الفخري والأستاذ الرائع كاظم العودة مدرس الفيزياء والأستاذ الشهيد بدري عرب أستاذ الكيمياء والأستاذ حسين رؤوف ومن أساتذة الرياضة الشهيرين والمحبوبين أذكر هنا المرحوم ماجد الجنابي والمرحوم شريف نعاس والمرحوم فاروق محمود الذي درسني لمرحلة واحدة وغيرهم الكثير والذين تركوا بصمات لا تمحى على الرياضة والفن والأدب والعلوم في مدينة يغلب عليها الطابع الفني الأدبي السياسي والتي تعج بالثقافة والمثقفين وخاصة الشعراء والرسامين والمسرحيين وهم بالعشرات ومنهم المخرج المبدع الأستاذ صالح البدري والمخرج المتألق الأستاذ حازم ناجي والفقيد مهدي السماوي ومن الشعراء ما تعجز الألسن عن ذكرهم وكان أغلبهم من المعلمين أو المدرسين الذين رفدوا المدينة بإبداعاتهم التي لا تنضب..الا يستحق كل هؤلاء وغيرهم ممن لم نذكرهم هنا منّا التبجيل والإنحناء أمام قاماتهم الشامخة لكل ما قدموه لمدينة الناصرية الطيبة في عيدهم الأغر وهنا لابد وأن نتذكر بإعتزاز المستخدمين الذين كانوا على الدوام يرافقون الطلبة والمعلمين والمدرسين ومنهم المرحومين موسى وذياب في مدرسة أبو تمام وهوني في المدرسة الشرقية الذي كان رجلاً كبيراً أشيباً وكنا نخاف منه أكثر من المعلمين ولا أدري هل كانت لديه الصلاحية بحيث كان يضربنا في كثير من الأحيان..تحية لكل هؤلاء وأتمنى أن نقوم بتكريم الأحياء منهم ورد الإعتبار لكل ما قدموه لشعبنا العظيم وأرجوا الكتابة عن كل الذين لم أستطع في هذه العجالة أن أكتب عنهم أو أن أتذكرهم وهم كما وضحت هنا بعشرات الألوف..تحية حب ووفاء الى معلمينا ومدرسينا المحترمين ومن الرجال والنساء في عيدهم الأغر إنه عيد المعلم والمعلمة في العراق..الف تحية لكل الذين فقداناهم موتى أو شهداء وباقات زهور حمراء على أضرحتهم الخالدة..إنهم خالدون الى الأبد في نفوس وضمائر تلاميذهم النجباء...



#أمير_أمين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المنحرفون وعروسهم أغرقوا مدن العراق بدماء الأبرياء !
- مارياقو لا تحزن..سيبزغ الفجر..
- ما الذي حدث لأنصارالحزب الشيوعي في قرية سينا اليزيدية !
- ربع قرن على إستشهاد الرفيق أسعد لعيبي
- وأخيراً تحدث السكرتير الأول السابق للحزب الشيوعي العراقي
- لا تغرس مسماراً في الحائط..القي السترة فوق الكرسي !
- مئة عام على تبني النشيد الأممي في كوبنهاكن !
- قصة سليم الذي فقد كل شيء !!
- في ذكرى رحيل فنانة الشعب العراقي المبدعة زينب
- العجلة في إجراء الإنتخابات تولد وليداً مشوهاً !
- رحلة صيد مع إبني الى إحدى البحيرات.... ويا مدلولة شبقة بعمري ...
- نصب الحرية من أهم إنجازات ثورة 14 تموز
- أمي التي رسمت وجهها في مياه الفرات *
- إسبوعان في أراضي كردستان المحررة !
- ثلاثون عام على الحملة والإختفاء ومغادرة الوطن !
- الشيوعيون يعودون الى وطنهم في نفس العام
- كيف ننتشل الطلبة والشبيبة من واقعهم المزري في العراق ؟
- أوبريت جذور الماء في الناصرية
- مسرحية الحواجز..البداية التي لم تكتمل !
- حكاية البقرة والضفدعة في قراءة الصف الثاني إبتدائي !


المزيد.....




- -إسرائيل تنتهك قوانينا.. وإدارة بايدن لديها حسابات-.. مسؤولة ...
- الجيش الإسرائيلي يواصل عملياته في محيط مستشفى الشفاء بغزة لل ...
- موسكو تدمر عددا من الدبابات الأوكرانية وكييف تؤكد صدّ عشرات ...
- مفتي روسيا يمنح وسام الاستحقاق لفتى أنقذ 100 شخص أثناء هجوم ...
- مصر.. السفيرة الأمريكية تثير حفيظة مصريين في الصعيد
- بايدن يسمي دولا عربية -مستعدة للاعتراف بإسرائيل-
- مسؤول تركي يكشف موعد لقاء أردوغان وبايدن
- الجيش الاسرائيلي ينشر فيديو استهدافه -قائد وحدة الصواريخ- في ...
- مشاهد خراب ودمار بمسجد سعد بن أبي وقاص بمخيم جباليا جراء قصف ...
- قتيل بغارة إسرائيلية على جنوب لبنان والمقاومة تقصف شبعا


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أمير أمين - ذكريات عن معلمي الناصرية في عيدهم الأغر