أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - 2- الدرب الطويل/ 18















المزيد.....

2- الدرب الطويل/ 18


محمد علي الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 3253 - 2011 / 1 / 21 - 23:51
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)

ليد القدر
لأقلْ هذا، فلن أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً. أترك الأمر ليد القدر، فليس عجيباً أبداً أن تأتيني ضربة، دون أدنى سبب مني، فقد صرت "حِسَن" أو أخاً لِـ "حِسَن". حِسَن، مثل شعبي ريفي صار يضرب به المثل، إذ أبتلى بجريرة وكل من تسمى باسمه، أو كل من أريد اتهامه قالوا له إنك "حِسَن"!.
أنا الآن في الناصرية، صدر تعييني حيث أردت، ولكن بشفاعة أو كما يعبرون الواسطة "واسطة"! من يستطيع أن يقدم من أجل الحصول على مطلبه "واسطة" لا يمتنع، وان كان الذين لا يضطروا لها، يزدرونها، وبمن يحقق غرضه عن طريقها.
ولكن الأمر عكس ما يعيب العائبون، كل شؤوننا في الحياة، وحتى الممات، متعلقة في الأغلب على الواسطة، فنحن في الصلاة نجعل محمد وآل محمد واسطة للشفاعة والعفو عما أذنبنا. وفي كل الأدعية، نرجو الأولياء أن يكونوا وسطاء شفعاء "يوم لا ينفع مال ولا بنون" ولذا كثرت القبور التي أخذ يعتاش عليها أبناؤهم أو من تقرب إلى الله فأقام عليها قبة وضريحاً.
توجهت قبل انتهاء الدوام، إلى دائرة قائممقام قضاء الناصرية الأستاذ ضياء شكارة "أبو فريد"، والعلاقة بيننا قديمة، وأسرته أيضاً وعلاقتها بالشبيبيين، فكان عند حسن الظن، بل الثقة التامة، ولبى السيد مدير المعارف "السيد إبراهيم حسيب المفتي" طلبه، وعينت في المدرسة الغربية الابتدائية، بكتاب مديرية معارف المنتفك المرقم 4719 في 3/12/1947 حسب كتاب مديرية التعليم الأبتدائي 29727 في 18/11/1947.
أحد زملائي المفصولين ممن سبقني في التعيين، عين في مديرية المعارف في الحسابات، ونجفي آخر من آل الحلو مساح في البلدية، وكلاهما كفؤ كريم.
استقبلني معلمو المدرسة بالترحاب. كانوا شباباً طيبين ذوي لباقة وأريحية، لذلك انبسطت معهم أبادلهم الشعور والثقة بهم وبأخلاقهم. ولا غرابة أن يجد المرء من بين المجموع، من يمكن أن ينسجم معه أكثر. كان مدير المدرسة أكبرهم سناً، لكنه من النمط القديم جداً، في كل شيء عدا لعب البوكر؟!
تعرفت خارج المدرسة على آخرين من محبي الأدب وهواته، فيهم من يشار إليه في هذا البلد بالبنان. وجاملوني بأطيب ما تكون المجاملة، في ولائم في النادي حيث يقضون ساعات من الليل.
لم أكن مطلقاً أفكر بأي احتمال، فقد ألقيت عن عاتقي عبئ كل مسؤولية، وطلقت العمل الحزبي، وخرجت من العهدة، دون أن أكون آثماً بحق أحد، وعلى علم من صديقي "م" والذي ألتزم المسؤولية بعدي! أليس هو رفيق الشباب، وأيام جامع الهندي، وأندية النجف الأدبية. ومنه تعرفت على المجلات التي تعني بالفكر التقدمي!؟
أجل، أنا الذي هديته إلى ميدان الكفاح، وزكيته، بينما لامني أخي "حسين" أشد اللوم. قال لي "لو كنت أعلم قبل ترشيحه لمنعتك، إنه جبان ود...."
مضت أيام قليلة كنت أقيم فيها في فندق، ويمضي الليل –وحسبه تجيبني وحسبه توديني- كما تقول أغنية ريفية. قلق الوساد، لا يغمض جفني إلا في وقت متأخر. وبيدي أعد طعامي، لأضمن صلاحه وفق ذوقي، وأقتصد أيضاً.
حصلت على بيت للإيجار بواسطة معلم صابئي، في محلة يقطنها الأخوة الصابئة. لم يعلن هذا أمام زملائنا. أدركت السبب من طيات كلامه. انه يخشى أن أرفض هذه المنة، فأنا مسلم وسكان المحلة صابئة. شكرته ورحبت بجواره.
كان بيتاً عادياً جداً، سوره وغرفتان منه من الطين. واحدة فقط من الطابوق، وسعتها تغنيني عن الأخريين. صاحب البيت "منهل" الصائغ رجل وقور، ترتسم على وجهه علائم الطيبة، وهو في سن السبعين، ولده "جبار" شاب ذا نخوة وكرم. البيت جزء من مسكنه، ومن هذه الغرفة باب يؤدي إلى مسكنه. ولده الأكبر "جبار" موظف في السكك، يقيم في بيت للسكك في أور وعلمت إنه يساري الاتجاه.
وجلبت أهلي، وحدثتها عن موقع البيت وسكان المحلة. حين سمعت لفظة "صابئة" نفرت! كيف نعيش مع "كفار"!؟ لا غرابة، فلأول مرة في حياتها تنتقل من وسط ديني "النجف" وحدثتها عن الصابئة ... باختصار. إنهم بشر مثلنا، فيهم الطيب والخبيث. لا يختلفون عنا في هذا وعن سوانا! ستتعرفين إلى نسائهم، ستعرفين كم هن طيبات وجميلات. فقط إن لهم ديانة بسيطة أيضاً، ربما حتى هم لا يعرفون عن تأريخها شيئاً، ولا حتى عن نبيهم سوى أقوال، لا يستطيع أحد أن يجزم بصحتها.
ودعانا صاحب البيت "منهل أبو جبار" بعد يوم للعشاء، بكلمات موجزة وجميلة "إنا سنبدو لكم بدون إي فرق في طبائخنا" وتقبلت دعوته شاكراً. وعقب، إن عشاء العيال سيصل إلى البيت.
وحين ذهبت إليهم، أرسلت قرينتي إليهم مما طبخنا. واعتذرت "إنا كنا أعددناه قبل ليلة، ولا يصح أن ندعه للتلف، انه طبخة غير معروفة لديكم "السبزي" طبخة نجفية". وأكلت من زادهم، فأطمأن الشيخ إليّ، وبدا عليه ذلك في حديثه المرح. أما قرينتي فقد وجدت متنفساً حين تخلصت من طعامهم! إنها التقاليد، فلم ألمها.
في أحد الأيام، حين عدت إلى البيت، بهت، فاعتذرت، إذ نسيت أن أجلب معي من السوق ما يلزم للفطور صباح غد. فقالت قرينتي، لقد جاءت أحدى جاراتنا بآنية فيها حليب، ولبن وزبد. قالت إنه من الزميل الأستاذ بدري ..... في اليوم الثاني، شكرت زميلي بدري، على تفضله بما قدم من حليب وزبد ولبن. فدوى ضحك وتعليق، من زميلي، عبد الوهاب البدري وشنون عبيد. قال أحدهم "أشهدوا ابن عاصمة الشيعة، ومركز العلوم الدينية، يشرب حليباً، ويأكل زبداً من صابئي!؟". وشاركهم المدير مستنكراً.
ورغم إن بدري من المرحين، وضعيف الالتزام بتعاليم الصابئة، فقد بدا عليه انفعال. وبلهجة تضارع لهجة زميلي، قلت "إن البقرة التي أهدى إلي زميلي بدري لبنها لا تدين مطلقاً بدين. ولكن قل لي أيها الزميل عبد الوهاب، هل الخمرة التي تعاقرها كل ليلة استوردت من معاصر جعفرية!؟".
ودوى ضحك، وتعليقات زادتهم ضحكاً ..... وصاح أحدهم، لكمة نجفية! وعلق آخر، ما يدريكم إن الخمور ينطبق عليها القاعدة الشرعية "ما يباع في أسواق المسلمين طاهر وحلال!". قال ثالث، أقسم عبد الحسين حواله إنه سمع من جورج "لا يفتض قنينته إلا بعد البسملة!". ودق الجرس فتوجهنا إلى الصفوف نوالي الضحك والتعليق. إن هذا يجلب الارتياح النفسي.
ولست بالغريب عن الناصرية، في نواحيها بعض أرحامنا، زرتهم مرات قبل هذا. وفي سني الاحتلال البريطاني، هاجرنا إليهم، ثم أنتقل بنا أبي إلى سوق الشيوخ، ممثلاً لبعض المجتهدين في النجف. ولي في الناصرية معارف وأصدقاء، بعضهم من أبنائها تعرفت عليهم من سنين خلت، وبعضهم جمعتني بهم ظروف خاصة، وتم بيني وبينهم مودة وثيقة. لكني لا أستريح إلى مائها ومناخها، ويدهشني صمت أبنائها، هم ليسو بالجهلة، ولكن لماذا لا يطالبون بما هو من حقهم؟ خصوصاً وإن من أبنائها من أصبح من رجال الحكم، وزعيم سياسي؟
وفوجئت بأمر مديرية المعارف أن تقوم المدارس "ابتدائيات وثانوية" بتظاهرة احتجاجا على قرار تقسيم فلسطين، هذا القرار المجحف بحق الأمة العربية كلها، هل يكفي معه الاحتجاج؟
باب هجرة اليهود مازال مفتوحاً ومستمراً، وزاد الأمر سوءاً، ما قام به حكام العراق، من تهجير يهود العراق بحجة إنهم يوالون الصهيونية. لكن الهدف الحقيقي أن يصبح اليهود في فلسطين أكثرية. هذا ما فعله الأوربيون، بعد أتفاق بين زعماء الصهاينة وبينهم، وما فعله هتلر لم يخل من هذا الغرض وليدس جواسيسه إلى الشرق والغرب كيهود مطرودين!
ذات يوم قبل أن أسمع بقرار التقسيم، أفقت من نومي عن حلم غريب، السيد أبو الحسن المرجع الديني الكبير، على فراش الموت، حوله عدد من طلابه، وعند رأسه عبد الإله -الوصي على العرش- حزيناً، يعزف على الكمان، ويغني باكياً "دول اللي آلو لك عني آلو لي عنك!".
لست أومن بالأحلام، وأبو الحسن قد توفى 4/11/1946، فما معنى هذا؟ عبد الإله معروف بولائه للإنكليز، لكنه ينافس نوري السعيد، ويحاول أبعاده. أما الإنكليز فإنهم يخادعون كل من يتملقهم. ثقتهم بنوري أكبر من كل شيء. لكنهم لا يفرطون بحق من يريد خدمتهم، إنما يشعلون نار الغيرة، ليتنافس أولئك في أداء الخدمة على الوجه الأكمل.
لست أعلم ماذا يخبئ لي القدر في قابل الأيام؟ ففي هذه الأيام أنا كثير الأحلام! وأحمد ذاكرتي إن لم تهتم بها، ولكن أحياناً أستيقظ كخائف، فأسجل ما تراءى لي.
والليالي من الزمان حبالى والليــالي يلدن كل عجيب!

رسالة إلى الكبائش
صديقي الوفي الحبيب أبا غالب "جواد كاظم شبيل". أعترف أمام نفسي إنك وحدك الصديق الذي اعتبرني موفقاً كل التوفيق للثقة الغالية التي يحملها كل منا لصاحبه. ويمكنني أيضاً أن أقول وبكل صراحة، إن "م" ، لا يعترف أبداً بوجود ما يسمى صداقة.
صحيح إن الصديق بالمعنى المطابق لهذه الكلمة بعمق تام، أندر من كل نادر. كما إن مفهوم الصديق يختلف بين فئة وأخرى من الناس. إلا نفر قد يكون -أو على الأصح- يعتبر شاذاً، إذ تجد أثنين يندمجان في إطار الصداقة، اندماجا يفوق علاقة الأخ بأخيه الشقيق.
التجار مثلاً، معظمهم يدين بهذه الحكمة "من أقرض الصديق، أضاع المال والصديق!" هم إذن يؤثرون المال على الصديق عند الحاجة. وما هذه بحكمة. إنها حكمة السائمات!
هذا الذي لا يسند الصديق عند الحاجة، وهو قادر، ليس بصديق. والذي يزن المال ويقرنه مع الصديق بمقياس الوفاء للدين؟! وهو عاجز، هو أقرب إلى المرابي منه إلى الصديق.
لست سعيداً لأني -كما توهم بعض- استطعت أن أظفر بالتعيين، في مركز اللواء! وكن على ثقة وتقبل ما أنت فيه. إنك بخير على أقل احتمال في هذه الفترة التي تتمخض، ربما بأحداث جسام، والفلسفة السائدة عند -الملائكة الحافظين- تماماً هي ما يعبر عنها المثل "أنتَ حِسَن"، إنهم شرطة الشعبة الخاصة؟ هؤلاء يريدون دائماً أن يثبتوا نشاطاً بأنهم الحرس الواعي، وبيقظة تامة للحكم الذي منحهم ثقته التامة، ليمضي ساسة الحكم في تنفيذ ما يريد الأسياد الحقيقيون. فإذا أشتد الطلق ليلد الحكم وليداً لعموم البلاد العربية أو للعراق وحده، وإذا أقيمت الأفراح استبشارا بالوليد، وثارت نقمة الشعب تشاؤماً من ذلك الوليد، فإنا وكثير من أمثالنا سيكون هدفاً لنشاط "شرطة الشعبة الخاصة" على قاعدة أنت حِسَن؟!
يبدو أن حِسَن شخصية شهيرة، وان لم نعرف حقيقته، كما يعرفها "حسين قسام" الشاعر الشعبي النجفي. فقال عنه قصيدة مطلعها "شهل البلشه يَرَبي حِسَن سموني؟!"
عش عزيزي مطمأناً، حتى على ما وصفت به تلك الحياة التي تحياها في الكبائش. مع تلك المياه التي قد تفصل كوخاً عن كوخ، وفي المدرسة التي أنت فيها كيف يعبر من صف إلى صف قفزاً.
ولقد ضحكت كثيراً فيما رويت عن حادث القروي الذي وجد ميتاً، وهو نائم على فسحة أمام كوخه، حيث دخلت حية من حيات الأهوار بفمه المفتوح، لقد مات من عضتها وفمه مطبق عليها. حقاً لقد أنتقم لنفسه من قاتله. أما الأفاعي البشرية التي تعضنا فإنها تسرح وتمرح بأمان. إنها كثيراً ما تعضنا، عضاً غير مميت ولكنها تشلنا شلاً، وتسبب لنا ولأطفالنا الحرمان والجوع. ولكن عليّ أن أقول الحق أيضاً، لو ظفرنا بها أنتركها على قيد الحياة؟!
أبداً. وحقك، سندوسها بالأقدام وبلا رحمة!
أعدت قراءة رسالتك أكثر من مرة. أضحك تارة، وأتأوه تارة أخرى. أنت لأول مرة تعيش في مثل هذه القرية، التي هي في حساب التقسيمات الإدارية تسمى ناحية. أضحك وأنا أقرأ كيف يساعدكم بعض الشرطة للحصول على بعض المواد المعيشية، بالسعر الزهيد مع جودة في النوعية. وانه مع ذلك يحصل هو على ما يريد من المواد مجاناً؟!
أما أنا ففي بداية تعييني، قضيت ثلاثة سنين في قرى ذقت فيها المر، وأسمع من الشرطة الذين يجاورون المدرسة -في المخفر- يتحدثون عن بطولاتهم ... كيف نقلوا مدير المدرسة "عبد الحميد" ... وكيف حجزوا المعلم "حبيب" ...والى الكثير من أمثال هذه.
ولا عجب. فهم في القرى الحكام ذوو الصلاحيات الواسعة. يخافهم السراكيل، والشيوخ الصغار، أنا أروي لك حكاية سمعتها هنا.
صِدام وقع بين عشيرتين، وتوجه إليهما، المتصرف ومدير الشرطة. جاء واحد من رجال الفريقين يخبر رئيسه. وقال له "يريدوك، أجه المتصرف والمدير". فرفع الشيخ رأسه وقال بضجر "شنهو؟ ولك لو يجي العريف -تبينه- براسه مگوميش!". تأمل كم هو كبير في نظرهم العريف تبينه.
حدثني سيد شمال، العريف في مخفر سوق شعلان، عن رغبته في ترك الوظيفة. إن له ملكاً يمكن أن يعيش منه براحة وسعادة، وينتظر بفارغ الصبر لو تخلص من الوظيفة؟!
دعني أثرثر معك في هذه الرسالة. مدرستي تدعى "الغربية الابتدائية" هي في الواقع دار، ولا تصلح أن تكون مدرسة، غرفها غير لائقة من حيث سعتها، وتهويتها، ومنظر جدرانها الكالح. وساحتها لا تصلح للعدد الوافر من الأطفال باللعب والمرح أثناء الفرص.
مديرها قد تجاوز مرحلة الكهولة. علوي يتبجح كثيراً بالنسب. خالي الوطاب، من أية معلومات اجتماعية. وقد علمت من زملائي المعلمين، انه مقامر مدمن، ولذلك هو لا يملك غير راتب الوظيفة والسبب لأنه مقامر! أما المعلمون فهم نماذج مختلفة، المدير وواحد فقط لا يعاقرون الخمرة، الباقون منهم من لا يفهم شاغلا غيرها، وغير الأنثى موقتاً!.
وبين طلابي في السادس طالب من الشطرة، طويل القامة، صارم الملامح، يدل مظهره على أنه بائس، يتجه بكل اهتمامه إلى المعلم. ورأيته يوم جمعة يدفع عربة، تحوي بضاعة قليلة وعادية. استوقفته أستفسر منه مع عبارات تشجيع، فأطلق آهة حادة. وبعد أن ألمح إليّ أنه يحس إني "يعنيني" ذا شعور إنساني، تفصح عنه كلماته، شرح لي مأساته. أبوه وجيه على درجة عالية من الثراء، استغنى عن أمه وطرده معها، لذا هو يكتسب قدر الإمكان ليدبر أمر دراسته.
حملت هذا الطالب شطراً مهماً من مواضيع النشرة وأبوابها. ولي في الصف الثالث حصة "الدين" ألقيت أول مرة نظرتي على الطلبة، وأسأل من بعضهم عن أسمه وأسم أبيه ومهنته. كان أحدهم يشارك أبني على رحلة واحدة، كم كانت دهشتي عظيمة، حين وجدت انه سمي أبني "كفاح". وكانت دهشتي أكبر، حين عرفت أباه "محسن القصاب"، الذي حدث لي معه قبل سنين خلت تعارف وحديث وفراق! محسن القصاب، عصامي في نشأته، معتد بنفسه، توفى قبل الأوان وترك ولدين أحدهما كفاح. كان محسن أديباً له طموح عال مع غرور أيضاً. وكنت قدرت انه لابد أن يكون له مستقبل وتتحول أفكاره مادام له ارتباط بالصحافة والكتاب، ولكن الموت أختطفه في عز الشباب.
تعرفت عليه "محسن" عن طريق مـرتضى، كان فتى تدل ملامحه على صرامة وطموح للصعود إلى قمم المجد كوطني وقومي في مضمار السياسة. وعلمت من ابنه هذا انه قد توفى منذ سنين خلت عن أثنين من البنين أو ثلاث "كفاح ونضال و ..." هكذا اسماهما تعبيراً عن نهجه في الحياة.
في مقهى البرلمان وفي يوم العيد، الراديو يذيع أغاني بالمناسبة "العيد في بغداد من أجمل الأعياد!"
قطع"محسن" حديثه معي قائلاً "الله ما أروع ما تقول! أتسمع!؟".
أجبته بجفاف، أتقول هذا أنت؟!
- ألا يعجبك الصوت واللحن؟ إنها عن العيد. أنظر. الناس تغمرهم بهجة. الأغنية تعبر عن هذا. ألا تحب مشاركة الناس أفراحهم!؟
إلى جوارنا ريفي من العمارة، كان كهلاً. سألته، ما تقول يا عم؟. أجاب مع آهة أسى، عيدت كلها الناس وانه بسوادي!
لا ياعم. موكلهه الناس؟! أمثالك كثير. والى هذا الصديق، أسمعت "عيدت كله الناس؟" ولاح كناس بملابسه الرثة -بيوم العيد- يجرف بمكنسته روث خيول العربات كيلا تشوه منظر شارع الرشيد، واليوم عيد؟!
فقلت بين الجد والدعابة، وهذا؟ مشيراً إلى الكناس. أليس من حقه يتمتع ببهجة العيد؟. فكان رده بهياج وانفعال، ماذا تريد؟ كل الناس سادة، كلهم مترفين، من يكنس الشوارع إذن؟! من ينقل الأزبال؟ من ... من؟ وختم أنفعاله، يبدو لي إنك من ذوي الأفكار المستوردة؟ سوف لن ترى إلا ما يشقيك!
كانت آخر جلسة. وأنا ذا اكرع من كؤوس الشقاء. ولكني أفهم إني واحد من ملايين في بلادي تكرع كؤوس الشقاء. وعلينا أن نواصل المسير في توعية الذين يبنون الحياة بسواعدهم.
لسنا يا أخي باعة فنطالب أن نحصل عن كل خطوة في طريق الجهاد أجراً. نحن معلمون. هذا قدرنا، فلا غرابة أن نُعَذَب ونعيش محرومين، في قرى نائية لا تتوفر لنا فيها أبسط ظروف الراحة والعيش.
ولأختم رسالتي فأضحك إن شئت، فنحن كذلك، السمك عندنا وفير، والخضيري أيضاً حيث يعادل سعره 15 مرة سعر باقة الفجل، أما الزهور فنادرة!

يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي



#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 2- الدرب الطويل/ 17
- 2- الدرب الطويل/ 16
- 2- الدرب الطويل/ 15
- 2- الدرب الطويل/ 14
- 2- الدرب الطويل/ 13
- نداء إلى السيد أسامة عبد العزيز النجيفي رئيس مجلس النواب الع ...
- 2- الدرب الطويل/ 12
- أخلاق المسيحيين وأخلاق الطائفيين!؟
- 2- الدرب الطويل/ 11
- 2- الدرب الطويل/ 10
- 2- الدرب الطويل/ 9
- ليس هكذا يا مجلس الوزراء يتم القضاء على الفساد
- 2- الدرب الطويل/ 8
- 2- الدرب الطويل/ 7
- 2- الدرب الطويل/ 6
- 2- الدرب الطويل/ 5
- 2- الدرب الطويل/ 4
- 2- الدرب الطويل/ 3
- 2- الدرب الطويل/ 2
- 2- الدرب الطويل/ 1


المزيد.....




- عداء قتل أسدًا جبليًا حاول افتراسه أثناء ركضه وحيدًا.. شاهد ...
- بلينكن لـCNN: أمريكا لاحظت أدلة على محاولة الصين -التأثير وا ...
- مراسلنا: طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي ...
- بدء الجولة الثانية من الانتخابات الهندية وتوقعات بفوز حزب به ...
- السفن التجارية تبدأ بالعبور عبر قناة مؤقتة بعد انهيار جسر با ...
- تركيا - السجن المؤبد لسيدة سورية أدينت بالضلوع في تفجير بإسط ...
- اشتباك بين قوات أميركية وزورق وطائرة مسيرة في منطقة يسيطر عل ...
- الرئيس الصيني يأمل في إزالة الخصومة مع الولايات المتحدة
- عاجل | هيئة البث الإسرائيلية: إصابة إسرائيلية في عملية طعن ب ...
- بوركينا فاسو: تعليق البث الإذاعي لبي.بي.سي بعد تناولها تقرير ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - 2- الدرب الطويل/ 18