أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - 2- الدرب الطويل/ 8















المزيد.....

2- الدرب الطويل/ 8


محمد علي الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 3208 - 2010 / 12 / 7 - 17:27
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)
أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي/ 1
حين آويت إلى فراشي ليلاً، لم يواتني النوم. كل من في البيت غرقوا بنوم عميق. أطفالي الأربعة وأمهم كانوا بعد العشاء في لهو ولعب، معي طوراً، ومع بعضهم الآخر طوراً. وتجاذبت أنا وأمهم أحاديث متشعبة، دار بعضها عن هذا الزمن الذي نعيشه. لا نحن ولا غيرنا يعلم ماذا سنكون عليه في قابل الأيام.
كل شيء لم يعد متيسراً -كما تصورنا- حين انتهت الحرب. الأسعار لم تهبط، ربما سترتفع أكثر فأكثر. الدول المصدرة، كانت خلال الحرب تنتج للحرب. هل تحولت ألان مصانعها للسلع السلمية والاستهلاكية؟ لست أعلم شيئاً عن هذا. ولكني أعرف إن رواتبنا "نحن الموظفين الصغار" لا تحتمل ارتفاع الأسعار الفاحش.
العالم كله مازال يلعق جراحه. الدول الكبرى لابد إنها هي الأخرى ستتبارى بتحصين نفسها بكل ما يجعلها متفوقة، أو على الأقل قادرة على صد العدوان.
هذه الحرب لا تشبه الحرب العالمية الأولى. في الأولى اقتسمت الدول الكبرى الغنائم. تقاسمت بريطانية وفرنسا ما كان تحت سلطة العثمانيين، من مستعمرات، وامتيازات. وكانت تلك الشعوب قد حسبت إنها ستتخلص من يد الرجل المريض، فإذا بها كالمستجير من الرمضاء بالنار.
صحيح إن بريطانيا التي كانت -العظمى- أصبحت اليوم في الدرجة الثالثة، ولكن برز في العالم مستعمر جديد. نهم أشد النهم، هو أمريكة! هي ليست أمريكة أبراهام لنكولن ولا أمريكة ولسن بل حتى ولا أمريكة روزفلت. أبراهام لنكولن (1909 -1865) صاحب تعريف الديمقراطية المشهور "إنها حكم الشعب، من الشعب وللشعب" عمل من أجل إلغاء الرق فقتله أحد المتعصبين للنخاسة. والرئيس ولسن (1856-1924) صاحب المبادئ الأربعة عشر لحل مشكلة الأمم وقد دعا لإلغاء الاستعمار وإبداله بالانتداب، وكان رئيساً للولايات المتحدة.
سيكون كل شيء، كل دولة صغيرة، أو كبيرة مثل فرنسا وبريطانيا تخشى أذرعها الأخطبوطية، ولكن سوف لن يقع بينهن خلاف، لأن الخوف من الدب الأحمر يضطرهن للتآخي. وهي ذات الوقت الدولة الوحيدة التي لم يصبها جراء الحرب ضرر اقتصادي. ومع هذا فان هذه الحرب لا تشبه تلك.
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ولدت أو دولة اشتراكية. وبذلت الدول المنتصرة كل ما بوسعها لتدفنها قبل أن تشب ويشتد ساعدها. فباءت مساعيها بالفشل. واليوم ومن خلال الانتصار على النازية، ولد على الكرة الأرضية أكثر من عشر دول اشتراكية. وتفكر أمريكة بجد أن تعيد الخيول إلى الإسطبل حسب تعبيرها. وأكثر ما يشغل بالها، أن تحول دون تسرب العدوى إلى بقية شعوب العالم. إنها توجه نشاطها لتحبس الأجنة في قماقم تحكم غلقها، في كل من فرنسا وايطاليا وتمسك بأعنّة إيران ، جارة أهم عفريت!؟ لكن الشعوب تعرفت على مكر الاستعمار وأحابيله، أذن سيطول الصراع. في فرنسا خلال الحرب نظم الحزب الشيوعي الفرنسي المقاومة السرية فأكتسب خبرة عملية وقوة وكثر عدده، وشارك في الحكم بعد تحرير فرنسا. وفي ايطاليا ألقى عمال ميلانو القبض على موسليني وأعدموه فتعاظم الحزب الشيوعي بأعضائه ومؤيديه. واعتبرت أمريكة إيران صمام الأمان إن هي كسبتها. كما خططت لتضعف الحزب الشيوعي في كل من فرنسا وايطاليا، طبعاً بمساعدة حكوماتهما.
أواه ما هذا أود أن أغفو، فأنا هذه الأيام متعب كثيراً.
أغمضت عيني. أجل. لكن تفكيري مازال يقظاً، يشرق ويغرب. بحلقت عيني في سقف الغرفة لأتعب أجفاني، ودون إرادتي عاودتني أفكار شتى. قلت لنفسي، ألا يمكن المرء أن يظل طفلاً، أو أن يعود إلى الطفولة؟
وسرح خيالي من هنا يستعرض ذكريات الطفولة. آه ما أعذب أيام الطفولة. شوقي يقول:
خليّون من تبعات الحياة على الأم يلقونها والأب
ولكنه أيضاً يقول: مقاعدهم من جناح الزمان وما علموا خطر المركب
حين عاد بنا أبي من سوق الشيوخ بسفينة شراعية، كان الفرح يغمرني لأني سأعود إلى المدينة التي ولدت فيها، رغم إني لا أعرف عنها شيئا. ولدت في تموز عام 1913 بمصادفة شهر شعبان في منتصفه. وغادر أبي النجف أواسط عام 1917، وها نحن نعود إليها قبل ثورة العشرين. وفي هذا العام 1917 ولد أخي الشهيد حسين في قرية تدعى "كوت آل حواس" تقع بين الناصرية وسوق الشيوخ. وهكذا أقامة والدي في قرية الكوت بين أقاربه.
وجاءت وفود من أهالي سوق الشيوخ تطالب الشيخ بالإقامة عندهم، كرجل دين وخطيب منبر، فلبى دعوتهم، وأنتقل بأهله إلى هناك، حيث يحتل سوق الشيوخ جنود الانكليز من السيخ ويحكمها الكابتن "دكسن" أبو رويشات كما يسمونه، وقد زج برؤساء العشائر في السجون. وألبسهم الثياب الملونة، وأجبرهم على كنس الشوارع إهانة لهم وإذلالاً!.
وأعتلى الشيخ المنبر يندد بسياسة المحتلين المستعمرين، ودكسن يحضر المجالس، ويسمع كيف يثير شعور المواطنين بالكرامة ويحرضهم على التحرر من نير المستعمر الأجنبي. حاول دكسن أول الأمر أن يغريه بالمال، فدفع له بواسطة زعيم سوق الشيوخ - آنذاك- الحاج علي الدبوس، مبلغا من المال قائلا: "هذا لفقراء البلد فليوزعه الشيخ حسب معرفته وعلمه ......!؟".
فأعلن الشيخ من على المنبر: "يا أهالي سوق الشيوخ، هذا مال أرسله دكسن ليوزع عليكم، وأنتم تعلمون أن دكسن من أمة ليست على دينكم ولا من قومكم، أحتلو بلادكم، وأستذلوا رجالكم وها أنا أرد المال إلى الحاج علي الدبوس الذي يريد أن يكون سمسارا بيني وبين من يريد أن يشتري ديني ومروءتي!". ورمى بالرزم المالية إلى الحاج علي الذي كان حاضرا المجلس.
تجددت الحرب بين دكسن وأشياعه من الأذناب والعملاء وبين الشيخ الخطيب. وضاق صدر دكسن فأصر على اعتقاله. ولكن الشيخ علي الدبوس كفاه شر القتال، فاحتال للأمر، وناقش الشيخ وهو في ديوانه بكلمات أثارت حميته وكرامته ، حيث قال: "الله يا شيخ محمد شطول لسانك!؟ هذا وأنت غريب!". فما كان من الشيخ محمد إلا أن يرمي الحاج علي -ودون ترو- بنعله وهو يصيح: "أنا غريب أيها الحقير، هذا بلدي ولكنكم جبناء أذلاء". ونادى تلميذه إذ ذاك -حسين غازي- ليكتري السفينة اللازمة فهو لن يقيم بأرض يعتبر فيها غريبا.
هكذا دُبرت هذه المكيدة لإخراج أبي من السوق. فقد كان منبره عبئاً ثقيلاً على ذلك الحاكم. حيث ذهبت محاولاته هباءً لإغرائه بالمال. وانطلت الحيلة على أبي، وعدنا بسلام.
* * * *
السفر في سفينة نهرية مبهج لمشاعر الصغار. الملاحون وهم يجرون السفينة، لم أقدر مدى ما يتحملون من مشقة. لكني كنت اسرُّ لرؤيتهم. وهم يتحلقون عند الاستراحة، أو حين يتوزعون لتهيأة طعامهم. يعجن بعضهم الطحين، ويهيئ آخر التنور ويخبز، ويهيئ ثالث الادام الذي طالما كان سمكاً مشوياً.
أول الأمر كنت أتعجب أيجيد الرجل الخَبزَ كالمرأة؟! كنت أعتقد أن ذلك خاص بالمرأة. أليست أمي هي التي كانت تخبز لنا؟ الرحلة مسرة. ولكني لم أتخلص من الدرس!
حين أصبحت في سن دراسة، أودعوني لدى امرأة "ملّة". أهالي الجنوب يطلقون كلمة "مله" على معلم أو معلمة الأطفال وكذلك على المنبريين. ثم أدخلت مدرسة ابتدائية اعتقد أنها أول مدرسة في سوق الشيوخ تم فتحها من قبل سلطة الاحتلال. حين نقلت إلى الناصرية نهاية عام 1947 حاولت أن أعرف عنها شيئاً من سجلاتها، فقيل لي: إن انتفاضات العشائر لم تدع أثراً من ذلك!.
كنت أشعر بالدلال، فأنا ابن مرجع ديني ينوب عن مرجع ديني أعلى في النجف، مضافاً إلى هذا كونه منبري من الطراز العالي. كل ذلك يشعرني بالزهو.
مرَ يوم واحد على المسير، كنت قضيت نهاره باللعب والمشاكسة مع أختي وأخي. وفوجئت ضحى اليوم الثاني باقتراح أبي.
- ماذا تقول لو تتابع دراستك؟ سأعطيك عن كل درس "قران" إذا وعيته وأتقنت تلاوته. والقران عملة هندية، هي جزء من "الروبية" التي هي 4 قرانات. والقران 4 آنات، والآنة 4 بيسات. رضيت، وفكرت، إلى أن نصل الكوفة سيكون عندي مبلغ محترم. كانت البداية كما أتذكر سورة العصر. يقرأ أبي السورة، وأردد ما يقرأ. وجد إني أجيد التلقي. فبعد أيام استطعت أن أقرأ لوحدي، فيعطيني المقرر، عما أقرأ من سور أكثر من ثلاثة. ولكنه خفض المكافأة، إلى نصف قران عن كل سورة، مع هذا ظل الأمر يغريني.
حين وصلنا مدينة "السماوة" كان لدي مبلغ لا يستهان به. فقد أكملت قراءة أكثر من ستين سورة. وعندما رست السفينة، سارعت إلى السوق مع أختي وهي تكبرني بست سنوات. فاشتريت حلوى وليمون حلو. وبعد سويعات وجيزة أصابتني قشعريرة ورعدة، فلزمت الفراش بين برد ثم حمّى ثم يتصبب جسمي عرقاً.
وقبيل وصولنا الكوفة عاودتني صحتي. ربما بسبب ما غمرني من فرح طاغ بقرب الوصول إلى المدينة التي كنت أسمع من أهلي عنها وهم يتلهفون للعودة إليها. والى البيت الذي قُرّت به عينا أبي بأول مولد ذكر سماه "علي" وقد سبقه إلى الوجود أربع بنات. وليس الذكر كالأنثى؟!
يوم غادرنا النجف إلى قرية "الكوت" ركبنا الحمير إلى أبي صخير، ومن ثم بالسفينة. كانت النجف إذ ذاك محتلة من الإنكليز. وكان سبب هجرتنا إن الإنكليز كانوا يضيقون على النجفيين خصوصاً في أمر الماء، حيث كان ينقل من مسافة بعيدة بالقِرَبِ. فكانوا لا يسمحون بهذا مما أضطر أكثر الناس أن يشربوا من ماء البئر إن كانت لديهم بئر، عمق البئر في النجف أربعون متراً، وماء الآبار ليس عذباً. لكنه صافٍ جداً وشديد البرودة. هناك في الكوت يقيم عم أبي وابن عمه، الشيخ عبد الرضا أحد أشقاء الشيخ جواد الشبيبي، وأبن عمه كاظم "خالي" ابن الشيخ عبود أخو الشيخ جواد أيضاً.
في الكوفة دهشت لمرآى العربات الخشبية التي تجرها الخيول، وعجلاتها الحديدية التي تنزلق فوق سكة حديدية. ترامواي النجف أسس عام 1907 والامتياز لعبد الرحمن الباججي وشركاؤه أهمهم محس شلاش. كنت أود أن لا نصل بسرعة فمنظر الصحراء الواسعة بين الكوفة والنجف سيطر على مشاعري.
صرت أوجه الأسئلة عن كل ما نصادفه في الطريق. مسجد الكوفة، وقبله مجاورة له عن قرب بناية ذات قبة عادية ومظهر بائس، ثم بنايتان أخريان خلف المسجد. إحداهما يقال لها بيت الإمام علي. والأخرى مدفن ميثم التمام "صاحب الأمام".
لم تطل المدة فبعد أقل من ساعة وصلنا النجف. أحسست لأول وهلة وكأني غريب دخل إلى بلد غريب! لماذا يا إلاهي؟ كنت أتلفت مبهوراً لمنظر السور المحيط بالبلدة، وبابه الكبير العالية. واتجه بنا مرافقنا إلى بيتهم حيث سنبقى عندهم حتى الغد، من أجل أن يتم تنظيم الأثاث في الغرف.
بعد ثلاثة أيام، حين أستقر بنا المقام في بيتنا، أخذني أبي مبكراً، لم أسأله عن هذا، واجتزنا مفترق أربعة طرق إلى منتهى الشارع، فمال قليلاً إلى اليسار، ثم يميناً وقف عند باب مسجد. لقد سمعت أصوات الأطفال وضجيجهم قبل أن أراهم.
هنا كتّاب في ساحة المسجد. ثلاثة صفوف متراصة يشكلون مربعاً مع الجهة التي يجلس فيها المعلم. صبية صغار في سن السادسة، وكبار تتراوح أعمارهم بين العاشرة أو أكثر قليلاً. إذن سأكون معهم منذ اليوم لأكمل قراءة القرآن، وأتعلم الخط.
كان هذا المعلم -رحمه الله- ذا وجه مكسو بالشعر وقد ضايق العينين الحولاوين. كان جهوري الصوت، سليط اللسان، أمامه صندوق خشبي عليه عصا خيزران. وعلى الجدار خلفه ما كان أسمها "الفلقة" وقد أعتاد الناس أن يقولوا له حين يأتون إليه بأولادهم "لك اللحم والنه العظام" يريدون بذلك إن له الحق بتأديبهم حتى لو أدى الأمر إلى أن يصبح أبنهم عظماً خالياً من اللحم بسبب العقوبة من أجل التأديب. إنها مبالغة وكلام، مجرد كلام؟! أبي لم يقل له هذا، لقد أوصاه بي خيراً. وبعد حديث بدا ودياً بينهما تركني هناك، وفي اليوم الثاني جهزني بصندوق خشبي، بداخله المحبرة، ذات الحبر الأسود، وصفيحة للخط، والقرآن الكريم.
قال شيخي: "أحتفظ بها الآن يجب أن تتعلم القرآن فقط".
أجبت: "أني وصلت فيه إلى سورة حم -الدخان-. فاستدعاني إليه وأمرني بالجلوس لأقرأ، وبدا على وجهه انه سُرَّ مني. ومع ذلك أستدعى أحد الطلبة الكبار، أن يستمع عني كل يوم بعضاً من السورة التي بعدها.
أعلنت بصوت مفتخر: "شيخي أنا أعرف اقرأ من تلقاء نفسي كل السور". لكنه صاح بي "اسكت!". فصمت وقد تملكني الخوف منه.

* * * *
رحت أستعرض في الخيال يوم أنهيت تلاوة القرآن في مدة وجيزة، رغم معارضة الشيخ، ويوم باشرت بتعلم الخط، فكان أول سطر خطه لي لأتمرن على الخط، بيت من قصيدة في الإمام علي:
بقبرك لِذنا والقبور كثيرة ولكن من يحمي الجوار قليل
بعد أن كتبت سطراً واحداً تحت السطر الذي كتبه. نظر فيه ثم هتف هتاف معجب "إذهب إلى أبيك وأجلب الشريني!". و "الشريني" كلمة فارسية، وشيرين تعني "الحلو"، فقد كانوا يهبون للكتّاب هدية من السكر كلما قطع أبنهم مرحلة في التعليم.
وطرت مزهواً من الفرح. قدمت الصفيحة لأبي. كان عنده أحد أصدقائه لم يبد رأيه بكلمة لكنه صار ينظر إلى الخط والى يدي التي شمرت عنها الردن.
ولما عدت حاملاً السكر والشاي للشيخ. كان اسم الشيخ جويدة، وأعتقد إن الناس حرفوا الاسم من جواد إلى جويدة. ويدعي حسب لقبه "أبو نواص" أن نسبه ينتهي إلى أبي نؤاس!؟. أحسست بألم في يدي ثم بعد ساعة بدا فيها مثل نقطة خضراء. في اليوم الثاني تطور أمرها، فكانت خراجاً عاقني عن الدوام شهراً كاملاً. أما أمي فكانت عند كل مساء ترفع يديها للدعاء لي وعلى الشيخ الحاسد أن ينتقم لها منه، هكذا كانت تعتقد.
وعدت أتابع التعلم. كنت أرتجف كلما نادى "فلقة"؟ وكنت أبذل جهدي أن لا أخطئ واقترف ما يوجب العقوبة. ولم يكن في حسابي أن جفاف المحبرة، يكون ذنباً أستحق عليه العقوبة. حين أحسّ بي أكلم زميلي أن يعيرني محبرته ناداني، وبأسرع ما يكون انهال عليّ بالعصا لا أعرف كم مرة كانت تقرع أخمص قدمي وأطلقني فإذا بي اعجز عن القيام من شدة الألم.
وحين انصرفنا عند الظهر وعلم بالأمر جدي منعني من العودة إليه. جدي هو الشيخ حميد وكان ينادى "حُميّد" بالتصغير، وهو أكبر سناً من أخيه عبد الرضا. كان قد كف بصره عند الكبر، وقد كتبت وفاء لحبه كراس "حكايات عن جدي" بعضها هو الذي رواها لي والباقي منقولة من شيوخ أمثاله. وفي صباح اليوم الثاني أخذت بيده أقوده إلى المسجد. فإذا به ينهال عليه بالإهانات: "أحول، شمر، وحش، تفو ...." وصاح بي: "أحمل صندوقك". وخرجت يغمرني فرح عظيم.
كان شيخنا ذاك يأمرنا أن يحضر كل خمسة منا مقداراً من الحطب –أيام الشتاء- لنستدفئ، لكنه يعزل أحسنه فيحمله بعض زملائنا إلى بيت الشيخ. ويترك القليل لنا. لقد شاركت في هذه الضريبة. لكني سلمت من الضريبة الشاقة. ملء حوض البيت من البئر كان فرضا ثقيلا. كل أسبوع يقوم ستة طلبة يتراوحون على أداء هذه المهمة!
بعد بضعة أيام ألحقني أبي بالمدرسة الرسمية الوحيدة آنذاك، وعلى إني أجيد القراءة والكتابة وعملية الجمع والطرح، فقد قبلت في الصف الأول. وكان الذهاب إليها شاقاً عليّ.
ثم أغلقت واسترحت. ما السبب؟ لا أعرف. وفي ضحى يوم من الأيام لحظت في شارعنا تتابع الرجال مسارعين، شاكي السلاح، ودون أرادة وجدتني أمشي خلفهم. وفي الصحن الحيدري الذي كان مكتظاً بالناس، سمعت منادياً يهتف. لم أفهم من كلامه غير كلمة "جهاد" واخترقت صفوف الرجال فرأيت شيخاً ذا مهابة بجانبه معمم يحمل راية والمنادي أمامه.
ما الجهاد؟ من ذاك الرجل؟ لست أعلم شيئاً إذ ذاك. علمت بعد هذا انه المرجع الديني المعروف بـ "شيخ الشريعة" الذي خلف الشيخ محمد تقي الشيرازي بعد وفاته في الزعامة الدينية، ودفع الناس للجهاد في ثورة العشرين. ثم لم أشعر إلا وأنا خارج سور المدينة، والرجال المسلحون يهزجون بالهوسات جهة سكة الترامواي. وشعرت بالحيرة، فانا لا أدري كيف أعود؟ وماذا سأعتذر عن هذا التصرف أمام أبي؟

يتبــــــــــع
ألناشر
محمد علي الشبيبي



#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 2- الدرب الطويل/ 7
- 2- الدرب الطويل/ 6
- 2- الدرب الطويل/ 5
- 2- الدرب الطويل/ 4
- 2- الدرب الطويل/ 3
- 2- الدرب الطويل/ 2
- 2- الدرب الطويل/ 1
- خطأ في موقعي الشخصي
- 1- معلم في القرية/ 22
- 1-معلم في القرية/ 21
- 1- معلم في القرية/ 20
- 1- معلم في القرية/ 19
- الحوار المتمدن تميز وتطور مستمر
- معلم في القرية/ 18
- 1- معلم في القرية/ 15
- معلم في القرية/ 17
- 1- معلم في القرية/ 16
- استفسار واتهام حول القطع الأثرية
- معلم في القرية/ 14
- معلم في القرية/ 13


المزيد.....




- بيان من -حماس-عن -سبب- عدم التوصل لاتفاق بشأن وقف إطلاق النا ...
- واشنطن تصدر تقريرا حول انتهاك إسرائيل استخدام أسلحة أمريكية ...
- مصر تحذر: الجرائم في غزة ستخلق جيلا عربيا غاضبا وإسرائيل تري ...
- الخارجية الروسية: القوات الأوكرانية تستخدم الأسلحة البريطاني ...
- حديث إسرائيلي عن استمرار عملية رفح لشهرين وفرنسا تطالب بوقفه ...
- ردود الفعل على قرار بايدن وقف تسليح
- بعد اكتشاف مقابر جماعية.. مجلس الأمن يطالب بتحقيق -مستقل- و- ...
- الإمارات ترد على تصريح نتنياهو عن المشاركة في إدارة مدنية لغ ...
- حركة -لبيك باكستان- تقود مظاهرات حاشدة في كراتشي دعماً لغزة ...
- أنقرة: قيودنا على إسرائيل سارية


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - 2- الدرب الطويل/ 8