أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - 1- معلم في القرية/ 20















المزيد.....


1- معلم في القرية/ 20


محمد علي الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 3165 - 2010 / 10 / 25 - 22:59
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)
تأملات في خضم الحياة
بيتي القريب إلى شارع النهر، يحفزني دائماً، عصر كل يوم في أوقات الفراغ، أن آخذ مكاني على إحدى الأرائك المحاذية تماماً لحاجز الرصيف من جهة النهر. الماء يجري في ساقية أو نهر، يملك مشاعري، فلا أبرحه حتى أتملى من منظره ما سمح لي الوقت. وأهيم هياماً يصاحبه زهو الأشجار والنخيل.
صديقي –أبو عزيز- قال في قصيدة عن منظر نهر الفرات والنخيل على جانبيه:
وصف النخيل على جانبيه عرائس تستقبل الناظرين
وأنا أيضا لم يفتني أن أتغنى بالنهر والنخيل والأشجار والقمر [في مجموعتي الشعرية قصيدة عن هذا بعنوان "على ضوء القمر" من أبياتها:
ويروقني الليل الحنون وبالسكون قد ائتزر
ويروقني البدر المنيـر بزوغه بين الشجـر
كصبية بين الجمــوع بدت لتسترق النظر
فإذا علا هبط الميـــاه وصار يسبح بالنهر]
ولكني في هذه اللحظات في واد آخر بعد ما تأملت النهر وعرائس النخيل على الجانب المقابل، تلاعب الريح ذوائبها الخضراء، أحياناً تشد معها فيميس قدها، وكأن الرأس المكلل بالسعف الأخضر رأس غانية في رقصة بارعة تحرك رأسها فينتشر شعرها كمظلة جميلة. وتهدأ الريح أحياناً فتبدو النخيلات كمحزونة في صمتها العميق تعبر عن حزنها بهزة الرأس المثقل بالهموم والأفكار.
الماء أمامي يواصل المسير، منذ كم هو كذلك؟ ترى أيحفظ ماجريات العمر الذي قطعه خلال هذا المسير؟ أله صلة بالذي قطع هذا الدرب قبله، أيعلم عن النهاية شيئاً؟
إني أهذي هذياناً صامتاً. هذا الماء، أو هذا النهر –كما نسميه- له شبه من بعض الجوانب بنا نحن بني الإنسان. أن يواصل السير ثم يندمج بما هو أوسع منه وأعمق. وتضيع صفاته التي كان يحملها عند استقلاليته. نحن نَشبَهه نوعا ما. مجبرون على هذا المسير، لا خيار لنا. نواصل المسير حتى نلفظ الأنفاس الأخيرة، فَنُدفع عن ظهر الأرض إلى باطنها، نلتحق بمن سبق، ثم لا تلبث تلك الأجساد التي كانت تزين الحياة وتتمتع بزينتها، لا تلبث أن تستحيل إلى تراب مع سائر التراب، تماماً كما أندمج الماء بالماء. لولا إنا نختلف عن هذا بشيء واحد. هو إنا كانت لنا عقول أبدعت وأنجزت، وتمكنت أن تسيطر على كل ما في هذه الحياة، من حي وجماد، وإنا سطرنا كل إبداعاتنا وإنجازاتنا في طيات الكتب لمن بعدنا يزيد عليها شيئاً من فكره وتدبيره.
وفي أعماق هذه الأنهر والبحار، تتصارع الأحياء صغيرها وكبيرها ضعيفها وقويها، يأكل بعضها بعضاً، وحتى الجنس الواحد بين ذكوره وإناثه صراع خفي يفنيه بالنهاية موتاً، بسبب ما استهلكه من قواه في الجهد والكد والشهوة والإنسال، كما يقول أبو العلاء المعري:
واشرف من ترى في الأرض طرا يعيش الدهر عبدَ فم وفرج
نحن أشد شراسة من تلك أضعافاً مضاعفة. أكاد أجزم إنه لا تمر دقيقة بل لحظة من الزمن في كل بقاع العالم، لا يهرق فيها دم، وتزهق روح، وتهلك نفس، لا يردنا عن كل ذلك رادّ في وعظ واعظ وإرشاد مرشد، وتحليل خبير، وردع نذير.
بروق الشر تلمع في أجواء الدنيا، وهزيم رعودها يصم المسامع، ولاشك ولا ريب إن وسائل الدمار وقد تطورت، قادرة على أن تدمر في يوم واحد أضعاف ما كانت تدمره أدوات الحروب القديمة. وتفني من الناس أضعاف ما فقدته في كل ما مر من حروبها السابقة.
هنا، في كل بقاع الدنيا صفوة من الناس، يرفضون أن يكون الإنسان قريباً من الوحش في طباعه، من أجل السطوة والتحكم، ويقفون بصلابة من أجل إنسانية الإنسان، ولكنهم ينتهون أيضاً دون أن يصلوا إلى الغاية، أو يحققوا المقصد. فكأن الحياة بُنيَ أساسها على الفناء ["كل من عليها فإن" سورة الرحمن آية 26. غير أن المعروف عند المفسرين إن الفناء عام لكل مخلوق وليس للأفراد كما هي الحال. وإنه يكون على الجميع مرة واحدة وفي لحظة واحدة!] هم يقولون: إن الإنسانية لا تموت، وكما عمل من أجل الإنسانية من سبق، يجب أن نعمل نحن لمن هم بعدنا.
لست أدري بالصواب تماما. فأنا أعرف وشبه متأكد إن البشرية اجتازت عقبات صعبة. كانت الرياح ، وكوارث الطوفانات، والحيوانات الضارية، وعتو الطبيعة في حرها وبردها، كل هذه تهدد حياة الإنسانية. في حين لم تكن تعرف من ملاجئ غير الكهوف والمغاور، ولم تبتكر لدفع غائلة الجوع غير ما هو مهيأ حاضر، من فاكهة وأعشاب. ولكنها اجتازت كل الصعوبات، وتغلبت، واستفادت من تجاربها في عمرها الطويل، فحصنت نفسها، وتمكنت أن تتخلص من كثير من المحن. وتبدل وجه الأرض.
ولكن ما بالها لم تهتد لتوطيد سلام دائم والى الأبد! يقول الطيبون من أولئك الصفوة، لابد أن يتحقق هذا مهما طال الزمن.
قبل أيام قتل طفل في الثانية عشرة رجلاً، كان قد قتل والد هذا الطفل وهو مازال جنيناً في رحم أمه. وحين بلغ هذه السن أرشدته أمه إلى قاتل أبيه. ما فعله هذا الطفل فعله كثير من الكبار. ما فيهم من يقتل عادة القتل!؟
في فرص كثيرة أقوم بالتجوال في أنحاء مدينة الكوفة. في بساتينها التي لا تحوي غير النخيل وبعض أشجار التوت، والسدر، والصفصاف، تتراقص عليها العصافير، والبلابل، إنها تغرد أو تزقزق، وتمرح وتتنقل من غصن إلى غصن ومن شجرة إلى أخرى، إني أغبطها، فهي ليست مثلي تفكر بالنهاية، أو بما يمكن أن يدهمها من خطر باز أو عقعق أو بوم. لا يمكنني أبداً أن أكون مثلها رغم موعظة الشاعر إيليا أبي ماضي، في قصيدته "أيها الشاكي" عن الحمام والطيور:
تتغنى والصقر قد ملك الجو عليها والصائدون السبيلا
وحين أتجول في الكوفة القديمة. أقف أمام مصلى الأمام علي، وفكري سارح في أغوار الزمن السحيق، وكأني أشهد خطيباً فوق منبره، يعظ الناس أن لا يتكالبوا أو يتباغضوا من أجل دنيا فانية، ثم تبدو أمامي صورة المعتدي الأثيم "عبد الرحمن بن ملجم"، وقد أنتزع سيفه من رأس الرجل العظيم، يقطر منه دم، طالما نزف مثله من جسد الأمام وهو يقاوم الشرك والوثنية والعبودية والاستغلال. وأغادره بعد تأمل مرّ، إلى غرفة تشبه كهفاً، يقال إنها المكان الذي سجن فيه المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وقفت أجيل البصر فيها وفي فجوات مشبكها، وأتساءل: أين كان يقبع الرجل الذي أقام فيها مرغماً ولم يتراجع بل صمم لثورة "التوابين" ثم فجرها وانتقم من قتلة الحسين، ثم عولج القتل بالقتل، وكله باسم الله والإسلام، وتحت راية محمد رسول الله! التوابون هم نفر من أشترك بقتل الحسين في كربلاء، تبعوا المختار بن أبي عبيد الثقفي ضد بني أمية تكفيرا عما اقترفوه من إثم في مشاركتهم في معركة كربلاء وقتل الحسين(ع).
وأنظر إلى قبة زرقاء تقابلها أخرى، هما أيضاً قطرات دم من أجل الحق –كما نقول-. هي قبة ضريح مسلم بن عقيل رسول الحسين إلى أهل الكوفة، وقبة صاحبه هاني بن عروة. وليت أحجار قصر الإمارة وبلاط حجرها وساحاتها وأروقتها تستطيع أن تردد أصوات الذين تعاقبوا عليها واتخذوها مساكن، ليتها تعرض الرؤوس التي أطيح بها من الدست، وكؤوس النصر كيف تحطمت بيد المنتصر الجديد واختلطت بدمائهم، إنهم اليوم ليسو أكثر من أحاديث على منبر، أو سطوراً في بطون كتب التأريخ.
والتأريخ .... آه من التأريخ. إنه الكتاب الأضخم من كل الكتب. لكنه خلد الظالم والمظلوم، والحاكم المستبد، والعبد الذي أنتزع منه حريته. وهو –التأريخ- لحد الآن، ليس غير حكايات، يعيش بفضلها بعض، ويستثار بها آخرون. يؤمن حتى بالملفق منه بعض ويسخر آخرون. وتظل الحياة ميداناً لكر وفر، بين القوي المنتصر والمهزوم الهارب، كل حين وربما إلى الأبد.
شوبنهاور، يرى الحياة تعاسة على إي حال. وإنها ليست أكثر من طريد ومطارد، وآكل ومأكول. ويرى حياة –الزفانا- مثلاً فهي من دنيا الحشرات، لكنها لا تكف عن صراع بين رأسها وذنبها، حتى يقضي أحدهما على الآخر! [شوبنهاور، فيلسوف ألماني، فلسفته تشاؤمية، ولكنه عمر طويلاً ومات دون أن يمرض على كرسي مائدة الطعام، فلم تشعر الخادم إلا بعد أن رأته على جلسته دون أن يمد يده إلى الطعام لكنه بهيأة الحي اليقظ!. والزفانا، ورد ذكرها في كتاب "قصة الفلسفة الحديثة" في ترجمة وعرض فلسفة شوبنهاور. وهو القائل أيضاً "نحن تعساء إذا تزوجنا ونحن تعساء إذا بقينا بدون زواج ....]
هكذا في حياتنا جميعاً أيضاً، ومع ذلك فلا تجدون من يحب الموت، ويرضى به بدلاً عن الحياة. الحق إنها جميلة ورائعة، لو عشنا بها على الطبيعة. ولكن هذا أيضاً باطل. يبدو إني نسيت ما ضرب شوبنهاور من مثل. والحياة مستمرة، لا يوقف دولابها أحد، إلا يكفي هذا رداً لوساوسي؟!
مع الكوفيين مرة ثانية
منذ أمد وقبل حلول العام الدراسي 1940 الجديد، صرت أتنقل من بيت إلى بيت. البيوت المعروضة للإيجار كثيرة، ولكنها غير مريحة. كان البيت الذي سكنته منذ حللت الكوفة أخيرها جميعاً. وقد غادرته. إني أرتكب أحياناً أخطاء، بسبب إني أكره أن أخالف إنسانيتي. ففي شهرين متتاليين ارتكبت أمرين، يرى بعض أصدقائي إنها مني حمق!
كنت مديناً، لصديق يحترمني ويحبني، مبلغ ستة دنانير، وهو مبلغ جسيم بالنسبة لمرتبي الذي صار منذ مدة وجيزة عشرة دنانير، بعد أن تخلصت من الاستقطاعات عن التوقيفات التقاعدية كذلك من بعض الديون بمناسبة الزواج. شكا لي هذا الصديق ما يعانيه من قلق، من سوء معاملة بن عمه له، وهو أجير عنده، بينما هو عمدة عمله، فهو المسؤول في إدارته في كل شؤونه. فحرضته أن يستقل مادامت الحوانيت ميسورة، وأجورها زهيدة، والتجار لا يمتنعون عن تزويدك بالبضاعة بعدما عرفوك جيداً خلال هذه السنين.
هذه النصيحة عمل بها الصديق. وبالطبع صار بحاجة للمال مهما قلّ. لذا أرسل إليّ يطلب أن –أتفضل- وأسدد له ما بذمتي. وهكذا فعلت فتسبب لي ضائقة شديدة.
ثم حدث أمر البيت. إنها مشكلة يسيرة، ولكنها لمثلي مزعجة. جرى حديث بيني وبين مالك البيت، وهو علوي شريف، مهنته طب العيون القديم –كحال- وقد عرفت أسرته منذ القدم بهذه المهنة أيضاً. جرى الحديث عن الشجار الذي يحصل يومياً بين كنته وزوجه. فنصحته أن يستقل أبنه بمسكن، فأستحسن هذا الحل!
كنت أعلم إنه لا يملك غير هذا البيت الذي أسكنه، وإنه لابد سيبلغني بلزوم البحث عن بيت أتحول إليه. وتحولت إلى بيت آخر، لم أجد فيه الراحة، فهو رطب الجدران، غير مبلط ولأول مرة أسمع لصوص الليل يفزعون سكان هذه البيوت لأنها غير محصنة تماما، إذ تجاورها خرائب، وجدرانها غير عالية وإذا سطوا على بيت تمكنوا من أكثر البيوت المجاورة.
صحبت الدلال ليستعرض لي البيوت المعروضة للإيجار. بدأ بالبحث في شارع النهر، لأني أحب ذلك. المعروض هنا للإيجار شقق عالية، وتحتها مخازن التمور والحبوب، وعرض عليّ أحدها فقبلتها. كان المدخل من الشارع مشتركاً، إذن هما شقتان، إنهما يشرفان على شارع النهر، وكل منهما غرفتان فقط، صعود السقاء إليها شاق. والمرافق الأخرى أيضاً معدومة. كان الدلال يحدثني إنها كانت للمرجع الديني اليزدي، وزاد: إنه يملك في الكوفة أثني عشر بيتاً وسوقاً بأكملها يشغله الآن نجارو النواعير [السيد كاظم اليزدي هو المرجع الديني الذي عرف بمناوئته لحركة المشروطة، فسمي أنصاره بالمستبدة. وكان زعيم حركة المشروطة الشيخ ملا كاظم الخراساني الذي سماه المؤرخون "أبو الأحرار". كما أن اليزدي بعد هذا عرف بمناصرته الصريحة للمحتلين الإنكليز في مسألة ثورة النجف عام 1918 ومما ينسب إلى خطيب النجف السيد صالح الحلي قوله فيه:
فو الله ما أدري وإن كنت دارياً أيزديها أشقى الورى أم يزيدها
والى هذه الأملاك، من بيوت وأسواق، أشار الشاعر الكبير الجواهري:
أريهم على شط الفرات شواهقاً ثقالاً تشّكى وطأهن فرات
وقد توفى اليزدي في 30 نيسان 1919]
وفعلاً حين سئمت سكنى هذه الشقة تم انتقالي إلى بيت آخر. كان يشتمل على ساحتين إحداهما واسعة فيها غرفة واحدة كبيرة –للاستقبال- والثانية فيها ثلاث غرف، ومطبخ، وحمام صيفي مع سردابين. إنها مريحة ومخيفة في آن واحد. إن شطرها الأول معرض للصوص، وغرفها واسعة لا أجد الفرش اللازم، إنها واسعة أيضاً.
أخيراً أستقر أمري في بيت يعود لخطيب النجف السيد صالح الحلي. وإنه يسكن القسم الداخلي ويعاني مرضاً لا يحتمل معه الشفاء، ليس له في البيت غير زوجه العجوز وأصغر ولديه. [صالح الحلي خطيب النجف المعروف، كان لسناً محيطاً بالتأريخ الإسلامي والفقه وشاعراً بالفصحى والدارجة. لكنه عرف بعدائه لبعض المراجع الدينية. فقد ذكر انه قال عن الشيخ الشيرازي: "كيف يصبح أن يكون إماماً للمسلمين من فقد السمع وبلغ أقصى العمر!". وسبق أن ذكرت ما قاله في السيد اليزدي. وقد بلغ الذروة في عدائه للسيد أبو الحسن الموسوي، فأصدر الفتوى بتحريم سماع قراءته والجلوس تحت منبره، فكف عنه الناس وجانبوه، وناصره الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ومع ذلك كانت فتوى أبو الحسن شديدة عليه. على إنه كان يتعرض للشيخ محمد حسين أيضاً. فقد كان على المنبر مجاوراً لمصلى الشيخ يصيح متأففاً من عدم جدوى تشجيعه لكشف الغطاء كمجتهد عربي يريده ضد الفرس: "ما تكبر أبو خريزة (نوع من السمك النهري حجمه صغير/الناشر) هذا حدك، بس تكبر خرزتك تقتلك". ويقول عن الجزائري: "شلون شيطان، رِجل وره شيخ على القمي، والثانية عند فيصل!". وقد توفى (عام 1353هـ /1934م) عن ولدين، مهدي وهو يتكسب وهادي وهو خالي الوفاض من أي تحصيل]
زرته مرات وقد أقعده المرض، فكان عاجزاً عن الحديث، وبدا لي في بعض ما يخاصم به زوجه إن ما يذكر عنه من الحرص والشح صحيح، مع إنه موفور المال، ويملك أكثر من دار. أما زوجه فقد كانت على العكس منه. وقد زودتني بمروحة كهربائية، ومكوي، وبادلناها المساعدة في بعض أمور البيت والضرورات.
أنا حريص على علاقتي بالجيران. مع بعضهم أبيح لزوجتي الاختلاط بهم، وأنا مع رجالهم، ومع ذلك ضمن حدود لا تتعدى التزاور، وتبادل الخدمة الممكنة عند الحاجة إلى ذلك. ولكن الغالب أن تكون علاقتي مقصورة على التحية والسلام. ناداني ذات مرة أحدهم، وأسرّ إلي: "إني أنتظرك في مقهى مهدي"! وحضرت بعد لحظات. قدم لحديثه أو على الأصح –نصيحته- مقدمة في أهمية وضرورة معرفة الإنسان لتقاليد المحيط الذي يعيش فيه. ثم انتهى إلى قوله: "لاحظت كثيراً إنك حين تتوجه عصر الخميس من كل أسبوع إلى النجف، إنك تخترق شارع السكة إلى جانب زوجك وهي سافرة، وأكثر من هذا إنك تلتزم وضعاً خارج الرجولة، وأنت تحمل في أكثر الأحيان طفلك بينما هي تمشي دون ما يكلفها". [العامة يطلقون تسمية شارع السكة على "الترامواي" بين النجف والكوفة التي تأسست عام 1907م وقلعت عام 1949م بسبب كثرة السيارات]
وجدت نفسي أن أجابهه باقتضاب ولكن بتلميحات إلى حقيقة سلوكه المنافي للسلوك الصحيح إزاء مسؤولية الزوج تجاه زوجه وأسرته، وتقاليد البيئة المسلمة.
قلت: أيهما خير وأزكى، أن يترك رجل زوجه تسرح وتمرح وهو لا يعلم عن أمرها شيئاً، حين تغيب خمسة عشر يوماً بين كربلاء والكاظمية وسامراء، أم أن يصحبها ويتمتعا كلاهما بسفرات وتجوال مخطط لها ومفيداً؟ أليس ترى يا صاحبي إن أفضل رجل هو من يحب زوجه ويخلص لها مثلما تخلص له، بدلاً من جفوتها وانصرافه إلى الشذوذ مع الغلمان؟!".
كان وقع كلمتي عليه مؤلماً. فلزم الصمت. وغادر مكانه بعد لحظات. كنت أحبه فهو إنسان كريم الطبع تجاه الجار والأصدقاء، ولكن ما نبهته إليه في كلمتي كان يحز في نفسي. كنت أعتقد أن تنبيهه واجب عليّ كصديق يحبه.
وبالمناسبة والشيء بالشيء يذكر، إن له أخاً أصغر منه يشتغل بالتعليم، لكنه ومع إنه متزوج من قريبة له جميلة، مولع أيضاً بالغلمان! وحدث ذات مرة أن عثرت به زوجه متلبساً بالجريمة فانهالت عليه وعلى الغلام ضرباً بكُربة، وجانبت التستر لشدة وقع الصدمة والجريمة على نفسها، فشاع الأمر عند الجيران.
هذا الأخ كان قد تخرج من دار المعلمين الريفية، ولكنه إلى أسلوب ومعلومات الرجل العادي أقرب من المثقف أو المتعلم الحديث، على الأقل. كان يجالسني أحياناً في المقهى. طلب رأيي في موضوع اجتماعي. لم يعجبه جوابي، فصاح بوجهي بصوته الخشن الأجش: رُح رُح!.
صرت أضحك للهجته والصوت الذي قذف بهما الكلمة. وقلت مازحاً: كل ليلة أسمع هذه الكلمة تطرق مسمعي تتردد من جهة البساتين؟! [يصور العامة نباح الكلب وهو يلاحق الطراق ليلاً بمعنى، رُحْ. رُحْ.] فثارت حماقته وراح يتوعدني ويشتم. ولكني لم أفكر أن المسألة حقيقة يمكن أن تتعدى هذا الحد.
كنت قد قدمت طلباً للمراجع المختصة للحصول على شهادة الجنسية، بناء على أمر مديرية المعارف الملزم لكل معلم الحصول عليها. قدمت الطلب دون متابعة له. تاركاً أن يأخذ الموضوع مجراه الرسمي، ولكن فوجئت في أحد الأيام بدعوة إلى مركز الشرطة في الكوفة، وأختصر مأمور المركز الكلام معي، قائلاً: "معاون شرطة قضاء النجف يريد أن تواجهه، اذهب إليه غداً".
صباح اليوم الثاني توجهت إلى النجف لمواجهة معاون شرطة القضاء. وباختصار أجاب: "نعم يا ابني، مدير شرطة اللواء أمر أن أبلغك بوجوب مقابلتك له في كربلاء". قلت: "ما حقيقة الأمر؟". ردّ عليّ ألم تكن قدمت طلب الحصول على شهادة الجنسية منذ أكثر من شهر، أعتقد أن الأمر حول ذلك.
وانصرفت لأتوجه إلى مركز اللواء يوم السبت فقد انتهى الدوام واليوم خميس. واجهت المدير الذي قد باشر مهام المتصرف بالنيابة في أدارة المتصرف [كان أسم المدير "أحمد محفوظ" وقد أستهل تحقيقه "لكل إنسان قادح ومادح. وقد جاءت عنك إخبارية تستوجب التحقيق معك. فأصدقني الجواب. فإني أشفقت عليك ولم أوكل أمرك إلى شرطي عادي كيلا يقع بيد عدو لك فيرمي على النار الحطب!". لقد سرني الرجل بلطفه، هذا ليت الجميع مثله]. أجرى المدير معي تحقيقاً مطولاً، بعد أن أمر الفراش أن لا يسمح لأحد بالدخول، وبعد انصراف أحد زواره المحترمين الحاج عبد الواحد سكر، وقد أبدى هذا المحترم اهتماما بي، فقال لي: "أنتظرك في مقهى الصراف لنتغدى سوية".
بعد السؤال والجواب انتهى الأمر. إن إخبارية وصلت إلى الجهة المختصة في الشرطة تتهمني بمراسلة بعض الطلبة في ألمانيا، وان مراسلاتنا هي حول النازية كمعتنقين لها. وإن أحد الأدلة في رسالة المخبر تسمية أبني البكر –كفاح- تيمناً باسم أنجيل النازية ومؤلف هتلر المعروف –كفاحي-". [في ألمانيا أيام ظهور هتلر، كانت لي صلة بطالبين من النجف ولم تكن لي معهم مراسلة، هما السيد علي الصافي وعباس الشيخ أحمد كاشف الغطاء، وثالث من أهالي بعقوبة هو محمود مصطفى كنونه كنت المساعد في ترشيحه للبعثة. وكان يراسلني بكثرة كصديق واعترافا بالجميل ولم يكن من ذوي الميول النازية، ولكنه كان يتحدث عنها دون أن يبدي رأياً مؤيداً أو مناقضاً وغالباً ما كانت رسائله عن الحنين لأيام كنا نعيشها سوية في القرية نؤدي خدمة التعليم بينما نعاني المتاعب والغربة]
الحق إني وبعض الشباب من لم يتعرف على النازية في بلدها أو في كتب من المنشأ لا يصح أن يتهم بها. ولكن عشق البعض منا لها وترديده لأسم هتلر كان نتيجة كرهنا للاستعمار البريطاني. ثم علمتنا الأيام، والكتب النزيهة إن الخطأ كل الخطأ أن نؤمن بأي نظام في الغرب إذا كان المهيمن عليه رجال المال والأعمال والشركات الكبرى.
عدت وأنا أرد نفسي أن لا أفاتح ذلك الشاب عن حقيقة الإخبارية يكفي إني أثبت نزاهتي من التهمة القذرة. ولعلي أزيد عداءه لو فاتحته ملصقاً تهمة الإخبار عليّ به. وقد أكسب وده ثانية وندمه على ما فعل إن أنا غضضت النظر.
وبالرغم من أن معظم أهل الكوفة من النجف فإنهم إذا أرادوا ذم واحد من أهل الكوفة قالوا عنه "كوفي"، أهل الكوفة قتلوا الحسين [فكر قائممقام النجف السيد حسن الجواد أن يهتم في تحقيق مشروع ماء الكوفة، فأرسل إليه الشيخ محمد علي اليعقوبي مداعباً أبياتاً شعرية منها:
لا تعر أهل كوفة الجند سمعاً ودَع القوم يهلكون ضماء
أوَ تسقي يا ابن الجواد أناسا حرموا جدّك الحسين ماء
وصموا الكوفة وأهلها بقتل الحسين. قُتل الحسين بأمر يزيد الشامي الأموي، وبجنود من شتى بلاد العرب، لا العراق وحده].
ولكن أي بلد صغير لا ينتشر فيه التحاسد والنفاق نتيجة الجهل أو التزاحم في صعوبة كسب العيش. الكوفة بلد أبي الطيب المتنبي، وقد قاست شتى المحن خلال تأريخها العريق، وما تزال محرومة وبحاجة إلى كثير من الإصلاح.
يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي



#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 1- معلم في القرية/ 19
- الحوار المتمدن تميز وتطور مستمر
- معلم في القرية/ 18
- 1- معلم في القرية/ 15
- معلم في القرية/ 17
- 1- معلم في القرية/ 16
- استفسار واتهام حول القطع الأثرية
- معلم في القرية/ 14
- معلم في القرية/ 13
- معلم في القرية/ 12
- معلم في القرية/ 11
- معلم في القرية/ 10
- معلم في القرية/ 9
- معلم في القرية/ 8
- معلم في القرية /7
- معلم في القرية /6
- معلم في القرية /5
- معلم في القرية /4
- معلم في القرية /3
- الحل ليس بإعادة الانتخابات في العراق!؟


المزيد.....




- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة إسرائي ...
- وزير الخارجية الأيرلندي يصل الأردن ويؤكد أن -الاعتراف بفلسطي ...
- سحب الغبار الحمراء التي غطت اليونان تنقشع تدريجيًا
- نواب كويتيون يعربون عن استيائهم من تأخر بلادهم عن فرص تنموية ...
- سانشيز يدرس تقديم استقالته على إثر اتهام زوجته باستغلال النف ...
- خبير بريطاني: الغرب قلق من تردي وضع الجيش الأوكراني تحت قياد ...
- إعلام عبري: مجلس الحرب الإسرائيلي سيبحث بشكل فوري موعد الدخو ...
- حماس: إسرائيل لم تحرر من عاد من أسراها بالقوة وإنما بالمفاوض ...
- بايدن يوعز بتخصيص 145 مليون دولار من المساعدات لأوكرانيا عبر ...
- فرنسا.. باريس تعلن منطقة حظر جوي لحماية حفل افتتاح دورة الأل ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - 1- معلم في القرية/ 20