أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - معلم في القرية/ 8















المزيد.....


معلم في القرية/ 8


محمد علي الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 3106 - 2010 / 8 / 26 - 20:57
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    



من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)


((أدناه بعض أفكار المربي الراحل –حول تعدد الزوجات- التي دونها في ذكرياته قبل أكثر من سبعة عقود: لا يدخل في مضمون العدل عندهم الحب الذي هو أهم ما تنشده المرأة في زوجها. بينما تجد الرجل المزواج من هؤلاء، لا يفهم من الزواج إلا شهوة يفرغها، أو مصلحة يحققها))

التيارات السياسية والتعليم، المرأة والنظم البالية!
وأبلغتنا مديرية المعارف بكتاب تحذرنا وتشير فيه إلى وجوب الابتعاد عن القرويين وعدم الاختلاط بهم. إن التربية وقواعدها ترجح وتؤكد ضرورة الاختلاط بالمحيط للتأثير على الناس، والتعرف على مشاكلهم التي تؤثر على مستويات أبنائهم. ولكن التعليم عندنا خاضع للتيارات السياسية. وهذا سبب هام من أسباب تردي التعليم. ذلك لأن الساسة مشدودونَ إلى المخَطِط الأول، المختفي وراء كواليس الحكم "الوطني"، ألا هو الاستعمار البريطاني.
قبل يومين غادرت مقر وظيفتي إلى الناحية لأشترك بتشييع جنازة الزعيم المعروف السيد نور الياسري [توفى في 4/5/1937] وقبل أن أنزل إلى الضفة في ناحية الفيصلية [تسمى اليوم ناحية المشخاب] سمعت أزيز الرصاص، حسبته المألوف عند العشائر والذي يعرف عندهم باسم "العراضة" في مثل هذه المناسبة، وهي عبارة عن هوسات يقومون بها أمام نعش الفقيد –إذا كان من كبارهم- يتخلل ذلك أطلاق الرصاص. وتقدمنا متوجهين إلى الجامع. فإذا بالناس أمواجاً يدفع بعضهم بعضاً فعدنا أدراجنا نتجنب الأذى.
والسيد الياسري، أحد زعماء ثورة العشرين، عُرف بتفانيه من أجلها، فقد ساهم فيها بماله ونفسه. ولكنه كأي زعيم أقطاعي آخر، في مقاييس حياته، فهي بعيدة عن الدين والإنسانية، على الرغم من أنه لا يرى ذلك. فالمشهور عنه تزوج أكثر من ثلاثين امرأة، وعلل ذلك بأن الدين أباح له ذلك فأربع بالعقد الدائم وما شاء بالعقد المنقطع [جاء في الآية 3 من سورة النساء "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ..." لقد ربطت الآية الخوف من عدم العدل بين اليتامى مع الخوف من عدمه أيضاً بين النساء. والعقد المنقطع فيما زاد عن الأربع مع وجودهن على قيد الحياة. وهو عقد محدد بالسنين، كأن يقول بالعدد والمدة ما شاء. التحديد يكفي]. وله من نسائه أكثر من أربعين ولداً ذكراً، وأكثر من هذا العدد إناث! وهو أبعد أن يكون من معرفة زوجاته، ولكن كل واحدة منهن تعرف نوبتها، فتضع علماً أبيض صغيراً على واجهة بيتها –القصبي- فيهتدي إليها بموجبه، وهو عن العدل بينهن أكثر بعداً، فمفهوم العدل بين الزوجات عند هؤلاء، محدود في بيت شرعي "ثوب يستر الجسد وخبز يشبع البطن"؟
للعدل في مسألة الحياة الزوجية أهمية كبيرة، بدونها تنهار السعادة المتوخاة، وتشيع الفوضى والتحلل والتفكك في أواصر العلاقات العائلية، وتسري جراثيمها إلى أبنائهم بأشد منها بين الآباء والأمهات. لا يدخل في مضمون العدل عندهم الحب الذي هو أهم ما تنشده المرأة في زوجها. بينما تجد الرجل المزواج من هؤلاء، لا يفهم من الزواج إلا شهوة يفرغها، أو مصلحة يحققها. وتسود عند هؤلاء أيضاً اعتقادات أسوء ما تكون عن المرأة، تجدها في قصص ينقلها الخلف عن السلف، فهي الماكرة الخبيثة، وهي لا تعرف الحب والإخلاص، وهي الحقود، وأخيراً إن خير ما فيها –الفراش- تؤثره على كل أمنية، وترجحه على كل حاجة، لا يهمها أن تتعب في الخدمة أو تعرى أو تجوع، مادامت تجد في أحضان زوجها الدفء وإشباع الغريزة! [لا تخلو مجالس القرويين من الحديث عن المرأة بأنها في رأيهم بطبيعتها للشهوة، وهم يوردون كثيراً من القصص لتعزيز رأيهم. بينما يكذب واقع المرأة رأيهم، فالمرأة عماد حياتهم، هي فلاحة في المزرعة، ومديرة البيت، ومربية الأبناء، والمشجع في المعارك]
قد يكون كل ما اعتقدوه واقعاً فعلاً، ولكنه ليس طبيعة أبداً. فمن يطلع على سلوك المترفين من جانب والكادحين المستغلين من جانب آخر، على حياتهم الزوجية لا يجد في الأمر غرابة مطلقاً.
المُترَف يعدد الزوجات، وهو يتقلب بينهن كالديك بين الدجاجات، من أحبها غمرها بما لذ وطاب هي وأبناءها، ومن نفر منها تركها للخدمة، أو طلقها، وحظ أطفالها لا يختلف عن حظها في شيء أبداً.
والكادح ينفس عن همومه، بإهانة زوجته، ويصب جام غضبه لأدنى سبب، فكأنه يحلم بالجبروت الذي يعامله به مستغِله. فيتغطرس على حياة زوجه المسكينة، ليبدو على الأقل بطلاً أمامها، ويرد اعتباره المهدور، وكرامته المداسة عند المستغلين.
فهي تجاه هذه المعاملة لا تجد سلاحاً أقوى من المكر أحياناً، وحبائل الحب أحياناً. وتغرس هذه المعاملة الشائنة في صدرها الحقد، ويدفعها إلى الكيد والدس أحياناً.
ومن أغرب ما قرأت هذه الأيام في إحدى المجلات. هذا الرأي في المرأة لأحد أساتذة أيلينوبر الأمريكية وأسمه "كنفري" فهو يقول ما يضحك: "إن الخطر العظيم الذي يهدد الحضارة العصرية، لا ينجم عن قيام الآلات مقام الرجال في الصناعة، بل عن قيام النساء مقامهم. فهن ينازعنهم الأعمال ويحرمنهم الرزق، ومن ثم يفتحن باب البطالة في وجوههم على مصراعيه، ويشللن حركتهم. ولهن اليد الطولى في الأزمة الاقتصادية، الآخذة بخناق العالم أجمع"!؟.
أي تفكير أهوج هذا؟ إنه مغالطة تستهدف التستر على نتائج استغلال الرأسمالية. فالآلات والنساء العاملات لا تهدد الحضارة بخطر، ولا تزاحم الرجال. إنما تزيد الحضارة، وتخفف من عبئ الطبقة العاملة. ولكن مطامع أصحاب العمل من الرأسماليين هي التي تلعب بمقدرات العمال، وتستغل جهودهم. وقد تعدت مطامعهم أبناء بلادهم فولد الاستعمار واستعبدوا الشعوب المتأخرة. فهم والحالة هذه لا فرق لديهم فيمن يستغلونه سواء كان من مواطنيهم أم من الشعوب المستعمرة، غير أن وعي العمال هناك في البلدان الصناعية أوجد عندهم مقاومة انتزعوا بواسطتها بعض الحقوق، وشرعت لهم بعض القوانين، التي لا تجد التطبيق إلا بعد الأخذ والرد، وربما ألإضراب عن العمل.
وعلمت أن السيد الياسري حين أحس بالمنية نسى العدل أيضاً بين أبنائه. فكانت وصيته بعيدة، وبعيدة جداً عن الأصول الشرعية. لقد حرم الإناث من الإرث بتاتاً، وبعض الأولاد أيضاً، وخص بعضاً بحظ دون المحظوظين عنده في حياته!
ولهذا السبب فإن المحظوظين خافوا نقمة المحرومين فطلبوا من مدير الناحية "أحمد السالم" أن يوقف بعض إخوانهم، حفظاً للأمن ريثما يتم التشييع ومراسيم الدفن. فأوقفوا، ولكنهم توسلوا إلى مدير الناحية أن يطلق سراحهم، فيودعوا أباهم. فليس من العدل أن يحرموا من إلقاء النظرة الأخيرة على أبيهم. فأجاب المدير طلبهم، وما أن دخلوا الجامع حتى أصطدم الأخوة، ودوى رصاص البنادق، فقتل منهم ومن المشيعين عدد وجرح آخرون. وأصاب جثمان السيد سبع رصاصات؟!
وتفرق الناس آسفين يتحدثون عن حياته وإنها كانت حافلة بالبر والتقوى والجهاد في سبيل الله، سبحان الله كيف انتهت بهذه النهاية المؤسفة. وكيف ستجر وراءها ما تجر من أحداث لا يعلمها إلا الله، ولكنها على أي حال سوف لا تكون خيراً، إلا أن يدرك أبناؤه الأعزاء واجبهم نحو بقية إخوانهم فيعدلون وينصفون. [وأخيراً حَلتْ الحكومة القائمة مشكلة الخلاف بين الأخوة. فألغت وصية السيد المرحوم. وأجرت جرداً لممتلكاته وعدد الورثة من بنين وبنات، وطبقت توزيع الإرث وفقاً للشرع الإسلامي. وفي ذمة الورثة وأبيهم من فقد حياته برصاص أبنائه من أجل الإرث]

الطائفية بين الوطنية والقومية
عادت حليمة إلى عادتها القديمة. فما أن تسلم صبري إدارة المدرسة بالوكالة، حتى عاودته طبيعته السقيمة، بوحي من عقليته الفجة. فإذا به يثير الخوف من جديد في نفوس أصحابه مني. ويدخل في أذهانهم –باسم الطائفية- وجوب الابتعاد عني، بل ومحاربتي [صبري معلم من بغداد من أصل تركي عين بنفس العام الذي عينت فيه وفي نفس المدرسة].
لم أكن على علم أول الأمر بشيء من هذا. لكني لاحظت مفاجأة تغيّر موقفهم مني. فقد صاروا يختلطون بي داخل المدرسة، ويعتزلونني بعد الدوام اعتزالا كلياً. وبعد أيام من هذه الحال جاءني الفراش "فليح" فأسر لي: إن الجماعة قد أقنعوا السيد عبود وأثنين آخرين مفلسين مثله، ووقعوهم على ورقة بشكل إفادات، مضمونها –إنك- تحرضهم على سب الخلفاء الثلاثة؟!
لاشيء عندي أسخف من هذا العمل، فلست في عهود القرون المظلمة، ولست ممن له مصلحة في هذا. لو كنت أدين بهذا لبقيت من المعممين. لم أتخل عن العمامة إلا لأني قد رفضت تلك الأفكار الفاسدة.
لا عمر اليوم في الوجود ولا علي، لقد دخلا التأريخ. فهما جزء منه مقدس محترم. أما اليوم، فالأفكار القومية والوطنية، والكفاح ضد الاستعمار في سبيل الاستقلال والسيادة والتحرر، هي شغل الناس الشاغل، ولذا عمل الاستعماريون وأعوانهم على نشر الطائفية بأبشع صورة.
وقد ناقشتهم المسألة مرات ومرات في خطل هذه الأفكار. سألت أحدهم مرة أمام الآخرين: إنك تشرب الخمر، وتقامر، وتلوط، أليس كذلك؟ أجاب معترفاً!. قلت، فقل لي: أيقرك على هذا عمر أم علي؟! لقد عاش عمر وعلي يقيمان الحدود على من يزني أو يلوط ويشرب الخمر، فمن أنتم وهم؟
بقيت عصر ذلك اليوم في حيرة، ماذا أصنع؟ وكيف أصدهم عن عملهم هذا؟ جلست على ضفة النهر وحدي أشرق الفكر وأغربه، أسأل نفسي لم يتهم المرء بما هو مناقض له؟ أنا أكره هذه العقائد البالية، وأحاربها.، فلماذا أتهم بها؟
وفي أثناء انغماري بلجج الفكر، دفعت أمواج النهر إلي علبة سجائر فارغة. وما أشد دهشتي إذ قرأت فيها سؤالاً وجواباً بين صبري وفاضل [فاضل عبد الرزاق الإمام زميل صبري وعين معه]، بشأن الكتاب وإفادة السيد عبود وصاحبيه، وهل اُبرِدَ؟ إن صبري يؤكد إنه سيرسل الكتاب غداً.
هذه مصادفة عجيبة، حلفت بسببها أن لا أهمل مطالعة أية ورقة تعرض لعيني. وتوجهت جهة الغري كما يفعل العوام، خاطبت الأمام علي عن مأزق ما كنت اُبتلى بها لو لم أكن محسوباً من شيعته [الواقع إني شيعي ولكن لست طائفياً ولا أدين بالأساطير والمبالغات].
وغابت الشمس، وزحف الظلام فخيم، واشتدت أجنحته في أرجاء الفضاء، فبدت الأشجار والنخيل كأنها أشباح غيلان. وهنا لاح في النهر زورق يتهادى، وأقترب إلى الضفة، ونهض رجل متوسط القامة، ألقى السلام علي فتصافحنا، وقلت:
- معلم طايف؟ [تعبير من المعلمين إذا كان من يردهم معلما أو شخص آخر غير محتسب]
- مديراً للمدرسة
وضحك:- أقدم لك نفسي محمد علي الفلوجي
كان يعرفني وأعرفه، فكلانا ينشر في جريدة "الهاتف". وجرى الحديث عن المدرسة، فشرحت له كل شيء، فإذا به يؤمن بالمثل "إدفع الشر بالشر".
وحضر بقية المعلين فرحبوا به على اعتباره –معلم- فسايرهم ولم يذكر الواقع. فراحوا يطنبون بحزم صبري في إدارة المدرسة، ويلوحون له: إنه سيجد الراحة والاطمئنان. وسأله صبري:
- شتحب تدَرس؟
- أتفضل.
أجاب الزميل، وناول صبري الأمر الإداري، وتناوله صبري بابتسامة عريضة، فبدا وجهه أشبه بالمتشنج، وفض الكتاب فانقبضت أساريره، وتغيرت نبرة صوته، وأعاد الكتاب إلى صاحبه.
- يابه أهلاً وسهلاً. والله تر آني أرحب، والحقيقة، الإدارة مو مريحه الله جابك!
ومرت دقائق تبادل الصديقان "صبري وفاضل" النظرات، ونهض صبري وناداني.
- أبو حسين، من فضلك شويه نتمشى.
- طيب أتفضل
أخذ صبري يتحدث إلي عن ضرورة قلب صفحة جديدة، فهذا المدير الجديد غريب؟! لازم نتحد حتى لا يتمكن منا؟!
وأدركني انفعال. فقلت: صافيتكم طول هذه المدة، وبقيت تعتبروني غريب، لويش اليوم أصير ضد هذا المسكين، وآني ما شايف منه إساءة.
قال:- أعذرني وهاك الكتاب، وإفادات ال..... راح أمزقهه.
فاختطفت الكتاب، وقلت بصراحة، أسمع صبري. إذا لاح الكعب لأضرب ضربة لا ينبت عليهه شعر [مثل شعبي للتعبير عن درجة حقده]!
وعدنا حيث كنا وقد علت وجهيهما كآبة.

في المعترك
حين زرت النجف في الأسبوع الفائت، زارني الصحفي المعروف الأستاذ جعفر الخليلي. وتعود معرفتي وصلتي به إلى أيام الطفولة حين كنت تلميذاً في المدرسة الأميرية الابتدائية.
كان وثيق الصلة بطلبته من صفنا –الثالث- منهم أنا. لم يكن يعني بمادة الدرس قدر عنايته بربطها بالحياة. كان يتحدث إلينا بدرس الجغرافية عن بلادنا وعن خيراتها المستغلة استغلالا فضيعاً من قبل المستعمر. رسم لنا في درس الرسم إنسانا يلوح بقط ليرميه أرضاً، وكتب تحت الرسم "كيفما ترم بالقط فإنه يقع على رجليه". فتهامسنا نحن الصغار، بعضنا يقول لبعض: الإنكليز، الإنكليز!.
كان يتبنى مشاكلنا، ويتوسط أمرنا إن شكا أحدنا غبناً من معلم، أو حين يسوء ظن معلمه به. كان محبوباً من جميع طلبة المدرسة.
وقد تركت المدرسة بعد نجاحي من الصف الخامس، ونقل هو إلى ملاك التعليم الثانوي، ثم ترك التعليم وزاول العمل الصحفي، وأصدر أول صحيفة له "الفجر الصادق". أقبلت على مطالعتها، كنت محدد الخطى لذا لم أطالع غيرها. وأصدر الجريدة الثانية "الراعي" فتضاعف إقبالي عليها، وبدأت أنشر فيها بعض ما أكتب. وفي هذه الآونة أصدر جريدته الثالثة "الهاتف" فتوثقت علاقتي به أكثر وألفته أكثر. هو الذي دفعني إلى مجال الوظيفة، رغم معارضة كبير أسرتنا العلامة محمد رضا الشبيبي.
ولم أتحرج فأفضيت له بسري، وشرحت له قصة "حبي" فشجعني على ضرورة الأقدام على الزواج.
وعرجنا في الحديث عن الكلمة التي نشرت لي أخيراً بعنوان "في المعترك" [نشرت في جريدة الهاتف السنة الأولى العدد 23 صفحة 3 سنة 1935] وإن حملة من الردود وردت إلى الجريدة. ذلك إني تحاملت على الإنسان. قلت: إنه مجبول على الشر. ما في ذلك فرق بين مختلف طبقاته، حتى أسمه "بشر" الباء فيه زائدة!.
ربما كنت مخطئا، لا أنا مخطئ حقاً. ما حملني على هذا الاعتقاد ما لاقيته من زملائي المعلمين، وحكيت للأستاذ ما كادوا يسببونه لي من مشكلة، ربما كانت تسبب فصلي من الوظيفة، لولا أن يصلنا المدير الجديد "محمد علي الفلوجي" وأثنيت على هذا ثناءً كبيراً، فتبسم الأستاذ وقال: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً!؟.
أنا لست بالدرجة العلمية التي تمكنني من التفلسف بالإنسان. وهل هو مطبوع على الشر أم الخير؟ وإن حياته وظروفه هي التي توجهه نحو الخير أو الشر. إن بعض الناس يرى إن الخير والشر أمران نسبيان، فما هو شر في حسابي هو خير عند آخر غيري. ولكن هل ستتحقق للبشرية حياة بلا صراع، بلا حرب تهلك الحرث والنسل؟ كيف؟ ومتى؟
بعض الناس يعتقدون إن الصراع بين البشرية، هو الذي طورها وأوصلها إلى هذه الدرجة التي هي عليها من الحضارة. بينما يرى الآخرون إن الحياة تزدهر في ظل السلام لا تحت نيران الحروب. وإذا كانت الحروب التي تشن من أجل أن يتقاسم المنتصرون من المستعمرين، فإن الميزان سيختلف حتماً بعد اليوم فقد وعت الشعوب وأدركت طريق الخلاص. فهي تتململ لتنفض عنها غبار السبات الطويل.
وأبدت الأيام ما كنت جاهلاً. فقد قَلبَ المدير ظهر المجن. ولم يكن تحرشه بي لأمر ذي بال. كان يحب حب الإمرة والتعظيم. لاحظ إني أحتفظ بإناء خاص بي لشرب الماء. فناقشني في الأمر، محتجاً بأن هذا ترفع عن مساورة الآخرين، وخدش لعواطفهم. وشدد في النقاش إلى حد قدم لي ورقة استجواب، وجدت الأمر سخيفاً، وتأكدت إنه لا يبغي أكثر من أثبات شخصيته بإخضاعي، وطلبت أن يكون الاستجواب على ثلاث نسخ وهكذا كان. وحالما وقعت أخذت واحدة. فراح يمانعني إن هذا ليس من شأني. ورددت عليه: إني احتفظ بها، حتى إذا لم ترسل أنت نسخة مما لديك، أرسلت أنا هذه إلى مديرية المعارف، لإطلاعها على مدى سخف هذه التصرفات!
واليوم جاء إلي يعاتبني ويعتذر، ودهشت حين صرح بالسبب. قال: إنك لا توليني ما يجب من احترام أمام الناس؟!
إنه واحد من البشر الذين عنيتهم بكلمتي في المعترك.

ساعة سأم
الوقت الآن نهاية الثلث الأول من الليل. تمددت على فراشي، وسكنت سكون النائم الغارق بنوم عميق. تكتنفني وحشة ظالمة. ودوي البق يسمع حول كِلّتي. ليت هذه الأيام القليلة الباقية، تنقضي سريعاً.
أشعر بسأم شديد. ما سِرّ هذا السأم؟ عصر هذا اليوم كنت أقوم بنزهة في زورق صغير، مع صديقي "سيد حميد" بين مجاري الماء وألواح الشلب التي غمرت بالماء، ويسمى عندهم "تطييب"ويغطي الماء عشب عال، يسمونه "السلهو" فلا يبن منا غير رؤوسنا، إنه لمنظر يشرح الصدور، ويبهج الخواطر، سماء صافية زرقاء، وأرض خضراء مدى البصر، وأصوات الريفيات تتجاوب من بعيد بالأغاني، شجية محزنة تدل على ألم بليغ، ومرحة مطربة تنم عن خلو البال وصفاء الخاطر.
رن في أذني صوت شجي، تماوج في الفضاء، من قلب قريح، قلت إن صاحبته ستشهق وتموت. كان على لحن أغنية "بالنونه حبني" [اللازمة بالنونه حبني وهي من أغاني مسعود العمارية]. أسرع صاحبي بالتجديف، لأسمع مما تقول شيئاً. يبدو إنها كانت أسرع منا، فقد كان "السلهو" يعيق حركة زورقنا.
"طيرك أنصاد وراح يا ناصب العش"
وماذا بعد؟ لم أسمع، لقد دخل زورقها في نهر "طبر سيد نور". قال صاحبي هذا، وفتر تجديفه.
أواه طالعت كثيراً، أنهيت كل ما تبقى من قصة "فاوست" [للشاعر الألماني "جوته"]. بقيت أحلم بكل أجواء هذه القصة، ولكن لم يدخل إلي شيطان فاوست؟ ومازال النوم بعيد عن عيني.
هل سأكون أكثر راحة واستقرار لو تحولت إلى المدينة؟ ربما كان هذا السأم بسبب ما أحمله من هم ..... لماذا أحببت إذا أخشى الزواج؟ وأكره الحياة! شد ما راودتني فكرة الزهد والتقشف، بل والتغرب، بعيداً، بعيدا عن الأهل والأصدقاء، وحتى عن ......؟!
الحياة عبئ ثقيل ، إنها لعبة ساخر، ولهذا يعمل الناس دائماً على تبديل مجالسهم، وأدوات عيشهم، وحتى ملابسهم، لينسوا العبئ الذي يحملونه، والنهاية المحزنة التي ينتهون إليها.
والأنبياء والمصلحون؟ لماذا يُشقونَ أنفسهم، ويلقون بها في كل تهلكة، ليصلوا بالبشرية إلى الحياة الهادئة والسلام. ولكن الناس يقفون منهم كما يقفون من المجرمين [يقول جبران خليل جبران لم يعمل الناس إلا بمقتضى قول القائل: خير الأمور الوسط، لذلك تراهم يقتلون الأنبياء والمجرمين معاً].
إننا نسعى دائماً لأن نذلل الحياة لرغباتنا بما نخترعه من وسائل العيش، ولكن الحياة بسبب هذا تزداد وطأتها ثقلاً، حتى الذين تتوفر لديهم كل المرفهات، تسبب المرفهات نفسها لهم تعاسات لا نعلمها إلا عندما تنتهي حياتهم.
ترى لو إني قدرت على الزواج، كم هي الصعاب التي ستعترضني؟ وهل سأجد السعادة حقاً؟ إن ظهر إني عقيم فسأشقى بسبب هذا العقم. وإن لم أنسل غير الإناث، فسأشقى أيضاً، وأعزو أسباب الشقاء إلى هذا البلاء. وإن كثر النسل ببنات وبنين، فإن شقائي سيكون بسبب كثرة العيال، وقلة المال طبعاً. فأنا أيضاً لا أتوقع في حياتي إلا الشقاء والعناء [اليوم 5/12/1987 بدأت أعيد النظر لإيضاح العبارات والكلمات التي تبدو مبهمة أو إن فيها خطأ لغويا أو نحويا أو شاكل هذا. وعند العبارة الأخيرة ضحكت لما ذكرت من توقعات فأنا الآن فعلا أعاني الشقاء، والمرض، وحيدا في معاناتي كأني لم ألد ولم اُرَبِّ، ولم أخلص في تربيتي وتوجيهي!؟].
آباؤنا يكيلون لنا اللوم والتنديد، إننا ازاؤهم مقصرون، لم نقم بالواجب نحوهم، بخدمتهم والأنفاق عليهم، جزاء تربيتهم، ورعايتهم لنا، على إنهم ما أعدونا إلا على نهجهم، وقد بلي ذلك النهج، ولم يعد صالحاً للحياة.
عاش أبي كأي رجل مثله سلك نهج الدين، يلتمس الزكاة وغيرها من الحقوق الشرعية –كما يسمونها- وأختار لي نفس السبيل، يقول: إنها تجمع بين رضا الله في خدمة دينه الحنيف، والعيش المقبول؟! إن عيشة رجل الدين رغم اتسامها بالقدسية لدى القرويين لكنها عسيرة ومرهقة.
الفلاحون فقراء معوزون، وهو يعتمد على ما تجود به أيديهم من زكاة ونذور، ليحصلوا على مستقر لهم في الجنان. أما شيوخ العشائر فإنهم إن قدموا ما عليهم من حقوق فللمراجع الدينية العليا أو من يخولونه من أمثال أبي.
لم يكن من السهل أن يحصل المعمم على عشيرة توليه ثقتها، وتسلم له ما عليها من حق، ثم عليه أن يضمن مساندة رئيس العشيرة له ليؤمن له جباية تلك الحقوق واستغلال أولئك الفلاحين.
تنازل أحد المعممين مرة عن جميع ما يستفيده منهم، بعد تفاهم تم بينه وبين رئيس العشيرة، شريطة أن يتسلح كل فرد معفو من أداء ما عليه، من حق شرعي. وعظهم وأكثر من الأحاديث النبوية، وما يلزم طاعة أولي الأمر فيما يأمرون وينهون. إنهم - أولي الأمر- في رأي هذا المعمم رؤساء العشائر ["يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" سورة النساء الآية 59. وفي عهد النبي (ص) والخلفاء كان المسؤول عن جباية الحقوق الشرعية ، الزكاة والخمس وغيرها، تودع في بيت يدعى بيت المال، والمسؤول الشرعي "الخليفة" لديه سجل المستحقين كل حسب شأنه وعائلته. أما عندنا اليوم فهو فوضى وغير مطابقة لما سار عليه أولوا الأمر. بينما اليوم ينتشر المعممون في مدن العراق كل حسب صلته برئيس أو فرد وجيه ويقدم هذا وغيره له ما عليهم من حقوق شرعية شرط أن يكون مؤيداً من المرجع الديني الذي يعود أولئك الذين يدفعونها مقلدين له بأمورهم الدينية. بينما كانت تدفع هذه الحقوق لبيت المال تحت سلطة الخليفة. وأسماء المستحقين مسجلة في سجل رسمي. وأعرف الكثير من أولئك مالهم من خدمة الدين غير العُمة ومعلومات عادية جداً. والنهضة التي ستشمل العالم الشرقي المتأخر، فلا يجد الذين عاشوا باسم الدين ما كانوا عليه من أبهة ومكانة. وفعلا نلاحظ إن عدد الذين مازالوا تقليديين في دراستهم وطراز معيشتهم قد تناقص كثيرا وكثير من رجال الدين أو المحسوبين عليه فقدوا سلطتهم الأولى ومكانتهم، ووجهوا أبناءهم شطر الدراسة الحديثة وليعيش موظفا لدى الدولة].
حين يتسلح القروي، يعد نفسه لخدمة نزاعات الرئيس، يحارب من أجله ضد حكومة لا يرتضيها، أو ضد عشيرة أخرى. وليس من أجل نفسه فهو لا يملك من حياته إلا قوة يفنيها بالكدح، فإذا شاخ أو مرض فله الله!!؟
طافت بي صنوف الفكر، وشتى الأخيلة. تزوجت، وأنسلت، وسعدت ونعمت، وربيت ونشأت أطفالي كما شئت فإذا بهم شباب ينشرح بهم صدري وتطيب نفسي وأنا أشرف على شيخوخة لابد منها.
ولاحت في الخيال سحابة أبدلت هذه الصور الحبيبة. فإذا بي عقيم، موحش الدار جاف الغصن!!
ويتبدل المنظر الثالث. فإذا بي أسكن بيتاً كله صخب وضجيج من أطفال يدرجون وآخرون يلعبون، ويدرسون. وأمد يدي إلى جيبي ألمسه فإذا به لا يستطيع إسعاد ذلك العدد العديد، لا حول له ولا قابلية، على إيجاد ما يحب ويرفه.
أوه. إن الخيال كبحر لا يحده النظر، يبدو المرء فيه كراكب زورق صغير. تتقاذفه الأمواج الرهيبة، قد تقذف به إلى جزيرة طيبة الهواء، كلها خير ونعم، أو تهوي به إلى قرار البحر السحيق. وعند ذلك لا تبدو الحياة إلا كقطرة ندى تهبط من نسمات الفجر، وتجف عندما تتسلط عليها أشعة الشمس.
طويت كل هذه المناظر بزفرة حادة، كأني لقيت عناء من سفر طويل، شرق الفكر بي وغرب. تذكرت العمامة التي ألقيتها عن رأسي بلا رجعة، وبدون –ثقة بهذه الوظيفة- ولكن أي طريق سألجه؟! تعبت وأدركني كلل عصبي، وتأوهت وقلت: حشر مع الناس عيد.
ما أشد خشونة هذا المرقد، وما أشد وحشة هذا الليل، وكأن قمره هذا الذي أشرق متأخراً من خلال سعف النخيل، الغريبُ يقف أمام المحزون بوجوم. فأطبقت أجفاني وأسلمت نفسي إلى نوم عميق

يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي



#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معلم في القرية /7
- معلم في القرية /6
- معلم في القرية /5
- معلم في القرية /4
- معلم في القرية /3
- الحل ليس بإعادة الانتخابات في العراق!؟
- معلم في القرية /2
- معلم في القرية/1
- نداء لتشكيل برلمان ظل عراقي
- وعي المواطن!؟
- تصحيح بعض المعلومات في مقالة الأستاذ فائز الحيدر (اتحاد الطل ...
- استغلال المناصب الحكومية للدعاية!
- تكتل جديد (تجمع الشعب لمحاربة المفسدين والامتيازات)!
- أشتات /2
- هل حقاً من رفع شعار (بناء دولة القانون) يقف ضد مسائلة وزيره! ...
- مبروك جوازاتكم الدبلوماسية! إنجاز كله شهامة وغيرة وشعور بالم ...
- أشتات/1
- من تراث الراحل علي محمد الشبيبي/ في زحمة الخطوب 8
- كيف تلقى والدي خبر حكم الإعدام بشقيقه حسين الشبيبي (صارم)
- من تراث الراحل علي محمد الشبيبي/ في زحمة الخطوب 7


المزيد.....




- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...
- زاخاروفا: إستونيا تتجه إلى-نظام شمولي-
- الإعلام الحربي في حزب الله اللبناني ينشر ملخص عملياته خلال ا ...
- الدرك المغربي يطلق النار على كلب لإنقاذ فتاة قاصر مختطفة
- تنديد فلسطيني بالفيتو الأمريكي
- أردوغان ينتقد الفيتو الأمريكي
- كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي
- تظاهرات بمحيط سفارة إسرائيل في عمان


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - معلم في القرية/ 8