أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - الاستفتاء السوداني والفيدرالية الكردية















المزيد.....


الاستفتاء السوداني والفيدرالية الكردية


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3202 - 2010 / 12 / 1 - 18:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


خارطة طريق جديدة
الاستفتاء السوداني والفيدرالية الكردية * :
ديناميكية حق تقرير المصير بين الوصل والفصل
يثير موضوع الاستفتاء حول مصير جنوب السودان الذي سيجري في 9 كانون الثاني (يناير) 2011 تعارضات واختلافات شديدة، لا بين أهل الشمال وأهل الجنوب والنخب السياسية والفكرية والثقافية السودانية فحسب، بل بين من يريد التغيير بأي ثمن بزعم أن الانفصال أصبح أمراً واقعاً، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً ونفسياً، لدرجة إن ما ينقصه هو مجرد الإعلان عن قيام كيان جديد والعمل لاستكمال مهماته الواقعية، وبين من يؤيد إبقاء الحال على ما هو عليه، على الرغم من أن المعاناة التي يعانيها قسم من السكان أصبحت لا تُحتمل حسب تقديرات هذا الفريق، لاسيما أن الحلول المطروحة حتى الآن وصلت إلى طريق مسدود، وخاصة الحل العسكري الذي جرّبته الحكومات المتعاقبة دون أن تتمكن من القضاء على الحركة الجنوبية أو تخفيض سقف مطالبها، كما لم تتمكن الحركة الجنوبية تحقيق أهدافها بالوسائل العسكرية، لكن التعايش أصبح قاسياً ومُكلفاً في ظل شكوك وارتيابات وتناقض مصالح وتعارض امتيازات!.
وكنتُ قد طرحت سؤالاً واضحاً على الرئيس السوداني عمر حسن البشير: وماذا بعد فشل الحلول العسكرية والاتفاقيات على توزيع الصلاحيات والثروة والسلطة؟ وذلك في لقاء خاص ضمّ نخبة من المثقفين العرب 2001 في الخرطوم نقله التلفزيون السوداني وتلفزيون المستقلة في بث مباشر وحوار مفتوح دام ثلاث ساعات، فكان رأيه إذا وصلنا إلى طريق مسدود، فلن يكون غير الاستفتاء، حتى لو تقرر به الانفصال!!، فلم تعد الدعوات حول الفيدرالية والوحدة الوطنية مُجزية بعد تجارب عديدة مريرة، وبعد استقطابات واصطفافات، ليست بمعزل عن تداخل قوى خارجية، على الرغم من أن جوهر المشكلة ومآلها يبقى سودانياً بامتياز.
وعشية استقلال السودان بدأت مطالب الجنوب بالتبلور، لاسيما من خلال العمل المسلّح، حيث بدأت المرحلة الأولى في آب (أغسطس) 1955 وتوقفت في آذار (مارس) 1972، حين أقرّت اتفاقية أديس أبابا " الحكم الذاتي" للجنوبيين، لكن هذه الاتفاقية كفّت من أن تكون عاملاً مساعداً للحل، خصوصاً بعد اندلاع التمرد الثاني في أيار (مايو) 1983 والذي استمرّ لغاية كانون الثاني (يناير) 2005 حيث تم التوقيع على اتفاقية نيفاشا بين العقيد جون غارانغ والرئيس عمر البشير، لكن هذه الاتفاقية ظلّت قلقة وغير مطبّقة في ظل عدم ثقة بين الخرطوم وجوبا، وزادها التدخل الدولي حدّة، وخصوصاً بتصاعد أعمال القمع والانتهاكات السافرة لحقوق الانسان التي راح ضحيتها عشرات الآلاف في دارفور والتي تركت تأثيراتها على مئات الآلاف من السودانيين، لاسيما من سكان الإقليم وسكان الجنوب بشكل عام.
وكنت قد كتبتُ في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 25/8/2010 مقالة بعنوان "كوسوفو وقرار محكمة لاهاي: أي دلالة مستقبلية؟" وعدتُ لمناقشة هذا الأمر حول بلجيكا في ذات الصحيفة بتاريخ 22/9/2010 تحت عنوان "هل بات انقسام بلجيكا وشيكاً؟" بالمقارنة والمقاربة لديناميكية حق تقرير المصير بما فيها الانفصال الذي شاع بعد انتهاء عهد الحرب الباردة ونظام القطبية الثنائية، بانهيار النظام الاشتراكي العالمي، وخصوصاً غياب حلقته المركزية الاتحاد السوفييتي، ملمّحاً تارة ومفصحاً أخرى عن حالات كثيرة، وخاصة حول وضع جنوب السودان ووضع الأكراد في العراق وبقية أجزاء كردستان، فلم تعد الأنظمة الشمولية وحدها معرّضة للانقسام كما كنّا نعتقد لأسباب إثنية وقومية ودينية، بل أن أنظمة ديمقراطية عريقة، وفوق ذلك فيدرالية قد تتعرض، للانقسام أيضاً، لكن الفرق بيننا وبينها أنها تتوصل الى الحلول بطريقة سلمية وحضارية (مدنية ولا عنفية)، لاسيما باستبعاد الحرب والنزاعات المسلحة، في حين أن نار العداوة والبغضاء تستمر معنا دون أن تقينا "شرور" الانفصال أو تمكّننا من التمتع "ببركات" الوحدة، ونكون قد استنفذنا قوانا بصراعات مسلحة لا طائل منها.
وإذا كانت البيئة الدولية في فترة الحرب الباردة غير مشجّعة على الانقسام، فإنها قد أصبحت على العكس من ذلك، لاسيما بتحوّل الصراع الأيديولوجي من شكل إلى آخر جديد، حيث شهد العالم قيام دول جديدة وإنقسام كيانات، سواءً على نحو حضاري وسلمي، كما حدث في الانقسام المخملي بين التشيك والسلوفاك في الأول من كانون الثاني (يناير) 1993 بعد فيدرالية دامت عقود من الزمان، أو جرّاء حروب ونزاعات وأعمال عنف ودماء غزيرة وانتهاكات سافرة لحقوق الانسان ولقواعد القانون الدولي الانساني، لاسيما لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، كما حدث في يوغسلافيا وبعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة.
أحسب أن الرأي العام العربي منقسم على نحو حاد لدرجة التأثيم والتجريم إزاء موضوع جنوب السودان بين مقدِّس ومدنِّس وبين مؤيّد ومندّد، بحيث غدت المشكلة مستعصية لا يمكن حلّها، وبات التدخل الخارجي، باسم الأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية أو التدخل الانساني تحت يافطة دارفور، تحصيل حاصل طالما وصلت أوضاع السودان الى ما هو عليه الآن، ولأن جميع الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها بين الشمال والجنوب أصبحت من مخلّفات الماضي، باستثناء الاستفتاء حول الوحدة والانفصال، فلم يعد من مناص سوى قبول نتائجه، طالما تقرر من الطرفين ولا يمكن التنصّل عنه، وإلاّ سيعني أننا نعود الى المربع الأول، ولن يعني ذلك سوى اندلاع حرب لا قدر للشماليين أو الجنوبيين على تحمّل نتائجها الكارثية، وذلك سيعني خسارة مضاعفة، وتبديد طاقات وثروات، والأهم من ذلك الخسارة البشرية الفادحة، حيث ما زال السودانيون يعانون من تبعات التخلف والتصحّر والفقر وسوء توزيع الثروة، ناهيكم عن شحّ الحقوق والحريات، وخصوصاً تعطّل التنمية واستشراء البطالة وسوء الخدمات الصحية والتعليمية، خصوصاً لسكان الجنوب.
لقد حصلت السودان على استقلالها في العام 1956، وكان ممكناً صياغة عقد اجتماعي سياسي دستوري بين سكان الشمال والجنوب عبر نخبهما، باحترام الخصوصيات والتنوّع الثقافي والسلالي واللغوي والديني، بتوفير مستلزمات المشترك الانساني، وخصوصاً حقوق المواطنة الكاملة والمتساوية على قاعدة الحرية والمشاركة والعدالة والهوية الجامعة العامة، مع الاحتفاظ بالهويات الفرعية، التي يمكن أن تكون عامل رفد للهوية الوطنية المتعددة والمتنوّعة والموحدة في الآن ذاته، أما وقد وصلنا الى حالة العجز، فلا يمكن ندب الحظ أو لوم الآخرين، لاسيما القوى الاستعمارية والجهات الخارجية، التي تريد إضعاف الوحدة السودانية، وهو الأمر الذي لا يمكن إنكاره، لكن المشكلة أعمق من ذلك بكثير، حيث استفحلت لدرجة طاغية وأصبح الخراب شاملاً والحلّ في الوحدة المأمولة بعيد المنال، بل ومفقوداً، كما أن عوامل الجذب الطوعية الاختيارية أصبحت بعيدة أو طريقها غير سالكة، وعلى أية حال فإن نتائج الاستفتاء ستظهر الحقيقة كما يريدها أهل الشمال والجنوب دون قناع أو ماكياج.
لعل الجديد في الموضوع السوداني هو السابقة القانونية الدولية التي يمكن التأسيس عليها، وأعني بذلك قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي التابعة للأمم المتحدة حين قررت في 24 تموز (يوليو) 2010 بأن انفصال كوسوفو لا يتعارض مع قواعد القانون الدولي، الأمر الذي أعطى انفصال كوسوفو عن صربيا "شرعية قانونية دولية"، وقد ارتفع عدد الدول التي اعترفت بها الى 69 دولة على الرغم من معارضة صربيا وروسيا لأسباب قومية ودينية وسياسية. وأظن أن هذه السابقة سيتم البناء عليها، خصوصاً وأن الكثير من الاصطفافات والاستقطابات القومية والدينية ستكون متحفّزة للسير في هديها.
أعتقد أن الانقسام والاصطفاف بشأن الوضع السوداني قائم وسيتعمّق وقد يمتدّ الى أقطار ودول مختلفة، خصوصاً بين التيار الداعي الى "الوحدة بأي ثمن"، والتيار الداعي الى "الانفصال بأي ثمن"، لاسيما إذا وهنت امكانات العيش المشترك، الأمرالذي يتطلب وضع حلول ومعالجات جديدة، فما السبيل لحل المشكلة الجنوبية، وخصوصاً إذا كان بقاء الجنوب في كنف الدولة القائمة غير ممكن؟
فإمّا الحرب التي ستكون نتائجها فجائعية أكثر بكثير من الستينيات والسبعينيات والتي دامت أكثر من 5 عقود من الزمان، أو القبول بالأمر الواقع والذي أصبح واقعاً منذ سنوات، أي القبول بالطلاق ولو على مضض باعتباره أهون الشرّين، إذا كان الخيار الثاني هو الحرب والاقتتال والنزاع المسلح، خصوصاً وأن الاتحاد الاختياري الطوعي، تحوّل الى هيمنة واستعلاء ولم يفضِ الى احترام الحقوق وتأمين المواطنة المتساوية والكاملة حسبما يبدو.
وإذا كان استفتاء الجنوب السوداني سيؤدي الى الانفصال في أغلب الظن فإن مثل هذه النتائج ستكون حافزاً مشجعاً لشعوب ظلّت تطمح الى إقتناص اللحظة التاريخية للتمكّن من حقها في تقرير مصيرها، وهو ما سترنو اليه الانظار في "كردستان" العراق، ولدى أكراد إيران وأكراد تركيا وأكراد سوريا، وإنْ كان الأمر بدرجات متفاوتة، وسنكون في هذه الحال أمام ديناميكية انفصالية، خصوصاً وأن هذه البلدان لم تتمكن من حل المشكلة القومية تاريخياً، والتي أدّت الى تفاقمها وسبّبت في أزمة الكيانات القائمة، وسيكون الخيار قاسياً أيضاً، فإمّا وحدة قسرية على حساب الحقوق والخصوصيات والهويات الفرعية، أو الانفصال وتكوين كيانات أو دول مستقلة في إطار حق تقرير المصير، كحق قانوني ودستوري تقرّه قواعد القانون الدولي ومواثيق حقوق الانسان وشرعته الدولية، فضلاً عن ميثاق الأمم المتحدة، لكن مثل هذا الأمر ليس عائماً أو مطلقاً، فهو مرهون بظروف النضال المشترك ومصلحة شعوب المنطقة، فضلاً عن مستقبلها، لاسيما تنميتها واستقلالها وتقدمها!
وفي مقاربة موضوع جنوب السودان بالمسألة الكردية، فيمكن القول: أن الدولة العراقية عانت منذ تأسيسها في 23 آب (أغسطس) العام 1921 وقبلها من مشكلة كردية لم تجد طريقها للحل، لاسيما بعد إبطال معاهدة سيفر لعام 1920، التي أقرّت بجزء من حقوق الأكراد بعد انحلال الدولة العثمانية وانتهاء الحرب العالمية الأولى، بإبرام معاهدة لوزان العام 1923، حيث طوي الملف الدولي للقضية الكردية من بساط البحث بمساومة دولية، ولكن ثورات الشعب الكردي وتمرداته لم تتوقف فبعد ثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية العام 1919، كانت هناك الانتفاضات الكردية، وخصوصاً في الاربعينيات، بقيادة الملاّ مصطفى البارزاني الزعيم الأكثر نفوذاً للكرد على مرّ تاريخهم الحديث، والذي ساهم في جمهورية مهاباد في العام 1946-1947، واضطر للهروب الى الاتحاد السوفيتي وعاش هناك نحو 12 عاماً، وعاد الى العراق في العام 1958 بعد نجاح ثورة 14 تموز (يوليو) واستقبل استقبالاً شعبياً حافلاً، وكان قد قابل الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة قبل عودته الى العراق وفي طريقه الى بغداد، في إشارة معبّرة عن العلاقات العربية- الكردية.
وحين اندلعت الثورة الكردية في 11 أيلول (سبتمبر) 1961 بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني كان البارزاني على رأسها، وحصلت هدنة مع الحكم البعثي الأول إثر سقوط الزعيم عبد الكريم قاسم في العام 1963 بعد انقلاب 8 شباط (فبراير)، لكن هذه الهدنة كانت قلقة وسرعان ما انهارت، وقرر الانقلابيون الاجهاز على الثورة الكردية للقضاء عليها، في "نزهة عسكرية" على حد تعبير صالح مهدي عماش في حينها، لكن حركة 8 شباط (فبراير) سرعان ما أطيح بها في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام ذاته، وجرت مفاوضات جديدة بين الحركة الكردية والحكم العارفي الأول والثاني، حيث تكللت باتفاقية 29 حزيران (يونيو) 1966 التي وقّعها الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء العراقي آنذاك، إضافة الى قيادة الحركة الكردية.
ولم تستطع تلك الاتفاقية وبيان (اتفاقية) 11 آذار (مارس) العام 1970 التي أعقبتها على الرغم من إيجابياتها الكثيرة، وخصوصاً الاعتراف بالشعب الكردي وحقه في الحكم الذاتي من التوصل الى حل سلمي ديمقراطي عادل للقضية الكردية، خاصة في ظل ضعف الثقة أو انعدامها وممارسات سلبية وأعمال قمع واضطهاد وتجاوز على الحقوق والحريات، وكذلك في ظل تداخلات أقليمية ودولية، ليس بمعزل عن نفوذ إيراني وأمريكي واسرائيلي في ظل صراع دولي حاد، كان الكرد أكثر ضحاياه.
وقد كان لاتفاقية الجزائر الموقعة في 6 آذار (مارس) 1975 بين شاه ايران وصدام حسين أثره الكبير في انهيار الحركة الكردية بعد قطع المساعدات عنها وبعد مساومات دولية كان الكرد أكثر من دفع ثمنها باهظاً، وقد سعت الحركة الكردية عشية الحرب العراقية- الايرانية لإحياء نشاطها وكفاحها عبر لملمة صفوفها، وخاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني وانبثاق حزب جديد باسم " الاتحاد الوطني الكردستاني" بزعامة جلال الطالباني في أواسط السبعينيات. وكانت المنطقة الكردية ساحة عمليات حربية خلال سنوات الحرب التي دامت ثمان سنوات 1980-1988.
وبعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب (اغسطس) العام 1990، عادت القضية الكردية الى الأروقة الدولية وذلك بصدور القرار 688 الخاص بكفالة احترام حقوق الانسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين ووقف القمع الذي تعرّضت له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق. وكان صدور القرار 688 في 5 نيسان (ابريل) 1991 إيذاناً بإقرار الأمم المتحدة مبدأً جديداً في العلاقات الدولية وهو الذي عُرف بمبدأ " التدخل الانساني"، والذي أثار جدلاً فقهياً دستورياً ودولياً بدأ ولم ينقطع حتى الآن، لاسيما علاقته بمبدأ السيادة ومبدأ عدم التدخل بالشؤون الداخلية، خصوصاً تطبيقاته ذات الطبيعة الانتقائية ولسياسات الازدواجية ذات الوجهين أو أكثر من ذلك، خاصة اقترانه بالتدخل العسكري وشنّ الحرب، الأمر الذي أثار حفيظة الكثير من البلدان والشعوب ضده، بما فيها ردود معكوسة بالضد من مسألة التوظيف السياسي من جانب القوى المتنفذة في العلاقات الدولية، وأحياناً بنظرة هي الأخرى لا تخلو من انتقائية سياسية وازدواجية في المعايير، وعلى أي حال فقد كان لصدور القرار أثره في إقرار مبدأ التدخل الانساني، تحت باب الأمر الواقع في العام 1991، حيث تم على أساسه فرض خط العرض 36 " الملاذ الآمن Safe haven" وفيما بعد الحظر الجوي No Fly Zone (لجنوب العراق).
لعل تحالفات الحركة الجنوبية السودانية فيه الكثير من عناصر الشبه بالحركة الكردية العراقية، فكلاهما تحالف سابقاً مع السوفييت، ثم اضطرتهما الظروف الى تغيير تحالفاتهما، لاسيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، الى التحالف مع الأمريكان، وكلاهما ضغطت عليه العوامل الإقليمية والقوى والدول المتنفذة فاضطر الى تقديم تنازلات، لاسيما عندما كانت تضعف مواقفه فيستعين بالجوار الاقليمي، المعادي للحاكم المحلي ويستقوي عليه أحياناً بالدعم الخارجي، خصوصاً عندما تضيق فرص الحلّ الداخلي.
وإذا كان سقوط دكتاتورية صدام حسين في العام 2003 ووقوع العراق تحت الاحتلال قاد الى مساهمة فاعلة للحركة الكردية، فإن الجنوبيين السودانيين بعد اتفاقية نيفاشا في السودان العام 2005 تمكنوا من لعب دور أكبر في سلطة الخرطوم، حتى غدت الفيدرالية أو الحكم الذاتي أقرب الى " دولة مستقلة" في جنوب السودان مثلما هي في شمال العراق كردستان، وهو الأمر الذي جعل الخرائط الجديدة تصعد من تحت الطاولة الى فوقها، خصوصاً وقد كان مشروع جو بايدن لتحويل العراق الى فيدراليات ثلاث هي أقرب الى الكونفدرالية، وذلك قبل أن يصبح نائباً للرئيس أوباما، وكان قد طرح مشروعه في أيلول (سبتمبر) 2007، لكن اخفاق المشروع الامريكي في العراق ووجود ممانعات وكوابح إيرانية وسورية وتركية فضلاً عن سعودية وأردنية ومصرية جعل الخرائط الجديدة مؤجلة، وكانت الدول الثلاث الأولى تجتمع منذ أوائل التسعينيات على نحو دائم ومبرمج للوقوف ضد مشروع دولة كردية محتملة، وخوفاً من إنتقال عدوى الانفصالية اليهم.
وإذا كانت جمهورية مهاباد قد سقطت جرّاء مقايضة سوفيتية بين ستالين، الذي اعترف ببسط النفوذ الايراني على أراضي إيران بصورتها الحالية بما فيها كردستان مقابل الاعتراف الغربي بخرائطه الجديدة في أوروبا الشرقية والوسطى، فإن مثل هذا العامل قد يُستعاض عنه اليوم بعامل اقليمي لا ينبغي تقليل أهميته أو الاستخفاف به مهما بدى العامل الدولي مؤثراً، إذ لا بدّ أن يؤخذ العامل الاقليمي المتحرّك بنظر الاعتبار، وهو عامل مستفزٌ ومستنفرٌ لكل ديناميكية خاصة بحق تقرير المصير ويعتبر ذلك انفصالية لا يمكن السكوت عنها، خصوصاً في ظل وحدة مواقف الدول الثلاث.
إن واشنطن بعد ما حصل في كابول العام 2001 وبغداد العام 2003 وحتى اليوم تشعر بصعوبة في قراءة الخرائط الجديدة، من أوروبا الى آسيا، بعد يوغسلافيا وأسيا الوسطى واليمن وكشمير والتاميل في سريلانكا والقاعدة في الباكستان وعلى امتداد المنطقة، وغيرها على الرغم من أن الوضع السوداني أصبح مبرمجاً على شكل آخر، ففي المنطقة استقلت إريتريا في 24 أيار (مايو) 1993، وأن بيئة أوغندا وكينيا وإثيوبيا وإرتريا حتى حربها مع أديس أبابا العام 1998 كانت حاضنة للتمرد الجنوبي ضد حكومة الخرطوم، لاسيما بدعم سيلفا كيير بعد مقتل جون غارانغ في حادث غامض إثر سقوط طائرته في تموز (يوليو) 2005.
ان الاستفتاء السوداني أقرب الى خارطة طريق جديدة كما نوّهت الى ذلك هيلاري كلينتون وزيرة خارجية واشنطن، ولذلك تؤيد الولايات المتحدة بناء خط عازل بين الشمال والجنوب وهو أقرب الى حدود دولة وما يستتبع ذلك من مشكلات، وخصوصاً موضوع النفط الذي يقع نحو 80% من احتياطياته في جنوب السودان، لاسيما بعد الرعاية الدولية القانونية لاستقلال كوسوفو عن صربيا في شباط (فبراير) 2009، وهو الأمر الذي نظرت اليه واشنطن بتردد بعد ورود تصريحات لممثل الأمين العام للأمم المتحدة إد ميلكارت في العراق، بشأن ما سمّي بالمناطق المتنازع عليها وبناء حدود عازلة.
إذا كانت الوحدة بحاجة الى نصوص دستورية واتفاقيات سياسية سواءً بين الشماليين والجنوبيين في السودان أو الكرد والحكومات العراقية المتعاقبة، فإن الانفصال بحاجة الى إتفاقيات وإلتزامات، خصوصاً إذا تعذّر العيش في وحدة قسرية أو لشعور فريق بالغبن والاجحاف وهضم الحقوق، والفارق بين انفصال وآخر، فقد يكون الانفصال سلمياً ومدنياً ولا عنفياً، وقد يبدأ بالصراع والاقتتال والاحتراب وينتهي سلمياً كأمر اضطراري، وهي النتيجة التي لا بدّ من الوصول اليها فيما إذا أراد الطرفان تنظيم انفصالهما أو وحدتهما، والاّ فإن الحرب لن تضع أوزارها وقد جرّب الفريقان مثل هذه الاختيارات، لكنهما فشلا في تحقيق ما يريدانه.
وعلى الرغم من النصوص الوحدوية الكثيرة، فإنها في الممارسة العملية ظلّت حبراً على ورق في غالب الاحيان أو جمّدت، خصوصاً في ظل انعدام الثقة وارتفاع وتيرة القمع وتفاقم التداخلات الاقليمية والدولية، الأمر الذي يعني أن أية اتفاقيات جديدة، سواءً بالوحدة أو بالانفصال، لا بدّ أن تكون دقيقة وتأخذ المصالح المشتركة بنظر الاعتبار، لاسيما وضع حدِّ للنزاعات وتعزيز المشترك الانساني بين الطرفين، حتى وإن حصل الافتراق.
وإذا أشرنا الى بعض النصوص الدستورية الايجابية التي وجدت طريقها الدستور السوداني واتفاقيات أديس أبابا ونيفاشا، فإن هذه النصوص كانت متميّزة في الحالة الكردية العراقية، حين نصّ دستور العام 1958 على "شراكة العرب والأكراد" وفيما بعد دستور العام 1970 الذي اعترف بأن الشعب العراقي مؤلف من قوميتين رئيستين هما العرب والأكراد، والذي أعقب اتفاقية 11 آذار حول الحكم الذاتي الذي سنّ على أساسها قانون بالاسم ذاته 1974، لكن تجدد القتال وشنّ الحرب على الكرد وعمليات الابادة التي تعرّضوا لها تركت ذكريات مأسوية ومؤلمة، بما فيها قصف حلبجة بالسلاح الكيماوي وعملية الأنفال التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من المواطنين الأكراد، إضافة الى عمليات تهجير وإجلاء سكاني وتدمير قرى وقصبات بأكملها، فضلاً عن محاولات لتغيير التركيب السكاني والواقع القومي في بعض المناطق، ولعل انعكاسات ذلك وردود الفعل بشأنه ما زالت قائمة في بعض مناطق الاحتكاك مثل كركوك والموصل وديالى وبعض أجزاء محافظة صلاح الدين وغيرها.
وبعد وقوع العراق تحت الاحتلال في 9 نيسان (ابريل) 2003، طرحت القوى الكردية مجدداً موضوع الاتحاد الفيدرالي الذي سبق لبرلمان كردستان أن تبنّاه في العام 1992 من طرف واحد، وجرى تثبيت ذلك لاحقاً في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية (الدستور المؤقت) في العام 2004، مثلما تبنّى الدستور العراقي (الدائم) النافذ في العام 2005 مبدأ الاتحاد الفيدرالي، لكن هذه النصوص لم تنهِ استمرار الاحتدام وعدم الثقة وظلّت الكثير من المشاكل عالقة، وهو ما أطلق عليه " المناطق المتنازع عليها".
وقد أصبحت المادة 58 من قانون إدارة الدولة التي تم ترحيلها الى الدستور الدائم وأخذت تُعرف بالمادة 140 شغلاً شاغلاً للجان تعويضية وإحصائية وفرق عمل ومجالات تنافس واستقطابات كردية وعربية وتركمانية، خصوصاً في ظل ضعف هيبة الدولة وعدم استكمال قيام المؤسسات الاتحادية (الفيدرالية)، الأمر سيعاظم من نزعات التباعد والتنافر بدلاً من التقارب والتعايش، بغض النظر عن الملاحظات السلبية والألغام التي احتواها الدستور أو بعض المواد الايجابية بشأن المواطنة والحريات واحترام حقوق الانسان، وهي مواد نظرية، تقابلها مواد أخرى تعطّلها.
إن الاستفتاء السوداني مثل حال تيمور الشرقية وكوسوفو سيكون عنصر تشجيع معلن وغير معلن للدول المتعددة القوميات والتكوينات الثقافية، إذا سمحت به الظروف، خصوصاً التفكير بطور أرقى قد يصل الى كيان مستقل (دولة) فيما إذا أصبح العيش المشترك مستحيلاً، عبر الطموح المشروع في إطار حق تقرير المصير وإقامة كيان خاص، أو الاندفاع في تعظيم العامل الذاتي على حساب العامل الموضوعي، أو الرغبة في فضّ النزاع والقلق المستمر من خلال حسم الأمور بما يؤدي الى قيام كيان مستقل.
ان الدرس السوداني الجنوبي وغيره يؤكد على نحو لا لبس فيه أو غموض أن نظاماً يلبّي الحقوق ويقرّ بمبادئ المواطنة المتساوية والكاملة، ويحترم الهويات الفرعية سيكون أساساً سليماً للوحدة الجاذبة الطوعية، الاختيارية، طبقاً لمبدأ حق تقريرالمصير، وعلى العكس من ذلك، فإن أية وحدة لن تدوم ما دام الفريق المُضطَهد تاريخياً، يعتقد بانعدام المساواة وبالحيف والغبن، فضلاً عن الرغبة في التمكّن من التعبير عن حقوق أصيلة لا تتعارض مع القوانين الدولية وتقرّ بها المبادئ الدستورية العامة للدولة العصرية والشرعة الدولية لحقوق الانسان، عندها سيكون الأمر الواقع واقعاً.
ان السبيل القويم للحفاظ على وحدة وطنية سليمة يتطلب الإقرار بالحقوق الانسانية والتعددية والتنوّع الثقافي، وبالمساواة والمواطنة الكاملة، القائمة على العدل وأولاً وقبل كل شيء احترام إرادة البشر وحقهم في تقرير مصيرهم بحرية ودون إكراه.
ـــــــــــــــــ



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحديات التنمية.. التربية والمواطنة
- حرب العملات!
- بوش وفنتازيا -نقاط حاسمة-
- الوطن والمواطنة: أية علاقة؟
- هل يحتاج الفقراء إلى «التمكين القانوني» ليتخلصوا من آفة الفق ...
- طاولة واحدة للتوافق الموعود
- المبادرة نداء حقيقي وضع العراقيين أمام مسؤولياتهم التاريخية ...
- «ويكيليكس» .. حقائق خلف القناع
- تسريبات ويكيليكس.. الوجه الآخر للمأساة العراقية
- التربية على المواطنة موضوع الفكر العربي المعاصر
- ماذا بعد تفريغ المنطقة من المسيحيين ؟!
- لا هوية موحدة دون احترام الهويات الفرعية
- الاستفتاء السوداني والمقاربة الكردية
- الجواهري - جدل الشعر والحياة
- هجرة المسيحيين .. افتراضات الصراع واشتراطات الهوية!
- المقال والمآل فيما كتبه جهاد الزين ومناقشتا صلاح بدر الدين و ...
- المسيحيون والمواطنة وناقوس الخطر
- حوار عربي صيني حول الماضي والحاضر والمستقبل
- “إسرائيل” دولة نووية هل يصبح الأمر الواقع واقعاً؟
- ازدواجية المعايير وانتقائية المقاييس وسياسة الهيمنة!


المزيد.....




- -الطلاب على استعداد لوضع حياتهم المهنية على المحكّ من أجل ف ...
- امتداد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جدي ...
- توجيه الاتهام إلى خمسة مراهقين في أستراليا إثر عمليات لمكافح ...
- علييف: لن نزود كييف بالسلاح رغم مناشداتها
- بعد 48 ساعة من الحر الشديد.. الأرصاد المصرية تكشف تطورات مهم ...
- مشكلة فنية تؤدي إلى إغلاق المجال الجوي لجنوب النرويج وتأخير ...
- رئيس الأركان البريطاني: الضربات الروسية للأهداف البعيدة في أ ...
- تركيا.. أحكام بالسجن المطوّل على المدانين بالتسبب بحادث قطار ...
- عواصف رملية تضرب عدة مناطق في روسيا (فيديو)
- لوكاشينكو يحذر أوكرانيا من زوالها كدولة إن لم تقدم على التفا ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - الاستفتاء السوداني والفيدرالية الكردية