أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نرين طلعت حاج محمود - حكاية عن بَاتر















المزيد.....



حكاية عن بَاتر


نرين طلعت حاج محمود

الحوار المتمدن-العدد: 954 - 2004 / 9 / 12 - 10:37
المحور: الادب والفن
    


ولِدتَ يا باتر وشعاعُ ابتسامة تغرد عند زاوية فمك, فهل تنتظر الأْطفال الباكين حياة شقاء و تنتظرك حياة كلها بهجة و سرور.
حين وَلِدتكَ أُمك يا بَاتَرْ, هطلت ثلوج السماء أزهارا وياسمينا, صفقت طيور الحمام بأجنحتها و زقزقت على أطراف النوافذ عصافير.
و أنت يا باتر كُلّك نور, جبينك ضياء, شعرك طيور صغيرة فرحة بدفئها, نظرات عينيك هادئةكاللؤلؤِ المنثور على وشاح من حرير.
ضحكتك كافور و عنبر و كلماتك قطع ثمينة من السكر و غناؤك حُلو. حُلو.... كثلوج الجبال على أطباق العسل.
يداكَ شموس و أقمار و ابتسامتك سماء, وقلبك ياقوت محمول على مرمر.
قلائدُ قد أُنيطت بك يا بَاتَرْ........ حتى أطراف أقدامك موشحة بالذهب مطرزة بالفضة..... مرصعة بالزمرد.... و الأحجار الكريمة صقلت لأْجلك أنت.
و هم يعلمون حقا أنك ذهب و فضة و هم يعرفونك حين تفتح فاك فان كل كلماتك صدق و نواياك نقاء, و عذبة عذبة أحاديثك, و هم يأتونك فيغسلون ما في قلوبهم من قارٍ بثلوجك و أنت كالنبع الغزير لا ينضب ماؤه أبدا.
و أنت يا كثير الأعطيات سوف تمنح سألوك أو لم يسألوك...
فلماذا تراهم سينفونك يوما و لماذا تراهم ينبذونك...
و أنت ولدتَ فرحاً و أطفال هذا العالم يولدون باكين, فلماذا ستعرف حياتك الشقاء, ولماذا ستموت كشريد البراري مجرجرا جراحك و شقائك...
و أنا كنت هناك ورأيت كل شيء, وأنا كنت أطوف فوق رؤوسهم جميعا ورأيت جسدك ملطخا على أذرع أمك و أبيك, و أبصرت روحك تنسحب عنهم فرحة بإنعتاقها و رأيت الجمع الملتف حول أمك الباكية و أبيك و رأيت قلوبهم سوداء كالقار و رأيت عيونهم متماهية كالغبار, وكنت أبكي ممزقة بين جسدك و بين قلبي أمك و أبيك...
و هم سوف يذلونك و يضربونك و يدوسون فوق جسدك وأنت أيها الأعزل سوف تخسر معارك لم تشنها
على أحد وهم طامعون مسلحون و سوف ينتصرون وأنت لم تكن تلوي على خسارتك وعلى انتصارهم و أنا لم أكن أدرك لماذا أنت لا تلوي على شيء
ولأنك كلك ثمين و كلك ثروة.... ولأنك لا تمنع شيئا, فقد أسميتك يا كثير الأعطيات يا ممجدا وأنت سوف تعيش أياما كثيرة مهجرا ذليلا منسيا أعزلا.
و أنت يا وحيد والديك الطيبين حين كنت صبيا صغيرا.... كنت تلاعب الأرانب في البساتين و مع طيور السماء تلهو عيناك و يفرح قلبك فتحلق و تطير, و كنت تجمع حبات الحنطة عن البيادر لتقدمها لمساكن النمل ومع صغار العصافير تفقس كل يوم في فجر جديد.
وأنا حين عرفتك صغيرا, أَسميتكَ يا منزها لأنك كنت تحبهم و هم كانوا يبغضونك.
وكنت تكبر يوما بيوم وحين أنجبتَ خمس عشرة شمساً..... حاكت لك العذارى و ألبسنك أثواب الحرير.... و رفعن الغار على رأسك و نثرن الريحان و النعناع على قدميك .
فصرت تمضي ساهما.. غائبا... في البساتين و البراري و الحقول فتكلم الأطيار و الشجر وتكلم الجداول و المطر....
و حين ترفع ذراعيك للسماء يتسابق إلى يديك الغمام و يحلق بين راحتيك الحمام... و تلعب الملائكة الطيبة على صدرك و كتفيك, و كنت تغفو فتفترش العشب الطري و تلتحف اخضرار الشجر, و تنتشر فيك كل يوم حياة من السماء فَتنسجك في نسيجها و تلتحم فيك.
و كنت تمشي حافيا فيصير التراب عند قدميك عنبرا و سوسنا و حتى كاحليك يا بَاتَرْ عاج مصقول و مرجان.
و هم كانوا ُيمارون و ُيقامرون و يَستشر سون و أنتَ ساهماً عن غنائمهم تخاطب نجوم السماء و تغزل فوق التلال خيوط القمر, و هم كانوا يحكمونك, حتى جعلوا منك قسماً على عهودهم و كنت تبتعد عن ئأرهم و نارهم و تعطي من ثلوجك ما يمحو قارهم فيأخذون و يمضون.
وهم لم يستطيعوا تفسيرك و تفسير بعدك عن مكاسبهم و غنائمهم, و لن يفسروك لأنهم لم يسمعوا يوما هدهدة السماء لنوم القمر, لم يصغوا يوما لصوت الريح تلامس الحجر و لا مداعبات النسيم لأوراق الشجر.....
وكنت يا بَاتَرْ شيئاً كغزلِ الحياةِ مع البشر.....
بسطت ذراعيك, و رفعت جبهتك و فتحت فمك تتلقى ماء السماء, و رقصت منتشيا و طفت مبللا ضاحكا في السهول متناغما مع إيقاع يمزج وضوح الحياة بغموض القدر....
كَرْكَرَ الجدول بدغدغة حبَّاتِ المطر و خجلت الأزهار و انتشى العشب بالحياة و تألق الاخضرار و اطمأنت روح العصافير لصلاتها بين أغصان الشجر.....
فلماذا المدينة حين تَسحُّ السماء مطرا تصير وحيدة حزينة....و أنت تحسها فتدركها و تستطيع تفسيرها.. و هم لم, و لن يستطيعوا أن يفسروك....
وأنت تعبرك الحياة فتتلقاها و تمتد فيك و تفيض و تتدفق و كما تأتيك تمنحها و أنت تدرك المدينة و اغترابها عن روح المطر .
و هم يجادلون و يقاتلون و يتملقون و لم يتساءلوا مرة من يستحق أن يحيا , البشر أم المدينة؟
فان قالت المدينة فما عساها تقول غير الكلمات البائسة الكئيبة ...
ثلاث تلال وأرض محصورة وأسوار وأحجار مرصوفة و بشر وصخب و أشياء شتى, و قلبها طرقات وأرصفة و أزقة و بضائع و حوانيت و مواخير ومتسولين وتائهين.....
و أنت مشدوه تشدك المدينة لقلب آلامها و بؤسها, لصرخات اضطرابها, لقاتليها و منبوذيها.....
وقفت وسط الأسواق مناديا متلفتا لكل الجهات: لماذا قاربتم بيوتكم وألغيتم المسافات و أنتم مُتكارهون مُتنافرون... تُصافحون بيمناكم و خناجركم بأكمامكم لا تَزرعون و لا تَحصدون, و َتجهضون ولا تلدون و تُشوهون ولا تَكبرون...
لا عاشت مدن تحجركم, لا عاشت مدن تشوهكم لا عاشت مدن تستعبدكم و تقتل الإنسان فيكم.
اجتمع عليك المتباغضون, واتحد المتكارهون فحاربوك ورجموك بكل سخافات ماضيهم و غيبياتهم و ما حفظوه صما من عباراتهم.... كرهوك و لمّا بعد يعرفوك, و قاتلوا كلماتك بخناجرهم القاسية التي لا تَقبل التآلف كالصخور و كالرمال لا تََتَعايش مع المطر......
و أخرجوك منبوذا من المدينة.....




الغيومُ الرماديةُ اِلتَحفتْهَاْ السماء, الأرض تَدثرت عُشبها و العصافير اِتحدت بآلهتها, و بكيتَ كثيرا يا باتر بكيتَ حتى أدركت أنك لست وحيدا و حتى ارتعشت أطرافك, و أحسست روح الله تطوف حولك, بكيت فرحا باحتوائكَ الحياة كلها بروحك, بكيت حتى صرتَ كأزهارِ ياسمين منثورة تحت سماء تفيضُ عطاءا و حبا, سماء تلتحف اللآلىء و المحار و البحر و المرجان.
و رأيتَ النور و الكواكب و السماوات كلها و أدركت الروح تسكن كل ما حولك..
مستسلما غائبا في رؤاك تتوسد صخرة تَتَوحدها, ثم تنتفض مذعورا و تركض تركض تحت الأغصان المرتخية, و فوق الأرض الثملة بخصبها...
أنتَ أيها الغر باتر, إلى أين تركض , أتخشى روح الله الذي أحبك, أتخشى روح الحياة التي تتآلفك,
أتخشى النور الذي احتواك , , ,
و تَجمد و تتلألأُ عيناك و تلتفت خَلفا فلا ترى خلفا, و تركض و تنظر أماما فلا ترى أماما و تتوحد كل الأشياء فيك...
أيها الغر باتر ... السماء تمطر حولك لؤلؤا و أضواءا و من كل صخرة و من كل جدول و من كل حيٍّ فيها يحتويك حبُُّ تنشره روح الله فيك....
إلى أين تركض... تقتحم الأبواب و توصدها تتقوقع زاويتك و تتدثر ها, نور الله لا يحبسه جدار, لا يوصده باب و لا يمنعه بشر.
هلمي إليه يا أمه و احتويه, ولدك ما زال غِراً فخذي إليكِ ارتجافه و بكاءه و احتضنيه...
أبصرته يا أماه.... أبصرته... نورا... أبصرته سماء.. أبصرته شعاعا مضيئا ينفطر بانشقاقات السحاب, أبصرته ندف تتهادى و تلامس الأرض فتصير نجوما....
أبصرته بانزلاق اللؤلؤ على أوراق الشجر....
أبصرته يا أماه في التلال المستلقية إئرَ بعضها ترتخي على أحضان الجبال, و تغمز للرياح, وتمنح وجهها للمطر.. رأيته في الغمام, في الهواء, في الطريق في السكون.....
ضميه يا أمه, و فكي أسر نحيبك و عري دموعك و أطلقيها و ابكيه.. ولدك ما زال غِرا و لن يخفي رؤاه, ابكيه كأنك أدركت أنك ستفقدينه....
من ينعتق من عبودية المدن تقتله البشر....
سيحوّم يوما في الآفاق و ينسكب خلال المسافة التي لن تدركيها بين السماء و الأرض فلا تنكري عليه موته استسلاما....
حين كنت لا تلوي على شيء لم أكن أنا أُدرك لماذا أنت لا تلوي على شيء
و حين و عيتُ و أدركتُ , كُنتَ قد انتشرت في الهواء و في السماء عطرا و عنبرا و ضياء...
من يسعى للتمجيد بين البشر لن يستوضح طريق السماء.
لن تمجد في المدن, وممجد أنت في الحياة... ممجد أنت بإنشاد العصافير فجرا على أطراف أعشاشها, ممجد أنت بقوافل الطيور تحط الرحال ثم تمضي متلاحقة باتجاه الأعالي... ممجد أنت بمسافات الشفق تُضِّيع الأسراب المهاجرة لتصبها في عالم جديد و دنيا جديدة.
لا تجزعي يا أم باتر و العبي بشعره الذهبي كما كنت دوما, دعيه يرقص فرحا و يلاحق الفراشات و يتعلق بدورب الطيور دعيه يركض و يلهو فيحلق و يطير...
لا تنهدي على كتف أبيه باكية و تماسكي و لا تجزعي عمن تروم الروح إليه, الحياة بأوشحة زرقاء و أطياف و ألوان شتى, الحياة بكل كنوزها و جمالها جاءته تمشي و تطوف حوله كي تأخذه و تتغلغل و تنتشر و تتوحد فيه, فتناغم إيقاعه بإيقاعها و جمالها... هاهو عاد يركض و يلهو فيحلق و يطير..
لا تحزني, فالأشياء في عالمه أبهج و الألوان أزهى, الأطيار أرشق و الأنهار أنقى و كل شيء في عينيه و روحه أنظف و كل أوقاته حلوة حلوة... مبهجة و لكنكم جميعا لا تدركون....



السحب الغاضبة واطِئة تنجر فوق الأرض و تطبق بأجنحتها القاتمة على حدود الأفق آتية تنذر بالأعاصير و الدمار.
تختنق أصوات العصافير و ترتعد الأشجار و تبقى الأزهار وحيدة لائذة بخوفها و صمتها تستجدي العتمة و الظلام, و هيهات, فالليل لا يمنع الدمار....
و فوق أطباق الغمام منازل و أطماع و تاريخ البشر,,
أسموه إلها ربما كان اسمه الأول مر دوخ و ربما آشور, و ربما كان يهوه و ربما و ربما, لا أعرف يقينا ما كان اسمه الأول.... كان يطمح أن يكون, يكون فلا يكونون...
و فوق السحاب القصر المهيب, قصر كل الآلهة العظام..
الإله مردوخ يدعي أنه إله كل المدن و يتقاسم مع موتْ غنائمهما من أسرار الموت و العدم.
وعند عرش أَنهُرْ إله المياه العذبة يحفر إله الطمع خندقا و يبعد الشاربين و يطبق على أنهر حصار و يضرب عليه بالنار و الرمال, و يمنع عنه بالمال و التهديد و الإذلال, يهب أنهر و يُغرق الخندق ماء فتصير خنادق و تفيض الخنادق مياها فيرمي عليه إله الطمع الإسفلت و الرمال فتصير الخنادق وحولا لتهوي بأنهر إلى الدمار و تشتعل النار في أرجل العرش فيدفع أنهر الهزيمة عنه بالمياه فتصير وحولا و لا تنطفىء النار, و ينقض عليه موتْ من الخلف خنقا... يتحشرج أنهر بكلماته مذهولا و الأسئلة في عينيه.. لماذا يقتل العطاشى ساقيهم... لماذا و قد أفضت الماء العذب في كل الحقول و أجريته رقراقا سلسبيلا فوق الصخور فيه خلود أنفس و فيه خلود أرواح عطشى....
هذا زمان المدن الكبيرة و العظمة و ليس للمسالمين إلا الاحتضار.....
يشد موت أكثر وأكثر حتى ترتخي الأعضاء, و يقبض إله الطمع على ألواح أنهر ألواح الصحة و الحياة, ألواح الماء العميق وأسرار الجداول.... و يلغى أنهر و يصير مستنقعات كما صار غمام السماء وحولا بعد المطر...
وراء العجاج و الزوابع تتشابه كل المدن
و السلطان لا يصدق بأنه إنسان يسوط الناس بالبارود و النار يحجمهم يحجرهم و يدفعهم لتشييد برجه العظيم, برجا يحكي مجده, مجدا ما عرف مثله البشر من سالف الأزمان...
السلطان لا يصدق بأنه سلطان حتى يجعل البشر قطعانا, فيصيرون قطعانا, يجترون و يمضغون و يتناسلون و يتكاثرون و يعملون و يعملون و الأيام.تجر أياما و السنون تجر سنونا و كل الأشياء بلا اسم بلا رائحة بلا عنوان, يربطون على أعينهم العصائب فلا يرون و لا يكّلون و لا يمّلون...يرعون كالقطعان و يزحفون كالقطعان و يعيشون و يموتون و لا يحيا سوى السلطان و كلابه و من يأكلون من فتات كلاب السلطان, و لمّا يصدق بعد بأنه سلطان.....
إله الأطماع و تابعه موت يطمعون يخططون ينفذون.....
عشرة من الآلهة الوادعة قتلوهم و حطموهم...
أرياح إله النسيم و الرياح ضربوه أذلوه حتى نزف الدم من أذنيه تركوه.
طراوة آلهة العشب و الندى من أسفل ألف أرض اجتثوها و قلبوها.
يانع إله الخصب و الثمار قاتلوه بالمال و الاتجار.
تمكن إله الأطماع و النقود منهم جميعا قتلهم و أحرقهم ولم يبقي لهم على أثر, قبض على ألواحهم و صار سيد أقدار البشر...
وحدها آلهة الحب عليّة, عشرون مرة حاصرها فهربت... أربعون مرة حاصرها فهربت, ستون مرة حاصرها فسحبت قلائدها و هربت, رجمها بالحجارة و النار, ضرب جناحيها حطم كتفيها, تكسرت زحفت و رمت بنفسها من أعلى الأسوار و فرت بنصف قلائدها و نصف أسرارها, و استفت تراب الأرض و تموهت بالحجارة فلم يبصرها و ضرب النار في كل الجهات و لم ينل منها كل أسرارها, لم يتمكن من القبض عليها لأن الحبّ لا يؤخذ عنوة, فاقسم أنها عدوته اللدود حتى الأزل.
و تربع أطماع على العرش فصار صاحب كل الكلمات و القابض على الأحلام و سيد تاريخ الإنسان من
الولادة حتى الممات, فهو الذي يكون, يكون و لا يكونون.
والسلطان علم القطعان كيف يتملقون و يتذللون, إذا وقف ارتعدوا و إذا جلس سجدوا, لا يفكرون و لا يجادلون, بل يطيعون و يؤكدون.
والمدينة تريد السلامة و الأمان و تنسى كيف بدأت مدينة و لماذا هي مدينة؟
المدنيون لا يعرفون شيئا عن أول مدينة,, المدنيون بدو خيامهم أحجار و أوتادهم أبراج و معابد , و قطعانهم أزواجهم و أولادهم و أفكارهم و أرواحهم ... و السلطان جعل كلاب البدو أعينا و أنيابا و ألسنا و آذانا,, جعل الكثبان أطنانا و زحف و غطى المدن بالقحط و الجدب , و ضرب عليهم الذل و النسيان....
الأمطار لا تحب الرمال و الإسفلت و تهرب من الاحتضار,,,, السلطان و الإله يجبران السحاب أن يحط فوق المدينة...
مدينة تنفر منها الأمطار و يهرب منها الربيع ما أن يأتيها, مدينة ترحب بالعابرين العاهرين و تجتث جذور الشجر, مدينة تهين الأبطال و تنبذ القديسين و تشرد العارفين و الساكنين الحقائق و تصفق للطامعين و المنتفعين و الداعرين,,, مدينة تشوه الأطفال فلا يكبرون بل يتضخمون و ينتفخون,, مدينة تدنس المطر ,مدينة القبائل الهمجية العصبية تغتصب السحاب , و تستنزف ما فيه من مياه , و تبقى أشياء صغيرة قديمة من أيام سومر تبكي في المدينة وسط الو حول غريبة وحيدة حزينة .
حين يمتد الدخان الأسود ويطغى فمن سيحيا سوى السلطان و كلاب السلطان, أولئك لا يموتون وإن ماتوا و صاروا ترابا لا يندثرون, و حياة كل البشر تراب و غبار, و مماتهم تراب يذرى و لا يترك أئر.
حين يطغى إله الطمع على المدن يموت الصادقون بكمدهم و حقائقهم و يتبوأ المجرمون وينجح المنافقون و العاهر ون و تصبح القذارة و السخف فخرا و عنوانا و يحاصر الشرفاء و الصادقون.
باتر....
آه يا باتر لماذا ولدت في الزمان الخطأ و في المكان الخطأ.
من أنت يا باتر لتسقي بستانا محاصرا بالكثبان,
ترتفع جعجعة الجمال و جعيرها فيصفق الأغبياء و المنتفعون و تسكت العصافير و ينتحر الفرسان,
و أنت يا باتر.... كما تتفتح البراعم الندية رويدا رويدا.. فتصير أزهارا تتفتح الحياة فيك فتمتلىء حبا و حقائقا و أسرارا...
دون أن تطمح دون أن تسعى دون أن تريد, تفقس البيوض الصغيرة بالدفء فتصير حياة, دون أن تحفر الآبار دون أن تشق الجبال, تفيض من قلب الأرض مياها فتصير ينابيعا و عيونا و أنهارا.
تعمل أشياء صغيرة دون أن تعي بأن أشيائك الصغيرة تجعل الخراف تفكر و تبصر.
فطوبى لمن ينسل من الخروف إنسانا.
تختزن عمق الحياة فيك فلا تلوي على شيء... لأنك مخلوق ذهبا و مضمخ عنبرا.. لأنك مخلوق من غار و ياقوت و مرمر.. فإنك لا تلوي على شيء, لا تلوي على مغانمهم التافهة لا تلوي على مكاسبهم الفارغة, على شراستهم, على انحطاطهم...
كم بكت أمك حين أفصحت عن رؤاك, وقلت أنك لم تعد ترى التلال تلالا,.. و لا الأشجار أشجارا,..ولا الناس أناسا, صرت ترى الجميع أجزاء من معاني وصور, موحدون في الحياة موزعون على نورها و ظلامها, صرت لا ترى الأغلفة و الأشكال كما كنت تراها, كما الجميع يراها إذا نظرت أبصرت دواخلها وأعماقها,.. فتبصر عند القلوب الضحلة طحالبا و عند الأكباد المنتفخة فحما و عند الرؤوس ظلاما.
الطبيب المداوي قال أن العلة ليست في العيون لأنك تبصر ما لا يرون.
آخرون قالوا كي نمنع روحه أن تزهق فالكي للعينين, كثيرون أتوا يعودوك في بيت أبيك و قالوا لم يعد يرى كما الجميع يرون, و كي لا يصيب بالعدوى, و كي نحفظ روحه من الهلاك من جراء رؤاه فلا دواء سوى الكي للعينين.
أباك هو الذي أنقذك من آلام جسام حين قال: العلة بأنه يبصر و أنتم ترون وسيبصر بأذنيه و سيبصر بيديه
دعوه لا تمسوه فليست الرؤى من العينين.
و قيلت أحاديث كثيرة عنك أقل قليلها صدق و أغلبها افتراء...
لكنهم أتوك, أتوك يمشون المسافات قاصديك, جموع من أخلاط شتى من البشر فيهم النبلاء المنفيون في أوطانهم, فيهم الشحاذون و المشردون فيهم المرضى و الأشقياء..
يأتوك كثيرون يتوسدون الأرض عند قدميك و يسألونك أن تخفف آلامهم.. أن تمسح غبارهم و تنظف ما رماه الآخرون فيهم من نفايات, فتريهم قارهم و تبدد عتمتهم و تلمسهم ترابهم و قبحهم و جمالهم وتكشف ما فيهم من تبر و بذور لو سقيت لنمت وصارت أزهارا, تريهم أنفسهم فيبصرون و يعرفون, يعتزون بأنفسهم فيتغيرون و يغيرون و أنت كنت تقول لهم: بقدر اتساع الحياة و بعد مسافات المدى بقدر ارتفاع السماء و كبر الخلاء, بحجم كل هذه الدنيا هناك دنيا كبيرة غنية مدفونة فيكم, فقراء أنتم إن لم تعرفوها.. اعرفوا أنفسكم فتعرفون ضعفين, بقدر ما تذهبون بداخلكم تسافرون خارجكم فتدركون العالم فتكبرون و تستغنون.
فصاروا يتفكرون صاروا يتساءلون, و صاروا يعرضون عن مكاسب رخيصة للمدينة, و صاروا يرفضون قواعد اللعبة الدنيئة للمدينة, و صاروا بعد أن بصّرتهم بترابهم و طحالبهم, يجرؤون على الاغتسال و الرقص عراة بقلب الحياة و تحت السماء و تحت المطر.. صاروا يسافرون وحيدين برغم الأعاصير و يبحرون فيفكرون و يتجرؤون فيخرجون من عبوديتهم و ينفصلون شيئا فشيئا عن قطعانهم فيتساءلون ؟ من عليه أن يحيا حقا ...شكل المدينة أم الإنسان..من أحق بالحياة.هل الإنسان أم الجدران.هل ننجب الأبناء كي يخدموا منذ الولادة و حتى الممات هذا البرج القديم أم أن البرج نبنيه لينفع الإنسان.
و كثيرون كانوا إذا مررت بهم يجفلون و يتوارون.مشوهون لا يجرؤون على السير في هذه الحياة عراة..يكاذبون و يجادلون..يتمسكون بجدرانهم يستكلبون من أجل لعبة المدينة لا يتحَدّون, ولا يجاهرون, وقوم منهم يداهنوك و يأتونك يجلسون عند قدميك و يتذللون كي يأخذوا من أعطياتك, من ثلوجك و ينصرفون كأنهم كانوا يسرقون فيستهزئون و يطعنون.

-----------------

أمك التي انتظرتك سنين طوال, و أحبتك قبل أن تولد بسنين طوال...و خلقتك في رحمها, قبلت قدميك صغيرا و صنعت لك الزوارق الورقية و سافرت معك عبر البحور و رفعت لك شراعا و طافت بالحكايا عبر الدهور..علمتها رسم الصغار و علمتك أشعار الكبار, و زرعت في شعرك ملايين العصافير الصغيرة, و لثمت جبهتك كبيرا, و هي مسحت على رأسك و جسدك بيدين من شهد ومن عسل, وهي صارت تبكي و توسلتك أن تخفي عن الآخرين رؤاك وهي قالت معاتبة إياك: ما كان ابن رعاع و لا ابن منسيين أباك و سيقول: الرعاع و الغوغاء قبض الريح كان جناه, و يقولون: الله أعطاه مجدا وولدا والله أخذ ولده و هدم مجده.
و هي اتكأت على ما زرعته فيك من حنو و رحمة و ناشدتك أن تبدل كل ما فيك, بعد أن مرت كل هذه السنين أن تكون أي شيء آخر, و قالت التي ينفطر قلبها بالهواجس قلقا عليك.: كان أهون عندي أن تكون نبتة أرعاها و أحميها أو تكون في السماء ملاك ترعى الأطيار من أن تكشف للآخرين عن رؤاك فتذهب يا ولدي في حمى رؤاك.
هل أورق يا ولدي بستان وسط الحصار, فلماذا تنثر بذورك الندية في الصحاري, و تخاطب بالعذوبة من يخاطبون بالسيف و يناقشون بالنار, مآل كل قصور الذهب يا ولدي وسط اللهيب للدمار.
الحكماء الراسخين بالمعرفة صلبوهم في هذه الأرض و أحرقوهم منذ آلاف السنين, و طاردوا ذريتهم و أولادهم و لم يبقوا لهم على أثر, إنهم لا يتركون برعم يتفتح و لا نبتة تنمو حتى اجتثوها و قلبوا التراب عليها و مزقوها, يريدون للمعارف أن تكون بحجم أحرفهم الضحلة و بحجم كلماتهم الضئيلة , ينكرون كل الحقائق و يدفنوها , تحت ألف أرض يطمروها فلا معرفة إلا ما يدّعون و يقررون.
إن الحكاية قديمة قديمة لست أول من أدركها و ليست بأن نموت و نحيا فينفلق مع قدوم الشمس نهار.
فبكيت لآلىء و فتحت فمك و قلت كلاما هادئا جميلا, كطواف اللقالق البيض في الأعالي, وقلت كلاما شجيا حزينا كغروب الشمس في الصحاري و قلت كلاما حنونا و عذبا بقدر رقة السواقي و بقدر أحلام الجداول.
و أنت يا باتر لا تستطيع و لا يغير البكاء رؤاك, تحيا لاهيا عن مؤامراتهم وئأرهم, تحيا الحياة بصدق فتمنحك الحياة العمق و الصفاء, متناغما مع طبائعها..تنفر ممن يقتلون الحياة غضة و يحبسون الطبيعة و يتجبرون و يخنقون سير الأشياء بتناغمها و الفتها .. وأدركت أنهم يمقتون تآلفها و حبها و فرحها لأنهم مشوهين فلم تكترث لأذيتهم لم تكترث لتشوههم و حقدهم.


------------------

السماء اكفهرت وآلهة الغضب تغلي و تفور كأنها الجحيم , و الآلهة الوديعة محطمة مكفّرة مقهورة.
------------------

كما تجر عفاريت الموت أفراخ زغب لا تعي موتها, جروك عبر الأزقة و الشوارع, فضربوك و ركلوك و مسحو على حجارة الأرض من عنبرك و ياقوتك, و غيبوك في حفرة الجرذان بضع دهور … يا مخلوقا ذهبا و مطعما لؤلؤا و أهالوا التراب عليك و أنت في السماء ممجدا و رموا على ثلوجك من قارهم و أحقادهم و أذلوك و جرحوك يا مرصعا ياقوتا و مخلوقا مرمرا.
فما سمعت أذناك غير تناغم الحياة في اتساقها و تآلفها و ما رأت عيناك غير تلألؤ الندف البيض تلهو بهدي سيرها و ما خرجت عن إيقاع الحياة و تناغمها في روحك و نفسك و ما كان لك أن تخرج عما ملأته الحياة فيك من مائها و مجدها و جلالها.
سلطان المدن قال: ما كنت استبقيتك حيا إلا أن يقال الحاكم يقتل الأطفال, و هو يقتل بلى, يقتلهم صغارا يقتلهم لاهيين فرحين و لا يوفر القذارة ولا العار. يقتلهم دون أن يقال, الحاكم يقتل الأطفال.
وضعوك وجها لوجه أمام سلطان المدن مكبلا, معفرا بالتراب و الطين تبكي دماؤك النازفة عليك, وقفت روحا بهيجة على عود متكسر من عظام.
نور و رحمة وآلهة حب محطمة تطوف حولك.
و قف سلطان المدن أمامك و وراءه يشد أذره إله الأطماع على يمناه العذاب و على يسراه الموت.
و حول السلطان أزلام و وحوش و جلادين تحلقوا
و هسهست العفاريت في الهواء و تدافعت آلهة الانتقام و الدمار شرهة أن ترى حطامك, و أطبق على الجو سكون.
حين الصمت يكون, لا تنطق إلا قلوب الحكماء.
و هؤلاء الرعاع لا يريدون للصمت أن يسألهم قذارتهم, أن يسألهم إلى أين بعد سوف يمضون.
جعجع سلطان المدن وزلزل أركان الأرض و هدد و توعد و أشار عليك بأصابع الاتهام .
حين الصمت يسألهم أحقادهم يرمون بالكراهية من يواجهون حين يسألهم الصمت كذبهم و نفاقهم يرمون بالتكفير و النفاق و القتل و كل جرائم الأرض من يخشون بياضه من يخشون وضوحه و يدَّعون على الناس بالإفك و ليس سواهم أفاكون دجالون مجرمون.
سلطان الجشع و التكالب سألك أجوبة
فساد الصمت و على الوجوه ساد الوجوم
و نظرت في عينيه متأملا, فأبصرت وحوش الحقد و الشراهة تقفز من عينيه و نظرت إلى قلبه فأبصرت القيح و الصديد تفور و تغلي فيه.
قال سلطان الكذب أنا أصغي فانطق بجرائمك فاني سلطان العفو و الرحمة فانطق حتى لا آخذك إلا بقدر جرائمك و زندقتك فلا تكون عندي مظلوما
أما علموا أن النظر و السمع في العيون والآذان و أن الإبصار و الإصغاء في القلوب و أنها لا تبصر و لا تصغي قلوب من صديد.
و جنتّ آلهة الانتقام تستعجل لأجلك موتا لا يكون سواك في العذاب شاهدا عليه.
ففتحت فمك, فما من زهور الأرض و هبته الحياة لك ومن جمان, و رفعت وجهك فسقطت شموس الصبح على جبال المرمر و تراكضت خيول جموحة في حقول حنطة مباركة لا تعرف نهاية للمدى
و نطقت كلماتك العذبة يا ثريا, يا شديد الثراء بنفسك و روحك يا باتر, وأنت تعرف نطقت أو لم تنطق لا يتغيرون و لا يصغون.
و قلت: ما ادعيت علم ما لا تعلمون.
فتصايحوا كأنهم المغلوبون و هم المسيطرون ودفعوا عن أنفسهم و هم الجلادون و قال سلطانهم: أتنكر بأنك كنت تدعي أنك ترى ما بجوف البشر ؟
فقلت:ما إدّعيت بأني أبصر ما لا تبصرون .
قالوا: فما بال الذين يتبعوك صاروا ملة يؤمنون بما تبصره بهم و يقسمون بك و يمجدونك.
فقلت: ما سألت الحياة جاها و لا سلطانا لي على أحد و ما رغبت بعز أو سؤدد و ما اشتهيت ملكا لي على الأرض و ما ضر الذين يأتوني أن يبصروا ما بأنفسهم و أرواحهم, و ما يمجدون إلا الحياة لا إياي يمجدون.
فقالوا:بل انك ادعيت أن لديك علما ليس لأحد سواك, تعلم به أتباعك و تسيطر عليهم فيتغيرون و يصيرون طائعين لك فاعترف بعلمك هذا و دلنا عليه فتأخذنا بك الرحمة فتنقذ نفسك و إلا فأنت تنوي أن تقاتلنا بهم و تصنع لنفسك ملكا لتخسف بنا الأرض و تقضي علينا.
فقلت لهم يا هادىء العينين يا باتر: ما عرفتم عني حديث حق, و ما يشهد عليّ قوم صادقين.
فقالوا:ألن تعترف بعلمك أيها الصغير و من أنبئك به أهو من بشر أم من السماء
فقلت:ما ادعيت بطارق من السماء و لا بوحي و لا أنبئت بنبىء من الله لم ينبئ به العالمين, و ما أدفع عني خوف الموت, و ما العلم و الأخبار و الحقائق بوحي يؤتى, إنما الحياة تدعو للإبصار لمن يبصرون و ما لي بخبر لم تخبروه و فيه اليقين, إنما صاحبت التراب فأدركت إن ليس للأرض أن تنبت بغير بذورها و ليس للأزهار أن تعقد لغير ثمرها, و ما أنا بساع لملك و لا مجد إنما تلفقون و تفترون, وما حملت يوما سيفا و لامست يداي سلاحا و ما قاتلت يوما أحدا و ما إيماني إيمان إكراه و إجبارا و ما أدعوا إلا للإبصار و لن يبصر أنفسهم قوم و هم مجبرين مكرهين و ما أنا إلا إنسان يؤمن بالحياة و يتّحد بها و يزهد في مكاسب و أطماع تافهة أنتم فيها تستشرسون و تتملقون و تقتتلون و ما علمي إلا من حبة الحنطة إذا سقيت أنتشت فنمت و ما طمحت أن يصير لها سلطان, فإذا نمت أنجبت سنابل و ما طمحت أن يكون لها ذرية أو خلودا فإذا نثرت بذورها خلدت الحياة و ما طمحت أن تفرض أقدارها على كل نبت, فما بالكم غافلين عن علمها تقاتلون الحياة و انتم العاجزون ,و ما عندي من أخبار الأرض إنما هي الريح تنشر أسرارها, و ما عندي من أخبار الأولين و الآخرين إنما البراعم تنشق عن أزهارها فتحكي أصولها و مآلها و ما عندي من الأبصار و الأفئدة غير فرح طيور السماء تتهادى فتنشر فرحها و غبطتها فتآلف السماء بالأرض و تنشر نورها, فما بالكم تهربون من نورها فتنكرون و أنتم مظلمون.
فانقضوا عليك كوحوش الصحاري و كتموا على فيك الطري يغتصبون العطر و العنبر, و أشعلوا النار على لسانك و حموا الحديد على عينيك.
فأبصرت بأذنيك و أبصرت بيديك و أبصرت بروحك.
لو أن الأرض خسفت بما عليها, لو أن الجبال دكت والتلال مسحت و الوديان طمرت لكان أهين على أبيك لو علم بأي حال تكون حين ستصدق كلماته.
و رأيت ضريرا و نطقت أبكما.و أبصرت الطمع والحقد و الصديد من حولك فما تحملوا كل ما ينطق به صمتك.فصمتك أفصح و أبلغ قولا من كل ما تشدقوه خلال عصورهم.
أذلوك و ركلوك..يا راقصا تحت الأشجار الثملة و مفعما بالغبطة و ممجدا بالعصافير الصغيرة و الحياة والمطر, هؤلاء إن أرادوا أمرا ما احتاجوا لحجة كي يجرموك و اتهموك بالإفك و الباطل يا منزها يا ممتلئا حبا.. و رموك في الفلاة كي لا يقال السلطان يقتل الأطفال و قالوا هرب من بلاط السلطان و انتظروا أن يأتي عابر سبيل برأسك, فهذه مدينة العابرين العاهرين.
عجوز البراري سبعة أيام بها سبع ليال ساهرة على حمّاك بنصف ألواح عليّة بنصف قلائدها تعالج جراحك و آلامك فأنطقت لسانك و مسحت بالحب على العيون.
حتى إذا أفقت كنت تقول:إذا النور نشر جناحيه دفعوه عنهم و ضربوه بأسلحة الظلام, لا يحاورون لا يسمعون لا يناقشون, أنياب و جوع وتسلط وانتقام علام يتراكضون و يتخاصمون و يتسابقون, يقبحون الأشياء ورائهم و يمضون, كأنه يعز عليهم أن لا يقال صنع هذا القبح إنسان.
عجوز البراري ضمتك لصدرها حتى العظام, حتى المرمر الذي في أعماقها و حتى الرخام, و نشرت عليك من ريحانها و نعناعها و استحلفتك أن لا تعود للمدينة, فاله الأطماع يغتصب الأشجار و الثمار و الاخضرار و كل الذين يقولون الحقائق في المدينة منفيون مشردون, إياك أن تعود يا ولدي و تنصب غراسك الغضة فيأتي البدو ويرعون غراسك و يدعون عليك جهارا و يقتلوك.
لا يؤمنون بالحنطة و الشعير, لا يؤمنون بحرية البراعم لا يؤمنون بحرية النور وحرية الإنسان و إله الأطماع فوق رؤوسهم و فوق رؤوسهم سلطان, يريد أن يكون, يكون ولا يكونون.
ارحل يا ولدي فغدا أو بعد غد يشتد جناحيك فتحلق و تطير فتصادف أرضا رحل عنها الطوفان فقلب عاليها سافلها و اجتث نبتها و زرعها فإذا صادفتها فارعاها سيعمرها قوم يؤمنون بالزرع و الإنسان و يخلقون لأنفسهم ربا يريد أن يكون, وان يكونون فامنحهم علمك و حبك و اضرب صفحا عن هؤلاء البدو فإنهم لا يفقهون و لا يدركون.
عجوز البراري قبّلت يديك وقبّلت قدميك و استحلفتك أن لا تعود للمدينة.......
و مضيت......
فجلست تبكي و تقول:الحكماء الراسخون بالحقائق يعرفون أصول الأشياء فلا يدّعوها فان صرحوا بها لم يفرضوها, و دون أن يجعلوها أقدارا و دون أن يستحثوها تنمو رويدا رويدا بأعماقهم بأرواحهم بأنفسهم فان نمت واشتدت لم يمنعوها.
لا بذور الأرض ولا نبتها يغير بنموها أن تعلم بمجيء إعصار, و أنت ستمضي لحتفك لأن الذين يولدون يموتون و الذين يُخلقون هم الخالدون.ستعود للمدينة فيقتلوك دون أن تعي موتك و ما ادعيت على الناس إلا أنهم يمرون بالبساتين فلا يرون حياة و يمرون بالجداول فلا يرون ماء و يمرون بالصغار فلا يشعرون حنوا و لا رحمة, كأن عيونهم تراب و تراب كل ما يرون.

-----------------

و مضيت لحتفك و لم تلوي على شيء, و لم أكن أدرك لماذا أنت لا تلوي على شيء.
فأنا كنت هناك و رأيت الخنجر المأفون مغروزا حتى نهاية نصله يخترق ظهرك العاجيّ, و يمزق عقد لآلىء قلبك و يدمي شفتيك بعبير أحمر...
نالوك خلفا و ما كان يصعب أن ينالوك أماما و أنت غرا مريضا أعزلا. لكنهم لا يوفرون القذارة و لا العار و لا يخجلون و يعيبون على الناس و يدعون بالإفك و لا يعيرّون.
و سعيت مجرجرا جراحك عبر البراري و صاحت اللقالق في الأعالي و حلقت و دارت لتردك إليها و على الأرض بكى الحمام و مشيت نازفا صوب المدينة و ما استكبرت أن يراك اله الطمع و قد حقق مناه.
....فإلهك إله حب و تـآلف و وداعة و إلههم اله أطماع و أكداس و أموال.. و في كل زمان الطامعون الجائعون يغلبون الوادعين المسالمين.
و وصلت المدينة و التفتَ خلفا فما كان خلفا و التفت أماما و ما كان أماما وطاف العالم بك و توحدت كل الحياة فيك و انهرت كانهيار جبال الجليد على الركام, و انشق كبد السماء بنور, فتح للأبصار طريق المدى فمرت أحلام المعذبين.. باقات ورد و حقول نعناع.. و جداول و أطيار مرت عند الأفق لامست طيفك و ضحكات أطفال و فرح الأعشاش الصغيرة و أغصان آمنة ضمت ساكنيها لوحت إليك. و طرزت قبة السماء غمائم بيضاء عالية تراقصت بها الريح و أشارت عليك. و غابات معطرة اتصلت بالمدى و مناديل بيضاء لوحت إليك, و طار رف حمام و حطّ في بستان أمك الأخضر.و ضحكت شموس و أقمار و استيقظت حياة و مضت خلف أمواج من أزمان و دهور فغصت نبرات و سالت دموع و تآلفت عيون لأجلك, لأجل كل ما أعطي للأطفال من حنان وعناق و قُبل, لأجل من منحوا فأخفوا أياديهم و أغمضوا عيونهم و صمتوا. بعينيك يا باتر مروا جميعا عند الأفق فضموا روحك و رحلوا بها.
فلترحلي يا كل أطياب الأرض, خذيه و ارحلي.
الغر الصغير تتقلبه أذرع أمه و أبيه, و قد انعتقت من عبودية الإنسان روحه.
ارحلي يا كل أطياب الأرض ارحلي فجعجعة الجمال علت وغطت بالرمال كل الحدائق و البساتين, سيقولون كان يا ما كان و قتل إنسان انسان و يطمرونه فتمتص جسده الكثبان و كأن شيئا ما كان, لأننا في كل يوم نقتل صغيرا نقيا فينا كي تقبلنا المدينة, فإله المدن يريد أن يكون, يكون و لا يكونون, يجبرونا أن نحب ما يحبون و نكره ما يكرهون و نضحك ضحك الأغبياء على ما يضحكون.
فلا حقائق إلا ما يقررون و يزورون مهما تضاءلت و تناقضت و تسطحت.
ارحلي يا أطياب الأرض ارحلي قبل أن يغتصبوك فالإبل و الهجن قادمة , ارحلي و دعي عنك هذه الأم التي تبكي من حرقتها دما و تضرب على فخذيها و تقول كأنها لم تنجب و لدا, و تشق صدرها فلا يزيدها العويل إلا ضياعا و ندما.
الندمُ كل الندمِ أن تُصب المياه العذبة فوق الرمال, الندم كل الندم أن تزقزق العصافير حيث تجعجع الجمال.
الندم كل الندم أن تصير ندف السماء ياسمينا حين يولد طفل صغير, أن يصفق طير الحمام و أن ينشد في باحة الدار اليمام.
الندم كل الندم أن يبصر, أن يولد طفل كباتر فينا.



#نرين_طلعت_حاج_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المشعوذون و الفضائيات
- أساطير النارتيين
- من حضر القسمة فليقتسم
- المرأة و الإحساس بالحياة
- عشرون صالحا يشفعون لمدينة اشرار
- مكابرون حتى الرمق الأخير
- المرأة و وجدانية الرجال
- الكرسي و الطاولة
- الموؤدات
- حبة شعير
- حجز العقول
- مسؤولية المؤسسة الدينية عن الأخلاق العامة في المجتمعات الإسل ...
- المرأة في عرف المجتمع
- شلة حسب الله و الهوية الجديدة
- حرب الشيشان حرب تحرير وطني و ليست حربا دينية
- أخلاق الرعيان ...إلى متى ؟


المزيد.....




- عبد الرحمن بن معمر يرحل عن تاريخ غني بالصحافة والثقافة
- -كذب أبيض- المغربي يفوز بجائزة مالمو للسينما العربية
- الوثائقي المغربي -كذب أبيض- يتوج بجائزة مهرجان مالمو للسينما ...
- لا تشمل الآثار العربية.. المتاحف الفرنسية تبحث إعادة قطع أثر ...
- بوغدانوف للبرهان: -مجلس السيادة السوداني- هو السلطة الشرعية ...
- مارسيل خليفة في بيت الفلسفة.. أوبرا لـ-جدارية درويش-
- أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة
- نيكول كيدمان تصبح أول أسترالية تُمنح جائزة -إنجاز الحياة- من ...
- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...
- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نرين طلعت حاج محمود - حكاية عن بَاتر